تفسير سورة الليل

صفوة التفاسير
تفسير سورة سورة الليل من كتاب صفوة التفاسير المعروف بـصفوة التفاسير .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

اللغَة: ﴿تجلى﴾ انكشف وظهر ﴿شتى﴾ متفرق ومختلف ﴿الحسنى﴾ الكلمة الحسنى وهي كلمة التوحيد ﴿اليسرى﴾ الخصلة المؤدية الى اليسر والراحة وهي الجنة ﴿العسرى﴾ الخصلة المؤدية إلى العسر والشدة وهي جهنم ﴿تردى﴾ هلك وسقط في الهاوية ﴿تلظى﴾ أصلها تتلظى أي تتلهب وتتوقد ﴿يَصْلاَهَآ﴾ يدخلها وياقسي حرها.
المنَاسَبَة: روي أن بلالاً رَضِيَ اللَّهُ عَنْه كان عبداً مملوكاً ل «أُمية بن خلف» وكان سيده يعذبه لإِسلامه، ويخرجه إِذا حميت الشمسُ فيطرحه على ظهره ببطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد! ﴿فيقول وهو في تلك الحالة: أحدٌ، أحدٌ، فمرَّ به أبو بكر الصديق وهم يصنعون به ذلط، فقال لأمية: ألا تتقي الله في هذا المسكين﴾ ! فقال له: أنت أفسدته عليَّ فأنقذه مما ترى، فاشتراه أبو بكرٍ منه وأعتقه في سبيل الله، فقال المشركون: إِنما أعتقه ليدٍ كانت له عنده فنزلت ﴿وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تجزى إِلاَّ ابتغآء وَجْهِ رَبِّهِ الأعلى وَلَسَوْفَ يرضى﴾.
التفسِير: ﴿والليل إِذَا يغشى﴾ أي أُقسمُ بالليل إِذا غطَّى بظلمته الكون، وستر بشبحه الوجود ﴿والنهار إِذَا تجلى﴾ أي وأُقسمُ بالنهار إِذا تجلَّى وانكشف، وأنار العالم وأضاء الكون قال المفسرون: أقسم تعالى بالليل لأنهسكنٌ لكافة الخلق، يأوي فيه الإِنسان والحيوان إلى مأواه، ويسكن عن الاضطراب والحركة، ثم أقسم بالنهار لأن فيه حركة الخلق وسعيهم إلى اكتساب الرزق، والحكمة في هذا القسم ما في تعاقب الليل والنهار من مصالح لا تُحصى فإِنه لو كان العمر كله ليلاً لتعذر المعاش، ولو كان كله نهاراً لما سكن الإِنسان إلى الراحة، ولاختلت مصالح البشر ﴿وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى﴾ أي وأُقسمُ بالقادر العظيم الذي خلق صنفي الذكر والأنثى، من نطفةٍ إذا تمنى.. أقسم تعالى بذاته على خلق النوعين ﴿الذكر والأنثى﴾ للتنبيه على أنه الخالق المبدع الحكيم، إِذْ لا يُعقل أن هذا التخالف بين الذكر والأنثى يحصل بمحض الصدفة من طبيعة بلهاء لا شعور لها فإِن الأجزاء الأصلية في المنيّ متساوية، فتكوينُ الولد من عناصر واحدة تارةً ذكراً، وتارة أنثى، دليلٌ على أن واضع هذا النظام عالم، بما يفعل، محكم لما يصنع ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى﴾ هذا هو جواب القسم أي إن عملكم لمختلف، فمنكم تقيٌ ومنكم شقي، ومنكم صالحٌ ومنكم طالح، ثم فسَّره بقوله ﴿فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى﴾ أي فأما من أعطى ماله وأنفق ابتغاء وجه الله، واتقى ربه فكف عن
541
محارم الله قال بان كثير: أعطى ما أُمر باخراجه، واتقى الله في أموره ﴿وَصَدَّقَ بالحسنى﴾ أي وصدَّق بالجنة التي أعدَّها الله للأبرار ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى﴾ أي فسنهيئه لعمل الخير، ونسهّل عليه الخصلة المؤدية لليسر، وهي فعل الطاعات وترك المحرمات ﴿وَأَمَّا مَن بَخِلَ واستغنى﴾ أي وأمَّا من بخل بإِنفاق المال، واستغنى عن عبادة ذي الجلال قال ابن عباس: بخل بماله، واستغنى عن ربه عزَّ وجل ﴿وَكَذَّبَ بالحسنى﴾ أي وكذَّب بالجنة ونعيمها ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى﴾ أي فسنهيئه للخصة المؤدية للعسر، وهي الحياة السيئة في الدنيا والآخرة وهي طريق الشر قال المفسرون: سمَّى طريقة الخير يسرى لأن عاقبتها اليسر وهي دخول الجنة دار النعيم، وسمَّى طريقة الشرِّ عسرى لأن عاقبتها العسر وهو دخول الجحيم ﴿وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تردى﴾ استفهام إِنكاري أيْ أيُّ شيء ينفعه ماله إذا هلك وهو في نار جهنم؟ هل نفعه المال، ويدفع عنه الوبال؟ ﴿إِنَّ عَلَيْنَا للهدى﴾ أي إنَّ علينا أن نبيِّن للناس طريق الهدى من طريق الضلالة، ونوضّح سبيل الرشد من سبيل الغي كقوله
﴿وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: ٢٩] ﴿وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ والأولى﴾ أي لنا ما في الدنيا والآخرة، فمن طلبهما من غير الله فقد أخطأ الطريق ﴿فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تلظى﴾ أي فحذرتكم يا أهل مكة ناراً تتوقَّد وتتوهج من شدة حرارتها ﴿لاَ يَصْلاَهَآ إِلاَّ الأشقى﴾ أي لا يدخلها للخلود فيها ولا يذوق سعيرها، إِلاّ الكافر الشقي.. ثم فسَّره تعالى بقوله ﴿الذي كَذَّبَ وتولى﴾ أي كذَّب الرسل وأعرض عن الإِيمان ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى﴾ أي وسيبعد عن النار التقيُ النقيُّ، المبالغ في اجتناب الشرك والمعاصي.. ثم فسَّره تعالى بقوله ﴿الذى يُؤْتِي مَالَهُ يتزكى﴾ أي الذي ينفق ماله في وجوه الخير ليزكي نفسه ﴿وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تجزى﴾ أي وليس لأحدٍ عنده نعمة حتى يكافئه عليها، وإِنما ينفق لوجه الله قال المفسرون: نزلت الآيات في حقِّ «أبي بكر الصديق» حين اشترى بلالاً وأعتقه في سبيل الله فقال المشركون: إِنما فعل ذلك ليد كانت له عنده فنزلت ﴿إِلاَّ ابتغآء وَجْهِ رَبِّهِ الأعلى﴾ أي ليس له غاية إِلا مرضاة الله ﴿وَلَسَوْفَ يرضى﴾ أي ولسوف يعطيه الله في الآخرة ما يرضيه وهو وعدٌ كريم من رب رحيم.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - الطباق بين لفظة ﴿الأشقى﴾ و ﴿الأتقى﴾ وبين ﴿اليسرى﴾ و ﴿العسرى﴾.
٢ - المقابلة اللطيفة ﴿فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى وَصَدَّقَ بالحسنى﴾ وبين ﴿وَأَمَّا مَن بَخِلَ واستغنى وَكَذَّبَ بالحسنى﴾ الآيات.
٣ - جناس الاشتقاق ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى﴾ لأن اليسرى من التيسير فبينهما مجانسة.
٤ - حذف المفعول للتعميم ليذهب ذهن السامع كل مذهب ﴿فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى..﴾ الآيات.
542
٥ - السجع الرصين غير المتكلف كقوله ﴿لاَ يَصْلاَهَآ إِلاَّ الأشقى.. وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى﴾ الخ.
كان عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يقول: أعتق سيدُنا سيدَنا يريد أعتق سيدنا أبو بكر سيدنا بلالاً، فما أروع هذه النفوس؟ اللهم ارزقنا محبة أصحاب الرسول جميعاً.
543
Icon