تفسير سورة الرعد

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة الرعد من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

أما الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور فقد تقدم في أول سورة البقرة، وقدمنا : أن كل سورة ابتدئت بهذه الحروف ففيها الانتصار للقرآن، وتبيان أن نزوله من عند الله حق لا شك فيه ولا مرية ولا ريب، ولهذا قال :﴿ تِلْكَ آيَاتُ الكتاب ﴾ أي هذه آيات الكتاب وهو القرآن، ثم عطف على ذلك عطف صفات فقال :﴿ والذي أُنزِلَ إِلَيْكَ ﴾ أي يا محمد ﴿ مِن رَّبِّكَ الحق ﴾، وقوله :﴿ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ كقوله :﴿ وَمَآ أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [ يوسف : ١٠٣ ] أي مع هذا البيان والجلاء والوضوح لا يؤمن أكثرهم لما فيهم من الشقاق، والعناد، والنفاق.
يخبر تعالى عن كمال قدرته وعظيم سلطانه، أنه الذي بإذنه وأمره رفع السماوات بغير عمد، بل بإذنه وأمره وتسخيره رفعها عن الأرض بعداً لا تنال ولا يدرك مداها، فالسماء الدنيا محيطة بجميع الأرض وما حولها من الماء والهواء، من جميع نواحيها وجهاتها وأرجائها، مرتفعة عليها من كل جانب على السواء، وبعد ما بينها وبين الأرض من كل ناحية مسيرة خمسمائة عام، ثم السماء الثانية محيطة بالسماء الدنيا وما حوت، وهكذا إلى السابعة، وفي الحديث : ما السماوات السبع وما فيهن وما بينهن في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، والكرسي في العرش المجيد كتلك الحلقة في تلك الفلاة «. وفي رواية :» العرش لا يقدر قدره إلا الله عزّ وجلّ « وجاء عن بعض السلف : أن بعد ما بين العرش إلى الأرض مسيرة خمسين ألف سنة وبعد ما بين قطريه مسيرة خمسين ألف سنة، وهو من ياقوتة حمراء، وقوله :﴿ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ﴾ السماء على الأرض مثل القبة، يعني بلا عمد، وهذا هو اللائق بالسياق، والظاهر من قوله تعالى :﴿ وَيُمْسِكُ السمآء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ ﴾ [ الحج : ٦٥ ] فعلى هذا يكون قوله :﴿ تَرَوْنَهَا ﴾ تأكيداً لنفي ذلك، أي هي مرفوعة بغير عمد كما ترونها، وهذا هو الأكمل في القدرة، وقوله تعالى :﴿ ثُمَّ استوى عَلَى العرش ﴾ تقدم تفسيره في سورة الأعراف، وأنه يمر كما جاء من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل، ولا تمثيل تعالى الله علواً كبيراً، وقوله :﴿ وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ قيل : المراد أنهما يجريان إلى انقطاعهما بقيام الساعة، كقوله تعالى :﴿ والشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ﴾ [ يس : ٣٨ ]، وقيل : المراد إلى مستقرهما وو تحت العرش، وذكر الشمس والقمر لأنهما أظهر الكواكب السيارة السبعة التي هي أشرف وأعظم من الثوابت، فإذا كان قد سخر هذه فلأن يدخل في التسخير سائر الكواكب بطريق الأولى والأخرى، كما نبه بقوله تعالى :﴿ لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ واسجدوا لِلَّهِ الذي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [ فصلت : ٣٧ ]، مع أنه قد صرح بذلك بقوله :﴿ والشمس والقمر والنجوم مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الخلق والأمر تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين ﴾ [ الأعراف : ٥٤ ]، وقوله :﴿ يُفَصِّلُ الآيات لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ﴾ أي يوضح الآيات والدلالات الدالة على أنه لا إله إلا هو وأنه يعيد الخلق إذا شاء كما بدأه.
لما ذكر تعالى العالم العلوي، شرع في ذكر قدرته وحكمته وإحكامه للعالم السفلي، فقال :﴿ وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض ﴾ أي جعلها متسعة ممتدة في الطول والعرض، وأرساها بجبال راسيات شامخات، وأجرى فيها الأنهار والجداول والعيون، ليسقى ما جعل فيها من الثمرات المختلفة الألوان والأشكال والطعوم ﴿ وَمِن كُلِّ الثمرات جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثنين ﴾ اي من كل شكل صنفان ﴿ يُغْشِي اليل النهار ﴾ أي جعل كلاً منهما يطلب الآخر طلباً حثيثاً، فإذا ذهب هذا غشيه هذا، وإذا انقضى هذا جاء الآخر فيتصرف أيضاً في الزمان كما يتصرف في المكان والسكان ﴿ إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ أي في آلاء الله وحكمه ودلائله، قوله :﴿ وَفِي الأرض قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ ﴾ أي أراض يجاور بعضها بعضاً، مع أن هذه طيبة تنبت ما ينفع الناس وهذه سبخة مالحة لا تنبت شيئاً، ويدخل في هذه الآية اختلاف ألوان بقاع الأرض، فهذه تربة حمراء، وهذه بيضاء، وهذه صفراء، وهذه سوداء، وهذه محجرة، وهذه سهلة، وهذه سميكة وهذه رقيقة، والكل متجاورات، فهذا كله مما يدل على الفاعل المختار لا إله إلا هو، وقوله :﴿ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ ﴾ يحتمل أن تكون عاطفة على جنات، فيكون ﴿ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ ﴾ مرفوعين، ويحتمل أن يكون معطوفاً على أعناب فيكون مجروراً، ولهذا قرأ بكل منهما طائفة من الأئمة، وقوله :﴿ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ ﴾ الصنوان هو الأصول في منبت واحد كالرمان والتين وبعض النخيل ونحو ذلك، وغير الصنوان ما كان على أصل واحد كسائر الأشجار، وفي « الصحيح » أن رسول الله ﷺ قال لعمر :« أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه »، وقال شعبان الثوري عن البراء رضي الله عنه : الصنوان هي النخلات في أصل واحد، وغير الصنوان المتفرقات، وقوله :﴿ يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأكل ﴾ قال الأعمش، عن أبي هريرة عن النبي ﷺ :﴿ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأكل ﴾ قال :« الدقل والفارسي والحلو والحامض »، أي هذا الاختلاف في أجناس الثمرات والزروع في أشكالها وألوانها وطعومها وروائحها وأوراقها وأزهارها، فهذا في غاية الحلاوة، وهذا في غاية الحموضة، وذا في غاية المرارة، وذا عفص، وهذا عذب، وهذا أصفر، وهذا أحمر، وهذا أبيض، وكذلك الزهورات مع أنها كانت تستمد من طبيعة واحدة وهو الماء مع هذا الاختلاف الكثير الذي لا ينحصر ولا ينضبط، ففي ذلك آيات لمن كان واعياً، وهذا من أعظم الدلالات على الفاعل المختار الذي بقدرته فاوت بين الأشياء وخلقها على ما تريد، ولهذا قال تعالى :﴿ إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾.
يقول تعالى لرسوله محمد ﷺ :﴿ وَإِن تَعْجَبْ ﴾ من تكذيب هؤلاء المشركين بالمعاد، مع ما يشاهدونه من آيات الله سبحانه ودلائله في خلقه، ومع ما يعترفون به من أنه ابتدأ خلق الأشياء بعد أن لم تكن شيئاً مذكوراً، ثم هم هذا يكذبون في أنه سيعيد العالم خلقاً جديداً، فالعجب من قولهم :﴿ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ وقد علم كل عالم وعاقل أن خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس، وأن من بدأ الخلق فالإعادة عليه أسهل، كما قال تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى بلى إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [ الأحقاف : ٣٣ ]، ثم نعت المكذبين، بهذا، فقال :﴿ أولئك الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ ﴾ أي يسحبون بها في النار، ﴿ وأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدونَ ﴾ أي ماكثون فيها أبداً لا يحولون عنها ولا يزولون.
يقول تعالى :﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ ﴾ أي هؤلاء المكذبون، ﴿ بالسيئة قَبْلَ الحسنة ﴾ أي بالعقوبة، كما أخبر عنهم في قوله :﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب ﴾ [ الحج : ٤٧ ] الآية، وقال تعالى :﴿ سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ﴾ [ المعارج : ١ ]، وقال :﴿ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا ﴾ [ الشورى : ١٨ ]، وقال :﴿ وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا ﴾ [ ص : ١٦ ] الآية، أي عقابنا وحسابنا، فكانوا من شدة تكذيبهم وعنادهم وكفرهم، يطلبون أن يأتيهم بعذاب الله، قال الله تعالى :﴿ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المثلات ﴾ أي قد أوقعنا نقمنا بالأمم الخالية، وجعلناهم عبرة وعظة لمن اتعظ بهم؛ ثم أخبر تعالى أنه لولا حلمه وعفوه لعاجلهم بالعقوبة كما قال :﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ ﴾ [ فاطر : ٤٥ ]، وقال تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ ﴾ أي إنه تعالى ذو عفو وصفح وستر للناس، مع أنهم يظلمون ويخطئون بالليل والنهار، ثم قرن هذا الحكم بأنه شديد العقاب ليعتدل الرجاء والخوف، كما قال تعالى :﴿ فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ القوم المجرمين ﴾ [ الأنعام : ١٤٦ ]، وقال :﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العقاب وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [ الأنعام : ١٦٧ ] إلى أمثال ذلك من الآيات التي تجمع الرجاء والخوف، عن سعيد بن المسيب قال : لما نزلت هذه الآية :﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ ﴾ قال رسول الله ﷺ :« لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحداً العيش، ولولا وعيده وعقابه لا تكل كل أحد ».
يقول تعالى إخباراً عن المشركين إنهم يقولون كفراً وعناداً : لولا يأتينا بآية من ربه كما أرسل الأولون، كما تعنتوا عليه أن يجعل لهم الصفا ذهباً، وأن يزيح عنهم الجبال ويجعل مكانها مروجاً وأنهاراً، قال تعالى :﴿ وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون ﴾ [ الإسراء : ٥٩ ] الآية، قال الله تعالى :﴿ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ ﴾ أي إنما عليك أن تبلغ رسالة الله التي أمرك بها، ﴿ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ ﴾ [ البقرة : ٢٧٢ ]، وقوله :﴿ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ﴾ قال ابن عباس : أي ولكل قوم داع، وقال العوفي عن ابن عباس في الآية : أنت يا محمد منذر وأنا هادي كل قوم. عن مجاهد ﴿ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ﴾ أي نبي كقوله :﴿ وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ ﴾ [ فاطر : ٢٤ ]، وقال يحيى بن رافع :﴿ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ﴾ أي قائد، وعن عكرمة :﴿ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ﴾ : هو محمد ﷺ، وقال مالك ﴿ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ﴾ : يدعوهم إلى الله عزّ وجلّ.
يخبر تعالى عن تمام علمه الذي لا يخفى عليه شيء، وأنه محيط بما تحمله الحوامل من كل الإناث، كما قال تعالى :﴿ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرحام ﴾ [ لقمان : ٣٤ ] أي ما حملت من ذكر وأنثى، أو حسن أو قبيح، أو شقي أو سعيد، أو طويل العمر أو قصيره، كقوله تعالى :﴿ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ ﴾ [ النجم : ٣٢ ] الآية، وقال تعالى :﴿ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ ﴾ [ الزمر : ٦ ] أي خلقكم طوراً من بعد طور، كما قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ﴾ [ المؤمنون : ١٢-١٣ ]. وفي « الصحيحين » عن ابن مسعود قال : قال رسول الله ﷺ :« إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكاً فيؤمر بأربع كلمات، بكتب رزقه وعمره وعمله وشقي أو سعيد »، وفي الحديث الآخر :« فيقول الملك أي رب! أذكر أم أنثى! أشقي أم سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيقول الله ويكتب الملك ».
وقوله تعالى :﴿ وَمَا تَغِيضُ الأرحام وَمَا تَزْدَادُ ﴾، قال البخاري، عن ابن عمر، أن رسول الله ﷺ :« مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله، لا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله »، وقال ابن عباس :﴿ وَمَا تَغِيضُ الأرحام ﴾ يعني السقط ﴿ وَمَا تَزْدَادُ ﴾، يقول : ما زادت الرحم في الحمل على ما غاضت حتى ولدته تماماً، وذلك أن من النساء من تحمل عشرة أشهر، ومن تحمل تسعة أشهر، ومنهن من تزيد من الحمل، ومنهم من تنقص، فلذلك الغيض والزيادة التي ذكر الله تعالى وكل ذلك بعلمه تعالى، وعنه : ما نقصت من تسعة وما زاد عليها، وقال الضحاك : وضعتني أمي وقد حملتني في بطنها سنتين، وولدتني وقد نبتت ثنيتي، وقال ابن جريج، عن عائشة قالت : لا يكون الحمل أكثر من سنتين قدر ما يتحرك ظل مغزل، وقال مجاهد :﴿ وَمَا تَغِيضُ الأرحام وَمَا تَزْدَادُ ﴾ قال : ما ترى من الدم في حملها وما تزاد على تسعة أشهر، وقال مجاهد أيضاً ﴿ وَمَا تَغِيضُ الأرحام ﴾ : إراقة الدم حتى يخس الولد، ﴿ وَمَا تَزْدَادُ ﴾ إن لم تهرق الدم تم الولد وعظم، وقال مكحول : الجنين في بطن أمه لا يحزن ولا يغتم، وإنما يأتيه رزقه في بطن أمه من دم حيضتها فمن ثم لا تحيض الحامل، فإذا وقع إلى الأرض استهل، واستهلاله استنكاره لمكانه، فإذا قطعت سرته حوّل الله رزقه إلى ثديي أمه، حتى لا يحزن ولا يطلب ولا يغتم، ثم يصير طفلاً يتناول الشيء بكفه فيأكله، فإذا هو بلغ قال : هو الموت أو القتل أنى لي بالرزق؟ فيقول مكحول : يا ويحك، غذاك وأنت في بطن أمك، وأنت طفل صغير، حتى إذا اشتددت وعقلت قلت : هو الموت أو القتل أنى لي بالرزق؟ ثم قرأ مكحول :﴿ الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى ﴾ الآية، وقال قتادة :﴿ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ ﴾ أي بأجل، حفظ أرزاق خلقه وآجالهم وجعل لذلك أجلاً معلوماً، وفي الحديث الصحيح :
1266
« إن إحدى بنات النبي ﷺ بعثت إليه أن ابناً لها في الموت، وأنها لا تحب أن يحضره، فبعث إليها يقول :» إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمروها فلتصبر ولتحتسب « الحديث بتمامه، وقوله :﴿ عَالِمُ الغيب والشهادة ﴾ أي يعلم كل شيء مما يشاهده العباد ومما يغيب عنهم ولا يخفى عليه منه شيء ﴿ الكبير ﴾ الذي هو أكبر من كل شيء ﴿ المتعال ﴾ أي على كل شيء، ﴿ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً ﴾ [ الطلاق : ١٢ ] وقهر كل شيء فخضعت له الرقاب ودان له العباد طوعاً وكرهاً.
1267
يخبر تعالى عن إحاطة علمه بجميع خلقه، وأنه سواء منهم من أسر قوله أو جهر به، فإنه يسمعه لا يخفى عليه شيء كقوله :﴿ وَإِن تَجْهَرْ بالقول فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى ﴾ [ طه : ٧ ]، وقال :﴿ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ﴾ [ النمل : ٢٥ ]، وقوله :﴿ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ باليل ﴾ أي مختلف في قعر بيته في ظلام الليل، ﴿ وَسَارِبٌ بالنهار ﴾ أي ظاهر ماش في بياض النهار وضيائه، فإن كلاهما في علم الله على السواء، كقوله تعالى :﴿ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ ﴾ [ هود : ٥ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ﴾ [ يونس : ٦١ ]، وقوله :﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله ﴾ أي للعبد ملائكة يتعاقبون عليه، حرس بالليل، وحرس بالنهار، يحفظونه من الأسواء والحادثات، كما يتعاقب ملائكة آخرون لحفظ الأعمال من خير أو شر، ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، فاثنان عن اليمين والشمال، يكتبان الأعمال صاحب اليمين يكتب الحسنات، وصاحب الشمال يكتب السيئات، وملكان آخران يحفظانه ويحرسانه، واحد من ورائه وآخر من قدامه، فهو بين أربعة املاك بالنهار، وأربعة آخرين بالليل بدلاً، حافظان وكاتبان، كما جاء في « الصحيح » :« يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار » الحديث، وفي الحديث الآخر :« إن معكم من لا يفارقكم إلا عند الخلاء وعند الجماع فاستحيوهم وأكرموهم »، وقال ابن عباس :﴿ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله ﴾ قال : ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، فإذا جاء قدر الله خلوا عنه، وقال مجاهد : ما من عبد إلا له ملك موكل يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام، فما منها شيء يأتيه يريده إلا قال له الملك : وراءك إلا شيء أذن الله فيه فيصيبه.
وقال الإمام أحمد رحمه الله، عن عبد الله قال : قال رسول الله ﷺ :« ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن، وقرينه من الملائكة » قالوا : وإياك يا رسول الله، قال :« وإياي، ولكن الله أعانني عليه فلا يأمرني إلا بخير » وقوله :﴿ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله ﴾ قيل : المراد حفظهم له من أمر الله، قاله ابن عباس، وإليه ذهب مجاهد وسعيد بن جبير، وقال قتادة :﴿ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله ﴾ يحفظونه بأمر الله، وقال كعب الأحبار : لو تجلى لابن آدم كل سهل وكل حزن لرأى كل شيء من ذلك شيئاً يقيه، ولولا أن الله وكل بكم ملائكة يذبون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم إذاً لتُخُطفتم، قال أبو أمامة : ما من آدمي إلا ومعه ملك يذود عنه حتى يسلمه للذي قدر له. وقال أبو مجلز : جاء رجل إلى علي رضي الله عنه وهو يصلي، فقال : احترس، فإن ناساً يريدون قتلك، فقال : إن مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يقدر، فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه، إن الأجل جنة حصينة.
1268
وقال بعضهم :﴿ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله ﴾ بأمر الله، كما جاء في الحديث أنهم قالوا :« يا رسول الله أرأيت رقيا تسترقي بها، هل ترد من قدر الله شيئاً؟ فقال :» هي من قدر الله «، وقال ابن أبي حاتم :» أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل أن قل لقومك : إنهليس من أهل قرية ولا أهل بيت يكونون على طاعة الله فيتحولون منها إلى معصية الله إلا حوّل الله عنهم ما يحبون إلى ما يكرهون «، ثم قال : إن تصديق ذلك في كتاب الله :﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾.
1269
يخبر تعالى أنه هو الذي يسخر البرق، وهو ما يرى من النور اللامع ساطعاً من خلل السحاب، ﴿ خَوْفاً وَطَمَعاً ﴾، قال قتادة : خوفاً للمسافر يخالف أذاه ومشقته، وطمعاً للمقيم يرجو بركته ومنفعته ويطمع في رزق الله. ﴿ وَيُنْشِىءُ السحاب الثقال ﴾ أي ويخلقها منشأة جديدة، وهي لكثرة مائها ثقيلة قريبة إلى الأرض، قال مجاهد : السحاب الثقال : الذي فيه الماء، ﴿ وَيُسَبِّحُ الرعد بِحَمْدِهِ ﴾، كقوله :﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ﴾ [ الإسراء : ٤٤ ]، وكان رسول الله ﷺ إذا سمع الرعد والصواعق قال :« اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك » وعن أبي هريرة رفعه، أنه كان إذا سمع الرعد قال :« سبحان من يسبح الرعد بحمده »، وعن عبد الله بن الزبير أنه كان إذا سمع الرعد ترك الحديث، وقال : سبحان الذي يسبّح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، ويقول : إن هذا لوعيد شديد لأهل الأرض، وروى الطبراني عن ابن عباس قال : قال رسول الله ﷺ :« إذا سمعتم الرعد فاذكروا الله، فإنه لا يصيب ذاكراً »، وقوله تعالى :﴿ وَيُرْسِلُ الصواعق فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ ﴾ أي يرسلها نقمة ينتقم بها ممن يشاء، ولهذا تكثر في آخر الزمان؛ كما قال الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال :« تكثر الصواعق عند اقتراب الساعة، حتى يأتي الرجل القوم فيقول : من صعق قبلكم الغداة؟ فيقولون : صعق فلان وفلان وفلان ».
وقد روي في سبب نزولها « أن رسول الله ﷺ بعث رجلاً مرة إلى رجل من فراعنة العرب، فقال :» اذهب فادعه لي «، قال : فذهب إليه فقال : يدعوك رسول الله ﷺ، فقال له : من رسول الله؟ وما الله؟ أمن ذهب هو، أم من فضة هو، أم من نحاس هو؟ قال : فرجع إلى رسول الله ﷺ، فأخبره، فقال : يا رسول الله قد خبرتك أنه أعتى من ذلك، قال لي : كذا وكذا. فقال لي :» ارجع إليه ثانية «، فذهب فقال له مثلها، فرجع إلى رسول الله ﷺ، فقال : يا رسول الله قد أخبرتك أنه أعتى من ذلك؛ فقال :» ارجع إليه فادعه «، فرجع إليه الثالثة قال : فأعاد عليه ذلك الكلام، فبينما هو يكلمه إذ بعث الله عزّ وجلّ سحابة حيال رأسه فرعدت، فوقعت منها صاعقة فذهبت بقحف رأسه، فأنزل الله عزّ وجلّ :﴿ وَيُرْسِلُ الصواعق ﴾ » الآية. وعن مجاهد قال : جاء يهودي فقال : يا محمد أخبرني عن ربك من أي شيء هو؟ من نحاس هو؟ أم من لؤلؤ، أو ياقوت؟ قال : فجاءت صاعقة فأخذته، وأنزل الله.
1270
﴿ وَيُرْسِلُ الصواعق ﴾ الآية، وقال قتادة : ذكر لنا أن رجلاً أنكر القرآن، وكذّب النبي ﷺ، فأرسل الله صاعقة فأهلكته، وأنزل الله :﴿ وَيُرْسِلُ الصواعق ﴾ الآية، وذكروا في سبب نزولها قصة ( عامر بن الطفيل ) و ( أربد بن ربيعة ) لما قدما على رسول الله ﷺ المدينة، فسألاه أن يجعل لهما نصف الأمر، فأبى عليهما رسول الله ﷺ، فقال له عامر بن الطفيل لعنه اله : أما والله لأملأنها عليك خيلاً جرداً، ورجلاً مرداً، فقال له رسول الله ﷺ :« يأبى الله عليك ذلك وأبناء قيلة » يعني الأنصار، ثم أنهما همّا بالفلك برسول الله ﷺ فجعل أحدهما يخاطبه، والآخر يستل سيفه ليقتله من ورائه، فحماه الله تعالى منهما وعصمه، فخرجا من المدينة، فانطلقا في أحياء العرب يجمعان الناس لحربه ﷺ، فأرسل الله على ( أربد ) سحابة فيها صاعقة فأحرقته، وأما ( عامر بن الطفيل ) فأرسل الله عليه الطاعون، فخرجت فيه غدة عظيمة، فجعل يقول : يا أهل عارم غدةٌ كغدة البكر، وموتٌ في بيت سلولية، حتى ماتا لعنهما الله، وأنزل الله في مثل ذلك :﴿ وَيُرْسِلُ الصواعق فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي الله ﴾. وقوله :﴿ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي الله ﴾ أي يشكون في عظمته وأنه لا إله إلا هو ﴿ وَهُوَ شَدِيدُ المحال ﴾. قال ابن جرير : شديدة مماحلته في عقوبة من طغى عليه، وعتا وتمادى في كفره، وهذه الآية شبيهة بقوله :﴿ وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [ النمل : ٥٠-٥١ ]، وعن علي رضي الله عنه :﴿ وَهُوَ شَدِيدُ المحال ﴾ أي شديد الأخذ؛ وقال مجاهد : شديد القوة.
1271
﴿ لَهُ دَعْوَةُ الحق ﴾ التوحيد لا إله إلا الله ﴿ والذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ﴾ أي ومثل الذين يعبدون آلهة غير الله ﴿ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى المآء لِيَبْلُغَ فَاهُ ﴾، قال علي بن أبي طالب : كمثل الذي يتناول الماء من طرف البئر بيده، وهو لا يناله أبداً بيده، فكيف يبلغ فاه؟ وقال مجاهد :﴿ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ ﴾ يدعو الماء بلسانه ويشير إليه فلا يأتيه أبداً، وقيل : المراد كقابض يده على الماء، فإنه لا يحكم منه على شيء، كما قال الشاعر :
فأصبحت مما كان بيني وبينها من الود مثل القابض الماء باليد
ومعنى هذا الكلام أن الذي يبسط يده إلى الماء إما قابضاً، وإما متناولاً له من بعد، كما أنه لا ينتفع بالماء الذي لم يصل إلى فيه الذي جعله محلاً للشرب، فكذلك هؤلاء المشركون الذين يعبدون مع الله إلهاً غيره لا ينتفعون بهم أبداً في الدنيا ولا في الآخرة، ولهذا قال :﴿ وَمَا دُعَآءُ الكافرين إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ ﴾.
يخبر تعالى عن عظمته وسلطانه الذي قهر كل شيء ودان له كل شيء. ولهذا يسجد له كل شيء طوعاً من المؤمنين وكرهاً من الكافرين، ﴿ وَظِلالُهُم بالغدو ﴾ أي البكور، ﴿ والآصال ﴾ وهو آخر النهار، كقوله تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُاْ ظِلاَلُهُ ﴾ [ النمل : ٤٨ ] الآية.
يقرر تعالى أنه لا إله إلا هو لأنهم معترفون بأنه هو الذي خلق السماوات والأرض وهو ربها ومدبرها، وهم مع هذا قد اتخذوا من دونه أولياء يعبدونهم، وأولئك الآلهة لا تملك لا لنفسها إلا لعابديها بطريق الأولى نفعاً ولا ضراً، أي لا تحصل لهم منفعة ولا تدفع عنهم مضرة، فهل يستوي من عبد هذه الآلهة مع الله ومن عبد الله وحده لا شريك له فهو على نور من ربه؟ ولهذا قال :﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعمى والبصير أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظلمات والنور أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الخلق عَلَيْهِمْ ﴾ أي أجعل هؤلاء المشركون مع الله آلهة تناظر الرب وتماثله في الخلق، فخلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم، فلا يدرون أنها مخلوقة من مخلوق غيره، أي ليس الأمر كذلك، فإنه لا يشابهه شيء ولا يماثله، ولا ندّ له ولا عدل؛ ولا وزير له ولا ولد ولا صاحبة، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، فأنكر تعالى عليهم ذلك، حيث اعتقدوا ذلك وهو تعالى لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، ﴿ وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ﴾ [ سبأ : ٢٣ ]، ﴿ وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِي السماوات ﴾ [ النجم : ٢٦ ] الآية، وقال :﴿ إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض إِلاَّ آتِي الرحمن عَبْداً ﴾ [ مريم : ٩٣ ]، فإذا كان الجميع عبيداً فلم يعبد بعضهم بعضاً بلا دليل ولا برهان؟ بل بمجرد الرأي والاختراع والابتداع فحقت عليهم كلمة العذاب لا محالة، ﴿ وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ﴾ [ الكهف : ٤٩ ].
اشتملت هذه الآية الكريمة على مثلين مضروبين للحق في ثباته وبقائه، والباطل في اضمحلاله وفنائه، فقال تعالى :﴿ أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً ﴾ أي مطراً، ﴿ فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ﴾ أي أخذ كل وادٍ بحسبه، فهذا كبير وسع كثيراً من الماء، وهذا صغير وسع بقدره، وهو إِشارة إلى القلوب وتفاوتها، فمنها ما يسع علماً كثيراً، ومنها من لا يتسع لكثير من العلوم بل يضيق عنها، ﴿ فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً ﴾، أي فجاء على وجه الماء الذي سال في هذه الأودية زدب عالٍ عليه؛ هذا مثل، وقوله :﴿ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ ﴾ الآية؛ هذا هو المثل الثاني وهو ما يسبك في النار من ذهب أو فضة ﴿ ابتغآء حِلْيَةٍ ﴾ أي ليجعل حلية أو نحاساً أو حديداً فيجعل متاعاً، فإنه يعلوه زبد منه، كما يعلو ذلك زبد منه، ﴿ كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل ﴾، أي إذا اجتمعا لا ثبات للباطل ويضمحل، ولهذا قال :﴿ فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً ﴾ أي لا ينتفع به بل يتفرق ويتمزق ويذهب في جانبي الوادي، ويعلق بالشجر وتنسفه الرياح، وكذلك خبث الذهب والفضة والحديد والنحاس يذهب ولا يرجع منه شيء ولا يبقى إلا الماء، وذلك الذهب ونحوه ينتفع به، ولهذا قال :﴿ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال ﴾، كقوله تعالى :﴿ وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ العالمون ﴾ [ العنكبوت : ٤٣ ]. وقال بعض السلف : كنت إذا قراتُ مثلاً من القرآن فلم أفهمه بكيت على نفسي لأن الله تعالى يقول :﴿ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ العالمون ﴾ [ العنكبوت : ٤٣ ]، قال ابن عباس : هذا مثل ضربه الله احتملت منه القلوب على قدر يقينها وشكلها، فأما الشك فلا ينفع معه العمل، وأما اليقين فينفع الله به أهله، وهو قوله :﴿ فَأَمَّا الزبد ﴾ وهو الشك ﴿ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض ﴾ وهو اليقين، وكما يجعل الحلي في النار فيؤخذ خالصه ويترك خبثه في النار، فكذلك يقبل الله اليقين ويترك الشك. وقال العوفي عن ابن عباس قوله :﴿ أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً ﴾ يقول : احتمل السيل ما في الوادي من عود ودمنة، ﴿ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ﴾ فهو الذهب والفضة والحلية والمتاع والنحاس والحديد، فللنحاس والحديد خبث، فجعل الله مثل خبثه كزبد الماء، فأما ما ينفع الناس فالذهب والفضة، وأما ما ينفع الأرض فما شربت من الماء فأنبتت فجعل ذاك مثل العمل الصالح يبقى لأهله، والعمل السيء يضمحل عن أهله، كما يذهب هذا الزبد، وكذلك الهدي والحق، جاءا من عند الله فمن عمل بالحق كان له وبقي كما بقي ما ينفع الناس في الأرض، وكذلك الحديد لا يستطاع أن يعمل منه سكين ولا سيف حتى يدخل في النار فتأكل خبثه ويخرج جيده فينتفع به، فكذلك يضمحل الباطل، فإذا كان يوم القيامة وأقيم الناس وعرضت الأعمال فيزيغ الباطل ويهلك، وينتفع أهل الحق بالحق.
1275
وفي « الصحيحين » عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال :« إن مثل ما بعثني الله به الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا ورعوا وسقوا وزرعوا »، وأصابت طائفة منها أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله بما بعثني ونفع به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به.
1276
يخبر تعالى عن مآل السعداء والأشقياء :﴿ لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبِّهِمُ ﴾ أي أطاعوا الله ورسوله وانقادوا لأوامره وصدّقوا أخباره الماضية والآتية، فلهم ﴿ الحسنى ﴾ وهو الجزاء الحسن كقوله تعالى :﴿ وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الحسنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً ﴾ [ الكهف : ٨٨ ]، وقال تعالى :﴿ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ ﴾ [ يونس : ٢٦ ]، وقوله :﴿ والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ ﴾ أي لم يطيعوا الله، ﴿ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً ﴾ أي في الدارا الآخرة، لو أنه يمكنهم أن يفتدوا من عذاب الله بملء الأرض ذهباً ومثله معه لافتدوا به، ولكن لا يتقبل منهم، لأنه تعالى لا يقبل منهم يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً ﴿ أولئك لَهُمْ سواء الحساب ﴾ أي في الدار الآخرة، أي يناقشون على النقير والقطمير، والجليل والحقير، ومن نوقش الحساب عذب، ولهذا قال :﴿ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد ﴾.
يقول تعالى : لا يستوي من يعلم من الناس أن الذي ﴿ أُنزِلَ إِلَيْكَ ﴾ يا محمد ﴿ مِن رَبِّكَ ﴾ هو الحق الذيلا شك فيه ولا مرية، بل هو كله حق يصدق بعضه بعضاً، فأخباره كلها حق، وأوامره ونواهيه عدل، فلا يستوي من تحقق صدق ما جئت به يا محمد، ومن هو أعمى لا يهتدي إلى خير ولا يفهمه، ولو فهمه ما انقاد له ولا صدّقه ولا اتبعه، كقوله تعالى :﴿ لاَ يستوي أَصْحَابُ النار وَأَصْحَابُ الجنة ﴾ [ الحشر : ٢٠ ]، وقال هنا :﴿ أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحق كَمَنْ هُوَ أعمى ﴾ أي أفهذا كهذا؟ لا استواء. وقوله :﴿ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب ﴾ أي إنما يتعظ ويعتبر أولو العقول السليمة الصحيحة؛ جعلنا الله منهم.
يقول تعالى مخبراً عمن اتصف بهذه الصفات الحميدة بأن لهم عقبى الدار، وهي العاقبة والنصرة في الدنيا والآخرة ﴿ الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله وَلاَ يَنقُضُونَ الميثاق ﴾ وليسوا كالمنافقين الذين إذا عاهد أحدهم غدر، وإذا خاصم فجر، وإذا ائتمن خان ﴿ والذين يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ ﴾ من صلة الأرحام والإحسان إليهم وإلى الفقراء والمحاويج وبذل المعروف، ﴿ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ﴾ أي فيما يأتون وما يذرون من الأعمال، يراقبون الله في ذلك ويخافون سوء الحساب في الدار الآخرة، فلهذا أمرهم على السداد والاستقامة في جميع حركاتهم وسكناتهم، ﴿ وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابتغاء وَجْهِ رَبِّهِمْ ﴾ أي عن المحارم والمآثم ففطموا أنفسهم عنها لله عزّ وجلّ ابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه، ﴿ وَأَقَامُواْ الصلاة ﴾ بحدودها ومواقيتها وركوعها وسجودها وخشوعها على الوجه الشرعي المرضي، ﴿ وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ ﴾ أي على الذين يجب عليهم الإنفاق لهم، من زوجات وقرابات وأجانب، من فقراء ومحاويج ومساكين، ﴿ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً ﴾ أي في السر والجهر، لم يمنعهم من ذلك حال من الأحوال آناء الليل وأطراف النهار، ﴿ وَيَدْرَءُونَ بالحسنة السيئة ﴾ أي يدفعون القبيح بالحسن، فإذا آذاهم أحد قابلوه بالجميل صبراً واحتمالاً وصفحاً وعفواً، كقوله تعالى :﴿ ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ [ فصلت : ٣٤ ]، ولهذا قال مخبراً عن هؤلاء السعداء المتصفين بهؤلاء الصفات الحسنة بأن لهم عقبى الدار، ثم فسر ذلك بقوله :﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ ﴾ والعدن : الإقامة، أي جنات إقامة يخلدون فيها، وقال الضحاك في قوله :﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ ﴾ مدينة الجنة فيها الرسل والأنبياء والشهداء، وأئمة الهدى والناس حولهم بعد والجنات حولها، وقوله :﴿ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ﴾ أي يجمع بينهم وبين أحبابهم فيها من الآباء والأهلين والأبناء ممن هو صالح لدخول الجنة من المؤمنين لتقر أعينهم بهم، حتى إنه ترفع درجة الأدنى إلى درجة الأعلى امتناناً من الله، وإحساناًمن غير تنقيص للأعلى عن درجته، كما قال تعالى :﴿ والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم ﴾ [ الطور : ٢١ ] الآية، وقوله :﴿ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عقبى الدار ﴾ أي وتدخل عليهم الملائكة من ههنا ومن ههنا للتهنئة بدخول الجنة، فعند دخولهم إياها تفد عليهم الملائكة مسلّمين مهنئين لهم بما حصل لهم من الله من التقريب والإنعام، والإقامة في دار السلام، في جوار الصديقين والأنبياء والرسل والكرام.
هذا حال الأشقياء وصفاتهم وذكر مآلهم في الآخرة، ومصيرهم إلى خلاف ما صار إليه المؤمنون، كما أنهم اتصفوا بخلاف صفاتهم في الدنيا فأولئك كانوا يوفون بعهد الله ويصلون ما أمر الله به أن يوصل، وهؤلاء ﴿ يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرض ﴾ كما ثبت في الحديث :« آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان »، ولهذا قال :﴿ أولئك لَهُمُ اللعنة ﴾ وهي الإبعاد عن الرحمة ﴿ وَلَهُمْ سواء الدار ﴾، وهي سوء العاقبة والمآل ﴿ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد ﴾ [ الرعد : ١٨ ]. وقال أبو العالية : هي ست خصال في المنافقين، وإذا كان فيهم الظهرة على الناس أظهروا هذه الخصال : إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا ائتمنوا خانوا، ونقضوا عهد الله بعد ميثاقه، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل، وأفسدوا في الأرض، وإذا كانت الظهرة عليهم أظهروا الثلاث والخصال : إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا ائتمنوا خانوا.
يذكر تعالى أنه هو الذي يوسع الرزق على من يشاء ويقتر على من يشاء، لماله في ذلك من الحكمة والعدل، وفرح هؤلاء الكفار بما أوتوا من الحياة الدنيا استدراجاً لهم وإمهالاً كما قال :﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات بَل لاَّ يَشْعُرُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٥٥-٥٦ ]، ثم حقر الحياة الدنيا بالنسبة إلى ما ادخر تعالى لعباده المؤمنين في الدار الآخرة فقال :﴿ وَمَا الحياة الدنيا فِي الآخرة إِلاَّ مَتَاعٌ ﴾، كما قال :﴿ قُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ والآخرة خَيْرٌ لِّمَنِ اتقى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً ﴾ [ النساء : ٧٧ ]، وقال :﴿ بَلْ تُؤْثِرُونَ الحياة الدنيا * والآخرة خَيْرٌ وأبقى ﴾ [ الأعلى : ١٦-١٧ ]، وقال الإمام أحمد، عن المستورد أخي بني فهر قال : قال رسول الله ﷺ :« ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه هذه في اليم فلينظر بم ترجع »، وأشار بالسبابة، وفي الحديث الآخر أن رسول الله ﷺ مر بجدي أسك ميت، والأسك الصغير الأذنين، فقال :« والله للدنيا أهون على الله من هذا على أهله حين ألقوه ».
يخبر تعالى عن المشركين قولهم ﴿ لَوْلاَ ﴾ أي هلا، ﴿ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ﴾، كقولهم :﴿ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ الأولون ﴾ [ الأنبياء : ٥ ] وقد تقدم الكلام على هذا غير مرة، وأن الله قادر على إجابة ما سألوا؛ ﴿ قُلْ إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ ويهدي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ ﴾ أي هو المضل والهادي، سواء بعث الرسول بآية على وفق ما اقترحوا، أو لم يجبهم إلى سؤالهم، فإن الهداية والإضلال ليس منوطاً بذلك، كما قال :﴿ وَمَا تُغْنِي الآيات والنذر عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ يونس : ١٠١ ]، قال :﴿ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ ليؤمنوا إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله ولكن أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ﴾ [ الأنعام : ١١١ ]، ولهذا قال :﴿ قُلْ إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ ويهدي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ ﴾ أي ويهدي إليه من أناب إلى الله، ورجع إليه واستعان به وتضرع لديه، ﴿ الذين آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله ﴾ أي تطيب وتركن إلى جانب الله وتسكن عند ذكره وترضى به مولى ونصيراً ولهذا قال :﴿ أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب ﴾ أي هو حقيقي بذلك، وقوله :﴿ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات طوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ ﴾، قال ابن عباس : فرجٌ وقرة عين، وقال عكرمة : نعم ما لهم، وقال الضحاك : غبطة لهم. وقال إبراهيم النخعي : خير لهم، وقال قتادة : يقول الرجل : طوبى لك، أي أصبت خيراً، وقيل : حسنى لهم، ﴿ وَحُسْنُ مَآبٍ ﴾ أي مرجع، وهذه الأقوال لا منافاة بينها، وروى السدي عن عكرمة : طوبى لهم هي الجنة، وبه قال مجاهد.
وروى ابن جرير، عن شهر بن حوشب قال : طوبى شجرة في الجنة كل شجر الجنة منها أغصانها، وهكذا روى غير واحد من السلف أن طوبى شجرة في الجنة في كل دار منها غصن منها، وذكر بعضهم أن الرحمن تبارك وتعالى غرسها بيده من جبة لؤلؤة وأمرها أن تمتد، فامتدت إلى حيث يشاء الله تبارك وتعالى، وخرجت من أصلها ينابيع أنهار الجنة من عسل وخمر وماء ولبن، وروى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ قال :« إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها »، قال : فحدثت بها النعمان بن أبي عياش الزرقي فقال : حدثني أبو سعيد الخدري عن النبي ﷺ قال :« إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة عام ما يقطعها » وفي « صحيح البخاري » عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ في قول الله تعالى :﴿ وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ ﴾ [ الواقعة : ٣٠ ] قال :« في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها ».
يقول تعالى وكما أرسلناك يا محمد في هذه الأمة ﴿ لِّتَتْلُوَاْ عَلَيْهِمُ الذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ ﴾ أي تبلغهم رسالة الله إليهم كذلك أرسلنا في الأمم الماضية الكافرة بالله، وقد كذب الرسل من قبلك فلك بهم أسوة، وكما أوقعنا بأسنا ونقمتنا بأولئك فليحذر هؤلاء من حلول النقم بهم، قال الله تعالى :﴿ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ على مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حتى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ﴾ [ الأنعام : ٣٤ ] أي كف تصرناهم وجلعنا العاقبة لهم ولأتباعهم في الدنيا والآخرة، وقوله :﴿ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمن ﴾ أي هذه الأمة التي بعثناك فيهم يكفرون بالرحمن لا يقرون به، لأنهم كانوا يأنفون من وصف الله ب ﴿ الرحمن الرحيم ﴾ [ الفاتحة : ٣ ] ولهذا أنفوا يوم الحديبية أن يكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم، وقالوا : ما ندري ما الرحمن الرحيم. وفي « صحيح مسلم » :« إن أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن » ﴿ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إله إِلاَّ هُوَ ﴾ أي هذا الذي تكفرون به أنا مؤمن به معترف مقر له بالربوبية والإلهية، هو ربي لا إله إلا هو ﴿ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ﴾ أي في جميع أموري، ﴿ وَإِلَيْهِ مَتَابِ ﴾ أي إليه أرجع وأنيب فإنه لا يستحق ذلك أحد سواه.
يقول تعالى مادحاً للقرآن الذي أنزله على محمد ﷺ ومفضلاً له على سائر الكتب المنزلة قبله :﴿ وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال ﴾ أي لو كان في الكتب الماضية كتاب تسير به الجبال عن أماكنها، أو تقطع به الأرض وتنشق، أو تكلم به الموتى في قبورها، لكان هذا القرآن هو المتصف بذلك دون غيره، أو بطريق الأولى أن يكون كذلك لما فيه من الإعجاز الذي لا يستطيع الإنسان والجن عن آخرهم إذا اجتمعوا أن يأتوا بمثله ولا بسورة من مثله، ومع هذا فهؤلاء المشركون كافرون به جاحدون له، ﴿ بَل للَّهِ الأمر جَمِيعاً ﴾ أي مرجع الأمور كلها إلى الله عزّ وجل ما شاء كان، ما لم يشأ لم يكن، وقد يطلق اسم القرآن على كل من الكتب المتقدمة لأنه مشتق من الجمع، وفي الحديث الصحيح، قال رسول الله ﷺ :« خفف على داود القرآن، فكان يأمر بدابته أن تسرج، فكان يقرأ القرآن من قبل أن تسرج دابته، وكان لا يأكل إلا من عمل يديه »، والمراد بالقرآن هو الزبور، وقوله :﴿ أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا ﴾ أي من إيمان جميع الخلق ويعلموا أن يتبينوا ﴿ أَن لَّوْ يَشَآءُ الله لَهَدَى الناس جَمِيعاً ﴾ فإنه ليس ثمّ حجة ولا معجزة، أبلغ ولا أنجع في العقول والنفوس، من هذا القرآن الذي لو أنزله الله عزّ وجلّ على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله، وثبت في « الصحيح » أن رسول الله ﷺ قال :« ما من نبي إلا وقد أوتي ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة » معناه أن معجزة كل نبي انقرضت بموته وهذا القرآن حجة باقية على الآباد لا تنقضي عجائبه، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا يشبع منه العلماء.
وروي أن المشركين قالوا لمحمد محمد ﷺ : لو سيرت لنا جبال مكة حتى تتسع فنحرث فيها، أو قطعت لنا الأرض كما كان سليمان يقطع لقومه بالريح، أو أحييت لنا الموتى كما كان عيسى يحيى الموتى لقومه، فأنزل الله هذه الآية :﴿ وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال ﴾. وقال قتادة : لو فعل هذا بقرآن غير قرآنكم لفعل بقرآنكم، وقوله :﴿ بَل للَّهِ الأمر جَمِيعاً ﴾ قال ابن عباس : أي لا يصنع من ذلك إلا ما شاء ولم يكن ليفعل. وقال غير واحد من السلف في قوله :﴿ أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا ﴾ أفلم يعلم الذين آمنوا، وقوله :﴿ وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ ﴾ أي بسبب تكذيبهم لا تزال القوارع تصيبهم في الدنيا أو تصيب من حولهم ليتعظوا ويعتبروا، كما قال تعالى :
1284
﴿ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ أَفَهُمُ الغالبون ﴾ [ الأنبياء : ٤٤ ]، قال الحسن :﴿ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ ﴾ : أي القارعة، وهذا هو الظاهر من السياق، وقال العوفي عن ابن عباس ﴿ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ ﴾ قال : عذاب من السماء ينزل عليهم، ﴿ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ ﴾ يعني نزول رسول الله ﷺ بهم وقتاله إياهم؛ وقال عكرمة في رواية عنه ﴿ قَارِعَةٌ ﴾ : أي نكبة، ﴿ حتى يَأْتِيَ وَعْدُ الله ﴾ يعني فتح مكة، وقال الحسن البصري : يوم القيامة، وقوله :﴿ إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد ﴾ أي لا ينقض وعده لرسله بالنصرة لهم ولأتباعهم في الدنيا والآخرة :﴿ فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ الله عَزِيزٌ ذُو انتقام ﴾ [ إبراهيم : ٤٧ ].
1285
يقول تعالى مسلياً لرسوله ﷺ في تكذيب من كذبه من قومه :﴿ وَلَقَدِ استهزئ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ ﴾ أي فلك فيهم أسوة، ﴿ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ أي أنظرتهم وأجلتهم، ﴿ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ ﴾ أخذة رابية فكيف بلغك ما صنعت بهم وكيف كان عقابي لهم؟ كما قال تعالى :﴿ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ المصير ﴾ [ الحج : ٤٨ ]. وفي « الصحيحين » :« إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته »، ثم قرأ رسول الله ﷺ :﴿ وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ [ هود : ١٠٢ ].
يقول تعالى :﴿ أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ﴾ أي حفيظ عليم رقيب على كل نفس منفوسة يعلم ما يعمل العاملون من خير وشر ولا يخفى عليه خافية ﴿ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ﴾ [ يونس : ٦١ ]، وقال تعالى :﴿ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا ﴾ [ الأنعام : ٥٩ ]، وقال :﴿ سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ باليل وَسَارِبٌ بالنهار ﴾ [ الرعد : ١٠ ]، وقال :﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [ الحديد : ٤ ]، أفمن هو كذلك كالأصنام التي يعبدونها لا تسمع ولا تبصر ولا تعقل ولا تكشف ضراً عنها ولا عن عابديها؟ وحذف هذا الجواب اكتفاء بدلالة السياق عليه، وهو قوله :﴿ وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ ﴾ أي عبدوها معه من أصنام وانداد وأوثان، ﴿ قُلْ سَمُّوهُمْ ﴾ أي أعلمونا بهم واكشفوا عنهم حتى يعرفوا فإنهم لا حقيقة لهم، ولهذا قال :﴿ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأرض ﴾ أي لا وجود له، لأنه لو كان لها وجود في الأرض لعلمها، لأنه لا تخفى عليه خافية ﴿ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ القول ﴾، قال مجاهد : بظنِّ من القول، وقال الضحاك وقتادة : بباطل من القول، أي إنما عبدتم هذه الأصنام بظن منكم أنها تنفع وتضر وسميتموها آلهة، ﴿ إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ ﴾ [ النجم : ٢٣ ]، ﴿ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ ﴾ قال مجاهد : قولهم أي ما هم عليه من الضلال والدعوة إلأيه آناء الليل وأطراف النهار، كقوله تعالى :﴿ وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم ﴾ [ فصلت : ٢٥ ] أي بما زين لهم من صحة ما هم عليه صدوا به عن سبيل الله، ولهذا قال :﴿ وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾، كما قال :﴿ وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً ﴾ [ المائدة : ٤١ ]، وقال :﴿ إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ ﴾ [ النحل : ٣٧ ].
ذكر تعالى عقاب الكفار وثواب الأبرار، فقال بعد إخباره عن حال المشركين وما هم عليه من الكفر والشرك :﴿ لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الحياة الدنيا ﴾ أي بأيدي المؤمنين قتلاً وأسراً، ﴿ وَلَعَذَابُ الآخرة ﴾ أي المدخر مع هذا الخزي في الدنيا ﴿ أَشَقُّ ﴾ أي من هذا بكثير كما قال رسول الله ﷺ للمتلاعنين :« إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة »، وهو كما قال صلوات الله وسلامه عليه : فإن عذاب الدنيا له انقضاء، وذاك دائم أبداً في نار هي بالنسبة إلى هذه سبعون ضعفاً، ووثاق لا يتصور كثافته وشدته، كما قال تعالى :﴿ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ﴾ [ الفجر : ٢-٣ ]، وقال تعالى :﴿ بَلْ كَذَّبُواْ بالساعة وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بالساعة سَعِيراً * إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً ﴾ [ الفرقان : ١١-١٢ ] ولهذا قرن هذا بقوله :﴿ مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون ﴾ أي صفتها ونعتها ﴿ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ﴾ أي سارحة في أرجائها وجوانبها، وحيث شاء أهلها يفجرونها تفجيراً، أي يصرفونها كيف شاءوا وأين شاءوا، كقوله :﴿ مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ ﴾ [ محمد : ١٥ ] الآية، وقوله :﴿ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا ﴾ أي فيها الفواكه والمطاعم والمشارب لا انقطاع ولا فناء. وفي « الصحيحين » من حيث ابن عباس في صلاة الكسوف، وفيه قالوا :« يا رسول الله رأيناك تناولت شيئاً في مقامك هذا ثم رأيناك تكعكعت، فقال :» إني رأيت الجنة - أو أريت الجنة - فتناولت منها عنقوداً، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا « وقال الحافظ أبو يعلى، عن جابر قال : بينما نحن في صلاة الظهر، إذ تقدم رسول الله ﷺ فتقدمنا، ثم تناول شيئاً ليأخذه ثم تأخر، فلما قضى الصلاة قال له أبي بن كعب : يا رسول الله نصعت اليوم في الصلاة شيئاً ما رأيناك كنت تصنعه، فقال :» إني عرضت عليّ الجنة وما فيها من الزهرة والنضرة فتناولت منها قطفاً من عنب لآتيكم به فحيل بيني وبينه ولو أتيتكم به لأكل منه من بين السماء والأرض لا ينقصونه «.
وروى الإمام أحمد والنسائي عن زيد بن أرقم قال : جاء رجل من أهل الكتاب فقال :»
يا أبا القاسم، تزعم أن أهل الجنة يأكلون ويشربون؟ قال :« نعم، والذي نفس محمد بيده إن الرجل منهم ليعطي قوة مائة رجل في الأكل والشرب والجماع والشهوة »، قال :« إن الذي يأكل ويشرب تكون له الحاجة وليس في الجنة الأذى، قال :» تكون حاجة أحدهم رشحاً يفيض من جلودهم كريح المسك فيضمر بطنه «، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله ﷺ :
1288
« إنك لتنظر إلى الطير في الجنة فيخر بين يديك مشوياً » وجاء في بعض الأحاديث أنه إذا فرغ منه عاد طائراً كما كان بإذن الله تعالى، وقد قال الله تعالى :﴿ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ ﴾ [ الواقعة : ٣٢-٣٣ ]، وقال :﴿ وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً ﴾ [ الإنسان : ١٤ ]، وكذلك ظلها لا يزول ولا يقلص كما قال تعالى :﴿ لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً ﴾ [ النساء : ٥٧ ]. وقد تقدم في « الصحيحين » من غير وجه أن رسول الله ﷺ قال :« إن في الجنة شجرة يسير الراكب المجد الجواد المضمر السريع في ظلها مائة عام لا يقطعها » ثم قرأ :﴿ وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ ﴾ [ الواقعة : ٣٠ ] وكثيراً ما يقرن الله تعالى بين صفة الجنة وصفة النار ليرغب في الجنة ويحذر من النار؛ ولهذا لما ذكر صفة الجنة بما ذكر قال بعده :﴿ تِلْكَ عقبى الذين اتقوا وَّعُقْبَى الكافرين النار ﴾، كما قال تعالى :﴿ لاَ يستوي أَصْحَابُ النار وَأَصْحَابُ الجنة أَصْحَابُ الجنة هُمُ الفآئزون ﴾ [ الحشر : ٢٠ ].
1289
يقول تعالى :﴿ والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب ﴾ وهم قائمون بمقتضاه ﴿ يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ ﴾ أي من القرآن لما في كتبهم من الشواهد على صدقه والبشارة، كما قال الله تعالى :﴿ قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تؤمنوا... ﴾ [ الإسراء : ١٠٧ ] إلى قوله ﴿ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً ﴾ [ الإسراء : ١٠٨ ] أي إن كان ما وعدنا الله به في كتبنا من إرسال محمد ﷺ لحقاً وصدقاً مفعولاً لا محالة، وكائناً وقوله :﴿ وَمِنَ الأحزاب مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ ﴾ أي ومن الطوائف من يكذب بعض ما أنزل إليك، وقال مجاهد ﴿ وَمِنَ الأحزاب ﴾ : أي اليهود والنصارى ﴿ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ ﴾ أي بعض ما جاءك من الحق، وهذا كما قال تعالى :﴿ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله ﴾ [ آل عمران : ١٩٩ ] الآية، ﴿ قُلْ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله ولا أُشْرِكَ بِهِ ﴾ أي إنما بعثت بعبادة الله وحده لا شريك له، كما أرسل الأنبياء من قبلي، ﴿ إِلَيْهِ أَدْعُو ﴾ أي إلى سبيله أدعو الناس، ﴿ وَإِلَيْهِ مَآبِ ﴾ أي مرجعي ومصيري، وقوله :﴿ وكذلك أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً ﴾ أي وكما أرسلنا قبلك المرسلين وأنزلنا عليهم الكتب من السماء، كذلك أنزلنا عليك القرآن محكماً معرباً شرفناك به وفضلناك على من سواك بهذا الكتاب المبين الواضح الجلي، الذي ﴿ لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [ فصلت : ٤٢ ]. وقوله :﴿ وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم ﴾ أي آراءهم ﴿ بَعْدَ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم ﴾ أي من الله سبحانه، ﴿ مَا لَكَ مِنَ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ ﴾، وهذا وعيد لأهل العلم أن يتبعوا سبل أهل الضلالة بعدما صاروا إليه من سلوك السنة النبوية، والمحجة المحمدية على من جاء بها أفضل الصلاة والسلام.
يقول تعالى : وكما أرسلناك يا محمد رسولاً بشرياً، كذلك قد بعثنا المرسلين قبلك بشراً يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، ويأتون الزوجات، ويولد لهم، وجعلنا لهم أزواجاً وذرية، وقد قال تعالى لأشرف الرسل وخاتمهم :﴿ قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ ﴾ [ الكهف : ١١٠ ]، وفي « الصحيحين » أن رسول الله ﷺ قال :« أما أنا فأصوم وأفطر وأقوم وأنام، وآكل اللحم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني » وقوله :﴿ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله ﴾ أي لم يكن يأتي قومه بخارق، إلا إذا أذن له فيه، ليس ذلك إليه بل إلى الله عزّ وجلّ، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، ﴿ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ﴾ أي لكل مدة مضروبة كتاب مكتوب بها وكل شيء عند بمقدار، ﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السمآء والأرض إِنَّ ذلك فِي كِتَابٍ إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ ﴾ [ الحج : ٧٠ ]. وكان الضحاك يقول :﴿ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ﴾ : أي كتاب أجل، يعني لكل كتاب أنزل من السماء مدة مضروبة عند الله ومقدار معين، فلهذا ﴿ يَمْحُواْ الله مَا يَشَآءُ ﴾ منها ﴿ وَيُثْبِتُ ﴾ يعني حتى نسخت كلها بالقرآن الذي أنزله الله على رسوله صلوات الله وسلامه عليه، وقوله :﴿ يَمْحُواْ الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ ﴾ اختلف المفسرون في ذلك : فقال الثوري، عن ابن عباس : يدبر أمر السنة، فيمحو الله ما يشاء، إلا الشقاء والسعادة والحياة والموت. وفي رواية ﴿ يَمْحُواْ الله وَيُثْبِتُ ﴾ قال : كل شيء إلا الموت والحياة والشقاء والسعادة، فإنه قد فرغ منهما، وقال منصور : سألت مجاهداً فقلت : أرأيت دعاء أحدنا، يقول : اللهم إن كان إسمي في السعداء فأثبته فيهم، وإن كان في الأشقياء فامحه عنهم، واجعله في السعداء، فقال : حسن؛ ثم لقيته بعد ذلك بحول أو أكثر فسألته عن ذلك، فقال :﴿ إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ﴾ [ الدخان : ٣ ] الآيتين، قال : يقضى في ليلة القدر ما يكون في السنة من رزق أو معصية، ثم يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء، فأما كتاب السعادة والشقاوة فهو ثابت لا يغير، وقال الأعمش عن أبي وائل : إنه كان كثيراً يدعو بهذا الدعاء : اللهم إن كنت كتبتنا أشقياء فامحه، واكتبنا سعداء، وإن كنت كتبتنا سعداء فأثبتنا، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب. وقال ابن جرير : عن أبي عثمان النهدي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال وهو يطوف بالبيت ويبكي : اللهم إن كنت كتبت عليَّ شقوة أو ذنباً فامحه، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب، فاجعله سعادة ومغفرة.
ومعنى هذه الأقوال أن الأقدار ينسخ الله ما يشاء منها ويثبت منها ما يشاء، وقد يستأنس لهذا القول بما رواه الإمام أحمد، عن ثوبان قال : قال رسول الله ﷺ :
1291
« إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه، ولا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر » وثبت في « الصحيح » أن صلة الرحم يزيد في العمر، وفي حديث آخر :« إن الدعاء والقضاء ليعتلجان بين السماء والأرض » وقال الكلبي : يمحو في الرزق ويزيد فيه، ويمحو من الأجل ويزيد فيه، وقال العوفي عن ابن عباس : هو الرجل يعمل الزمان بطاعة الله، ثم يعود لمعصية الله فيموت على ضلالة، فهو الذي يمحو، والذي يثبت الرجل يعمل بمعصية الله وقد كان سبق له خير حتى يموت وهو في طاعة الله وهو الذي يثبت. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس :﴿ يَمْحُواْ الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ ﴾ يقول : يبدل ما يشاء فينسخه، ويثبت ما يشاء فلا يبدله ﴿ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب ﴾، وجملة ذلك عنده في أم الكتاب الناسخ وما يبدل وما يثبت كل ذلك في الكتاب، وقال مجاهد : قالت كفار قريش لما نزلت ﴿ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله ﴾ : ما نرى محمداً يملك شيئاً وقد فرغ من الأمر، فأنزلت هذه الآية تخويفاً ووعيداً لهم : إنا إن شئنا أحدثنا له من أمرنا ما شئنا، وتحدث في كل رمضان، فيمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء من أرزاق الناس ومصائبهم وما يعطيهم وما يقسم لهم. وقال الحسن البصري ﴿ يَمْحُواْ الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ ﴾ قال : من جاء أجله يذهب ويثبت الذي هو حي يجري إلى أجله، وقد اختار هذا القول أبو جعفر بن جرير رحمه الله، وقوله :﴿ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب ﴾ قال : الحلال والحرام، وقال قتادة : أي جملة الكتاب وأصله، وقال ابن جريج عن ابن عباس :﴿ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب ﴾ قال : الذكر.
1292
يقول تعالى لرسوله :﴿ وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ ﴾ يا محمد بعض الذي نعد أعداءك من الخزي والنكال في الدنيا، ﴿ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ ﴾ أي قبل ذلك ﴿ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ ﴾ أي إنما أرسلناك لتبلغهم رسالة الله وقد الدنيا، ﴿ وَعَلَيْنَا الحساب ﴾ أي حسابهم وجزاؤهم كقوله تعالى :﴿ إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ﴾ [ الغاشية : ٢٥-٢٦ ]. وقوله :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ﴾ قال ابن عباس : أولم يروا أنا نفتح لمحمد ﷺ الأرض بعد الأرض، وقال مجاهد وعكرمة :﴿ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ﴾ قال : خرابها، وقال الحسن والضحاك : هو ظهور المسلمين على المشركين، قال : نقصان الأنفس والثمرات وخراب الأرض، وقال الشعبي : لو كانت الأرض تنقص لضاق عليك حشك، ولكن تنقص الأنفس والثمرات، وقال ابن عباس في رواية : خرابها بموت علمائها وفقهائها وأهل الخير منها. وكذا قال مجاهد أيضاً : هو موت العلماء، وأنشد أحمد بن غزال.
الأرض تحيا إذا ما عاش عالمها متى يمت عالم منها يمت طرف
كالأرض تحيا إذا ما الغيت حلَّ بها وإن أبي عاد في أكنافها التلف
والقول الأول أولى، وهو ظهور الإسلام على الشرك قرية بعد قرية، كقوله :﴿ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ القرى ﴾ [ الأحقاف : ٢٧ ] الآية، وهذا اختيار ابن جرير.
يقول تعالى :﴿ وَقَدْ مَكَرَ الذين مِن قَبْلِهِمْ ﴾ برسلهم وأرادوا إخراجهم من بلادهم فمكر الله بهم وجعل العاقبة للمتقين كقوله :﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ ﴾ [ الأنفال : ٣٠ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ [ النمل : ٥٠ ] وقوله :﴿ يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ ﴾ أي أنه تعالى عالم بجميع السرائر والضمائر وسيجزي كل عامل بعمله، ﴿ وَسَيَعْلَمُ الكفار لِمَنْ عُقْبَى الدار ﴾ أي لمن تكون الدائرة والعاقبة لهم أو لأتباع الرسل، كلا، بل لأتباع الرسل في الدنيا والآخرة ولله الحمد والمنة.
يقول تعالى : يكذبك هؤلاء الكفار ويقولون :﴿ لَسْتَ مُرْسَلاً ﴾ أي ما أرسلك الله، ﴿ قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ﴾ أي حسبي الله هو الشاهد عليّ وعليكم، شاهد علي فيما بلغت عنه من الرسالة، وشاهد عليكم أيها المكذبون فيما تفترونه من البهتان، وقوله :﴿ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب ﴾ قيل : نزلت في عبد الله بن سلام، وهذا القول غريب، لأن هذه الآية مكية، وعبد الله بن سلام إنما أسلم في أول مقدم النبي ﷺ المدينة، والأظهر في هذا ما قاله ابن عباس : هم من اليهود والنصارى، وهو يشمل علماء أهل الكتاب الذين يجدون صفة محمد ﷺ ونعته في كتبهم المتقدمة من بشارات الأنبياء به، كما قال تعالى :﴿ الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل ﴾ [ الأعراف : ١٥٧ ] الآية، وقال تعالى :﴿ أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بني إِسْرَائِيلَ ﴾ [ الشعراء : ١٩٧ ]، وأمثال ذلك مما فيه الإخبار عن علماء بني إسرائيل أنهم يعلمون ذلك من كتبهم المنزلة.
Icon