تفسير سورة الرعد

النهر الماد من البحر المحيط
تفسير سورة سورة الرعد من كتاب النهر الماد من البحر المحيط .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ

﴿ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ * الۤمۤر تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ وَٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ٱلْحَقُّ ﴾ الآية، هذه السورة مكية في قول: وقيل مدنية واستثنى في كل قول آيات ذكرت في البحر وتقدم الكلام في الحروف المقطعة في أوائل السور في أول البقرة فليطالع هناك قال الزمخشري: تلك إشارة إلى الآيات السورة المراد بالكتاب السورة أي تلك آيات السورة الكاملة العجيبة في بابها وقيل تلك إشارة إلى جميع كتب الله المنزلة ويكون المعنى تلك الآيات التي قصصت عليك خبرها هي آيات الكتاب الذي أنزلته قبل هذا الكتاب الذي أنزلته إليك والظاهر أن قوله والذي مبتدأ والحق خبره ومن ربك متعلق بأنزل وأكثر الناس عام في كفار مكة وغيرهم ولما ذكر انتفاء الإِيمان من أكثر الناس ذكر عقيبه ما يدل على صحة التوحيد والمعاد وما يجد بهم إلى إلإِيمان مما يفكر فيه العاقل ويشاهده من عظيم القدرة وبديع الصنع والجلالة مبتدأ والذي هو الخبر والضمير في ترونها عائد على السماوات أي تشاهدون السماوات خالية عن عمد واحتمل هذا الوجه أن يكون ترونها كلاماً مستأنفاً واحتمل أن يكون جملة حالية أي رفعها مرئية لكم بغير عمد وهي حال مقدرة لأنه حين رفعها لم نكن مخلوقين وقيل ضمير النصب في يرونها عائد على عمد أي بغير عمد مرئية فترونها صفة للعمد وتقدم تفسير ثم استوى على العرش في الاعراف.﴿ كُلٌّ يَجْرِي ﴾ قال ابن عباس: منازل الشمس والقمر وهي الحدود الذي لا تتعداها قدّر لكل منهما سيراً خاصاً إلى جهة خاصة بمقدار خاص من السرعة والبطء. " انتهى ". والأجل مسمى هو يوم القيامة فعند مجيئه ينقطع ذلك الجريان والتسيير كما قال تعالى:﴿ إِذَا ٱلشَّمْسُ كُوِّرَتْ ﴾[التكوير: ١] وقال:﴿ وَجُمِعَ ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ ﴾[القيامة: ٩] ومعنى تدبير الأمر إنفاذه وإبرامه وعبر بالتدبير تقريباً للإِفهام إذ التدبير إنما هو النظر في إدبار الأمور وعواقبها وذلك من صفات البشر والأمر أمر ملكوت وربوبيته وهو عام في جميع الأمور من إيجاد وإعدام وإحياء وإماتة وإنزال وحي وبعث رسل وتكليف وغير ذلك. وتفصيل الآيات جعلها فصولاً مبينة مميزاً بعضها عن بعض والآيات هنا دلالاته وعلاماته في سماواته على وحدانيته وهاتان الجملتان استئناف اخبار عن الله تعالى والخطاب في لعلكم للكفرة وتوقنون بالجزاء وبأن هذا المدبر والمفصل لا بد لكم من الرجوع إليه.﴿ وَهُوَ ٱلَّذِي مَدَّ ٱلأَرْضَ ﴾ الآية، لما قرر الدلائل السماوية أردفها بتقرير الدلائل الأرضية وقوله: مدّ الأرض يقتضي أنها بسيطة لا كروية وهذا هو ظاهر الشريعة، قال أبو عبد الله الرازي: ثبت بالدليل أن الأرض كرة ولا ينافي ذلك قوله: مدّ الأرض وذلك أن الأرض جسم عظيم والكرة إذا كانت في غاية الكبر كانت كل قطعة منها تشاهد كالسطح والتفاوت بينه وبين السطح لا يحصل إلا في علم الله تعالى ألا ترى أنه قال:﴿ وَٱلْجِبَالَ أَوْتَاداً ﴾[النبأ: ٧] مع أن العالم والناس عليها يستقرون فكذلك هنا وأيضاً ليستدل به على وجود الصانع وكونها مجتمعة تحت البيت على ما قيل أمر غير مشاهد ولا محسوس فلا يمكن الاستدلال فتأويل مدّ الأرض أنه جعلها مختصة بمقدار معين وكونها تقبل الزيادة والنقص أمر جائز ممكن في نفسه والاختصاص بذلك المقدار المعني لا بد أن يكون بتخصيص مخصص وتقدير مقدر وبهذا يحصل الاستدلال على وجود الصانع " انتهى " ملخصاً والرواسي الثوابت والمعنى جبالاً رواسي وأيضاً فقد غلب على الجبال وصفها بالرواسي وصارت الصفة تغني عن الموصوف فجمع جمع الاسم كحائط وحوائط وكاهل وكانت الأرض مضطربة فثقلها الله بالجبال في أحيازها فزال اضطرابها والاستدلال بوجود الجبال على وجود الصانع القادر الحكيم قيل من جهة أن طبيعة الأرض واحدة فحصول الجبل في بعض جوانبها دون بعض لا بد أن يكون بتخليق قادر حكيم ومن جهة ما يحصل منها في المعادن الجوهرية والرخامية وغيرهما كالنفظ والكبريت يكون الجبل واحداً في الطبع وتأثير الشمس واحد دليل على أن ذلك بتقدير قادر قاهر متعال عن مشابهة الممكنات ومن جهة تولد الأنهار منها قيل وذلك لأن الجبل جسم صلب وتتصاعد أبخرة قعر الأرض إليه وتحتبس هناك فلا يزال يتكامل فيه فيحصل بسببه مياه كثيرة فلقوتها تشق الأرض وتخرج وتسيل على وجه الأرض ولهذا في أكثر الأمر إذا ذكر الله الجبال ذكر الأنهار كهذه الآية وقوله تعالى:﴿ وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّآءً فُرَاتاً ﴾[المرسلات: ٢٧]﴿ وَأَلْقَىٰ فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً ﴾[النحل: ١٥] قال المفسرون: الأنهار المياه الجارية في الأرض وتقدم الكلام في الأنهار في أوائل البقرة.﴿ وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ ﴾ متعلق بجعل ولما ذكر الأنهار الجارية في الأرض وذكر ما ينشأ عنها وهو الثمرات والزوج هنا الصنف الواحد الذي هو نقيض الاثنين يعني أنه حين مدّ الأرض جعل ذلك ثم تكثرت وتنوعت.﴿ وَفِي ٱلأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ ﴾ الآية، قطع جمع قطعة وهي الجزء متجاورات متلاصقة متدانية قريب بعضها من بعض قال ابن عباس: أرض طيبة وأرض سبخة تنبت هذه وهذه إلى جنبها لا تنبت وقرىء: وزرع ونخيل صنوان برفع الأربعة عطفاً على جنات وبالجر عطفاً على من أعناب الصنو الفرع بجمعه وآخر أصل واحد وأصله المثل ومنه قيل للعم صنو وجمعه في لغة الحجاز صنوان بكسر الصاد كقنو وقنوان وبضمها في لغة بني تميم وقيس كذئب وذؤبان ويقال: صنوان بفتح الصاد وهو اسم جمع لا جمع تكسير لأنه ليس من أبنيته.﴿ يُسْقَىٰ بِمَآءٍ وَاحِدٍ ﴾ ماء مطر أو ماء بحر أو ماء نهر أو ماء عين أو ماء نبع لا يسيل على وجه الأرض التفضيل في الأكل وان كانت متفاضلة في غيره لأنه غالب وجوه الانتفاعات من الثمرات ألا يرى إلى تفاوتها في الأشكال والألوان والروائح والمنافع وما يجري مجرى ذلك قيل: نبه تعالى في هذه الآية على قدرته وحكمته وأنه المدير للأشياء كلها وذلك أن الشجر تخرج أغصانها وثمراتها في وقت معلوم لا يتأخر عنه ولا يتقدم ثم يتصعد الماء في ذلك الوقت علواً علواً وليس من طبعه إلا التسفل ثم يتفرق ذلك الماء في الورق والأغصان والثمر كل بقسطه وبقدر ما فيه صلاحه ثم تختلف طعوم الثمار والماء واحد والشجر جنس واحد وكل ذلك دليل على مدبر دبره وأحكمه لا يشبه المخلوقات.﴿ إِنَّ فِي ذٰلِكَ ﴾ قال ابن عباس: في اختلاف الألوان والروائح والطعوم.﴿ لآيَاتٍ ﴾ لحججاً ودلالات.﴿ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ يعلمون الأدلة فيستدلون بها على وحدانية الصانع القادر ولما كان الاستدلال في هذه الآية بأشياء في غاية الوضوح من مشاهدة تجاور القطع والجنات وسقيها وتفصيلها جاء ختمها بقوله: لقوم يعقلون، بخلاف الآية التي قبلها فإِن الاستدلال بها يحتاج إلى تأمل وتدبر نظر جاء ختمها بقوله: لقوم يتفكرون.﴿ وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ ﴾ الآية، لما أقام الدليل على عظيم قدرته بما أودعه من الغرائب في ملكوته التي لا يقدر عليها سواه عجب رسول الله صلى الله عليه وسلم من إنكار المشركين وحدانيته وتوهينهم قدرته لضعف عقولهم فنزل وإن تعجب قال ابن عباس: وان تعجب من تكذيبهم إياك بعدما كانوا حكموا عليك انك من الصادقين فهذا أعجب. وقال الزمخشري: وان تعجب يا محمد في قولهم من إنكار البعث فقولهم: عجيب حقيق بأن يتعجب منه لأن من قدر على إنشاء ما عدد عليك من الفطر العظيمة ولم يعن بخلقهن كانت الإِعادة أهون شىء عليه وأيسره فكان إنكارهم أعجوبة من الأعاجيب " انتهى ". وليس مدلول اللفظ ما ذكر لأنه جعل متعلق عجبه صلى الله عليه وسلم هو قولهم في إنكار البعث فاتحد الشرط والجزاء إذ صار التقدير وإن تعجب من قولهم في إنكار البعث فأعجب من قولهم في إنكار البعث وإنما مدلول اللفظ ان يقع منك عجب فليكن من قولهم أئذا متنا الآية. وكان المعنى الذي ينبغي أن يتعجب منه هو إنكار البعث لأنه تعالى المخترع للأشياء ومن كان قادراً على إبرازها من العدم الصرف كان قادراً على الإِعادة كما قال تعالى:﴿ وَهُوَ ٱلَّذِي يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾[الروم: ٢٧] أي هين عليه وقوله: فعجب خبر مقدم واجب التقديم واختلف القراء في الاستفهامين إذ اجتمعا في أحد عشر موضعاً منها هذا الموضع والظاهر أن أئذا معمول لقولهم محكي به وقال الزمخشري: أئذا متنا إلى آخر قولهم: يجوز أن يكون في محل الرفع بدلاً من قولهم " انتهى ". وهذا إعراب متكلف وعدول عن الظاهر وإذا متمحضة للظرف وليس فيها معنى الشرط فالعامل فيها محذوف يفسره ما يدل عليه الجملة الثانية وتقديره انبعث أو نحشر.﴿ أُوْلَـٰئِكَ ﴾ إشارة إلى قائلي تلك المقالة وهي تقدير مصمم على إنكار البعث فلذلك حكم عليهم بالكفر إذ عجزوا قدرته عن إعادة ما أنشأ واخترع ابتداء ولما حكم عليهم بالكفر في الدنيا ذكر ما يؤولون إليه في الآخرة على سبيل الوعيد وأبرز ذلك في جملة مستقلة مشار إليهم والظاهر أن الأغلال تكون في أعناقهم حقيقة في الآخرة كما قال تعالى:﴿ إِذِ ٱلأَغْلاَلُ فِيۤ أَعْنَاقِهِمْ وٱلسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ ﴾[غافر: ٧١] ولما كانوا متوعدين بالعذاب ان أصروا على الكفر وكانوا مكذبين بما أنذروا به من العذاب سألوا واستعجلوا في الطلب أن يأتيهم العذاب وذلك على سبيل الاستهزاء كما قالوا فأمطر علينا حجارة وقالوا: أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً؟ قال ابن عباس: السيئة العذاب والحسنة العافية.﴿ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ ٱلْمَثُلاَتُ ﴾ أي يستعجلونك بالسيئة مع علمهم بما حل بغيرهم من مكذبي الرسل في الأمم السالفة وهذا يدل على سخف عقولهم إذ يستعجلون العذاب والحالة هذه فلو أنه لم يسبق تعذيب أمثالهم لكانوا ربما يكون لهم عذر ولكنهم لا يعتبرون فيستهزئون. قال ابن عباس: المثلات العقوبات المستأصلات كمثلة قطع الأنف والاذن ونحوهما.﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ ﴾ ترجية للغفران على ظلمهم في موضع الحال والمعنى أنه يغفر لهم مع ظلمهم باكتساب الذنوب أي الظالمين أنفسهم. قال ابن عباس: ليس في القرآن آية أرجى من هذه. و ﴿ لَشَدِيدُ ٱلْعِقَابِ ﴾ تخويف وإرهاب بعد ترجية. وقال سعيد بن المسيب لما فنزلت هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم:" لولا عفو الله ومغفرته لما هنأ لأحد عيش ولولا عقابه لاتكل كل أحد ". وفي حديث آخر:" ان العبد لو علم قدر عفو الله لما أمسك عن ذنب ولو علم قدر عقوبته لقمع نفسه في عبادة الله ".﴿ وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاۤ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ﴾ الآية، عن ابن عباس" لما نزلت وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدره وقال: أنا المنذر وأومأ بيده إلى منكب علي رضي الله عنه. وقال: أنت الهادي يا علي بك يهتدي من بعدي ".
﴿ ٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ ﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما تقدم إنكارهم البعث لتفرق الأجزاء واختلاط بعضها ببعض بحيث لا يتهيأ الامتياز بينها نبه على إحاطة علمه تعالى وان من كان عالماً بجميع المعلومات هو قادر على إعادة ما أنشأ أولاً. الله يعلم كلام مستأنف مبتدأ وخبر وما موصولة والعائد عليها محذوف تقديره تحمله وهو هنا من حمل البطن لا من حمل الظهر.﴿ وَمَا تَغِيضُ ﴾ قال ابن عباس: تنقص من الخلقة وتزداد تتم ظاهر عموم قوله:﴿ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ ﴾ أي بحد لا يتجاوزه ولا يقصر عنه والمراد من العندية العلم أي هو عالم بكمية كل شىء وكيفيته على وجه المفصل المبين فامتنع وقوع اللبس في تلك المعلومات ولما ذكر تعالى أنه عالم بأشياء خفية لا يعلمها إلا هو وكانت أشياء جزئية من خفايا علمه ذكر أن علمه محيط بجميع الأشياء فعلمه تعالى متعلق بما يشاهده العالم تعلقه بما يغيب عنهم والكبير العظيم الشأن الذي كل شىء دونه المتعال المستعلي على كل شىء بقدرته الذي كبر عن صفات المحدثين وتعالى عنها ولما ذكر تعالى أنه عالم الغيب والشهادة على العموم ذكر تعالى تعلق علمه بشىء خاص من أحوال المكلفين فقال:﴿ سَوَآءٌ مِّنْكُمْ ﴾ الآية، والمعنى سواء في علمه المسر بالقول والجاهز به لا يخفى عليه شىء من أقواله وسواء تقدم الكلام فيه وفي معانيه وهو هنا بمعنى مستو وأعربوا سواء خبراً مقدماً ومن أسر والمعطوف عليه مبتدأ مؤخراً ويجوز أن يكون سواء مبتدأ لأنه موصوف بقوله: منكم المعطوف عليه الخبر. قال ابن عباس: مستخف مستتر، وسارب ظاهر وسارب معطوف على مستخف ومن موصول يراد به التثنية وحمل على المعنى في تقسيم خبر المبتدأ الذي هو وعلى لفظ من في أفراد هو والمعنى سواء اللذان هما مستخف بالليل وسارب بالنهار وانظر إلى حسن هذه المقابلات في قوله تعالى: تغيص وتزداد والغيب والشهادة وأسر وجهر ومستخف وسارب والليل والنهار.﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ ﴾ الضمير في له عائد على الله تعالى أي لله معقبات ملائكة من بين يدي العبد ومن خلفه والمعقبات على هذه الملائكة الحفظة على العباد أعمالهم والحفظة لهم أيضاً قاله الحسن. وروي حديث عن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الزمخشري: والأصل معتقبات فأدغمت التاء في القاف كقوله: وجاء المعذرون ويجوز معقبات بكسر العين ولم يقرأ به " انتهى ". وهذا وهم فاحش لا تدغم التاء في القاف ولا القاف في التاء لا من كلمتين ولا من كلمة وقد نص التصريفيون على أن القاف والكاف كل منهما يدغم في الآخر ولا يدغمان في غيرهما ولا يدغم غيرهما فيهما واما تشبيهه بقوله: وجاء المعذرون فلا يتعين أن يكون أصله المعتذرون. وأما قوله: ويجوز معقبات بكسر العين فهذا لا يجوز لأنه بناء على أن أصله معتقبات فأدغمت التاء في القاف وقد ذكرنا أن ذلك وهم فاحش. ولما ذكر تعالى إحاطة علمه بخفايا الأشياء وجلاياها وان الملائكة تعتقب على المكلفين لحفظ ما يصدر منهم كان الصادر منهم خيراً أو شراً ذكر تعالى أن ما خولهم فيه من النعم وأسبغ عليهم من الإِحسان لا يزيله عنهم إلى الانتقام منهم إلا بكفر تلك النعمة وإهمال أمره بالطاعة واستبدالها بالمعصية فكان في ذكر ذلك تنبيه على لزوم الطاعة وتحذير لوبال المعصية والظاهر أنه لا يقع تغيير النعم بقوم حتى يقع تغيير فهم بالمعاصي والسوء يجمع كل ما يسوء من مرض وفقر وعذاب وغير ذلك من البلاء ومن وال أي من ملجأ.﴿ هُوَ ٱلَّذِي يُرِيكُمُ ٱلْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِىءُ ٱلسَّحَابَ ٱلثِّقَالَ ﴾ لما خوف تعالى العباد بقوله: ﴿ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوۤءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ ﴾ اتبعه بما يشتمل على أمور دالة على قدرة الله وحكمته تشبه النعم من وجه النعم من وجه وتقدم الكلام في البرق والرعد والصواعق والسحاب في البقرة. قال ابن عباس: خوفاً من الصواعق وطمعاً في الغيث. وقال أبو عبد الله الرازي: اعلم أن المحققين من الحكماء يذكرون ان هذه الآثار العلوية إنما تنم بقوى روحانية فلكية وللسحاب روح معين من الأرواح الفلكية يدبره وكذا القول في الرياح وفي سائر الآثار العلوية وهذا عين ما قلناه ان الرعد اسم لملك من الملائكة يسبح الله تعالى فهذا الذي قاله المفسرون بهذه العبارة وهو عين ما ذكره المحققون من الحكماء فكيف بالعاقل الإِنكار " انتهى ". وهذا الرجل غرضه جريان ما تنتحله الفلاسفة على مناهج الشريعة ولن يكون ذلك أبداً وقد تقدم أقوال المفسرين في الرعد في البقرة ولم يجمعوا على أن الرعد اسم لملك وعلى تقدير أن يكون ذلك الملك يدبر لا السحاب ولا غيره إذ لا يستفاد مثل هذا إلا من النبي المشهود له بالعصمة لا من الفلاسفة الضلال والظاهر عود الضمير في قوله في خيفته على الله تعالى كما عاد عليه في قوله: بحمده ومعنى من خيفته من هيبته وإجلاله ومن مفعول بيصيب وهو من باب الاعمال أعمل فيه الثاني إذ يرسل بطلب من وفيصيب ولو أعمل الأول لكان التركيب في غير القرآن ويرسل الصواعق فيصيبه بها على من يشاء لكن جاء على الكثير في لسان العرب المختار عند البصريين وهو إعمال الثاني ومفعول يشاء محذوف تقديره من يشاء إصابته والضمير في وهم عائد على الكفار المكذبين الرسول عليه السلام المنكرين الآيات يجادلون في قدرة الله تعالى على البعث وإعادة الخلق بقولهم: من يحيي العظام وهي رميم وفي وحدانيته باتخاذ الشركاء والأنداد ونسبة التوالد إليه بقولهم: الملائكة بنات الله والمحال بكسر الميم العداوة يعني لمن جادل في الله قاله ابن عباس: والضمير في له عائد على الله ودعوة الحق قال ابن عباس: دعوة الحق لا إله إلا هو وما كان من الشريعة في معناها. قال الزمخشري: له دعوة الحق فيه وجهان أحدهما أن تضاف الدعوة إلى الحق الذي هو نقيض الباطل كما يضاف الكلمة إليه في قوله كلمة الحق للدلالة على أن الدعوة ملابسة للحق مختصة به فإِنها بمعزل من الباطل والمعنى أن الله تعالى يدعي فيستجيب الدعوة ويعطي الداعي سؤاله إن كان مصلحة وكانت دعوة ملابسة للحق لكونه حقيقياً بأن يوجه إليه الدعاء لما في دعوته من الجدوى والنفع بخلاف ما لا ينفع ولا يجدي دعاؤه والثاني: أن تضاف إلى الحق الذي هو الله عز وجل على معنى دعوة المدعو الحق الذي يسمع فيجيب وعن الحسن الحق هو الله وكل دعاء إليه دعوة الحق " انتهى ". هذا الوجه الثاني الذي ذكره الزمخشري لا يظهر والظاهر أن هذه الإِضافة من باب إضافة الموصوف إلى الصفة كقوله تعالى:﴿ وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ ﴾[يوسف: ١٠٩].
والتقدير لله الدعوة المحق بخلاف غيره فإِن دعوته باطلة والمعنى أن الله تعالى الدعوة له هي الدعوة الحق ولما ذكر تعالى جدال الكفار لله تعالى وكان جدالهم في إثبات آلهة معه ذكر تعالى أن له الدعوة الحق أي من يدعو له فدعوته هي الحق بخلاف أصنامهم التي جادلوا في الله لأجلها فإِن دعاءها باطل لا يتحصل منه شىء فقال: والذين تدعون والضمير في تدعون عائد على الكفار والعائد على الذين محذوف أي تدعونهم من دونه أي الله.﴿ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ ﴾ شبهوا في قلة جدوى دعائهم لآلهتهم من أراد أن يغرف الماء بيديه ليشربه فبسطهما ناشراً أصابعه فلم تبق كفاه منه شيئاً ولم يبلغ مراده من شربه وهذا مبالغة عظيمة في الخيبة لدعائهم آلهتهم.﴿ وَمَا دُعَآءُ ٱلْكَافِرِينَ ﴾ آلهتهم.﴿ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ ﴾ أي حيرة واضمحلال لأنه لا يجدي شيئاً ولا يفيد فقد ضل ذلك الدعاء عنهم كما ضل المدعون قال تعالى:﴿ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا ﴾[الأعراف: ٣٧].
﴿ وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ الآية، إن كان السجود بمعنى الخضوع والانقياد فمن على عمومها ينقاد كلهم لما أراده تعالى بهم شاؤا أو أبوا وينقاد له تعالى ضلالهم حيث على مشيئته من الامتداد والتقلص والفيء والزوال وان كان السجود عبارة عن الهيئة المخصوصة وهو وضع الجبهة بالمكان الذي يكون فيه الواضع فيكون عاماً مخصوصاً إذ يخرج منه من لا يسجد ويكون قد عبر بالطوع عن سجود الملائكة المؤمنين وبالكره عن سجود من ضمه السيف إلى الإِسلام والذي يظهر أن مساق هذه الآية إنما هو أن العالم كله مقهور لله تعالى خاضع لما أراد منه مقصور على مشيئته لا يكون منه إلا ما قدر تعالى، فالذين يعبدونهم كائناً ما كانوا داخلون تحت القهر ويدل على هذا المعنى تشريك الضلال في السجود والظلال ليست أشخاصاً يتصور منها السجود بالهيئة المخصوصة ولكنها داخلة تحت مشيئته يصرفها على ما أراد إذ هي من العالم والعالم جواهره وأعراضه داخلة تحت إرادته كما قال تعالى:﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ ﴾[النحل: ٤٨] الآية، قال الفراء: الظل مصدر يعني في الأصل ثم أطلق على الخيال الذي يظهر للجرم وطوله بسبب انحطاط الشمس وقصره بسبب ارتفاعها فهو لله في طوله وقصره وميله من جانب إلى جانب وخص هذان الوقتان بالذكر لأن الظلال إنما تعظم وتكبر فيهما وتقدم شرح الغدو والآصال في آخر الاعراف.﴿ قُلْ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ أي قل يا محمد للكفار من رب السماوات والأرض استفهام تقرير واستنطاق فإِنهم يقولون الله فإِذا قالوها قل الله أي هو كما قلتم وروي أنه لما قال هذا للمشركين عطفوا عليه فقالوا: أجب أنت فأمره الله فقال: قل الله واستفهم بقوله: قل أما اتخذتم على سبيل التوبيخ والإِنكار أي بعد أن علمتم أنه تعالى هو رب السماوات والأرض تتخذون من دونه أولياء وتتركونه فجعلتم ما كان يجب أن يكون سبباً للتوحيد من علمكم وقراركم سبباً للإِشراك ثم وصف تلك الأولياء بصفة العجز وهي كونها لا تملك لأنفسها نفعاً ولا ضراً ومن بهذه المثابة فكيف يملك لكم نفعاً أو ضراً ثم مثل ذلك حالة الكافر والمؤمن ثم حالة الكفر والإِيمان وأبرز ذلك في صورة الاستفهام الذي يبادر المخاطب إلى الجواب فيه من غير فكر ولا روية بقوله:﴿ هَلْ يَسْتَوِي ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ ﴾ ثم انتقل إلى الاستفهام عن الوصفين القائمين بالكافر وهو الظلمات وبالمؤمن وهو النور وتقدم الكلام في جمع الظلمات وافراد النور في البقرة وأم في قوله: أم هل منقطعة تتقدر ببل والهمزة على المختار والتقدير بل أهل يستوي وهل وان نابت عن همزة الاستفهام في كثير من المواضع فقد جامعتها في قول الشاعر: أهل رأونا بواد القفر ذي الأكم   ومثال قوله تعالى: ﴿ أَمْ هَلْ ﴾ في الجمع أم وهل قول علقمة: أم هل كثير بكى لم تقض عبرته   ثم انتقل من خطابهم إلى الاخبار عنهم غائباً إعراضاً عنهم وتنبيهاً على توبيخهم في جعلهم شركاء وتعجباً منهم وإنكاراً عليهم وتضمن هذا الاستفهام التهكم بهم لأنه معلوم بالضرورة ان هذه الأصنام وما اتخذوا من دون الله أولياء وجعلوهم شركاء لا يقدر على خلق ذرة ولا إيجاد شىء البتة والمعنى أن هؤلاء الشركاء هم خالقون شيئاً حتى يستحقوا العبادة وجعلهم شركاء لله تعالى؟ أي جعلوا لله شركاء موصوفين بالخلق مثل خلق الله فيتشابه ذلك عليهم فيعبدونهم ومعلوم أنهم لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون فكيف يشركون في العبادة أفمن يخلق كمن لا يخلق ثم أمره تعالى قال: ﴿ قُلِ ٱللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ أي موجد الأشياء كلها معبوداتهم وغيرهم وهم أيضاً مقرون بذلك ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله واحتمل أن يكون قوله: وهو الواحد القهار داخلاً تحت الأمر بقل فيكون قد أمر أن يخبر بأنه تعالى الواحد المنفرد بالألوهية القهار الذي جميع الأشياء تحت قدرته وقهره واحتمل أن يكون استئناف اخبار منه تعالى بهذين الوصفين الوحدانية والقهر فهو تعالى لا يغالب وما سواه مقهور مربوب له تعالى.
﴿ أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً ﴾ الآية، هذا مثل ضربه الله للقرآن والقلوب والحق والباطل فالماء مثل القرآن لما فيه من حياة القلوب وبقاء الشرع والدين والأودية مثل القلوب ومعنى بقدرها على وسعة القلوب وضيقها فمنها ما انتفع به فحفظه ووعاه فتدبر فيه فظهرت ثمرته وأدرك تأويله ومعناه ومنها دون ذلك بطبقة ومنها دونه بطبقات والزبد مثل الشكوك والشبه وإنكار الكافرين أنه كلام الله تعالى ودفعهم إياه والماء الصافي المنتفع به مثل الحق وفي الحديث الصحيح ما يؤيد هذا التأويل وهو قوله صلى الله عليه وسلم:" مثل ما بعثت به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً وكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها طائفة أجادب فأمسكت الماء فانتفع الناس به وسقوا ورعوا وكانت منها قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل ما جئت به من العلم والهدى ومثل من لم يقبل هدي الله الذي أرسلت به والماء المطر ونكر أودية لأن المطر إنما ينزل على طريق المناوبة فيسيل بعض الأودية دون بعض "وأودية جمع قلة كقولهم: نادو أندية والزبد قال الرماني: وضر الغليان وخبثه قال الشاعر: فما الفرات إذا هب الرياح له   ترمي غوار به العبرين بالزبدومعنى بقدرها أي على قدر صغرها وكبرها أو بما قدّر لها من السماء بسبب نفع الممطور عليهم لا ضررهم ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ ﴾ فالمطر مثل للحق فهو نافع خال من الضرر وعرف السيل لأنه عني به ما فهم من الفعل والذي يتضمنه الفعل من المصدر هو نكرة فإذا عاد عليه الظاهر كان معرفة كما كان لو صرح به نكرة ولذلك يضمر إذا عاد على ما دل عليه الفعل من المصدر نحو من كذب كان شراً له أي كان الكذب ولو جاء هنا مضمراً لكان جائزاً عائداً على المصدر المفهوم من فسالت واحتمل بمعنى حمل جاء فيه افتعل بمعنى المجرد كاقتدر وقدر ورابياً منتفخاً عالياً على وجه السيل ومنه الربوة.﴿ وَمِمَّا يُوقِدُونَ ﴾ أي ومن الأشياء التي توقدون عليها وهي الذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص والقصدير ونحوها مما يوقد عليه وله زبد وانتصب ابتغاء على أنه مفعول من أجله والحلية ما يعمل للنساء مما يتزين به من الذهب والفضة والمتاع ما يتخذ من الحديد والنحاس وما أشبههما من الآلات التي هي قوام العيش كالأواني والمساحي وآلات الحرث وقطاعات الأشجار والسكك وغير ذلك وزبد مرفوع بالابتداء وخبره في قوله: ومما يوقدون، ومن الظاهر أنها للتبعيض لأن ذلك الزبد هو بعض ما يوقد عليه من تلك المعادن ومن أيضاً تكون لابتداء الغاية أي ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماء والمماثلة في كونها يتولدان من الأوساخ والأكدار والحق والباطل على حذف مضاف إي مثل الحق والباطل شبه الحق بما يخلص من جرم هذه المعادن من الأقذار والخبث ودوام الانتفاع بها وشبه الباطل بالزبد المجتمع من الخبث والأقذار ولا بقاء له ولا قيمة وفصل ما سبق ذكره مما ينتفع به ومن الزبد فبدأ بالزبد إذ هو المتأخر في قوله: زبداً رابياً وفي قوله: زبد مثله ولكون الباطل كناية عنه وهو متأخر وهي طريقة فصيحة يبدأ في التقسيم بما ذكر آخراً كقوله تعالى:﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ ﴾[آل عمران: ١٠٦].
والبداءة بالسابق فصحة مثل قوله تعالى:﴿ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا ٱلَّذِينَ شَقُواْ ﴾[هود: ١٠٥-١٠٦] وكأنه والله أعلم يبدأ في التفصيل بما هو أهم في الذكر وانتصب جفاء على الحال أي مضمحلاً متلاشياً لا منفعة فيه ولا بقاء له والجفاء اسم لما يجفاه السيل أي يرمي به يقال جفأت القدر بزبدها وجفأ السيل بزبده وأجفأ وأجفل. وقال ابن الأنباري: جفاء متفرقاً من جفأت الريح الغيم إذا قطعته وجفأت الرجل صرعته ويقال: جفأ الوادي وأجفأ إذ أنشف والزبد يراد به ما سبق مما احتمله السيل وما خرج من خبث المعادن وأفرد الزبد ولم يثن وان تقدم زبد ان لاشتراكهما في مطلق الزبدية فهماً واحد باعتبار القدر المشترك.﴿ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ ﴾ أي من الماء الخالص من الغثاء ومن الجوهر المعدني الخالص من الخبث.﴿ فَيَمْكُثُ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ لانتفاع الناس به والكاف في موضع نصب أي مثل ذلك الضرب كمثل الحق والباطل يضرب الله الأمثال والظاهر أنه لما ضرب هذا المثل للحق والباطل انتقل إلى ما لأهل الحق من الثواب وأهل الباطل من العقاب فقال:﴿ لِلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ ٱلْحُسْنَىٰ ﴾ أي للذين دعاهم الله على لسان رسوله فأجابوه إلى ما دعاهم إليه من اتباع دينه الحالة الحسنى وذلك هو النصر في الدنيا وما اختصوا به من نعمه تعالى ودخول الجنة في الآخرة فالحسنى مبتدأ وخبره في قوله: للذين، قال الزمخشري: للذين استجابوا متعلق بيضرب، أي كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين الذين استجابوا والكافرين الذين لم يستجيبوا أي هما مثلا الفريقين فالحسنى صفة لمصدر استجابوا أي استجابوا الاستجابة. وقوله: ﴿ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ﴾ كلام. مبتدأ ذكر ما أعد لغير المستجيبين انتهى. التفسير الأول أولى لأنه فيه ضرب الأمثال غير مقيد بمثل هذين والله تعالى قد ضرب امثالاً كثيرة في هذين وفي غيرهما ولأنه فيه ذكر ثواب المستجيبين بخلاف قول الزمخشري، فلما ذكر ما لغير المستجيبين من العقاب ذكر ما للمستجيبين من الثواب ولأن تقديره الاستجابة الحسنى مشعر بتقييد الاستجابة ومقابلها ليس نفي الاستجابة مطلقاً إنما مقابلها نفي الاستجابة بالحسنى والله تعالى قد نفى الاستجابة مطلقاً ولأنه على قوله يكون قوله: لو ان لهم ما في الأرض كلاماً مفلتا مما قبله أو كالمفلت إذ يصير المعنى كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين والكافرين لو أن لهم ما في الأرض فلو كان التركيب بحرف رابط لو بما قبلها زال التفلت وأيضاً فيوهم الاشتراك في الضمير وإن كان تخصيص ذلك بالكافرين معلوماً لهم والذين لم يستجيبوا مبتدأ خبره ما بعده وغاير بين جملتي الابتداء لما يدل عليه تقديم الجار والمجرور من الاعتناء والاهتمام لو أن لهم ما في الأرض جميعاً وسوء الحساب. قال ابن عباس: ان لا تقبل حسناتهم ولا تغفر سيآتهم وتقدم تفسير مثل ومأواهم جهنم.﴿ أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ ٱلْحَقُّ ﴾ الآية، قال ابن عباس: نزلت في حمزة وأبي جهل ولما ذكر تعالى مثل المؤمن والكافر وذكر ما للمؤمن من الثواب وما للكافر من العقاب ذكر استبعاد من يجعلهما سواء وأنكر ذلك فقال: أفمن يعلم إنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى أي ليسا مشتبهين لأن العالم بالشىء بصير به والجاهل به كالأعمى والمراد عمى البصيرة ولذلك قابله بالعلم والهمزة للاستفهام المراد به إنكار أن تقع شبهة بعد ما ضرب من المثل في ان حال من علم إنما أنزل إليك من ربك الحق فاستجاب بمعزل من حال الجاهل الذي لم يستبصر فيستجيب كبعد ما بين الزبد والماء والخبث والابريز ثم ذكر أنه لا يتذكر بالموعظة وضرب الأمثال الا أصحاب العقول والفاء للعطف وقدمت همزة الاستفهام لأن له صدر الكلام والتقدير فأمن يعلم والذين بدل من الواو أو صفة له أو خبر مبتدأ محذوف تقديره هم الذين والظاهر إضافة العهد إلى الفاعل أي بما عهد الله والظاهر أن قوله: ولا ينقضون الميثاق، جملة توكيدية لقوله: يوفون بعهد الله لأن العهد هو الميثاق ويلزم من إيفاء العهد انتفاء نقضه. و ﴿ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ ﴾ ظاهره العموم في كل ما أمر به في كتابه وعلى لسان رسوله.﴿ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ﴾ أي وعيده كله.﴿ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ ﴾ أي استقصاءه فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا وصبروا مطلق فيما يصبر عليه من المصائب في النفوس والأموال وميثاق التكليف وجاءت الصلة هنا بلفظ الماض وفي الموصولين قبل بلفظ المضارع في قوله: الذين يوفون والذين يصلون وما عطف عليهما على سبيل التفنن في الفصاحة ويظهر أيضاً أن اختصاص هذه الصلة بالماضي وتينك بالمضارع أن تينك الصلتين قصد بهما الاستصحاب والإِلتباس دائماً وهذه الصلة قصد بها تقدمها على تينك الصلتين وما عطف عليهما لأن حصول تلك الصلات إنما هي مترتبة على حصول الصبر وتقدمه عليها ولذلك لم تأت صلة في القرآن بالصبر إلا بصيغة الماضي إذ هو شرط في حصول التكاليف وإيقاعها.﴿ وَيَدْرَءُونَ ﴾ يدفعون أي يدفعون الشر بالخير. و ﴿ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ ﴾ عاقبة الدنيا وهي الجنة لأنها التي أراد الله أن تكون عاقبة الدنيا ومرجع أهلها. و ﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ ﴾ بدل من عقبى الدار ويحتمل أن يراد عقبى دار الآخرة لدار الدنيا أي العقبى الحسنة في الدار الآخرة هي لهم ويحتمل أن تكون جنات خبر مبتدأ محذوف تقديره هي جنات والظاهر أن ومن معطوف على الضمير في يدخلونها وقد فصل بينهما بالمفعول.﴿ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ ﴾ أي بالتحف والهداية من الله تكرمه لهم وارتفع سلام على الابتداء وعليكم الخبر والجملة محكية بقول محذوف تقديره يقولون: سلام عليكم والمخصوص بالمدح محذوف أي فنعم عقبى الدار الجنة أو فنعم عقبى الدار الصبر وبما صبرتم متعلق بذلك المحذوف الذي هو يقولون: سلام عليكم بسبب صبركم أي تحية الملائكة لهم ودخولهم عليهم من كل باب بالتحف والهداية هو بسبب صبرهم.﴿ وَٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ ﴾ الآية، لما ذكر تعالى حال السعداء وما ترتب لهم من الأمور السنية الشريفة ذكر حال الأشقياء وما ترتب لهم من الأمور المخزية وتقدم تفسير الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه من أوائل البقرة وترتب هناك للسعداء التصريح بعقبى الدار وهي الجنة وإكرام الملائكة لهم بالسلام وذلك غاية القرب والتأنيس وهنا ترتب للأشقياء الابعاد من رحمة الله وسوء الدار أي الدار السوء وهي النار أو سوء عاقبة الدار وتكون دار الدنيا ولما كان كثير من الأشقياء فتحت عليهم نعم الدنيا ولذاتها أخبر تعالى أنه هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر والكفر والإِيمان لا تعلق لهما بالرزق قد يقدر على المؤمن ليعظم أجره ويبسط للكافر إملاء لازدياد آثامه ويقدر مقابل يبسط وهو التضييق والضمير في وفرحوا عائد على الذين ينقضون هو استئناف اخبار عن جهلهم بما أوتوا من بسطه الدنيا عليهم وفرحهم هو فرح بطر لا فرح سرور بفضل الله وانعامه عليهم ومتاع معناه ذاهب مضمحل يستمتع به قليلاً ثم يفنى كما قال الشاعر: أنت نعم المتاع لو كنت تبقى   غير أن لا بقاء للإِنسان
﴿ وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ الآية، لما نزلت هذه الآية في مشركي مكة طلبوا مثل آيات الأنبياء والملتمس ذلك هو عبد الله بن أبي أمية وأصحابه رد تعالى على مقترحي الآيات من كفار قريش ان الأمر بيد الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء ومفعول يشاء محذوف تقديره من يشاء إضلاله وإليه متعلق بيهدي أي إلى طاعته. و ﴿ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ بدل من اناب واطمئنان القلوب سكونها بعد الاضطراب من خشيته وذكر تعالى ذكر مغفرته ورحمته.﴿ ٱلَّذِينَ ﴾ بدل من الذين أو خبر مبتدأ محذوف تقديره هم الذين أو مبتدأ خبره ما بعده. و ﴿ طُوبَىٰ ﴾ فعلى من الطيب قلبت ياؤه والضمة ما قبلها كما قلبت في موسى وطوبى مبتدأ خبره لهم.﴿ وَحُسْنُ مَآبٍ ﴾ معطوف عليه وطوبى تأنيث إلا طيب وكان القياس أن يكون بالألف واللام وقد جاء نظيرها بغير ألف ولام كقولهم: في سعي دنيا طال ما قد مدت   وقول الآخر: وان دعوت إلى جلي ومكرمة   يوماً إليك كرام الناس فادعيناوتأنيث الأفعل مما عينه ياء أن يأتي على فعلى فتارة تبدل ياؤه واواً قالوا: الحوراء وتارة يقرونها ياء، قالوا: الحيرى فطوبى جاءت على أحد الوجهين.﴿ كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِيۤ أُمَّةٍ ﴾ الآية، الكاف للتشبيه وذلك إشارة لإِرسال من تقدم من الرسل أي مثل إرسالهم أرسلناك ويدل على ذلك قوله فدخلت من قبلها أم أي رسل أمم ولتتلوا متعلق بأرسلناك وهم يكفرون بالرحمن جملة حالية أي أرسلناك في أمة رحمة لها مني وهم يكفرون بي أي وحال هؤلاء أنهم يكفرون بالرحمن بالبليغ الرحمة والظاهر أن الضمير في قوله: وهم عائد على أمة المرسل إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم أعاد على المعنى إذ لو أعاد على اللفظ لكان التركيب وهي تكفر والمعنى أرسلناك إليهم وهم يدينون دين الكفر فهدى الله تعالى بك من أراد هدايته والمعنى الاخبار بأن الأمم السالفة المرسل إليهم الرسل والأمة التي أرسلت إليها جميعهم جاءتهم الرسل وهم يدينون دين الكفر فيكون في ذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أمته مثل الأمم السالفة ونبه على الوصف الموجب لإِرسال الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الرحمة الموجبة لشكر الله على إنعامه عليهم ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم والإِيمان به.﴿ وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ ٱلْجِبَالُ ﴾ الآية، قال ابن عباس وغيره أن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم سير جبلي مكة فقد ضيقا علينا واجعل لنا أرضاً قطعاً غراسه وأحيي لنا آباءنا وأجدادنا وفلاناً وفلاناً فنزلت معلمة أنهم لا يؤمنون ولو كان ذلك كله ولما ذكر تعالى علة إرساله وهي تلاوته ما أوحاه إليه ذكر تعظيم هذه الموحى وأنه لو كان قرآناً تسير به الجبال عن مقارها أو تقطع به الأرض حتى تتزايل قطعاً قطعاً أو تكلم به الموتى فتسمع وتجيب لكان هذا القرآن لكونه غاية في التذكير ونهاية في الإِنذار والتخويف كما قال تعالى:﴿ لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ ﴾[الحشر: ٢١].
الآية. فجواب لو محذوف وهو ما قدرناه ويجوز أن يكون جواب لو ما آمنوا.﴿ بَل للَّهِ ٱلأَمْرُ جَمِيعاً ﴾ بل هنا الانتقال أي أن الإِيمان والكفر بيد الله يخلقهما فيمن يشاء واليأس القنوط من الشىء وهو هنا في قول الأكثرين بمعنى العلم كأنه قيل أفلم يعلم الذين آمنوا قال القاسم بن معن هي لغة هوازن. وقال ابن الكلبي هي لغة حي من النخع وأنشد: والسحيم بن وثيل الرياحي   أقول لهم بالشعب إذ يسروننيألم تيأسوا أنى ابن فارس زهدم   وان لو يشأ قبله قسم محذوف تقديره وأقسم ان لو يشاء الله وقد صرح بالقسم قبل أن ولو في قول الشاعر: وأقسم ان لو التقينا وأنتم   لكان لنا يوم من الشر مظلموان زائدة في هذا التركيب نص على ذلك سيبويه ومفعول يشاء محذوف تقديره الهداية وجواب لو لهدى الناس.﴿ وَلاَ يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ ﴾ من كفرهم وسوء أعمالهم.﴿ قَارِعَةٌ ﴾ داهية تقرعهم بما يحل الله تعالى بهم في كل وقت من صنوف البلايا والمصائب في نفوسهم وأولادهم أو تحل القارعة قريباً منهم فيفزعون ويضطربون ويتطاير إليهم شرارها ويتعدى إليهم شرورها.﴿ حَتَّىٰ يَأْتِيَ وَعْدُ ٱللَّهِ ﴾ وهو موتهم أو القيامة.﴿ وَلَقَدِ ٱسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ ﴾ تقدم الكلام عليه.﴿ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ﴾ استفهام معناه التعجب مما حل بهم والتقرير وفي ضمنه وعيد معاصري الرسول صلى الله عليه وسلم من الكفار.﴿ أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ ﴾ الآية، من موصولة صلة ما بعدها وهي مبتدأ والخبر محذوف تقديره كمن ليس كذلك من شركائهم التي لا تضر ولا تنفع كما حذف من قوله:﴿ أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ ﴾[الزمر: ٢٢]، تقديره كالقاسي قلبه الذي هو في ظلمة ودل عليه قوله: وجعلوا لله شركاء كما دل على كالقاسي قوله:﴿ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ﴾[الزمر: ٢٢]، ويحسن حذف هذا الخبر كون المبتدأ يكون مقابله الخبر المحذوف وقد جاء مثبتاً كثيراً كقوله تعالى:﴿ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ ﴾[النحل: ١٧]﴿ أَفَمَن يَعْلَمُ ﴾[الرعد: ١٩] ثم قال:﴿ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ ﴾[الرعد: ١٩] والظاهر أن قوله: وجعلوا لله شركاء، استئناف اخبار عن سوء صنيعهم وكونهم أشركوا مع الله ما لا يصلح للألوهية نعى عليهم هذا الفعل القبيح هذا والباري تعالى محيط بأحوال النفوس جليها وخفيها ونبه على بعض حالاتها وهو الكسب ليتفكر الإِنسان فيما يكسب من خير وشر وما يترتب على الكسب من الجزاء وعبر بقائم عن الإِحاطة والمراقبة التي لا يغفل عنها ثم أمره تعالى أن يقول لهم سموهم أي اذكروهم بأسمائهم والمعنى أنهم ليسوا ممن يذكر ولا يسمى إنما يذكر ويسمى من ينفع ويضر وأم في قوله: أم تنبئونه منقطعة تتقدر ببل والهمزة تقديره بل أتنبئونه والضمير في أتنبئونه عائد على الله تعالى وما في بما موصولة والعائد محذوف تقديره يعلمه والضمير في يعلم عائد على الله والمعنى اتنبئون الله لشركة الأصنام التي لا تتصف بعلم البتة وذكر نفي العلم في الأرض إذ الأرض هي مقر تلك الأصنام فإِذا انتفى علمها في المقر التي هي فيه فانتفاؤه في السماوات أحرى وعلى هذا التأويل يكون الفاعل بيعلم ضمير يعود على ما وعلى الأول ذكرنا أنه عائد على الله تعالى والمعنى على هذا استفهام التوبيخ على أنهم عندهم لا يكون علمه في السماوات ولا في الأرض بل علمه تعالى محيط بجميع الأشياء والظاهر في أم من قوله أم بظاهر أنها منقطعة أيضاً أي بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير أن يكون لذلك حقيقة أي أنكم تنطقون بتلك الأسماء وتسمونها آلهة ولا حقيقة لها إذ أنتم تعلمون أنها لا تتصف بشىء من أوصاف الإِله لقوله تعالى:﴿ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً ﴾[يوسف: ٤٠] والظاهر أن قوله: أم بظاهر معطوف على قوله: بما لا يعلم والعذاب في الدنيا هو ما يصيبهم بسبب كفرهم من القتل والأسر والنهب والذلة والحروب والبلايا في أجسامهم وغير ذلك مما يمتحن به الكفار وكان عذاب الآخرة أشق على النفوس لأنه إحراق بالنار دائماً كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ومن واق من ساتر يحفظهم عن العذاب ويحميهم ولما ذكر ما أعد للكفار في الآخرة ذكر ما أعد للمؤمنين فقال:﴿ مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ﴾ أي صفتها التي هي في غرابة المثل وارتفع مثل على الابتداء في مذهب سيبويه والخبر محذوف أي فيما قصصنا عليكم مثل الجنة.﴿ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ ﴾ تفسير لذلك المثل وتقول مثلت الشىء إذا وصفته وقربته للفهم وليس هنا ضرب مثل فهو كقوله:﴿ وَلَهُ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ ﴾[الروم: ٢٧]، أي الصفة العليا والأكل ما يؤكل فيها ومعنى دوامه أنه لا ينقطع أبداً كما قال:﴿ لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ ﴾[الواقعة: ٣٣] تلك أي تلك الجنة عاقبة الذين اتقوا الشرك.﴿ وَٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ ﴾ نزلت في مؤمني أهل الكتاب من أسلم من اليهود كعبد الله بن سلام وكعب وأصحابهما ومن أسلم من النصارى وهم ثمانون رجلاً أربعون بنجران واثنان وثلاثون بأرض الحبشة.﴿ وَمِنَ ٱلأَحْزَابِ ﴾ يعني ومن أحزابهم وهم كفرتهم الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة نحو كعب بن الأشرف وأصحابه والسيد والعاقب اسقفي نجران وأشياعها.﴿ مَن يُنكرُ بَعْضَهُ ﴾ لأنهم كانوا لا ينكرون الأقاصيص وبعض الأحكام والمعاني مما هو ثابت في كتبهم غير محرف وكانوا ينكرون ما هو نعت الإِسلام ونعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وغير ذلك مما حرفوه وبدلوه.﴿ إِلَيْهِ أَدْعُو ﴾ أي إلى شرعه ودينه وإليه مرجعي عند البعث يوم القيامة أو إليه مرجعي في جميع الأحوال في الدنيا والآخرة.
﴿ وَكَذٰلِكَ ﴾ أي مثل إنزالنا الكتاب على الأنبياء قبلك لأن قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ ﴾، يتضمن إنزاله تعالى الكتاب وهذا الذي أنزلناه هو بلسان العرب كما أن الكتب السابقة بلسان من نزلت عليه واراد بالحكم أنه مفصل بين الحق والباطل ومحكم وانتصب ﴿ حُكْماً ﴾ على الحال من الضمير النصب في أنزلناه والضمير عائد على القرآن والحكم ما تضمنه القرآن من المعاني ولما كانت العبارة عنه بلسان العرب نسبه إليها.﴿ وَلَئِنِ ٱتَّبَعْتَ ﴾ الخطاب لغير الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الرسول صلى الله عليه وسلم معصوم من اتباع أهوائهم.﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ ﴾ الآية، قال الكلبي عيرت اليهود الرسول صلى الله عليه وسلم وقالوا: ما نرى لهذا الرجل همة إلا النساء والنكاح ولو كان نبياً كما زعم لشغله أمر النبوة عن النساء فنزلت هذه الآية. قيل وكانوا يقترحون عليه الآيات وينكرون النسخ فرد الله عليهم بأن الرسل قبله كانوا مثله ذوي أزواج وذرية وما كان لهم أن يأتوا بآيات برأيهم ولا يأتون بما يقترح عليهم والشرائع مصالح تختلف باختلاف الأحوال والأوقات فلكل وقت حكم يحكم فيه على العباد أي يفرض عليهم ما يريده تعالى وقوله: لكل أجل كتاب لفظ عام في الأشياء التي لها آجال لأنه ليس منها شىء إلاّ وله أجل في بداءته وفي خاتمته وذلك الأجل مكتوب ومحصور والظاهر أن المحور عبارة عما نسخ من الشرائع والاحكام والإِثبات عبارة عن دوامها وتقررها وبقائها أي يمحو ما يشاء محوه ويثبت ما يشاء إثباته.﴿ وَعِندَهُ أُمُّ ٱلْكِتَابِ ﴾ هو ديوان الأمور المحدثة التي سبق في القضاء أن تبدل تمحي وتثبت. و ﴿ وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ ﴾ تقدم الكلام عليه في يونس واما هنا فقال الحوفي وغيره: فإِنما عليك جواب الشرط والذي تقدم شرطان لأن المعطوف على الشرط شرط اما كونه جواباً للشرط فليس بظاهر لأنه يترتب عليه إذ يصير المعنى لا ما نرينك يعني ما نعدم من العذاب فإِنما عليك البلاغ وأما كونه جوابه للشرط الثاني وهو أو نتوفينك فكذلك لأنه يصير التقدير ان ما نتوفينك فإِنما عليك البلاغ، ولا يترتب وجوب التبليغ عليه على وفاته صلى الله عليه وسلم لأن التكليف ينقطع بعد الوفاة فيحتاج إلى تأويل وهو أن يتقدر لكل شرط منهما ما يناسب أن يكون جزاء مترتباً عليه وذلك أن يكون التقدير والله أعلم واما نرينك بعض الذين نعدهم به من العذاب فذلك شافيك من أعدائك ودليل على صدقك إذ أخبرت بما يحل بهم ولم يعين زمان حلوله بهم واحتمل أن يقع ذلك في حياتك واحتمل أن يقع بهم بعد وفاتك أو نتوفينك أو أن نتوفينك قبل حلوله بهم فلا لوم عليك ولا عتب إذ قد حل بهم بعض ما وعد الله به على لسانك من عذابهم فإِنما عليك البلاغ لا حلول العذاب بهم إذ ذاك راجع إلينا وعلينا جزاؤهم في تكذيبهم إياك وكفرهم بما جئت به.﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي ٱلأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ﴾ الضمير في يروا عائد على الذين وعدوا وفي ذلك اتعاظ لمن اتعظ بنهوا على أن ينظروا نقص الأرض من أطرافها ونأتي يعني بالأمر والقدرة كقوله تعالى:﴿ فَأَتَى ٱللَّهُ بُنْيَانَهُمْ ﴾[النحل: ٢٦] والأرض أرض الكفار المذكورين ومعنى ننقصها من أطرافها نفتحها للمسلمين من جوانبها كان المسلمون يغزون من حوالي أرض الكفار مما يلي المدينة ويغلبون على جوانب أرض مكة والأطراف الجوانب.﴿ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ﴾ المعقب الذي يكر على الشىء فيبطله وحقيقته الذي يعقبه أي بالرد والابطال ومنه قيل لصاحب الحق معقب لأنه يقتضي عزيمة بالاقتضاء والطلب والمعنى أنه حكم للإِسلام بالغلبة والإِقبال وعلى الكفر بالإِدبار والانتكاس والجملة من قوله: لا معقب لحكمه في موضع الحال أي نافذاً حكمه.﴿ وَهُوَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ ﴾ تقدم الكلام عليه ثم أخبر تعالى أن الأمم السالفة كان يصدر منهم المكر بأنبيائهم كما فعلت قريش وان ذلك عادة المكذبين للرسل مكر بإِبراهيم نمروذ وبموسى فرعون وبعيسى اليهود وجعل تعالى مكرهم كلا مكر إذ أضاف المكر كله له تعالى ومعنى مكره تعالى عقوبته إياهم سماها مكراً إذ كانت ناشئة عن المكر وذلك على سبيل المقابلة كقوله تعالى:﴿ ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ ﴾[البقرة: ١٥] ثم فسر قوله: ﴿ فَلِلَّهِ ٱلْمَكْرُ ﴾.
بقوله: ﴿ يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ ﴾ والمعنى يجازي كل نفس بما كسبت ثم هدّد الكفار بقوله: وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار إذ يأتيه العذاب من حيث هو في غفلة عنه فحينئذٍ يعلم لمن هي العاقبة المحمودة ولما قال الكفار ليست مرسلاً أي إنما أنت مدّع ما ليس لك أمره تعالى ان يكتفي بشهادة الله بينهم إذ قد ظهر على يديه من الأدلة على رسالته ما في بعضها كفاية لمن وفق ثم أردف شهادة الله بشهادة من عنده علم الكتاب وقرأ ورش ومن عنده بمن الجارة ذكره الأهوازي في الموجز والكتاب هنا القرآن والمعنى أن من عرف ما ألف فيه من المعاني الصحيحة والنظم المعجز الفائت لقدر البشر يشهد بذلك.
Icon