ﰡ
والتقدير لله الدعوة المحق بخلاف غيره فإِن دعوته باطلة والمعنى أن الله تعالى الدعوة له هي الدعوة الحق ولما ذكر تعالى جدال الكفار لله تعالى وكان جدالهم في إثبات آلهة معه ذكر تعالى أن له الدعوة الحق أي من يدعو له فدعوته هي الحق بخلاف أصنامهم التي جادلوا في الله لأجلها فإِن دعاءها باطل لا يتحصل منه شىء فقال: والذين تدعون والضمير في تدعون عائد على الكفار والعائد على الذين محذوف أي تدعونهم من دونه أي الله.﴿ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ ﴾ شبهوا في قلة جدوى دعائهم لآلهتهم من أراد أن يغرف الماء بيديه ليشربه فبسطهما ناشراً أصابعه فلم تبق كفاه منه شيئاً ولم يبلغ مراده من شربه وهذا مبالغة عظيمة في الخيبة لدعائهم آلهتهم.﴿ وَمَا دُعَآءُ ٱلْكَافِرِينَ ﴾ آلهتهم.﴿ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ ﴾ أي حيرة واضمحلال لأنه لا يجدي شيئاً ولا يفيد فقد ضل ذلك الدعاء عنهم كما ضل المدعون قال تعالى:﴿ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا ﴾[الأعراف: ٣٧].
﴿ وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ الآية، إن كان السجود بمعنى الخضوع والانقياد فمن على عمومها ينقاد كلهم لما أراده تعالى بهم شاؤا أو أبوا وينقاد له تعالى ضلالهم حيث على مشيئته من الامتداد والتقلص والفيء والزوال وان كان السجود عبارة عن الهيئة المخصوصة وهو وضع الجبهة بالمكان الذي يكون فيه الواضع فيكون عاماً مخصوصاً إذ يخرج منه من لا يسجد ويكون قد عبر بالطوع عن سجود الملائكة المؤمنين وبالكره عن سجود من ضمه السيف إلى الإِسلام والذي يظهر أن مساق هذه الآية إنما هو أن العالم كله مقهور لله تعالى خاضع لما أراد منه مقصور على مشيئته لا يكون منه إلا ما قدر تعالى، فالذين يعبدونهم كائناً ما كانوا داخلون تحت القهر ويدل على هذا المعنى تشريك الضلال في السجود والظلال ليست أشخاصاً يتصور منها السجود بالهيئة المخصوصة ولكنها داخلة تحت مشيئته يصرفها على ما أراد إذ هي من العالم والعالم جواهره وأعراضه داخلة تحت إرادته كما قال تعالى:﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ ﴾[النحل: ٤٨] الآية، قال الفراء: الظل مصدر يعني في الأصل ثم أطلق على الخيال الذي يظهر للجرم وطوله بسبب انحطاط الشمس وقصره بسبب ارتفاعها فهو لله في طوله وقصره وميله من جانب إلى جانب وخص هذان الوقتان بالذكر لأن الظلال إنما تعظم وتكبر فيهما وتقدم شرح الغدو والآصال في آخر الاعراف.﴿ قُلْ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ أي قل يا محمد للكفار من رب السماوات والأرض استفهام تقرير واستنطاق فإِنهم يقولون الله فإِذا قالوها قل الله أي هو كما قلتم وروي أنه لما قال هذا للمشركين عطفوا عليه فقالوا: أجب أنت فأمره الله فقال: قل الله واستفهم بقوله: قل أما اتخذتم على سبيل التوبيخ والإِنكار أي بعد أن علمتم أنه تعالى هو رب السماوات والأرض تتخذون من دونه أولياء وتتركونه فجعلتم ما كان يجب أن يكون سبباً للتوحيد من علمكم وقراركم سبباً للإِشراك ثم وصف تلك الأولياء بصفة العجز وهي كونها لا تملك لأنفسها نفعاً ولا ضراً ومن بهذه المثابة فكيف يملك لكم نفعاً أو ضراً ثم مثل ذلك حالة الكافر والمؤمن ثم حالة الكفر والإِيمان وأبرز ذلك في صورة الاستفهام الذي يبادر المخاطب إلى الجواب فيه من غير فكر ولا روية بقوله:﴿ هَلْ يَسْتَوِي ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ ﴾ ثم انتقل إلى الاستفهام عن الوصفين القائمين بالكافر وهو الظلمات وبالمؤمن وهو النور وتقدم الكلام في جمع الظلمات وافراد النور في البقرة وأم في قوله: أم هل منقطعة تتقدر ببل والهمزة على المختار والتقدير بل أهل يستوي وهل وان نابت عن همزة الاستفهام في كثير من المواضع فقد جامعتها في قول الشاعر: أهل رأونا بواد القفر ذي الأكم ومثال قوله تعالى: ﴿ أَمْ هَلْ ﴾ في الجمع أم وهل قول علقمة: أم هل كثير بكى لم تقض عبرته ثم انتقل من خطابهم إلى الاخبار عنهم غائباً إعراضاً عنهم وتنبيهاً على توبيخهم في جعلهم شركاء وتعجباً منهم وإنكاراً عليهم وتضمن هذا الاستفهام التهكم بهم لأنه معلوم بالضرورة ان هذه الأصنام وما اتخذوا من دون الله أولياء وجعلوهم شركاء لا يقدر على خلق ذرة ولا إيجاد شىء البتة والمعنى أن هؤلاء الشركاء هم خالقون شيئاً حتى يستحقوا العبادة وجعلهم شركاء لله تعالى؟ أي جعلوا لله شركاء موصوفين بالخلق مثل خلق الله فيتشابه ذلك عليهم فيعبدونهم ومعلوم أنهم لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون فكيف يشركون في العبادة أفمن يخلق كمن لا يخلق ثم أمره تعالى قال: ﴿ قُلِ ٱللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ أي موجد الأشياء كلها معبوداتهم وغيرهم وهم أيضاً مقرون بذلك ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله واحتمل أن يكون قوله: وهو الواحد القهار داخلاً تحت الأمر بقل فيكون قد أمر أن يخبر بأنه تعالى الواحد المنفرد بالألوهية القهار الذي جميع الأشياء تحت قدرته وقهره واحتمل أن يكون استئناف اخبار منه تعالى بهذين الوصفين الوحدانية والقهر فهو تعالى لا يغالب وما سواه مقهور مربوب له تعالى.
والبداءة بالسابق فصحة مثل قوله تعالى:﴿ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا ٱلَّذِينَ شَقُواْ ﴾[هود: ١٠٥-١٠٦] وكأنه والله أعلم يبدأ في التفصيل بما هو أهم في الذكر وانتصب جفاء على الحال أي مضمحلاً متلاشياً لا منفعة فيه ولا بقاء له والجفاء اسم لما يجفاه السيل أي يرمي به يقال جفأت القدر بزبدها وجفأ السيل بزبده وأجفأ وأجفل. وقال ابن الأنباري: جفاء متفرقاً من جفأت الريح الغيم إذا قطعته وجفأت الرجل صرعته ويقال: جفأ الوادي وأجفأ إذ أنشف والزبد يراد به ما سبق مما احتمله السيل وما خرج من خبث المعادن وأفرد الزبد ولم يثن وان تقدم زبد ان لاشتراكهما في مطلق الزبدية فهماً واحد باعتبار القدر المشترك.﴿ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ ﴾ أي من الماء الخالص من الغثاء ومن الجوهر المعدني الخالص من الخبث.﴿ فَيَمْكُثُ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ لانتفاع الناس به والكاف في موضع نصب أي مثل ذلك الضرب كمثل الحق والباطل يضرب الله الأمثال والظاهر أنه لما ضرب هذا المثل للحق والباطل انتقل إلى ما لأهل الحق من الثواب وأهل الباطل من العقاب فقال:﴿ لِلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ ٱلْحُسْنَىٰ ﴾ أي للذين دعاهم الله على لسان رسوله فأجابوه إلى ما دعاهم إليه من اتباع دينه الحالة الحسنى وذلك هو النصر في الدنيا وما اختصوا به من نعمه تعالى ودخول الجنة في الآخرة فالحسنى مبتدأ وخبره في قوله: للذين، قال الزمخشري: للذين استجابوا متعلق بيضرب، أي كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين الذين استجابوا والكافرين الذين لم يستجيبوا أي هما مثلا الفريقين فالحسنى صفة لمصدر استجابوا أي استجابوا الاستجابة. وقوله: ﴿ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ﴾ كلام. مبتدأ ذكر ما أعد لغير المستجيبين انتهى. التفسير الأول أولى لأنه فيه ضرب الأمثال غير مقيد بمثل هذين والله تعالى قد ضرب امثالاً كثيرة في هذين وفي غيرهما ولأنه فيه ذكر ثواب المستجيبين بخلاف قول الزمخشري، فلما ذكر ما لغير المستجيبين من العقاب ذكر ما للمستجيبين من الثواب ولأن تقديره الاستجابة الحسنى مشعر بتقييد الاستجابة ومقابلها ليس نفي الاستجابة مطلقاً إنما مقابلها نفي الاستجابة بالحسنى والله تعالى قد نفى الاستجابة مطلقاً ولأنه على قوله يكون قوله: لو ان لهم ما في الأرض كلاماً مفلتا مما قبله أو كالمفلت إذ يصير المعنى كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين والكافرين لو أن لهم ما في الأرض فلو كان التركيب بحرف رابط لو بما قبلها زال التفلت وأيضاً فيوهم الاشتراك في الضمير وإن كان تخصيص ذلك بالكافرين معلوماً لهم والذين لم يستجيبوا مبتدأ خبره ما بعده وغاير بين جملتي الابتداء لما يدل عليه تقديم الجار والمجرور من الاعتناء والاهتمام لو أن لهم ما في الأرض جميعاً وسوء الحساب. قال ابن عباس: ان لا تقبل حسناتهم ولا تغفر سيآتهم وتقدم تفسير مثل ومأواهم جهنم.﴿ أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ ٱلْحَقُّ ﴾ الآية، قال ابن عباس: نزلت في حمزة وأبي جهل ولما ذكر تعالى مثل المؤمن والكافر وذكر ما للمؤمن من الثواب وما للكافر من العقاب ذكر استبعاد من يجعلهما سواء وأنكر ذلك فقال: أفمن يعلم إنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى أي ليسا مشتبهين لأن العالم بالشىء بصير به والجاهل به كالأعمى والمراد عمى البصيرة ولذلك قابله بالعلم والهمزة للاستفهام المراد به إنكار أن تقع شبهة بعد ما ضرب من المثل في ان حال من علم إنما أنزل إليك من ربك الحق فاستجاب بمعزل من حال الجاهل الذي لم يستبصر فيستجيب كبعد ما بين الزبد والماء والخبث والابريز ثم ذكر أنه لا يتذكر بالموعظة وضرب الأمثال الا أصحاب العقول والفاء للعطف وقدمت همزة الاستفهام لأن له صدر الكلام والتقدير فأمن يعلم والذين بدل من الواو أو صفة له أو خبر مبتدأ محذوف تقديره هم الذين والظاهر إضافة العهد إلى الفاعل أي بما عهد الله والظاهر أن قوله: ولا ينقضون الميثاق، جملة توكيدية لقوله: يوفون بعهد الله لأن العهد هو الميثاق ويلزم من إيفاء العهد انتفاء نقضه. و ﴿ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ ﴾ ظاهره العموم في كل ما أمر به في كتابه وعلى لسان رسوله.﴿ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ﴾ أي وعيده كله.﴿ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ ﴾ أي استقصاءه فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا وصبروا مطلق فيما يصبر عليه من المصائب في النفوس والأموال وميثاق التكليف وجاءت الصلة هنا بلفظ الماض وفي الموصولين قبل بلفظ المضارع في قوله: الذين يوفون والذين يصلون وما عطف عليهما على سبيل التفنن في الفصاحة ويظهر أيضاً أن اختصاص هذه الصلة بالماضي وتينك بالمضارع أن تينك الصلتين قصد بهما الاستصحاب والإِلتباس دائماً وهذه الصلة قصد بها تقدمها على تينك الصلتين وما عطف عليهما لأن حصول تلك الصلات إنما هي مترتبة على حصول الصبر وتقدمه عليها ولذلك لم تأت صلة في القرآن بالصبر إلا بصيغة الماضي إذ هو شرط في حصول التكاليف وإيقاعها.﴿ وَيَدْرَءُونَ ﴾ يدفعون أي يدفعون الشر بالخير. و ﴿ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ ﴾ عاقبة الدنيا وهي الجنة لأنها التي أراد الله أن تكون عاقبة الدنيا ومرجع أهلها. و ﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ ﴾ بدل من عقبى الدار ويحتمل أن يراد عقبى دار الآخرة لدار الدنيا أي العقبى الحسنة في الدار الآخرة هي لهم ويحتمل أن تكون جنات خبر مبتدأ محذوف تقديره هي جنات والظاهر أن ومن معطوف على الضمير في يدخلونها وقد فصل بينهما بالمفعول.﴿ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ ﴾ أي بالتحف والهداية من الله تكرمه لهم وارتفع سلام على الابتداء وعليكم الخبر والجملة محكية بقول محذوف تقديره يقولون: سلام عليكم والمخصوص بالمدح محذوف أي فنعم عقبى الدار الجنة أو فنعم عقبى الدار الصبر وبما صبرتم متعلق بذلك المحذوف الذي هو يقولون: سلام عليكم بسبب صبركم أي تحية الملائكة لهم ودخولهم عليهم من كل باب بالتحف والهداية هو بسبب صبرهم.﴿ وَٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ ﴾ الآية، لما ذكر تعالى حال السعداء وما ترتب لهم من الأمور السنية الشريفة ذكر حال الأشقياء وما ترتب لهم من الأمور المخزية وتقدم تفسير الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه من أوائل البقرة وترتب هناك للسعداء التصريح بعقبى الدار وهي الجنة وإكرام الملائكة لهم بالسلام وذلك غاية القرب والتأنيس وهنا ترتب للأشقياء الابعاد من رحمة الله وسوء الدار أي الدار السوء وهي النار أو سوء عاقبة الدار وتكون دار الدنيا ولما كان كثير من الأشقياء فتحت عليهم نعم الدنيا ولذاتها أخبر تعالى أنه هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر والكفر والإِيمان لا تعلق لهما بالرزق قد يقدر على المؤمن ليعظم أجره ويبسط للكافر إملاء لازدياد آثامه ويقدر مقابل يبسط وهو التضييق والضمير في وفرحوا عائد على الذين ينقضون هو استئناف اخبار عن جهلهم بما أوتوا من بسطه الدنيا عليهم وفرحهم هو فرح بطر لا فرح سرور بفضل الله وانعامه عليهم ومتاع معناه ذاهب مضمحل يستمتع به قليلاً ثم يفنى كما قال الشاعر: أنت نعم المتاع لو كنت تبقى غير أن لا بقاء للإِنسان
الآية. فجواب لو محذوف وهو ما قدرناه ويجوز أن يكون جواب لو ما آمنوا.﴿ بَل للَّهِ ٱلأَمْرُ جَمِيعاً ﴾ بل هنا الانتقال أي أن الإِيمان والكفر بيد الله يخلقهما فيمن يشاء واليأس القنوط من الشىء وهو هنا في قول الأكثرين بمعنى العلم كأنه قيل أفلم يعلم الذين آمنوا قال القاسم بن معن هي لغة هوازن. وقال ابن الكلبي هي لغة حي من النخع وأنشد: والسحيم بن وثيل الرياحي أقول لهم بالشعب إذ يسروننيألم تيأسوا أنى ابن فارس زهدم وان لو يشأ قبله قسم محذوف تقديره وأقسم ان لو يشاء الله وقد صرح بالقسم قبل أن ولو في قول الشاعر: وأقسم ان لو التقينا وأنتم لكان لنا يوم من الشر مظلموان زائدة في هذا التركيب نص على ذلك سيبويه ومفعول يشاء محذوف تقديره الهداية وجواب لو لهدى الناس.﴿ وَلاَ يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ ﴾ من كفرهم وسوء أعمالهم.﴿ قَارِعَةٌ ﴾ داهية تقرعهم بما يحل الله تعالى بهم في كل وقت من صنوف البلايا والمصائب في نفوسهم وأولادهم أو تحل القارعة قريباً منهم فيفزعون ويضطربون ويتطاير إليهم شرارها ويتعدى إليهم شرورها.﴿ حَتَّىٰ يَأْتِيَ وَعْدُ ٱللَّهِ ﴾ وهو موتهم أو القيامة.﴿ وَلَقَدِ ٱسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ ﴾ تقدم الكلام عليه.﴿ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ﴾ استفهام معناه التعجب مما حل بهم والتقرير وفي ضمنه وعيد معاصري الرسول صلى الله عليه وسلم من الكفار.﴿ أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ ﴾ الآية، من موصولة صلة ما بعدها وهي مبتدأ والخبر محذوف تقديره كمن ليس كذلك من شركائهم التي لا تضر ولا تنفع كما حذف من قوله:﴿ أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ ﴾[الزمر: ٢٢]، تقديره كالقاسي قلبه الذي هو في ظلمة ودل عليه قوله: وجعلوا لله شركاء كما دل على كالقاسي قوله:﴿ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ﴾[الزمر: ٢٢]، ويحسن حذف هذا الخبر كون المبتدأ يكون مقابله الخبر المحذوف وقد جاء مثبتاً كثيراً كقوله تعالى:﴿ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ ﴾[النحل: ١٧]﴿ أَفَمَن يَعْلَمُ ﴾[الرعد: ١٩] ثم قال:﴿ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ ﴾[الرعد: ١٩] والظاهر أن قوله: وجعلوا لله شركاء، استئناف اخبار عن سوء صنيعهم وكونهم أشركوا مع الله ما لا يصلح للألوهية نعى عليهم هذا الفعل القبيح هذا والباري تعالى محيط بأحوال النفوس جليها وخفيها ونبه على بعض حالاتها وهو الكسب ليتفكر الإِنسان فيما يكسب من خير وشر وما يترتب على الكسب من الجزاء وعبر بقائم عن الإِحاطة والمراقبة التي لا يغفل عنها ثم أمره تعالى أن يقول لهم سموهم أي اذكروهم بأسمائهم والمعنى أنهم ليسوا ممن يذكر ولا يسمى إنما يذكر ويسمى من ينفع ويضر وأم في قوله: أم تنبئونه منقطعة تتقدر ببل والهمزة تقديره بل أتنبئونه والضمير في أتنبئونه عائد على الله تعالى وما في بما موصولة والعائد محذوف تقديره يعلمه والضمير في يعلم عائد على الله والمعنى اتنبئون الله لشركة الأصنام التي لا تتصف بعلم البتة وذكر نفي العلم في الأرض إذ الأرض هي مقر تلك الأصنام فإِذا انتفى علمها في المقر التي هي فيه فانتفاؤه في السماوات أحرى وعلى هذا التأويل يكون الفاعل بيعلم ضمير يعود على ما وعلى الأول ذكرنا أنه عائد على الله تعالى والمعنى على هذا استفهام التوبيخ على أنهم عندهم لا يكون علمه في السماوات ولا في الأرض بل علمه تعالى محيط بجميع الأشياء والظاهر في أم من قوله أم بظاهر أنها منقطعة أيضاً أي بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير أن يكون لذلك حقيقة أي أنكم تنطقون بتلك الأسماء وتسمونها آلهة ولا حقيقة لها إذ أنتم تعلمون أنها لا تتصف بشىء من أوصاف الإِله لقوله تعالى:﴿ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً ﴾[يوسف: ٤٠] والظاهر أن قوله: أم بظاهر معطوف على قوله: بما لا يعلم والعذاب في الدنيا هو ما يصيبهم بسبب كفرهم من القتل والأسر والنهب والذلة والحروب والبلايا في أجسامهم وغير ذلك مما يمتحن به الكفار وكان عذاب الآخرة أشق على النفوس لأنه إحراق بالنار دائماً كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ومن واق من ساتر يحفظهم عن العذاب ويحميهم ولما ذكر ما أعد للكفار في الآخرة ذكر ما أعد للمؤمنين فقال:﴿ مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ﴾ أي صفتها التي هي في غرابة المثل وارتفع مثل على الابتداء في مذهب سيبويه والخبر محذوف أي فيما قصصنا عليكم مثل الجنة.﴿ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ ﴾ تفسير لذلك المثل وتقول مثلت الشىء إذا وصفته وقربته للفهم وليس هنا ضرب مثل فهو كقوله:﴿ وَلَهُ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ ﴾[الروم: ٢٧]، أي الصفة العليا والأكل ما يؤكل فيها ومعنى دوامه أنه لا ينقطع أبداً كما قال:﴿ لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ ﴾[الواقعة: ٣٣] تلك أي تلك الجنة عاقبة الذين اتقوا الشرك.﴿ وَٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ ﴾ نزلت في مؤمني أهل الكتاب من أسلم من اليهود كعبد الله بن سلام وكعب وأصحابهما ومن أسلم من النصارى وهم ثمانون رجلاً أربعون بنجران واثنان وثلاثون بأرض الحبشة.﴿ وَمِنَ ٱلأَحْزَابِ ﴾ يعني ومن أحزابهم وهم كفرتهم الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة نحو كعب بن الأشرف وأصحابه والسيد والعاقب اسقفي نجران وأشياعها.﴿ مَن يُنكرُ بَعْضَهُ ﴾ لأنهم كانوا لا ينكرون الأقاصيص وبعض الأحكام والمعاني مما هو ثابت في كتبهم غير محرف وكانوا ينكرون ما هو نعت الإِسلام ونعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وغير ذلك مما حرفوه وبدلوه.﴿ إِلَيْهِ أَدْعُو ﴾ أي إلى شرعه ودينه وإليه مرجعي عند البعث يوم القيامة أو إليه مرجعي في جميع الأحوال في الدنيا والآخرة.
بقوله: ﴿ يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ ﴾ والمعنى يجازي كل نفس بما كسبت ثم هدّد الكفار بقوله: وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار إذ يأتيه العذاب من حيث هو في غفلة عنه فحينئذٍ يعلم لمن هي العاقبة المحمودة ولما قال الكفار ليست مرسلاً أي إنما أنت مدّع ما ليس لك أمره تعالى ان يكتفي بشهادة الله بينهم إذ قد ظهر على يديه من الأدلة على رسالته ما في بعضها كفاية لمن وفق ثم أردف شهادة الله بشهادة من عنده علم الكتاب وقرأ ورش ومن عنده بمن الجارة ذكره الأهوازي في الموجز والكتاب هنا القرآن والمعنى أن من عرف ما ألف فيه من المعاني الصحيحة والنظم المعجز الفائت لقدر البشر يشهد بذلك.