تفسير سورة الرعد

فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن
تفسير سورة سورة الرعد من كتاب فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن .
لمؤلفه زكريا الأنصاري . المتوفي سنة 926 هـ

قوله تعالى :﴿ إن في ذلك لآيات لقوم يتفكّرون ﴾( ١ ) [ الرعد : ٣ ]. ختم الآية هنا ب " يتفكّرون " وختمها بعد ب " يعقلون " ( ٢ )، لأن التفكّر في الشيء سبب لتعقّله، والسبب مقدّم على المسبَّب، فناسب تقدم التفكر على التعقّل.
١ - الآية الأولى: ﴿يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون﴾ الرعد: ٣..
٢ - الآية الثانية: ﴿ونفضّل بعضها على بعض في الأُكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون﴾ الرعد: ٤..
قوله تعالى :﴿ ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها... ﴾ الآية [ الرعد : ١٥ ].
إن قلتَ : كيف قال ذلك هنا، وقال في الحج ﴿ ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض... ﴾ [ الحج : ١٨ ]. وفي النحل ﴿ ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض... ﴾ ؟   ! [ النحل : ٤٩ ].
قلتُ : لأنه هنا ذكر العلويّات، من الرّعد، والبرق، والسحاب، ثم الملائكة بتسبيحهم، ثم الأصنام والكفار، فبدأ بذكر ﴿ من في السموات ﴾ ليقدّم ذكرهم، وأتبعهم من في الأرض، ولم يذكر " من " استخفافا بالأصنام والكفار.
وفي الحج تقدّم ذكر المؤمنين وسائر الأديان، فقد ذكر ﴿ من في السموات ﴾ لشرفهم، ثم قال :﴿ ومن في الأرض ﴾ ليقدّم ذكر المؤمنين.
وفي النحل : تقدّم ذكر ما خلقه الله عاما، ولم يكن فيه ذكر الملائكة والرعد، ولا الإنس بالتصريح، فاقتضت الآية ﴿ من في السموات ومن في الأرض ﴾( ١ ) فقال في كلّ آية ما يناسبها.
١ - في قوله تعالى: ﴿أو لم يرو إلى ما خلق الله من شيء يتفيّأ ظِلاله عن اليمين والشمائل سجّدا لله وهم داخرون. ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض... ﴾..
قوله تعالى :﴿ الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر... ﴾ [ الرعد : ٢٦ ] قاله هنا، وفي القصص( ١ )، والعنكبوت( ٢ )، والروم( ٣ )، بلفظ " الله " وفي الإسراء( ٤ )، وفي سبأ في موضعين بلفظ الرب( ٥ )، وفي الشورى( ٦ ) بإضمار لفظ " الله " وبزيادة " له " في العنكبوت( ٧ )، وفي ثاني موضعي سبأ، موافقة لتقدم تكرر لفظ " الله " في السور الأربع، ولتقدّم تكرر لفظ الربّ في المواضع الثلاثة، ولتقدم تكرّر الإضمار في الشورى.
وزاد في العنكبوت( ٨ ) " من عباده " و " له " موافقة لبسط الكلام على الرزق المذكور فيها صريحا.
وزاد في القصص ﴿ من عباده ﴾( ٩ ) [ القصص : ٨٢ ] موافقة لذلك، وإن كان لفظ الرزق فيه تضمُّننا.
وزاد " له " في ثاني موضعي سبأ( ١٠ )، لأنه نزل في المؤمنين، وما قبله في الكافرين.
وحذف لفظ " له " في العنكبوت، وفي أول موضعي سبأ اختصارا.
١ - في القصص: ﴿وأصبح الذين تمنّوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر﴾ آية (٨٢)..
٢ - في العنكبوت: ﴿الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له إن الله بكل شيء عليم﴾ آية (٦٢)..
٣ - في الروم: ﴿أو لم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون﴾ آية (٣٧)..
٤ - في الإسراء: ﴿إن ربّك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا﴾ آية (٣٠)..
٥ - في سبأ الموضع الأول: (قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر﴾ آية (٣٦) والثاني: ﴿قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له... ﴾ آية (٣٩)..
٦ - في الشورى: ﴿له مقاليد السموات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم﴾ آية (١٢)..
٧ - في العنكبوت: ﴿ويقدر له إن الله بكل شيء عليم﴾ وقد تقدم في رقم (١)..
٨ - في العنكبوت: ﴿الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له... ﴾ آية (٦٢)..
٩ - في القصص: ﴿ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر﴾ آية (٨٢)..
١٠ - في سبأ: ﴿ قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له.. ﴾ آية (٩)..
قوله تعالى :﴿ قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب ﴾ [ الرعد : ٢٧ ].
إن قلتَ : كيف طابق هذا الجواب قولهم ﴿ لولا أنزل عليه آية من ربّه ﴾ ؟ [ الرعد : ٢٧ ].
قلتُ : المعنى قل لهم : إن الله أنزل عليّ آيات ظاهرة، ومعجزات قاهرة، لكن الإضلال والهداية من الله، فأضلّكم عن تلك الآيات، وهدى إليها آخرين، فلا فائدة في تكثير الآيات والمعجزات. أو هو كلام جرى مجرى التعجب من قولهم، لأن الآيات الباهرة المتكاثرة، التي ظهرت على يد النبي صلى الله عليه وسلم، كانت أكثر من أن تشتبه على العاقل، فلما طلبوا بعدها آيات أخر، كان محلّ التعجب والإنكار، فكأنه قيل لهم : ما أعظم عنادكم  ! ! إن الله يضلّ من يشاء، كمن كان على صنيعكم، من التصميم على الكفر، فلا سبيل إلى هدايتكم، وإن أنزلت كلّ آية  ! ! ويهدي من كان على خلاف صنيعكم.
قوله تعالى :﴿ أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت... ﴾ ؟ [ الرعد : ٣٣ ].
إن قلتَ : كيف طابق قوله عقبه «وجعلوا لله شركاء قل سَمّوهم » ؟
قلتُ : فيه محذوف تقديره : أفمن هو رقيب على كل نفس، صالحة وطالحة، يعلم ما كسبت من خير وشرن كمن ليس كذلك ؟ من شركائهم التي لا تضرّ ولا تنفع ؟ ويدلّ له قوله تعالى :﴿ وجعلوا لله شركاء ﴾ [ الأنعام : ١٠٠ ] ونحوُه قوله تعالى :﴿ أفمن شرح الله صدره للإسلام ﴾ [ الزمر : ٢٢ ] تقديره : كمن قسا قلبه ؟ يدلّ له قوله :﴿ فويل للفاسقة قلوبهم من ذكر الله ﴾ [ الزمر : ٢٢ ].
قوله تعالى :﴿ قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به... ﴾ [ الرعد : ٣٦ ].
إن قلتَ : كيف اتصل هذا بقوله قبله :﴿ ومن الأحزاب من ينكر بعضه ﴾ ؟ [ الرعد : ٣٦ ].
قلتُ : هو جواب للمنكرين معناه : قل إنما أمرت فيما أنزل إليّ، بأن أعبد الله ولا أشرك به، فإنكاركم لبعضه، إنكار لعبادة الله وتوحيده.
قوله تعالى :﴿ وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعا ﴾( ١ ) [ الرعد : ٤٢ ].
إن قلتَ : كيف أثبت لهم مكراً ثم نفاه عنهم بقوله :﴿ فلله المكر جميعا ﴾ ؟.
قلتُ : معناه إن مكر الماكرين مخلوق له، ولا يضرّ إلا بإرادته، فإثباته لهم باعتبار الكسب، ونفيُه عنهم باعتبار الخلق.
١ - نبّه تعالى على أن كيد المشركين ومكرهم، لإطفاء نور الله لا أثر له، فإن الأمر كلّه بيد الله، يردّ كيدهم في نحورهم، ويبطل ما عزموا عليه، لأنه تعالى هو القويّ الغالب..
Icon