تفسير سورة البقرة

المختصر في تفسير القرآن الكريم
تفسير سورة سورة البقرة من كتاب المختصر في تفسير القرآن الكريم المعروف بـالمختصر في تفسير القرآن الكريم .
لمؤلفه مجموعة من المؤلفين .

سورة البقرة
مَدَنيّة
zإعداد الأمة لعمارة الأرض والقيام بدين الله، وبيان أقسام الناس، وفيها أصول الإيمان وكليات الشريعة.
yسُمِّيت سورة البقرة بهذا الاسم لورود قصة بقرة بني إسرائيل فيها، وفيها إشارة إلى وجوب المسارعة إلى تطبيق شرع الله، وعدم التلكؤ فيه كما حصل من يهود.
١ - ﴿الم﴾ هذه من الحروف التي افتُتِحت بها بعض سور القرآن، وهي حروفٌ هجائية لا معنى لها في نفسها إذا جاءت مفردة هكذا (أ، ب، ت، إلخ)، ولها حكمةٌ ومَغْزًى؛ حيث لا يوجد في القرآن ما لا حكمة له، ومن أهم حِكَمها الإشارة إلى التحدي بالقرآن الَّذي يتكوَّن من الحروف نفسها التي يعرفونها ويتكلمون بها؛ لذا يأتي غالبًا بعدها ذكرٌ للقرآن الكريم، كما في هذه السورة.
٢ - ذلك القرآن العظيم لا شك فيه، لا من جهة تنزيله، ولا من حيث لفظه ومعناه، فهو كلام الله، يهدي المتقين إلى الطريق الموصل إليه.
٣ - ٤ - الذين يؤمنون بالغيب وهو كل ما لا يُدرك بالحواس وغاب عنّا، مما أخبر الله عنه أو أخبر عنه رسوله، كاليوم الآخر، وهم الذين يقيمون الصلاة بأدائها وفق ما شرع الله من شروطها، وأركانها، وواجباتها، وسننها، وهم الذين ينفقون مما رزقهم الله، بإخراج الواجب كالزكاة، أو غير الواجب كصدقة التطوع؛ رجاء ثواب الله، وهم الذين يؤمنون بالوحي الَّذي أنزل الله عليك -أيها النبي- والذي أنزل على سائر الأنبياء - ﷺ - من قبلك دون تفريق، وهم الذين يؤمنون إيمانًا جازمًا بالآخرة وما فيها من الثواب والعقاب.
٥ - هؤلاء المُتَّصِفون بهذه الصفات على تَمكُّنٍ من طريق الهداية، وهم الفائزون في الدنيا والآخرة بنَيلهم ما يرجون ونجاتهم مما يخافون.
x• الثقة المطلقة في نفي الرَّيب دليل على أنَّه من عند الله؛ إذ لا يمكن لمخلوق أن يدعي ذلك في كلامه.
• لا ينتفع بما في القرآن الكريم من الهدايات العظيمة إلا المتقون لله تعالى المعظمون له.
• من أعظم مراتب الإيمانِ الإيمانُ بالغيب؛ لأنه يتضمن التسليم لله تعالى في كل ما تفرد بعلمه من الغيب، ولرسوله بما أخبر عنه سبحانه.
• كثيرًا ما يقرن الله تعالى بين الصلاة والزكاة؛ لأنَّ الصلاة إخلاص للمعبود، والزكاة إحسان للعبيد، وهما عنوان السعادة والنجاة.
• الإيمان بالله تعالى وعمل الصالحات يورثان الهداية والتوفيق في الدنيا، والفوز والفلاح في الأُخرى.
ولما بيَّن الله صفات المؤمنين المتقين الذين صلح ظاهرهم وباطنهم، ذكر صفات الكافرين الذين فسد ظاهرهم وباطنهم، فقال:
٦ - إن الذين كفروا مستمرون على ضلالهم وعنادهم، فإنذارك لهم وعدمه سواء.
٧ - لأن الله طبع على قلوبهم فأغلقها على ما فيها من باطل، وطبع على سمعهم فلا يسمعون الحق سماع قَبول وانقياد، وجعل على أبصارهم غطاء فلا يبصرون الحق مع وضوحه، ولهم في الآخرة عذاب عظيم.
ولما بيَّن الله صفات الكافرين الذين فسد ظاهرهم وباطنهم؛ بيَّن صفات المنافقين الذين فسد باطنهم وصلح ظاهرهم فيما يبدو للناس، فقال:
٨ - ومن الناس طائفة يزعمون أنهم مؤمنون، يقولون ذلك بألسنتهم خوفًا على دمائهم وأموالهم، وهم في الباطن كافرون.
٩ - يخادعون الله والمؤمنين بإظهار الإيمان وإبطان الكفر، وهم في الحقيقة يخدعون أنفسهم فقط، ولكنهم لا يشعرون بذلك؛ لأن الله تعالى يعلم السر وأخفى، وقد أَطْلَع المؤمنين على صفاتهم وأحوالهم.
١٠ - والسبب أن في قلوبهم شكًّا، فزادهم الله شكًّا إلى شكِّهم، والجزاء من جنس العمل، ولهم عذاب أليم في الدرك الأسفل من النار، بسبب كذبهم على الله وعلى الناس، وتكذيبهم بما جاء به محمد - ﷺ -.
١١ - وإذا نُهوا عن الإفساد في الأرض بالكفر والذنوب وغيرها، أنكروا وزعموا أنهم هم أصحاب الصلاح والإصلاح.
١٢ - والحقيقة أنهم هم أصحاب الإفساد، ولكنهم لا يشعرون بذلك، ولا يشعرون أن فعلهم عين الفساد.
١٣ - وإذا أمروا بالإيمان كما آمن أصحاب محمد - ﷺ -؛ أجابوا على سبيل الاستنكار والاستهزاء بقولهم: أنؤمن كإيمان خِفافِ العقول؟! والحق أنهم هم السفهاء، ولكنهم يجهلون ذلك.
١٤ - وإذا التقوا المؤمنين قالوا: صدَّقنا بما تؤمنون به؛ يقولون ذلك خوفًا من المؤمنين، وإذا انصرفوا عن المؤمنين إلى رؤسائهم منفردين بهم، قالوا مؤكدين ثباتهم على متابعتهم لهم: إنا معكم على طريقتكم، ولكنا نوافق المؤمنين ظاهرًا سخرية بهم واستهزاءً.
١٥ - الله يستهزئ بهم في مقابلة استهزائهم بالمؤمنين، جزاءً لهم من جنس عملهم، ولهذا أجرى لهم أحكام المسلمين في الدنيا، وأما في الآخرة فيجازيهم على كفرهم ونفاقهم، وكذلك يملي لهم ليتمادوا في ضلالهم وطغيانهم، فيبقوا حائرين مترددين.
١٦ - أولئك هم السفهاء لأنهم استبدلوا الكفر بالإيمان، فما ربحت تجارتهم؛ لخسارتهم الإيمان بالله، وما كانوا مهتدين إلى الحق.
x• أن من طبع الله على قلوبهم بسبب عنادهم وتكذيبهم لا تنفع معهم الآيات وإن عظمت.
• أن إمهال الله تعالى للظالمين المكذبين لم يكن عن غفلة أو عجز عنهم، بل ليزدادوا إثمًا، فتكون عقوبتهم أعظم.
١٧ - ضرب الله لهؤلاء المنافقين مثلين: مثلًا ناريًّا، ومثلًا مائيًّا، فأما مثلهم الناري: فهم كمثل من أوقد نارًا ليستضيء بها، فلما سطع نورها وظن أنَّه ينتفع بضوئها خمدت، فذهب ما فيها من إشراق، وبقي ما فيها من إحراق، فبقي أصحابها في ظلمات لا يرون شيئًا، ولا يهتدون سبيلًا.
١٨ - فهم صمٌّ لا يسمعون الحق سماع قبول، بُكْمٌ لا ينطقون به، عمي عن إبصاره، فلا يرجعون عن ضلالهم.
١٩ - وأما مثلهم المائي: فهم كمثل مطر كثير، من سحاب فيه ظلمات متراكمة ورعد وبرق، نزل على قوم فأصابهم ذعر شديد، فجعلوا يسدُّون آذانهم بأطراف أصابعهم، من شدة صوت الصواعق خوفًا من الموت، والله محيط بالكافرين لا يعجزونه.
٢٠ - يكاد البرق من شدة لمعانه وسطوعه يأخذ أبصارهم، كلما ومض البرق لهم وأضاء تقدموا، وإذا لم يضئ بقوا في الظلام، فلم يستطيعوا التحرك، ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم بقدرته الشاملة لكل شيء؛ فلا تعود إليهم؛ لإعراضهم عن الحق. فكان المطر مثلًا للقرآن، وصوت الصواعق مثلًا لما فيه من الزواجر، وضوء البرق مثلًا لظهور الحق لهم أحيانًا، وجعل سد الآذان من شدة الصواعق، مثلًا لإعراضهم عن الحق وعدم الاستجابة له، ووجه الشبه بين المنافقين وأصحاب المَثَلَين؛ هو عدم الاستفادة، ففي المثل الناري: لم يستفد مستوقدها غير الظلام والإحراق، وفي المثل المائي: لم يستفد أصحاب المطر إلا ما يروِّعهم ويزعجهم من الرعد والبرق، وهكذا المنافقون لا يرون في الإسلام إلا الشدة والقسوة.
ولما ذكر الله أنواع الناس من مؤمنين وكافرين ومنافقين؛ ناداهم جميعًا داعيًا إياهم إلى إفراده بالعبادة، فقال:
٢١ - يا أيها الناس اعبدوا ربكم وحده دون سواه؛ لأنه الَّذي خلقكم وخلق الأمم السابقة لكم، رجاء أن تجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية؛ بامتثال أوامره واجتناب نواهيه.
٢٢ - فهو الَّذي جعل لكم الأرض بساطًا ممهدًا، وجعل السماء من فوقها مُحكمة البنيان، وهو المنعم بإنزال المطر، فأنبت به مختلف الثمار من الأرض، لتكون رزقًا، فلا تجعلوا لله شركاء وأمثالا وأنتم تعلمون أنَّه لا خالق إلا الله عز وجل.
٢٣ - وإن كنتم -يا أيها الناس- في شك من القرآن المُنزل على عبدنا محمد - ﷺ -، فنتحداكم أن تعارضوه بالإتيان بسورة واحدة مماثلة له، ولو كانت أقصر سورة منه، ونادوا من استطعتم من أنصاركم إن كنتم صادقين فيما تدَّعونه.
٢٤ - فإن لم تفعلوا ذلك -ولن تقدروا عليه أبدًا- فاتقوا النار التي توقد بالناس المستحقين للعذاب، وبأنواع الحجارة مما كانوا يعبدونه وغيرها، هذه النار قد أعدها الله وهيأها للكافرين.
x• أن الله تعالى يخذل المنافقين في أشد أحوالهم حاجة وأكثرها شدة؛ جزاء نفاقهم وإعراضهم عن الهدى.
• من أعظم الأدلة على وجوب إفراد الله بالعبادة أنَّه تعالى هو الَّذي خلق لنا ما في الكون وجعله مسخَّرًا لنا.
• عجز الخلق عن الإتيان بمثل سورة من القرآن الكريم يدل على أنَّه تنزيل من حكيم عليم.
٢٥ - وإذا كان الوعيد السابق للكافرين؛ فبشِّر -أيها النبي- المؤمنين بالله الذين يعملون الصالحات؛ بما يسرُّهم من جنات تجري الأنهار من تحت قصورها وأشجارها، كلما أُطعموا من ثمارها الطيبة رزقًا؛ قالوا من شدة الشّبَهِ بثمار الدنيا: هذا مثل الثمار التي رزقنا من قبل، وقُدمت لهم ثمار متشابهة في شكلها واسمها حتَّى يُقْبلُوا عليها بحكم المعرفة بها، ولكنها مختلفة في طَعمها ومذاقها، ولهم في الجنّة أزواج مبرَّأة من كل ما تنفر منه النفس، ويُسْتَقْذَر طبعًا مما يُتَصَوَّر في أهل الدنيا، وهم في نعيم دائم لا ينقطع، بخلاف نعيم الدنيا المنقطع.
٢٦ - إن الله سبحانه وتعالى: لا يستحي من ضرب الأمثال بما شاء، فيضرب المثل بالبعوضة، فما فوقها في الكِبَر أو دونها في الصِّغَر، والناس أمام هذا نوعان: مؤمنون وكافرون، فأما المؤمنون فيصدقون ويعلمون أن من وراء ضرب المثل بها حكمة، وأما الكافرون فيتساءلون على سبيل الاستهزاء عن سبب ضرب الله الأمثال بهذه المخلوقات الحقيرة؛ كالبعوض، والذباب، والعنكبوت، وغيرها، فيأتي الجواب من الله: إن في هذه الأمثال هداياتٍ وتوجيهاتٍ واختبارًا للناس، فمنهم من يضلُّهم الله بهذه الأمثال لإعراضهم عن تدبرها، وهم كثير، ومنهم من يهديهم بسبب اتعاظهم بها، وهم كثير، ولا يضل إلا من كان مستحقًّا للضلال، وهم الخارجون عن طاعته؛ كالمنافقين.
٢٧ - الذين ينقضون عهد الله الذي أخذه عليهم بعبادته وحده واتباع رسوله الَّذي أخبرت به الرسل قبله. هؤلاء الذين يتنكرون لعهود الله يتصفون بأنهم يقطعون ما أمر الله بوصله كالأرحام، ويسعون لنشر الفساد في الأرض بالمعاصي، فهؤلاء هم الناقصة حظوظهم في الدنيا والآخرة.
٢٨ - إن أمركم -أيها الكفار- لعجب! كيف تكفرون بالله، وأنتم تشاهدون دلائل قدرته في أنفسكم، فقد كنتم عدمًا لا شيء، فأنشأكم وأحياكم، ثم هو يميتكم الموتة الثانية، ثم يحييكم الحياة الثانية، ثم يرجعكم إليه ليحاسبكم على ما قدمتم.
٢٩ - والله وحده الَّذي خلق لكم جميع ما في الأرض من أنهار وأشجار وغير ذلك مما لا يُحْصَى عدده، وأنتم تنتفعون به وتستمتعون بما سخَّره لكم، ثم ارتفع على السماء فخلقهن سبع سماوات مستويات، وهو الَّذي أحاط علمه بكل شيء.
x• من كمال النعيم في الجنّة أن ملذاتها لا يكدرها أي نوع من التنغيص، ولا يخالطها أي أذى.
• الأمثال التي يضربها الله تعالى لا ينتفع بها إلا المؤمنون؛ لأنهم هم الذين يريدون الهداية بصدق، ويطلبونها بحق.
• من أبرز صفات الفاسقين نقضُ عهودهم مع الله ومع الخلق، وقطعُهُم لما أمر الله بوصله، وسعيُهُم بالفساد في الأرض.
• الأصل في الأشياء الإباحة والطهارة؛ لأن الله تعالى امتنَّ على عباده بأن خلق لهم كل ما في الأرض.
٣٠ - يخبر الله تعالى أنَّه سبحانه قال للملائكة: إنه سيجعل في الأرض بشرًا يخلُف بعضهم بعضًا، للقيام بعمارتها على طاعة الله، فسأل الملائكةُ ربَّهم -سؤال استرشاد واستفهام- عن الحكمة من جعل بني آدم خلفاء في الأرض، وهم سيفسدون فيها، ويريقون الدماء ظلمًا، قائلين: ونحن أهل طاعتك، نُنَزّهُك حامدين لك، ومعظّمين جلالك وكمالك، لا نفتُرُ عن ذلك، فأجابهم الله عن سؤالهم: إني أعلم ما لا تعلمون من الحِكَم الباهرة في خلقهم، والمقاصد العظيمة من اسَتخلافهم.
٣١ - ولبيان منزلة آدم عليه السلام علَّمه الله تعالى أسماء الأشياء كلها من الحيوان والجماد؛ ألفاظها ومعانيها، ثم عرض تلك المسمَّيات على الملائكة قائلًا: أخبروني بأسمائها إن كنتم صادقين فيما تقولون؛ أنكم أكرم من هذا المخلوق وأفضل منه.
٣٢ - قالوا -مُعْترِفين بنقصهم مُرْجِعين الفضل إلى الله-: نُنَزّهُك ونعظِّمك يا ربَّنا عن الاعتراض عليك في حُكمك وشرعك، فنحن لا نعلم شيئًا إلا ما رزقتنا علمه، إنك أنت العليم الَّذي لا يخفى عليك شيء، الحكيم الَّذي تضع الأمور في مواضعها من قدرك وشرعك.
٣٣ - وعندئذ قال الله تعالى لآدم: أخبرهم بأسماء تلك المسمَّيات، فلما أخبرهم كما علَّمه ربه، قال الله للملائكة: ألم أقل لكم: إني أعلم ما خفي في السماوات وفي الأرض، وأعلم ما تُظْهرون من أحوالكم وما تحدِّثُون به أنفسكم.
٣٤ - يبين الله تعالى أنَّه أمر الملائكة بالسجود لآدم سجود تقدير واحترام، فسجدوا مسارعين لامتثال أمر الله، إلا ما كان من إبليس الَّذي كان من الجن، فامتنع اعتراضًا على أمر الله له بالسجود وتكَبُّرًا على آدم، فصار بذلك من الكافرين بالله تعالى.
٣٥ - وقلنا: يا آدم اسكن أنت وزوجك -حواء- الجنّة، وكُلا منها أكلًا هنيئًا واسعًا لا مُنَغِّص فيه، في أي مكان من الجنّة، وإياكما أن تقربا هذه الشجرة التي نهيتكما عن الأكل منها، فتكونا من الظالمين بعصيان ما أمرتكم به.
٣٦ - فلم يزل الشيطان يوسوس لهما ويزين؛ حتَّى أوقعهما في الزلل والخطيئة بالأكل من تلك الشجرة التي نهاهما الله عنها، فكان جزاؤهما أن أخرجهما الله من الجنّة التي كانا فيها، ، وقال الله لهما وللشيطان: انزلوا إلى الأرض، بعضكم أعداء بعض، ولكم في تلك الأرض استقرار وبقاء وتَمَتُّعٌ بما فيها من خيرات إلى أن تنتهي آجالكم، وتقوم الساعة.
٣٧ - فأخذ آدم ما ألقى الله اليه من كلمات، وألهمه الدعاء بهن، وهي المذكورة في قوله تعالى: ﴿قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف: ٢٣] فقبل الله توبته، وغفر له، فهو سبحانه كثير التوبة على عباده، رحيمٌ بهم.
x• الواجب على المؤمن إذا خفيت عليه حكمة الله في بعض خلقه وأَمْرِهِ أن يسلِّم لله في خلقه وأَمْرِهِ.
• رَفَعَ القرآن الكريم منزلة العلم، وجعله سببًا للتفضيل بين الخلق.
• الكِبْرُ هو رأس المعاصي، وأساس كل بلاء ينزل بالخلق، وهو أول معصية عُصِيَ الله بها.
٣٨ - قلنا لهم: انزلوا جميعًا من الجنّة إلى الأرض، فإن جاءتكم هداية على أيدي رسلي، فمن اتبعها وآمن برسلي فلا خوف عليهم في الآخرة، ولا هم يحزنون على ما فاتهم من الدنيا.
٣٩ - وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا؛ فأولئك هم أصحاب النار المقيمون فيها.
٤٠ - يا أبناء نبي الله يعقوب تذكروا نعم الله المتتالية عليكم واشكروها والتزموا بالوفاء بعهدي إليكم؛ من الإيمان بي وبرسلي، والعمل بشرائعي، فإن وفيتم به أوفيت بعهدي لكم فيما وعدتكم به؛ من الحياة الطيبة في الدنيا، والجزاء الحسن يوم القيامة، وإياي وحدي فخافوني ولا تنقضوا عهدي.
٤١ - وآمِنوا بالقرآن الذى أنزلته على محمد - ﷺ - مواففًا لما جاء في التوراة قبل تحريفها في شأن توحيد الله، ونبوة محمد - ﷺ -، واحذروا من أن تكونوا أول فريق يكفر به، ولا تستبدلوا بآياتي التي أنزلتها ثمنًا قليلًا من جاه ورئاسة، واتقوا غضبي وعذابي.
٤٢ - ولا تخلطوا الحق -الَّذي أنزلته على رسلي- بما تفترون من أكاذيب، ولا تكتموا الحق الَّذي جاء في كتبكم من صفة محمد - ﷺ -، مع علمكم به ويقينكم منه.
٤٣ - وأدّوا الصلاة تامة بأركانها وواجباتها وسننها، وأخرجوا زكاة أموالكم التي جعلها الله في أيديكم، واخضعوا لله مع الخاضعين له من أمة محمد - ﷺ -.
٤٤ - ما أقبح أن تأمروا غيركم بالإيمان وفعل الخير، وتُعرضوا أنتم عنه ناسين أنفسكم، وأنتم تقرؤون التوراة، عالِمين بما فيها من الأمر باتباع دين الله، وتصديق رسله، أفلا تنتفعون بعقولكم؟!
٤٥ - واطلبوا العون على كل أحوالكم الدينية والدنيوية؛ بالصبر وبالصلاة التي تقربكم إلى الله وتصلكم به، فيعينكم ويحفظكم ويذهب ما بكم من ضر، وإن الصلاة لشاقة وعظيمة إلا على الخاضعين لربهم.
٤٦ - وذلك لأنهم هم الذين يوقنون أنهم واردون على ربهم وملاقوه يوم القيامة، وأنهم إليه راجعون ليجازيهم على أعمالهم.
٤٧ - يا أبناء نبي الله يعقوب، اذكروا نعمي الدينية والدنيوية التي أنعمت بها عليكم، واذكروا أني فضَّلتكم على أهل زمانكم المعاصرين لكم بالنبوة والملك.
٤٨ - واجعلوا بينكم وبين عذاب يوم القيامة وقاية بفعل الأوامر وترك النواهي، ذلك اليوم الَّذي لا تغني فيه نفس عن نفس شيئًا، ولا تُقْبَلُ فيه شفاعة أحد بدفع ضر أو جلب نفع إلا بإذن من الله، ولا يؤخذ فداء ولو كان ملء الأرض ذهبًا، ولا ناصر لهم في ذلك اليوم، فإذا لم ينفع شافع ولا فداء ولا ناصر، فأين المفر؟!
x• من أعَظم الخذلان أن يأمر الإنسان غيره بالبر، وينسى نفسه.
• الصبر والصلاة من أعظم ما يعين العبد في شؤونه كلها.
• في يوم القيامة لا يَدْفَعُ العذابَ عن المرء الشفعاءُ ولا الفداءُ ولا ينفعه إلا عمله الصالح.
٤٩ - واذكروا يا بني إسرائيل حين أنقذناكم من أتباع فرعون الذين كانوا يذيقونكم أصناف العذاب؛ حيث يقتلون أبناءكم ذبحًا، حتَّى لا يكون لكم بقاء، ويتركون بناتكم أحياءً حتَّى يكن نساء ليخدمنهم؛ إمعانًا في إذلالكم وإهانتكم، وفي إنجائكم من بطش فرعون وأتباعه اختبار عظيم من ربكم؛ لعلكم تشكرون.
٥٠ - واذكروا من نعمنا عليكم أن شققنا لكم البحر فجعلناه طريقًا يابسًا تسيرون فيه، فأنجيناكم، وأغرقنا عدوكم فرعون وأتباعه أمام أعينكم وأنتم تنظرون إليهم.
٥١ - واذكروا من هذه النعم مواعدَتَنا موسى أربعين ليلةً لِيَتِمَّ فيها إنزال التوراة نورًا وهدى، ثم كان منكم إلا أن عبدتم العجل في تلك المدة، وأنتم ظالمون بفعلكم هذا.
٥٢ - ثم تجاوزنا عنكم بعد توبتكم، فلم نؤاخذكم لعلكم تشكرون الله بحسن عبادته وطاعته.
٥٣ - واذكروا من هذه النعم أن آتينا موسى عليه السلام التوراة فرقانًا بين الحق والباطل وتمييزًا بين الهدى والضلال لعلكم تهتدون بها إلى الحق.
٥٤ - واذكروا من هذه النعم أن وفقكم الله للتوبة من عبادة العجل، حيث قال موسى عليه السلام لكم: إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل إلهًا تعبدونه، فتوبوا وارجعوا إلى خالقكم ومُوجدكم، وذلك بأن يقتل بعضكم بعضًا؛ والتوبة على هذا النحو خير لكم من التمادي في الكفر المؤدي إلى الخلود في النار، فقمتم بذلك بتوفيق من الله وإعانة، فتاب عليكم؛ لأنه كثير التوبة رحيم بعباده.
٥٥ - واذكروا حين قال آباؤكم مخاطبين موسى عليه السلام بجرأة: لن نؤمن لك حتَّى نرى الله عِيَانًا لا يُحْجب عنّا، فأخذتكم النار المحرقة، فقتلتكم وبعضكم ينظر إلى بعض.
٥٦ - ثم أحييناكم بعد موتكم لعلكم تشكرون الله على إنعامه عليكم بذلك.
٥٧ - ومن نعمنا عليكم أن أرسلنا السحاب يظلكم من حر الشمس لمّا تُهْتُم في الأرض، وأنزلنا عليكم من نعمنا شرابًا حلوًا مثل العسل، وطائرًا صغيرًا طيب اللحم يشبه السُّمَانى، وقلنا لكم: كلوا من طيبات ما رزقناكم. وما نقصونا شيئًا بجحدهم هذه النعم وكفرانها، ولكن ظلموا أنفسهم بنقص حظها من الثواب وتعريضها للعقاب.
x• عِظَمُ نعم الله وكثرتها على بني إسرائيل، ومع هذا لم تزدهم إلا تكبُّرًا وعنادًا.
• سَعَةُ حِلم الله تعالى ورحمته بعباده، وإن عظمت ذنوبهم.
• الوحي هو الفَيْصَلُ بين الحق والباطل.
٥٨ - واذكروا من نعم الله عليكم حين قلنا لكم: ادخلوا بيت المقدس، وكلوا مما فيه من الطيبات من أي مكان شئتم أكلًا هنيئًا واسعًا، وكونوا في دخولكم راكعين خاضعين لله، واسألوا الله قائلين: ربنا حُطَّ عنا ذنوبنا؛ نستجب لكم، وسنزيد الذين أحسنوا في أعمالهم ثوابًا على إحسانهم.
٥٩ - فما كان من الذين ظلموا منهم إلا أن بدلوا العمل، وحرّفوا القول، فدخلوا يزحفون على أدبارهم، وقالوا: حَبَّة في شعرة، مستهزئين بأمر الله تعالى؛ فكان الجزاء أن أنزل الله على الظالمين منهم عذابًا من السماء بسبب خروجهم عن حد الشرع ومخالفة الأمر.
٦٠ - واذكروا من نعم الله عليكم لمّا كنتم في التِّيه، ونالكم العطش الشديد، فتضرّع موسى عليه السلام إلى ربه وسأله أن يسقيكم؛ فأمرناه أن يضرب بعصاه الحجر؛ فلما ضربه تفجرت منه اثنتا عشرة عينًا بعدد قبائلكم، وانبعث منها الماء، وبيّنا لكل قبيلة مكان شربها الخاص بها، حتَّى لا يقع نزاع بينهم، وقلنا لكم: كلوا واشربوا من رزق الله الَّذي ساقه إليكم بغير جهد منكم ولا عمل، ولا تسعوا في الأرض مفسدين فيها.
٦١ - واذكروا حين كفرتم نعمة ربكم فمَلِلْتُم من أكل ما أنزل الله عليكم من المَنِّ والسَّلْوى، وقلتم: لن نصبر على طعام واحد لا يتغير، فطلبتم من موسى عليه السلام أن يدعو الله أن يخرج لكم من نبات الأرض من بقولها وخُضَرها وقِثَّائها (يشبه الخيار لكنه أكبر) وحبوبها وعدسها وبصلها؛ طعامًا؛ فقال موسى عليه السلام- مستنكرًا طلبكم أن تستبدلوا الَّذي طلبتم وهو أقل وأدنى، بالمَنِّ والسَّلْوى وهو خير وأكرم، وقد كان يأتيكم دون عناء وتعب-: انزلوا من هذه الأرض إلى أي قرية، فستجدون ما سألتم في حقولها وأسواقها. وباتباعهم لأهوائهم وإعراضهم المتكرر عما اختاره الله لهم؛ لازمهم الهوان والفقر والبؤس، ورجعوا بغضب من الله؛ لإعراضهم عن دينه، وكفرهم بآياته، وقتلهم أنبياءه ظلمًا وعدوانًا؛ كل ذلك بسبب أنهم عصوا الله وكانوا يتجاوزون حدوده.
x• كل من يتلاعب بنصوص الشرع ويحرّفها فيه شَبَهٌ من اليهود، وهو مُتوعَّد بعقوبة الله تعالى.
• عِظَمُ فضل الله تعالى على بني إسرائيل، وفي مقابل ذلك شدة جحودهم وعنادهم وإعراضهم عن الله وشرعه.
• أن من شؤم المعاصي وتجاوز حدود الله تعالى ما ينزل بالمرء من الذل والهوان، وتسلط الأعداء عليه.
٦٢ - إن مَن آمن مِن هذه الأمة، وكذلك من آمن من الأمم الماضية قبل بعثة محمد - ﷺ - من يهود ونصارى وصابئة -وهم طائفة من أتباع بعض الأنبياء من تحقق فيهم الإيمان بالله وباليوم الآخر- فلهم ثوابهم عند ربهم، ولا خوف عليهم مما يستقبلونه في الآخرة، ولا يحزنون على ما فاتهم من الدنيا.
٦٣ - واذكروا ما أخذنا عليكم من العهد المؤكد، من الإيمان بالله ورسله، ورفعنا الجبل فوقكم تخويفًا لكم وتحذيرًا من ترك العمل بالعهد، آمرين لكم بأخذ ما أنزلنا عليكم من التوراة بجد واجتهاد، دون تهاون وكسل، واحفظوا ما فيه وتدبروه؛ لعلكم بفعل ذلك تتقون عذاب الله تعالى.
٦٤ - فما كان منكم إلا أن أعرضتم وعصبتم بعد أخذ العهد المؤكد عليكم، ولولا فضل الله عليكم بالتجاوز عنكم، ورحمته بقبول توبتكم؛ لكنتم من الخاسرين بسبب ذلك الإعراض والعصيان.
٦٥ - ولقد علمتم خبر أسلافكم علمًا لا لبس فيه؛ حيث اعتدوا بالصيد يوم السبت الَّذي حُرِّم عليهم الصيد فيه، فاحتالوا على ذلك بنصب الشباك قبل يوم السبت، واستخراجها يوم الأحد؛ فجعل الله هؤلاء المتحايلين قردة منبوذين عقوبة لهم على تحايلهم.
٦٦ - فجعلنا هذه القرية المعتدية عبرة لما جاورها من القرى، وعبرة لمن يأتي بعدها؛ حتَّى لا يعمل بعملها فيستحق عقوبتها، وجعلناها تذكرة للمتقين الذين يخافون عقاب الله وانتقامه مِمَّن يتعدى حدوده.
٦٧ - واذكروا من خبر أسلافكم ما جرى بينهم وبين موسى عليه السلام، حيث أخبرهم بأمر الله لهم أن يذبحوا بقرة من البقر، فبدلًا من المسارعة قالوا مُتَعنِّتِين: أتجعلنا موضعًا للاستهزاء! فقال موسى: أعوذ بالله أن أكون من الذين يَكْذِبُون على الله، ويستهزئون بالناس.
٦٨ - قالوا لموسى: ادعُ لنا ربك حتَّى يبين لنا صفة البقرة التي أَمَرَنا بذبحها، فقال لهم: إن الله يقول: إنها بقرة ليست كبيرة السن ولا صغيرة، ولكن وسط بين ذلك، فبادِروا بامتثال أمر ربكم.
٦٩ - فاستمروا في جدالهم وتعنُّتهم قائلين لموسى عليه السلام: ادعُ ربك حتى يبين لنا ما لونها، فقال لهم موسى: إن الله يقول: إنها بقرة صفراء شديدة الصُّفْرة، تُعجب كل من ينظر إليها.
x• الحُكم المذكور في الآية الأولى لِمَا قبل بعثة النبي - ﷺ -، وأما بعد بعثته فإن الدين المَرْضِيَّ عند الله هو الإسلام، لا يقبل غيره، كما قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ [آل عمران: ٨٥].
• قد يُعَجِّلُ الله العقوبة على بعض المعاصي في الدنيا قبل الآخرة؛ لتكون تذكرة يتعظ بها الناس فيحذروا مخالفة أمر الله تعالى.
• أنّ من ضيَّق على نفسه وشدّد عليها فيما ورد موسَّعًا في الشريعة، قد يُعاقَبُ بالتشديد عليه.
٧٠ - ثم تمادوا في تعنُّتهم قائلين: ادعُ لنا ربك حتَّى يبين لنا مزيدًا من صفاتها؛ لأن البقر المتصف بالصفات المذكورة كثير لا نستطيع تعيينها من بينها. مؤكدين أنهم -إن شاء الله- مهتدون إلى البقرة المطلوب ذبحها.
٧١ - فقال لهم موسى: إن الله يقول: إن صفة هذه البقرة أنها غير مذلّلة بالعمل في الحراثة، ولا في سقاية الأرض، وهي سالمة من العيوب، ليس فيها علامة من لون آخر غير لونها الأصفر، وعندئذ قالوا: الآن جئت بالوصف الدقيق الَّذي يعيِّن البقرة تمامًا، وذبحوها بعد أن أوشكوا ألا يذبحوها بسبب الجدال والتعنت.
٧٢ - واذكروا حين قتلتم واحدًا منكم فتدافعتم، كلٌّ يدفع عن نفسه تهمة القتل، ويرمي بها غيره، حتَّى تنازعتم، والله مُخرج ما كنتم تخفونه من قتل ذلك البريء.
٧٣ - فقلنا لكم: اضربوا القتيل بجزء من البقرة التي أُمِرْتم بذبحها؛ فإن الله سيُحييه ليخبر مَن القاتل! ففعلوا ذلك فأخبر بقاتله. ومثل إحياء هذا الميت يحيي الله الموتى يوم القيامة، ويريكم الدلائل البينة على قدرته، لعلكم تعقلونها فتؤمنون حقًّا بالله تعالى.
٧٤ - ثم قست قلوبكم من بعد هذه المواعظ البليغة والمعجزات الباهرة، حتَّى صارت مثل الحجارة، بل أشد صلابة منها؛ فهي لا تتحول عن حالها أبدًا، وأما الحجارة فتتغير وتتحول، فإن من الحجارة ما يتفجر منه الأنهار، وإن منها لما يتشفق فيخرج منه الماء ينابيع جارية في الأرض، ينتفع بها الناس والدواب، ومنها ما يسقط من أعالي الجبال خشية من الله ورهبة، وليست كذلك قلوبكم، وما الله بغافل عما تعملون، بل هو عالم به، وسيجازيكم عليه.
٧٥ - أفترجون -أيها المؤمنون- بعد أن علمتم حقيقة حال اليهود وعنادهم أن يؤمنوا، ويستجيبوا لكم؟! وقد كان جماعة من علمائهم يسمعون كلام الله المنزل عليهم في التوراة؛ ثم يغيِّرون ألفاظها ومعانيها بعد فهمهم لها ومعرفتهم بها، وهم يعلمون عِظَم جريمتهم.
٧٦ - من تناقضات اليهود ومكرهم أنهم إذا لقي بعضُهم المؤمنين اعترفوا لهم بصدق النبي محمد - ﷺ - وصحة رسالته وهو ما تشهد له التوراة، ولكن حين يخلو اليهود بعضهم ببعض يتلاومون فيما بينهم بسبب هذه الاعترافات؛ لأن المسلمين يقيمون عليهم بها الحجة فيما صدر عنهم من الاعتراف بصدق النبوة.
x• أن بعض قلوب العباد أشد قسوة من الحجارة الصلبة؛ فلا تلين لموعظة، ولا ترق لذكرى.
• أن الدلائل والبينات -وإن عظمت- لا تنفع إن لم يكن القلب مستسلمًا خاشعًا لله.
• كشفت الآيات حقيقة ما انطوت عليه أنفس اليهود، حيث توارثوا الرعونة والخداع والتلاعب بالدين.
٧٧ - هؤلاء اليهود يسلكون هذا المسلك المَشِين وكأنهم يغفُلون عن أن الله يعلم ما يخفون من أقوالهم وأفعالهم وما يعلنون منها، وسيظهرها لعباده ويفضحهم.
٧٨ - ومن اليهود طائفة، لا يعلمون التوراة إلا تلاوة، ولا يفهمون ما دلت عليه، وليس معهم إلا أكاذيب أخذوها من كبرائهم، يظنون أنها التوراة التي أنزلها الله.
٧٩ - فهلاك وعذاب شديد ينتظر هؤلاء الذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون -كذبًا-: هذا من عند الله؛ ليستبدلوا بالحق واتباع الهدى ثمنًا زهيدًا في الدنيا، مثل المال والرئاسة، فهلاك وعذاب شديد لهم على ما كتبته أيديهم مما يَكْذِبون به على الله، وهلاك وعذاب شديد لهم على ما يكسبونه من وراء ذلك من مال ورئاسة.
٨٠ - وقالوا -كذبًا وغرورًا-: لن تمسَّنا النار ولن ندخلها إلا أيامًا قليلة، قل -أيها النبي- لهؤلاء: هل أخذنم على ذلك وعدًا مؤكدًا من الله؟ فإن كان لكم ذلك؛ فإن الله لا يخلف عهده، أم أنكم تقولون على الله -كذبًا وزورًا- ما لا تعلمون؟
٨١ - ليس الأمر كما يتوهم هؤلاء؛ فإن الله يعذب كل من كسب سيئة الكفر، وأحاطت به ذنوبه من كل جانب؛ ويجازيهم بدخول النار وملازمتها، ماكثين فيها أبدًا.
٨٢ - والذين آمنوا بالله ورسوله، وعملوا الأعمال الصالحة، ثوابهم عند الله دخول الجنّة وملازمتها، ماكثين فيها أبدًا.
٨٣ - واذكروا -يا بني إسرائيل- العهد المؤكد الَّذي أخذناه عليكم، بأن توحِّدوا الله ولا تعبدوا معه غيره، وبأن تحسنوا إلى الوالدين والأقارب واليتامى والمساكين المحتاجين، وبأن تقولوا للناس كلامًا حسنًا، أمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر بلا غلظة وشدة، وبأن تؤدوا الصلاة تامة على نحو ما أمرتكم، وبأن تؤتوا الزكاة بصرفها لمستحقيها طيّبة بها أنفسكم، فما كان منكم بعد هذا العهد إلا أن انصرفتم مُعرضين عن الوفاء بما أخذ عليكم.
x• بعض أهل الكتاب يدّعي العلم بما أنزل الله، والحقيقة أن لا علم له بما أنزل الله، وإنما هو الوهم والجهل.
• من أعظم الناس إثمًا من يكذب على الله تعالى ورسله، فينسب إليهم ما لم يكن منهم.
• مع عظم المواثيق التي أخذها الله تعالى على اليهود وشدة التأكيد عليها، لم يزدهم ذلك إلا إعراضًا عنها ورفضًا لها.
٨٤ - واذكروا العهد المؤكد الَّذي أخذناه عليكم في التوراة من تحريم إراقة بعضكم دماء بعض، وتحريم إخراج بعضكم بعضًا من ديارهم، ثم اعترفتم بما أخذناه عليكم من عهد بذلك، وأنتم تشهدون على صحته.
٨٥ - ثم أنتم تخالفون هذا العهد؛ فيقتل بعضكم بعضًا، وتخرجون فريقًا منكم من ديارهم مستعينين عليهم بالأعداء ظلمًا وعدوانًا، وإذا جاؤوكم أسرى في أيدي الأعداء سعيتم في دفع الفدية لتخليصهم من أسرهم، مع أن إخراجهم من ديارهم محرَّم عليكم، فكيف تؤمنون ببعض ما في التوراة من وجوب فداء الأسرى، وتكفرون ببعض ما فيها من صيانة الدماء ومنع إخراج بعضكم بعضًا من ديارهم؟! فليس للذي يفعل ذلك منكم جزاء إلا الذل والمهانة في الحياة الدنيا، وأما في الآخرة فإنه يُرَدّ إلى أشد العذاب، وليس الله بغافل عما تعملون، بل هو مطلع عليه، وسيجازيكم به.
٨٦ - أولئك الذين استبدلوا الحياة الدنيا بالآخرة، إيثارًا للفاني على الباقي، فلا يُخَفف عنهم العذاب في الآخرة، وليس لهم ناصر ينصرهم يومئذ.
٨٧ - ولقد آتينا موسى التوراة، وأتبعناه برسل من بعده على أثره، وآتينا عيسى بن مريم الآيات الواضحة المبيِّنةَ لصدقه؛ كإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، وقويناه بالملَكِ جبريل عليه السلام، أفكلما جاءكم -يا بني إسرائيل- رسول من عند الله بما لا يوافق أهواءكم استكبرتم على الحق، وتعاليتم على رسل الله؛ ففريقًا منهم تكذِّبون، وفريقًا تقتلون؟!
٨٨ - لقد كانت حجة اليهود في عدم اتباع محمد - ﷺ - قولهم: إن قلوبنا مُغَلّفة لا يصل اليها شيء مما تقول ولا تفهمه، وليس الحال كما زعموا، بل طرَدَهم الله من رحمته بكفرهم فلا يؤمنون إلا بقليل مما أنزل الله.
x• من أعظم الكفر: الإيمان ببعض ما أنزل الله والكفر ببعضه؛ لأن فاعل ذلك قد جعل إلهه هواه.
• عِظَم ما بلغه اليهود من العناد، واتباع الهوى، والتلاعب بما أنزل الله تعالى.
• فضل الله تعالى ورحمته بخلقه، حيث تابع عليهم إرسال الرسل وإنزال الكتب لهدايتهم للرشاد.
• أن الله يعاقب المعرضين عن الهدى المعاندين لأوامره بالطبع على قلوبهم وطردهم من رحمته؛ فلا يهتدون إلى الحق، ولا يعملون به.
٨٩ - ولما جاءهم القرآن الكريم من عند الله وهو موافق لما في التوراة والإنجيل في الأصول العامة الصحيحة، وكانوا من قبل نزوله يقولون: سننتصر على المشركين ويُفْتح لنا حين يُبْعث نبي فنؤمن به ونتبعه، فلما جاءهم القرآن ومحمد - ﷺ - على الصفة التي عرفوها والحق الَّذي علموه؛ كفروا به، فلعنة الله على الكافرين بالله ورسوله.
٩٠ - بئس الَّذي استبدلوا به حظ أنفسهم من الإيمان بالله ورسله؛ فكفروا بما أنزل الله وكذبوا رسله، ظلمًا وحسدًا بسبب إنزال النبوة والقرآن على محمد - ﷺ -، فاستحقوا غضبًا مضاعفًا من الله تعالى بكفرهم بمحمد - ﷺ -، وبسبب تحريفهم التوراة من قبل. وللكافرين بنبوة محمد - ﷺ - عذاب مُذِلٌّ يوم القيامة.
٩١ - وإذا قيل لهؤلاء اليهود: آمنوا بما أنزل الله على رسوله من الحق والهدى، قالوا: نؤمن بما أُنزل على أنبيائنا، ويكفرون بما سواه مما أُنزل على محمد - ﷺ -، مع أن هذا القرآن هو الحق الموافق لما معهم من الله، ولو كانوا يؤمنون بما أُنزل عليهم حقًّا لآمنوا بالقرآن. قل -أيها النبي- جوابًا لهم: لِمَ تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين حقًّا بما جاؤوكم به من الحق؟!
٩٢ - ولقد جاءكم رسولكم موسى عليه السلام بالآيات الواضحات الدالة على صدقه؛ ثم بعد ذلك جعلتم العجل إلهًا تعبدونه بعد ذهاب موسى لميقات ربه، وأنتم ظالمون لإشراككم بالله، وهو المستحق للعبادة وحده دون سواه.
٩٣ - واذكروا حين أخذنا عليكم عهدًا مؤكدًا باتباع موسى عليه السلام، وقبول ما جاء به من عند الله، ورفعنا فوقكم الجبل تخويفًا لكم، وقلنا لكم: خذوا ما آتيناكم من التوراة بجد واجتهاد، واسمعوا سماع قبول وانقياد، وإلا أسقطنا الجبل عليكم، فقلتم: سمعنا بآذاننا وعصينا بأفعالنا، وتمكنت عبادة العجل في قلوبهم بسبب كفرهم.
قل -أيها النبي-: بئس الَّذي يأمركم به هذا الإيمان من الكفر بالله إن كنتم مؤمنين؛ لأن الإيمان الحق لا يكون معه كفر.
x• اليهود أعظم الناس حسدًا؛ إذ حملهم حسدهم على الكفر بالله وردِّ ما أنزل، بسبب أن الرسول - ﷺ - لم يكن منهم.
• أن الإيمان الحق بالله تعالى يوجب التصديق بكل ما أَنزل من كتب، وبجميع ما أرسل من رسل.
• من أعظم الظلم الإعراض عن الحق والهدى بعد معرفته وقيام الأدلة عليه.
• من عادة اليهود نقض العهود والمواثيق، وهذا ديدنهم إلى اليوم.
٩٤ - قل -أيها النبي-: إن كانت لكم -يا يهود- الجنّة في الدار الآخرة خالصة لا يدخلها غيركم من الناس؛ فتمنوا الموت واطلبوه؛ لتنالوا هذه المنزلة بسرعة، وتستريحوا من أعباء الحياة الدنيا وهمومها، إن كنتم صادقين في دعواكم هذه.
٩٥ - ولن يتمنوا الموت أبدًا؛ بسبب ما قدموه في حياتهم من الكفر بالله، وتكذيب رسله، وتحريف كتبه، والله عليم بالظالمين منهم ومن غيرهم، وسيجازي كلًّا بعمله.
٩٦ - ولتَجِدَنَّ -أيها النبي- اليهودَ أشدَّ الناس حرصًا عَلى الحياة مهما كانت حقيرة ذليلة، بل هم أحرص من المشركين الذين لا يؤمنون بالبعث والحساب، ومع كونهم أهلَ كتاب، ويؤمنون بالبعث والحساب؛ فإن الواحد منهم يحب أن يبلغ عمره ألف سنة، وليس بمُبْعِدِه عن عذاب الله طول عمره مهما بلغ، والله مطَّلع على أعمالهم بصير بها، لا يخفى عليه منها شيء، وسيجازيهم بها.
٩٧ - قل -أيها النبي- لمن قال من اليهود: "إن جبريل عدونا من الملائكة": من كان معاديًا لجبريل فإنه هو الَّذي نَزَلَ بالقرآن على قلبك بإذن من الله، مصدقًا لما سبق من الكتب الإلهية؛ كالتوراة والإنجيل، ودالًّا على الخير، ومبشرًا للمؤمنين بما أعده الله لهم من النعيم، فمن كان معاديًا لمن هذه صفته وعمله فهو من الضالين.
٩٨ - من كان معاديًا لله وملائكته ورسله، ومعاديًا للمَلَكين المُقَرّبَيْن: جبريل وميكائيل؛ فإن الله عدو للكافرين منكم ومن غيركم، ومن كان الله عدوه فقد عاد بالخسران المبين.
٩٩ - ولقد أنزلنا إليك -أيها النبي- علامات واضحات على صدقك فيما جئت به من النبوة والوحي، وما يكفر بها مع وضوحها وبيانها إلا الخارجون عن دين الله.
١٠٠ - ومن سوء حال اليهود أنهم كلما أخذوا على أنفسهم عهدًا -ومن جملته الإيمان بما دلت عليه التوراة من نبوة محمد - ﷺ - نقضه فريق منهم، بل أكثر هؤلاء اليهود لا يؤمنون بما أنزل الله تعالى حقيقة؛ لأن الإيمان يحمل على الوفاء بالعهد.
١٠١ - ولما جاءهم محمد - ﷺ - رسولًا من عند الله وهو موافق لما في التوراة من صفته، أعرض فريق منهم عما دلت عليه، وطرحوها وراء ظهورهم غير مبالين بها، مشابهين حال الجاهل الَّذي لا ينتفع بما فيها من الحق والهدى، فلا يبالي بها.
x• المؤمن الحق يرجو ما عند الله من النعيم المقيم، ولهذا يفرح بلقاء الله ولا يخشى الموت.
• حِرص اليهود على الحياة الدنيا حتَّى لو كانت حياة حقيرة مهينة غير كريمة.
• أنّ من عادى أولياء الله المقربين منه فقد عادى الله تعالى.
• إعراض اليهود عن نبوة محمد - ﷺ - بعدما عرفوا تصديقه لما في أيديهم من الكتب.
• أنّ من لم ينتفع بعلمه صح أن يوصف بالجهل؛ لأنه شابه الجاهل في جهله.
١٠٢ - ولما تركوا دين الله اتبعوا بدلًا عنه ما تَتَقَوَّلُهُ الشياطين كذبًا على مُلك نبي الله سليمان عليه السلام، حيث زعمت أنَّه ثَبّت ملكه بالسحر، وما كفر سليمان بتعاطي السحر -كما زعمت اليهود- ولكن الشياطين كفروا حيث كانوا يعلمون الناس السحر، ويعلمونهم السحر الَّذي أُنزل على الملَكين: هاروت وماروت، بمدينة بابل بالعراق، امتحانًا وابتلاء للناس، وما كان هذان الملكان يُعَلِّمان أيّ أحد السحر حتَّى يحذّراه ويبيِّنا له بقولهما: إنما نحن ابتلاء وامتحان للناس فلا تكفر بتعلمك السحر، فمن لم يقبل نصحهما تعلَّم منهما السحر، ومنه نوع يفرق بين الرجل وزوجته، بزرع البغضاء بينهما، وما يضر أولئك السحرة أيَّ أحد إلا بإذن الله ومشيئته، ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم، ولقد علم أولئك اليهود أن من استبدل السحر بكتاب الله ما له في الآخرة من حظ ولا نصيب، ولبئس ما باعوا به أنفسهم حيث استبدلوا السحر بوحي الله وشرعه، ولو كانوا يعلمون ما ينفعهم ما أقدموا على هذا العمل المَشِين والضلال المبين.
١٠٣ - ولو أن اليهود آمنوا بالله حقًّا، واتقوه بفعل طاعته وترك معصيته؛ لكان ثواب الله خيرًا لهم مما هم عليه، لو كانوا يعلمون ما ينفعهم.
١٠٤ - يوجه الله تعالى المؤمنين إلى حسن اختيار الألفاظ قائلًا لهم: يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا كلمة: ﴿رَاعِنَا﴾؛ أي: راع أحوالنا؛ لأن اليهود يحرفونها ويخاطبون بها النبي - ﷺ -، يقصدون بها معنًى فاسدًا وهو الرعونة، فنهى الله عن هذه الكلمة سدًّا لهذا الباب، وأمر عباده أن يقولوا بدلًا عنها: ﴿انْظُرْنَا﴾؛ أي: انتظرنا نفهم عنك ما تقول، وهي كلمة تؤدي المعنى بلا محذور. وللكافرين بالله عذاب مؤلم موجع.
١٠٥ - ما يحب الكفار -أيًّا كانوا: أهل كتاب أو مشركين- أن يُنَزَّلَ عليكم أيّ خير من ربكم، قليلًا كان أو كثيرًا، والله يختص برحمته من النبوة والوحي والإيمان من يشاء من عباده، والله صاحب الفضل العظيم، فلا خيرَ ينالُ أحدًا من الخلق إلا منه، ومن فضله بَعْثُ الرسول وإنزالُ الكتاب.
x• سوء أدب اليهود مع أنبياء الله حيث نسبوا إلى سليمان عليه السلام تعاطي السحر، فبرّأه الله منه، وأَكْذَبَهم في زعمهم.
• أن السحر له حقيقة وتأثير في العقول والأبدان، والساحر كافر، وحكمه القتل.
• لا يقع في ملك الله تعالى شيء من الخير والشر إلا بإذنه وعلمه تعالى.
• سد الذرائع من مقاصد الشريعة، فكل قول أو فعل يوهم أمورًا فاسدة يجب تجنبه والبعد عنه.
• أن الفضل بيد الله تعالى وهو الَّذي يختص به من يشاء برحمته وحكمته.
١٠٦ - يبين الله تعالى أنَّه حين يرفع حكم آية من القرآن أو يرفع لفظها فبنساها الناس، فإنه سبحانه يأتي بما هو أنفع منها في العاجل والآجل، أو بما هو مماثل لها، وذلك بعلم الله وحكمته، وأنت تعلم -أيها النبي- أن الله على كل شيء قدير، فيفعل ما يشاء، وَيحْكُمُ ما يريد.
١٠٧ - قد علمت -أيها النبي- أن الله هو مالك السماوات والأرض، يحكم ما يريد، فيأمر عباده بما شاء، وينهاهم عما شاء، ويُقرِّر من الشرع ما شاء وينسخ ما شاء، وما لكم بعد الله من ولي يتولى أموركم، ولا نصير يدفع عنكم الضر، بل الله هو ولي ذلك كله والقادر عليه.
١٠٨ - ليس من شأنكم -أيها المؤمنون- أن تسألوا رسولكم -سؤال اعتراض وتعَنُّت- كما سأل قوم موسى نبيهم من قبل؛ كقولهم: ﴿أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً﴾ [النساء: ١٥٣] ومن يستبدل الكفر بالإيمان فقد ضل عن الطريق الوسط الَّذي هو الصراط المستقيم.
١٠٩ - تمنى كثير من اليهود والنصارى أن يردوكم من بعد إيمانكم كفارًا كما كنتم تعبدون الأوثان، بسبب الحسد الَّذي في أنفسهم، يتمنون ذلك بعدما تبين لهم أن الَّذي جاء به النبي حق من الله، فاعفوا -أيها المؤمنون- عن أفعالهم، وتجاوزوا عن جهلهم وسوء ما في نفوسهم، حتَّى يأتي حكم الله فيهم -وقد أتى أمر الله هذا وحكمه، فكان الكافر يخيَّر بين الإسلام أو دفع الجزية أو القتال- إن الله على كل شيء قدير، فلا يعجزونه.
ثم بعد أمر الله تعالى المؤمنين بالصبر على الأذى أمرهم بالثبات على دينهم، وتقوية إيمانهم؛ فقال:
١١٠ - أدّوا الصلاة تامة بأركانها وواجباتها وسننها، وأخرجوا زكاة أموالكم إلى مستحقيها، ومهما تعملوا من عمل صالح في حياتكم، فتقدموه قبل مماتكم ذخرًا لأنفسكم؛ تجدوا ثوابه عند ربكم يوم القيامة، فيجازيكم به، إن الله بما تعملون بصير فيجازي كلا بعمله.
١١١ - وقالت كل طائفة من اليهود والنصارى: إن الجنّة خاصة بهم، فقال اليهود: لن يدخلها إلا من كان يهوديًّا، وقال النصارى: لن يدخلها إلا من كان نصرانيًّا، تلك أمنياتهم الباطلة وأوهامهم الفاسدة، قل -أيها النبي- رادًّا عليهم: هاتوا حجتكم على ما تزعمون إن كنتم صادقين حقًّا في دعواكم.
١١٢ - إنما يدخل الجنّة كل من أخلص لله متوجهًا إليه، وهو -مع إخلاصه- محسن في عبادته باتباع ما جاء به الرسول فذاك الَّذي يدخل الجنّة من أي طائفة كان، وله ثوابه عند ربه، ولا خوف عليهم فيما يستقبلون من الآخرة، ولا هم يحزنون على ما فاتهم من الدنيا. وهي أوصاف لا تتحقق بعد مجيء النبي محمد - ﷺ - إلّا في المسلمين.
x• أن الأمر كله لله، فيبدل ما يشاء من أحكامه وشرائعه، ويبقي ما يشاء منها، وكل ذلك بعلمه وحكمته.
• حَسَدُ كثير من أهل الكتاب هذه الأمة، لما خصَّها الله من الإيمان واتباع الرسول، حتَّى تمنوا رجوعها إلى الكفر كما كانت.
١١٣ - وقالت اليهود: ليست النصارى على دين صحيح، وقالت النصارى: ليست اليهود على دين صحيح، وهم جميعًا يقرؤون الكتب التي أنزلها الله عليهم وما فيها من الأمر بالإيمان بكل الأنبياء دون تفريق، مشابهين في فعلهم هذا قول الذين لا يعلمون من المشركين؛ حين كذَّبوا بالرسل كلهم وبما أُنزل عليهم من الكتب، فلهذا يحكم الله بين المُختَلِفين جميعًا يوم القيامة، بحكمه العدل الذي أخبر به عباده: بأنه لا فوز إلا بالإيمان بكل ما أنزل الله تعالى.
١١٤ - لا أحد أشدّ ظلمًا من الَّذي منع أن يذكر اسم الله في مساجده، فَمَنَعَ الصلاة والذكر وتلاوة القرآن فيها، وسعى جاهدًا متسبّبًا في خرابها وإفسادها؛ بهدمها أو المنع من أداء العبادة فيها، أولئك الساعون في خرابها ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله إلا خائفين ترجف أفئدتهم؛ لما هم عليه من الكفر والصد عن مساجد الله، لهم في الحياة الدنيا ذل وهوان على أيدي المؤمنين، ولهم في الآخرة عذاب عظيم على منعهم الناس من مساجد الله.
١١٥ - ولله ملك المشرق والمغرب وما بينهما، يَأمُر عباده بما شاء، فحيثما تتوجهون فإنكم تستقبلون الله تعالى، فإنْ أمركم باستقبال بيت المقدس أو الكعبة، أو أخطأتم في القبلة، أو شق عليكم استقبالها؛ فلا حرج عليكم؛ لأن الجهات كلها لله تعالى، إن الله واسع يسع خلقه برحمته وتيسيره، عليم بنياتهم وأفعالهم.
١١٦ - وقال اليهود والنصارى والمشركون: اتخذ الله له ولدًا! تنزّه وتقدّس عن ذلك، فهو الغني عن خلقه، وإنما يتخذ الولد من يحتاج إليه، بل له سبحانه وتعالى: ملك ما في السماوات والأرض، كل الخلائق عبيد له سبحانه، خاضعون له، يتصرف فيهم بما يشاء.
١١٧ - والله سبحانه مُنشئ السماوات والأرض وما فيهما على غير مثال سابق، وإذا قدّر أمرًا وأراده فإنما يقول لذلك الأمر: ﴿كُن﴾؛ فيكون على ما أراد الله أن يكون، لا رادَّ لأمره وقضائه.
١١٨ - وقال الذين لا يعلمون من أهل الكتاب والمشركين عنادًا للحق: لِمَ لا يكلمنا الله دون واسطة، أو تأتينا علامة حسية خاصة بنا؟ ومثل قولهم هذا قالت الأمم المكذبة من قبلُ لرسلها، وإن اختلفت أزمنتهم وأمكنتهم، قد أوضحنا الآيات لقوم يوقنون بالحق إذا ظهر لهم، لا يعتريهم شك، ولا يمنعهم عناد.
١١٩ - إنا أرسلناك -أيها النبي- بالدين الحق الَّذي لا مرية فيه؛ لتبشر المؤمنين بالجنّة، وتنذر الكافرين بالنار، وليس عليك إلا البلاغ المبين، ولن يسألك الله عن الذين لم يؤمنوا بك من أصحاب الجحيم.
x• الكفر ملة واحدة وإن اختلفت أجناس أهله وأماكنهم، فهم يتشابهون في كفرهم وقولهم على الله بغير علم.
• أعظم الناس جُرْمًا وأشدهم إثمًا من يصد عن سبيل الله، ويمنع من أراد فعل الخير.
• تنزه الله تعالى عن الصاحبة والولد، فهو سبحانه لا يحتاج لخلقه.
١٢٠ - يخاطب الله نبيه موجهًا محذرًا قائلًا له: لن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتَّى تترك الإسلام، وتتبع ما هم عليه، ولئن حصل هذا منك أو من أحد من أتباعك بعد الَّذي جاءك من الحق الواضح فلن تجد من الله مناصرة أو معونة، وهذا من باب بيان خطورة ترك الحق ومجاراة أهل الباطل.
١٢١ - يتحدث القرآن الكريم عن طائفة من أهل الكتاب يعملون بما في أيديهم من كتب منزلة ويتبعونها حقَّ اتباعها، هؤلاء يجدون في هذه الكتب علامات دالة على صدق النبي محمد - ﷺ - ولهذا سارعوا إلى الإيمان به، وطائفة أخرى أصرت على كفرها فكان لها الخسران.
١٢٢ - يا بني إسرائيل، اذكروا نعمتي الدينية والدنيوية التي أنعمت بها عليكم، واذكروا أني فضلتكم على أهل زمانكم بالنبوة والملك.
١٢٣ - واجعلوا بينكم وبين عذاب يوم القيامة وقايةً؛ باتباع أوامر الله واجتناب نواهيه، فإنه لا تُغْنِي -في ذلك اليوم- نفسٌ عن نفس شيئًا، ولا يُقْبل منها فيه أي فداء مهما عظم، ولا تنفعها فيه شفاعة من أحد مهما علا مكانه، وليس لها نصير ينصرها من دون الله.
١٢٤ - واذكر حين اختبر الله إبراهيم عليه السلام بما أمره به من أحكام وتكاليف، فقام بها وأتم أداءها على أكمل وجه، قال الله لنبيه إبراهيم: إني جاعلك للناس قدوة يُقْتدَى بك في أفعالك وأخلاقك، قال إبراهيم: واجعل -يا رب- من ذريتي كذلك أئمة يقتدي بهم الناس، قال الله مجيبًا إياه: لا ينال عهدي لك بالإمامة في الدين الظالمين من ذريتك.
١٢٥ - واذكر حين جعل الله البيت الحرام مرجعًا للناس تتعلق به قلوبهم، كلما رحلوا عنه رجعوا إليه، وجعله أمنًا لهم، لا يُعتَدى عليهم فيه. وقال للناس: اتخذوا من الحَجَر -الَّذي كان يقف عليه إبراهيم وهو يبني الكعبة- مكانًا للصلاة. وأوصينا إبراهيم وابنه إسماعيل بتطهير البيت الحرام من الأقذار والأوثان وتهيئته لمن أراد التعبد فيه بالطواف والاعتكاف والصلاة وغيرها.
١٢٦ - واذكر -أيها النبي- حين قال إبراهيم وهو يدعو ربه: رب اجعل مكة بلدًا آمنًا، لا يُتعرض فيه لأحد بسوء، وارزق أهله من أنواع الثمرات، واجعله رزقًا خاصًّا بالمؤمنين بك وباليوم الآخر، قال الله: ومن كفر منهم فإني أمتعه بما أرزقه في الدنيا متاعًا قليلًا، ثم في الآخرة ألجِئه مُكرهًا إلى عذاب النار، وبئس المصير الَّذي يرجع إليه يوم القيامة.
x• أن المسلمين مهما فعلوا من خير لليهود والنصارى؛ فلن يرضوا حتَّى يُخرجوهم من دينهم، ويتابعوهم على ضلالهم.
• الإمامة في الدين لا تُنَال إلا بصحة اليقين والصبر على القيام بأمر الله تعالى.
• بركة دعوة إبراهيم عليه السلام للبلد الحرام، حيث جعله الله مكانًا آمنًا للناس، وتفضّل على أهله بأنواع الأرزاق.
١٢٧ - واذكر -أيها النبي- حين كان يرفع إبراهيم وإسماعيل أسس الكعبة، وهما يقولان -في خضوع وتذلل-: ربنا تقبل منا أعمالنا -ومنها بناء هذا البيت- إنك أنت المجيب لدعائنا، العليم بنياتنا وأعمالنا.
١٢٨ - ربنا واجعلنا مُستَسلِمَين لأمرك، خاضعَين لك، لا نشرك معك أحدًا، واجعل من ذريتنا أمة مستسلمة لك، وعرِّفنا عبادتك كيف تكون، وتجاوز عن سيئاتنا وتقصيرنا في طاعتك؛ إنك أنت التواب على من تاب من عبادك، الرحيم بهم.
١٢٩ - ربنا وابعث فيهم رسولًا منهم من ذرية إسماعيل، يتلو عليهم آياتك المنزلة، ويعلمهم القرآن والسُّنَّة، ويطهرهم من الشرك والرذائل؛ إنك أنت القوي الغالب، الحكيم في أفعالك وأحكامك.
١٣٠ - ولا أحد ينصرف عن دين إبراهيم عليه السلام إلى غيره من الأديان إلا من ظلم نفسه بسفهه وسوء تدبيره بتركه الحق إلى الضلال، ورضي لها بالهوان. ولقد اخترناه في الدنيا رسولًا وخليلًا، وإنه في الآخرة لمن الصالحين الذين أدوا ما أوجب الله عليهم، فنالوا أعلى الدرجات.
١٣١ - اختاره الله لمسارعته إلى الإسلام حين قال له ربه: أخلص لي العبادة، واخضع لي بالطاعة، فقال مجيبًا ربه: أسلمت لله خالق العباد ورازقهم ومدبر شؤونهم.
١٣٢ - ووصّى إبراهيمُ أبناءه بهذه الكلمة: ﴿أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، ووصّى بها كذلك يعقوبُ أبناءه؛ قالا مناديين أبناءهما: إن الله اختار لكم دين الإسلام، فاستمسكوا به حتَّى يأتيكم الموت، وأنتم مسلمون لله ظاهرًا وباطنًا.
١٣٣ - أم كنتم حاضرين خبر يعقوب حين حضرته الوفاة، حين قال لأبنائه سائلًا إياهم: ما تعبدون من بعد موتي؟ قالوا جوابًا لسؤاله: نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، إلهًا واحدًا لا شريك له، ونحن له وحده مستسلمون ومنقادون.
١٣٤ - تلك أمة قد مضت فيمن مضى قبلكم من الأمم، وأفضت إلى ما قدمت من عمل، فلها ما كسبت من حَسن أو سيئ ولكم ما كسبتم، ولا تُسْألون عن أعمالهم، ولا يُسْألون عن أعمالكم، ولا يؤاخَذ أحدٌ بذنب غيره، بل يُجازَى كل واحد بما قدم، فلا يشغلكم عمل من مضى قبلكم عن النظر في عملكم، فإن أحدًا لن ينفعه بعد رحمة الله غير عمله الصالح.
x• المؤمن المتقي لا يغتر بأعماله الصالحة، بل يخاف أن ترد عليه، ولا تقبل منه، ولهذا يُكْثِرُ سؤالَ الله قَبولها.
• بركة دعوة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، حيث أجاب الله دعاءه وجعل خاتم أنبيائه وأفضل رسله من أهل مكة.
• دين إبراهيم عليه السلام هو الملة الحنيفية الموافقة للفطرة، يرغب عنها ولا يزهد فيها إلا الجاهل المخالف لفطرته.
• مشروعية الوصية للذرية باتباع الهدى، وأخذ العهد عليهم بالتمسك بالحق والثبات عليه.
١٣٥ - وقال اليهود لهذه الأمة: كونوا يهودًا تسلكوا سبيل الهداية، وقال النصارى: كونوا نصارى تسلكوا سبيل الهداية. قل -أيها النبي- مجيبًا إياهم: بل نتبع دين إبراهيم، المائل عن الأديان الباطلة إلى الدين الحق، ولم يكن ممن أشركوا مع الله أحدًا.
١٣٦ - قولوا -أيها المؤمنون- لأصحاب هذه الدعوى الباطلة من يهود ونصارى: آمنا بالله وبالقرآن الَّذي أنزل إلينا، وآمنا بما أنزل على إبراهيم وأبنائه إسماعيل وإسحاق ويعقوب، وآمنا بما أنزل على الأنبياء من ولد يعقوب، وآمنا بالتوراة التي آتاها الله موسى، والإنجيل الَّذي آتاه الله عيسى، وآمنا بالكتب التي آتاها الله الأنبياء جميعًا، لا نفرق بين أحد منهم فنؤمن ببعض ونكفر ببعض، بل نؤمن بهم جميعًا، ونحن له سبحانه وحده منقادون خاضعون.
١٣٧ - فإن آمن اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار إيمانًا مثل إيمانكم؛ فقد اهتدوا إلى الطريق المستقيم الَّذي ارتضاه الله، وإن أعرضوا عن الإيمان بأن كذبوا بالأنبياء كلهم أو ببعضهم فإنما هم في اختِلاف وعِداء، فلا تحزن -أيها النبي- فإن الله سيكفيك أذاهم، ويمنعك من شرهم، وينصرك عليهم، فهو السميع لأقوالهم، والعليم بنياتهم وأفعالهم.
١٣٨ - الزموا دين الله الَّذي فطركم عليه ظاهرًا وباطنًا، فلا أحسن دينًا من دين الله، فهو موافق للفطرة، جالب للمصالح، مانع للمفاسد، وقولوا: نحن عابدون لله وحده لا نشرك معه غيره.
١٣٩ - قل -أيها النبي-: أتجادلوننا -يا أهل الكتاب- في أنكم أولى بالله ودينه منّا؛ لأن دينكم أقدم وكتابكم أسبق، فإن ذلك لا ينفعكم، فالله هو ربنا جميعًا لا تختصون به، ولنا أعمالنا التي لا تُسألون عنها، ولكم أعمالكم التي لا نُسأل عنها، وكلٌّ سيُجْزَى بعمله، ونحن مخلصون لله في العبادة والطاعة لا نشرك به شيئًا.
١٤٠ - أم تقولون -يا أهل الكتاب-: إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأنبياء من ولده يعقوب، كانوا على ملة اليهودية أو النصرانية؛ قل -أيها النبي- مجيبًا إياهم: أأنتم أعلم أم الله؟! فإن زعموا أنهم كانوا على ملَّتهم فقد كذبوا؛ لأن مبعثهم وموتهم كان قبل نزول التوراة والإنجيل! وعُلم بذلك أن ما يقولونه كذب على الله ورسله، وأنهم كتموا الحق الَّذي نزل عليهم، ولا أحد أشد ظلمًا من الَّذي كتم شهادة ثابتةً عنده عَلِمَها من الله، كفعل أهل الكتاب، وليس الله بغافل عن أعمالكم، وسيجازيكم عليها.
١٤١ - تلك أمة قد مضت من قبلكم، وأفضت إلى ما قدمت من عمل، فلها ما كسبت من الأعمال، ولكم ما كسبتم، ولا تسألون عن أعمالهم، ولا يسألون عن أعمالكم، فلا يؤخذ أحد بذنب أحد، ولا ينتفع بعمل غيره، بل كلٌّ سيجازى على ما قدم.
x• أن دعوى أهل الكتاب أنهم على الحق لا تنفعهم وهم يكفرون بما أنزل الله على نبيه محمد - ﷺ -.
• سُمِّي الدين صبغة لظهور أعماله وسَمْته على المسلم كما يظهر أثر الصبغ في الثوب.
• أن الله تعالى قد رَكَزَ في فطرةِ خلقه جميعًا الإقرارَ بربوبيته وألوهيته، وإنما يضلهم عنها الشيطان وأعوانه.
١٤٢ - سيقول الجهال خِفَافُ العقول من اليهود، ومَنْ على شاكلتهم من المنافقين: ما صرف المسلمين عن قبلة بيت المقدس التي كانت قبلتهم من قبل؟! قل -أيها النبي- مجيبًا إياهم ملك المشرق والمغرب وغيرهما من الجهات، يوجه من شاء من عباده إلى أي جهة شاء، وهو سبحانه يهدي من يشاء من عباده إلى طريق مستقيم لا اعوجاج فيه ولا انحراف.
١٤٣ - وكما جعلنا لكم قبلة ارتضيناها لكم؛ جعلناكم أمة خيارًا عدولًا، وسطًا بين الأمم كلها، في العقائد والعبادات والمعاملات؛ لتكونوا يوم القيامة شهداء لرسل الله أنهم بلّغوا ما أمرهم الله بتبليغه لأممهم، وليكون الرسول محمد - ﷺ - كذلك شهيدًا عليكم أنَّه بلغكم ما أُرْسِل به إليكم. وما جعلنا تحويل القبلة التي كنت تتجه إليها؛ وهي بيت المقدس، إلا لنعلم -علمَ ظهورٍ يترتب عليه الجزاء- من يرضى بما شرعه الله، ويُذعن له، فيتبع الرسول، ومن يرتد عن دينه، ويتبع هواه، فلا يُذعن لما شرعه الله. ولقد كان أمر تحويل القبلة الأولى عظيمًا إلا على الذين وفقهم الله للإيمان به، وبأن ما يشرعه لعباده إنما يشرعه لِحِكَمٍ بالغة. وما كان الله ليضيع إيمانكم بالله، ومنه صلاتكم التي صلَّيتموها قبل تحويل القبلة، إن الله بالناس لرؤوف رحيم، فلا يشق عليهم، ولا يضيع ثواب أعمالهم.
١٤٤ - قد رأينا -أيها النبي- تحوُّل وجهك ونظرك إلى جهة السماء، ترقُّبًا وتحريًا لنزول الوحي بشأن القبلة وتحويلها إلى حيث تُحب، فلنُوَجِّهنك إلى قبلة ترتضيها وتحبها -وهي بيت الله الحرام- بدل بيت المقدس الآن، فاصرف رجهك إلى جهة بيت الله الحرام بمكة المكرمة، وأينما كنتم -أيها المؤمنون- فتوجهوا إلى جهته عند أداء الصلاة. وإن الذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى ليعلمون أن تحويل القبلة هو الحق المنزل من خالقهم ومدبر أمرهم؛ لثبوته في كتابهم، وليس الله بغافل عما يعمل هؤلاء المعرضون عن الحق، بل هو سبحانه عالم بذلك، وسيجازيهم عليه.
١٤٥ - واللهِ لئن جئتَ -أيها النبي- الذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى مصحوبًا بكل آية وبرهان على أن تحويل القبلة حق؛ ما توجهوا إلى قبلتك عنادًا لما جئت به، وتكبرًا عن اتباع الحق، وما أنت بمتوجه إلى قبلتهم بعد أن صرفك الله عنها، وما بعضهم بمتوجه إلى قبلة بعضهم؛ لأن كلا منهم يكفِّر الفريق الآخر، ولئن اتبعت أهواء هؤلاء في شأن القبلة وغيرها من الشرائع والأحكام من بعد ما جاءك من العلم الصحيح الَّذي لا مرية فيه؛ إنك حينئذ لمن الظالمين بترك الهدى، واتباع الهوى. وهذا الخطاب للنبي - ﷺ - للدلالة على شناعة متابعتهم، وإلا فإن الله قد عصم نبيه من ذلك، فهو تحذير لأمته من بعده.
x• أن الاعتراض على أحكام الله وشرعه والتغافل عن مقاصدها دليل على السَّفَه وقلَّة العقل.
• فضلُ هذه الأمة وشرفها، حيث أثنى عليها الله ووصفها بالوسطية بين سائر الأمم.
• التحذير من متابعة أهل الكتاب في أهوائهم؛ لأنهم أعرضوا عن الحق بعد معرفته.
جواز نَسْخِ الأحكام الشرعية في الإسلام زمن نزول الوحي، حيث نُسِخَ التوجه إلى بيت المقدس، وصار إلى المسجد الحرام.
١٤٦ - الذين آتيناهم الكتاب من علماء اليهود والنصارى؛ يعرفون أمر تحويل القبلة الَّذي هو من علامات نبوة محمد - ﷺ - عندهم، كما يعرفون أولاده. ويميزونهم من غيرهم، ومع ذلك فإن طائفة منهم ليكتمون الحق الَّذي جاء به، حسدًا من عند أنفسهم، يفعلون ذلك ويعلمون أنَّه الحق.
١٤٧ - هذا هو الحق من ربك فلا تكونن -أيها الرسول- من الشاكِّين في صحته.
١٤٨ - ولكل أمة من الأمم جهة يتجهون إليها حسية كانت أو معنوية، ومن ذلك اختلاف الأمم في قبلتهم وما شرع الله لهم، فلا يضر تنوع وجهاتهم إن كان بأمر الله وشرعه، فتسابقوا أنتم -أيها المؤمنون- إلى فعل الخيرات التي أُمرتم بفعلها، وسيجمعكم الله من أي مكان كنتم فيه يوم القيامة؛ ليجازيكم على عملكم، إن الله على كل شيء قدير، فلا يعجزه جمعكم ولا مجازاتكم.
١٤٩ - ومن أي مكان خرجتَ وأينما كنت -أيها النبي- أنت وأتباعك، وأردت الصلاة، فاستقبل جهة المسجد الحرام، فإنه الحق المُوحى به إليك من ربك، وما الله بغافل عما تعملون، بل هو مطلع عليه وسيجازيكم به.
١٥٠ - ومن أي مكان خرجت -أيها النبي- وأردت الصلاة، فاستقبل جهة المسجد الحرام، وبأي مكان كنتم -أيها المؤمنون- فاستقبلوا بوجهكم جهته إذا أردتم الصلاة؛ لئلا يكون للناس حجة يحتجون بها عليكم، إلا الذين ظلموا منهم، فإنهم سيبقون على عنادهم، ويحتجون عليكم بأوهى الحجج، فلا تخشوهم واخشوا ربكم وحده، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، فإن الله قد شرع استقبال الكعبة من أجل أن يتم نعمته عليكم بتمييزكم عن سائر الأمم، ولأجل هدايتكم إلى أشرف قبلة للناس.
١٥١ - كما أنعمنا عليكم نعمة أخرى؛ حيث أرسلنا إليكم رسولًا من أنفسكم، يقرأ عليكم آياتنا، ويطهركم بما يأمركم به من الفضائل والمعروف، وما ينهاكم عنه من الرذائل والمنكر، ويعلمكم القرآن والسُّنَّة، ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون من أمور دينكم ودنياكم.
١٥٢ - فاذكروني بقلوبكم وجوارحكم؛ أذكركم بالثناء عليكم والحفظ لكم، فالجزاء من جنس العمل، واشكروا لي نعمي التي أنعمت بها عليكم، ولا تكفروني بجحودها، واستعمالها فيما حُرِّم عليكم.
١٥٣ - يا آيها الذين أمنوا استعينوا بالصبر والصلاة على القيام بطاعتي والتسليم لأمري، إن الله مع الصابرين يوفقهم ويعينهم.
x• إطالة الحديث في شأن تحويل القبلة؛ لما فيه من الدلالة على نبوة محمد - ﷺ -.
• ترك الجدال والاشتغالُ بالطاعات والمسارعة إلى الله أنفع للمؤمن عند ربه يوم القيامة.
• أن الأعمال الصالحة الموصلة إلى الله متنوعة ومتعددة، ولا بأس أن يختار المؤمن ما يميل إليه منها، ويناسب حاله.
• عظم شأن ذكر الله جلَّ وعلا حيث يكون ثوابه ذكر العبد في الملأ الأعلى.
١٥٤ - ولا تقولوا -أيها المؤمنون- في شأن من يقتلون في الجهاد في سبيل الله: إنهم أموات ماتوا كما يموت غيرهم، بل هم أحياء عند ربهم، ولكن لا تدركون حياتهم؛ لأنها حياة خاصة لا سبيل لمعرفتها إلا بوحي من الله تعالى.
١٥٥ - ولنَمْتحِننّكم بأنواع من المصائب؛ بشيء من الخوف من أعدائكم، وبالجوع لقلة الطعام، وبنقص في الأموال لذهابها أو مشقة الحصول عليها، وبنقص في الأنفس بسبب الآفات التي تهلك الناس، أو بالشهادة في سبيل والله، وبنقص من الثمرات التي تنبتها الأرض، وبشّر -أيها النبي- الصابرين على تلك المصائب بما يسرهم في الدنيا والآخرة.
١٥٦ - الذين إذا أصابتهم مصيبة من تلك المصائب قالوا برضًا وتسليم: إنا ملكٌ لله يتصرف فينا بما يشاء، وإنا إليه عائدون يوم القيامة، فهو الَّذي خلقنا وتفضل علينا بمختلف النعم، وإليه مرجعنا ونهاية أمرنا.
١٥٧ - أولئك المتصفون بهذه الصفة لهم ثناء من الله عليهم في ملأ الملائكة الأعلى ورحمة تنزل عليهم، وأولئك هم المهتدون إلى طريق الحق.
١٥٨ - إن الجبلين المعروفين بالصفا والمروة قرب الكعبة من معالم الشريعة الظاهرة، فمن قصد البيت لأداء نسك الحج أو نسك العمرة؛ فلا إثم عليه أن يسعى بينهما. وفى نفي الإثم هنا طمأنةٌ لمن تَحَرَّج من المسلمين من السعي بينهما اعتقادًا أنَّه من أمر الجاهلية، وقد بيَّن تعالى أن ذلك من مناسك الحج. ومن فعَلَ المستحبات من الطاعات متطوعًا بها مخلصًا؛ فإن الله شاكر له، يقبلها منه، ويجازيه عليها، وهو العليم بمن يفعل الخير، ويستحق الثواب.
١٥٩ - إن الذين يخفون ما أنزلنا من البينات الدالة على صدق النبي وما جاء به، من اليهود والنصارى، من بعد ما أظهرناه للناس في كتبهم؛ أولئك يطردهم الله من رحمته، ويدعو عليهم الملائكة والأنبياء والناس أجمعون بالطرد من رحمته.
١٦٠ - إلا الذين رجعوا إلى الله نادمين على كتمان تلك الآيات الواضحات، وأصلحوا أعمالهم الظاهرة والباطنة، وبيَّنوا ما كتموه من الحق والهدى، فأولئك أقبل رجوعهم إلى طاعتي، وأنا التواب على من تاب من العباد، الرحيم بهم.
١٦١ - إن الذين كفروا وماتوا على الكفر قبل أن يتوبوا منه أولئك عليهم لعنة الله بطردهم من رحمته، وعليهم دعاء الملائكة والناس كلهم بالطرد من رحمة الله والإبعاد منها.
١٦٢ - ملازمين هذه اللعنة، لا يُخَفف عنهم العذاب، ولو يومًا واحدًا، ولا يُمْهلون يوم القيامة.
١٦٣ - ومعبودكم الحق -أيها الناس- واحد متفرّد في ذاته وصفاته، لا معبود بحق غير الرحمن ذو الرحمة الواسعة، الرحيم بعباده، حيث أنعم عليهم النعم التي لا تحصى.
x• الابتلاء سُنَّة الله تعالى في عباده، وقد وعد الصابرين على ذلك بأعظم الجزاء وأكرم المنازل.
• مشروعية السعي بين الصفا والمروة لمن حج البيت أو اعتمر.
• من أعظم الآثام وأشدها عقوبة كتمان الحق الَّذي أنزله الله، والتلبيس على الناس، وإضلالهم عن الهدى الَّذي جاءت به الرسل.
١٦٤ - إن في خلق السماوات والأرض وما فيهما من عجائب الخلق، وفي تعاقب الليل والنهار، وفي السفن التي تجري في مياه البحار حاملة ما ينفع الناس من طعام ولباس وتجارة، وغيرها مما يحتاجون إليه، وفيما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بما ينبت فيها من الزرع والكلأ، وفيما نشره فيها من كائنات حية، وفي تحويل الرياح من جهة لجهة، وفي السحاب المذلل بين السماء والأرض، إن في كل ذلك لدلائل واضحة على وحدانيته سبحانه لمن يعقلون الحُجج، ويفهمون الأدلة والبراهين.
١٦٥ - ومع تلك الآيات الواضحة فإن من الناس من يتخذ من دون الله آلهة يجعلونهم نظراء لله تعالى، يحبونهم كما يحبون الله، والذين آمنوا أشد حبًّا لله من هؤلاء لمعبوداتهم؛ لأنهم لا يشركون مع الله أحدًا، ويحبونه في السراء والضراء، وأما أولئك فإنهم يحبون آلهتهم في حال السراء، أما في الضراء فلا يدعون إلا الله. ولو يرى الظالمون بشركهم وارتكاب السيئات حالَهم في الآخرة حين يشاهدون العذاب؛ لعلموا أن المتفرد بالقوة جميعًا هو الله، وأنه شديد العذاب لمن عصاه، لو يرون ذلك لما أشركوا معه أحدًا.
١٦٦ - وذلك حين يتبرأ الرؤساء المتبوعون من الضعفاء الذين اتبعوهم؛ لِما يشاهدونه من أهوال يوم القيامة وشدائده، وقد تقطعت بهم كل أسباب النجاة ووسائلها.
١٦٧ - وقال الضعفاء والأتباع: ليت لنا رجعة إلى الدنيا فنتبرأ من رؤسائنا كما تبرؤوا منا، وكما أراهم الله العذاب الشديد في الآخرة يريهم عاقبة متابعتهم لرؤسائهم على الباطل نَدَامات وأحزانًا، وليسوا بخارجين أبدًا من النار.
١٦٨ - يا أيها الناس كلوا مما في الأرض من حيوان ونبات وأشجار، مما كان كسبه حلالًا وكان طيبًا في نفسه غير خبيث، ولا تتبعوا مسالك الشيطان التي يستدرجكم بها، إنه لكم عدو واضح العداوة، ولا يجوز لعاقل أن يتبع عدوه الَّذي يحرص على إيذائه وضلاله!
١٦٩ - فهو إنما يأمركم بما يسوء من الآثام وما يعظم من الذنوب، وبأن تقولوا على الله في العقائد والشرائع بغير علم جاءكم عن الله أو رسله.
x• المؤمنون بالله حقًّا هم أعظم الخلق محبة لله، لأنهم يطيعونه على كل حال في السراء والضراء، ولا يشركون معه أحدًا.
• في يوم القيامة تنقطع كل الروابط، ويَبْرَأ كل خليل من خليله، ولا يبقى إلا ما كان خالصًا لله تعالى.
• التحذير من كيد الشيطان لتنوع أساليبه وخفائها وقربها من مشتهيات النفس.
١٧٠ - وإذا قيل لهؤلاء الكفار: اتبعوا ما أنزل الله من الهدى والنور، قالوا معاندين: بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا من المعتقدات والتقاليد، أيتبعون آباءهم ولو كانوا لا يعقلون شيئًا من الهدى والنور، ولا يهتدون إلى الحق الَّذي يَرْضَى الله عنه؟!
١٧١ - ومثل الذين كفروا في اتباعهم لآبائهم كالراعي الَّذي يصيح مناديًا على بهائمه، فتسمع صوته، ولا تفهم قوله، فهم صُمٌّ عن سماع الحق سماعًا ينتفعون به، بُكمٌ قد خرست ألسنتهم عن النطق بالحق، عُميٌ عن إبصاره، ولهذا لا يعقلون الهدى الَّذي تدعوهم إليه.
١٧٢ - يا أيها الذين آمنوا بالله واتبعوا رسوله، كلوا من الطيبات التي رزقكم الله وأباحها لكم، واشكروا لله ظاهرًا وباطنًا ما تفضل به عليكم من النعم، ومِن شُكره تعالى أن تعملوا بطاعته، وأن تجتنبوا معصيته، إن كنتم حقًّا تعبدونه وحده، ولا تشركون به شيئًا.
١٧٣ - إنما حرم الله عليكم من الأطعمة ما مات بغير ذكاة شرعية، والدم المسفوح السائل، ولحم الخنزير، وما ذُكِر عليه غيرُ اسم الله عند تذكيته، فإذا اضطر الإنسان إلى أَكْل شيء وهو غير ظالم بالأكل منها دون حاجة، ولا متجاوز لحد الضرورة؛ فلا إثم عليه ولا عقوبة، إن الله غفور لمن تاب من عباده، رحيم بهم، ومن رحمته أنَّه تجاوز عن أَكْل هذه المحرمات عند الاضطرار.
١٧٤ - إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتب وما فيها من: دلالة على الحق ونبوة محمد - ﷺ -، كما يفعل اليهود والنصارى، ويشترون بكتمانهم لها عِوَضًا قليلًا كرئاسة أو جاه أو مال؛ أولئك ما يأكلون في بطونهم حقيقة إلا ما يكون سببًا لتعذيبهم بالنار، ولا يكلمهم الله يوم القيامة بما يحبون، بل بما يسوؤهم، ولا يطهرهم ويُثْني عليهم، ولهم عذاب أليم.
١٧٥ - أولئك المتصفون بكتمان العلم الَّذي يحتاج إليه الناس هم الذين استبدلوا الضلالة بالهدى لمّا كتموا العلم الحق، واستبدلوا عذاب الله بمغفرته، فما أصبرهم على فعل ما يسبب لهم دخول النار، كأنهم لا يبالون بما فيها من عذاب لصبرهم عليها.
١٧٦ - ذلك الجزاء على كتمان العلم والهدى بسبب أن الله نزَّل الكُتب الإلهية بالحق، وهذا يقتضي أن تُبيَّن ولا تُكْتَم. بيان الذين اختلفوا في الكتب الإلهية فآمنوا ببعضها وكتموا بعضها لفي جانب بعيد عن الحق.
x• أكثر ضلال الخلق بسبب تعطيل العقل، ومتابعة من سبقهم في ضلالهم، وتقليدهم بغير وعي.
• عدم انتفاع المرء بما وهبه الله من نعمة العقل والسمع والبصر، يجعله مثل من فقد هذه النعم.
• من أشد الناس عقوبة يوم القيامة من يكتم العلم الَّذي أنزله الله، والهدى الَّذي جاءت به رسله تعالى.
• من نعمة الله تعالى على عباده المؤمنين أن جعل المحرمات قليلة محدودة، وأما المباحات فكثيرة غير محدودة.
١٧٧ - ليس الخير المَرضي عند الله مجرد الاتجاه إلى جهة المشرق أو المغرب والاختلاف في ذلك، ولكنّ الخير كلَّ الخير فيمن آمن بالله إلهًا واحدًا، وآمن بيوم القيامة، وبجميع الملائكة، وبجميع الكتب المنزلة، وبجميع الأنبياء دون تفريق، وأنفق المال مع حبه والحرص عليه على ذوي قرابته، ومن فقد أباه دون سن البلوغ، وذوي الحاجة، والغريب الَّذي انقطع في السفر عن أهله ووطنه، والذين تعرض لهم حاجةٌ توجب سؤال الناس، وصرف المال في تحرير الرقاب من الرق والأسر، وأقام الصلاة بالإتيان بها تامة على ما أمر الله، ودفع الزكاة الواجبة، والذين يوفون بعهدهم إذا عاهدوا، والذين يصبرون على الفقر والشدة، وعلى المرض، وفي وقت شدة القتال فلا يفرون، أولئك المتصفون بهذه الصفات هم الذين صدقوا الله في إيمانهم وأعمالهم، وأولئك هم المتقون الذين امتثلوا ما أمرهم الله به، واجتنبوا ما نهاهم الله عنه.
١٧٨ - يا أيها الذين آمنوا بالله واتبعوا رسوله، فُرِضَ عليكم في شأن الذين يقتلون غيرهم عمدًا وعدوانًا، معاقبةُ القاتل بمثل جنايته، فالحر يُقتل بالحر، والعبد يُقتل بالعبد، والأنثى تُقتل بالأنثى، فإن عفا المقتول قبل موته أو عفا ولي المقتول مقابل الدية -وهي مقدار من المال يدفعه القاتل مقابل العفو عنه- فعلى من عَفا اتباعُ القاتل في طلب الدية بالمعروف لا بالمَنِّ والأذى وعلى القاتل أداء الدية بإحسان، من غير مماطلة وتسويف، وذلك العفو وأَخْذ الدية تخفيف من ربكم عليكم، ورحمة بهذه الأمة، فمن اعتدى على القاتل بعد العفو وقبول الدية؛ فله عذاب أليم من الله تعالى.
١٧٩ - ولكم فيما شرعه الله من القصاص حياة لكم؛ بحقن دمائكم، ودفع الاعتداء بينكم، يدرك ذلك أهل العقول الذين يتقون الله تعالى بالانقياد لشرعه والعمل بامره.
١٨٠ - فُرِضَ عليكم إذا حضر أحدَكم علاماتُ الموت وأسبابُه، إن ترك مالًا كثيرًا أن يوصي للوالدين ولذوي القرابة بما حَدَّه الشرع وهو ألا يزيد عن ثلث المال، وفِعْلُ هذا حقٌّ مؤكد على المتقين لله تعالى. وقد كان هذا الحكم قبل نزول آيات المواريث، فلما نزلت آيات المواريث بيَّنت مَن يرث الميت ومقدار ما يرث.
١٨١ - فمن غيّر في الوصية بزيادة أو نقص أو منع بعد علمه بالوصية؛ فإنما يكون إثم ذلك التبديل على المغيّرين لا على الموصي، إن الله سميع لأقوال عبيده، عليم بأفعالهم، لا يفوته شيء من أحوالهم.
x• البِرُّ الَّذي يحبه الله يكون بتحقيق الإيمان والعمل الصالح، وأما التمسك بالمظاهر فقط فلا يكفي عنده تعالى.
• من أعظم ما يحفظ الأنفس، ويمنع من التعدي والظلم؛ تطبيق مبدأ القصاص الَّذي شرعه الله في النفس وما دونها.
• عِظَمُ شأن الوصية، ولا سيما لمن كان عنده شيء يُوصي به، وإثمُ من غيَّر في وصية الميت وبدَّل ما فيها.
١٨٢ - فمن علم من صاحب الوصية ميلًا عن الحق، أو جَوْرًا في الوصية؛ فأصلح ما أفسد الموصِي بنصحه، وأصلح بين المختلفين على الوصية، فلا إثم عليه، بل هو مأجور على إصلاحه، إن الله غفور لمن تاب من عباده، رحيم بهم.
١٨٣ - يا أيها الذين آمنوا بالله واتبعوا رسوله فُرضَ عليكم الصيام من ربكم كما فُرِضَ على الأمم من قبلكم؛ لعلكم تتقون الله بأن تجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بالأعمال الصالحة ومن أعظمها الصيام.
١٨٤ - الصيام المفروض عليكم أن تصوموا أيامًا قليلة من السَّنَةِ، فمن كان منكم مريضًا مرضًا يشق معه الصوم، أو مسافرًا؛ فله أن يفطر، ثم عليه أن يقضي بقدر ما أفطر من الأيام. وعلى الذين يستطيعون الصيام فدية إذا أفطروا، وهي إطعام مسكينٍ عن كل يوم يفطرون فيه. وصومكم خير لكم من الإفطار وإعطاء الفدية، إن كنتم تعلمون ما في الصوم من الفضل. وكان هذا الحكم أول ما شرع الله الصيام، فكان من شاء صام، ومن شاء أفطر وأطعم، ثم أوجب الله الصيام بعد ذلك، وفرضه على كل بالغ قادر.
١٨٥ - شهر رمضان الَّذي بدأ فيه نزول القرآن على النبي - ﷺ - في ليلة القدر، أنزله الله هدايةً للناس، فيه دلائل الواضحات من الهدى، والفرقان بين الحق والباطل، فمن حضر شهر رمضان وهو مقيم صحيح فليصمه وجوبًا، ومن كان مريضًا يشق عليه الصوم أو مسافرًا؛ فله أن يفطر، وإذا أفطر فالواجب عليه أن يقضي تلك الأيام التي أفطرها، يريد الله بما شرع لكم أن يسلك بكم سبيل اليسر لا العسر، ولتكملوا عدة صوم الشهر كله، ولتكبروا الله بعد ختام شهر رمضان ويوم العيد على أن وفقكم لصومه، وأعانكم على إكماله ولعلكم تشكرون الله على هدايتكم لهذا الدين الَّذي ارتضاه لكم.
١٨٦ - وإذا سألك -أيها النبي- عبادي عن قربي وإجابتي لدعائهم؛ فإني قريب منهم، عالم بأحوالهم، سامع لدعائهم، فلا يحتاجون إلى وسطاء، ولا إلى رفع أصواتهم، أُجيب دعوة الداعي إذا دعاني مخلصًا في دعائه، فلينقادوا لي ولأوامري، وليثبتوا على إيمانهم؛ فإن ذلك أنفع وسيلة لإجابتي، لعلهم يسلكون بذلك سبيل الرشد في شؤونهم الدينية والدنيوية.
x• فَضَّلَ الله شهر رمضان بجعله شهر الصوم بإنزال القرآن فيه، فهو شهر القرآن؛ ولهذا كان النبي - ﷺ - يتدارس القرآن مع جبريل في رمضان، ويجتهد فيه ما لا يجتهد في غيره.
• شريعة الإسلام قامت في أصولها وفروعها على التيسير ورفع الحرج، فما جعل الله علينا في الدين من حرج.
• قُرْب الله تعالى من عباده، وإحاطته بهم، وعلمه التام بأحوالهم؛ ولهذا فهو يسمع دعاءهم ويجيب سؤالهم.
١٨٧ - قد كان في أول الأمر يحرم على الرجل إذا نام في ليلة الصيام ثم استيقظ قبل الفجر أن يأكل أو يقرب أهله، فنسخ الله ذلك، وأباح الله لكم -أيها المؤمنون- في ليالي الصيام جماع نسائكم، فهن ستر وإعفاف لكم، وأنتم ستر وإعفاف لهن، لا يستغني بعضكم عن بعض، عَلِمَ الله أنكم كنتم تخونون أنفسكم بفعل ما نهاكم عنه، فرحمكم وتاب عليكم، وخفف عنكم، فالآن جامعوهن، واطلبوا ما قدّر الله لكم من الذرية، وكلوا واشربوا في الليل كله، حتَّى يتبين لكم طلوع الفجر الصادق ببياض الفجر وانفصاله عن سواد الليل، ثم أكملوا الصيام بالإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر حتَّى تغيب الشمس، ولا تجامعوا النساء وأنتم معتكفون في المساجد؛ لأن ذلك يبطله. تلك الأحكام المذكورة هي حدود الله بين الحلال والحرام فلا تقربوها أبدًا؛ فإن من اقترب من حدود الله يوشك أن يقع في الحرام، وبمثل هذا البيان الواضح الجلي لتلك الأحكام يبين الله آياته للناس لعلهم يتقونه بفعل ما أمر وترك ما نهى.
١٨٨ - ولا يأخذ بعضكم مال بعضكم بوجه غير مشروع، كالسرقة والغَصْب والغش، ولا تخاصموا بها إلى الحكام لتأخذوا طائفة من أموال الناس متلبّسين بالمعصية، وأنتم تعلمون أن الله حرم ذلك، فالإقدام على الذنب مع العلم بتحريمه أشد قُبْحًا وأعظم عقوبة.
١٨٩ - يسألونك -أيها الرسول- عن تكوين الأهلة وتغير أحوالها، قل مجيبًا إياهم عن حكمة ذلك: إنها مواقيت للناس، يعرفون بها أوقات عباداتهم؛ كأشهر الحج، وشهر الصيام، وتَمَام الحَوْل في الزكاة، ويعرفون أوقاتهم في المعاملات؛ كتحديد آجال الديات والديون. وليس البر والخير أن تأتوا البيوت من ظهورها عند إحرامكم بالحج أو العمرة -كما كنتم تزعمون في الجاهلية- ولكن البر حقيقةً برُّ من اتقى الله في الظاهر والباطن، ولكن مجيئكم للبيوت من أبوابها، فهو أيسر لكم وأبعد عن المشقة؛ لأن الله لم يكلفكم بما فيه عسر ومشقة عليكم، واجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية من العمل الصالح، لعلكم تفلحون بنيل ما ترغبون فيه، والنجاة مما ترهبون منه.
١٩٠ - وقاتلوا -ابتغاء رفع كلمة الله- الذين يقاتلونكم من الكفار ليصدوكم عن دين الله، ولا تتجاوزوا حدود الله بقتل الصبيان والنساء والشيوخ، أو بالتمثيل بالقتلى ونحو ذلك، إن الله لا يحب المتجاوزين لحدوده فيما شرع وحكم.
x• مشروعية الاعتكاف، وهو لزوم المسجد للعبادة؛ ولهذا يُنهى عن كل ما يعارض مقصود الاعتكاف، ومنه مباشرة المرأة.
• النهي عن أكل أموال الناس بالباطل، وتحريم كل الوسائل والأساليب التي تقود لذلك، ومنها الرشوة.
• تحريم الاعتداء والنهي عنه؛ لأن هذا الدين قائم على العدل والإحسان.
١٩١ - واقتلوهم حيث لقيتموهم، وأخرجوهم من المكان الَّذي أخرجوكم منه، وهو مكة، والفتنة الحاصلة بصَدِّ المؤمن عن دينه ورجوعه إلى الكفر أعظم من القتل. ولا تبدؤوهم بقتال عند المسجد الحرام تعظيمًا له حتَّى يبدؤوكم بالقتال فيه، فإن بدؤوا بالقتال في المسجد الحرام فاقتلوهم، ومثل هذا الجزاء -وهو قتلهم إذا اعتدوا في المسجد الحرام- يكون جزاء الكافرين.
١٩٢ - فإن انتهوا عن قتالكم وكفرهم فانتهوا عنهم، إن الله غفور لمن تاب فلا يؤاخذهم بذنوبهم السابقة، رحيم بهم لا يعاجلهم بالعقوبة.
١٩٣ - وقاتلوا الكفار حتَّى لا يكون منهم شرك ولا صَدٌّ للناس عن سبيل الله ولا كفر، ويكون الدين الظاهر دين الله، فإن انتهوا عن كفرهم وصدهم عن سبيل الله فاتركوا قتالهم، فإنه لا عدوان إلا على الظالمين بالكفر والصد عن سبيل الله.
١٩٤ - الشهر الحرام الَّذي مكّنَكم الله فيه من دخول الحرم وأداء العمرة سنةَ سَبع، هو عِوَض عن الشهر الحرام الَّذي صدكم فيه المشركون عن الحرم سنةَ سِتٍّ، والحُرمات -كحرمة البلد الحرام والشهر الحرام والإحرام- يجري فيها القصاص من المعتدين، فمن اعتدى عليكم فيها فعاملوه بمثل فعله، ولا تتجاوزوا حد المماثلة، إن الله لا يحب المتجاوزين لحدوده وخافوا الله في تجاوز ما أذن لكم فيه، واعلموا أن الله مع المتقين له بالتوفيق والتأييد.
١٩٥ - وأنفقوا المال في طاعة الله من الجهاد وغيره، ولا تلقوا بأنفسكم إلى الهلاك، بأن تتركوا الجهاد والبذل في سبيله، أو بأن تلقوا بأنفسكم فيما يكون سببًا لهلاككم، وأحسنوا في عباداتكم ومعاملاتكم وأخلاقكم، إن الله يحب المحسنين في كل شؤونهم، فيعظم لهم الثواب، ويوفقهم للرشاد.
١٩٦ - وأدوا الحج والعمرة تامَّين، مبتغين وجه اللهِ تعالى، فإذا مُنِعْتُم من إتمامهما بمرض أو بعدوٍّ؛ فعليكم بذبح ما تيسر من الهدي -من الإبل أو البقر أو الغنم- لتتحلَّلوا من إحرامكم. ولا تحلقوا رؤوسكم أو تقصروها حتَّى يبلغ الهدي الموضع الَّذي يحل فيه ذبحه، فإن كان ممنوعًا من الحرم فليذبح حيث مُنع، وإن كان غير ممنوع من الحرم فليذبح في الحرم يوم النحر وما بعده من أيام التشريق. فمن كان منكم مريضًا، أو به أذى من شعر رأسه؛ كقمل ونحوه، فَحَلَق رأسه بسبب ذلك، فلا حرج عليه، وعليه أن يفدي عن ذلك؛ إما بصيام ثلاثة أيام، أو بإطعام ستة مساكين من مساكين الحرم، أو بذبح شاة توزع على فقراء الحرم، فإذا كنتم غير خائفين فمن استمتع منكم بأداء العمرة في أشهر الحج، وتمتع بما حرُمَ عليه من محظورات الإحرام إلى أن يحرم بالحج من عامه؛ فليذبح ما تيسر له من شاة أو يشترك سبعة في ذبح بعير أو بقرة، فإذا لم يقدر على الهدي فعليه صيام ثلاثة أيام من أيام المناسك بدلًا منه، وعليه صيام سبعة أيام بعد رجوعه إلى أهله، ليكون مجموع الأيام عشرة كاملة، ذلك التمتع مع وجوب الهدي أو الصيام للعاجز عن الهدي هو لغير أهل الحرم ومن يقيم قريبًا من الحرم؛ لأنهم لا حاجة بهم إلى التمتع فهم لوجودهم بالحرم يكفيهم مطلق الطواف عن التمتع بالعمرة إلى الحج، واتقوا الله باتباع ما شرع، وتعظيم حدوده، واعلموا أن الله شديد العقاب لمن خالف أمره.
x• مقصود الجهاد وغايته جَعْل الحكم لله تعالى وإزالة ما يمنع الناس من سماع الحق والدخول فيه.
• ترك الجهاد والقعود عنه من أسباب هلاك الأمة؛ لأنه يؤدي إلى ضعفها وطمع العدو فيها.
• وجوب إتمام الحج والعمرة لمن شرع فيهما، وجواز التحلل منهما بذبح هدي لمن مُنِع عن الحرم.
١٩٧ - وقت الحج أشهر معلومات، تبدأ بشهر شوال، وتنتهي بعشر ذي الحجة، فمن أوجب على نفسه الحج في هذه الأشهر وأحرم به؛ حَرُمَ عليه الجماع ومقدماته، ويتأكد في حقه حُرْمة الخروج عن طاعة الله بارتكاب المعاصي؛ لعظم الزمان والمكان، ويحرم عليه الجدال المؤدي إلى الغضب والخصومة، وما تفعلوا من خير يعلمه الله فيجازيكم به. واستعينوا على أداء الحج بأخذ ما تحتاجون إليه من طعام وشراب، واعلموا أن خير ما تستعينون به في كل شؤونكم هو تقوى الله تعالى، فخافوني بامتثال أوامري واجثناب نواهيّ يا ذوي العقول السليمة.
١٩٨ - ليس عليكم إثم أن تطلبوا الرزق الحلال بالتجارة وغيرها في أثناء الحج، فإذا دفعتم من عرفات بعد وقوفكم فيها يوم التاسع، متوجهين إلى مزدلفة ليلة العاشر من ذي الحجة؛ فاذكروا الله بالتسبيح والتهليل والدعاء عند المشعر الحرام بمزدلفة، واذكروا الله لهدايته لكم إلى معالم دينه، ومناسك حج بيته، فقد كنتم من قبل ذلك من الغافلين عن شريعته.
١٩٩ - ثم ادفعوا من عرفات كما كان يصنع الناس المقتدون بإبراهيم عليه السلام، لا كما كان يصنع من لا يقف بها من أهل الجاهلية، واطلبوا المغفرة من الله على تقصيركم في أداء ما شرع، إن الله غفور لمن تاب من عباده، رحيم بهم.
٢٠٠ - فإذا أنهيتم أعمال الحج، وفرغتم منها فاذكروا الله، وأكثروا من الثناء عليه، كفَخْرِكم بآبائكم وثنائكم عليهم، أو أشد ذكرًا لله من ذكر آبائكم؛ لأن كل نعمة تتنعّمون بها هي منه سبحانه وتعالى، والناس مختلفون، فمنهم الكافر المشرك الَّذي لا يؤمن إلا بهذه الحياة الدنيا، فلا يسأل ربه إلا نعيمها وزينتها من الصحة والمال والولد، وليس لهم نصيب مما أعد الله لعباده المؤمنين في الآخرة، لرغبتهم في الدنيا وإعراضهم عن الآخرة.
٢٠١ - وفريق من الناس مؤمن بالله يؤمن بالآخرة، فيسأل ربه نعيم الدنيا والعمل الصالح فيها، كما يسأله الفوز بالجنّة والسلامة من عذاب النار.
٢٠٢ - أولئك الداعون بخَيْرَي الدنيا والآخرة لهم حظٌّ من ثواب عظيم بما اكتسبوا من الأعمال الصالحة في الدنيا، والله سريع الحساب للأعمال.
x• يجب على المؤمن التزود في سفر الدنيا وسفر الآخرة، ولذلك ذكر الله أن خير الزاد هو التقوى.
• مشروعية الإكثار من ذكر الله تعالى عند إتمام نسك الحج.
• اختلاف مقاصد الناس؛ فمنهم من جعل همّه الدنيا، فلا يسأل ربه غيرها، ومنهم من يسأله خير الدنيا والآخرة، وهذا هو الموفَّق.
٢٠٣ - واذكروا الله بالتكبير والتهليل في أيام قلائل؛ هي: الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة، فمن تعجَّل وخرج من منى بعد الرمي في اليوم الثاني عشر فله ذلك، ولا إثم عليه؛ لأن الله خفف عنه، ومن تأخر إلى الثالث عشر حتَّى يرمي فله ذلك، ولا حرج عليه، وقد جاء بالأكمل، واتبع فعل النبي - ﷺ -، كل ذلك لمن اتقى الله في حجه فجاء به كما أمر الله، واتقوا الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وأيقنوا أنكم إليه وحده ترجعون وتصيرون، فيجازيكم على أعمالكم.
٢٠٤ - ومن الناس منافق يعجبك -أيها النبي- كلامه في هذه الدنيا، فتراه حسن المنطق، حتَّى لتظن صدقه ونصحه، وإنما قَصْده حفظُ نفسه وماله، ويُشهِد الله -وهو كاذب- على ما في قلبه من إيمان وخير، وهو شديد الخصومة والعداوة للمسلمين.
٢٠٥ - وإذا أدبر عنك وفارقك سعى مجتهدًا في الأرض من أجل أن يُفسد بالمعاصي، ويُتْلِف الزرع، ويقتل المواشي، والله لا يحب الفساد في الأرض، ولا يحب أهله.
٢٠٦ - وإذا قيل لذلك المفسد -على سبيل النصح-: اتق الله بتعظيم حدوده واجتناب نواهيه، منعته الأَنَفَةُ والكِبْر عن الرجوع إلى الحق، وتمادى في الإثم، فجزاؤه الَّذي يكفيه دخول جهنم، ولبئس المستقر والمقام لأهلها.
٢٠٧ - ومن الناس مؤمن يبيع نفسه، فيبذلها طاعة لربه، وجهادًا في سبيله وطلبًا لمرضاته، والله واسع الرحمة بعباده، رؤوف بهم.
٢٠٨ - يا أيها الذين آمنوا بالله واتبعوا رسوله ادخلوا في الإسلام جميعه، ولا تتركوا منه شيئًا، كما يفعل أهل الكتاب من الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه، ولا تتبعوا مسالك الشيطان؛ لأنه لكم عدو واضح العداوة مُظْهِرُها.
٢٠٩ - فإن وقع منكم زلل وميل من بعد ما جاءتكم الدلائل الواضحات التي لا لَبس فيها؛ فاعلموا أن الله عزيز في قدرته وقهره، حكيم في تدبيره وتشريعه، فخافوه وعَظِّموه.
٢١٠ - ما ينتظر هؤلاء المتبعون مسالك الشيطان المائلون عن طريق الحق إلا أن يأتيهم الله يوم القيامة إتيانًا يليق بجلاله سبحانه، في ظُلَل من السحاب للقضاء بينهم، وتأتيهم الملائكة محيطة بهم من كل جانب، وعندئذ يُقضى أمر الله فيهم، ويُفرغُ منه، وإلى الله سبحانه وحده ترجع أمور الخلائق وشؤونهم.
x• التقوى حقيقةً لا تكون بكثرة الأعمال فقط، وإنما بمتابعة هدي الشريعة والالتزام بها.
• الحكم على الناس لا يكون بمجرد أشكالهم وأقوالهم، بل بحقيقة أفعالهم الدالة على ما أخفته صدورهم.
• الإفساد في الأرض بكل صوره من صفات المتكبرين التي تلازمهم، والله تعالى لا يحب الفساد وأهله.
• لا يكون المرء مسلمًا حقيقة لله تعالى حتَّى يُسَلِّم لهذا الدين كله، ويقبله ظاهرًا وباطنًا.
٢١١ - اسأل -أيها النبي- بني إسرائيل سؤال توبيخ لهم: كم بيَّن الله تعالى لكم من آية واضحة دالة على صدق الرسل! فكذبتموها وأعرضتم عنها، ومن يبدل نعمة الله كفرًا وتكذيبًا بعد معرفتها وظهورها؛ فإن الله شديد العقاب للكافرين المكذبين.
٢١٢ - حُسِّن للذين كفروا بالله الحياة الدنيا وما فيها من مُتَع زائلة، وملذات منقطعة، ويستهزئون بالذين آمنوا بالله واليوم الآخر، والذين اتقوا الله بفعل أوامره وترك نواهيه فوق هؤلاء الكافرين في الآخرة، حيث ينزلهم الله في جنات عدن، والله يعطي من يشاء من خلقه بلا عدّ ولا حساب.
٢١٣ - كان الناس أمة واحدة متفقين على الهدى، على دين أبيهم آدم، حتَّى أضلتهم الشياطين، فاختلفوا بين مؤمن وكافر، فلأجل ذلك بعث الله الرسل مبشرين أهل الإيمان والطاعة بما أعبد الله لهم من رحمته، ومنذرين أهل الكفر بما أوعدهم الله به من شديد عقابه، وأنزل مع رسله الكتب مشتملة على الحق الَّذي لا شك فيه؛ ليحكموا بين الناس فيما اختلفوا فيه. وما اختلف في التوراة إلا الذين أعطوا علمها من اليهود بعدما جاءتهم حجج الله أنَّه حق من عنده لا يسعهم الاختلاف فيه، ظلمًا منهم، فوفّق الله المؤمنين لمعرفة الهدى من الضلال بإذنه وإرادته، والله يهدي من يشاء إلى طريق مستقيم لا اعوجاج فيه، وهو طريق الإيمان.
٢١٤ - أم ظننتم -أيها المؤمنون- أن تدخلوا الجنّة ولم يصبكم ابتلاءٌ مثل ابتلاء الماضين من قبلكم، حيث أصابهم شدة الفقر والمرض، وزلزلتهم المخاوف، حتَّى بلغ بهم البلاء أن يستعجلوا نصر الله، فيقول الرسول والمؤمنون معه: متى يأتى نصر الله؛ ألا إن نصر الله قريب من المؤمنين به، المتوكلين عليه.
٢١٥ - يسألك أصحابك -أيها النبي-: ماذا ينفقون من أموالهم المتنوعة، وأين يضعونها؟ قل مجيبًا إياهم: ما أنفقتم من خير -وهو الحلال الطيب- فليصرف للوالدين، وللأدنى منكم من قراباتكم بحسب الحاجة، وللمحتاج من اليتامى، وللمُعدمين. الذين ليس لهم مال، وللمسافر الَّذي انقطع له السفر عن أهله ووطنه، وما تفعلوا -أيها المؤمنون- من خير قليلًا كان أو كثيرًا فإن الله به عليم، لا يخفى عليه منه شيء، وسيجازيكم عليه.
x• ترك شَكر الله تعالى على نعمه وترك استعمالها في طاعته يعرضها للزوال ويحيلها بلاءً على صاحبها.
• الأصل أن الله خلق عباده على فطرة التوحيد والإيمان به، وإبليس وأعوانه هم الذين صرفوهم عن هذه الفطرة إلى الشرك به.
• أعظم الخذلان الَّذي يؤدي للفشل أن تختلف الأمة في كتابها وشريعتها، فيكفّر بعضُها بعضًا، ويلعن بعضُها بعضًا.
• الهداية للحق الَّذي يختلف فيه الناس، ومعرفة وجه الصواب بيد الله، ويُطلب منه تعالى بالإيمان به والانقياد له.
• الابتلاء سُنَّة الله تعالى في أوليائه، فيبتليهم بقدر ما في قلوبهم من الإيمان به والتوكل عليه.
• من أعظم ما يعين على الصبر عند نزول البلاء، الاقتداء بالصالحين وأخذ الأسوة منهم.
٢١٦ - فُرِض عليكم -أيها المؤمنون- القتال في سبيل الله وهو مكروه للنفس بطبعها، لما فيه من بذل المال والنفس، ولعلكم تكرهون شيئًا وهو في الواقع خير ونفع لكم؛ كالقتال في سبيل الله، فمع عِظم ثوابه فيه النصر على الأعداء ورفع كلمة الله، ولعلكم تحبون شيئًا وهو شر ووبال عليكم؛ كالجلوس عن الجهاد، فإن فيه الخذلان وتسلط الأعداء، والله يعلم علمًا تامًّا خير الأمور وشرها، وأنتم لا تعلمون ذلك، فاستجيبوا لأمره؛ ففيه الخير لكم.
٢١٧ - يسألك الناس -أيها النبي- عن حكم القتال في الأشهر الحرم: ذي القعدة وذي الحجة والمحرم ورجب، قل مجيبًا إياهم: القتال في هذه الأشهر عظيم عند الله ومستنكر، كما أن ما يقوم به المشركون من صد عن سبيل الله مستقبح كذلك، ومنع المؤمنين عن المسجد الحرام، وإخراج أهل المسجد الحرام منه أعظم عند الله من القتال في الشهر الحرام، والشرك الَّذي هم فيه أعظم من القتل. ولا يزال المشركون على ظلمهم يقاتلونكم -أيها المؤمنون- حتَّى يردوكم عن دينكم الحق إلى دينهم الباطل إن استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، ومن يرجع منكم عن دينه، ويمت وهو على الكفر بالله؛ فقد بطل عمله الصالح، ومآله في الآخرة دخول النار وملازمتها أبدًا.
٢١٨ - إن الذين آمنوا بالله ورسوله، والذين تركوا أوطانهم مهاجرين إلى الله ورسوله، وقاتلوا لتكون كلمة الله هي العليا؛ أولئك يطمعون في رحمة الله ومغفرته، والله غفور لذنوب عباده رحيم بهم.
٢١٩ - يسألك أصحابك -أيها النبي- عن الخمر (وهي: كل ما غطى العقل وأذهبه)؛ يسألونك عن حكم شربها وبيعها وشرائها؟ ويسألونك عن حكم القِمار (وهو: ما يُؤخذ من المال عن طريق المنافسات التي فيها عوض من الطرفين المشترِكَين في المنافسة)؟ قل مجيبًا إياهم: فيهما مضار ومفاسد دينية ودنيوية كثيرة؛ من ذهاب العقل والمال، والوقوع في العداوة والبغضاء، وفيهما منافع قليلة كالمكاسب المالية، وضررهما والإثم الحاصل بهما أكبر من نفعهما، وما كان ضرّه أكثر من نفعه؛ فإن العاقل يجتنبه، وهذا البيان من الله فيه تمهيد لتحريم الخمر.
ويسألك أصحابك -أيها النَّبي- عن قدر ما ينفقونه من أموالهم على وجه التطوع والتبرع؟ قل مجيبًا إياهم: أنفقوا من أموالكم الَّذي يزيد عن حاجتكم (وقد كان هذا أول الأمر، ثم شرع الله بعد ذلك الزكاة الواجبة في أموال مخصوصة وأنصبة معينة)، وبمثل هذا البيان الَّذي لا لبس فيه يبين الله لكم أحكام الشرع لعلكم تتفكرون.
x• الجهل بعواقب الأمور قد يجعل المرء يكره ما ينفعه ويحب ما يضره، وعلى المرء أن يسأل الله الهداية للرشاد.
• جاء الإسلام بتعظيم الحرمات والنهي عن الاعتداء عليها، ومن أعظمها صد الناس عن سبيل الله تعالى.
• لا يزال الكفار أبدًا حربًا على الإسلام وأهله حتَّى يخرجوهم من دينهم، والله موهن كيد الكافرين.
• الإيمان بالله تعالى، والهجرة إليه، والجهاد في سبيله؛ أعظم الوسائل التي ينال بها المرء رحمة الله ومغفرته.
• حرّمت الشريعة كل ما فيه ضرر غالب وإن كان فيه بعض المنافع؛ مراعاة لمصلحة العباد.
٢٢٠ - شرع ذلك لكي تتفكروا فيما ينفعكم في الدنيا والآخرة. ويسألك أصحابك -أيها النبي- عن قيامهم بالولاية على اليتامى: كيف يتصرفون في التعامل معهم؟ وهل يخلطون أموالهم معهم في النفقة والمطاعمة والمساكنة؟ قل مجيبًا إياهم: تفضلكم عليهم بإصلاح أموالهم من غير عوض أو مخالطة في أموالهم؛ خير لكم عند الله وأعظمُ أجرًا، وهو خير لهم في أموالهم؛ لما فيه من حفظ أموالهم عليهم، وإنْ تشاركوهم بضم ما لهم إلى ما لكم في المعاش والمسكن ونحو ذلك؛ فلا حرج في ذلك، فهم إخوانكم في الدين، والإخوة يعين بعضهم بعضًا، ويقوم بعضهم على شؤون بعض، والله يعلم من يريد الإفساد من الأولياء بمشاركة اليتامى أموالهم ممن يريد الإصلاح، ولو شاء أن يشق عليكم في شأن اليتامى لشقّ عليكم، ولكنه سبحانه وتعالى يسر لكم سبيل التعامل معهم؛ لأن شريعته مبنية على اليسر، إن الله عزيز لا يغالبه شيء، حكيم في خَلْقِه وتدبيره وتشريعه.
٢٢١ - ولا تتزوجوا -أيها المؤمنون- المشركات بالله حتَّى يؤمنّ بالله وحده، ويدخلن في دين الإسلام، وإنَّ امرأة مملوكة مؤمنة بالله ورسوله خير من امرأة حرة تعبد الأوثان، ولو أعجبتكم بجمالها ومالها، ولا تزوِّجوا المسلمات رجالًا مشركين، ولعبد مملوك مؤمن بالله ورسوله خير من حر مشرك، ولو أعجبكم، أولئك المتصفون بالشرك -رجالًا ونساءً- يدعون بأقوالهم وأفعالهم إلى ما يقود إلى دخول النار، والله يدعو إلى الأعمال الصالحة التي تقود إلى دخول الجنّة والمغفرة من الذنوب بإذنه وفضله، ويبين آياته للناس لعلهم يعتبرون بما دلت عليه فيعملون بها.
٢٢٢ - ويسألك أصحابك -أيها النبي- عن الحيض (وهو دم طبيعي يخرج من رحم المرأة في أوقات مخصوصة)؟ قل مجيبًا إياهم: الحيض أذى للرجل والمرأة، فاجتنبوا جماع النساء في وقته، ولا تقربوهن بالوطء حتَّى ينقطع الدم عنهن، ويتطهرن منه بالغُسل، فإذا انقطع وتطهرن منه فجامعوهن على الوجه الَّذي أباح لكم: طاهرات في قُبُلهن، إن الله يحب المكثرين من التوبة من المعاصي، والمبالغين في الطهارة من الأخباث.
٢٢٣ - زوجاتكم محل زرع لكم يلدن لكم الأولاد؛ كالأرض التي تخرج الثمار، فأتوا محل الزرع -وهو القُبل- من أي جهة شئتم وكيفما شئتم إذا كان في القُبل، وقدموا لأنفسكم بفعل الخيرات، ومنه أن يجامع الرجل امرأته بقصد التقريب إلى الله، ورجاء الذرية الصالحة، واتقوا الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، ومنها ما شرع لكم في شأن النساء، واعلموا أنكم ملاقوه يوم القيامة، واقفون بين يديه، ومجازيكم على أعمالكم، وبشّر -أيها النبي- المؤمنين بما يسرهم عند لقاء ربهم من النعيم المقيم، والنظر إلى وجهه الكريم.
٢٢٤ - ولا تجعلوا الحلف بالله حجة مانعة، من فعل البر والتقوى والإصلاح بين الناس، بل إذا حلفتم على ترك البر؛ فافعلوا البر وكفِّروا عن أيمانكم، والله سميع لأقوالكم، عليم بأفعالكم، وسيجازيكم عليها.
x• تحريم النِّكَاح بين المسلمين والمشركين، وذلك لبُعد ما بين الشرك والإيمان.
• دلت الآية على اشتراط الولي عند عقد النِّكَاح؛ لأن الله تعالى خاطب الأولياء لمّا نهى عن تزويج المشركين.
• حث الشريعة على الطهارة الحسية من النجاسات والأقذار، والطهارة المعنوية من الشرك والمعاصي.
• ترغيب المؤمن في أن يكون نظره في أعماله -حتَّى ما يتعلق بالملذات- إلى الدار الآخرة، فيقدم لنفسه ما ينفعه فيها.
٢٢٥ - لا يحاسبكم الله بسبب الأيمان التي تجري على ألسنتكم من غير قصد؛ كقول أحدكم: لا والله، وبلى والله، فلا كفارة عليكم ولا عقوبة في ذلك، ولكن يحاسبكم على ما قصدتموه من تلك الأيمان، والله غفور لذنوب عباد، حليم لا يعاجلهم بالعقوبة.
٢٢٦ - للذين يحلفون على ترك جماع نسائهم انتظار مدة لا تزيد عن أربعة أشهر، ابتداء من حلفهم، وهو ما يُعرف بالإيلاء، فإن رجعوا إلى جماع نسائهم بعد حلفهم على تركه في مدة أربعة أشهر فما دون؛ فإن الله غفور يغفر لهم ما حصل منهم، ورحيم بهم حيث شرع الكفارة مخرجًا من هذا اليمين.
٢٢٧ - وإن قصدوا الطلاق باستمرارهم على ترك جماع نسائهم وعدم الرجوع إليه فإن الله سميع لأقوالهم التي منها الطلاق، عليم بأحوالهم ومقاصدهم، وسيجازيهم عليها.
٢٢٨ - والمطلقات ينتظرن بأنفسهن ثلاث حيض لا يتزوجن خلالها، ولا يجوز لهن أن يُخفين ما خلق الله في أرحامهن من الحمل، إن كن صادقات في الإيمان بالله واليوم الآخر، وأزواجهن المطلقون لهن أحق بمراجعتهن في مدة العدة، إن قصدوا بالمراجعة الألفة وإزالة ما وقع بسبب الطلاق، وللزوجات من الحقوق والواجبات مثل الَّذي لأزواجهن عليهن بما تعارف عليه الناس، وللرجال درجة أعلى عليهن، من القِوَامة وأمر الطلاق، والله عزيز لا يغلبه شيء، حكيم في شرعه وتدبيره.
٢٢٩ - الطلاق الَّذي يمتلك فيه الزوج الرجعة طلقتان، بأن يطلق، ثم يراجع، ثم يطلق، ثم يراجع، ثم بعد الطلقتين إما أن يمسكها في عصمته مع المعاشرة بالمعروف، أو يطلقها الثالثة مع الإحسان إليها وأداء حقوقها، ولا يحِلُّ لكم -أيها الأزواج- أن تأخذوا مما دفعتم إلى زوجاتكم من المهر شيئًا، إلا أن تكون المرأة كارهة لزوجها بسبب خُلُقه أو خَلْقه، ويظن الزوجان بسبب هذا الكُره عدم وفائهما بما عليهما من الحقوق، فليعرضا أمرهما على من له بهما صلة قرابة أو غيرها، فإن خاف الأولياء عدم قيامهما بالحقوق الزوجية بينهما، فلا حرج عليهما أن تَخْلَع المرأة نفسها بمال تدفعه لزوجها مقابل طلاقها. تلك الأحكام الشرعية هي الفاصلة بين الحلال والحرام، فلا تتجاوزوها، ومن يتجاوز حدود الله بين الحلال والحرام؛ فأولئك هم الظالمون لأنفسهم بإيرادها موارد الهلاك، وتعريضها لغضب الله وعقابه.
٢٣٠ - فإن طلقها زوجها طلقة ثالثة لم يحل له نكاحها من جديد حتَّى تتزوج رجلًا غيره زواجًا صحيحًا لرغبة لا لقصد التحليل، ويجامعها في هذا النِّكَاح، فإن طلقها الزوج الثانى أو توفي عنها؛ فلا إثم على المرأة وزوجها الأول أن يتراجعا بعقد ومهر جديدين، إن غلب على ظنهما أنهما يقومان بما يلزمهما من الأحكام الشرعية، وتلك الأحكام الشرعية يبينها الله لأناس يعلمون أحكامه وحدوده؛ لأنهم هم الذين ينتفعون بها.
x• بيَّن الله تعالى أحكام النِّكَاح والطلاق بيانًا شاملًا حتَّى يعرف الناس حدود الحلال والحرام فلا يتجاوزوها.
• عظَّم الله شأن النِّكَاح وحرم التلاعب فيه بالألفاظ فجعلها ملزمة، وألغى التلاعب بكثرة الطلاق والرجعة فجعل لها حدًّا بطلقتين رجعيتين ثم تحرم عليه إلا أن تنكح زوجًا غيره ثم يطلقها.
• المعاشرة الزوجية تكون بالمعروف، فإن تعذر ذلك فلا بأس من الطلاق، ولا حرج على أحد الزوجين أن يطلبه.
٢٣١ - وإذا طلقتم نساءكم فقاربْنَ انتهاء عدتهن؛ فلكم أن تُراجعوهن أو تتركوهن بالمعروف دون رجعة حتَّى تنقضي عدتهن، ولا تُراجعوهن لأجل الاعتداء عليهن والإضرار بهن كما كان يُفعل في الجاهلية، ومن يفعل ذلك بقصد الإضرار بهن؛ فقد ظلم نفسه بتعريضها للإثم والعقوبة، ولا تجعلوا آيات الله محل استهزاء بالتلاعب بها والتجرؤ عليها، واذكروا نعم الله عليكم، ومن أعظمها ما أنزل عليكم من القرآن والسُّنَّة، يذكركم بهذا ترغيبًا لكم وترهيبًا، وخافوا الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، واعلموا أن الله بكل شيء عليم، فلا يخفى عليه شيء، وسيجازيكم بأعمالكم.
٢٣٢ - وإذا طلقتم نساءكم أقل من ثلاث طلقات، وانتهت عدتهن، فلا تمنعوهن -أيها الأولياء- حينئذ من العودة إلى أزواجهن بعقد ونكاح جديد إذا رغبن في ذلك، وتراضين مع أزواجهن عليه، ذلك الحكم المتضمن النهي عن منعهن يُذكَّر به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر، ذلكم أكثر نماء للخير فيكم، وأشد طُهْرًا لأعراضكم وأعمالكم من الأدناس، والله يعلم حقائق الأمور وعواقبها وأنتم لا تعلمون ذلك.
٢٣٣ - والوالدات يرضعن أولادهن سنتين كاملتين، ذلك التحديد بسنتين لمن قصد إكمال مدة الرضاعة، وعلى والد الطفل نفقة الوالدات المرضعات المطلقات ولباسهن، بحسب ما تعارف عليه الناس مما لا يخالف الشرع، لا يكلف الله نفسًا أكثر من سعتها وقدرتها، ولا يحل لأحد الأبوين أن يتخذ الولد وسيلة إضرار للآخر، وعلى وارث الطفل إذا عُدِمَ الأب، وكان الطفل ليس له مال مثل ما على الأب من الحقوق. فإن أراد الأبوان فطام الولد قبل تمام السنتين فلا إثم عليهما في ذلك، إذا كان بعد تشاورهما وتراضيهما على ما فيه مصلحة المولود، وإن أردتم أن تطلبوا لأولادكم مرضعات غير الأمهات؛ فلا إثم عليكم إذا سلمتم ما اتفقتم عليه مع المرضعة من أجرة بالمعروف بلا نقص أو مماطلة، واتقوا الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، واعلموا أن الله بما تعملون بصير، فلا يخفى عليه شيء من ذلك، وسيجازيكم على ما قدمتم من أعمال.
x• نهي الرجال عن ظلم النساء سواء كان بِعَضْلِ مَوْلِيَّتِه عن الزواج، أو إجبارها على ما لا تريد.
• حَفِظَ الشرع للأم حق الرضاع، وإن كانت مطلقة من زوجها، وعليه أن ينفق عليها ما دامت ترضع ولده.
• نهى الله تعالى الزوجين عن اتخاذ الأولاد وسيلة يقصد بها أحدهما الإضرار بالآخر.
• الحث على أن تكون كل الشؤون المتعلقة بالحياة الزوجية مبنية على التشاور والتراضي بين الزوجين.
٢٣٤ - والذين يموتون ويتركون وراءهم زوجات غير حوامل؛ ينتظرن بأنفسهن وجوبًا مدة أربعة أشهر وعشرة أيام، يمتنعن فيها عن الخروج من بيت الزوج، وعن الزينة والزواج، فإذا انقضت هذه المدة؛ فلا إثم عليكم -أيها الأولياء- فيما فعلن بأنفسهن مما كان ممنوعًا عليهن في تلك المدة، على الوجه المعروف شرعًا وعرفًا، والله بما تعملون خبير لا يخفى عليه شيء من ظاهركم وباطنكم، وسيجازيكم عليه.
٢٣٥ - ولا إثم عليكم في التلميح بالرغبة في خطبة المعتدة من وفاة أو طلاق بائن، دون التصريح بالرغبة؛ كأن يقول: إذا انقضت عِدَّتُكِ فأخبريني، ولا إثم عليكم فيما أخفيتم في أنفسكم من الرغبة في نكاح المعتدة بعد انقضاء عدتها، علم الله أنكم ستذكرونهن لشدة رغبتكم فيهن، فأباح لكم التلميح دون التصريح، واحذروا أن تتواعدوا سرًّا على النِّكَاح وهن في مدة العدة، إلا وفق المعروف من القول وهو التعريض، ولا تُبرموا عقد النِّكَاح في زمن العدة، واعلموا أن الله يعلم ما تضمرونه في أنفسكم مما أباح لكم وحرم عليكم فاحذروه، ولا تخالفوا أمره، واعلموا أن الله غفور لمن تاب من عباده، حليم لا يعاجل بالعقوبة.
٢٣٦ - لا إثم عليكم إن طلقتم زوجاتكم اللائي عقدتم عليهن قبل أن تجامعوهن وقبل أن توجبوا مهرًا محددًا لهن، فإذا طلقتموهن على هذه الحال فلا يجب لهن عليكم مهر، وإنما يجب إعطاؤهن شيئًا يتمتعن به، ويجبر كسر نفوسهن، بحسب الاستطاعة سواء كان مُوسَّعًا عليه كثير المال أو مُضَيّقًا عليه قليل المال، وهذا العطاء حق ثابت على المحسنين في أفعالهم ومعاملاتهم.
٢٣٧ - وإن طلقتم زوجاتكم اللائي عقدتم عليهن قبل جماعهن وقد أوجبتم لهن مهرًا محددًا، فيجب عليكم دفع نصف المهر المسمى إليهن، إلا أن يسمحن لكم عنه -إن كنّ رشيدات- أو يسمح الأزواج أنفسهم ببذل المهر كاملًا لهن، وأن تتسامحوا في الحقوق بينكم أقرب إلى خشية الله وطاعته، ولا تتركوا -أيها الناس- تفضل بعضكم على بعض، والمسامحة في الحقوق، فإن الله بما تعملون بصير، فاجتهدوا في بذل المعروف لتنالوا ثواب الله عليه.
x• مشروعية العِدة على من توفي عنها زوجها بأن تمتنع عن الزينة والزواج مدة أربعة أشهر وعشرة أيام.
• معرفة المؤمن باطلاع الله عليه تَحْمِلُه على الحذر منه تعالى والوقوف عند حدوده.
• الحث على المعاملة بالمعروف بين الأزواج والأقارب، وأن يكون العفو والمسامحة أساس تعاملهم فيما بينهم.
٢٣٨ - حافظوا على الصلوات بأدائها تامة كما أمر الله، وحافظوا على الصلاة الوسطى بين الصلوات وهي صلاة العصر، وقوموا لله في صلاتكم مطيعين خاشعين.
٢٣٩ - فإن خفتم من عدوٍّ ونحوه، فلم تقدروا على أدائها تامة فصلوا مشاة على أرجلكم أو راكبين على الإبل والخيل ونحوها، أو على أي صفة تقدرون عليها، فإذا زال الخوف عنكم فاذكروا الله كما علَّمكم، ومنه ذِكرُه في الصلاة على كمالها وتمامها، واذكروه أيضًا لتعليمه إياكم ما لم تكونوا تعلمونه من النور والهدى.
٢٤٠ - والذين يموتون منكم ويتركون وراءهم أزواجًا عليهم أن بوصوا لهن بأن يُمتَّعن بالسكنى والنفقة عامًا كاملًا لا يُخرجهن ورثتكم؛ جبرًا لهن لما أصابهن، ووفاء للميت، فإن خرجن قبل إكمال العام من تلقاء أنفسهن فلا إثم عليكم ولا عليهن فيما فعلن في أنفسهن من التزين والتطيب، والله عزيز لا غالب له، حكيم في تدبيره وشرعه وقدره. هذا وقد ذهب جمهور المفسرين إلى أن حكمِ هذه الآية منسوخ بقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ [البقرة: ٢٣٤].
٢٤١ - وللمطلقات متاع يمتَّعن به من كسوة أو مال أو غير ذلك، جبرًا لخواطرهن المنكسرة بالطلاق، وفق المعروف من مراعاة حال الزوج من قلة أو كثرة، وهذا الحكم حق ثابت على المتقين لله تعالى بامتثال أمره واجتناب نهيه.
٢٤٢ - مثل ذلك البيان السابق يبين الله لكم -أيها المؤمنون- آياته المشتملة على حدوده وأحكامه؛ لعلكم تعقلونها وتعملون بها، فتنالون الخير في الدنيا والآخرة.
٢٤٣ - ألم يبلغ علمك -أيها النبي- خبر الذين خرجوا من بيوتهم وهم خلق كثير خوفًا من الموت بسبب الوباء أو غيره، وهم طائفة من بني إسرائيل، فقال لهم الله: موتوا فماتوا، ثم أعادهم أحياء، ليبين لهم أن الأمر كله بيده سبحانه، وأنهم لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا، إن الله لذو عطاء وفضل على الناس، ولكن أكثر الناس لا يشكرون الله على نعمه.
٢٤٤ - وقاتلوا -أيها المؤمنون- أعداء الله، نصرة لدينه ورفعة لكلمته، واعلموا أن الله سميع لأقوالكم، عليم بنياتكم وأفعالكم، وسيجازيكم عليها.
٢٤٥ - من ذا الَّذي يعمل عمل المُقرض، فينفق ماله في سبيل الله بنية حسنة ونفس طيبة، ليعود عليه أضعافًا كثيرة، والله يضيِّق في الرزق والصحة وغيرها، ويوسع في ذلك كله بحكمته وعدله، وإليه وحده ترجعون في الآخرة، فيجازيكم على أعمالكم.
x• الحث على المحافظة على الصلاة وأدائها تامة الأركان والشروط، فإن شق عليه صلَّى على ما تيسر له من الحال.
• رحمة الله تعالى بعباده ظاهرة، فقد بين لهم آياته أتم بيان للإفادة منها.
• أن الله تعالى قد يبتلي بعض عباده فيضيِّق عليهم الرزق، ويبتلي آخرين بسعة الرزق، وله في ذلك الحكمة البالغة.
٢٤٦ - ألم يبلغ علمك -أيها النبي- خبر الأشراف من بني إسرائيل بعد زمن موسى عليه السلام، حين قالوا لنبي لهم: أقم لنا مَلِكًا نقاتل معه في سبيل الله، فقال لهم نبيهم: لعلكم إن فرض الله عليكم القتال ألا تقاتلوا في سبيل الله! قالوا منكرين ظنه فيهم: أي مانع يمنعنا من القتال في سبيل الله مع وجود ما يقتضي ذلك منا؟ فقد أَخرجَنا أعداؤنا من أوطاننا، وأسروا أبناءنا، فنقاتل لاستعادة أوطاننا وتخليص أَسْرَانا، فلما فرض الله عليهم القتال أعرضوا إذ لم يوفّوا بما وعدوا به إلا قلة منهم، والله عليم بالظالمين المعرضين عن أمره، الناقضين لعهده، وسيجازيهم على ذلك.
٢٤٧ - وقال لهم نبيهم: إن الله قد أقام لكم طالوت ملكًا عليكم لتقاتلوا تحت رايته، قال أشرافهم مستنكرين هذا الاختيار ومعترضين عليه: كيف يكون له المُلك علينا، ونحن أولى بالمُلك منه؛ إذ لم يكن من أبناء الملوك، ولم يُعْطَ مالًا واسعًا يستعين به على الملك؟! قال لهم نبيهم: إن الله اختاره عليكم، وزاده عليكم سعة في العلم وقوة في الجسم، والله يؤتي ملكه من يشاء بحكمته ورحمته، والله واسع الفضل يعطي من يشاء، عليم بمن يستحقه من خلقه.
٢٤٨ - وقال لهم نبيهم: إن علامة صدق اختياره ملكًا عليكم؛ أن يَرُد الله عليكم التابوت -وكان صندوقًا يعظمه بنو إسرائيل أُخذ منهم- فيه طمأنينة تصاحبه، وفيه بقايا مما تركه آل موسى وآل هارون، مثل العصا، وبعض من الألواح، إن في ذلك لعلامة بينة لكم إن كنتم مؤمنين حقًّا.
x• التنبيه إلى أهم صفات القائد التي تؤهله لقيادة الناس؛ وهي العلم بما يكون قائدًا فيه، والقوة عليه.
• إرشاد من يتولى قيادة الناس إلى ألا يغتر بأقوالهم حتَّى يبلوهم، ويختبر أفعالهم بعد أقوالهم.
• أن الاعتبارات التي قد تشتهر بين الناس في وزن الآخرين والحكم عليهم قد لا تكون هي الموازين الصحيحة عند الله تعالى، بل هو سبحانه يصطفي من يشاء من خلقه بحكمته وعلمه.
٢٤٩ - فلما خرج طالوت بالجنود عن البلد قال لهم: إن الله مختبركم بنهر، فمن شرب منه فليس على طريقتي، ولا يصاحبني في قتال، ومن لم يشرب منه فإنه على طريقتي، ويصاحبني في القتال، إلا من اضطر فشرب مقدار غرفة بكفِّ يده فلا شيء عليه، فشرب الجنود إلا قليلًا منهم صبروا على عدم الشرب مع شدة العطش، فلما جاوز طالوت النهر هو والمؤمنون معه، قال بعض جنوده: لا قدرة لنا اليوم على قتال جالوت وجنوده، وعندئذ قال الذين يوقنون أنهم ملاقو الله يوم القيامة: كم من طائفة مؤمنة قليلة العدد غلبت طائفة كافرة كثيرة العدد بإذن الله وعونه، فالعبرة في النصر بالإيمان لا بالكثرة، والله مع الصابرين من عباده يؤيدهم وينصرهم.
٢٥٠ - ولما خرجوا ظاهرين لجالوت وجنوده توجهوا إلى الله بالدعاء قائلين: ربنا صُبَّ على قلوبنا الصبر صبًّا، وثبت أقدامنا حتَّى لا نَفِرّ ولا ننهزم أمام عدونا، وانصرنا بقوتك وتأييدك على القوم الكافرين.
٢٥١ - فهزموهم بإذن الله، وقتل داودُ قائدَهم جالوت، وآتاه الله الملك والنبوة، وعلمه مما يشاء من أنواع العلوم، فجمع له بين ما يصلح الدنيا والآخرة. ولولا أن من سُنَّة الله أن يردَّ ببعض الناس فساد بعضهم؛ لفسدت الأرض بتسلط المفسدين فيها، ولكن الله ذو فضل على جميع المخلوقات.
٢٥٣ - تلك آيات الله الواضحة البينة نتلوها عليك -أيها النبي- متضمنة صدقًا في الأخبار، وعدلًا في الأحكام، وإنك لمن المرسلين من رب العالمين.
x• من حكمة القائد أن يُعرِّض جيشه لأنواع الاختبارات التي يتميز بها جنوده ويعرف الثابت من غيره.
• العبرة في النصر ليست بمجرد كثرة العدد والعدة فقط، وإنما معونة الله وتوفيقه أعظم الأسباب للنصر والظفر.
• لا يثبت عند الفتن والشدائد إلا من عَمَرَ اليقينُ بالله قلوبَهم، فمثل أولئك يصبرون عند كل محنة، ويثبتون عند كل بلاء.
• الضراعة إلى الله تعالى بقلب صادق متعلق به من أعظم أسباب إجابة الدعاء، ولا سيما في مواطن القتال.
• من سُنَّة الله تعالى وحكمته أن يدفع شر بعض الخلق وفسادهم في الأرض ببعضهم.
٢٥٣ - أولئك الرسل الذين ذكرناهم لك، فضَّلنا بعضهم على بعض في الوحي والأتباع والدرجات، منهم من كَلَّمَه الله مثل موسى عليه السلام، ومنهم من رفعه درجات عالية مثل محمد - ﷺ -؛ إذ أُرسِل للناس كلهم، وخُتِمَت به النبوة، وفُضِّلَت أمته على الأمم، وآتينا عيسى بن مريم المعجزات الواضحات الدالة على نبوته؛ كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وأيدناه بجبريل عليه السلام تَقْويةً له على القيام بأمر الله تعالى. ولو شاء الله ما اقتتل الذين جاؤوا من بعد الرسل من بعد ما جاءتهم الآيات الواضحة، ولكن اختلفوا فانقسموا؛ فمنهم من آمن بالله، ومنهم من كفر به، ولو شاء الله ألا يقتتلوا ما اقتتلوا، ولكن الله يفعل ما يريد، فيهدي من يشاء إلى الإيمان برحمته وفضله، ويضل من يشاء بعدله وحكمته.
٢٥٤ - يا أيها الذين آمنوا بالله واتبعوا رسوله، أنفقوا مما رزقناكم من مُختلف الأموال الحلال، من قبل أن يأتي يوم القيامة، حينئذ لا بيع فيه يكتسب منه الإنسان ما ينفعه، ولا صداقة تنفعه في وقت الشدة، ولا وساطة تَدفع ضرًّا أو تَجلب نفعًا إلا بعد أن ياذن الله لمن يشاء ويرضى، والكافرون هم الظالمون حقًّا لكفرهم بالله تعالى.
٢٥٥ - الله الذي لا إله يُعبد بحقٍّ إلا هو وحده دون سواه، الحي حياة كاملة لا موت فيها ولا نقص، القيوم الَّذي قام بنفسه فاستغنى عن جميع خلقه، وبه قامت جميع المخلوقات فلا تستغني عنه في كل أحوالها، لا يأخذه نعاس ولا نوم؛ لكمال حياته وقيوميته، له وحده ملك ما في السماوات وما في الأرض، لا يملك أحد أن يشفع عنده لأحد إلا بعد إذنه ورضاه، يعلم ما مضى من أمور خلقه مما وقع، وما يستقبلونه مما لم يقع، ولا يحيطون بشيء من علمه تعالى إلا بما شاء أن يطلعهم عليه، أحاط كرسيه -وهو: موضعِ قَدَميِ الرب- بالسماوات والأرض على سَعَتِهما وعِظَمِهما، ولا يُثْقِلُه أو يشق عليه حفظهما، وهو العَليُّ بذاته وقدْرِه وقهْرِه، العظيم في ملكه وسلطانه.
٢٥٦ - لا إكراه لأحد على الدخول في دين الإسلام؛ لأنه الدين الحق البيِّن فلا حاجة به إلى إكراه أحد عليه، قد تميز الرُّشد من الضلال، فمن يكفر بكل ما يعبد من دون الله ويتبرأ منها، ويؤمن بالله وحده؛ فقد استمسك من الدين بأقوى سبب لا ينقطع للنجاة يوم القيامة، والله سميع لأقوال عباده، عليم بأفعالهم، وسيجازيهم عليها.
x• أن الله تعالى قد فاضل بين رسله وأنبيائه، بعلمه وحكمته سبحانه.
• إثبات صفة الكلام لله تعال على ما يليق بجلاله، وأنه قد كلَّم بعض رسله كموسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام.
• الإيمان والهدى والكفر والضلال كلها بمشيئة الله وتقديره، فله الحكمة البالغة، ولو شاء لهدى الخلق جميعًا.
• آية الكرسي هي أعظم آية في كتاب الله، لما تضمنته من ربوبية الله وألوهيته وبيان أوصافه عز وجل.
• اتباع الإسلام والدخول فيه يجب أن يكون عن رضًا وقَبول، فلا إكراه في دين الله تعالى.
• الاستمساك بكتاب الله وسُنَّة رسوله أعظم وسيلة للسعادة في الدنيا، والفوز في الآخرة.
٢٥٧ - الله يتولى الذين آمنوا به، يوفقهم وينصرهم، ويخرجهم من ظلمات الكفر والجهل، إلى نور الإيمان والعلم، والذين كفروا أولياؤهم الأنداد والأوثان، الذين زينوا لهم الكفر، فأخرجوهم من نور الإيمان والعلم إلى ظلمات الكفر والجهل، أولئك أصحاب النار هم فيها ماكثون أبدًا. ولما ذكر الله الفريقين ضرب مثالين على الفريقين فقال:
٢٥٨ - هل رأيت -أيها النبي- أعجب من جرأة الطاغية الذي جادل إبراهيم -عليه السلام- في ربوبية الله وتوحيده، وقد وقع منه ذلك لأن الله آتاه المُلك فطغى، فبيّن له إبراهيم صفات ربه قائلًا: ربي الذي يحيي الخلائق ويُمِيتُها، قال الطاغية عنادًا: أنا أُحيي وأُميت بأن أقتل من أشاء وأعفو عمن أشاء، فأتاه إبراهيم -عليه السلام- بحجة أخرى أعظم، قال له: إن ربي الذي أعبده يأتي بالشمس من جهة المشرق، فأت بها أنت من جهة المغرب، فما كان من الطاغية إلا أن تحيَّر وانقطع، وغُلب من قوة الحجة، والله لا يوفق الظالمين لسلوك سبيله؛ لظلمهم وطغيانهم.
٢٥٩ - أو هل رأيت مِثْلَ الذي مَرَّ على قرية سقطت سقوفها، وتهدمت جدرانها، وهلك سكانها، فأصبحت موحشة مُقْفرة، قال هذا الرجل متعجبًا: كيف يحيي الله أهل هذه القرية بعد موتها؟! فأماته الله مدة مئة عام، ثم أحياه، وسأله فقال له: كم مكثت ميتًا؟ قال مجيبًا: مكثت مدة يوم أو بعض يوم. قال له: بل مكثت مئة سنة تامة، فانظر إلى ما كان معك من الطعام والشراب، فها هو ذا باقٍ على حاله لم يتغير، مع أن أسرع ما يصيبه التغير الطعام والشراب، وانظر إلى حمارك الميت، ولنجعلك علامة بينة للناس دالة على قدرة الله على بعثهم، فانظر إلى عظام حمارك التي تفرقت وتباعدت، كيف نرفعها ونضم بعضها إلى بعض، ثم نكسوها بعد ذلك اللحم، ونعيد فيها الحياة، فلما رأى ذلك تبين له حقيقة الأمر، وعلم قدرة الله، فقال معترفًا بذلك: أعلم أن الله على كل شيء قدير.
x• من أعظم ما يميز أهل الإيمان أنهم على هدى وبصيرة من الله تعالى في كل شؤونهم الدينية والدنيوية، بخلاف أهل الكفر.
• من أعظم أسباب الطغيان الغرور بالقوة والسلطان حتى يعمى المرء عن حقيقة حاله.
• مشروعية مناظرة أهل الباطل لبيان الحق، وكشف ضلالهم عن الهدى.
• عظم قدرة الله تعالى؛ فلا يُعْجِزُهُ شيء، ومن ذلك إحياء الموتى.
٢٦٠ - واذكر -أيها النبي- حين قال إبراهيم -عليه السلام-: يا رب أرني ببصري كيف يكون إحياء الموتى؟! قال الله: أوَلم تؤمن بهذا الأمر؟ قال إبراهيم: بلى قد آمنت، ولكن زيادة في طمأنينة قلبي، فأمره الله وقال له: خذ أربعة من الطير، فاضممهنَّ إليك وقطِّعْهنَّ، ثم اجعل على كل جبل من الجبال التي حولك جزءًا منهن، ثم نادِهن يأتينك سعيًا مسرعات قد عادت إليهن الحياة. واعلم يا إبراهيم أن الله عزيز في ملكه، حكيم في أمره وشرعه وخلقه.
٢٦١ - مَثَل ثواب المؤمنين الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة يضعها الزارع في أرض طيبة فتنبت سبع سنابل، في كل سنبلة منها مئة حبة، والله يضاعف الثواب لمن يشاء من عباده، فيعطيهم أجرهم دون حساب، والله واسع الفضل والعطاء، عليم بمن يستحق المضاعفة.
٢٦٢ - الذين يبذلون أموالهم في طاعة الله ومرضاته يُتْبعون بذلهم بما يبطل ثوابه من المَنِّ على الناس بالقول أو الفعل، لهم ثوابهم عند ربهم، ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه، ولا هم يحزنون على ما مضى لعظم نعيمهم.
٢٦٣ - قول كريم تُدخِل به السرور على قلب مؤمن، وعفو عمن أساء إليك؛ أفضل من صدقة يتبعها إيذاء بالمنِّ على المتصدَّق عليه، والله غني عن عباده، حليم لا يعاجلهم بالعقوبة.
٢٦٤ - يا أيها الذين آمنوا بالله واتبعوا رسوله، لا تفسدوا ثواب صدقاتكم بالمَنِّ على المتصدَّق عليه وإيذائه، فإن مَثلَ من يفعل ذلك مَثلُ الذي يبذل أمواله بقصد أن يراه الناس ويمدحوه، وهو كافر لا يؤمن بالله ولا بيوم القيامة وما فيه من ثواب وعقاب، فمَثَلُ هذا مَثَلُ حجر أملس فوقه تراب، فأصاب ذلك الحجر مطر غزير، فأزاح الترابَ عن الحجر وتركه أملس لا شيء عليه، فكذلك المُراؤون يذهب ثواب أعمالهم ونفقاتهم ولا يبقى منها عند الله شيء، والله لا يهدي الكافرين إلى ما يرضيه تعالى وينفعهم في أعمالهم ونفقاتهم.
x• مراتب الإيمان بالله ومنازل اليقين به متفاوتة لا حد لها، وكلما ازداد العبد نظرًا في آيات الله الشرعية والكونية زاد إيمانًا ويقينًا.
• بَعْثُ الله تعالى للخلق بعد موتهم دليل ظاهر على كمال قدرته وتمام عظمته سبحانه.
• فضل الإنفاق في سبيل الله وعظم ثوابه، إذا صاحبته النية الصالحة، ولم يلحقه أذى ولا مِنّة محبطة للعمل.
• من أحسن ما يقدمه المرء للناس حُسن الخلق من قول وفعل حَسَن، وعفو عن مسيء.
٢٦٥ - ومثل المؤمنين الذين يبذلون أموالهم طلبًا لرضوان الله، مطمئنةً أنفسُهم بصدق وعد الله غيرَ مكرهة، كمثل بستان على مكان مرتفع طيب، أصابه مطر فزير، فأنتج ثمرًا مضاعفًا، فان لم يصبه مطر كزير أصابه مطر خفيف فاكتفى به لطيب أرضه، وكذلك نففات المخلصين يقبلها الله ويضاعف أجرها وإن كانت قليلة، والله بما تعملون بصير، فلا يخفى عليه حال المخلصين والمرائين، وسيجازي كلا بما يستحق.
ثم ضرب تعالى مثالًا يصور به حال المنفق ماله رياءً فقال:
٢٦٦ - أيرغب أحدكم في أن يكون له بستان فيه نخل وعنب تجري في خلاله المياه العذبة، له فيه من كل أنواع الثمرات الطيبة، وأصاب صاحبَه الكِبَرُ فأصبح شيخًا لا يقدر على العمل والكسب، وله أبناء صغار ضعفاء لا يستطيعون العمل، فأصابت البستانَ ريح شديدة فيها نار شديدة فاحترق البستان كله، وهو أحوج ما يكون إليه لكبره وضعف ذريته؟! فحال المنفق ماله رياء للناس مثل هذا الرجل؛ يَرِدُ على الله يوم القيامة بلا حسنات، في وقت هو أشد ما يكون حاجة لها. مثل هذا البيان يبين الله لكم ما ينفعكم في الدنيا والآخرة لعلكم تتفكرون فيه.
٢٦٧ - يا أيها الذين آمنوا بالله واتبعوا رسوله، أنفقوا من المال الحلال الطيب الذي كسبتموه، وأنفقوا مما أخرجنا لكم من نبات الأرض، ولا تقصدوا إلى الرديء منه فتنفقوه، ولو أعطي لكم ما أخذتموه إلا إذا تغاضيتم عنه مكرهين على رداءته، فكيف ترضون لله ما لا ترضون لأنفسكم؟! واعلموا أن الله غني عن نفقاتكم، محمود في ذاته وأفعاله.
ولما أمرهم بإنفاق الطيب حذرهم من كيد الشيطان ووساوسه، فقال:
٢٦٨ - الشيطان يخوفكم من الفقر، ويحثكم على البخل، ويدعوكم إلى ارتكاب الآثام والمعاصي، والله يعدكم مغفرة عظيمة لذنوبكم، ورزقًا واسعًا، والله واسع الفضل، عليم بأحوال عباده.
٢٦٩ - يؤتي السداد في القول والإصابة في العمل من يشاء من عباده، ومن يعط ذلك فقد أعطي خيرًا كثيرًا، ولا يتذكر ويتعظ بآيات الله إلا أصحاب العقول الكاملة التي تستضيء بنوره، وتهتدي بهديه.
x• المؤمنون بالله تعالى حقًّا واثقون من وعد الله وثوابه، فهم ينفقون أموالهم ويبذلون بلا خوف ولا حزن ولا التفات إلى وساوس الشيطان كالتخويف بالفقر والحاجة.
• الإخلاص من أعظم ما يبارك الأعمال وينميها.
• أعظم الناس خسارة من يرائي بعمله الناس؛ لأنه ليس له من ثواب على عمله إلا مدحهم وثناؤهم.
٢٧٠ - وما أنفقتم من نفقةٍ قليلةً كانت أو كثيرة ابتغاء مرضاة الله، أو التزمتم فعل طاعة لله من عند أنفسكم لم تكلفوا بها؛ فإن الله يعلم ذلك كله، فلا يضيع عنده شيء منه، وسيجازيكم عليه أعظم الجزاء، وليس للظالمين المانعين لما يجب عليهم، المتعدين الله، أنصار يدفعون عنهم عذاب يوم القيامة.
٢٧١ - إن تُظْهِروا ما تبذلون من الصدقة بالمال فَنِعْم الصدقة صدقتكم، وإن تخفوها وتعطوها الفقراء فهو خير لكم من إظهارها؛ لأنه أقرب إلى الإخلاص. وفي صدقات المخلصين ستر لذنوبهم ومغفرة لها، والله بما تعملون خبير، فلا يخفى عليه شيء من أحوالكم.
٢٧٢ - ليس عليك -أيها النبي- هدايتهم لقبول الحق والانقياد له وحملهم عليه، وإنما تجب عليك دلالتهم إلى الحق وتعريفهم به، فإن التوفيق للحق والهداية إليه بيد الله، وهو يهدي من يشاء. وما تنفقوا من خير فنفعه عائد إليكم؛ لأن الله غني عنه، ولتكن نفقتكم خالصة لله، فالمؤمنون حقًّا لا ينفقون إلا طلبًا لمرضاة الله، وما تنفقوا من خير قليلًا كان أو كثيرًا فإنكم تُعْطَونَ ثوابه تامًا غير منقوص، فإن الله لا يظلم أحدًا.
ولما ذكر الإنفاق في سبيله ودعا المؤمنين إليه بيَّن لهم المصارف التي ينفقون فيها، فقال:
٢٧٣ - اجعلوها للفقراء الذين منعهم الجهاد في سبيل الله من السفر طلبًا للرزق، يظنهم الجاهل بحالهم أغنياء لتعففهم عن السؤال ويعرفهم المطلع عليهم بعلاماتهم، من الحاجة الظاهرة على أجسامهم وثيابهم، ومن صفاتهم أنهم ليسوا كسائر الفقراء الذين يسألون الناس مُلِحِّين في مسألتهم، وما تنفقوا من مال وغيره فإن الله به عليم، وسيجازيكم عليه أعظم الجزاء.
٢٧٤ - الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله في الليل والنهار، سرًّا وعلانية بلا رياء ولا سمعة، فلهم ثوابهم عند ربهم يوم القيامة، ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه من أمرهم، ولا هم يحزنون على ما فاتهم من الدنيا، فضلًا من الله ونعمة.
x• إذا أخلص المؤمن في نفقاته وصدقاته فلا حرج عليه في إظهارها وإخفائها بحسب المصلحة، وإن كان الإخفاء أعظم أجرًا وثوابًا لأنها أقرب للإخلاص.
• دعوة المؤمنين إلى الالتفات والعناية بالمحتاجين الذين تمنعهم العفة من إظهار حالهم وسؤال الناس.
• مشروعية الإنفاق في سبيل الله تعالى في كل وقت وحين، وعظم ثوابها، حيث وعد تعالى عليها بعظيم الأجر في الدنيا والآخرة.
ولمَّا رغَّب تعالى في الإنفاق في سبيله لما فيه من التعاون والتكافل بين المسلمين؛ حذَّر مما يناقض ذلك وهو الربا، فقال:
٢٧٥ - الذين يتعاملون بالربا ويأخذونه لا يقومون يوم القيامة من قبورهم إلا مثل ما يقوم الذي به مس من الشيطان، فيقوم من قبره يخبط كما يخبط من به صرع في قيامه وسقوطه؛ ذلك بسبب أنهم استحلوا أكل الربا، ولم يفرقوا بين الربا وبين ما أحل الله من مكاسب البيع، فقالوا: إنما البيع مثل الربا في كونه حلالًا، فكل منهما يؤدي إلى زيادة المال ونمائه، فرد الله عليهم وأبطل قياسهم وأكذبهم، وبيَّن أنه تعالى أحل البيع لما فيه من نفع عام وخاص، وحرم الربا لما فيه من ظلم وأكل لأموال الناس بالباطل بلا مقابل، فمن جاءته موعظة من ربه فيها النهي والتحذير من الربا، فانتهى عنه وتاب إلى الله منه، فله ما مضى من أخذه للربا لا إثم عليه فيه، وأمره إلى الله فيما يستقبل بعد ذلك، ومن عاد إلى أخذ الربا بعد أن بلغه النهي من الله، وقامت عليه الحجة؛ فقد استحق دخول النار والخلود فيها. وهذا الخلود في النار المقصود به البقاء الطويل فيها، فإن الخلود الدائم فيها لا يكون إلا للكفار، أما أهل التوحيد فلا يخلدون فيها. ولما ذكر الله الإنفاق في سبيله وأَخذ الربا، بيَّن الفرق بينهما في الجزاء، فقال:
٢٧٦ - يُهلك الله المال الربوي ويُذهِبُه، إما حسًّا بتلفه ونحو ذلك، أو معنًى بنزع البركة منه، ويزيد الصدقات وينمِّيها بمضاعفة ثوابها، فالحسنة بعشر أمثالها الى سَبع مِئة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ويبارك في أموال المتصدقين، والله لا يحب كل من كان كافرًا عنيدًا، مستحلا للحرام، متماديًا في المعاصي والآثام.
٢٧٧ - إن الذين آمنوا بالله واتبعوا رسوله، وعملوا الأعمال الصالحة، وأدوا الصلاة تامة على ما شرع الله، وآتوا زكاة أموالهم لمن يستحقها؛ لهم ثوابهم عند ربهم، ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه من أمورهم، ولا هم يحزنون على ما فاتهم من الدنيا ونعيمها.
٢٧٨ - يا أيها الذين آمنوا بالله واتبعوا رسوله، خافوا الله بأن تمتثلوا أوامره وتجتنبوا نواهيه، واتركوا المطالبة بما بقي لكم من أموال ربوية عند الناس، إن كنتم مؤمنين حقا بالله وبما نهاكم عنه من الربا.
٢٧٩ - فإن لم تفعلوا ما أُمِرتم به فاعلموا واستيقنوا بحرب من الله ورسوله، وإن تبتم إلى الله وتركتم الربا فلكم قَدْرُ ما أقرضتم من: رؤوس أموالكم، لا تَظلِمون أحدًا بأخذ زيادة على رأس مالكم، ولا تُظلَمون بالنقص منها.
٢٨٠ - وإن كان من تطالبونه بالدَّين معسرًا لا يجد سداد دينه، فأخِّروا مطالبته إلى أن يتيسر له المال، ويجد ما يقضي به الدين، وأن تتصدقوا عليه بترك المطالبة بالدين أو إسقاط بعضه عنه، خير لكم إن كنتم تعلمون فضل ذلك عند الله تعالى.
٢٨١ - وخافوا عذابَ يوم ترجعون فيه جميعًا إلى الله، وتقومون بين يديه، ثم تُعطى كل نفس جزاء ما كسبت من خير أو شر، لا يُظلمون بنقص ثواب حسناتهم، ولا بزيادة العقوبة على سيئاتهم.
x• من أعظم الكبائر أكل الربا، ولهذا توعد الله تعالى آكله بالحرب وبالمحق في الدنيا والتخبط في الآخرة.
• الالتزام بأحكام الشرع في المعاملات المالية ينزل البركة والنماء فيها.
• فضل الصبر على المعسر، والتخفيف عنه بالتصدق عليه ببعض الدَّين أو كله.
٢٨٣ - يا أيها الذين آمنوا بالله واتبعوا رسوله، إذا تعاملتم بالدَّيْنِ، بأن دَايَنَ بعضكم بعضًا إلى مدة محددة فاكتبوا ذلك الدَّيْنَ، وليكتب بينكم كاتب بالحق والإنصاف الموافق للشرع، ولا يمتنع الكاتب أن يكتب الدَّين بما يوافق ما علَّمه الله من الكتابة بالعدل، فلْيَكتبْ ما يُمْلِيه الذي عليه الحق، حتى يكون ذلك إقرارًا منه، وليتق الله ربه، ولا يَنقُص من الدَّين شيئًا في قدره أو نوعه أو كيفيته، فإن كان الذي عليه الحق لا يحسن التصرف، أو كان ضعيفًا لصغره أو جنونه أو كان لا يستطيع الإملاء لخَرَسِه ونحو ذلك، فلْيقُم بالإملاء عنه وليُّه المسؤول عنه بالحق والإنصاف. واطلبوا شهادة رجلين عاقلين عدلين، فإن لم يوجد رجلان فاستشهدوا رجلًا وامرأتين ترضون دينهم وأمانتهم، حتى إذا نسيت إحدى المرأتين ذكّرتها أختها، ولا يمتنع الشهود إذا طُلِب منهم الشهادة على الدَّين، وعليهم أداؤها إذا دُعوا لذلك، ولا يُصِبْكم الملل من كتابة الدَّين قليلًا كان أو كثيرًا إلى مدته المحددة، فكتابة الدَّين أعدل في شرع الله، وأبلغ في إقامة الشهادة وأدائها، وأقرب إلى نفي الشك في نوع الدَّين ومقداره ومدته، إلا إذا كان التعاقد بينكم على تجارة في سلعة حاضرة وثمن حاضر؛ فلا حرج في ترك الكتابة حينئذ لعدم الحاجة إليها، ويشرع لكم الإشهاد منعًا لأسباب النزاع، ولا يجوز الإضرار بالكُتّابِ والشهود، ولا يجوز لهم الإضرار بمن طلب كتابتهم أو شهادتهم، وأن يقع منكم الإضرار فإنه خروج عن طاعة الله إلى معصيته. وخافوا الله -أيها المؤمنون- بأن تمتثلوا ما أمركم به، وتجتنبوا ما نهاكم عنه، ويعلِّمكم الله ما فيه صلاح دنياكم وآخرتكم، والله بكل شيء عليم، فلا يخفى عليه شيء.
x• مشروعية توثيق الدَّين وسائر المعاملات المالية دفعًا للاختلاف والتنازع.
• وجوب تسمية الأجل في جميع المداينات وأنواع الإجارات.
• ثبوت الولاية على القاصرين إما بسبب عجزهم، أو ضعف عقلهم، أو صغر سنهم.
• مشروعية الإشهاد على الإقرار بالديون والحقوق.
• أن من تمام الكتابة والعدل فيها أن يحسن الكاتب الإنشاء والألفاظ المعتبرة في كل معاملة بحسبها.
• لا يجوز الإضرار بأحد بسبب توثيق الحقوق وكتابتها، لا من جهة أصحاب الحقوق، ولا من جهة من يكتبه ويشهد عليه.
48
٢٨٣ - وإن كنتم مسافرين ولم تجدوا كاتبًا يكتب لكم وثيقة الدَّين، فيكفي أن يُعْطي الذي عليه الحق رهنًا يقبضه صاحب الحق، يكون ضمانًا لحقه، إلى أن يقضي المدين ما عليه من دَين، فإن وَثِقَ بعضكم ببعض لم تلزم كتابة ولا إشهاد ولا رهن، ويكون الدَّين حينئذ أمانة في ذمة المَدِين يجب عليه أداؤه لدائنه، وعليه أن يتقي الله في هذه الأمانة فلا ينكر منها شيئًا، فإن أنكر كان على من شهد المعاملة أن يؤدي الشهادة، ولا يجوز له أن يكتمها، ومن يكتمها فإن قلبه قلب فاجر، والله بما تعملون عليم، لا يخفى عليه شيء، وسيجازيكم على أعمالكم.
٢٨٤ - لله وحده ما في السماوات وما في الأرض خلفًا وملكًا وتدبيرًا، وإن تُظهروا ما في قلوبكم أو تخفوه يعلمه الله، وسيحاسبكم عليه، فيغفر بعد ذلك لمن يشاء فضلًا ورحمة، ويعذب من يشاء عدلًا وحكمة، والله على كل شيء قدير.
٢٨٥ - آمن الرسول محمد - ﷺ - بكل ما أُنزل إليه من ربه، والمؤمنون آمنوا كذلك، كلهم جميعًا آمنوا بالله، وآمنوا بجميع ملائكته، وجميع كتبه التي أنزلها على الأنبياء، وجميع رسله الذين أرسلهم، آمنوا بهم قائلين: لا نفرق بين أحد من رسل الله، وقالوا: سمعنا ما أمرتنا به ونهيتنا عنه، وأطعناك بفعل ما أمرت به وترك ما نهيت عنه، ونسألك أن تغفر لنا يا ربنا، فإن مرجعنا إليك وحدك في كل شؤوننا.
٢٨٦ - لا يكلف الله نفسًا إلا ما تطيق من الأعمال؛ لأن دين الله مبني على اليسر فلا مشقة فيه، فمن كسب خيرًا فله ثواب ما عمل لا يُنْقَصُ منه شيء، ومن كسب شرًّا فعليه جزاء ما اكتسب من ذنب لا يحمله عنه غيره. وقال الرسول والمؤمنون: ربنا لا تعاقبنا إن نسينا أو أخطانا في فعل أو قول بلا قصد منا، ربنا ولا تكلِّفنا ما يشق علينا ولا نطيقه، كما كلَّفت من قبلنا ممن عاقبتهم على ظلمهم كاليهود، ولا تحمِّلنا ما يشق علينا ولا نطيقه من الأوامر والنواهي، وتجاوز عن ذنوبنا، واغفر لنا، وارحمنا بفضلك، أنت ولينا وناصرنا فانصرنا على القوم الكافرين.
x• جواز أخذ الرهن لضمان الحقوق في حال عدم القدرة على توثيق الحق، إلا إذا وَثِقَ المتعاملون بعضهم ببعض.
• حرمة كتمان الشهادة وإثم من يكتمها ولا يؤديها.
• كمال علم الله تعالى واطلاعه على خلقه، وقدرته التامة على حسابهم على ما اكتسبوا من أعمال.
• في الآية تقرير لأركان الإيمان وبيان لأصوله.
• قام هذا الدين على اليسر ورفع الحرج والمشقة عن العباد، فلا يكلفهم الله إلا ما يطيقون، ولا يحاسبهم على ما لا يستطيعون.
49
Icon