تفسير سورة طه

تفسير النيسابوري
تفسير سورة سورة طه من كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقان المعروف بـتفسير النيسابوري .
لمؤلفه نظام الدين القمي النيسابوري . المتوفي سنة 850 هـ
سورة طه مكية حروفها خمسة آلاف ومائتان واثنان وأربعون كلماتها ألف وثلاثمائة وأربعون وآياتها مائة وخمس وثلاثون.

(سورة طه)
(مكية حروفها خمسة آلاف ومائتان واثنان وأربعون كلماتها ألف وثلاثمائة وأربعون وآياتها مائة وخمس وثلاثون)
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١ الى ٣٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طه (١) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (٣) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (٤)
الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (٦) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (٧) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (٨) وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩)
إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (١٠) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٢) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (١٣) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (١٤)
إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (١٥) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (١٦) وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (١٧) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (١٨) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (١٩)
فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (٢٠) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (٢١) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (٢٢) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (٢٣) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٢٤)
قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩)
هارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (٣٤)
إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (٣٥) قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (٣٦)
القراآت:
طه بإمالة الطاء والهاء: حمزة وعلي وخلف ويحيى وحماد وعباس وقرأ أبو جعفر ونافع بين الفتح والكسر وإلى الفتح أقرب. وفي الكشاف أن أبا عمرو فخم الطاء لاستعلائها وأمال الهاء. والآخرون بتفخيمها لِأَهْلِهِ امْكُثُوا بضم الهاء وكذلك في «القصص» : حمزة إِنِّي آنَسْتُ إِنِّي أَنَا اللَّهُ بفتح ياء المتكلم فيهما: أبو جعفر وابن
513
كثير وأبو عمرو لعلي آتيكم بفتح ياء المتكلم: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمر وابن عامر غير ابن مجاهد عَلَى النَّارِ هُدىً ممالة: عليّ غير ليث وأبي حمدون وحمدوية وحمزة في رواية ابن معدان وأبي عمر والنجاري عن ورش وأبي عمرو وغير ابراهيم وابن حماد إِنِّي أَنَا رَبُّكَ بفتح الهمزة وياء المتكلم: ابن كثير وأبو عمرو ويزيد.
بكسر الهمزة وفتح الياء: نافع الباقون: بكسر الهمزة وسكون الياء طُوىً منونا حيث كان: عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر وإنا اخترناك على الجمع: حمزة والمفضل لِذِكْرِي إني لِيَ أَمْرِي عَيْنِي رَأْسِي
(إني) بفتح الياءات: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو. (لي فيها) بالفتح: حفص والمفضل والأعشى والبرجمي والأصبهاني عن ورش مخير أَخِي اشْدُدْ بفتح الياء موصولة: ابن كثير غير الخزاعي عن ابن فليح وأبو عمرو وَاشْدُدْ بفتح الهمزة وَأَشْرِكْهُ بضمها على التكلم: ابن عامر والباقون بضم الأول وفتح الثاني على الأمر سُؤْلَكَ بالواو: أبو عمرو غير شجاع ويزيد والأعشى والأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف. الآخرون بالهمزة.
الوقوف:
طه هـ كوفي ومن قال معناه يا رجل أو يا طالب أو يا هادي لم يقف لِتَشْقى هـ للاستثناء يَخْشى هـ لا بناء على أن تَنْزِيلًا بدل تَذْكِرَةً الْعُلى هـ الرَّحْمنُ مبتدأ اسْتَوى هـ الثَّرى هـ وَأَخْفى هـ إِلَّا هُوَ ط الْحُسْنى هـ حَدِيثُ مُوسى هـ لئلا يوهم أن «إذ» ظرف للإتيان هُدىً هـ يا مُوسى هـ نَعْلَيْكَ ج للابتداء بأن مع اتحاد القول طُوىً هـ ط إلا لمن قرأ إنا اخترناك يُوحى هـ فَاعْبُدْنِي هـ لا للعطف لِذِكْرِي هـ تَسْعى هـ فَتَرْدى هـ يا مُوسى هـ عَصايَ ج لا مكان أن يجعل أَتَوَكَّؤُا مستأنفا أو حالا والعامل أضمر أو أشير بناء على أن «هي» بمعنى «هذه».
أُخْرى هـ يا مُوسى هـ تَسْعى هـ وَلا تَخَفْ ق لحق السين الْأُولى هـ آيَةً أُخْرى هـ لا لتعلق اللام. الْكُبْرى هـ ج للآية والاستئناف بالأمر على أن المقول متصل طَغى هـ صَدْرِي هـ أَمْرِي هـ لا لِسانِي هـ لا قَوْلِي ص لطول الكلام أَهْلِي هـ لا أَخِي هـ لا وقف لمن قرأ اشْدُدْ بفتح الهمزة جوابا للدعاء ومن فتح الياء فله الوصل ومن قرأ اشْدُدْ بضم الهمزة فله الجواز لا تساق الدعاء على الدعاء بلا عاطف أَزْرِي هـ لا أَمْرِي هـ لا لتعلق «كي» كَثِيراً هـ بَصِيراً يا مُوسى هـ.
التفسير:
في طه قولان للمفسرين: أحدهما أنه من حروف التهجي وقد سلف البحث في أمثالها، والذي زادوه هاهنا أمور منها: قول الثعلبي: الطاء شجرة طوبى، والهاء الهاوية وكأنه أقسم بالجنة والنار. ومنها ما روي عن جعفر الصادق رضي الله عنه أن الطاء طهارة أهل الدين والهاء هدايتهم. وقيل: أراد يا طاهرا من الذنوب ويا هاديا الى علام
514
الغيوب. ومنها قول سعيد بن جبير هو افتتاح باسمه الطيب الطاهر الهادي. قيل: الطاء تسعة في الحساب والهاء خمسة ومعناه: يا أيها البدر. القول الثاني أنها كلمة مفيدة ومعناها يا رجل. مروي عن ابن عباس والحسن ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وعكرمة والكلبي. ثم قال سعيد بن جبير بلسان القبطية. وقال قتادة بلسان اليونانية والسريانية.
وقال عكرمة بلسان الحبشة. وقال الكلبي بلسان عك وهو عك ابن عدنان أخو معد وهو اليوم في اليمن. وعن الحسن أن طه أمر وأصله طأ أمرا بالوطء فقلبت الهمزة هاء وذلك لما
روي أن النبي ﷺ كان يقوم في تهجده على إحدى رجليه فأمر بأن يطأ الأرض بقدميه معا،
ويؤكده ما
روي أنه ﷺ صلى بالليل حتى اسمعدّت قدماه- أي تورمتا- فقال له جبرائيل: أرفق على نفسك فإن لها عليك حقا ونزلت طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى
أي تتعب بالعبادة ولكنك بعثت بالحنيفية السهلة.
وعند الأكثرين معنى لِتَشْقى لتتعب بفرط تأسفك عليهم وتحسرك على أن يؤمنوا.
والشقاء يجيء بمعنى التعب ومنه المثل «أشقى من رائض مهر وأتعب». وقيل: إن أبا جهل والنضر بن الحرث قالا له: إن كل شقي لأنك تركت دين آبائك فرد الله عليهم بأن القرآن هو السبب في نيل كل سعادة. قال جار الله: إن جعلت طه تعديد الأسماء الحروف فقوله ما أَنْزَلْنا ابتداء الكلام، وإن جعلته اسما للسورة فمبتدأ وما بعده خبر وقد أقيم الظاهر- وهو القرآن- مقام الضمير الرابط، وإن جعلته قسما فما يتلوه جواب وكل واحد من لِتَشْقى وتَذْكِرَةً علة للفعل إلا أن الأول وجب مجيئه مع اللام لأنه ليس فعلا لفاعل الفعل المعلل والثاني جاز قطع اللام عنه لوجود الشرط. ولا يجوز أن يكون تَذْكِرَةً بدلا من محل لِتَشْقى لاختلاف الجنسين، فإن التذكرة لا يمكن أن تحمل على الشقاء ولكنها نصب على الاستثناء المنقطع الذي فيه «إلا» بمعنى «لكن». وفي قوله لِتَشْقى وإِلَّا تَذْكِرَةً وجه آخر وهو أنه ما أنزلنا عليك القرآن لتتحمل متاعب التبليغ إلا ليكون تذكرة أي ما أنزلنا عليك هذا التعب الشاق إلا لهذا الغرض كما يقال: ما شافهناك بذلك الكلام لتتأذى إلا ليعتبر بك غيرك. فانتصب تَذْكِرَةً على أنه حال أو مفعول له، وإذا كانت حالا جاز أن يكون تَنْزِيلًا بدلا منها، وإذا كانت مفعولا لأجله لم يجز أن يكون تَنْزِيلًا بدلا منها لأن الشيء لا يعلل بنفسه، فالإنزال لا يعلل بالتنزيل في الظاهر. ويجوز أن ينتصب تَنْزِيلًا بمضمر أي نزل تنزيلا أو بأنزلنا لأن معنى ما أنزلناه إلا تذكرة أنزلناه تذكرة، أو على المدح والاختصاص، أو ب يَخْشى مفعولا به أي أنزله الله تذكرة لمن يخشى تنزيل الله عز وجلّ أي لمن يؤل أمره إلى الخشية لأنه هو المنتفع به. ومعنى كون القرآن تذكرة أنه ﷺ كان يعظهم به وببيانه. مِمَّنْ خَلَقَ متعلق ب تَنْزِيلًا فيكون الظرف لغوا أو بكائنا صفة له فيكون
515
مستقرا. وفائدة الانتقال إلى الغيبة من لفظ المتكلم حين لم يقل تنزيلا منا أمور منها: الافتنان في الكلام على عادتهم. ومنها تنسيق الصفات مع لفظ الغيبة. ومنها التفخيم بالإسناد أولا إلى ضمير المتكلم المطاع في أَنْزَلْناهُ ثم إلى المختص بصفات العظمة والتمجيد. وقيل: أنزلنا حكاية كلام جبرائيل فلا التفات.
والْعُلى جمع العليا تأنيث الأعلى وفي وصف السموات بها دلالة على عظم قدرة من يخلق مثلها في علوها وبعد مرتقاها. ويحصل منه تعظيم شأن القرآن بالضرورة فعلى قدر المرسل يكون حال الرسالة. ومنه قول الحكماء: عقول الرجال تحت لسان أقلامهم. وارتفع الرَّحْمنُ على المدح على تقدير هو الرحمن، أو هو مبتدأ مشار بلامه إلى من خلق. والبحث في الاستواء على العرش من جانبي المشبهة والموحدة قد مر مشبعا في «الأنعام» في قوله وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ [الأنعام: ١٨] وفي الأعراف في قوله إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ [الآية: ٥٤] فلا حاجة إلى الإعادة. ثم أكد كمال ملكه وملكه بقوله لَهُ ما فِي السَّماواتِ الآية. عن محمد بن كعب: أن ما تحت الثرى هو ما تحت سبع الأرضين. وعن السدي: هو الصخرة التي تحت الأرض السابعة.
وقيل: الثور أو الحوت. والتحقيق أن الثرى هو التراب الندى وهو ما جاوز البحر من جرم الأرض، فالذي تحته هو ما بقي من جرم الأرض إلى المركز فيحتمل أن يكون هناك أشياء لا يعلمها إلا الله سبحانه من المعادن وغيرها، ولا ريب أن الكل لله سبحانه. ثم بيّن كمال علمه بقوله وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى فالسر ما أسررته إلى غيرك وأخفى من ذلك ما أخطرته ببالك، أو السر هذا وأخفى منه ما استسره. وقيل: أخفى فعل ماض أي يعلم أسرار العباد وأخفى عنهم ما يعلم هو. قلت: هذا المعنى صحيح لأنه تعالى محيط بجميع الأشياء فلا يعزب عنه شيء قط ولا يحيط به شيء من الأشياء فلا يطلع على غيوبه أحد، إلا أن اللفظ يحصل فيه بشاعة إذا حمل على هذا التفسير فلهذا قال صاحب الكشاف: وليس بذلك وكيف طابق الجزاء الشرط. وأجيب بأن معناه إن تجهر بذكر الله من دعاء أو غيره فاعلم أنه غني عن جهرك. فإما أن يكون نهيا عن الجهر كقوله وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ [الأعراف: ٢٠٥] وإما أن يكون تعليما للعباد أن الجهر ليس لإسماع الله وإنما هو لغرض آخر كأن يقتدي غيره به. ومن فوائد الآية زجر المكلف عن القبائح- ظاهرة كانت أو باطنة- وترغيبه في الطاعات- ظاهرة وباطنة- وقد شرحنا شمة من حقيقة علمه تعالى في تفسير قوله وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [البقرة: ٣١] وفي غير ذلك من المواضع المناسبة، فلنقتصر الآن على ذلك. ثم ذكر أن الموصوف بالقدرة والعلم على الوجه المذكور لا شريك له وهو الذي يستحق العبادة دون غيره. واعلم أن
516
مراتب التوحيد أربع: الإقرار باللسان، ثم الاعتقاد بالقلب، ثم تأكيد ذلك الاعتقاد بالحجة، ثم الاستغراق في بحر المعرفة بحيث لا يدور في خاطره سوى الأحد الصمد.
والأول بدون الثاني نفاق، والثاني بدون الأول غير مفيد إلا إذا لم يجد مهلة كما إذا نظر وعرف فمات.
ويروى أن ملك الموت مكتوب في جبهته «لا إله إلا الله» حتى إذا رآه المؤمن تذكر كلمة الشهادة فيكفيه ذلك
ويؤيده ما
روي أنه ﷺ قال «يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان» «١»
والإقرار بدون الثالث إيمان المقلد وفيه خلاف مشهور والأصح أنه مقبول، وأما المقام الرابع فهو مقام الصديقين والخاصة من عباد الله، ومبتداه تفريق ونقص وترك ورفض على ما قرره المحققون، وآخره الفناء في الله والبقاء به.
قال النحويون: لا إله إلا الله تقديره لا إله في الوجود إلا الله. وقال أهل العرفان:
معناه لا إله في الإمكان إلا الله. روي أن موسى بن عمران قال: يا رب علمني شيئا أذكرك به. فقال: قل لا إله إلا الله. فقال: كل عبادك يقول. فقال: قل لا إله إلا الله. قال: إنما أردت شيئا تخصني به. قال: يا موسى لو أن السموات السبع ومن فوقهم في كفة ولا إله إلا الله في كفة لمالت بهن «لا إله إلا الله». والبحث عن أسماء الله تعالى قد سلف في تفسير البسملة، وعن أسمائه الحسنى قد مر في «الأعراف» في قوله وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الأعراف: ١٨٠]. واعلم أن الموجودات على ثلاثة أقسام: كامل لا يحتمل الزيادة والنقصان وهو الله تقدس وتعالى، وناقص لا يحتمل الكمال سوى الصورة الكمالية التي جبل عليها كصغير الإنسان من المخلوقات وناقص يتقلب بين الأمرين فتارة يصعد إلى حيث يخبر عنه بأنه فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر: ٥٥] وتارة يتسفل إلى أن يقال له ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ [التين: ٥] والكمال بالحقيقة لما ليس معرض الزوال فلا كمال في الصحة والجاه والمال وإنما الكمال في الانتساب إلى الكبير المتعال، وهو تحقيق نسبة العبدية المنبئة عن عزة الربوبية، وكل منتسب إلى بلد أو قبيلة فإنه يبالغ في مدحها حتى يلزم مدحه بالعرض فيجب على المكلف أن يذكر ربه بالأسماء الحسنى حتى يثبت بذلك شرفه ويحسن ذكره. إلهنا حسن الاسم دليل حسن المسمى، وحسن المسمى يدل على أنه لا يفعل القبيح ولا يزال مواظبا على الإحسان كما قيل:
يا حسن الوجه توق الخنا لا تخلطن الزين بالشين
(١) رواه البخاري في كتاب الإيمان باب: ١٥. مسلم في كتاب الإيمان حديث ١٤٧. أبو داود في كتاب اللباس باب: ١٦. الترمذي في كتاب الفتن باب: ١٧. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب:
٩. الدارمي في كتاب المقدمة باب: ٨. أحمد في مسنده (١/ ٢٨٢، ٣٩٩).
517
فيا حسن الأسماء والصفات لا تردّنا عن خوان إحسانك محرومين. ذكر أن صيادا اصطاد سمكة وكانت له بنت فأخذتها وألقتها في البحر وقالت: إنها ما وقعت في الشبكة إلا لغفلتها. إلهنا تلك المرأة رحمت سمكة بسبب غفلتها ونحن قد اصطادنا إبليس وأخرجنا من بحر رحمتك لغفلتنا فردّنا إلى مقرنا وأنت أرحم الراحمين.
عن محمد بن كعب القرظي أن موسى عليه السلام قال: يا رب أيّ خلق أكرم عليك؟ قال: الذي لا يزال لسانه رطبا من ذكري. قال: أيّ خلقك أعلم؟ قال: الذي يلتمس علما إلى علمه. قال:
وأيّ خلقك أعدل؟ قال: الذي يقضي على نفسه كما يقضي على الناس. قال: وأيّ خلقك أعظم جرما؟ قال: الذي يتهمني وهو الذي يسألني ثم لا يرضى بما قضيته له. إلهنا إنا نتهمك فإنا نعلم أن كل ما أحسنت فهو فضل، وكل ما لا تفعله بنا من الإحسان فهو عدل، فلا تؤاخذنا بسوء أعمالنا.
وعن الحسن: إذا كان يوم القيامة نادى مناد: سيعلم الجمع من أهل الكرم، أين الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع؟ فيقومون فيتخطون رقاب الناس. ثم يقال: أين الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله؟ ثم ينادي أين الحمادون لله على كل حال؟ ثم تكون التبعة والحساب على من بقي. إلهي فنحن حمدناك وأثنينا عليك بمقدار قدرتنا وطاقتنا، فاعف عنا بفضلك وحسن أسمائك. وحين عظم شأن القرآن وبيّن حال الرسول ﷺ فيما كلف من أعباء الرسالة قفاه بقصة موسى تثبيتا له وتقوية وتسلية.
قال الكلبي: معنى وَهَلْ أَتاكَ أي لم يأتك إلى الآن وقد أتاك الآن فتنبه له.
ويقول المرء لصاحبه: هل بلغك خبر كذا ليتطلع السامع لما يومي إليه. وعن مقاتل والضحاك عن ابن عباس أن المراد منه تقرر الخبر في قلبه أي قد أتاك ذلك في الزمان المتقدم. «وإذ» ظرف للحديث لأنه حدث، أو المراد اذكر وقت كذا ومظروفه محذوف أي حين رأى نارا كان كيت وكيت. قال أهل السير: استأذن موسى شعيبا عليهما السلام في الخروج إلى أمه، وخرج بأهله وولد له في الطريق ابن في ليلة شاتية مثلجة وكانت ليلة الجمعة وقد ضل الطريق وتفرقت ماشيته ولا ماء عنده وقدح فصلد زنده، فرأى نارا من يسار الطريق من بعيد. قال السدي: ظن أنها من نيران الرعاة. وقال الآخرون: إنه رآها في شجرة. واختلفوا أيضا في أن الذي رآه كان نارا أم لا. قالوا: والصحيح أنه كان نارا ليكون صادقا في خبره إذ الكذب لا يجوز على الأنبياء. ويمكن أن يقال: إطلاق اللفظ على ما يشبه مسماه ليس بكذب. قيل: النار أربعة أقسام: نار تأكل ولا تشرب وهي نار الدنيا، ونار تشرب ولا تأكل وهو نار الشجر جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً [يس:
٨٠] ونار تأكل وتشرب وهي نار موسى عليه السلام. وبعبارة أخرى نور بلا حرقة وهي نار موسى، وحرقة بلا نور وهي نار جهنم، وحرقة ونور وهي نار الدنيا، ولا حرقة ولا نور
518
وهي نار الأشجار. فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إنما جمع لأن أهله جمع وهم المرأة والخادم والولد. ويجوز أن يخاطب المرأة وحدها ولكن أخرج الخطاب على ظاهر لفظ الأهل فإنه اسم جمع. وأيضا فقد يخاطب الواحد بلفظ الجماعة تفخيما أي أقيموا في مكانكم فقد آنَسْتُ ناراً أي أبصرت إبصارا لا شبهة فيه أو إبصارا يؤنس به. والتركيب يدل على الظهور، ومن ذلك إنسان العين لأنه يظهر الأشياء، ومنه الإنس لظهورهم كما قيل الجن لاستتارهم، ومنه الأنس ضد الوحشة لظهور المطلوب وهو المأنوس به. قال جار الله: لما وجد الإيناس وكان مقطوعا متيقنا حققه لهم بكلمة «إن» ليوطن أنفسهم. ولما كان الإتيان بالقبس ووجود الهدى مترقبين بنى الأمر فيهما على الرجاء دون الجزم قائلا لَعَلِّي آتِيكُمْ قال المحققون: فيه دلالة على أن إبراهيم عليه السلام لم يكذب البتة لأن موسى قبل نبوته احترز عن الكذب المظنون فلم يقل «إني آتيكم» لئلا يعد ما لم يستيقن الوفاء به، فإبراهيم وهو أبو الأنبياء أولى بالاحتراز من الكذب الصريح. والقبس النار المقتبسة في رأس عود أو فتيلة ونحوهما. وهُدىً على حذف المضاف أي ذوي هدى، أو إذا وجد الهداة فقد وجد الهدى. والظاهر أنه أراد قوما يهدونني الطريق. وعن مجاهد وقتادة: قوما ينفعونني بهداهم في أبواب الدين، وذلك أن همم الأبرار معقودة في جميع أحوالهم بالأمور الدينية لا يشغلهم عنها شاغل. ومعنى الاستعلاء في على النار وهو مفعول ثان لأجد، أو حال من ذوي هدى أن أهل النار يشغلون المكان القريب منها أو المصطلون بها كفنوها قياما وقعودا فهم مشرفون عليها وإن كان المكانان مستويين.
فَلَمَّا أَتاها أي أتى النار. قال ابن عباس رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها كأنها نار بيضاء تتقد، وسمع تسبيح الملائكة ورأى نورا عظيما فخاف وبهت فألقيت عليه السكينة، ثم نودي وكانت الشجرة عوسجة. وقال وهب: ظن موسى أنها أوقدت فأخذ من دقاق الحطب ليقتبس من لهبها فمالت إليه كأنها تريده فتأخر عنها وهابها، ثم لم يزل تطمعه ويطمع فيها، ثم لم يكن أسرع من خمودها فكأنها لم تكن، ثم رمى موسى بنظره إلى فرعها فإذا خضرته ساطعة في السماء، وإذا نور بين السماء والأرض له شعاع تكل عنه الأبصار، فلما رأى موسى ذلك وضع يده على عينيه فنودي يا مُوسى من قرأ إِنِّي بالفتح فتقديره نودي بأني، ومن قرأ بالكسر فلأن النداء في معنى القول، أو لأن التقدير نودي فقيل يا موسى. وتكرير الضمير في «أنيّ» أَنَا رَبُّكَ لتوكيد الدلالة وتحقيق المعرفة وإماطة الشبهة.
روي أنه لما نودي يا موسى قال: من المتكلم؟ فقال الله عز وجلّ:
إني أنا ربك. فوسوس إليه إبليس لعلك تسمع كلام شيطان. فقال: أنا عرفت أنه كلام الله بأني أسمعه من جميع جهاتي الست وأسمعه بجميع أعضائي حتى كأن كل جارحة مني صارت
519
أذنا.
وقيل: لعله سمع النداء من جماد كالحصا والشجرة فيكون معجزا. وأيضا إنه رأى النار في الشجرة الخضراء بحيث إن الخضرة ما كانت تطفئ تلك النار ولا النار تضر بالخضرة، فعرف أنه لا يقدر عليه أحد إلا الله. وجوّز الأشاعرة أن يكون قد خلق الله تعالى علما ضروريا بذلك والمعتزلة منعوا منه قالوا إن حصول العلم الضروري بأن ذلك المتكلم هو الله يستلزم العلم الضروري بوجود الصانع لا ستحالة أن تكون الصفة معلومة بالضرورة والذات معلوما بالاستدلال، وحصول العلم الضروري بوجود الصانع ينافي التكليف وبالاتفاق لم يخرج موسى عن التكليف. قال القاضي: إن كانت النبوة قد تقدمت لموسى فلا كلام في حصول هذه الخوارق وإلا وجب أن تكون المعجزات لغيره من الأنبياء في زمانه كشعيب مثلا. قال:
وهذا أولى لأن قوله وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى دليل على أنه أوّل وحي يوحى إليه. وعند أهل السنة الإرهاص جائز فلم يوجبوا إحالة تلك الخوارق إلى غيره. وعندهم أن الله تعالى أسمعه الكلام الذي ليس بحرف ولا صوت. والمعتزلة أنكروا وجود ذلك الكلام. وقالوا: إنه تعالى خلق ذلك النداء في جسم من الأجساد كالشجرة وهو قادر على ذلك. وأهل السنة مما وراء النهر أثبتوا الكلام القديم إلا أنهم زعموا أن الذي سمعه موسى صوت خلقه الله في الشجرة لأنه تعالى رتب النداء على أنه أتى النار، والمرتب على المحدث. ومثله استدلال المعتزلة بقوله فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ على أن كلامه تعالى ليس بقديم لأن الأمر والمأمور معدوم سفه فلا بد أن يكون هذا الأمر عند وجود موسى فيكون محدثا.
أجابت الأشاعرة بأن كلامه الأزلي ليس بأمر ولا نهي، ولو سلم فأمره بالأزل مستمر إلى أن صار الشخص مأمورا من غير تغير في أمره كالقدرة الأزلية تتعلق بالمقدور الحادث.
وأما الحكمة في الأمر بخلع النعلين قال المفسرون: لأنهما كانتا من جلد حمار ميت غير مدبوغ وهو قول علي ومقاتل والكلبي والضحاك وقتادة والسدي. وقال الحسن وسعيد بن جبير ومجاهد: ليباشر الوادي بقدميه متبركا به. وقيل: عظم البقعة عن وطئها إلا حافيا يؤيده قوله إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ. ومن هنا كره بعضهم الصلاة والطواف في النعل، وكان السلف يطوفون بالكعبة حفاة، ومنهم من استعظم دخول المسجد بنعليه وكان إذا وقع منه ذلك تصدق. وعلى القول الأول لا يكره إلا إذا كان غير مدبوغ.
وقد صلى النبي ﷺ في نعليه ثم خلعهما في الصلاة فخلع الناس نعالهم فلما سلم قال: ما لكم خلعتم نعالكم؟ قالوا: خلعت فخلعنا. قال: فإن جبرائيل أخبرني أن فيهما قذرا.
يروى أن موسى خلع نعليه وألقاهما من وراء الوادي.
قال الجوهري طُوىً بكسر الطاء وضمها اسم موضع بالشأم. فمن صرفه جعله اسم واد ومكان، ومن لم يصرفه جعله اسم بقعة. وقال بعضهم: طوى بالضم مثل طوى وهو الشيء المثنى
520
أي طوى مرتين أي قدس. وقال الحسن: ثنيت فيه البركة والتقديس مرتين، ويحتمل أن يراد نودي نداءين. وقيل: طوى مصدر كهدى ومعناه العلى. وعن ابن عباس أنه مر بذلك الوادي ليلا فطواه فكان المعنى بالواد المقدس الذي طويته طيا أي قطعته حتى ارتفعت إلى أعلاه. وَأَنَا اخْتَرْتُكَ اصطفيتك للنبوة. قيل: فيه دلالة على أن النبوة لا تحصل بالاستحقاق وإنما هي ابتداء عطية من الله. وفي هذه الأخبار غاية اللطف والرحمة ولكن في قوله فَاسْتَمِعْ نهاية الجلال والهيبة ففي الأول رجاء وفي الثاني خوف كأنه قال: جاءك أمر عظيم فتأهب له واجعل جميع همتك مصروفة إليه. لِما يُوحى أي للذي يوحى أو للوحي متعلق ب فَاسْتَمِعْ أو ب اخْتَرْتُكَ ثم قال إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا ورتب عليه فَاعْبُدْنِي ليعلم أن عبادته إنما لزمت لإلهيته ومن هنا قال العلماء: إن الله معناه المستحق للعبادة. قال الأصوليون:
تأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز ولكن عن وقت الخطاب جائز لأنه أمره بالعبادة ولم يذكر كيفيتها. وأيضا قال وَأَقِمِ الصَّلاةَ ولم يبين هيئاتها. أجاب القاضي عن هذا الأخير بأنه لا يمتنع أن موسى عليه السلام قد عرف الصلاة التي تعبد الله بها شعيبا وغيره من الأنبياء، فكان الخطاب متوجها إلى ذلك، وزيف بأن حمل الخطاب متوجها على التأسيس أولى قال: قد بين له ولكن لم يحك الله تعالى سوى هذا القدر. ورد بأن البيان أكثر فائدة من المجمل، فلو كان مذكورا لكان أولى بالحكاية. ولقائل أن يقول: سلمنا أن المبين أكثر فائدة للمخاطب، ولكن لا نسلم أن حكاية المبين أولى فلعل حكاية المجمل تكفي لغيره لصيرورة بعض هيئات ذلك التكليف منسوخا وإن كان أصله باقيا.
وفي قوله لِذِكْرِي وجوه. لأن اللام إما بمعنى الوقت أو هي للتعليل. والذكر إما بالجنان أو هو ضد النسيان. وياء المتكلم فاعل في الأصل أو مفعول. وهل يحتمل الكلام تقدير مضاف أم لا؟. ولمثل هذه الاعتبارات تعددت الوجوه فمنها: أن اللام للتعليل والياء منصوب أي لتذكرني فإن ذكري أن أعبد ويصلي لي، أو أراد لتذكرني في الصلاة لاشتمالها على الأذكار. عن مجاهد: والفرق أن إطلاق الذكر على العبادة والصلاة في الأول حقيقة شرعية، وفي الثاني مجاز. أو نقول: في الأول تكون نفس الصلاة مطلوبة بالذات، وفي الثاني تكون مطلوبة بعرض الذكر، أو أراد لذكري خاصة لا تشوبه بذكر غيري. ومنها أن المضاف مع ذلك محذوف أي لإخلاص ذكري وطلب وجهي. ومنها أن الياء فاعل أي لأني ذكرتها في الكتب وأمرت بها، أو لأن أذكرك بالمدح والثنا وأجعل لك لسان صدق.
ومنها أن اللام للوقت كقولك «جئتك لوقت كذا» أي لأوقات ذكري وهي مواقيت الصلاة.
ومنها أن يحمل الذكر على ضد النسيان أي لتكون لي ذاكرا غير ناس فعل المخلصين في كونهم رطاب اللسان في جميع الأحيان بذكر مولى الأنعام ومولى الإحسان رِجالٌ لا
521
تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [النور: ٣٧] وأراد ذكر الصلاة بعد نسيانها وكان حق العبارة أن يقال لذكرها
كقوله ﷺ «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها» »
فلعل المضاف محذوف أي لذكر صلاتي، أو ذكر الصلاة هو ذكر الله فالياء في الأصل منصوب، أو الذكر والنسيان من الله عز وجلّ في الحقيقة فالياء فاعل. قال الشافعي: من فاتته صلاة يستحب أن يقضيها على ترتيب الأداء ولو ترك الترتيب جاز. ولو دخل عليه وقت فريضة وتذكر فائتة فإن كان في الوقت سعة يستحب أن يبدأ بالفائتة، وإن بدأ بصلاة الوقت جاز إلا إذا ضاق الوقت فإنه يجب الابتداء بصلاة الوقت، وإن تذكر الفائتة بعد ما شرع في صلاة الوقت أتمها ثم قضى الفائتة، ويستحب أن يعيد صلاة الوقت بعدها. وقال أبو حنيفة: يجب الترتيب في قضاء الفوائت ما لم تزيد على صلاة يوم وليلة حتى لو تذكر خلال صلاة الوقت بطلت إلا أن يكون الوقت ضيقا فلا تبطل. حجة الشافعي ما
روي في حديث قتادة أنهم ناموا عن صلاة الفجر ثم انتبهوا بعد طلوع الشمس فأمرهم النبي ﷺ أن يقودوا رواحلهم ثم صلاها،
ولو كان وقت الانتباه متعينا للصلاة لما فعل كذلك. نعم إنه وقت لتقرير الوجوب عليه ثم الوقت موسع بعد ذلك. حجة أبي حنيفة قوله تعالى أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي
وقوله ﷺ فليصلها «إذا ذكرها»
وفي حديث جابر أن عمر جاء إلى النبي ﷺ يوم الخندق يسب كفار قريش ويقول: يا رسول الله ما صليت صلاة العصر حتى كادت تغيب الشمس. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وأنا والله ما صليتها بعد. قال: فنزل في البطحاء وصلى العصر بعد ما غابت الشمس ثم صلى المغرب بعدها.
وأما القياس فهما صلاتان فريضتان جمعهما وقت واحد في اليوم والليلة فأشبهتا صلاني عرفة ومزدلفة. فلما لم يجز إسقاط الترتيب فيهما وجب أن يكون كذلك حكم الفوائت فيما دون اليوم والليلة، وأما إذا دخل في حد الكثرة فيسقط هذا الترتيب. ثم لما أمر موسى بالعبادة عامة وبالصلاة التي هي أفضلها خاصة علل ذلك بقوله إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ.
سؤال: «كاد» نفيه إثبات وإثباته نفي. فقوله أَكادُ أُخْفِيها يكون معناه لا أخفيها وهو باطل لقوله إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لقمان: ٣٤] ولأن قوله. لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ إنما يليق بالإخفاء لا بالإظهار إذ لو كان المكلف عارفا وقت القيامة وكذا وقت الموت اشتغل بالمعاصي إلى قريب من ذلك الوقت ثم تاب فيكون إغراء على المعصية.
(١) رواه البخاري في كتاب المواقيت باب: ٣٧. مسلم في كتاب المساجد حديث ٣٠٩. الترمذي في كتاب الصلاة باب: ١٦، ١٧. النسائي في كتاب المواقيت باب: ٥٢- ٥٤. ابن ماجه في كتاب الصلاة باب: ١٠، ١١. الموطأ في كتاب الوقوت حديث ٢٥. أحمد في مسنده (٣/ ٣١، ٤٤).
522
والجواب لا نسلم أن «كاد» إثباته نفي وإنما هو للمقاربة فقط، والباقي موكول إلى القرينة.
ولئن سلم فالمراد بعدم الإخفاء إخباره بأنها آتية وإن كان وقتها غير معين كأنه قال: أكاد لا أقول هي آتية لفرط إرادة الإخفاء ولولا ما في الإخبار بإتيانها مع تعمية وقتها من اللطف لما أخبرت به. وبالغ بعض المفسرين في هذا المعنى فقال: أراد أكاد أخفيها من نفسي أي لو صح إخفاؤها من نفسي لأخفيتها مني وأكدوا ذلك بأنهم وجدوه في مصحف أبيّ كذلك. فقال قطرب: هذا على عادة العرب في المخاطبة إذا بالغوا في كتمان الشيء قالوا: كتمته من نفسي. وقيل: «كاد» من الله واجب وأراد أنا أخفيها من الخلق كقوله عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً [الاسراء: ٥١] أي هو قريب قاله الحسن. وعن أبي مسلم أن «أكاد» بمعنى أريد كقوله كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ [يوسف: ٢١] ومنه قولهم «لا أفعل ذلك ولا أكاد» أي لا أريد أن أفعله. وقيل: أكاد صلة والمعنى أن الساعة آتية أخفيها. وقال أبو الفتح الموصلي: الهمزة للإزالة أي أكاد أظهرها معناه قرب إظهارها كقوله اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ [القمر: ١] ومثله ما روي عن أبي الدرداء وسعيد بن جبير أخفيها بفتح الهمزة من خفاه إذا أظهره. وقوله لِتُجْزى متعلق ب أُخْفِيها كما قلنا أو ب آتِيَةٌ، فلولا القيامة لم يتميز المطيع من العاصي والمحسن من المسيء وذلك خلاف قضية العدالة والحكمة. واحتجاج المعتزلة بالآية ظاهر لأنه قال بِما تَسْعى أي بسعيها. فلو لم يكن أعمال العباد بسعيهم لم يصح هذا الإسناد، ولو لم يكن الثواب مستحقا على العمل لم يكن لباء السببية معنى والجواب أن اعتبارها الوسط لا ينافي انتهاء الكل إلى الله، واستناد الجزاء إلى عنايته الأزلية التي لا علة لها. ومعنى الفاء في فَلا يَصُدَّنَّكَ أنه إذا صح عندك أني أخبرتك بإتيان الساعة فلا تلتفت إلى قول المخالف الذي يصدك عن التصديق بالساعة، لأن قوله ناشىء عن الهوى واتباعه. وجوّز أبو مسلم أن يكون الضمير في عَنْها للصلاة.
والعرب تذكر شيئين ثم ترمي بضميرهما إلى السامع اعتمادا على أنه يرد كلا منهما إلى ما هو له، وزيف بأن هذا إنما يصار إليه عند الضرورة ولا ضرورة هنا. وأما الخطاب فالظاهر أنه لموسى لأن الكلام أجمع معه. وجوّز بعضهم أن يكون لنبينا عليه السلام والمقصود الأمة، والنهي عن الصد في الظاهر لمن لا يؤمن بالساعة وهو بالحقيقة نهي لموسى عن التكذيب. والوجه فيه أن صد الكافر عن التصديق سبب للتكذيب فذكر السبب ليدل على المسبب، أو صدّ الكافر مسبب عن رخاوة الرجل في الدين ولين شكيمته فذكر المسبب ليدل على السبب كأنه قيل: كن في الدنيا صلبا حتى لا يطمع في إغوائك الكافر. والذي دعا إلى هذا النهي البالغ في معناه هو أن المبطلين والجاحدين كثرة وهي مزلة قدم فعلى المرء أن يكون مع المحقين وإن قلوا لا مع غيرهم وإن كثروا. وفيه
523
حث بليغ على العمل بالدليل وزجر قويّ عن التقليد وإنذار بأن الردى والهلاك مع اتباع الهوى. وهاهنا استدل الأصوليون على شرف علمهم ووجوب تعلمه كيلا يتمكن الخصم من تشكيكه. وزعم القاضي أن في نسبة الصد إلى الكافر بالبعث دليلا على أن القبائح إنما تصدر عن العباد. وعورض بالعلم والداعي كما مر مرارا. قال أهل التحقيق: قوله أوّلا لموسى فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إشارة إلى التخلية وتحصيل ما ينبغي تحصيله. وأصول ذلك ترجع إلى علم المبدأ وهو قوله إِنِّي أَنَا اللَّهُ وإلى علم الوسط وهو قوله فَاعْبُدْنِي وإنه مشتمل على الأعمال الجسمانية. وقوله لِذِكْرِي وهو مشتمل الأعمال الروحانية وإلى علم المعاد وذلك قوله إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ. وأيضا إنه افتتح الخطاب بقوله وَأَنَا اخْتَرْتُكَ وهو غاية اللطف، وختم الكلام بقوله فَلا يَصُدَّنَّكَ إلى آخره وهو قهر تنبيها على أن رحمته سبقت غضبه، وأن العبد لا بد أن يكون سلوكه على قدمي الرجاء والخوف. قوله وَما تِلْكَ مبتدأ وخبر وبِيَمِينِكَ حال منتصب بمعنى الإشارة أو الاستفهام. وجوّز الكوفيون أن يكون تِلْكَ اسما موصولا صلته بِيَمِينِكَ أي ما التي بيمينك. قيل: لم يقل بيدك لأنه يحتمل أن يكون في يساره خاتم أو شيء آخر وكان يلتبس عليه الجواب.
أسئلة: ما الفائدة في هذا السؤال؟ جوابه أن الصانع الماهر إذا أراد أن يظهر من الشيء الحقير كقطعة من حديد شيئا شريفا كاللبوس المسرد عرضه على الحاضرين ويقول ما هذا حتى إنه بعد إظهار صنعته يلزمهم بقولهم ويقول: خذوا هذا من ذلك الذي قلتم فكأنه سبحانه قال لموسى: هل تعرف حقيقة ما في يمينك وأنه خشبة يابسة حتى إذا قلبه ثعبانا عظيما كان قد نبهه على كمال قدرته الباهرة. وقال أهل الخطابة: إنه سبحانه لما أطلعه على تلك الأنوار المتصاعدة من الشجرة إلى السماء، وأسمعه تسبيح الملائكة ثم أسمعه كلام نفسه ممازجا باللطف والقهر والتكاليف تحير موسى ودهش وكاد لا يعرف اليمين من الشمال فقيل له وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى ليعرف موسى أن يمينه هي التي فيها العصا. وأيضا إنه لما تكلم معه بالكلم الإلهية وقرب موسى أن يدهش تكلم معه بكلام البشر إزالة لتلك الدهشة والحيرة لا لأن المسئول عنه مما يقع فيه الغلط كما أن السائل لا يجوز عليه الغلط نظيره حال المؤمن في القبر يغلبه الوجل والخجل والحياء فيسأل عن أمر لا يشك فيه في الدنيا وهو التوحيد دفعا للإيحاش وجلبا للاستئناس. وأيضا لما عرف موسى كمال الإلهية أراد أن يعرفه نقصان البشرية فسأله عن منافع العصا فذكر ما ذكر، فعرّفه الله تعالى أن فيها منافع أجل مما ذكر تنبيها على أن عقول البشر قاصرة عن خفيات الأمور لولا التوفيق والإرشاد. آخر: خاطب موسى بلا واسطة وخاطب محمدا ﷺ بواسطة جبرائيل، فيلزم أن
524
يكون موسى أفضل. وجوابه المنع بدليل فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
[النجم: ١٠] وبيان الأفضلية أن كلامه مع موسى لم يكن سرا وكلامه مع محمد سر لم يستأهل له سواه.
وأيضا حصل لأمته في الدنيا شرف التكليم المصلي يناجي ربه، وفي الآخرة شرف التسليم والتسليم سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: ٥٨]. وأيضا إن موسى كان عند استغراقه في بحر المحبة متعلقا بالعصا ومنافعها، ومحمد عليه السلام لم يلتفت إلى الكونين حين عرضا عليه ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى [النجم: ١٧] بل كان فانيا عن الأغيار باقيا بالواحد القهار ولهذا لم يزد في الثناء حينئذ على
قوله «أنت كما أثنيت على نفسك» «١».
وهاهنا نكت منها: أنه سبحانه لما أشار إلى العصا واليد بقوله وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى حصل في كل منهما برهان باهر ومعجز ماهر فصار أحدهما- وهو الجماد- حيوانا والآخر- وهو الكثيف- نورانيا لطيفا. ثم إنه تعالى ينظر في كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة إلى قلب العبد فأي عجب أن ينقلب قلبه الجامد المظلم حيا مستنيرا. ومنها أن العصا صارت بين يمين موسى حيا فكيف لا يصير قلب المؤمن الذي هو بين أصبعين من أصابع الرحمن حيا! ومنها أن يصير بمدد نظر الرب في كل يوم مرات بحيث يبتلع سحر النفس الأمارة بالسوء. ثم إن جواب موسى عليه السلام يتم بقوله هِيَ عَصايَ إلا أنه زاد على ذلك لأنه كان يحب المكالمة وكان المقام مقام انبساط وقرب فاغتنم الفرصة وجعل ذلك كالوسيلة إلى درك الغرض. وقيل: هو جواب سؤال آخر كأنه سئل فما تصنع بها فأخذ في ذكر منافعها. وقيل: خاف أن ينكر عليه استصحاب العصا كالنعلين. ومعنى أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها أغتمد عليها إذا أعييت أو وقفت على رأس القطيع وعند الطفرة والتركيب يدور على الشد والإيثاق. وَأَهُشُّ بِها أي أخبط الورق بها على رؤوس غنمي لتأكله.
والتركيب يدل على الرخاوة واللين ومنه «رجل هش المكسر» أي سهل الشأن فيما يطلب من الحوائج وهو مدح «وهش الخبز» يهش بالكسر إذا كان ينكسر لرخاوته. قال المحققون: إن موسى عليه السلام كان يتوكأ على العصا ومحمد ﷺ كان يتكل على فضل الله ورحمته قائلا مع أمته حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران: ١٧٣] فورد في حقه حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين [الأنفال: ٦٤] أي حسبك وحسب من اتبعك. وأيضا إنه بدأ بمصالح نفسه في قوله أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها ثم بمصالح رعيته
(١) رواه مسلم في كتاب الصلاة حديث ٢٢٢. أبو داود في كتاب الصلاة باب: ١٤٨. النسائي في كتاب قيام الليل باب: ٥١. الترمذي في كتاب الدعوات باب: ٧٥، ١١٢. ابن ماجه في كتاب الدعاء باب: ٣. الموطأ في كتاب مسّ القرآن حديث ٣١. أحمد في مسنده (١/ ٩٦، ١١٨).
525
بقوله وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي ومحمد ﷺ لم يشتغل في الدنيا إلا بإصلاح أمر أمته وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال: ٣٣]
«اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون»
فلا جرم يقول موسى يوم القيامة «نفسي نفسي»
ومحمد يقول «أمتي أمتي».
ثم قال وَلِيَ فِيها مَآرِبُ هي جمع المأربة بضم الراء الحاجة وقد تفتح الراء.
وحكى ابن الأعرابي وقطرب بكسر الراء أيضا ومثله الأرب بفتحتين والإربة بكسر الهمزة وسكون الراء. وإنما قال أُخْرى لأن المآرب في معنى جماعة ونظيره الأسماء الحسنى.
ومن آياتنا الكبرى قالوا: إنما أجمل موسى ليسأله عن تلك المآرب فتطول مكالمته وقالوا:
انقطع بالهيبة كلامه فأجمل. وقيل: في المآرب كانت ذات شعبتين ومحجن فإذا طال الغصن حناه بالمحجن، وإذا طلب كسره لواه بالشعبتين، وإذا سار ألقاها على عاتقه فعلق بها أدواته من القوس والكنانة والجراب وغيرها، وإذا كان في البرية ركزها وعرض الزندين على شعبتيها وألقى عليها الكساء واستظل، وإذا قصر رشاؤه وصله بها، وكان يقاتل بها السباع عن غنمه. وقيل: إن موسى عليه السلام كان أحس بأنه تعالى إنما سأله عن أمر العصا لمنافع عظيمة فقال: إلهي ما هذه العصا إلا كغيرها ولكنك لما سألت عنها وكلمتني بسببها عرفت أن لي فيها مآرب أخرى. وقيل: كان فيها من المعجزات أنه كان يستقي بها فتطول بطول البئر وتصير شعبتاها دلوا وتكونان شمعتين بالليل، وإذا ظهر عدوّ حاربت عنه، وإذا اشتهى ثمرة ركزها فأورقت وأثمرت، وكان يحمل عليها زاده وسقاءه فجعلت تماشيه ويركزها فينبع الماء فإذا رفعها نضب، وكانت تقيه الهوام. قلت: هذه الخوارق إن كانت بعد نبوة موسى فلا كلام، وإن كانت قبلها ففي صحة الرواية بعد وإلا كان الأنسب تقديمها عند تعدد المنافع. وعلى تقدير صحتها فلعلها إرهاص أو من معجزات شعيب على ما يروى أنه كان قد أعطاها إياه.
قال أهل النكت: إن موسى لما قال وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى أراد الله سبحانه أن يعرّفه أن فيها مأربة أخرى لا يفطن لها وقالَ أَلْقِها يا مُوسى وبوجه آخر كان في رجله شيء وهو النعل وفي يده شيء وهو العصا، والرجل آلة الهرب واليد آلة الطلب، فأمر بتركهما تنبيها على أن السالك مادام في مقام الطلب والهرب كان مشتغلا بنفسه وطالبا لحظه فلا يحصل له كمال الاستغراق في بحر العرفان. وفيه أن موسى عليه السلام مع جلالة منصبه وعلو شأنه لم يمكن له الوصول إلى حضرة الجلال حتى خلع النعل وألقى العصا، فأنت مع ألف وقر من المعاصي كيف يمكنك الوصول إلى جنابه؟! قال الكلبي:
الاستطاعة قبل الفعل لأن القدرة على إلقاء العصا إما أن توجد والعصا في يده فذاك قولنا، أو توجد وهي خارجة عن يده وذلك تكليف بأنه يلقي من يده ما ليس في يده. ويمكن أن
526
يجاب بأن القدرة مع إلقاء العصا. قوله فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى [الأعراف: ١٠٧] وفي موضع آخر فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ وفي آخر كَأَنَّها جَانٌّ [النمل: ١٠] عبارات عن معبر واحد لأن الحية اسم جنس يقع على الذكر والأنثى والصغير والعظيم. وأما الثعبان- وهو العظيم من الحيات- والجان- وهو الدقيق منها- فبينهما تناف في الظاهر لا في التحقيق، لأنها حين انقلابها كانت تكون حية صفراء دقيقة كالجان، ثم تتورم ويتزايد جرمها حتى يصير ثعبانا آخر الأمر. أو أنها كانت في شخص ثعبان وسرعة حركة الجان ولهذا وصفها بالسعي وهو المشي بسرعة وخفة حركة. والعجب أن موسى قال أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها فصدّقه الله تعالى في ذلك وجعلها متكئا له بأن كانت أعظم معجزاته. وإنما قلبها حية في ذلك الوقت لتكون معجزة لموسى عليه السلام يعرف بها نبوة نفسه فإن النداء والنور والكلام لم يكن في ظهور الدلالة كهذه، ولأن توالي المعجزات كتتابع الخلع والكرامات. وأيضا لأنه عرضها عليه ليشاهدها ويوطن نفسه عليها حتى لا يخافها عند عدوّه فالولي يستر العيوب والعدوّ يبرز المناقب في صورة المثالب، فكيف إذا وجد مجال طعن وقدح؟! وقد مر في «الأعراف» أن الحية كان لها عرف كعرف الفرس، وكان بين لحييها أربعون ذراعا، فلما رأى ذلك الأمر العجيب الهائل ملكه من الفزع والنفار ما يملك البشر عند الأهوال حتى ذهل عن الدلائل وأخذ يفر، ولو أنه بلغ حينئذ مقام فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذاريات: ٥٠] لم يفر عن شيء. أو لعله لما حصل له مقام المكالمة بقي في قلبه عجب فأراه الله تعالى أنه بعد في نقص الإمكان ولم يفاوت عالم البشرية وما النصر والتثبيت إلا من الله وحده.
فقد روي أنه لما قال له ربه: لا تَخَفْ بلغ من ذهاب خوفه وطمأنينة نفسه أن أدخل يده في فمها وأخذ بلحييها،
قال الشيخ أبو القاسم الأنصاري: ذلك الخوف من أقوى الدلائل على صدقه في النبوة، لأن الساحر يعلم أن الذي أتى به تمويه فلا يخافه البتة. وعن بعضهم أنه خافها لأنه عرف ما لقي آدم منها.
قلت: يحتمل أن يكون خوف موسى وهجره إياها من فوات المنافع المعدودة ولهذا علل عدم خوفه بقوله سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى قال جار الله: السيرة من السير كالركبة من الركوب. يقال: سار فلان سيرة حسنة. ثم اتسع فيها فنقلت إلى معنى المذهب والطريقة ومنه سير الأولين، فيجوز أن ينتصب على الظرف أي في طريقتها الأولى حال ما كانت عصا، أو يكون أعاد منقولا بالهمزة من عاده بنزع الخافض بمعنى عاد إليه فيتعدى إلى مفعولين، أو يكون المراد بالإعادة الإنشاء ثانيا. ونصب سِيرَتَهَا بفعل مضمر في موضع الحال أي سنعيدها تسير سيرتها الأولى حيث كنت تتوكا عليها ولك فيها المآرب التي عرفتها. ثم قوى أمره بمعجزة ثانية فقال وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ يقال: لكل
527
ناحيتين جناحان ومنه جناحا العسكر وجناحا الإنسان لجنبهما. والأصل المستعار منه جناحا الطائر سميا جناحين لأنه يجنحهما عند الطيران أي يميلهما. فقيل: المراد بالآية تحت العضد بدليل قوله تَخْرُجْ وعن ابن عباس: معناه إلى صدرك. وضعف بأنه لا يطابقه قوله تَخْرُجْ قلت: لا شك أن الصدر مستور بالقميص فيظهر عند ذلك معنى الخروج ويفسره قوله في موضع آخر وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ [النمل: ١٢] والسوء الرداءة والقبح في كل شيء فكنى به عن البرص كما كنى عن العورة بالسوءة. والبرص أبغض شيء عند العرب بحيث تمجه أسماعهم فكان جدير بأن يكنى عنه. ومعنى بَيْضاءَ أنها تنور كشعاع الشمس. قال في الكشاف: من غير سوء من صلة البيضاء كما تقول: ابيضت من غير سوء. قلت: لعله أراد أن «من» للتعليل أي ليس البياض هو السوء وإنما السبب غيره وحقيقته ترجع إلى الابتداء. وبَيْضاءَ وآيَةً حالان معا أو متداخلتان. واحتمل أن ينتصب اية بمضمر يدل عليه الكلام نحو «خذ ودونك». وقوله لِنُرِيَكَ إما أن يتعلق بهذا المحذوف أو بمحذوف آخر أي لنريك مِنْ آياتِنَا فلعنا ما فعلنا.
ولا يبعد عندي أن يتعلق بالأمرين المذكورين أي أَلْقِها واضْمُمْ لنريك قال الحسن:
اليد في الإعجاز أعظم من العصا لأنه تعالى وصفها بالكبرى. وضعف بأنه ليس في اليد إلا تغير اللون وأما في العصا ففيه تغير اللون والزيادة في الحجم وخلق الحياة والقدرة على الأمور الخارقة، فالمراد لنريك بهاتين الآيتين بعض آياتنا الكبرى. وجوز في الكشاف أن يكون المراد لنريك بهما الكبرى من آياتنا. ويرد عليه لزوم أن تكون الآيات الكبرى منحصرة فيهما وليس كذلك فإن معجزات نبينا محمد ﷺ أكبر من الكل، وكفاك بالقرآن شاهدا على ذلك. ثم صرح بالمقصود من المعجزات فقال اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ وخصه بالذكر لأن قومه تبع له. ثم بين العلة في ذلك فقال إِنَّهُ طَغى
وعن وهب أن الله تعالى قال لموسى: استمع كلامي واحفظ وصيتي برسالتي فإنك بعيني وبسمعي وإن معك يدي وبصري وإني ألبستك جنة من سلطاني لتستكمل بها القوة في أمري، بعثتك إلى خلق ضعيف من خلقي بطر نعمتي وأمن مكري وغرته الدنيا حتى جحد حقي وأنكر تقديسي، وإني أقسم بعزتي لولا الحجة والعذر الذي وضعت بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار شديدة، ولكن هان عليّ وسقط من عيني فبلغه رسالتي وادعه إلى عبادتي وحذره نقمتي وقل له قولا لينا لا يغتر بلباس الدنيا، وإن ناصيته بيدي لا يطرف ولا يتنفس إلا بعلمي في كلام طويل. قال: فسكت موسى سبعة أيام ثم جاءه ملك فقال له: أجب ربك فيما أمرك
فعنده قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي قال علماء المعاني: أنهم أولا بقوله رَبِّ اشْرَحْ لِي وَيَسِّرْ لِي فعلم أن ثمة مشروحا وميسرا. ثم بين فرفع
528
الإبهام بذكر الصدر والأمر وكان أوكد من جهة الإجمال. ثم التفصيل كان في صدر موسى ضيق كما جاء في موضع آخر وَيَضِيقُ صَدْرِي [الشعراء: ١٣] فسأل الله أن يبدل الضيق بالسعة حتى يفهم ما أنزل عليه من الوحي. وقيل: أراد شجعني على مخاطبة فرعون وعلى تحمل أعباء الرسالة. واعلم أن الكلام في الدعاء وشرائطه وفوائده وسائر ما يتعلق به قد سبق منا في «البقرة» في تفسير قوله سبحانه وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [الآية: ١٨٦].
ولنذكر هاهنا نكتا شريفة: الأولى أنه تعالى كامل في الأزل إلا أنه غير مكمل في الأزل لأن التكميل هو جعل الشيء كاملا ولا شيء معه في الأزل فلا تكميل، وذلك كما يقال: إنه سبحانه لا يعلم عددا مفصلا لحركات أهل الجنة لأن كل ما له عدد مفصل فهو متناه وحركات أهل الجنة غير متناهية فامتنع ذلك لا لقصور في العلم بل لكونه في نفسه ممتنع الحصول. ولما كان الغرض من التكوين تكميل الناقصين، وكان الوجود أول صفة من صفات الكمال أجلس الله سبحانه على هذه المائدة بعض المعدومات، لأنه لو أجلس الكل عليها لدخل في الوجود ما لا نهاية له، ولانتهت القدرة الذاتية لامتناع إيجاد الموجود. وكما أن رحمته اقتضت وضع مائدة الوجود لبعض المعدومات دون بعض حتى صار ذلك البعض حيا مدركا للمنافي والملائم واللذة والألم والخير والشر فقال: الأحياء عند ذلك يا رب الأرباب شرفتنا بخلعة الوجود وخلعة الحياة، ولكن ازدادت حاجتنا لأنا- حال العدم وحال الجمادية- ما كنا نحتاج إلى الملائم والمخالف والموافق، وما كنا نخاف المنافي والمؤذي، والآن احتجنا إلى طلب الملائم ودفع المنافي، فإن لم يكن لنا قدرة على الهرب والطلب كنا كالزمن المقعد في الطريق عرضة للآفات وهدفا لسهام البليات، فاقتضت الرحمة الكاملة تخصيص بعض الأحياء بالقدرة كما اقتضت تخصيص بعض المعدومات بالوجود وتخصيص بعض الموجودات بالحياة فقال: القادرون عند ذلك: إلهنا الجواد الكريم إن الحياة والقدرة بلا عقل لا تكون إلا للبهائم المسخرة في حمل الأثقال، فأفض علينا من العقل الذي هو أشرف مخلوقاتك. فأعطى بعضهم العقل فحصل في أرواحهم نور البصيرة وجوهر الهداية ختامه مسك كما أن خاتم النبيين ﷺ كان أفضل المخلوقات، فنظر العقل في نفسه فرأى نفسه كالحقة المملوءة من الجواهر بل كسماء مزينة بالزواهر وهي العلوم الضرورية البديهية المركوزة في بداية العقول وصرائح الأذهان، يهتدي بها السائرون في ظلمات بر الشكوك وبحر الشبهات، فاستدل العقل بتلك الأرقام على راقم، وبتلك النقوش على نقاش، فغلبته دهشة الأنوار الأزلية وكاد يغرق في بحر الفكر، ويضيق عليه نطاق التأمل والتدبر، ويقع في تجاذب أيدي الأعداء الداخلة والخارجة وشياطين الجن والإنس فعند ذلك قال: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي
529
وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي فانتهاء جميع الحوادث اليه وتيسير الأمور الكلية والجزئية من عنده، وهو الذي يعطي القابل قابليته والفاعل فاعليته.
الثانية: إنه تعالى خاطبه أولا بالتوحيد إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا وثانيا بالعبادة فَاعْبُدْنِي وثالثا بمعرفة المعاد إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ ورابعا بمعرفة الحكمة في جملة أفعاله وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ وخامسا بعرض المعجزات الباهرة عليه لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى وسادسا بإرساله إلى أعظم الناس كفرا وكانت هذه التكاليف الشاقة سببا لضيق العطن وانحلال عقدة الصبر فلا جرم تضرع إلى الله سبحانه قائلا رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وهاهنا دقيقة هي أن شرح الصدر مقدمة لسطوح الأنوار الإلهية في القلب، والاستماع مقدّمة الفهم. ولما أعطى موسى المقدّمة بقوله فَاسْتَمِعْ نسج موسى على ذلك المنوال فقال رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ولما آل الأمر إلى محمد وكان خاتم النبيين ومقصودا من الكائنات ومخاطبا بقوله أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح: ١] أوتي النتيجة فقيل له وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: ١١٤] ووصف بقوله وَسِراجاً مُنِيراً [الأحزاب:
٤٦] فشرح الصدر هو أن يصير الصدر قابلا للنور، والسراج المنير هو المعطي للنور.
فالتفاوت بين موسى ومحمد عليهما السلام هو التفاوت بين الآخذ والمعطي ولهذا قال موسى: اللهم اجعلني من أمة محمد.
الثالثة: إنه تعالى ذكر عشرة أشياء ووصفها بالنور أحدها وصف ذاته بالنور اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النور: ٣٥] وثانيها الرسول قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ [المائدة: ١٥] وثالثها الكتاب وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ [الأعراف: ١٥٧] ورابعها الإيمان يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ [التوبة: ٣٢] وخامسها عدل الله وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها [الزمر: ٦٩] وسادسها ضياء القمر وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً [نوح: ١٦] وسابعها النهار وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الأنعام: ١] وثامنها البينات إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ [المائدة: ٤٤] وتاسعها الأنبياء نُورٌ عَلى نُورٍ [النور: ٣٥] وعاشرها المعرفة مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ [النور: ٣٥] فكأن موسى عليه السلام قال أوّلا رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي بمعرفة أنوار جلال كبريائك. وثانيا رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي بالتخلق بأخلاق رسلك وأنبيائك. وثالثا رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي باتباع وحيك وامتثال أمرك ونهيك. ورابعا رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي بنور الإيمان والإيقان بإلهيتك. وخامسا رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي بالاطلاع على أسرار عدلك في قضائك وحكمك. وسادسا رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي بالانتقال من نور شمسك وقمرك إلى أنوار جلالك وعزتك كما فعله إبراهيم صلوات
530
الرحمن عليه. وسابعا رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي عن مطالعة نهارك وليلك إلى مطالعة نهار فضلك وليل عدلك. وثامنا رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي بالاطلاع على مجامع آياتك ومعاقد بيناتك في أرضك وسمائك. وتاسعا رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي في أن أكون خلف صدق أنبيائك المتقدمين متشبها بهم في الانقياد لحكم رب العالمين. وعاشرا رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي بأن تجعل سراج الإيمان كالمشكاة التي فيها المصباح.
الرابعة: شرح الصدر عبارة عن إيقاد النور في القلب حتى يصير القلب كالسراج، ومستوقد السراج محتاج إلى سبعة أشياء: زند وحجر وحراق وكبريت ومسرجة وفتيلة ودهن. فالزند زند المجاهدة وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا [العنكبوت: ٦٩] والحجر حجر التضرع وادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً [الأعراف: ٥٥] والحراق منع الهوى وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى [النازعات: ٤٠] والكبريت الإنابة وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ [الزمر: ٥٤] والمسرجة الصبر وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة: ٤٥] والفتيلة الشكر لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [ابراهيم: ٧] والدهن الرضا وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ [الطور: ٤٨] ثم إذا صلحت هذه الأدوات فلا تعول عليها بل ينبغي أن تطلب المقصود من حضرة ربك بالتضرع والدعاء قائلا رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي فهنالك تسمع قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى.
الخامسة: هذا النور الروحاني المسمى بشرح الصدر أفضل من الشمس الجسمانية لوجوه أحدها: الشمس يحجبها الغيم، وشمس المعرفة لا تحجبها السموات السبع إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر: ١٠] وثانيها الشمس تغيب ليلا وشمس المعرفة لا تغيب ليلا إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل: ٦] وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ [آل عمران: ١٧] سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء: ١] الليل للعاشقين ستير يا ليت أوقاته تدوم وعند الصباح يحمد القوم السرى. وثالثها الشمس تفنى إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [التكوير: ١] والمعرفة لا تفنى أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ [ابراهيم: ٢٤] سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: ٥٨] ورابعها الشمس إذا قارنها القمر انكسفت وشمس توحيد المعرفة وهي «أشهد أن لا إله إلا الله» إذا لم تقرن بقمر النبوة وهي «أشهد أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم» لم يصل نور إلى عالم الجوارح. وخامسها الشمس تسود الوجه والمعرفة تبيض الوجوه يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ [آل عمران: ١٠٦] وسادسها الشمس تحرق والمعرفة تنجي من الإحراق
«جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي».
وسابعها الشمس
531
تصدع والمعرفة تصعد إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر: ١٠] وثامنها الشمس منفعتها في الدنيا والمعرفة منفعتها في الدارين فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: ٩٧] وبوجه آخر الشمس زينة لأهل الأرض، والمعرفة زينة لأهل السماء. وتاسعها الشمس فوقاني الصورة تحتاني المعنى، والمعارف الإلهية تحتانية الصورة فوقانية المعنى، وفيه أن الخيبة مع الترفع والشرف مع التواضع. وعاشرها الشمس تعرّف أحوال الخلق، والمعرفة تصل القلب إلى الخالق. والشمس تقع على الولي والعدوّ والمعرفة لا تحصل إلا للولي، ولما كان شرح الصدر الذي هو أول مراتب الروحانيات أشرف من أعلى مراتب الجسمانيات بدأ موسى بطلبه قائلا رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي.
السادسة: الشمس سراج أوقدها الله تعالى للفناء كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [الرحمن: ٢٦] والمعرفة سراج استوقده للبقاء يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ [ابراهيم: ٢٧] والذي خلقه للفناء إذا قرب منه الشيطان احترق يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً [الجن: ٩] والذي خلقه للبقاء كيف يقرب منه الشيطان رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وأيضا: الشمس في السماء ثم إنها مع بعدها تزيل الظلمة عن بيتك، فشمس المعرفة مع قربها لأنها في قلبك أولى أن تزيل ظلمة المعصية والكفر عن قلبك. وأيضا الإنسان إذا استوقد سراجا فإنه لا يزال يتعهده ويمده، والله تعالى هو الموقد لسراج المعرفة وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ [الحجرات:
٧] أفلا يمده وهو معنى قوله رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وأيضا إذا كان في البيت سراج فإن اللص لا يقرب منه، وإنه سبحانه قد أوقد سراج المعرفة في قلبك فكيف يقرب الشيطان منه رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وأيضا المجوس إذا أوقدوا نارا لا يجوزون إطفاءها، فالملك القدوس إذا أوقد سراج المعرفة في قلبك كيف يرضى بإطفائها رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي.
السابعة: أنه سبحانه أعطى قلب المؤمن تسع كرامات أحدها أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ [الأنعام: ١٢٢]
وقال صلى الله عليه وسلم: «من أحيا أرضا ميتة فهي له»
فيعلم أنه لما خلق أرض القلب فأحياها بنور الإيمان لا يكون لغيره فيها نصيب. وثانيها الشفاء وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ [التوبة: ١٤] وفيه أنه إذا وضع الشفاء في العسل بقيت تلك الخاصية فيه أبدا. فإذا وضع الشفاء في الصدر فكيف لا يبقى أبدا؟ وثالثها الطهارة أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى [الحجرات: ٣] وفيه أن الصائغ إذا امتحن الذهب فبعد ذلك لا يدخله في النار، فالله تعالى لما امتحن قلب المؤمن كيف يدخله النار بعده؟ ورابعها الهداية وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن: ١١] وفيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم
532
يهدي نفسك والقرآن يهدي روحك والمولى يهدي قلبك، والأول قد يحصل وقد لا يحصل إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص: ٥٦] وكذا الثاني يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً [البقرة: ٢٦] وأما هداية القلب فلا تزول البتة لأن الهادي لا يزول وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إلى صراط مستقيم [القصص: ٥٦] وخامسها الكتابة أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ [المجادلة: ٢٢] وفيه أن القرطاس إذا كتب فيه القرآن لم يجز إحراقه، فقلب المؤمن الذي فيه القرآن وجميع أحكام ذات الله وصفاته كيف يليق بالكريم إحراقه؟ وأيضا إن بشرا الحافي أكرم قرطاسا فيه اسم الله تعالى فنال سعادة الدارين، فإكرام قلب فيه معرفة الله أولى بذلك. وأيضا إن القرطاس إذا كتب فيه اسم الله الأعظم عظم قدره حتى إنه لا يجوز للجنب والحائض مسه، فالقلب الذي فيه أكرم الموجودات كيف يجوز للشيطان الخبيث أن يمسه؟ وسادسها هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ [الفتح: ٤] وفيه أن أبا بكر لما نزلت عليه السكينة في الغار قيل له لا تحزن إن الله معنا. فالمؤمن إذا نزلت السكينة في قلبه لا بد أن يقال له عند قبض الروح: لا تخف ولا تحزن كما قال تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا [فصلت: ٣٠] وسابعها المحبة والزينة كما قال وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: ٦] وفيه أن الدهقان إذا ألقى في الأرض حبة فهو لا يفسدها ولا يحرقها، فهو سبحانه حين ألقى حبة المحبة في أرض القلب كيف يحرقها؟ وثامنها فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ [آل عمران: ١٠٣] وفيه أن محمدا حين ألف بين قلوب أصحابه ما تركهم غيبة ولا حضورا سلام «علينا وعلى عباد الله الصالحين» فأكرم الأكرمين وأرحم الراحمين كيف يتركهم سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: ٥٨].
وتاسعها الطمأنينة أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: ٢١] وفيه أن الحاجات غير متناهية وما سوى الله فهو متناه، والمتناهي لا يقابل غير المتناهي. فالكافي للمهمات لا يكون إلا من له كمالات غير متناهيات فلا يزيل قلق الحوائج واضطراب الأماني إلا الله سبحانه، وبإزاء هذه الكرامات ورد في حق الكفار أضدادها فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: ٥] ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [التوبة: ١٢٧] فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [البقرة:
١٠] قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً [المائدة: ١٣] إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ [الكهف:
٥٧] خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [البقرة: ٧] أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد: ٢٤] بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ [المطففين: ١٤] طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [النحل: ١٠٨] فلأجل تلك الكرامات والهرب من أضدادها قال موسى رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي.
الثامنة: في حقيقة شرح الصدر وذلك أن لا يبقى للقلب التفات إلى الدنيا إلا رغبة
533
بأن يكون متعلق القلب الأهل والولد وتحصيل مصالحهم ودفع المضار عنهم، ولا رهبة بأن يكون خائفا من الأعداء والمنازعين فإن القوة البشرية لضعفها كينبوع صغير، فإذا وزعت على جداول كثيرة ضعف الكل وضاعت وإذا انصب الكل في موضع واحد ظهر أثرها وقويت فائدتها، فسأل موسى ربه أن يوقفه على معايب الدنيا وقبح صفاتها ليكون متوجها بالكلية إلى عالم القدس ومنازل الروحانيات وهذا معنى قوله رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. أو نقول: إنه لما كلف بضبط الوحي في قوله فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى وبالمواظبة على خدمة الخالق في قوله فَاعْبُدْنِي فكأنه صار مكلفا بتدبير العالمين، والالتفات إلى أحدهما يمنع من الاشتغال بالآخر فسأل موسى ربه قوة وافية بالطرفين فقال رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي أو نقول: معدن النور هو القلب، والاشتغال بما سوى الله- من الزوجة والولد والصديق والعدوّ بل الجنة والنار- هو الحجاب المانع من وصول نور شمس القلب إلى فضاء الصدر، فإذا قوى الله بصيرة العبد حتى طالع عجز الخلق وقلة فائدتهم في الدارين صغروا في عينه كالذباب والبق والبعوض فلا يدعوه رغبة إلى شيء مما يتعلق بالدنيا ولا رهبة من شيء من ذلك فيصير الكل عنده كالعدم فعند ذلك يزول الحجاب وينفسخ القلب بل الصدر للنور رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي.
التاسعة: لنضرب مثلا لذلك فنقول: البدن بالكلية كالمملكة، والصدر كالقلعة، والفؤاد كالصفة، والقلب كالسرير، والروح كالملك، والعقل كالوزير، والشهوة كالعامل الكبير الذي يجلب النعم إلى البلدة، والغضب كالا سفهيد الذي يشتغل بالضرب، والتأديب والحواس كالجواسيس، وسائر القوى كالمحترفين والعملة والصناع. ثم إن الشيطان كملك مطاع وإنه يخاصم هذه البلدة والقلعة والهوى والحرص وسائر الأخلاق الذميمة جنوده، فإذا أخرج الروح وزيره وهو العقل أخرج الشيطان في مقابله الهوى فجعل العقل يدعو إلى الله تعالى والهوى إلى الشيطان. ثم إن الروح أخرج الفطنة إعانة للعقل فأخرج الخصم في مقابلته الشهوة، فالفطنة توقفك على معايب الدنيا، والشهوة تحسن لذات الدنيا. ثم إن الروح أمد الفطنة بالفكرة لتوقف على الحاضر والغائب من المعايب على ما
قال «تفكر ساعة خير من عبادة سنة»
فأخرج الشيطان في مقابلة الفكرة الغفلة، ثم أخرج الروح الحلم والثبات فإن العجلة ترى الحسن قبيحا والقبيح حسنا، فأخرج الشيطان بإزائه العجلة والسرعة فلهذا
قال ﷺ «ما دخل الرفق في شيء إلا زانه وما دخل الخرق في شيء إلا شانه» «١»
وخلق السموات والأرض في ستة أيام ليتعلم منه الرفق والثبات فهذه
(١) رواه مسلم في كتاب البر حديث ٧٨. أبو داود في كتاب الجهاد باب: ١. أحمد في مسنده (٦/ ٥٨، ١١٢).
534
هي الخصومة الواقعة بين الصفين وقلبك وصدرك هو المعركة. ثم إن لهذا الصدر الذي هو القلعة خندقا وهو الزهد في الدنيا، وله سور وهو الرغبة في الآخرة. فإن كان الخندق عظيما والسور قويا عجز عسكر الشيطان وجنوده فانهزموا، وإن كان بالضد دخل الشيطان وجنوده من الكبر والهوى والعجب والبخل وسوء الظن بالله ومن النميمة والغيبة وسائر الخصال الذميمة، وينحصر الملك في القصر ويضيق الأمر عليه. ثم إذا جاء مدد التوفيق وأخرج هذا العسكر من القلعة انفسح وانشرح رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي.
النكتة العاشرة: في الفرق بين الصدر والقلب والفؤاد واللب. الصدر مقر الإسلام أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الزمر: ٢٢] والقلب مقر الإيمان حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: ٦] أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ [المجادلة: ٢٢] والفؤاد مقر المشاهدة ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى [النجم: ١١] واللب مقام التوحيد إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ [الزمر: ٩] أي الذين خرجوا من قشر الوجود المجازي ويقوا بلب الوجود الحقيقي. ثم إن القلب كاللوح المحفوظ في العالم الصغير فإذا ركب العقل سفينة التوفيق وألقاها في بحار أمواج المعقولات من عالم الروحانيات هبت من مهاب العظمة والكبرياء رخاء السعادة تارة ودبور الأدبار أخرى، فحينئذ يضطر الراكب إلى التماس أنوار الهدايات وطلب انفتاح أبواب السعادات فيقول رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وإنما سأل موسى شرح الصدر دون القلب لأن انشراح الصدر يستلزم انشراح القلب دون العكس. وأيضا شرح الصدر كالمقدمة لشرح القلب والجواد يكفيه الإشارة، فإذا علم أنه طالب للمقدمة فلا يليق بكرمه أن يمنعه النتيجة. وأيضا إنه راعى الأدب في الطلب فاقتصر على طلب الأدنى. فلا جرم أعطى المقصود فقال قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى وحين اجترأ في طلب الرؤية بقوله أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف: ١٤٣] أجيب بقوله لَنْ تَرانِي. واعلم أن جميع المهيئات الممكنة كالبلور الصافي الموضع في مقابلة شمس القدس ونور العظمة ومشرق الجلال، فإذا وقع للقلب التفات إليها حصلت له نسبة إليها بأسرها، فينعكس شعاع كبرياء الإلهية من كل واحد منها إلى القلب فيحرق القلب. ومعلوم أن المحرق كلما كان أكثر كان الاحتراق أتم، فلهذا قال موسى رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي حتى أقوى على إدراك درجات الممكنات وأصل إلى مقام الاحتراق بأنوار الجلال كما نبينا صلى الله عليه وسلم
«أرني الأشياء كما هي»
وهاهنا دقيقة وهي أن موسى لما زاد لفظة لِي في قوله رَبِّ اشْرَحْ لِي دون أن يقول «رب اشرح صدّري» علم أنه أراد أن تعود منفعة الشرح إليه فلا جرم يقول يوم القيامة «نفسي نفسي» وإن نبينا ﷺ لما لم
535
ينس أمته في مقام القرب إذ قيل له
«السلام عليك أيها النبي» فقال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين،
فلا جرم يقول يوم القيامة
«أمتي أمتي»
وشتان ما بين نبي يتضرع إلى الله ويقول رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وبين نبي يخاطب أولا بقوله أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح: ١]. ولا يخفى أن المراد بالشرح والتيسير عند أهل السنة هو خلقهما، وعند المعتزلة تحريك الدواعي والبواعث بفعل الألطاف المسهلة، فإنه يحتمل أن يكون هناك من الألطاف ما لا يحسن فعلها إلا بعد هذا السؤال.
أما قوله سبحانه وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي فاعلم أن النطق فضيلة عظيمة وموهبة جسيمة ولهذا قال خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ [الرحمن: ٣، ٤] بغير توسط العاطف كأنه إنما يكون خالقا للإنسان إذا علمه البيان. وفي لسان الشاعر وهو زهير:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فلم يبق إلا صورة اللحم والدم.
وعن علي كرم الله وجهه: ما الإنسان لولا اللسان إلا صورة مصورة أو بهيمة مهملة.
وقالت العقلاء: المرء بأصغريه. المرء مخبوء تحت لسانه. وفي مناظرة آدم والملائكة لم تظهر الفضيلة إلا بالنطق. ومن التعريفات المشهورة: إن الإنسان هو الحيوان الناطق، وهذا النطق وإن كان في التحقيق هو إدراك المعاني الكلية لكن النطق اللساني لا ريب أنه أظهر خواص الآدمي وقد نيط به أمر تمدنه والتعبير عما في ضميره فقول موسى رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي إشارة إلى طلب النور الواقع في القلب، وقوله وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي رمز الى تسهيل ذلك التحصيل، وقوله وَاحْلُلْ طلب لسهولة أسباب التكميل لأن اللسان آلة إلا فاضة والإفادة وبه يتيسر ذلك الخطب الجسيم والمنصب العظيم.
وحسبك يا فتى شرفا وفخرا سكوت الحاضرين وأنت قائل
ومن الناس من مدح الصمت بوجوه منها:
قوله ﷺ «الصمت حكمة وقليل فاعله»
وقولهم: مقتل الرجل بين فكيه. وفي نوابغ الكلم: يا بني ق فاك لا تقرع قفاك. ومنها أن الكلام خمسة أقسام: فالذي ضرره خالص أو غالب أو مساو للنفع واجب الترك احترازا من السفه والعبث، والذي نفعه خالص أو غالب عسر المراعاة فالأولى تركه. ومنها أنه ما من موجود أو معدوم معلوم أو موهوم إلا واللسان يتناوله بإثبات أو نفي بحق أو بباطل، بخلاف سائر الأعضاء. فالعين لا تصل إلا إلى الألوان والسطوح، والأذن لا تصل إلا إلى الأصوات والحروف، واليد لا تصل إلا إلى الأجسام،
536
وكذا باقي الجوارح. أما اللسان فإنه رحب الميدان واسع المضطرب خفيف المئونة سهل التناول لا يحتاج إلى آلات وأدوات للمعصية به فكان الأولى ترك الكلام وإمساك اللسان.
والإنصاف ان الصمت في نفسه ليس بفضيلة لأنه أمر عدمي والنطق في نفسه فضيلة، وإنما يصير رذيلة لأسباب عرضية مما عددها ذلك القائل فيرجع الحق إلى ما
قاله النبي ﷺ «رحم الله امرأ قال خيرا فغنم أو سكت فسلم»
قالوا: ترك الكلام له أربعة أسماء: الصمت وهو أعمها حتى إنه يستعمل فيما ليس يقوى على النطق كقولهم «مال ناطق أو صامت». والسكوت وهو ترك الكلام ممن يقدر على الكلام والإنصات هو السكوت مع استماع قال تعالى فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا [الأعراف: ٢٠٤] والإصاخة وهو الاستماع إلى ما يصعب إدراكه كالسر والصوت من المكان البعيد. أما العقدة فقيل: إنها كانت في أصل خلقته وعن ابن عباس أنه في حال صباه أخذ بلحية فرعون ونتفها فهم فرعون بقتله وقال: هذا هو الذي يزول ملكي على يده فقالت آسية: إنه صبي لا يعقل وإن شئت فامتحنه بالتمرة والجمرة. وقيل: بالياقوت والجمر. فأحضرا بين يديه فأراد مد اليد إلى الياقوت فحول جبرائيل يده إلى الجمرة فأخذها ووضعها في فيه فظهر به تعقد وتحبس عن بعض الحروف. فإن صحت هذه الرواية فالنار إنما أحرقته وأثرت فيه إطفاء لثائرة غضب فرعون وإلا فالله سبحانه قادر على دفع الإحراق عن طبع النار كما في حق إبراهيم صلوات الرحمن عليه، وكما في حق موسى حين ألقي في التنور.
ويروى أن يده احترقت أيضا وأن فرعون اجتهد في علاجها فلم يبرأ ولما دعاه قال: الي أيّ رب تدعوني؟ قال:
إلى الذي أبرأ يدي وقد عجزت عنها.
وعن بعض العلماء أنه لم تبرأ يده لئلا ينعقد بينه وبين فرعون حرمة المؤاكلة من قصعة واحدة. وقيل: لم تحرق يده لأن الصولة ظهرت باليد، وإنما احترق اللسان لأنه خاطبه بقوله «يا أبت».
وما الحكمة في طلب حل العقدة؟ الأظهر كيلا يقع في أداء الرسالة خلل فلهذا قال يَفْقَهُوا قَوْلِي وقيل: لأن العقدة في اللسان قد تقتضي الاستخفاف بالقائل وعدم الالتفات إليه. وقيل: إظهارا للمعجزة فكما أن حبس لسان زكريا عن الكلام كان معجزا له فكذا إطلاق لسان موسى كان معجزا في حقه. وهل زالت تلك العقدة بالكلية؟ فعن الحسن نعم لقوله قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى والأصح أنه بقي بعضها لقوله تعالى حكاية عن فرعون أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ [الزخرف: ٥٢] أي يقارب أن لا يبين.
وكان في لسان الحسين بن علي رضي الله عنه رتة أي عجمة في الكلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ورثها من عمه موسى.
وفي تنكير عقدة أيّ عقدة من عقد دلالة
537
على أنه طلب حل بعضها بحيث يفهم عنه فهما جيدا ولم يطلب الفصاحة الكاملة. وقال أهل التحقيق: وذلك لأن حل العقدة بالكلية نصيب محمد ﷺ فكان أفصح العرب والعجم وقد قال تعالى وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الإسراء: ٣٤] فلما كان ذلك حقا ليتيم أبي طالب لا جرم ما دار حوله. ومن مطالب موسى قوله وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ قال أهل الاشتقاق: الوزير من الوزر بالكسر لأنه يتحمل عن الملك أوزاره ومؤنة، أو من الوزر بفتحتين وهو الملجأ لأن الملك يعتصم برأيه ويلجيء إليه أموره، أو من الموازرة وهي المعاونة فيكون من الأزر والقوة ومنه قوله تعالى اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي أي ظهري لأنه محل القوة. قال الجوهري: آزرت فلانا أي عاونته، والعامة تقول: وازرته. وعلى هذا فيكون القياس أزيرا بالهمز على ما حكي عن الأصمعي ووجه القلب حمل «فعيل على «مفاعل» لاتحاد معنييهما في نحو «عشير» و «جليس» و «صديق» وغيرها. وحمله على أخوته من نحو الموازرة ويوازر والاستعانة بالوزير وبحسن رأيه دأب الملوك العقلاء
وقد استحسنه نبينا ﷺ فقال «إذا أراد الله بملك خيرا قيض له وزيرا صالحا إن نسي ذكره وإن نوى خيرا أعانه عليه، وإن أراد شرا كفه» «١»
وكان أنوشروان يقول: لا يستغني أجود السيوف عن الصقل، ولا أكرم الدواب عن السوط، ولا أعلم الملوك عن الوزير. وكفى بمرتبة الوزارة منقبة وفخرا وشرفا وذكرا أن النبي ﷺ المؤيد بالمعجزات الباهرة ابتهل إلى الله سبحانه في مقام القرب والمكالمة يطلبه منه، فيجب على من أوتي هذه الرتبة أن يؤدي إلى الله حقها ولا يغتر بالدنيا وما فيها، ويزرع في أرض الوزارة ما لم يندم عليه وقت حصاده. وقيل: إن موسى خاف على نفسه العجز عن القيام بذلك الأمر العظيم والخطب الجسيم فطلب المعين. والأظهر أنه رأى أن التعاون على الدين والتظاهر عليه مع خلوص النية وصفاء الطوية أبعد عن التهمة وأعون على الغرض، ولهذا حكى عن عيسى أنه قال مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ [الصف: ١٤] وخوطب نبينا ﷺ بقوله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال: ٦٤]
وروي أنه ﷺ قال «إن لي في السماء وزيرين وفي الأرض وزيرين فاللذان في السماء جبرائيل وميكائيل واللذان في الأرض أبوبكر وعمر» «٢»
ثم إن موسى طلب أن يكون ذلك الوزير من أهله أي من أقاربه لتكون الثقة به أكثر وليكون الشرف في بيته أوفر وإنه كان واثقا بأخيه هارون فأراد أن
(١) رواه أبو داود في كتاب الإمارة باب: ٤.
(٢) رواه الترمذي في كتاب المناقب باب: ١٦
.
538
يخصه بهذا المنصب الشريف قضاء لحقوق الإخاء، فمن منع المستوجبين فقد ظلم وكان أفصح منه لسانا وأكبر سنا وألين جانبا. قال جار الله: وَزِيراً وهارُونَ مفعولا اجْعَلْ قدم ثانيهما عناية بأمر الوزارة، أو لِي ووَزِيراً مفعولان هارُونَ عطف بيان للوزير وأَخِي في الوجهين بدل من هارُونَ أو عطف بيان آخر. وقيل: يجوز فيمن قرأ اشْدُدْ على الأمر أن يجعل أَخِي مرفوعا على الابتداء واشْدُدْ خبره فيوقف على هارُونَ وشد الأزر به عبارة عن تقويته به وأن يجعله ناصرا له فيما عسى يرد عليه من الشدائد والخطوب، بل يجعله وسيلة له في أمر النبوة وطريق الرسالة لأنه صرح بذلك في قوله وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي. ثم ذكر غاية الأدعية فإن المقصد الأسنى هو الاستغراق في بحر التوحيد ونفي الإشراك، فإن التعاون مهيج الرغبات ومسهل سلوك سبل الخيرات فقال كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً أي تسبيحا كثيرا وَنَذْكُرَكَ ذكرا كَثِيراً وقدم التسبيح وهو التنزيه لأن النفي مقدم على الإثبات، فبالأول تزول العقائد الفاسدة، وبالثاني ترتسم النقوش الحسنة المفيدة. ثم ختم الأدعية بقوله إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً
وفيه فوائد منها:
أنه فوض استجابة الدعوات إلى عمله بأحوالهما وأنهما بصدد أهلية الإجابة أم لا، وفيه من حسن الأدب ما لا يخفى. ومنها أنه عرض فقره واحتياجه على علمه وأنه مفتقر إلى التعاون والتعاضد ولهذا سأل ما سأل. ومنها أنه أعلم بأحوال أخيه هل يصلح لوزارته أم لا، وأن وزارته هل تصير سببا لكثرة التسبيح والذكر. وحين راعى من دقائق الأدب وأنواع حسن الطلب ما يجب رعايته فلا جرم أجاب الله تعالى مطالبه وأنجح مآربه قائلا قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ والسؤل بمعنى المسئول كالخبز بمعنى المخبوز والأكل بمعنى المأكول.
وزيادة قوله يا مُوسى بعد رعاية الفاصلة لأجل كمال التمييز والتعيين والله أعلم.
بمصالح عبيده.
التأويل:
يا من طاب بطهارته بساط النبوة ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ إلا لتسعد بتخلقك بخلقه ويسعد بسببك الأولون والآخرون من أهل السموات وأهل الأرضين.
تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ أرض بشريتك وسموات روحانيتك التي هي أعلى الموجودات الممكنات كما
قال «أول ما خلق الله روحي».
استوى بصفة الرحمانية على عرش قلبك ليكون معه وقت لا يسعك فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل: لَهُ ما فِي السَّماواتِ الروحانية من الصفات الحميدة وَما فِي الْأَرْضِ البشرية من الصفات الذميمة وَما بَيْنَهُما أي بين سماء الروح وأرض النفس وهو القلب بما فيه من الإيمان والإيقان والصدق والإخلاص وَما تَحْتَ الثَّرى أي ما هو مركوز في جبلة الإنسانية: وَإِنْ تَجْهَرْ
539
بِالْقَوْلِ
أن يظهر شيء من صفاتك بالقول فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وهو ما يظهر من سيرتك وَأَخْفى هو ما أخفى الله من خفيك. والسر في اصطلاح الصوفية لطيفة بين القلب والروح، وهو معدن الأسرار الروحانية. والخفي لطيفة بين الروح والحضرة الإلهية وهو مهبط أنوار الربوبية وأسرارها وجملتها المعقولات، وقد يحصل لكل إنسان عند نشأته الأولى وإن كان كافرا. والأخفى لطيفة بين الروح والحضرة الإلهية ويكون عند نشأته الأخرى ولا يحصل إلا لمؤمن موحد صار مهبط الأنوار الربانية وجملتها المشاهدات والمكاشفات وحقائق العلوم اللدنية، ولهذا قال عقيبه اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لأن مظهر الألوهية وصفاته العليا وأسمائه الحسنى هو الخفي الذي لا شيء أقرب إلى الحضرة منه إلا وهو سر وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [البقرة: ٣١] وهو حقيقة
قوله «إن الله خلق آدم فتجلى فيه»
وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى القلب إِذْ رَأى ناراً [طه: ١٠] وهو نور في الحقيقة مأنوس به من جانب طور الروح فَقالَ لِأَهْلِهِ وهم النفس وصفاتها امْكُثُوا في ظلمة الطبيعة الحيوانية إِنِّي آنَسْتُ نار المحبة التي لا تبقى ولا تذر من حطب الوجود المجازي شيئا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ يخرجكم من ظلمات الطبيعة إلى أنوار الشريعة أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً بآداب الطريقة إلى الحقيقة فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ من شجرة القدس بخطاب الإنس فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ أي اترك الالتفات إلى الزوجة والولد فإن النعل يعبر في الرؤيا بهما، أو اترك الالتفات إلى الكونين إنك واصل الى جناب القدس، أو هما المقدمتان في نحو قولنا «العالم محدث وكل محدث فله محدث وموجد» وذلك أنه إذا غرق في لجة العرفان بقيت المقدمات على ساحل الوسائل وَأَنَا اخْتَرْتُكَ يا موسى القلب من سائر خلق وجودك من البدن والنفس والسر والروح فَاسْتَمِعْ بسمع الطاعة والقبول إنني لما تجليت بأنانية الوهيتي لأنانية وجودك المجازي لا يبقى إلا أنا فَاعْبُدْنِي بإفناء وجودك وأدم المناجاة معي لنيل ذكري إياك بالتجلي. إن قيامة العشق آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لعظم شأنها إلا أن متقاضى الكرم اقتضى إظهارها لأخص عبيدي لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى في العبودية من الروح والسر والقلب والنفس والقالب فلما كان سعي الروح بحب الوطن الأصلي للرجوع إليّ أمكن إضافة وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [ص: ٧٢] فجزاؤه من تجلي صفات الجلال بانعدام الناسوتية في اللاهوتية وكان سعي السعي بالخلو عن الأكوان لقبول فيض المكون فجزاؤه بإفاضة الفيض الإلهي عليه. وسعي القلب بقطع تعلقات الكونين لتصفيته وقابليته لتجلي صفات الجمال والجلال، فجزاؤه بدوام التجلي وأن يبيت عند ربه يطعمه ويسقيه من الشراب الطهور الذي يزيل لوث الحدوث عن لوح القلوب لكشف
540
ﰌﰍﰎﰏﰐ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖ ﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ ﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔ ﮖﮗ ﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠ ﮢﮣﮤﮥﮦ ﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛ ﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤ ﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼ ﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇ ﰉﰊﰋﰌ ﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖ ﰘﰙﰚﰛﰜ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ ﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ ﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅ ﮇﮈﮉﮊﮋﮌ ﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔ ﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣ ﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬ ﮮﮯﮰﮱﯓﯔ ﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥ ﯧﯨﯩﯪﯫ ﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹ ﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅ ﰿ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛ ﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩ ﭫﭬﭭﭮﭯ ﭱﭲﭳﭴﭵﭶ ﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉ ﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒ ﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦ ﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶ ﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄ ﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏ ﰑﰒﰓﰔﰕﰖﰗﰘﰙﰚﰛﰜﰝ
حقائق. وسعي النفس بتبديل الأخلاق وانتفاء الأوصاف الحيوانية، فجزاؤه بإشراق نور ربها لإزالة ظلمة صفاتها واطمئنانها إلى ذكر ربها لتصير قابلة لجذبه ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ [الفجر: ٢٨] وسعي القالب باستعمال أركان الشريعة وآداب الطريقة، فجزاؤه ورفعة الدرجات ونيل الكرامات في الدارين فلا يصدنك عن هذه السعادات النفس الأمارة بالسوء التي لا تؤمن بها. ويحتمل أن يقال: أكاد أخفي الساعة ودخول الجنة والنار لئلا تكون عبادتي مشوبة بطمع الجنة وخوف النار. قالوا: أخطأ موسى في قوله هِيَ عَصايَ وكان عليه أن يقول «أنت أعلم بحالها مني» وفي قوله أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وكان عليه أن يتكىء على لطف الله وكرمه فلهذا قيل له أَلْقِها يا مُوسى وفي قوله وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي إذ نسي أن العصا لا تكون واسطة لرزق أغنامه وإنما الرزاق هو الله. خُذْها وَلا تَخَفْ فإن الضار والنافع هو الله وحده فلا يكن خوفك إلا منه ولا رجاؤك إلا به وَاضْمُمْ يد همتك إلى جناح قنوعك تَخْرُجْ بَيْضاءَ نقية عن درن السؤال وعن الطمع وباقي الحقائق مذكور في التفسير. وفي قوله قَدْ أُوتِيتَ بلفظ الماضي إشارة إلى أنه أعطي ذلك بالتقدير الأزلي لا بالتدبير العملي والله أعلم بالصواب.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٣٧ الى ٧٦]
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (٣٧) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (٣٩) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (٤٠) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١)
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (٤٢) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٤٣) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (٤٤) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (٤٥) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (٤٦)
فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (٤٧) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٤٨) قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (٤٩) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١)
قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (٥٢) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (٥٣) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (٥٤) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (٥٥) وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (٥٦)
قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (٥٨) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٥٩) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (٦٠) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (٦١)
فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (٦٢) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (٦٣) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (٦٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (٦٥) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (٦٦)
فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (٦٧) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (٦٨) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (٦٩) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (٧٠) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (٧١)
قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (٧٢) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (٧٣) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (٧٤) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (٧٥) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (٧٦)
541
القراآت:
وَلِتُصْنَعَ بسكون اللام والعين على الأمر: يزيد الآخرون بكسر اللام ونصب العين لِنَفْسِي اذْهَبْ فِي ذِكْرِي اذْهَبا بفتح ياء المتكلم: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو خلقه بفتح اللام على أنه فعل: نصير الباقون بالسكون. مَهْداً وكذلك في «الزخرف» : عاصم وحمزة وعليّ وخلف وروح. الآخرون مِهاداً سُوىً بكسر السين: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وعليّ الآخرون بالضم لا نُخْلِفُهُ بالجزم جوابا للأمر: يزيد يَوْمُ الزِّينَةِ على الظرف: هبيرة: وَقَدْ خابَ حيث كان بالإمالة: حمزة فَيُسْحِتَكُمْ من الإسحات: حمزة وعليّ وخلف ورويس وحفص. الباقون بفتح الياء والحاء إِنْ مخففة: ابن كثير وحفص والمفضل. الباقون مشددة. هذين أبو عمرو وهذانِ بالتشديد: ابن كثير. الباقون بالتخفيف فَأَجْمِعُوا بهمزة الوصل وفتح الميم أمرا من الجمع: أبو عمرو. والآخرون على لفظ الأمر من الإجماع: وَقَدْ أَفْلَحَ بنقل الحركة إلى الدال حيث كان: ورش وعباس وحمزة في الوقف تخيل بالتاء الفوقانية: ابن ذكوان وروح والمعدل عن زيد الباقون وابن مجاهد عن ابن ذكوان بالتحتانية.
تلقف بالتشديد والرفع على الاستئناف: ابن ذكوان. تَلْقَفْ بالتخفيف والجزم:
حفص والمفضل. وقرأ البزي وابن فليح مشددة التاء كيد سحر على المصدر: حمزة
542
وعلي وخلف. الباقون كَيْدُ ساحِرٍ على الوصف. قالَ آمَنْتُمْ بالمد: أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن عامر وأبو جعفر ونافع وابن كثير عن ابن مجاهد وأبي عون عن قنبل قال أمنتم على الخبر بغير مد: حفص وابن مجاهد وأبو عون عن قنبل. الباقون أآمنتم بزيادة همزة الاستفهام وَمَنْ يَأْتِهِ مختلسة الهاء: يزيد وقالون ويعقوب غير زيد، وأبو عمرو عن طريق الهاشمي عن اليزيدي وَمَنْ يَأْتِهِ بسكون الهاء: خلا دور جاء والعجلي وشجاع واليزيدي غير أبي شعيب ويحيى وحماد. الباقون يَأْتِهِ بالإشباع.
الوقوف:
أُخْرى هـ لا لأن «إذ» تفسير المرة ما يُوحى هـ لا لأن ما بعده تفسير ما يُوحى وَعَدُوٌّ لَهُ ط مِنِّي ج لأن الواو وقد تكون مقحمة وتعلق اللام ب أَلْقَيْتُ وقد تكون عاطفة على محذوف أي لتحب ولتصنع، ومن جزم اللام وقف على مِنِّي لا محالة عَلى عَيْنِي م لئلا يوهم أن «إذ» ظرف لِتُصْنَعَ مَنْ يَكْفُلُهُ ط لانقطاع النظم وانتهاء الاستفهام على أن فاء التعقيب مع اتحاد القصة يجيز الوصل. وَلا تَحْزَنَ ط لابتداء منة أخرى فُتُوناً هـ ط يا مُوسى هـ لِنَفْسِي هـ لا تساق الكلام مع حق الفاء مضمرة ذِكْرِي هـ ج لمثل ما قلنا والمضمر واو طَغى هـ للآية مع الفاء يَخْشى هـ يَطْغى هـ وَأَرى هـ وَلا تُعَذِّبْهُمْ ط لأن «قد» لتوكيد الابتداء وقد انقطع النظم على أن اتحاد المقول يجيز الوصل مِنْ رَبِّكَ ط لذلك فإن الواو للابتداء فِي كِتابٍ ج لاحتمال ما بعده الصفة والاستئناف وَلا يَنْسى هـ بناء على أن «الذي» صفة الرب والأحسن تقدير هو الذي أو أعني الذي ماءً ط للالتفات شَتَّى هـ أَنْعامَكُمْ ط النُّهى هـ أُخْرى هـ وَأَبى هـ يا مُوسى هـ سُوىً هـ ضُحًى هـ أَتى هـ بِعَذابٍ ج لاختلاف الجملتين افْتَرى هـ النَّجْوى هـ الْمُثْلى هـ صَفًّا هـ اسْتَعْلى هـ أَلْقى هـ أَلْقى ج لأن التقدير فألقوا ما ألقوه فإذا حبالهم مع فاء التعقيب وإذا المفاجأة المنافيين للوقف نَفْسِهِ هـ مُوسى هـ الْأَعْلى هـ ما صَنَعُوا ط كَيْدُ ساحِرٍ ط أَتى هـ وَمُوسى هـ لَكُمْ ط السِّحْرَ ق للقسم المحذوف ولانقطاع النظم مع فاء التعقيب وإتمام مقصود الكلام النَّخْلِ ج لابتداء معنى القسم ولفظ استفهام يعقبه مع اتفاق الجملة واتحاد الكلام. وَأَبْقى هـ قاضٍ ط الْحَياةَ الدُّنْيا ط مِنَ السِّحْرِ ط وَأَبْقى هـ جَهَنَّمَ ط وَلا يَحْيى هـ الْعُلى هـ لا لأن ما بعده بدل فِيها ط تَزَكَّى هـ.
التفسير:
منّ عليه منا أنعم، ومنّ عليه منة أي امتن عليه كأن الله سبحانه قال لموسى: إني راعيت صلاحك قبل سؤالك فكيف لا أعطيك مرادك بعد السؤال، أو كنت
543
ربيتك من غير سابقة حق فلو منعتك الحال مطلوبك لكان ذلك ردا بعد القبول وحرمانا بعد الإحسان وذلك ينافي الكرم الذاتي. قالوا: المنة تهدم الصنيعة فهي نوع من الأذى.
فقوله وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ يكون من المن لا من المنة، قلت: يحتمل أن لا تكون المنة من المنعم المطلق أذية وإنما تكون تنبها على النعم وإيقاظا من سنة الغفلة حتى يتلقى المكاف النعمة بالشكر والطاعة. وإنما قال مَرَّةً أُخْرى لأن الجملة قصة واحدة وإن كانت مشتملة على من كثيرة، والوحى إلى أم موسى إما أن يكون على لسان نبي في عصرها كشعيب مثلا، أو عن لسان ملك لا على طريق النبوّة كالوحي إلى مريم في قوله وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ [آل عمران: ٤٢] أو أراها في المنام أنه وضع ولدها في التابوت وقذف في البحر ثم رده الله إليها، أو ألهمها بذلك، أو لعل الأنبياء المتقدمين كإبراهيم وإسحق ويعقوب أخبروا بذلك وانتهى خبرهم إليها. ومعنى ما يُوحى ما يجب أن يوحى لما فيه من المصلحة الدينية ولأنه أمر عظيم ولأنه مما لا يعلم إلا بطريق الوحي.
«وأن» هي المفسرة لأن الإيحاء في معنى القول، والقذف يستعمل بمعنى الوضع أي ضعيه في التابوت وقد مر معناه في «البقرة» في قصة طالوت. قال جار الله: الضميران الباقيان في قوله فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ عائدان إلى موسى أيضا لئلا يؤدي إلى تنافر النظم، فإن المقذوف والملقى إذا كان موسى وهو في جوف التابوت لزم أن يكون التابوت أيضا مقذوفا وملقى ويؤيده أن الضمير في قوله عَدُوٌّ لَهُ لموسى بالضرورة لأن عداوة التابوت غير معقولة. وإذا كان الضمير الأول والضمير الأخير لموسى فالأنسب بإعجاز القرآن أن يكون الضمير المتوسط أيضا له، لأن المعنى صحيح واللفظ متناسب فلا حاجة الى العدول اعتمادا على القرينة. واليم هو البحر، والمراد هاهنا نيل مصر والساحل شاطىء البحر. وأصل السحل القشر ولهذا قال ابن دريد: هو مقلوب لأن الماء سحله فهو مسحول. قال أهل الإشارة: من خصوصية انشراح الصدر بنور الوحي أن يقذف في قلبه قذف الولد الذي هو أعز الأشياء في تابوت التوكل وبحر التسليم حتى يلقيه اليم بساحل إرادة الله ومشيئته. يروى أنها جعلت في التابوت قطنا محلوجا فوضعته فيه وجصصته وقيرته ثم ألقته في اليم، وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر كبير فبينا هو جالس على رأس بركة مع آسية إذا بالتابوت فأمر به فأخرج ففتح فإذا صبي أصبح الناس وجها فأحبه عدوّ الله حبا شديدا لا يتمالك أن يصبر عنه. وظاهر اللفظ يدل على أن التابوت التقط من الساحل، فلعل اليم ألقاه بموضع من الساحل فيه فوهة نهر فرعون فأداه النهر إلى البركة.
أما كون فرعون عدوا لله من جهة كفره وعتوه فظاهر، وأما كونه عدوّا لموسى وهو صغير
544
فباعتباره المآل، أو لأنه لو ظهر له حاله لقتله فسبحان من يربي حبيبه في حجر عدوّه.
قالوا: كان بحضرة فرعون حينئذ أربعمائة غلام وجارية، فحين أشار بأخذ التابوت ووعد من يسبق إلى ذلك الإعتاق تسابقوا جميعا ولم يظفر بأخذه إلا واحد منهم فأعتق الكل.
والنكتة فيه أن عدوّ الله لم يجوز من كرمه حرمان البعض إذ عزم الكل على الأخذ، فأكرم الأكرمين كيف لا يعتبر عزائم المؤمنين على الطاعة والخير؟ فالمرجو منه إعتاق الكل من النار وإن وقع لبعضهم تقصير في العمل. قوله مِنِّي إما أن يتعلق ب أَلْقَيْتُ أو يكون صفة للمحبة أي محبة حاصلة مني وعلى الوجهين فالمحبة إما محبة الله ومن أحبه الله أحبته القلوب، وإما محبة الناس التي زرعها الله في قلوبهم، فقد يروى أنه كانت على وجهه مسحة جمال وفي عينيه ملاحة لا يكاد يصبر عنه من رآه. قال القاضي: هذا الوجه أقرب لأنه في الصغر لا يوصف بمحبة الله التي يرجع معناها إلى إيصال الثواب. ورد بأن محبة الله عبارة عن إرادة الخير والنفع وهو أعم من أن يكون جزاء على العمل أو لا يكون ولهذا بين المحبة بقوله وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي أي لتربى ويحسن إليك وأنا مراعيك ومراقبك كما يراعى الشيء بالعينين إذا عني بحفظه، ولما كان العالم بالشيء حارسا له عن الآفات كما أن الناظر إليه يحرسه أطلق لفظ العين على العلم لاشتباههما من هذا الوجه.
وأيضا العين سبب الحراسة فأطلق السبب وأريد المسبب، ويقال: عين الله عليك إذا دعي له بالحفظ والحياطة، فالجار والمجرور في موضع الحال من ضمير المبني للمفعول في لِتُصْنَعَ وجوز في الكشاف أن يكون إِذْ تَمْشِي ظرفا لِتُصْنَعَ وليس بذلك وإنما هو ظرف ب أَلْقَيْتُ أو بدل من إِذْ أَوْحَيْنا على الوقتين من زمان واحد واسع يقول الرجل: لقيت فلانا سنة كذا، ثم تقول وأنا لقيته إذ ذاك وربما لقيه هو في أولها وأنت في آخرها.
يروى أنه لما فشا الخبر أن آل فرعون أخذوا غلاما في اليم وأنه لا يرتضع من ثدي امرأة كما قال سبحانه وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ [القصص: ١٢] جاءت أخت موسى عليه السلام واسمها مريم متنكرة فقالت هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فجاءت بالأم فقبل ثديها وذلك قوله فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ وقال في القصص فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ [القصص: ١٣] تصديقا لقوله إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ [القصص: ٧] كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها بلقائك وَلا تَحْزَنَ بسبب وصول لبن غيرها إلى معدتك وَقَتَلْتَ وأنت ابن اثنتي عشرة سنة نَفْساً هو القبطي الذي يجيء ذكره في القصص فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وهو اقتصاص فرعون منك.
وقيل: الغم هو القتل بلغة قريش، أو أراد بالغم خوف عقاب الله وذلك قوله
545
فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ [القصص: ١٦] وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً مصدر على «فعول» في المتعدي كالشكور والكفور، أو جمع فتن كالظنون للظن، أو جمع فتنة على ترك الاعتداد بتاء التأنيث كبدور في بدرة، وحجوز في حجزة، والفتنة المحنة والابتلاء بخير أو شر قال تعالى وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء: ٣٥] وفيها معنى التخليص من قولهم «فتنت الذهب» إذا أردت تخليصه. عن سعيد بن جبير أنه سأل ابن عباس عن الفتون فقال: أي خلصناك من محنة بعد محنة. ولد في عام كان يقتل فيه الولدان، وألقته أمه في البحر، وهمّ فرعون بقتله، وقتل قبطيا، وأجر نفسه عشر سنين، وضل الطريق، وتفرقت غنمه في ليلة مظلمة، وكان يقول عند كل واحدة فهذه فتنة يا ابن جبير. قال العلماء: لا يجوز إطلاق اسم الفتان على الله تعالى وإن جاء وَفَتَنَّاكَ لأنه صفة ذم في العرف وستجيء قصة لبثة في أهل مدين وأنه على ثمان مراحل من مصر في سورة القصص إن شاء العزيز. قوله عَلى قَدَرٍ أي في وقت سبق في قضائي وقدري أن أكلمك وأستنبئك فيه، أو على مقدار من الزمان يوحى فيه إلى الأنبياء وهو رأس أربعين سنة، أو على موعد قد عرفته بأخبار شعيب أو غيره. والصنع بالضم مصدر صنع إليه معروفا أو قبيحا أي فعل، والاصطناع «افتعال» منه واستعماله في الخير أكثر، واصطنع فلان فلانا إذا اتخذه صنيعة، واصطنعت فلانا لنفسي إذا اصطنعته وخرجته ومعناه أحسنت إليه حتى إنه يضاف إليّ. وقوله لِنَفْسِي أي لأصرفن جوامع همتك في أو امري حتى لا تشتغل بغير ما أمرتك به من تبليغ الرسالة وإقامة الحجة. وقال جار الله: مثل حاله بحال من يراه بعض الملوك أهلا للتقريب والتكريم لخصائص فيه فيصطنعه بالكرامة ويستخلصه لنفسه فلا يبصر إلا بعينه ولا يسمع إلا بأذنه ولا يأتمن على مكنون سره سواه. وقال غيره من المعتزلة: إنه سبحانه إذا كلف عباده وجب عليه أن يلطف بهم، ومن حمله الألطاف ما لا يعلم إلا سمعا، فلو لم يصطنعه للرسالة لبقي في عهدة الواجب فهذا أمر فعله الله لأجل نفسه حتى يخرج عن عهدة ما يجب عليه.
ولما عد عليه المنن السابقة بإزاء الأدعية المذكورة رتب على ذكر ذلك أمرا ونهيا.
أما الأمر فقوله اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ وفيه بيان ما لأجله اصطنعه وهو الإبلاغ وأداء الرسالة. بِآياتِي أي مع آياتي لأنهما لو ذهبا بدونها لم يلزمه الإيمان وهذا من أقوى الدلائل على فساد التقليد. وما هذه الآيات غير العصا واليد لأنه لم يجر إلا ذكرهما فأطلق الجمع على الاثنين، أو لأن كلا منهما مشتملة على آيات أخر، أو لأنه يستدل بكل منهما على وجود إله قادر على الكل عالم بالكل وعلى نبوة موسى وعلى جواز الحشر حيث
546
انقلب الجماد حيوانا والمظلم مستنيرا ومثله قوله فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ [آل عمران: ٩٧] وقيل: هما مع حل العقدة. وقيل: أراد اذهبا إني أمدكما بآياتي وأظهرها على أيديكما متى وقع الاحتياج إليها. وأما النهي فقوله وَلا تَنِيا بكسر النون مثل تعدا وقرىء تَنِيا بكسر حرف المضارعة أيضا للإتباع. والونى بفتحتين الضعف والفتور والكلال والإعياء، والمعنى لا تنسياني بل اتخذا ذكري وسيلة في تحصيل المقاصد واعتقدا أن أمرا من الأمور لا يتمشى لأحد إلا بذكري فإن المداومة على ذكر الله توجب عدم الخوف من غيره. وأن يستحقر في نظره ما سواه لقوة نفسه واستنارة باطنه. وقيل: أراد بالذكر تبليغ الرسالة فإن الذكر يقع على كل العبادات فضلا عن أعظمها فائدة وأتمها عائدة. وقيل: اذكرني عند فرعون وقومه بأني لا أرضى بالكفر وأعاقب عليه وأثيب على الإيمان وأرتضيه، وبالجملة كل ما يتعلق بالترهيب والترغيب. ما الفائدة في تكرير قوله اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ؟ والجواب بعد التقرير والتأكيد أمرهما أن يشتغلا بأداء الرسالة معا لا أن ينفرد به موسى، أو الأول أمر بالذهاب إلى كل بني إسرائيل والقبط، والثاني مخصوص بفرعون الطاغي. ثم إنه خوطب كلاهما وموسى حاضر فقط لأنه أصل، أو هو كقوله وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً [البقرة: ٧٢] والقاتل واحد منهم. ويحتمل أن هارون قد حضر وقتئذ
فقد روى أن الله عز وجلّ أوحى إلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى.
وقيل: ألهم بذلك.
وقيل: سمع بخبره فتلقاه.
سؤال: لم أمرا بتليين القول للعدوّ المعاند؟ جوابه لأن من عادة الجبابرة إذا أغلظ لهم في الكلام أن يزدادوا عتوا وعلوا. وقيل: لما له من حق تربية موسى شبه حق الأبوة.
وكيف ذلك القول اللين؟ الأصح أنه نحو قوله تعالى هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى [النازعات: ١٨، ١٩] لأن ظاهره الاستفهام والمشهورة وعرض ما فيه صلاح الدارين. وقيل: أراد عداه شبابا لا يهرم بعده، وملكا لا ينزع منه إلا بالموت، وأن يبقى له لذة المطعم والمشرب والمنكح إلى حين موته. حكى عمرو بن دينار قال: بلغني أن فرعون عمر أربعمائة وتسعا وستين سنة. فقال له موسى: إن أطعتني فلك مثل ما عمرت فإذا مت فلك الجنة. وقيل: أراد كنياه وهو من ذوي الكنى الثلاث: أبو العباس وأبو الوليد وأبو مرة. ويحتمل أن يكون أمر بالقول اللين لأنه كان في موسى حدة وخشونة.
بحيث إذا غضب اشتعلت قلنسوته نارا فعالج حدته باللين ليكون حليما في أداء الرسالة.
ومعنى الترجي في لَعَلَّهُ يعود إلى موسى وأخيه أي اذهبا على رجائكما وباشرا الأمر مباشرة من يرجو أن يثمر سعيه فعساه يتذكر بأن يرجع من الإنكار إلى الحق رجوعا كليا
547
إذا تأمل فأنصف أَوْ يَخْشى فيقل: إنكاره وإصراره. قالت المعتزلة: جدوى إرسالهما إليه مع العلم بأنه لن يؤمن قطع المعذّرة وإلزامه الحجة. وقالت الأشاعرة: العقول قاصرة عن معرفة سر القدر ولا سبيل إلا التسليم وترك الاعتراض والسكوت بالقلب واللسان.
قالوا: إنه كمن يدفع سكينا إلى من علم قطعا أنه يمزق بطن نفسه ثم يقول: إني ما أردت بدفع السكين إليه إلا الإحسان. ويروى عن كعب أنه قال: والذي يحلف به كعب إنه مكتوب في التوراة «فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً وسأفسي قلبه فلا يؤمن» قالا رَبَّنا فيه دليل على أن هارون أيضا كان حاضرا وقتئذ كما روينا. وسئل أن انشرح صدره وتيسر أمره فكيف قالا إِنَّنا نَخافُ فإن حصول الخوف ينافي شرح الصدر؟ وأجيب بأن المراد من شرح الصدر ضبط الأوامر والنواهي وحفظ الشرائع والأحكام بحيث لا يتطرق إليها خلل وتحريف، وهذا شيء آخر مغاير لزوال الخوف. قلت: لعلهما خافا أن لا يتمكنا من أداء الرسالة بدليل قوله أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أي يسبق رسالتنا ويبادرنا بالعقوبة أَوْ أَنْ يَطْغى أي يجاوز الحد بأن يقول فيك ما لا ينبغي أو يجاوز حد الاعتدال في معاقبتنا إن لم يعاجل بنا فلا نتمكن من إقامة وظائف الأداء. وأيضا الدليل النقلي السمعي إذا انضاف إلى الدليل العقلي زاده إيقانا وطمأنينة ولهذا قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أي بالنصرة والتأييد أَسْمَعُ وَأَرى ما يجري بينكما وبينه من قول وفعل فأفعل بكما ما يوجب عنايتي وحراستي، فلا يذهب وهمكما إلى أن مواد كرامتي انقطعت عنكما إذا فارقتما مقام المكالمة فصار هذا الوهم سبب خوفكما. ويجوز أن يكون الفعلان متروكي المفعول كأنه قيل: أنا سامع مبصر وإذا كان الحافظ والناصر كذلك تم الحفظ وكملت النصرة. قال بعض الأصوليين: في الآية دلالة على أن الأمر لا يقتضي الفور وإلا كان تعللهما بالخوف معصية وإنها غير جائزة على الرسل في الأصح. وقال بعض المتكلمين: فيها دليل على أن السمع والبصر صفتان زائدتان عن العلم والإلزام التكرار فإن معيته هي بالعلم. ولقائل أن يقول: الخاص يغاير العام ولكن لا يباينه.
ثم كرر الأمر قائلا: فَأْتِياهُ فَقُولا فسئل إنهما أمرا بأن يقولا له قولا لينا فكيف غلظاه أوّلا بقوله إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ ففيه إيجاب انقياده لهما وإكراهه على طاعتهما وهذا مما يعظم على الجبار. وثانيا بقوله فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وفيه إدخال النقص في ملكه لأنه كان يستخدمهم في الأعمال الشاقة. وثالثا بقوله وَلا تُعَذِّبْهُمْ وفيه منعه عما يريده بهم؟ وأجيب بأن هذا القدر من التغليظ ضروري في أداء الرسالة. قيل: أليس الأولى أن يقولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ
548
فيكون ذكر المعجز مقرونا بادعاء الرسالة. والجواب أن قوله فَأَرْسِلْ من تتمة الدعوى، وإنما وحد قوله بِآيَةٍ ومعه آيتان بل آيات لقوله اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي لأنه أراد الجنس كأنه قيل: قد جئناك ببيان من عند الله وبرهان. قال في الكشاف: قلت: وفيه أيضا نوع من الأدب كما لو قلت: أنا رجل قد حصلت شيئا من العلم ولعل عندك علوما جمة على أن تخصيص عدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد عليه. وأيضا الأصل في معجزات موسى كان هي العصا ولهذا وقعت في معرض المعارضة كما أن الأصل في معجزات نبينا ﷺ كان هو القرآن فوقع لذلك في حيز التحدي وَالسَّلامُ أي جنس السلامة أو سلام خزنة الجنة عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى يحتمل أن يكون هذا أيضا مما أمر بأن يقولاه لفرعون، ويحتمل أن تكون الرسالة قد تمت عند قوله بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ ويكون هذا وعدا بالسلامة من عقوبات الدارين لمن آمن وصدق. قالت الأشاعرة: في قوله أَنَّ الْعَذابَ أي جنسه أو كل فرد منه عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى دليل على أنه لا يعاقب أحدا من المؤمنين ترك العمل به في بعض الأوقات، فوجب أن يبقى على أصله في نفي الدوام على أن العقاب المتناهي لا نسبة له إلى النعيم المقيم الذي لا نهاية له فكأنه لم يعاقب أصلا. وأيضا العارف بالله قد اتبع الهدى فوجب أن يكون من أهل السلامة قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى خاطب الاثنين ووجه النداء إلى موسى لأنه الأصل في ادعاء الرسالة وهارون وزيره، ويجوز أنه خص موسى عليه السلام بالنداء لما عرف من فصاحة هارون والرتة التي كانت في لسان موسى. فأراد أن يعجز عن الجواب. قال أهل الأدب: إن فرعون كان شديد البطش جبارا ومع ذلك لم يبدأ بالسفاهة والشغب بل شرع في المناظرة وطلب الحجة، فدل على أن الشغب من غير حجة شيء ما كان يرتضيه فرعون مع كمال جهله وكفره فكيف يليق ذلك بمن يدعي الإسلام والعلم؟! وفي اشتغال موسى بإقامة الدلالة على المطلوب دليل على فساد التقليد وفساد قول القائل بأن معرفة الله تستفاد من قول الرسول، وفيه جواز حكاية كلام المبطل مقرونا بالجواب لئلا يبقى الشك. وفيه أن المحق يجب عليه استماع شبهة المبطل حتى يمكنه الاشتغال بحلها. واعلم أن العلماء اختلفوا في كفر فرعون فقيل: كان عارفا بالله إلا أنه كان معاندا بدليل قوله لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الاسراء: ١٠٢] وقوله وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النمل: ١٤] وقوله في سورة القصص وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ [الآية: ٣٩] وليس فيه إلا إنكار المعاد دون إنكار المبدأ. وقوله في الشعراء وَما رَبُّ الْعالَمِينَ إلى قوله إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشعراء: ٢٧]
549
يعني أنا أطلب منه الماهية وهو يشرح الوجود فدل على أنه اعترف بأصل الوجود.
وأيضا إن ملك فرعون لم يتجاوز القبط ولم يبلغ الشام لأن موسى لما هرب إلى مدين قال له شعيب لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص: ٢٥] فكيف يعتقد مثل هذا الشخص إنه إله العالم بل كل عاقل مكلف يعلم بالضرورة أنه وجد بعد العدم فلا يكون واجب الوجود. وأيضا إنه سأل هاهنا بمن طالبا للكيفية، وفي «الشعراء» بما طالبا للماهية فكأن موسى لما أقام الدلالة على الوجود ترك المناظرة والمنازعة معه في هذا المقام لظهوره وشرع في مقام أصعب لأن العلم بماهية الله تعالى غير حاصل للبشر. وأيضا إنه قال في الجواب رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ وصلة الذي لا بد أن تكون جملة معلومة الانتساب. ومن الناس من قال: إنه كان جاهلا بالله بعد اتفاقهم على أن العاقل لا يجوز أن يعتقد في نفسه أنه خالق السموات والأرض وما فيهما. فمنهم من قال: إنه كان دهريا نافيا للمؤثر أصلا. ومنهم من قال: إنه فلسفي قائل بالعلة الموجبة أو هو من عبدة الكواكب، أو من الحلولية والمجسمة. وأم ادعاء الالهية والربوبية فبمعنى أنه يجب عليهم طاعته والانقياد لحكمه. قال بعض العلماء: إنما قال فَمَنْ رَبُّكُما [طه: ٤٩] ولم يقل «فمن إلهكما» تعريضا بأنه رب موسى كما قال أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً [الشعراء: ١٨] قلت: يحتمل أن يكون تخصيص موسى بالنداء تنبيها على هذا المعنى. ولم يعلم الكافر أن الربوبية التي أدعاها موسى لله في قوله إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ غير هذه في الحقيقة ولا مشاركة بينهما إلا في اللفظ، وهذا كما عارض نمرود إبراهيم صلوات الرحمن عليه في قوله أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة: ٢٥٨] ولم يعلم أن إحياءه وإماتته ليسا من الإحياء والإماتة في شيء ثم شرع موسى، في الدلالة على إثبات الصانع بأحوال المخلوقات، وفيه دلالة على أن موسى كان أصلا في النبوة وأن هارون راعى الأدب فلم يشتغل بالجواب قبله لأن الأصل في النبوة هو موسى، ولأن فرعون خصص موسى بالنداء. من قرأ خلقه بسكون اللام فإما بمعنى الخليقة أي أعطى الخلائق ما به قوامهم من المطعوم والمشروب والملبوس والمنكوح، ثم هداهم إلى كيفية الانتفاع بها فيستخرجون الحديد من الجبال واللآلئ من البحار ويركبون الأغذية والأدوية والأسلحة والأمتعة ونظير هذا الكلام قوله الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى [الأعلى: ٢، ٣] وقوله حكاية عن إبراهيم الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشعراء: ٧٨] وإما أن يكون الخلق بمعنى الصورة والشكل أي أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به فأعطى العين هيئتها التي تطابق الإبصار، والأذن
550
ما يوافق الاستماع، والأنف للشم، واليد للبطش، بل أعطى رجل الآدمي شكلا يوافق سعيه، ورجل الحيوانات الأخر شكلا يطابق مشيها، بل أعطى ذوات القرون رجلا توافق حاجتهن، وكذا الخف والحافر وذوات المخالب. وقيل: أراد وأعطى كل حيوان نظيره في الخلق والصورة فجعل الحصان والحجر زوجين، وكذا البعير والناقة والرجل والمرأة. ومن قرأ خلقه بفتح اللام صفة للمضاف أو المضاف إليه والمفعول الثاني متروك أي كل شيء خلقه الله لم يخله من عطائه وإنعامه.
واعلم أن عجائب حكمة الله تعالى في مخلوقاته بحر لا ساحل له، وقد دون العلماء طرفا منها في كتب التشريح وخواص الأحجار والنبات والحيوان، ولنذكر هاهنا واحدا منها هي أن الطبيعي يقول: الثقيل هابط والخفيف صاعد، فالماء لذلك فوق الأرض والهواء فوق الماء والنار فوق الكل. ثم إنه سبحانه جعل العظم والشعر أصلب الأعضاء على طبيعة الأرض وجعل مكانهما فوق البدن. وجعل تحته الدماغ الذي هو بمنزلة الماء وجعل تحته النفس الذي هو الهواء، وجعل تحته الحرارة الغريزية في القلب كالنار ليكون دليلا على وجود الفاعل المختار خلاف ما يقوله الدهري والطبيعي وسائر الكفار. وأيضا اختصاص كل جسم بقوة وتركيب وهداية إما أن يكون واجبا أو جائزا، والأول محال وإلا لم يقع فيها تغير. والثاني يستدعي مرجحا فإن كان ذلك المرجح واجب الوجود لذاته فهو المطلوب، وإن كان جائز الوجود افتقر في اتصافه بالوجود إلى موجد، ولا بد من الانتهاء إلى موجد يجب وجوده لذاته. ثم إنه يستغني عن سمات النقص وشوائب الافتقار وليس إلا الله الواحد القهار.
قال أهل النظم: إن موسى عليه السلام لما قرر عليه أمر المبدأ قالَ فرعون إن كان وجود الواجب في هذا الحد من الظهور فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى لم يؤمنوا وجحدوا فعارض الحجة بالتقليد والبال الحال؟ أو أنه لما هدده بالعذاب في قوله أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى قال فما بالهم كذبوا فما عذبوا؟ فأجاب بأن هذا مما استأثر الله بعلمه وما أنا إلا عبد مثلك لا أعلم منه إلا ما يخبرني به علام الغيوب. أو أنه سأله عن أحوال القرون الخالية وعن شقاء من شقي منهم وسعادة من سعد ليصرف موسى عن المقصود ويشغله بالحكايات خوفا من أن يميل قلوب ملته إلى حجته الباهرة ودلائله الظاهرة، فلم يلتفت موسى إلى حديثه بل قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي ولا يتعلق غرضي بأحوالهم. ويجوز أن يكون الكلام قد انجر ضمنا أو صريحا إلى إحاطة الله سبحانه بكل شيء فنازعه الكافر قائلا: ما بال سوالف القرون في تمادي كثرتهم وتباعد أطرافهم كيف أحاط بهم وبأجزائهم
551
وجواهرهم؟ فأجاب بأن كل كائن محيط به علمه ولا يجوز عليه الخطأ والنسيان كما يجوز عليك أيها العبد الذليل والبشر الضئيل. وقوله عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي مع قوله فِي كِتابٍ لا يتنافيان، بل المراد أنه تعالى عالم بجميع المغيبات مطلع على الكليات والجزئيات من أحوال الموجودات والمعدومات، ومع ذلك فإن جميع الأحوال ثابتة في اللوح المحفوظ ثم كان لقائل أن يقول: لعلها أثبتت في اللوح لاحتمال الخطأ والنسيان فتدارك ذلك بقوله لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى قال مجاهد: هما واحد المراد أنه لا يذهب عنه شيء ولا يخفى عليه. والأكثرون على الفرق فقال القفال: الأول إشارة إلى كونه عالما بالكل، والثاني إشارة إلى بقاء ذلك العلم أي لا يضل عن معرفة الأشياء، وما علم من ذلك لا ينساه ولا يتغير علمه، يقال: ضللت الشيء إذا أخطأته في مكانه فلم تهتد له. وقال مقاتل: لا يخطىء ذلك الكتاب ربي ولا ينسى ما فيه. وقال الحسن: لا يخطىء وقت البعث ولا ينساه.
وقال أبو عمر: ولا يغيب عنه شيء ولا يغرب عنه شيء. وقال ابن جرير: لا يخطىء في التدبير فيعتقد غير الصواب صوابا وإذا عرفه لا ينساه والوجوه متقاربة. والتحقيق ما قاله القفال. وعن ابن عباس: لا يترك من كفر به حتى ينتقم منه ولا يترك من وحده حتى يجازيه.
ولما ذكر الدليل العام المتناول لجميع المخلوقات السماويات والأرضيات من الإنسان وسائر الحيوانات وأنواع النباتات والجمادات ذكر الدلائل الخاصة فقال: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً أي كالمهد وهو ما يمهد للصبي. قال أبو عبيدة: الذي أختاره مهاد لأنه اسم لما يمهد والمهد مصدر. وقال غيره: المهد اسم والمهاد جمع. وقال المفضل: هما مصدران وَسَلَكَ أي حصل لَكُمْ فِيها سُبُلًا ووسطها بين الجبال والأودية والبراري. يقال: سلكت الشيء في الشيء سلكا بالفتح أي أدخلته فيه فَأَخْرَجْنا بِهِ أي بواسطة إنزال الماء. ومن المتكلمين الأقدمين من أنكر تأثير الوسائط رأسا وأَزْواجاً أي أصنافا فأسميت بذلك لأنها مزدوجة مقترن بعضها ببعض. وشَتَّى صفة للأزواج جمع شتيت كمريض ومرضى، أو صفة للنبات لا مصدر سمي به النابت كما سمي بالنبت فاستوى فيه الواحد والجمع يعني أنها مختلفة النفع والطبع والطعم واللون والرائحة والشكل. ثم هاهنا إضمار والتقدير وقلنا أو قائلين كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ وذلك أن بعضها يصلح للناس وبعضها يصلح للبهائم، وإباحة الأكل تتضمن إباحة سائر وجوه الانتفاع كقوله: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ [البقرة: ١٨٨] ومن نعم الله تعالى أن أرزاق العباد إنما تتحصل بعمل الأنعام وقد جعل الله علفها مما يفضل عن حاجتهم ولا يقدرون على أكله. قال الجوهري: النهية بالضم واحدة النهى وهي العقول لأنها تنهى عن القبيح.
وجوز أبو علي الفارسي أن يكون مصدرا كالهدى وخص أرباب العقول بذلك لأنهم هم
552
المنتفعون بالنظر فيها والاستدلال بها على وجود صانعها. مِنْها خَلَقْناكُمْ لأن آدم مخلوق من الأرض. أو لأن بني آدم خلقوا من النطفة ودم الطمث المتولدين من الأغذية المنتهية إلى العناصر الغالبة عليها الأرضية، أو لما ورد في الخبر أن الملك يأخذ من تربة المكان الذي يدفن فيه الآدمي فيذرّها على النطفة. وَفِيها نُعِيدُكُمْ لأن الجسد يصير ترابا فيختلط بالأرض إلا من رفعه الله إلى السماء، وهو أيضا يحتمل أن يعاد إليها بعد ذلك. وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى بالحشر والبعث، أو بأن نخرجكم ترابا وطينا ثم نحييكم بعد الإخراج، أو المراد الإحياء في القبر. وهاهنا بحث وهو أن يكون قوله:
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ إلى هاهنا من تتمة كلام موسى، أو هو ابتداء كلام من الله تعالى. وعلى الأول يمكن أن يوجه قوله: فَأَخْرَجْنا بأن المراد فأخرجنا نحن معاشر عباده بذلك الماء بالحراثة والزرع أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى إلا أن قوله: كُلُوا وَارْعَوْا إلى قوله: وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ لا يطابقه. وإن قيل: إن كلام موسى يتم عند قوله:
وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لم يصلح قوله: فَأَخْرَجْنا ابتداء كلام من الله لمكان فاء التعقيب، فالصواب أن يتم كلام موسى عند قوله: وَلا يَنْسى. ثم إنه تعالى ابتدأ فقال:
الَّذِي أي هو الذي جعل إلى آخره، وعلى هذا يكون قوله: فَأَخْرَجْنا من قبيل الالتفات؟؟؟ للكلام وإيذانا بأنه مطاع تنقاد الأشياء المختلفة لأمره تخصيصا بأن مثل هذا لا يدخل تحت قدرة أحد سواه. والحاصل أنه تعالى عدد عليهم ما علق بالأرض من المنافع حيث جعلها لهم فراشا يتقلبون عليها عند الإقامة، وسوّى لهم فيها مسالك يتقلبون بها في أسفارهم، وأنبت فيها أصناف النبات متاعا لهم ولأنعامهم. ثم إن الأرض لهم كالأم التي منها أنشئوا وهي التي تجمعهم وتضمهم إذا ماتوا. ثم يخرجون من الأجداث خروج الأجنة من الأرحام، ومن ثم
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تمسحوا بالأرض»
أي ارقدوا واسجدوا عليها من غير حائل، أو تيمموا بها فإنها بكم برة أي إنها لكم كالأم. ومنها خلقناكم وفيها معايشكم وهي بعد الموت كفاتكم.
قوله عز وعلا: وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا أي عرفناه صحتها. ثم إن كان التعريف يستلزم حصول المعرفة فيكون كفره كفر جحود وعناد كقوله: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ [النمل: ١٤] وإلا كان كفر جهالة وضلالة. سؤال الجمع المضاف يفيد العموم ولا سيما إذا أكد بالكل، لكنه تعالى ما أراه جميع الآيات لأن من جملتها ما أظهرها على الأنبياء الأقدمين ولم يتفق لموسى مثلها. الجواب هذا التعريف الإضافي محذوّ به حذو التعريف العهدي لو قيل الآيات كلها وهي التي ذكرت في قوله: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ
553
بَيِّناتٍ [الإسراء: ١٠١] ولو سلم العموم فالمراد أنه أراه الآيات الدالة على التوحيد في قوله: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ وعلى النبوة بإظهار المعجزات القاهرة وعلى المعاد لأن تسليم القدرة على الإنشاء يستلزم تسليم القدرة على الإعادة بالطريق الأولى، أو أراد أنه أراه آياته المختصة به وعدد عليه سائر آيات الأنبياء وإخبار النبي الصادق جار مجرى العيان، أو إراءة بعض الآيات كإراءة الكل كما أن تكذيب بعض الآيات يستلزم تكذيب الكل كما قال: فَكَذَّبَ أي الآيات كلها وَأَبى قول الحق. قال القاضي: الإباء الامتناع وإنه لا يوصف به إلا من يتمكن من الفعل والترك وإلا لم يتوجه الذم. وجواب الأشاعرة أنه لا يسأل عما يفعل ثم إن فرعون خاف أن تميل قلوب ملته إلى قول موسى فذكر ما يوجب نفار القوم عنه مع القدح في نبوته لادعاء إمكان معارضته قائلا أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا فإن الإخراج من الديار قرينة القتل بدليل قوله: أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ [النساء: ٦٦] ثم طالب للمعارضة موعدا فإن جعلته زمان الوعد بدليل قوله:
مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ بالرفع كان الضمير في لا نُخْلِفُهُ عائدا إلى الوعد المعلوم من الموعد أو إلى زمان الوعد مجازا. وانتصب مَكاناً على أنه ظرف للوعد المقدر، وإن جعلته مكان الوعد ليكون قوله: مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ مطابقا له معنى، لأنه لا؟؟؟ من أن يجتمعوا يوم الزينة في مكان مشتهر عندهم وكأنه قيل: موعدكم مكان الاجتماع في يوم الزينة.
وإن جعلته مصدرا ليصح وصفه بعدم الإخلاف من غير ارتكاب إضمار، أو؟؟؟ انتصب مَكاناً على أنه ظرف.
ثم من قرأ يَوْمُ الزِّينَةِ بالنصب فظاهر أي وعدكم أو انجاز وعدكم في يوم الزينة، أو وقت وعدكم في يوم الزينة. وفي يوم يُحْشَرَ النَّاسُ هو ضحى؟؟؟ ذلك اليوم. ومن قرأ بالرفع فيقدر مضاف محذوف أي وعدكم وعد يوم الزينة. و؟؟؟ سُوىً بالكسر والضم عدلا ووسطا بين الفريقين وهو معنى قول مجاهد. فوصف المكان بالاستواء باعتبار المسافة. وقال ابن زيد: أي مستويا لا يحجب شيئا بارتفاعه وانخفاضه ليسهل على كل الحاضرين ما يجري بين الفريقين. وقال الكلبي: مَكاناً سُوىً هذا المكان الذي نحن فيه الآن. قال القاضي: الأظهر أن قوله: مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ من قول فرعون لأنه الطالب للاجتماع. وقال الإمام فخر الدين الرازي: الأقرب أنه من كلام موسى ليكون الكلام مبنيا على السؤال والجواب، ولأن تعيين يوم الزينة يقتضي إطلاع الكل على ما سيقع وهذا إنما يليق بالمحق الواثق بالغلبة لا بالمبطل المزور، على أن
554
موعدكم خطاب الجمع وليس هناك إلا موسى وهارون، فإما أن يرتكب أن أقل الجمع اثنان وهو مذهب مرجوح، وإما أن يقال الجمع للتعظيم ولم يكن فرعون ليعظمهما، ويوم الزينة يوم عيد لهم يتزينون فيه. وعن مقاتل يوم النيروز، وعن سعيد بن جبير يوم سوق لهم.
وعن ابن عباس: هو يوم عاشوراء. وإنما قال: وَأَنْ يُحْشَرَ من غير تسمية الفاعل لأنهم يجتمعون ذلك اليوم بأنفسهم من غير حاشر لهم. ومحل أَنْ يُحْشَرَ رفع أو جر عطفا على اليوم أو الزينة عين اليوم. ثم الساعة وهي ضُحًى ذلك اليوم. وإنما واعدهم ذلك اليوم ليكون علو كلمة الله وزهوق الباطل على رؤوس الأشهاد ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حيى عن بينة، وليشيع أمره العجيب في الأقطار والأعصار والأطراف والأكناف، ففي ذلك تقوية دين الحق وتكثير راغبيه وقلة شوكة المخالف وتوهين عزائمهم فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ انصرف إلى مقام تهيئة الأسباب المعارضة فإن صاحب السحر يحتاج في تدبير السحر إلى طول الزمان ولهذا طلب الموعد وقال مقاتل: أعرض وثبت على إعراضه عن الحق فَجَمَعَ كَيْدَهُ أي أسباب الكيد وأدوات الحيلة والتمويه من مهرة السحر وغير ذلك ثُمَّ أَتى الموعد. عن ابن عباس: كانوا اثنين وسبعين ساحرا مع كل واحد منهم حبل وعصا. وقيل: أربعمائة. وقيل: أكثر من ذلك فضرب لفرعون قبة طولها سبعون ذراعا فجلس فيها ينظر إليهم فبين الله تعالى أن موسى قدم قبل كل شيء الوعيد والتحذير على عادة الصالحين من أهل النصح والإشفاق، ولا سيما الأنبياء المبعوثين رحمة للأمم وَيْلَكُمْ نصب على المصدر الذي لا فعل له أو على النداء لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن تدعوا آياته ومعجزاته سحرا فَيُسْحِتَكُمْ السحت لغة أهل الحجاز والإسحات لغة أهل نجد وبني تميم، ومعناه الاستئصال. حذرهم أمرين: أحدهما عذاب الدارين والتنوين للتعظيم، والآخر الخيبة والحرمان عن المقصود فإن التمويه لا بقاء له فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كقوله في الكهف: إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ [الكهف: ٢١] أي وقع التنازع بينهم وَأَسَرُّوا النَّجْوى الضمير لفرعون وقومه. وقيل: للسحرة ويؤيده ما روي عن ابن عباس أن نجواهم إن غلبنا موسى اتبعناه. وعن قتادة: إن كان ساحرا فسنغلبه، وإن كان من السماء فله أمر. وعن وهب: لما قال وَيْلَكُمْ الآية قالوا: ما هذا بقول ساحر.
والأكثرون على الأول وذلك أنهم تفاوضوا وتشاوروا حتى استقروا على شيء واحد وهو أنهم.
قالوا إن هذان ساحران إلى آخر الآية: لا إشكال في قراءة أبي عمرو وكذا في قراءة ابن كثير وحفص، لأنه كقولك «إن زيدا لمنطلق» واللام فارقة بين المخففة والنافية.
555
وأما من قرأ «إن» بالتشديد وهذانِ بالألف فأورد عليه أن «إن» لم يعمل في المثنى.
وأجيب بأنه على لغة الحرث بن كعب وخثعم وبعض بني عذرة، ونسبها الزجاج إلى كنانة، وابن جني إلى بعض بني ربيعة، جعلوا التثنية كعصا وسعدى مما آخره ألف فلم يقلبوها ياء في الجر والنصب. وقيل: «إن» بمعنى «نعم» واعترض أن ما بعده حينئذ يصير كقوله:
أم الحليس لعجوز شهربة ولا يجوز مثله إلا في ضرورة الشعر. وإنما موضع لام الابتداء في السعة هو المبتدأ. والجواب أن القرآن حجة على غيره، وذكر الزجاج في جوابه أن التقدير لهما ساحران فاللام داخلة على صدر الجملة الصغرى. قال: وقد عرضت هذا القول على محمد بن يزيد وعلي وإسماعيل بن إسحق فارتضاه كل منهم وذكروا أنه أجود ما سمعنا في هذا الباب، وضعفه ابن جنى بأن المبتدأ إنما يجوز حذفه لو كان أمرا معلوما جليا وإلا كان تكليفا بعلم الغيب للمخاطب، وإذا كان معروفا فقد استغنى بمعرفته عن تأكيده باللام. وأيضا إن الحذف من باب الاختصار والتأكيد من باب الإطناب، فالجمع بينهما محال مع أن ذكر المؤكد وحذف التأكيد أحسن في العقول من العكس. وأيضا امتنع البصريون من جعل النفس في قولك: «زيد ضرب نفسه» تأكيدا للمستكن فدل ذلك على أن تأكيد المنوي غير جائز. وأيضا لو كان ما ذهب إليه الزجاج جائزا لحمل النحويون قول الشاعر على ذلك ولم يحملوه على الاضطرار، ولمن تبصر قول الزجاج أن يجيب عن الأول بأن التأكيد إنما هو لنسبة الخبر إلى المبتدأ لا للمبتدأ وحده، ولو سلم فذكر اللام يدل على المبتدأ المنوي وذكر المبتدأ لا يدل على التأكيد فكان حذف المبتدأ أولى. وعن الثاني بأن الكلام قد يكون موجزا من وجه مطنبا من وجه آخر فلا منافاة، وإنما المنافاة إذا كانت الجهتان واحدة. وعن الثالث بأنهم امتنعوا من حمل النفس على التأكيد في المثال المذكور لأنهم رأوا أن إسناد الفعل إلى المظهر أولى من إسناده إلى المضمر، لا لأن تأكيد المنوي ممتنع على أنا بينا أن المؤكد ليس بمحذوف في الآية مطلقا فإن أحد طرفي الكلام مذكور. وعن الرابع بأن ذهول المتقدمين عن هذا الوجه لا يقتضي كونه باطلا فكم ترك الأول للآخر.
ولنرجع إلى التفسير قال الفراء: الطريقة اسم لوجوه الناس وأشرافهم الذين هم قدوة لغيرهم. ويقال: هم طريقة قومهم وهو طريقة قومه، قبح أمر موسى في أعين الحاضرين
556
ونفرهم عنه بأنه ساحر، والطباع نفور عن السحر وبأنه يقصد إخراجكم من دياركم- وهذا أيضا مما يبغض القاصد إليهم- وبأنه يريد أن يذهب بأشراف قومكم وأكابركم قالوا وهم بنو إسرائيل لقول موسى أرسل معنا بني إسرائيل وجعلها الزجاج من باب حذف المضاف أي بأهل طريقتكم المثلى وسموا مذهبهم الطريقة المثلى والسنة الفضلى لأن كل حزب بما لديهم فرحون. والمثلى تأنيث الأمثل أي الأشبه بالحق، ومنهم من فسر الطريقة هاهنا بالجاه والمنصب والرياسة وكان الأمر على ما يقال به. من قرأ فَأَجْمِعُوا من الجمع فظاهر، ومن قرأ من الإجماع فمعناه اجعلوا كيدكم مجمعا عليه حتى لا تختلفوا نظيره ما مر في سورة يونس فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ [الآية: ٧١] سماه كيدا لأنه علم أن السحر لا أصل له. وقال الزجاج: معناه ليكن عزمكم كلكم كالكيد مجمعا عليه. ثم أمرهم بأن يأتوا صفا أي مصطفين مجتمعين ليكون أهيب في الصدور وأوقع في النفوس.
وعن أبي عبيدة أنه فسر الصف بالمصلى أي مصلى من المصليات أو هو علم لمصلى بعينه لأن الناس يصطفون فيه لعيدهم وصلواتهم. وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى أي فاز من غلب وهو اعتراض. واعلم أن قصة السحرة أكثرها يشبه ما مر في «الأعراف» وقد فسرناها هنالك فنحن الآن نقتصر ونذكر ما هو المختص بهذه السورة. إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ أي اختر أحد الأمرين إلقاءك أو إلقاءنا فَإِذا حِبالُهُمْ هي «إذا» المفاجأة وأصلها الوقت أي فاجأ موسى وقت تخييل سعي حبالهم وعصيهم. قال وهب: سحروا أعين موسى عليه السلام حتى تخيل ذلك. وقيل: أراد أنه شاهد شيئا لولا علمه بأنه لا حقيقة لذلك الشيء لظن فيها أنها تسعى فيكون تمثيلا فَأَوْجَسَ أضمر فِي نَفْسِهِ خِيفَةً هو مفعول فَأَوْجَسَ ومُوسى فاعله أخر للفاصلة. وذلك الخوف إما من جبلة البشرية حين ذهل عن الدليل وهو قول الحسن، وإما لأنه خاف أن يخالج الناس شك فلا يتبعوه قاله مقاتل، أو خاف أن يتأخر نزول الوحي عليه في ذلك الوقت، أو خاف أن يتفرق بعض القوم قبل أن يشاهدوا غلبته، أو خاف تمادي الأمر عليه وتكرره فأزال الله تعالى خوفه مجملا بقوله إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى وفيه من أنواع التأكيد ما لا يخفى وهي الاستئناف والتصدير بأن، والتوسيط بالفصل، وكون الخبر معرفا ولفظ العلو ومعناه الغلبة وصورة التفضيل ولا فضل لهم ومفصلا بقوله وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ لم يقل عصاك لما علم في الأعراف ولما في هذه السورة وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ وقال جار الله: هو تصغير لشأن العصا وتهوين لأمر السحرة أي ألق العويد الفرد الصغير الجرم الذي في يمينك فإنه بقدرة الله يبتلع ما صَنَعُوا أي زوّروا وافتعلوا على وحدته وكثرتها وصغره وعظمها، أو هو تعظيم لشأنها أي لا تحفل بهذه الأجرام الكبيرة الكثيرة لأن في يمينك شيئا أعظم شأنا من كلها إِنَّما صَنَعُوا إن
557
الذي افتعلوه كيد سحر أي ذي سحر، أو ذوي سحر، أو هم في توغلهم في سحرهم كأنهم السحر بعينه، أو الإضافة للبيان أي كيد هو سحر كقولك «علم فقه» وإنما وجد ساحر فيمن قرأ على الوصف ليعلم أن المقصود هو الجنس كما قال.
وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ أي هذا الجنس ولو جمع لأوهم أن المراد هو العدد وإنما نكر أولا لأن المراد تنكير الكيد كأنه قال: هذا الذي أتوا به قسم واحد من أقسام السحر أو من أفعال السحرة وجميع أقسام السحر، وأفراد السحرة لا فلاح فيها ومن نظائره «إني لأكره أن أرى أحدكم سبهللا لا في أمر دنيا ولا في أمر آخرة». ومعنى سبهللا أنه يجيء ويذهب في غير شيء. ومعنى حَيْثُ أَتى أينما كان وأية سلك فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قال جار الله: سبحان الله ما أعجب أمرهم قد ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود، ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة للشكر في السجود، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين!. وروي أنهم لم يرفعوا رءوسهم حتى رأوا الجنة والنار أو أثواب أهلها، وعن عكرمة: لما خروا سجدا أراهم الله في سجودهم منازلهم التي يصيرون إليها في الجنة. واستبعده القاضي لأنه كالإلجاء إلى الإيمان وأنه ينافي التكليف. وقلت: إذا كان الإيمان مقدما على هذا الكشف فلا منافاة ولا إلجاء. ثم إن فرعون لعب لعب الحجل وأنكر عليهم إيمانهم وألقى شبهته في البين أنه كبيرهم أي أسحرهم وأعلاهم درجة في الصناعة، أو معلمهم وأستاذهم من قول أهل مكة للمعلم «أمرني كبيري» أي أستاذي في العلم أو غيره، وأوعدهم بقطع الأيدي والأرجل مِنْ خِلافٍ قال في الكشاف: «من» لابتداء الغاية لأن القطع مبتدأ وناشيء من مخالفة العضو والعضو لا من وفاته إياه. قلت: الأولى أن يقال الخلاف هاهنا بمعنى الجهة المخالفة حتى يصح معنى الابتداء أي لأقطعن أيديكم وأرجلكم مبتدأ من الجهتين المتخالفتين يمينا وشمالا، فيكون الجار والمجرور في موضع الحال أي لأقطعنها مختلفات الجهات. قيل فِي جُذُوعِ النَّخْلِ أي عليها والأصوب أن يقال: هي على أصلها شبه تمكن المصلوب في الجذع بتمكن المظروف في الظرف أَيُّنا أَشَدُّ أراد نفسه وموسى وفيه صلف باقتداره وقهره وما ألفه من تعذيب الناس واستخفاف بموسى مع الهزء به، لأن موسى لم يكن قط من التعذيب في شيء قاله في الكشاف. قلت: يحتمل أن يريد بقوله أَيُّنا الله تعالى ونفسه لنقدم ذكر رب هارون وموسى، وقد سبق عذاب الله في قوله أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى وفي قوله فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ ويؤيده قول السحرة في جوابه وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى لَنْ نُؤْثِرَكَ لن نختارك عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ المعجزات الظاهرات وَعلى الَّذِي فَطَرَنا أو الواو للقسم وعلى هذا يجوز أن يكون
558
على ما جاءنا بمعنى فيما جاءنا أي لن نميل إليك والحالة هذه. وعلى الوجه الأول ففحوى الكلام لن نترك طاعة خالقنا والتصديق بمعجزات نبيه لأجل هواك فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ بما شئت من العذاب إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا أي في مدة الحياة العاجلة. وقرىء تَقْضِي مبنيا للمفعول هذه الحياة بالرفع إجراء للظرف مجرى المفعول به اتساعا مثل صيم يوم الجمعة. والحاصل أن قضاءك وحكمك منحصر في مدة حياتنا الفانية، والإيمان وثمرته باق لا يزول، والعقل يقتضي تحمل الضرر الفاني للفوز بالسعادة الباقية وللخلاص من العقاب الأبدي وذلك قولهم إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا قال الحسن: سبحان الله قوم كفار ثبت في قلوبهم الإيمان طرفة عين فلم يتعاظم عندهم أن قالوا في ذات الله تعالى فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ والله إن أحدهم ليصحب القرآن ستين عاما ثم ليبيع دينه بثمن غبن.
ولما كان أقرب خطاياهم عهدا ما أظهروه من السحر قالوا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وفي هذا الإكراه وجوه: عن ابن عباس أن الفراعنة كانوا يكرهون فتيانهم على تعلم السحر ليوم الحاجة فكانوا من ذلك القبيل. وروي أنهم قالوا لفرعون: أرنا موسى نائما ففعل فوجده تحرسه عصاه، فقالوا: ما هذا بسحر الساحر لأن الساحر إذا نام بطل سحره فأبوا أن يعارضوه. وعن الحسن أنهم حشروا من المدائن مكرهين، وزعم عمر بن عبيد أن دعوة السلطان إكراه، وليس بقوي فلا إكراه إلا مع الخوف فحيثما وجد حكم بالإكراه وإلا فلا. وباقي الآيات ابتداء إخبار من الله أو هي من تتمة كلامهم فيه قولان، ولعل الأول أولى إِنَّهُ أي الشأن مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ أي حيث لا حكم إلا هو فيسقط استدلال المجسمة حال كون الآتي مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها موتة مريحة وَلا يَحْيى حياة ممتعة. قالت المعتزلة: صاحب الكبيرة مجرم وكل مجرم فإن له جهنم بالآية لعموم «من» الشرطية بدليل صحة الاستثناء فيحصل القطع بوعيد أصحاب الكبائر. أجابت الأشاعرة بأن المجرم كثيرا ما يجيء في القرآن بمعنى الكافر كقوله يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ إلى قوله وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ [المدثر: ٤٦] ولا ريب أن التكذيب بالبعث والجزاء كفر، وكقوله إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ [المطففين: ٢٩] إلى آخر السورة. فلم قلتم: إن المجرم هاهنا ليس بمعنى الكافر فتبطل المقدمة الأولى؟ سلمنا لكن المقدمة الثانية كليتها ممنوعة على الإطلاق وإنما هي كلية بشرط عدم العفو، وحينئذ لا يحصل القطع بالوعيد على الإطلاق. سلمنا المقدمتين والنتيجة لكنه معارض بعموم الوعد في قوله وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً فإن قيل:
559
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢ ﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫ ﭭﭮﭯﭰﭱ ﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀ ﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓ ﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝ ﮟﮠﮡﮢﮣﮤ ﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮ ﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙ ﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶ ﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ ﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩ ﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅ ﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍ ﮏﮐﮑﮒﮓ ﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧ ﮩﮪﮫﮬ ﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞ ﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾ ﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞ ﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧ ﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ ﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺ ﭼﭽﭾﭿﮀﮁ ﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎ ﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖ ﮘﮙﮚ ﮜﮝﮞﮟﮠﮡ ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰ ﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞ ﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ ﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵ ﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁ ﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣ
صاحب الكبيرة لم يأته مؤمنا عندنا. قلنا: يصدق عليه المؤمن لأن الإيمان صدر عنه في الزمان الماضي كالضارب على من قد ضرب أمس وليس بين الحال والزمان الماضي منافاة كلية ولهذا صح «جاءني زيد قد قام» بل صح قوله قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ وأنه حال آخر فكأنه قيل: ومن يأته قد آمن قد عمل. ولئن قيل: إن عقاب المعصية يحبط ثواب الطاعة.
قلنا: ممنوع بل العكس أولى لأن الدفع أسهل من الرفع وإقامة الحد على التائب في بعض الصور لأجل المحنة لا لأجل التنكيل. وقوله نَكالًا مِنَ اللَّهِ في حق من لم يتب بعد من السرقة سلمنا أن قوله وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً لا يعم صاحب الكبيرة إلا أن قوله فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى من الجنة لمن أتى بالإيمان والأعمال الصالحات أي الواجبات، لأن الزائد عليها غير محصور فسائر الدرجات التي غير عالية لا بد أن تكون لغيرهم وما هم إلا العصاة من أهل الإيمان. ثم عظم شأن المذكور بقوله وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى أي قال «لا إله لا إلا الله» قاله ابن عباس. وفيه دليل على أن قوله وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً يشمل صاحب الكبيرة، وقال آخرون تَزَكَّى أي تطهر من دنس الذنوب وعلى هذا يقع صاحب الكبيرة خارجا.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٧٧ الى ١١٤]
وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (٧٧) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (٧٩) يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (٨٠) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (٨١)
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (٨٢) وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (٨٣) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (٨٤) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦)
قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (٨٨) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (٨٩) وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (٩١)
قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤) قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (٩٥) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦)
قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (٩٧) إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (٩٨) كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (٩٩) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (١٠٠) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (١٠١)
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (١٠٢) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (١٠٣) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (١٠٤) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (١٠٥) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (١٠٦)
لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (١٠٧) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (١٠٨) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (١٠٩) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (١١٠) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (١١١)
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (١١٢) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (١١٣) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (١١٤)
560
القراآت:
لا تخف دركا بالجزم: حمزة الباقون لا تَخافُ بالرفع أنجيتكم وواعدتكم ورزقتكم على التوحيد: حمزة وعلي وخلف ووعدناكم من الوعد.
أبو عمرو وسهل ويعقوب فَيَحِلَّ وَمَنْ يَحْلِلْ بالضم فيهما: عليّ. الآخرون بالكسر بِمَلْكِنا بفتح الميم: أبو جعفر ونافع، وعاصم غير المفضل بضمها حمزة، وعلي وخلف بكسرها الباقون والمفضل حملنا بفتح الحاء والميم مخففة: أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف سوى حفص. الآخرون بضم الحاء وكسر الميم مشددة تتبعني بالياء الساكنة في الحالين: ابن كثير وسهل ويعقوب وأفق أبو عمرو ونافع غير إسماعيل في الوصل، وقرأ يزيد وإسماعيل بفتح الياء. الباقون بحذفها. ابْنَ أُمَ
بكسر الميم: ابن عامر وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص. لم تبصروا بتاء الخطاب:
حمزة وعلي وخلف الباقون على الغيبة فَنَبَذْتُها مدغما: أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف ويزيد وهشام وسهل لَنْ تُخْلَفَهُ بكسر اللام: ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب. الآخرون بفتحها لنحرقنه بفتح النون وضم الراء: يزيد. الآخرون من الحريق. فلا يخف بالجزم على النهي: ابن كثير أن نقضي بالنون مبنيا للفاعل وحيه بالنصب: يعقوب الباقون بالياء مضمومة وبفتح الضاد وَحْيُهُ بالرفع.
561
الوقوف:
يَبَساً ج لأن قوله لا تَخافُ يصلح صفة للطريق مع حذف الضمير العائد أي لا تخاف فيه، ويصلح مستأنفا. ومن قرأ لا تخف فوقفه أجوز لعدم العاطف ووقوع الحائل مع تعقب النهي الأمر إلا أن يكون جوابا للأمر فلا يوقف وَلا تَخْشى هـ ما غَشِيَهُمْ ط لأن التقدير وقد أضل من قبل على الحال الماضية دون العطف لأنه عند ما غشيه لم يتفرغ للإضلال. وَما هَدى هـ وَالسَّلْوى هـ غَضَبِي ج هَوى هـ اهْتَدى هـ يا مُوسى هـ لِتَرْضى هـ السَّامِرِيُّ هـ أَسِفاً ج لانتساق الماضي على الماضي بلا ناسق حَسَناً ط مَوْعِدِي هـ السَّامِرِيُّ هـ لا فَنَسِيَ هـ ط قَوْلًا لا للعطف وَلا نَفْعاً هـ ط فُتِنْتُمْ بِهِ ج للابتداء بأن مع اتصال العطف أَمْرِي ج مُوسى هـ أَلَّا تَتَّبِعَنِ ط أَمْرِي هـ رَأْسِي
ج للابتداء (بأن) مع اتصال المعنى واتحاد القائل وْلِي
هـ يا سامِرِيُّ هـ نَفْسِي هـ لا مِساسَ ص لَنْ تُخْلَفَهُ ج لاختلاف الجملتين عاكِفاً ط للقسم المحذوف نَسْفاً هـ إِلَّا هُوَ ط عِلْماً هـ سَبَقَ ج للإستئناف والحال ذِكْراً ج هـ لأن الشرطية تصلح صفة للذكر وتصلح مبتدأ بها وِزْراً هـ لا لأن قوله خالِدِينَ حال من الضمير في يَحْمِلُ وهو عائد إلى «من» ومن للجمع معنى فِيهِ ط حِمْلًا هـ لا لأن يَوْمَ يُنْفَخُ بدل من يوم القيامة. زُرْقاً هـ ج لأن ما بعده يصلح للصفة وللاستئناف عَشْراً هـ يَوْماً هـ نَسْفاً هـ لا صَفْصَفاً هـ لا أَمْتاً هـ لا عِوَجَ لَهُ ج لاختلاف الجملتين هَمْساً هـ قَوْلًا هـ عِلْماً هـ الْقَيُّومِ ط ظُلْماً هـ هَضْماً هـ ذِكْراً هـ الْحَقُّ ج وَحْيُهُ ز لعطف الجملتين المتفقتين مع اعتراض الظرف وما أضيف إليه عِلْماً هـ.
التفسير:
هذا شروع في قصة إنجاء بني إسرائيل وإهلاك عدوّهم وقد تقدم في «البقرة» وفي «الأعراف» وفي «يونس» ومعنى فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً اجعل لهم من قولهم «ضرب له في ماله سهما وضرب اللبن عمله» أو أراد بين لهم طريقا فِي الْبَحْرِ بالضرب بالعصا حتى ينفلق فعدي الضرب إلى الطريق، ثم بين أن جميع أسباب الأمن حاصلة في ذلك الطريق. واليبس مصدر وصف به ومثله اليبس ونحوهما العدم والعدم ويوصف به المؤنث لذلك فيقال: ناقتنا يبس إذا جف لبنها. والدرك. والدرك اسمان من الإدراك أي لا يدركك فرعون وجنوده ولا يلحقونك. وفي لا تَخْشى إذا قرىء لا تخف أوجه الاستئناف أي وأنت لا تخشى، وجوز في الكشاف أن يكون الألف للإطلاق من أجل الفاصلة كقوله وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [الأحزاب: ١٠] وأن يكون كقول الشاعر:
كأن لم ترى قبلي أسيرا يمانيا
562
أراد لم تر لأن ما قبله:
وتضحك مني شيخة عبشمية قلت: لعل هذا إنما يجوز في الضرورة ولا ضرورة وفي الآية فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ الحق بهم جنوده أو تبعهم ومعه جنوده كما مر في «يونس» فَغَشِيَهُمْ أي علاهم ورهقهم مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ وهذا من جملة ما علم في باب الإيجاز لدلالته على أنه غشيهم ما لا يعلم كنهه إلا الله، وقد سلف منه في السور المذكورة ما حكي في الأخبار وروي في الآثار. ونسبة الإضلال إلى فرعون لا تنافي انتهاء الكل إلى إرادة الله ومشيئته. وقوله وَما هَدى تأكيد للإضلال وفيه تهكم به في قوله وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ [غافر: ٣٨] ثم عدد ما أنعم به على بني إسرائيل، ويجوز أن يكون خطابا لليهود المعاصرين لأن النعمة على الآباء نعمة في حق الأبناء ومثله قوله وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ أي الواقع على يمين من انطلق من مصر إلى الشام لأن منفعة المواعدة عادت إليهم وإن كانت المواعدة لنبيهم فبكتب التوراة في ألواح قام شرعهم واستقام أمر معاشهم ومعادهم. كُلُوا من تتمة القول. وطغيانهم في الرزق هو شغلهم باللهو والتنعم عن القيام بشكرها وتعدي حدود الله فيها بالإسراف والتقتير والغصب. ومن قرأ فَيَحِلَّ بالكسر فبمعنى الوجوب من قولهم «حل الدين يحل» إذا وجب أداؤه، ومن قرأ بالضم فبمعنى النزول ونزول الغضب نزول نتائجه من العقوبات والمثلات. ومعنى هَوى هلك وأصله السقوط من مكان عال كالجبل. وقيل: هوى أي وقع في الهاوية.
سؤال: كيف أثبت المغفرة في حق من استجمع التوبة والإيمان والعمل الصالح، والمغفرة إنما تتصور في حق من أذنب؟ وأيضا ما معنى قوله ثُمَّ اهْتَدى بعد الأمور المذكورة والاهتداء إنما يكون قبلها لا أقل من أن يكون معها؟ الجواب أراد وإني لغفار لمن تاب من الكفر وآمن وعمل صالحا. وفيه دليل لمن ذهب إلى وجوب تقديم التوبة من الكفر على الإيمان. والحاصل أن الغفران يعود إلى الذنوب السابقة على هذه الأمور، ويجوز أن يراد أنه إذا تاب من الكفر وأقبل على الإيمان والعمل الصالح فإن الله يغفر الصغائر التي تصدر عنه في خلال ذلك كقوله إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ [النساء: ٣١] وأما الاهتداء فالمراد به الاستقامة والثبات على الأمور المذكورة كقوله إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا [فصلت: ٣٠] ومعنى «ثم» الدلالة على تباين المرتبتين، فإن المداومة على الخدمة أصعب من الشروع فيها كما قيل:
لكل إلى شأو العلى حركات ولكن عزيز في الرجال ثبات
ونظير هذا العطف قوله أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا [الأعراف: ٤] وقد مر البحث
563
فيه. ويروى أن موسى قد مضى مع النقباء السبعين إلى الطور على الموعد المضروب، ثم تقدمهم شوقا إلى كلام ربه وتنجز ما وعد به بناء على اجتهاده وظنه أن ذلك أقرب إلى رضا الله فأنكر الله تعالى تقدمه قائلا وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ أيّ شيء عجل بك عنهم؟
فالمراد بالقوم النقباء لا جميع قومه على ما توهم بعضهم يؤكده قوله هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي ولم يكن جميع قومه على أثره. قال جار الله: قد تضمن ما واجهه به رب العزة شيئين: أحدهما إنكار العجلة في نفسها، والثاني السؤال عن سبب التقدم فكان أهم الأمرين إلى موسى تمهيد العذر من العجلة نفسها فاعتل بأنه لم يوجد مني إلا تقدم يسير وليس بيني وبينهم إلا مسافة يتقدم بمثلها الوفد رأسهم ومقدمهم، ثم عقبه بجواب السؤال عن السبب فقال وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى أي طلبت دوم رضاك عني أو مزيد رضاك بناء على اجتهادي أن التعجيل إلى مقام المكالمة والحرص على ذلك يوجب مزيد الثواب والكرامة. وقيل: لما أنكر عليه الاستعجال دهش خوفا من العقاب فتحير في الجواب قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ يعني جميع قومه الذين خلفهم مع هارون وكانوا ستمائة ألف ما نجا من عبادة العجل إلا اثنا عشر ألفا. يروى أنهم أقاموا بعد مفارقته عشرين ليلة وحسبوها أربعين مع أيامها وقالوا: قد أكملنا العدة. ثم كان أمر العجل بعد ذلك فسئل أنه تعالى كيف قال لموسى عنه مقدمه فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ؟ وأجيب بأنه على عادة الله تعالى في إخباره عن الأمور المترقبة بلفظ الماضي تحقيقا للوقوع، أو أراد بدء الفتنة لأن السامري افترض غيبة موسى فعزم على إضلال قومه غب انطلاقه. ولقائل أن يمنع كون هذه الأخبار عند مقدم موسى عليه السلام بل لعله عند رجوعه بدليل فاء التعقيب في قوله فَرَجَعَ مُوسى قال جار الله إنه رجع بعد ما استوفى الأربعين ذا القعدة وعشر ذي الحجة وأوتي التوراة. وسامري منسوب إلى قبيلة من بني إسرائيل يقال لها السامرة. وقيل:
السامرة قوم من اليهود يخالفونهم في بعض دينهم. وقيل: كان علجا من كرمان واسمه موسى بن ظفر وكان منافقا وكان من قوم يعبدون البقر. قالت المعتزلة: الفتنة بمعنى الإضلال لا يجوز أن تنسب إلى الله تعالى لأنه يناقض قوله وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ وإنما الفتنة بمعنى الامتحان بتشديد التكليف ومنه «فتنت الذهب بالنار» وبيان ذلك أن السامريّ لما أخرج لهم العجل صاروا مكلفين بأن يستدلوا بحدوث جملة الأجسام على أن العجل لا يصلح للإلهية. وقالت الأشاعرة: الشبهة في كون الشمس والقمر إلها أعظم من العجل الذي له خوار وهو جسد من الذهب وحينئذ لا يكون حدوث ذلك العجل تشديدا في التكليف، فلا يكون فتنة من هذا الوجه فوجب حمله على خلق الضلال فيهم. وأجابوا عن إضافة الضلال إلى السامري بأن جميع المسببات العادية تضاف إلى أسبابها في الظاهر وإن
564
كان الموجد لها في الحقيقة هو الله تعالى. قال بعضهم: الأسف المغتاظ، وفرق بين الاغتياظ والغضب لأن الغيظ تغير يلحق المغتاظ فلا يصح إلا على الأجسام، والغضب قد يراد به الإضرار بالمغضوب عليه فلهذا صح إطلاقه على الله سبحانه.
ثم عاتب موسى عليه السلام قومه بأمور منها: قوله أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً كأنهم كانوا معترفين بالرب الأكبر لكنهم عبدوا العجل على التأويل الذي تذكر عبدة الأصنام أو على تأويل الحلول. والوعد الحسن هو إنزال التوراة التي فيها هدى ونور.
وقيل: هو الثواب على الطاعات ومثله ما روي عن مجاهد أن العهد المذكور من قوله وَلا تَطْغَوْا فِيهِ إلى قوله ثُمَّ اهْتَدى وقيل: وعدهم إهلاك فرعون ووعدهم أرضهم وديارهم وقد فعل. ومنها قوله أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أي الزمان يريد مدة مفارقته لهم وعدوه أن يقيموا على أمره وما تركهم عليه من الإيمان فاخلفوا موعده بعبادتهم العجل.
وقيل: أراد عهدهم بنعم الله تعالى من الإنجاء وغيره. والأكثرون على الأول لما روي أنه وعدهم ثلاثين كما أمر الله تعالى وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً [الأعراف: ١٤٢] فجاء بعد الأربعين لقوله تعالى وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ ولما روي أنهم حسبوا العشرين أربعين ومنها قوله أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ قالوا: هذا لا يمكن إجراؤه على الظاهر لأن أحدا لا يريد هلاك نفسه ولكن المعصية- وهو خلاف الموعد- لما كانت توجب ذلك صح هذا الكلام لأن مريد السبب مريد للمسبب بالعرض. احتج العلماء بالآية وبما مر من قوله فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي أن الغضب من صفات الأفعال لا من صفات الذات لأن صفة ذات الله تعالى لا تنزل في شيء من الأجسام. وموعد موسى هو ما ذكرنا من أنهم وعدوه الإقامة على دينه إلى أن يرجع إليهم من الطور. وقيل: وعدوه اللحاق به والمجيء على أثره قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا بالحركات الثلاث أي بأن ملكنا أمرنا أي لو ملكنا أمرنا وخلينا ورأينا لما أخلفناه ولكن غلبنا من جهة السامري وكيده. والظاهر أن القائلين هم عبدة العجل. وقيل: إنهم الذين لم يعبدوا العجل وقد يضيف الرجل فعل قرينه إلى نفسه فكأنهم قالوا: الشبهة قوبت على عبدة العجل فلم يقدر على منعهم ولم يقدروا أيضا على مخالفتهم حذرا من التفرقة وزيادة الفتنة. ثم إن القوم بينوا ذلك العذر المجمل فقالوا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ أي أثقالا من حلي القبط كما مر في «الأعراف».
وقيل: الأوزار الآثام وإنها في الحقيقة أثقال مخصوصة معنوية سموا بذلك لأن المغانم لم تحل حينئذ أو لأنهم كانوا مستأمنين في دار الحرب وليس للمستأمن أن يأخذ مال الحربي.
وقيل: إن تلك الحلي كان القبط يتزينون بها في مجامع الكفر ومجالس المعاصي فلذلك
565
وصفت بأنها أوزار كما يقال في آلات المعاصي. فَقَذَفْناها أي في الحفرة، كان هارون أمرهم بجمع الحلي انتظارا لعود موسى، أو في موضع أمرهم السامري بذلك بعد أن أوقد النار فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ مثل فعلنا أراهم أنه يلقي حليا في يده مثل ما ألقوه. وإنما ألقى التربة التي أخذها من موطىء حافر فرس جبريل كما يجيء في قوله فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ قد مر في «الأعراف» فَقالُوا أي السامري ومن تبعه هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ موسى أن يطلبه هاهنا فذهب يطلبه عند الطور، أو فنسي السامري وترك ما كان عليه من الإيمان الظاهر، أو نسي الاستدلال على أن العجل لا يجوز أن يكون إلها بقوله أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ «أن» مخففة من الثقيلة ولهذا لم تعمل. وقرىء بالنصب على أنها الناصبة. قال العلماء: ظهور الخوارق على يد مدعي الإلهية جائز لأنه لا يحصل الالتباس، وهاهنا كذلك فوجب أن لا يمتنع خلق الحياة في صورة العجل.
وروى عكرمة عن ابن عباس أن هارون مر بالسامري وهو يصنع العجل فقال: ما تصنع؟ فقال: أصنع ما ينفع ولا يضر فادع لي. فقال: اللهم أعطه ما سألك. فلما مضى هارون قال السامري: اللهم إني أسألك أن يخور فخار.
وعلى هذا التقدير يكون معجزا للنبي لا السامري. ثم إنه سبحانه أخبر أن هارون لم يأل نصحا وإشفاقا في شأن نفسه وفي شأن القوم قبل أن يقول لهم السامري ما قال. أما شفقته على نفسه فهي أنه أدخلها في زمرة الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر، أما الامتثال فإنه امتثل في نفسه وفي شأن القوم أمر أخيه حين قال لهم يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ قال جار الله: كأنهم أول ما وقعت عليه أبصارهم حين طلع من الحفرة فتنوا به واستحسنوه فقبل أن ينطق السامري بادرهم هارون فزجرهم عن الباطل أولا بأن هذا من جملة الفتن.
ثم دعاهم إلى الحق بقوله وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ ومن فوائد تخصيص هذا الاسم بالمقام أنهم إن تابوا عما عزموا عليه فإن الله يرحمهم ويقبل توبتهم. ثم بين أن الوسيلة إلى معرفة كيفية عبادة الله هو اتباع النبي وطاعته فقال فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي وهذا ترتيب في غاية الحسن. واعلم أن الشفقة على خلق الله أصل عظيم في الدين وقاعدة متينة.
روى النعمان بن بشير عن النبي ﷺ «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» «١»
ويروى أن
(١) رواه البخاري في كتاب الأدب باب: ٢٧. مسلم في كتاب البر حديث ٦٦. أحمد في مسنده (٤/ ٢٦٨، ٢٧٠).
566
رسول الله ﷺ بينا هو جالس إذا نظر إلى شاب على باب المسجد فقال:
من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إليه. فسمع الشاب ذلك فولى وقال: إلهي وسيدي هذا رسولك يشهد عليّ بأني من أهل النار وأنا أعلم أنه صادق، فإذا كان الأمر كذلك فأسألك أن تجعلني فداء أمة محمد ﷺ وتشعل النار بي حتى يبر يمينه ولا تسفع النار أحدا. فهبط جبريل وقال: يا محمد بشر الشاب بأني قد أنقذته من النار بتصديقه لك وفداء أمتك بنفسه وشفقته على الخلق.
قال أهل السنة هاهنا: إن الشيعة تمسكوا
بقوله ﷺ «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» «١».
ثم إن هارون ما منعته التقية في مثل ذلك الجمع بل صعد المنبر وصرح بالحق ودعا الناس إلى متابعته، فلو كانت أمة محمد ﷺ على الخطأ لكان يجب على عليّ كرم الله وجهه أن يفعل ما فعل هارون من غير تقية وخوف. وللشيعة أن يقولوا: إن هارون صرح بالحق وخاف فسكت ولهذا عاتبه موسى بما عاتب فاعتدر ب إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي [الأعراف: ١٥] وهكذا علي رضي الله عنه امتنع أولا من البيعة فلما آل الأمر إلى ما آل أعطاهم ما سألوا. وإنما قلت هذا على سبيل البحث لا لأجل التعصب. ثم إن القوم قابلوا حسن موعظة هارون بالتقليد والجحود قائلين لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى ولا يخفى ما في هذا الكلام من أنواع التوكيد من جهة النفي ب «لن»، ومن لفظ البراح والعكوف، ومن صيغة اسم الفاعل، ومن تقديم الخبر. ثم حكى ما جرى بين موسى وهارون بعد الرجوع وقوله ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ كقوله ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ [الأعراف: ١٢] في أن «لا» هذه مزيدة أم لا؟. وقد مر في «الأعراف». وفي هذا الإتباع قولان: فعن ابن عباس ما منعك من اتباعي بمن أطاعك واللحوق بي وترك المقام بين أظهرهم. وقال مقاتل: أراد الإتباع في وصيته كأنه قال: هلا قاتلت من كفر بمن آمن ومالك لا تباشر الأمر كما كنت أباشره. قال الأصوليون: في قوله أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي دلالة على أن تارك المأمور به عاص والعاصي يستحق العقاب لقوله وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ [الجن: ٢٢] فيعلم منه أن الأمر للوجوب. واحتج الطاعنون في عصمة الأنبياء بأن موسى عليه السلام هل أمر هارون باتباعه أم لا؟ وعلى التقدير فهارون أتبعه أم لا؟ فإن لم يأمره أو أمره ولكن اتبعه فملامته لهارون من غير جرم تكون ذنبا، وإن أمره ولم يتبعه كان هارون عاصيا. وأيضا قوله أَفَعَصَيْتَ بمعنى الإنكار. فإما أن يكون موسى
(١) رواه البخاري في كتاب فضائل الصحابة باب: ٩. الترمذي في كتاب المناقب باب: ٢٠. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب: ١١. أحمد في مسنده (١/ ١٧٠، ١٧٧، ١٨٥).
567
كاذبا في نسبة العصيان إلى هارون، وإما أن يكون هارون عاصيا. وأيضا أخذه بلحية هارون وبرأسه إن كان بعد البحث والتفتيش فهارون عاص وإلا فموسى. وأجيب بأن كل ذلك أمور اجتهادية جائزة الخطأ أو هي من باب الأولى وقد مر في أوائل «البقرة» في قصة آدم ما يتعلق بهذه المسألة.
قوله: لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي
أي وصيتي لك بحفظ الدهماء واجتماع الشمل يؤيده قوله: نِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ
قال الإمام أبو القاسم الأنصاري: الهداية أنفع من الدلالة فإن السحرة ما رأوا إلا آية واحدة فآمنوا وتحملوا في الدين ما تحملوا، وأما قوم موسى فقد رأوا ذلك مع زيادة سائر الآيات التسع ومع ذلك اغتروا بصوت العجل وعكفوا على عبادته، فعرفنا أن الغرض لا يحصل إلا بهداية الله تعالى. ولما فرغ موسى من عتاب هارون أقبل على السامري، ويمكن أن يكون بعيدا ثم حضر أو ذهب إليه موسى ليخاطبه.
قال جار الله: الخطب مصدر خطب الأمر إذا طلبه. فإذا قيل: لمن يفعل شيئا ما خطبك؟
فمعناه ما طلبك له والغرض منه الإنكار عليه وتعظيم صنيعه قالَ أي السامري بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ قال ابن عباس ورواه أبو عبيدة: علمت بما لم يعلموا به من البصارة يعني العلم. وقال الآخرون: رأيت بما لم تروه فالباء للتعدية، رجح العلماء قراءة الغيبة على الخطاب احترازا من نسبة عدم البصارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. والقبضة بالفتح مصدر بمعنى المفعول وهو المقبوض بجميع الكف. عامة المفسرين على أن المراد بالرسول جبريل عليه السلام وأثره التراب الذي أخذه من موقع حافر دابته واسمها حيزوم فرس الحياة. ومتى رآه؟ الأكثرون على أنه رآه يوم فلق البحر كان جبريل على الرمكة وفرعون على حصان وكان لا يدخل البحر، فتقدم جبريل فتبعه فرس فرعون.
وعن علي رضي الله عنه أن جبريل لما نزل ليذهب بموسى إلى الطور أبصره السامري من بين الناس وكان راكب حيزوم فقال: إن لهذا شأنا فقبض من تربة موطئه.
فمعنى الآية فقبضت من أثر فرس المرسل إليك يوم حلول الميعاد. ثم من المفسرين من جوز أن السامري لم يعرف أنه جبريل ومنهم من قال: إنه عرفه. عن ابن عباس: إنما عرفه لأنه رباه في صغره وحفظه من القتل حين أمر فرعون بقتل أولاد بني إسرائيل. فكانت المرأة تلد وتطرح ولدها حيث لا يشعر به آل فرعون فتأخذ الملائكة الولدان فيربونهم حتى يترعرعوا ويختلطوا بالناس. فكان السامري أخذه جبريل وجعل كف نفسه في فيه وارتضع منه العسل واللبن فلم يزل يختلف إليه حتى عرفه. وقال أبو مسلم: إطلاق الرسول على جبريل في
568
المقام من غير قرينة تكليف بعلم الغيب. وأيضا تخصيص السامري من بين الناس برؤية جبريل وبمعرفة خاصية تراب حافر دابته لا يخلو عن تعسف، ولو جاز اطلاع بعض الكفرة على تراب هذا شأنه فلقائل أن يقول: لعل موسى اطلع على شيء آخر لأجله قدر على الخوارق. فالأولى أن يراد بالرسول موسى فقد يواجه الحاضر بلفظ الغائب كما يقال: ما قول الأمير في كذا؟ ويكون إطلاق الرسول منه على موسى نوعا من التهكم لأنه كان كافرا به مكذبا. وأراد بأثره سنته ورسمه من قولهم «فلان يقفو أثر فلان» أي عرفت أن الذي عليه ليس بحق وقد كنت قبضت شيئا من سنتك فطرحتها. فعلى قول العامة يكون قوله:
وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي إشارة إلى ما أوحي إليه وليه الشيطان أن تلك التربة إذا نبذت على الجماد صار حيوانا. وعلى قول أبي مسلم يشير إلى أن اتباع أثرك كان من تسويلات النفس الأمارة فلذلك تركته. ثم بين موسى أن له عقوبة في الدنيا وعقوبة في الآخرة.
يروى أنه أراد أن يقتله فمنعه الله من ذلك وقال: لا تقتله فإنه سخيّ.
وفي قوله:
لا مِساسَ وجوه: الأوّل إنه حرم عليه مماسة الناس لأنه إذا اتفق أن هناك مماسة فأحدهم الماس والثاني الممسوس فلذلك إذا رأى أحدا صاح لا مساس. ويقال: إن قومه باق فيهم ذلك إلى الآن الثاني: أن المراد منع الناس من مخالطته. قال مقاتل: إن موسى أخرجه من محلة بني إسرائيل وقال له: اخرج أنت وأهلك طريدا إلى البراري. اعترض الواحدي عليه بأن الرجل إذا صار مهجورا فلا يقول: هو لا مساس. وإنما يقال له ذلك.
وأجيب بأن هذا على الحكاية أي أجعلك يا سامري بحيث إذا أخبرت عن حالك لم تقل إلا لا مساس. والثالث: قول أبي مسلم إن المراد انقطاع نسله وأن يخبر بأنه لا يمكن له مماسة المرأة أي مجامعتها. وأما حاله في الآخرة فلذلك قوله: وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ قال جار الله: من قرأ بكسر اللام فهو من أخلفت الموعد إذا وجدته خلفا. ثم بين مآل حال إلهه فقال: وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً أي ظللت فحذف إحدى اللامين تخفيفا لَنُحَرِّقَنَّهُ من الإحراق ففيه دليل على أنه صار لحما ودما لأن الذهب لا يمكن إحراقه بالنار ونسفه في الميم. قال السدي: أمر موسى بذبحه فسال منه الدم ثم أحرق ثم نسف. والنسف النقض ومن جعله من الحرق أي لنبردنه بالمبرد ففيه دلالة على أنه لم ينقلب حيوانا إلا إذا أريد برد عظامه. ومن جعله من التحريق فإنه يحتمل الوجهين والمراد إهدار السامري وإبطال كيده ومحق صنيعه والله خير الماكرين. ثم ختم الكلام ببيان الدين الحق فقال: إِنَّما إِلهُكُمُ أي المستحق للعباد والتعظيم اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً قد مر مثله في «الأنعام» قال مقاتل: أي يعلم من يعبده.
569
وحين فرغ من قصة موسى شرع في تثبيت رسولنا ﷺ فقال:
كَذلِكَ أي نحو اقتصصنا عليك قصة موسى وفرعون والسامري نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ سائر أخبار الرسل مع أممهم تكثيرا لمعجزاتك. ثم عظم شأن القرآن بقوله: وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً أي ما ذكر فيه كل ما يحتاج إليه المكلف في دينه وفي دنياه والوزر العقوبة الثقيلة التي تنقض ظهر صاحبها، أو المراد جزاء الوزر وهو الإثم خالِدِينَ فِيهِ أي في ذلك الوزر أو في احتماله وَساءَ فيه ضمير مبهم يفسره حِمْلًا والمخصوص محذوف للقرينة أي ساء حملا وزرهم. واللام في لَهُمْ للبيان كما في هَيْتَ لَكَ [يوسف:
٢٣] ويجوز أن يكون «ساء» بمعنى «قبح» ويكون فيه ضمير الوزر. وانتصب حِمْلًا على التمييز ولَهُمْ حال من حِمْلًا ولا أدري لم أنكره صاحب الكشاف، اللهم إلا أن يمنع وقوع الحال من التمييز وفيه نظر. قال ابن السكيت: الحمل بالفتح ما كان في بطن أو على رأس شجرة، وبالكسر ما كان على ظهر أو رأس. وفي الصور قولان:
أشهرهما أنه القرن يؤيده قوله: فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ [المدثر: ٨] وإنه تعالى يعرّف أمور الآخرة بأمثال ما شوهد في الدنيا ومن عادة الناس النفخ في البوقات عند الأسفار وفي العساكر فجعل الله تعالى النفخ في تلك الآلة علامة لخراب الدنيا ولإعادة الأموات.
وأقربهما من المعقول أن الصور جمع صورة يؤكده قراءة من قرأ بفتح الواو. يقال: صورة وصورة كدرة ودرر. والنفخ نفخ الروح فيها ولكنه يرد عليه أن النفخ يتكرر لقوله تعالى:
ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى [الزمر: ٦٨] والإحياء لا يتكرر بعد الموت إلا ما ثبت من سؤال القبر وليس هو بمراد من النفخة الأولى بالاتفاق وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ. عن ابن عباس:
هم الذين اتخذوا مع الله إلها آخر. وقال المعتزلة: هم الكفار والعصاة. وفي الزرق وجوه: قال الضحاك ومقاتل: إن الزرقة أبغض شيء من ألوان العيون إلى العرب، لأن الروم أعداؤهم وإنهم زرق العيون، ومن كلامهم في صفة العدوّ «أسود الكبد أصهب السبال أزرق العين». وقال الكلبي: زُرْقاً أي عميا. قال الزجاج: يخرجون بصراء في أول أمرهم لقوله: لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ [إبراهيم: ٤٢] ولقوله: اقْرَأْ كِتابَكَ [الإسراء: ١٤] ثم يؤل حالهم إلى العمى وإن حدقة من يذهب نور بصرة تزرق. وقيل:
زُرْقاً أي عطاشا لقوله: وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً [مريم: ٨٦] فكأنهم من شدة العطش يتغير سواد عيونهم حكاه ثعلب عن ابن الأعرابي يَتَخافَتُونَ يتسارون بَيْنَهُمْ من شدة خوفهم أو لأن صدورهم امتلأت رعبا، وهؤلاء يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا إما لأنها أيام سرورهم وهن قصار، وإما لأنها قد انقضت والذاهب قليل وإن طال ولا سيما بالنسبة إلى الأبد السرمدي كأن ظنينهم يقول: قدر لبثنا في الدنيا بالقياس إلى
570
لبثنا في الآخرة كعشرة أيام. فقال أعقلهم: بل كاليوم الواحد. وإنما قال: عَشْراً لأن المراد عشر ليال. وقال مقاتل: أراد عشر ساعات أي بعض يوم. وعلى هذا فأفضلهم رد عليهم استقصارهم وتقالهم. وقيل: المراد لبثهم في القبور.
قال أهل النظم: كأن سائلا سأل: كيف يصح التخافت بين المجرمين والجبال حائلة مانعة؟ فلذلك قال: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ وقال الضحاك: إن مشركي مكة قالوا على سبيل الاستهزاء: يا محمد كيف يكون حال الجبال يوم القيامة؟ فنزلت. ويحتمل أن يكون هذا جواب شبهة تمسك بها منكرو البعث- منهم جالينوس- زعم أن الأفلاك لا تفنى لأنها لو فنيت لابتدأت بالنقصان حتى تنتهي إلى البطلان، وكذا الجبال وغيرها من الأجرام الكلية، فأمر الله نبيه ﷺ أن يبين لهم هذه المسألة الأصولية من غير تأخير ولهذا أدخل فاء التعقيب في الجواب. والنسف القلع. وقال الخليل: التطيير والإذهاب كأنه يجعلها كالرمل ثم يرسل عليها الرياح فتفرقها. وحاصل الجواب أن كل بطلان لا يلزم أن يكون ذبوليا بل قد يكون رفعيا. والضمير في فَيَذَرُها للمضاف المحذوف أي فيدع مقارها ومراكزها وهو للأرض للعلم بها كقوله: ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها [فاطر: ٤٥] والقاع المستوي من الأرض. وقيل: المكان المطمئن. وقيل: مستنقع الماء.
والصفصف الأرض الملساء المستوية. وقيل: التي لا نبات فيها. والأمت النتوّ اليسير.
وقيل: التلال الصغار. قالوا: العوج بالكسر في المعاني وكأنه سبحانه نفى العوج الذي يدق عن الإحساس ولا يدرك إلا بالقياس الهندسي، وإذا كان هذا النوع من العوج الاعتباري منتفيا فكيف بالعوج الحسي! وقد يستدل بالآية على أن الأرض يومئذ تكون كرة حقيقة إذ لو كانت مضلعة وقعت بين الأضلاع فصول مشتركة فيعوج الامتداد القائم عليها هناك. ثم إنه تعالى وصف ذلك اليوم بأن الخلائق فيه يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ قيل: هو النفخ في الصور. وقوله: لا عِوَجَ لَهُ أي لا يعدل عن أحد بدعائه بل يحشر الكل. وقيل: إن إسرافيل أو ملكا آخر يقوم على صخرة بيت المقدس ينادي: أيها العظام النخرة والأوصال المتفرقة واللحوم المتمزقة، قومي إلى ربك للحساب والجزاء فلا يعوج له مدعوّ بل يتبعون صوته من غير انحراف. وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ خفضت من شدة الفزع فَلا تَسْمَعُ أيها السامع إِلَّا هَمْساً وهو الصوت الخفي. وذلك أن الجن والإنس علموا أن لا مالك لهم سواه، وحق لمن كان الله محاسبه أن يخشع طرفه ويضعف صوته ويختلط قوله ويطول غمه. وعن ابن عباس والحسن وعكرمة وابن زيد الهمس وطء الأقدام إلى المحشر. قوله: إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ يصلح أن يكون «من» منتصبا على
571
المفعولية وأن يكون مرفوعا على البدلية بتقدير حذف المضاف أي لا تنفع الشفاعة إلا شفاعة من أذن له الرحمن وَرَضِيَ لَهُ أي لأجله قَوْلًا.
قال الإمام فخر الدين الرازي: الاحتمال الأول أولى لعدم التزام الإضمار، ولأن درجة الشافع درجة عظيمة فلا تصلح ولا تحصل إلا لمن أذن له فيها وكان عند الله مرضيا. فلو حملنا الآية على ذلك كان من إيضاح الواضحات بخلاف ما لو حملت على المشفوع. وأقول: الاحتمالان متقاربان متلازمان لأن المشفوع لا تقبل الشفاعة في حقه إلا إذا أذن الرحمن لأجله فيعود إلى الثاني. قالت المعتزلة: الفاسق غير مرضي عند الله تعالى فوجب أن لا ينتفع بشفاعة الرسول. وأجيب بأنه قد رضي لأجله قولا واحدا من أقواله وهو كلمة الشهادة. قالوا: هب أن الفاسق قد رضي الله قولا لأجله، فلم قلتم إن الإذن حاصل للشافع في حقه؟ والجواب أنا أيضا نمنع من أن الإذن غير حاصل في حقه على أنه قال في موضع آخر وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الأنبياء: ٢٨] فلم يعتبر إلا أحد القيدين. ثم أخبر عن نهاية علمه بقوله: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ. الضمير للذين يتبعون الداعي أي يعلم ما يقدمهم من الأحوال وما يستقبلونه وَلا يُحِيطُونَ بمعلومه عِلْماً.
وقال الكلبي ومقاتل: الضمير للشافعين من الملائكة والأنبياء كما مر في آية الكرسي. وفيه تقريع لمن يعبد الملائكة ليشفعوا له أي يعلم ما كان قبل خلقهم وما كان منهم بعد خلقهم من أمر الآخرة والثواب والعقاب وإنهم لا يعلمون شيئا من ذلك فكيف يصلحون للمعبودية. ثم ذكر غاية قدرته فقال: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ أي زلت رقاب الممكنات منقادين لأمره كالأسارى. عنا يعنو عنوّا إذا صار أسيرا. وقيل: أراد وجوه العصاة في القيامة كقوله: سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الملك: ٢٧] ولعله خص الوجوه بالذكر لأن أثر الذل والانكسار فيها أبين وأظهر. قال جار الله: وَقَدْ خابَ وما بعده اعتراض أي كل من ظلم فهو خائب خاسر. ولأهل السنة أن يخصوا الظلم هاهنا بالشرك أو يعارضوا هذا العموم بعمومات الوعد. من قرأ فَلا يَخافُ بالرفع فعلى الاستئناف أي فهو لا يخاف كقوله: فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ [المائدة: ٩٥] ومن قرأ فلا يخف فمعناه فليأمن له لأن النهي عن الخوف أمر بالأمن. من فسر الظلم بأنه الأخذ فوق حقه بالنقص من حقه كصفة المطففين فيقدر مضافا محذوفا أي فلا يخاف جزاء ظلم ولا هضم لأنه لم يظلم ولم يهضم، ومن فسر الظلم بأنه العقاب لا على جريمة والهضم بأنه النقص من الثواب فلا يحتاج إلى تقدير المضاف. قال أبو مسلم: الظلم أن ينقص من الثواب والهضم أن لا يوفى حقه من التعظيم لأن الثواب مع كونه من اللذات لا يكون ثوابا إلا إذا قارنه التعظيم.
572
قال جار الله: وَكَذلِكَ عطف على قوله: كَذلِكَ نَقُصُّ أي ومثل ذلك الإنزال وعلى نهجه، وكما أنزلنا عليك هؤلاء الآيات المضمنة للوعيد أنزلنا القرآن كله عربيا لأن العرب أصل وغيرهم تبع لأن النبي عربي. وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ كررناه وفصلناه ويدخل في ضمنه الفرائض والمحارم لأن الوعيد يتعلق بترك أحدهما وبفعل الآخر لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً حمل جار الله الأول على إرادة ترك المعاصي والثاني على فعل الخير والطاعة، لأن الذكر قد يطلق على الطاعة والعبادة. قلت: لا ريب أن القرآن ينفر عن السيئات ويبعث على الطاعات من حيث إن فهم معانيه يؤذي إلى ذلك، وإنما قدم الأول على الثاني لأن التخلية مقدمة على التحلية. ويحتمل أن تكون التقوى عبارة عن فعل الخيرات وترك المنكرات جميعا. والذكر يكون محمولا على ضد النسيان أي إن نسوا شيئا من التروك والأفعال أحدث لهم ذكرا إذا تأملوا معانية. وكلمة «أو» على الأول للتخيير والإباحة لا للتنافي، وعلى الثاني يجوز أن تكون للتنافي. وقيل: أراد أنزلنا القرآن ليتقوا فإن لم يحصل ذلك فلا أقل من أن يوجب القرآن لهم ذكرا أي شرفا ومنصبا كقوله:
وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف: ٤٤] وعلى التقديرين يكون في إنزال القرآن نفع.
ثم عظم شأن القرآن من وجه آخر وهو عظمة شأن منزلة قائلا فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ارتفع صفاته عن صفات المخلوقين أنزل القرآن ليحترزوا عما لا ينبغي وأنه منزه عن الانتفاع والتضرر بطاعاتهم ومعاصيهم. ومعنى الحق قد مر في البسملة. قال جار الله: فيه استعظام له ولما يصرّف عليه عباده من أوامره ونواهيه ووعده ووعيده والإدارة بين ثوابه وعقابه وغير ذلك كما يجري عليه أمر ملكوته. قال أبو مسلم: إن قوله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ إلى هاهنا كلام تام. وقوله: وَلا تَعْجَلْ خطاب مستأنف. وقال آخرون: إنه ﷺ كان يخاف أن يفوته شيء فيقرأ مع الملك، فإنه تعالى حين شرح كيفية نفع القرآن للمكلفين وبين أنه سبحانه متعال عن الانتفاع والتضرر بالطاعات والمعاصي.
وأنه موصوف بالملك الدائم والعز بالباقي، وكل من كان كذلك وجب أن يصون رسوله عن السهو والنسيان في أمر الوحي وما يتعلق بصلاح العباد في المعاش والمعاد. قال:
وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ لأنه حصل لك الأمان من السهو والنسيان مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ أي من قبل أن تتم قراءة جبريل ونحوه قوله لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
[القيامة: ١٦] قاله مقاتل والسدي وابن عباس في رواية عطاء. وقال مجاهد وقتادة: أراد ولا تعجل بالقرآن فتقرأ على أصحابك من قبل أن يوحي إليك بيان معانية أي لا تبلغ ما كان مجملا حتى يأتيك البيان. وقال الضحاك: إن أهل مكة وأسقف نجران قالوا:
573
يا محمد، أخبرنا عن كذا وكذا وقد ضربنا لك أجلا ثلاثة أيام فأبطأ الوحي عليه وفشت المقالة أن اليهود قد غلبوا فنزلت هذه الآية. أي لا تعجل بنزول القرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه من اللوح المحفوظ إلى إسرافيل ومنه جبرائيل ومنه إليك.
وعن الحسن: أن امرأة أتت النبي ﷺ فقالت: زوجي لطم وجهي فقال: بينكما القصاص فنزلت الآية فأمسك رسول الله ﷺ عن القصاص.
وإنما نشأت هذه الأقوال لأن قوله: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ يحتمل التعجيل بقراءته في نفسه، أو في تأديته إلى غيره، أو في اعتقاده ظاهره، أو في تعريف الغير ما يقتضيه الظاهر. وقوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ احتمل أن يراد من قبل أن يقضى إليك تمامه، أو من قبل أن يقضى إليك بيانه فقد يجوز أن يحصل عقيبه استثناء أو شرط أو غيرهما من المخصصات والمبينات ويؤكد هذه المعاني قوله: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً لأن معرفة البيان علم زائد على معرفة الإجمال. والظاهر أن هذا الاستعجال كان أمرا اجتهاديا وكان الأولى تركه فلذلك نهى عنه. قال جار الله: هذا الأمر متضمن للتواضع لله والشكر له عند ما علم من ترتيب التعلم أي علمتني يا رب لطيفة في باب التعلم وأدبا جميلا ما كان عندي فزدنى علما إلى علم. ومن فضائل العلم أن النبي ﷺ ما أمر بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم. وفيه إشارة إلى أن أسرار القرآن غير متناهية، اللهم إن هذا العبد الضعيف معترف بقصوره ونقصانه فأسألك مما سألك به نبيك أن ترزقني بتبعيته علما ينفعني في الدارين.
التأويل:
وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى القلب أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي وهم صفات القلب من الأخلاق الحميدة سر بهم من مصر البشرية إلى بحر الروحانية. فَاضْرِبْ لَهُمْ بعصا الذكر طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً من ماء الهوى وطين الصفات الحيوانية وباقي التأويل كما مر في «يونس» وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ منّ صفاتنا وسلوى أخلاقنا فاتصفوا بطيبات أخلاقنا وَلا تَطْغَوْا فِيهِ بإفشاء أسرار الربوبية إلى غيرنا كمن قال: أنا الحق وسبحاني. فإن الحالات لا تصلح للمقاولات. وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ رجع عن الطغيان وَآمَنَ بالربوبية وَعَمِلَ صالِحاً في مقام العبودية ثُمَّ اهْتَدى فتحقق أن حضرة الربوبية منزهة عن دنس الوهم والخيال ومقام الوصال مباين للقيل والقال. وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ فيه أن الشوق إذا غلب انقطع العلائق وأن مطلوب السائل لا ينبغي أن يكون إلا رضا الله. قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ فيه أن فتنة الأمة والمريد مقرونة بالنبي والشيخ. بِمَلْكِنا أي بإرادتنا ومشيئتنا ولكن بإرادة الله ومشيئته. فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ من غير اختيار منه ولكن باضطرار من
574
القدرا بْنَ أُمَ
قيل خاطبه بذلك ليذكره قول الملائكة: يا ابن النساء الحيض ما للتراب ورب الأرباب. فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها فيه أن الكرامة لأهل الكرامة كرامة ولأهل الغرامة استدراج وفتنة فيصرفونها في الباطل والطبيعة لا في الحق والحقيقة.
قوله: لا مِساسَ فيه معارضة بنقيض مقصود من أراد الجمعية والغلبة واتباع الناس إياه، فعدت بالتفرد والتوحش والنفار عن الخلق زُرْقاً إن الوجه أشرف أعضاء الإنسان والعين أشرف أعضاء الوجه، وزرق العين دلالة على خروجها عن الاعتدال، وإذا كان أشرف الأعضاء خارجا عن الاعتدال فما ظنك بغيرها؟ وكذا بالأخلاق التابعة للأمزجة. وَعَنَتِ الْوُجُوهُ أي كل جهة بها يستند الممكن إلى الواجب. يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لأن كل ناس تدعى بإمامهم فيتبعونه البتة وأهل الله لا يفرون إلا إلى الله في قوله: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ [يونس: ٢٥] وعلى الله المستعان.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١١٥ الى ١٣٥]
وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (١١٦) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (١١٧) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (١١٩)
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (١٢٠) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (١٢١) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (١٢٢) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤)
قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (١٢٧) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (١٢٨) وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩)
فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (١٣٠) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٣١) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (١٣٢) وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٣٣) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (١٣٤)
قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (١٣٥)
575
القراآت:
وإنك بالكسر: أبو بكر وحماد والخراز ونافع. الباقون بالفتح عطفا على أَلَّا تَجُوعَ ولا يلزم منه دخول «إن» المكسورة على المفتوحة للفصل بالخبر، ولأنه يجوز في المعطوف ما لا يجوز في المعطوف عليه أَعْمى بالإمالة: حمزة وعلي وخلف حَشَرْتَنِي بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير. ترضى مبينا للمفعول:
علي وأبو بكر وحماد والمفضل زَهْرَةَ بفتح الهاء: قتيبة وسهل ويعقوب. الآخرون بسكونها. وقرأ حمزة وعلي وخلف هذه السورة وكل سورة آياتها على الياء بالإمالة المفرطة وإن شاء بين الفتح والكسر.
الوقوف:
عَزْماً هـ إِلَّا إِبْلِيسَ ط أَبى هـ فَتَشْقى هـ وَلا تَعْرى هـ، لمن قرأ وَأَنَّكَ بالكسر وَلا تَضْحى هـ لا يَبْلى هـ الْجَنَّةِ ز لنوع عدول عن ذكر حال اثنين إلى بيان فعل من هو المقصود فَغَوى هـ ص وَهَدى هـ عَدُوٌّ ج لابتداء الشرط مع الفاء وَلا يَشْقى، هـ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى هـ بَصِيراً هـ فَنَسِيتَها ج لعطف المختلفين تُنْسى هـ بِآياتِ رَبِّهِ ط وَأَبْقى هـ مَساكِنِهِمْ ط النُّهى هـ مُسَمًّى هـ ط غُرُوبِها ج لعطف الجملتين مع اختلاف النظم تَرْضى هـ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ط وَأَبْقى هـ عَلَيْها ط رِزْقاً ط نَرْزُقُكَ ط لِلتَّقْوى هـ مِنْ رَبِّهِ ط الْأُولى هـ وَنَخْزى هـ فَتَرَبَّصُوا ج لسين التهديد مع الفاء اهْتَدى هـ.
التفسير:
في تعلق قصة آدم بما قبلها وجوه منها: أنه لما قال: كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ ثم عظم شأن القرآن وبالغ فيه ذكر القصة إنجازا للوعد. ومنها أنه لما قال: وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ أردفه بهذه القصة ليعلم أن طاعة بني آدم للشيطان أمر قديم وخلة موروثة، وذلك أنه عهد إلى آدم من قبل هؤلاء الذين صرف لأجلهم الوعيد فنسي وترك العهد. ومنها أن قوله: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ دليل على أنه ﷺ زاد على قدر الواجب في رعاية أمر الدين وكان مفرطا في أداء الرسالة وحفظ ما أمر به فناسب أن يعطف عليه قصة آدم لأنه كان موسوما بالتفريط والإفراط والتفريط كلاهما من باب ترك الأولى، وإذا كان أوّل الأنبياء وخاتمهم موصوفين بما فيه نوع تقصير فما ظنك بغيرهما! ومن هنا يعرف أفضلية الخاتم فإنه سعى في طلب الكمال إلى أن عوتب بالخروج عن حد الاعتدال، وآدم توسط في حيز النقصان فلا جرم وسم بالظلم والعصيان.
ومنها أن محمدا ﷺ أمر بأن يقول رَبِّ زِدْنِي عِلْماً ثم ذكر عقيبه قصة آدم تنبيها على أن بني آدم مفتقرون في جميع أحوالهم إلى التضرع واللجأ إلى الله حتى ينفتح عليهم أبواب التيسير في العلم والعمل. ومعنى عَهِدْنا إِلى آدَمَ أمرناه ووصيناه
576
مِنْ قَبْلُ أي من قبل محمد والقرآن. وفي النسيان قولان: أحدهما أنه نقيض الذكر.
عن الحسن: والله ما عصي قط إلا بنسيان. والثاني أن معناه الترك وعلى هذا يحتمل أن يقال: أقدم على الأكل من غير تأويل. وأن يقال: أقدم عليه بتأويل قد مر في «البقرة».
قال أهل الإشارة: عهد إليه أن لا يعلق نوره فانقاد للشيطان وهو النسيان. والعزم أيضا فيه أقوال: أحدها عزما على الذنب لأنه أخطأ ولم يتعمد. وثانيها عزما في العود إلى الذنب ثانيا. وثالثها رأيا وصبرا أي لم يكن من أهل العزيمة والثبات إذ كان من حقه أن يتصلب في المأمور به تصلبا يؤيس الشيطان من التسويل. قال جار الله: قوله: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ يجوز أن يكون بمعنى العلم ومفعولا هـ لَهُ عَزْماً وأن يكون بمعنى نقيض العدم كأنه قال:
وعد مثاله عزما. قوله: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ سلف في «البقرة» مستقصى قوله: إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ ذكروا في سبب عداوته إياه أنه كان شابا عالما لقوله: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها وإبليس كان شيخا جاهلا لأنه أثبت فضله بفضيلة أصله، والشيخ الجاهل أبدا يكون عدوّا للشاب العالم. وأيضا الماء والتراب مضادان للنار فَلا يُخْرِجَنَّكُما فلا يكون سببا لإخراجكما لأن الفاعل الحقيقي هو الله سبحانه فَتَشْقى فتتعب في طلب القوت وسائر ما يتعيش به الإنسان أسند الشقاء إليه وحده مع اشتراكهما في الخروج لأن الرجل أصل في باب الإنفاق والكسب والمرأة تابعة له.
ثم بين ذلك الشقاء بقوله: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها إلى آخره. والظمأ العطش وتقول: ضحيت للشمس بالكسر أضحى ضحاء ممدودا إذا برزت لها. والمراد به الكن مع أن الجنة ليس فيها شمس حتى يتصور فيها الضحاء، نفى كون هذه الأمور في الجنة ليثبت حصولها في غيرها. ولا ريب أن أصول المتاعب في الدنيا هي: الشبع والري والكسوة والكن. وأما المنكوح فمشترك إلا أن مؤن النكاح تختص بالدنيا وأنها أيضا ترجع إلى المذكورات.
يروى أنه كان لباسهما الظفر فلما أصابا الخطيئة نزع عنهما وتركت هذه البقايا في أطراف الأصابع.
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ أنهى إليه وسوسة كما مر في «الأعراف».
بيان الوسوسة أنه قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ أضافها إلى الخلد وهو الخلود لأن من أكل منها بزعمه كما قيل لحيزوم فرس الحياة لأنه من باشر أثره حيي وَمُلْكٍ لا يَبْلى أي لا ينقطع ولا يزول. قال القاضي: ليس في الظاهر أنه قيل ذلك منه لأنه لا بد أن يحصل بين حال التكليف وحال المجازاة فصل بالموت، والنبي يمتنع أن لا يعلم هذا القدر. وأجيب بالمنع ولو سلم فلم لا يكفي الفصل بغشي أو نوح خفيف. ولو سلم أنه لا يكفي فلم استحال أن يجهل النبي ذلك كما جهل عدم جواز الرؤية زعمكم حين قال: أَرِنِي
577
أَنْظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف: ١٤٣] ومما يدل على أن آدم قبل وسوسته قوله تعالى: فَأَكَلا بالفاء والفاء مشعر بالعلية كقول الصحابي: «زنى ماعز فرجم» وما في الآية قد مر تفسيره في «الأعراف» إلا قوله: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى قال بعض الناس: إن آدم ذنبه كبيرة وإلا لم يوصف بالعصيان والغواية فإن العاصي والغاوي اسمان مذمومان عرفا وشرعا وقد ترتب الوعيد عليهما. وأجيب بأن المعصية مخالفة الأمر والأمر قد يكون مندوبا. وزيف بالمنع من أن المندوب غير مأمور به. ثم أن مخالفة عاص وإلا كان الأنبياء كلهم عصاة لأنهم لا ينكفون عن ترك المندوب. قالوا: يقال أشرت إليه في أمر كذا فعصاني وأمرته بشرب الدواء فعصاني. وأجيب بالمنع من أن هذا من مستعملات العرب العاربة، ولو سلم فلعله إنما يقال ذلك إذا عرف أن المستشير لا بد له أن يفعل ذلك، وحينئذ يكون معنى الإيجاب حاصلا وإن لم يكن وجوب شرعي لأن ذلك الإيجاب لم يصدر عن الشارع. ومنهم من زعم أنه ذنب صغير وهم عامة المعتزلة ورد بأن المعاصي اسم من يستحق العقاب وهذا لا يليق بالصغيرة. وأجاب أبو مسلم الأصفهاني بأنه عصى في مصالح الدنيا لا فيما يتصل بالتكاليف ولهذا قال سبحانه فَغَوى أي خاب من نعيم الجنة لأن الرشد هو أن يتوصل بشيء إلى شيء فيصل إلى المقصود والغي ضده، وأنه سعى في طلب الخلود فنال ضد المقصود. وعن بعضهم فَغَوى أي بشم من كثرة الأكل وزيفه جار الله. ورد قول أبي مسلم بأن مصالح الدنيا تكون مباحة فلا يوصف تاركها بالعصيان.
قلت: في هذا نظر، والأحوط في هذا الباب أن يعتقد كون هذه الواقعة قبل النبوة بدليل قوله: ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ أي اختاره للرسالة وَهَدى لحفظ أسباب العصمة. أصل الاجتباء هو الجمع كما مر في آخر «الأعراف». يروى عن أبي أمامة: لو وزنت أحلام بني آدم لرجح حلمه. وقد قال الله تعالى: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً قال العلماء: فيه دليل على أنه لا رادّ لقضائه وما قدره كائن لا محالة، وإذا جاء القضاء عمي البصر والدليل قد يكون في غاية الظهور ومع ذلك يخفى على أعقل الناس كما خفي على آدم عداوة إبليس، وأنه تعرّض لسخط الله في شأنه حين امتنع من سجوده فكيف قبل منه وسوسة لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ [الأنفال: ٦٨] قال المحققون: الأولى أن لا يطلق لفظ العاصي والغاوي على آدم عليه السلام وإن ورد في القرآن وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى لأنه لم تصدر عنه الزلة إلا مرة واحدة، وصيغة اسم الفاعل تنبىء عن المزاولة، ولأن المسلم إذا تاب عن الشرب أو الزنا وحسنت توبته لا يقال له شارب وزان، ولأن السيد يجوز له أن يشتم عبده بما شاء وليس لغيره ذلك. قالَ اهْبِطا قد مر تفسير مثله في «البقرة» خاطبهما بالهبوط لأنهما أصلا
578
البشر ثم عم الخطاب لهما ولذريتهما في قوله فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ أما قوله: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فقد قال القاضي: يكفي في توفية هذا الظاهر حقه أن يكون إبليس والشياطين أعداء الناس والناس أعداء لهم، فإذا انضاف إلى ذلك عداوة بعض الفريقين لبعض لم يمتنع دخوله في الكلام. عن ابن عباس: ضمن الله لمن اتبع القرآن أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ثم تلا قوله: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى والسبب فيه أن العقاب في الآخرة لأجل أنه قد ضل عن الدين في مدة التكليف، واتباع كتاب الله يستلزم عدم الضلال عن الدين المستتبع للنجاة من العقاب في الآخرة. وأما الشقاء الذي قد يلحق المؤمن في الدنيا فلا اعتداد به لقصر مدته على أن الرضا بالقضاء يهوّن عليه مصائب الدنيا وآفاتها. ثم ذكر وعيد من أعرض عن ذكره ظاهر الكلام يدل على أن الذكر هاهنا هو الهدى المذكور لأن قوله: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي في مقابلة قوله: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ. وقد مر في أول «البقرة» أن المراد به الشريعة والبيان. وقال كثير من المفسرين: إن الذكر هو القرآن وسائر كتب الله وفيه نوع تخصيص. والضنك الضيق مصدر وصف به. ولهذا استوى فيه المذكر والمؤنث. يقال: منزل ضنك ومعيشة ضنك كأنه قيل: ذات ضنك.
قالت الحكماء: عيش الدنيا ضنك ضيق لانقضائه وقصر مدّته وكثرة شوائبه، وإنما العيش الواسع عيش الآخرة. وهذا الضيق المتوعد به إما في الدنيا أو في القبر أو في الآخرة مال إلى كل طائفة. أما الأول فلأن المسلم الراضي بقضاء ربه معه من التسليم والتوكل والقناعة ما يعيش به عيشا رافغا. والمعرض عن الدين متول عليه الحرص والشح فلا ينفك عن الانقباض ولطموح ما ليس يناله من الفراغ والرفاغ الكلي فلا هم له إلا هم الدنيا. عن ابن عباس: المعيشة الضنك هي أن يضيق عليه أبواب الخير فلا يهتدي لشيء منها، ومن الكفرة من ضربت عليه الذلة والمسكنة. وسئل الشبلي
عن قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم أهل البلاء فاسألوا الله العافية»
فقال: أهل البلاء هم أهل الغفلات عن الله تعالى فعقوبتهم أن يردهم الله تعالى إلى أنفسهم وأيّ معيشة أضيق وأشد من أن يرد الإنسان إلى نفسه. قلت: التحقيق أن بعض البليات من العقوبات فطلب العافية منها لازم، وبعضها لمزيد الدرجات ولكن الإنسان خلق ضعيفا فكثيرا ما يؤل أمر المبتلي إلى الجزع والفزع فيحرم الثواب فتطلب العافية من هذا القسم أيضا خوفا من المآل. وأما الثاني
فعن ابن مسعود وأبي سعيد الخدري ورفعه أبو هريرة إلى النبي ﷺ أنه: «عذاب القبر للكافر»
وعن ابن عباس أن الآية نزلت في الأسود بن عبد الله المخزومي والمراد ضغطة القبر تختلف فيه أضلاعه. وأما الثالث فعن الحسن وقتادة والكلبي أنه ضيق
579
في الآخرة وفي جهنم، وأن طعامهم فيها الضريع والزقوم والحميم والغسلين، فلا يموتون فيها ولا يحيون.
أما قوله: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى كقوله: وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً [طه: ١٠٢] فيمن فسر الزرق بالعمى وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً [الإسراء: ٩٧] وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى [الإسراء: ٧٢] قال الجبائي: أراد أنه لا يهتدي يوم القيامة إلى طريق ينال منه خيرا كالأعمى. وعن مجاهد والضحاك ومقاتل أنه أراد أعمى عن الحجة وهي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس: قال القاضي: هذا القول ضعيف لأنه لا بد في القيامة أن يعلمهم الله تعالى بطلان ما كانوا عليه بتمييزه لهم الحق من الباطل، ومن هذه حاله لا يوصف بذلك إلا مجازا باعتبار ما كان، لكن قوله: وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً ينافيه. قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله: ومما يؤكد هذا الاعتراض أنه تعالى علل ذلك العمى بما أن المكلف نسي الدلائل في الدنيا، فلو كان العمى الحاصل في الآخرة عين ذلك النسيان لم يكن للمكلف بسبب ذلك ضرر كما في الدنيا. قال: والتحقيق في الجواب عن الاعتراض هو أن النفوس الجاهلة في الدنيا إذا فارقت أبدانها تبقى على جهالتها في الآخرة فتصير تلك الجهالة سببا لأعظم الآلام الروحانية. وأقول على القاضي: يحتمل أن يكون مجازا باعتبار الغاية. فقد ينفي الشيء باعتبار عدم غايته وثمرته فلا ينافي كونه أعمى في الآخرة بهذا الاعتبار إعلام الله تعالى إياه الحجة، ولا كونه بصيرا في الدنيا كونه أعمى في الآخرة بالاعتبار المذكور لأن المعرض عن الدليل يشبه أن يكون كافرا معاندا، ويكون الغرض من الإعلام التوبيخ والإلزام يؤيده قوله تعالى في جوابه: كَذلِكَ أي مثل ذلك فعلت أنت. ثم فسر ذلك بقوله: أَتَتْكَ آياتُنا أي دلائلنا واضحة مستنيرة فَنَسِيتَها أي تركت العمل بها والقيام بموجبها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى تترك بلا فائدة النظر والاعتبار. وعلى الإمام الرازي: إنه لا يلزم من كون المكلف غير متضرر بنسيان الدلائل في الدنيا كونه غير متضرر به في الآخرة.
وأما قوله في الجواب المحقق بناء على قاعدة الحكيم إن جهل النفس يصير سببا لتعذيبها فإن كان منعا لقول المعتزلة إنه تعالى يعلم المكلف بطلان ما كان عليه في الدنيا فذاك لا يفتقر إلى العدول، وإن كان تسليما لقولهم فمن أين يتحمل الاعتراض هذا وقد رأيت في بعض الآثار أن أشد الناس عمى يوم القيامة هم الذين حفظوا القرآن ثم نسوه. دليله قوله تعالى: أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها اللهم اجعلني ممن يواظب على تلاوة كتابك حتى لا أنساه يوم ألقاك. وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ قيل: عصى ربه. والأظهر أنه أراد أشرك وكفر
580
بدليل قوله: وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ وهو الحشر على العمى أَشَدُّ وَأَبْقى من ضيق المعيشة في العاجل أو أراد، وتركنا إياه في العمى أشد وأبقى من تركه لآياتنا.
ثم وبخ المعرضين عن الدلائل بعدم الاعتبار بأحوال القرون الخالية فقال: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ بالفاء وفي السجدة بالواو، لأن الكلام هاهنا كالمتصل بقوله: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي وهناك كالمنفصل عن الإعراض لأنه قال: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها [السجدة: ٢٢]. وبعد ذلك أورد قصة موسى فناسب الاستئناف بالواو، وأما حذف من هاهنا وإثباته هنالك فلما مر من أن «من» تفيد الاستيعاب وهنالك قد زاد في القرون بشرح قصة بني إسرائيل وما فيهم من الملوك والأنبياء. قال في الكشاف:
فاعل: أَفَلَمْ يَهْدِ الجملة بعده. وأنكر البصريون مثل هذا لأن الجملة لا تقع فاعلا فلهذا قال: يريد أو لم يهد لهم هذا المعنى أو مضمون هذا الكلام. قال القفال: جعل كثرة ما أهلك من القرون مبينا لهم. وقال الزجاج: أراد أو لم نبين لهم ما يهدون به لو تدبروا وتأملوا. وقيل: فيه ضمير الله أو الرسول والجملة بعده تفسره يريد أن قريشا يتقلبون في بلاد عاد وثمود ويمشون في مساكنهم ويعاينون آثار هلاكهم. والنهى العقول وقد مر في السورة. قال بعض أهل اللغة: إن للنبيه مزية على العقل فلا يقال إلا لمن له عقل ينتهي به عن القبائح فقوله: لِأُولِي النُّهى كقوله: أُولُوا الْعَزْمِ [الأحقاف: ٣٥] والحزم ومن هذا فسره بعضهم بأهل الورع والتقوى.
ثم بين الوجه الذي لأجله لا ينزل العذاب معجلا على من كذب من هذه الأمة فقال: وَلَوْلا كَلِمَةٌ هي العدة بتأخير جزائهم إلى الآخرة كتبها في اللوح المحفوظ وأخبر بها ملائكته ورسله لأن فيهم أو في نسلهم من يؤمن، أو لمصلحة أخرى خفية. قال أهل السنة: إنه بحكم المالكية له أن يفعل ما يشاء من غير علة. واللزام مصدر لازم وصف به.
وقيل: فعال لما يفعل به فهو بمعنى ملزم كأنه آلة اللزوم أي لَكانَ الأخذ العاجل لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى وهو عذاب الآخرة. وقيل: يوم بدر معطوف على كَلِمَةٌ وجوز في الكشاف أن يكون معطوفا على الضمير في كان. ولعله إنما جوز ذلك للفصل أي لكان الأخذ العاجل وأجل مسمى لازمين لهم كما كانا لازمين لعاد وثمود، ولم ينفرد الأجل المسمى دون الأخذ العاجل. وحين بين أنه لا يهلكهم بعذاب الاستئصال أمره بالصبر على ما يقولون من التكذيب وسائر الأذيات. زعم الكلبي ومقاتل أنها منسوخة بآية القتال وليس بذاك فإن كلا منهما معمول بها في موضعها وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي متلبسا بحمده على
581
أن وفقك للتسبيح وأعانك عليه، والأكثرون أنها بمعنى الصلاة ليكون كقوله: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة: ٤٥] ولأنه بين أوقاتها فقيل طلوع الشمس هو صلاة الفجر، وقبل غروبها صلاة الظهر والعصر لأنهما واقعتان في النصف الأخير من النهار وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ المغرب والعتمة. وقوله وَأَطْرافَ النَّهارِ أي في طرفيه فجمع للمبالغة وأمن الإلباس، أو لأن أقل الجمع اثنان. أو أراد طرفي كل نهار تكرار لصلاتي الفجر والعصر لا المغرب على ما ظن اعتناء بشأنهما كقوله وَالصَّلاةِ الْوُسْطى [البقرة: ٢٣٨] وآناء جمع «أنى» وهو الساعة وقد مر في «آل عمران». وإنما قدم آناء الليل وأدخل الفاء في فَسَبِّحْ المؤذنة بتلازم ما قبلها وما بعدها تنبيها على زيادة الاهتمام بشأن صلاة الليل، لأن الليل وقت السكون والراحة وهدوّ الأصوات فالصلاة فيه أشق على النفس وأدخل صلاة الظهر لأنه خصص قبل الغروب بصلاة العصر. ومنهم من زاد فيها النوافل لأن الآية صلاة الظهر لأنه خصص قبل الغروب بصلاة العصر. ومنهم من زاد فيها النوافل لأن الصلاة في الأوقات المذكورة تشملها والأمر قد يكون للندب لا أقل من التغليب. وقال أبو مسلم: الأقرب حمل التسبيح على التنزيه والإجلال كأنه لما أمره بالصبر على أذية القوم بعثه على الاشتغال بالتقديس والمواظبة عليه في كل الأوقات.
وقوله: لَعَلَّكَ تَرْضى كقوله: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الإسراء:
٧٩] وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [الضحى: هـ] ولا ريب أن الأطماع من الكريم واجب الوقوع اللهم ارزقنا شفاعته. ولما حث رسوله على الأمور الدينية نهاه عن الميل إلى الزخارف الدنيوية فقال: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ أي نظر عينيك. ومد النظر تطويله استحسانا للمنظور إليه، وفيه أن النظر الغير الممدود معفوّ عنه كما لو نظر فغض. وقال أبو مسلم: المنهي عنه في الآية ليس هو التطويل وإنما هو الأسف أي لا تأسف على ما فاتك مما نالوا من حظ الدنيا.
قال أبو رافع: نزل ضيف بالنبي ﷺ فبعثني إلى يهوديّ يستقرضه فقال: لا أقرضه إلا برهن. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إني لأمين في السماء وإني لأمين في الأرض، أحمل إليه درعي الحديد فنزلت.
والأزواج الأصناف. وقيل: أي أشكالا وأشباها من الكفار لأنهم أشكال في الذهاب عن الصواب. وقد مر في آخر الحجر. ولقد شدد العلماء المتقون في وجوب غض البصر عن أبنية الظلمة وملابسهم ومراكبهم لأنهم اتخذوها لعيون النظارة. فالناظر إليها محصل لغرضهم فيكون إغراء لهم على اتخاذها. قال جار الله: انتصب زَهْرَةَ على الذم، أو
582
على تضمين متعنا بمعنى خولنا وأعطينا، أو على إبداله من محل بِهِ أو على إبداله من أَزْواجاً والتقدير ذوي زهرة وهي الزينة والبهجة. ومن قرأ بفتح الهاء فبمعناها أيضا أو هي جمع زاهر كأنهم لصفاء ألوانهم وظهور آثار النعومة عليهم زاهر وهذه الدنيا بخلاف ما عليه المؤمنون الصلحاء من شحوب الألوان والتقشف في الثياب. وقوله: لِنَفْتِنَهُمْ أي لنبلوهم كقوله: إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ [الكهف: ٧] وقيل:
لنعذبهم كقوله: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ [التوبة: ٥٥].
وقال الكلبي ومقاتل: لنشدد عليهم في التكليف لأن الاجتناب عن المعاصي مع القدرة يكون أشق على النفس. وَرِزْقُ رَبِّكَ هو ثواب الآخرة أو ما رزقت من الإسلام والنبوّة خَيْرٌ وَأَبْقى وقيل: أراد به الحلال الطيب الذي يحق أن ينسب إلى ربك خير من أموالهم التي غلب عليها الغصب والسرقة وسائر وجوه الخيانة، وأبقى بركة ونماء وحسن عاقبة. وَأْمُرْ أَهْلَكَ في سورة مريم وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ [الآية: ٥٥] أي أقبل أنت مع أهلك على عبادة الله. ومن السلف من كان إذا أصاب أهله خصاصة قال: قوموا فصلوا بهذا أمر الله رسوله ثم يتلو هذه الآية. وعن عروة بن الزبير أنه كان إذا رأى ما عند السلاطين قرأ وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ الآية. ثم ينادي الصلاة الصلاة رحمكم الله.
وكان رسول الله ﷺ بعد نزول هذه الآية يذهب إلى فاطمة وعليّ كل صباح ويقول: الصلاة وكان يفعل ذلك شهرا.
وقوله: وَاصْطَبِرْ عَلَيْها أراد أنك كما تأمرهم بها فحافظ عليها فإن الوعظ بلسان الفعل أثم منه بلسان القول لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً كما يريد الملوك خراجا من رعيتهم والسادة خرجا من عبيدهم بل نَحْنُ نَرْزُقُكَ كقوله: وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات: ٥٧- ٥٨] والحاصل أنا إنما أمرناك بالصلاة فذلك لأجل انتفاعك بثوابها لا لأنا ننتفع بها. وقيل: لا نسألك رزقا لنفسك ولا لأهلك بل نحن نرزقك وإياهم فلا تهتم بأمر الرزق والمعيشة وفرغ بالك لأمر الآخرة وفي معناه قولهم «من كان في عمل الله كان الله في عمله». وقال أهل الإشارة وَرِزْقُ رَبِّكَ رمز إلى
قوله «أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» «١»
قال عبد الله بن سلام: كان النبي ﷺ إذا نزل بأهله ضيق أو شدة أمرهم بالصلاة.
وَالْعاقِبَةُ أي الجميلة لِلتَّقْوى.
(١) رواه البخاري في كتاب التمني باب: ٩. مسلم في كتاب الصيام حديث ٥٧. الموطأ في كتاب الصيام حديث ٥٨. أحمد في مسنده (٣/ ٨).
583
ثم عاد إلى قوله: فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ فحكى واحدة من شبهاتهم هي قولهم:
لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ كأنهم لم يتعدّوا بالقرآن الذي أخرس شقاشقهم فرد الله عليهم بقوله: أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى لأن القرآن برهان سائر الكتب المنزلة لأنه معجز دونها فهو شاهد لها بالصحة وأنها من عند الله. وقيل: أراد بالبينة ما فيها من بشارة مقدم محمد صلى الله عليه وسلم. وعن ابن جرير أنه ما رأوا فيها من قصص الأمم المكذبة وبيان إهلاكهم بعد اقتراح الآيات وإنما أتاهم هذا البيان في القرآن فلهذا وصف القرآن بكونه بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى ثم بين الحكمة في نزول القرآن فقال: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل البرهان المذكور الدال عليه البينة لَقالُوا أي في القيامة لأن الهالك لا قول له في الدنيا.
وعن أبي سعيد الخدري أن النبي ﷺ قال: «يحتج على الله تعالى يوم القيامة ثلاثة: الهالك في الفترة يقول لم يأتني رسول وإلا كنت أطوع خلقك» وتلا قوله: «لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا والمغلوب على عقله يقول لم تجعل لي عقلا أنتفع به. ويقول الصبي: كنت صغيرا أعقل. فيرفع لهم نار ويقال لهم ادخلوها فيدخلها من كان في عالم الله أنه سعيد ويتلكأ من كان في علمه أنه شقى. فيقول الله تعالى: عصيتم اليوم فكيف برسولي لو أتاكم؟!».
وطعن المعتزلة في هذا الخبر قالوا: لا يحسن العقاب على ما لم يفعل. وقال الجبائي: في الآية دلالة على وجوب فعل اللطف والمراد أنه يجيب أن يفعل بالمكلفين ما يؤمنون عنده وإلا كان لهم أن يقولوا: هلا فعلت ذلك بنا لنؤمن. وقال الكعبي: فيها أوضح دليل على أنه تعالى يقبل الاحتجاج من عباده. وليس معنى قوله: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ [الأنبياء: ٢٣] أن الجور منه يكون عدلا بل تأويله أنه لا يقع منه إلا العدل. وإذا ثبت أنه تعالى يقبل الحجة فلو لم يكونوا قادرين على ما أمروا به لكان لهم فيه أعظم حجة. واستدل أهل السنة بها على أن الوجوب لا يتحقق إلا بالشرع وإلا لكان العقاب حاصلا قبل مجيئه. ثم ختم السورة بوعيد إجمالي فقال: قُلْ كُلٌّ أي كل منا ومنكم مُتَرَبِّصٌ عاقبة أمره وهذا الانتظار إما قبل الموت بسبب الأمر بالجهاد أو ظهور الدولة والغلبة، أو بالموت فإن كان واحد من الخصمين ينتظر موت صاحبه، وإما بعد الموت وهو ظهور أثر الثواب والعقاب وتمييز المحق والمبطل ويؤيده قوله: فَسَتَعْلَمُونَ إلى آخره وهذا من كلام المنصف وبالله المستعان. (تم).
تم الجزء السادس عشر وبه يتم المجلد الرابع من تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان للعلامة نظام الدين النيسابوري، ويليه المجلد الخامس، وأوله تفسير سورة الأنبياء
584
الفهرس
فهرس المجلد الرابع من تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان
585
تفسير سورة هود الآيات: ١- ٢٤ ٣ الآيات: ٢٥- ٤٩ ١٦ الآيات: ٥٠- ٦٨ ٣٠ الآيات: ٦٩- ٨٣ ٣٥ الآيات: ٨٤- ١٠٢ ٤٣ الآيات: ١٠٣- ١٢٣ ٤٩ تفسير سورة يوسف الآيات: ١- ٢٠ ٦٢ الآيات: ٢١- ٣٥ ٧٤ الآيات: ٣٦- ٥٣ ٨٧ الآيات: ٥٤- ٦٨ ٩٩ الآيات: ٦٩- ٨٣ ١٠٨ الآيات: ٨٤- ١٠٢ ١١٦ الآيات: ١٠٣- ١١١ ١٣٠ تفسير سورة الرعد الآيات: ١- ١١ ١٣٥ الآيات: ١٢- ٢٩ ١٤٦ الآيات: ٣٠- ٤٣ ١٥٩ تفسير سورة إبراهيم الآيات: ١- ١٧ ١٦٩ الآيات: ١٨- ٣٤ ١٨٥ الآيات: ٣٥- ٥٢ ١٩٧
587
تفسير سورة الحجر الآيات: ١- ٥٠ ٢٠٧ الآيات: ٥١- ٩٩ ٢٢٦ تفسير سورة النحل الآيات: ١- ٢٣ ٢٣٩ الآيات: ٢٤- ٤٢ ٢٥٥ الآيات: ٤٣- ٦٠ ٢٦٣ الآيات: ٦١- ٧٠ ٢٧٣ الآيات: ٧١- ٨٣ ٢٨٦ الآيات: ٨٤- ١٠٠ ٢٩٥ الآيات: ١٠١- ١٢٨ ٣٠٦ تفسير سورة الإسراء الآيات: ١- ٢١ ٣٢١ الآيات: ٢٢- ٤٠ ٣٣٧ الآيات: ٤١- ٦٠ ٣٥٢ الآيات: ٦١- ٧٢ ٣٦٤ الآيات: ٧٣- ٨٩ ٣٧٢ الآيات: ٩٠- ١١١ ٣٨٩ تفسير سورة الكهف الآيات: ١- ٢٦ ٤٠١ الآيات: ٢٧- ٤٦ ٤٢٦ الآيات: ٤٧- ٥٩ ٤٣٥ الآيات: ٦٠- ٨٢ ٤٤٢ الآيات: ٨٣- ١١٠ ٤٥٦ تفسير سورة مريم الآيات: ١- ١٥ ٤٦٦ الآيات: ١٦- ٤٠ ٤٧٥ الآيات: ٤١- ٦٥ ٤٨٩ الآيات: ٦٦- ٩٨ ٥٠٠
588
تفسير سورة طه الآيات: ١- ٣٦ ٥١٣ الآيات: ٣٧- ٧٦ ٥٤٢ الآيات: ٧٧- ١١٤ ٥٦١ الآيات: ١١٥- ١٣٥ ٥٧٦
589
Icon