تفسير سورة طه

زاد المسير
تفسير سورة سورة طه من كتاب زاد المسير في علم التفسير المعروف بـزاد المسير .
لمؤلفه ابن الجوزي . المتوفي سنة 597 هـ
سورة طه
وهي مكية كلها بإجماعهم.

سورة طه

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة طه (٢٠) : الآيات ١ الى ٨]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طه (١) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (٣) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (٤)
الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (٦) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (٧) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (٨)
وهي مكية كلُّها باجماعهم. وفي سبب نزول طه ثلاثة أقوال:
(٩٦٩) أحدها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يراوح بين قدميه، يقوم على رِجْل، حتى نزلت هذه الآية، قاله عليّ رضي الله عنه.
(٩٧٠) والثاني: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم لمّا نزل عليه القرآن صلَّى هو وأصحابه فأطال القيام، فقالت قريش: ما أنزل هذا القرآن على محمد إِلا ليشقى، فنزلت هذه الآية، قاله الضحاك.
والثالث: أن أبا جهل، والنضر بن الحارث، والمطعم بن عدي، قالوا يا رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إِنك لتشقى بترك ديننا، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل «١».
وفي «طه» قراءات. قرأ ابن كثير، وابن عامر: «طَهَ» بفتح الطاء والهاء. وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: بكسر الطاء والهاء. وقرأ نافع: «طه» بين الفتح والكسر، وهو إِلى الفتح أقرب كذلك قال خلف عن المسيّبي. وقرأ أبو عمرو: بفتح الطاء وكسر الهاء وروى عنه عباس مثل حمزة.
وقرأ ابن مسعود، وأبو رزين العقيلي، وسعيد بن المسيب، وأبو العالية: بكسر الطاء وفتح الهاء. وقرأ الحسن «طَهْ» بفتح الطاء وسكون الهاء، وقرأ الضّحّاك، ومورّق العجلي: «طِهْ» بكسر الطاء وسكون الهاء. واختلفوا في معناها على أربعة أقوال «٢» : أحدها: أن معناها: يا رجل، رواه العوفيّ عن ابن
أخرجه البزار ٢٢٣٢ «كشف» وقال الهيثمي في «المجمع» ١١١٦٥: فيه يزيد بن بلال. قال البخاري: فيه نظر. وكيسان بن عمرو، وثقه ابن حبان، وضعفه ابن معين، وبقية رجاله رجال الصحيح اه. فالخبر غير قوي، وهو إلى الضعف أقرب. وانظر «تفسير الشوكاني» ١٥٩١ بتخريجنا.
واه بمرة. أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» ٦١٤ عن الضحاك مرسلا، ومع إرساله مراسيل الضحاك واهية، والراوي عنه جويبر بن سعيد، وهو متروك الحديث، فالخبر لا شيء.
__________
(١) باطل. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٦١٣ عن مقاتل بدون سند، ومقاتل متهم، والمتن باطل.
(٢) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٨/ ٣٩٠: والذي هو أولى بالصواب عندي من الأقوال فيه: قول من قال:
معناه: يا رجل، لأنها كلمة معروفة في عكّ فيما بلغني، وأن معناها فيهم: يا رجل.
150
عباس، وبه قال الحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة واختلف هؤلاء بأيِّ لغة هي، على أربعة أقوال: أحدها: بالنبطيّة، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير في رواية، والضحاك. والثاني: بلسان عكّ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: بالسريانية، قاله عكرمة في رواية، وسعيد بن جبير في رواية، وقتادة. والرابع: بالحبشية، قاله عكرمة في رواية. قال ابن الأنباري:
ولغة قريش وافقت هذه اللغة في المعنى. والثاني: أنها حروف من أسماء. ثم فيها قولان: أحدهما:
أنها من أسماء الله تعالى. ثم فيها قولان: أحدهما: أن الطاء من اللطيف، والهاء من الهادي، قاله ابن مسعود، وأبو العالية، والثاني: أن الطاء افتتاح اسمه «طاهر» و «طيِّب» والهاء افتتاح اسمه «هادي» قاله سعيد بن جبير. والقول الثاني: أنها من غير أسماء الله تعالى. ثم فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن الطاء من طابة وهي مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، والهاء من مكة، حكاه أبو سليمان الدمشقي. والثاني: أن الطاء: طرب أهل الجنة، والهاء: هوان أهل النار. والثالث: أن الطاء في حساب الجُمل تسعة، والهاء خمسة، فتكون أربعة عشر. فالمعنى: يا أيها البدر ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى، حكى القولين الثعلبي.
والثالث: أنه قَسَم أقسم الله به، وهو من أسمائه، رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس. وقد شرحنا معنى كونه اسماً في فاتحة (مريم). وقال القرظي: أقسم الله بطوله وهدايته وهذا القول قريب المعنى من الذي قبله. والرابع: أن معناه: طأِ الأرض بقدميك، قاله مقاتل بن حيّان. ومعنى قوله تعالى لِتَشْقى: لتتعب وتبلغ من الجهد ما قد بلغتَ، وذلك أنه اجتهد في العبادة وبالغ، حتى إنه كان يرواح بين قدميه لطول القيام، فأُمر بالتخفيف.
قوله تعالى: إِلَّا تَذْكِرَةً قال الأخفش: هو بدل من قوله تعالى: لِتَشْقى ما أنزلناه إِلا تذكرةً، أي: عظةً. قوله تعالى: تَنْزِيلًا قال الزجاج: المعنى: أنزلناه تنزيلا، والْعُلى جمع العُلَيا، تقول: سماء عُلْيا، وسماوات عُلَى، مثل الكُبرى، والكُبَر، فأما «الثرى» فهو التراب النديّ، والمفسرون يقولون: أراد الثرى الذي تحت الأرض السابعة.
قوله تعالى: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ أي: ترفع صوتك فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ والمعنى: لا تجهد نفسك برفع الصوت، فإن الله يعلم السرّ. وفي المراد ب «السِّرَّ وأخفى» خمسة أقوال «١» : أحدها: أن السرّ: ما أسره الإِنسان في نفسه، وأخفى: ما لم يكن بَعْدُ وسيكون، رواه جماعة عن ابن عباس، وبه قال الضحاك. والثاني: أن السرّ: ما حدَّثتَ به نفسك، وأخفى: ما لم تلفظ به، قاله سعيد بن جبير.
والثالث: أن السرّ: العمل الذي يُسِرُّه الإِنسان من الناس، وأخفى منه: الوسوسةُ، قاله مجاهد.
والرابع: أن معنى الكلام: يعلم إِسرار عباده وقد أخفى سرَّه عنهم فلا يُعْلَم، قاله زيد بن أسلم، وابنه.
والخامس: يعلم ما أسرَّه الإِنسان إِلى غيره، وما أخفاه في نفسه، قاله الفراء. قوله تعالى: لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى قد شرحناه في سورة الأعراف «٢».
(١) قال الطبري رحمه الله ٨/ ٣٩٤: والصواب من القول في ذلك، معناه: يعلم السرّ وأخفى من السر، لأن ذلك هو الظاهر من الكلام. فإنه يعلم السر وأخفى من السر وهو ما علم الله مما أخفى عن عباده ولم يعلموه مما هو كائن ولم يكن.
(٢) سورة الأعراف: ١٨٠.
151

[سورة طه (٢٠) : الآيات ٩ الى ١٦]

وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (١٠) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٢) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (١٣)
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (١٤) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (١٥) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (١٦)
قوله تعالى: وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) هذا استفهام تقرير، ومعناه: قد أتاك. قال ابن الأنباري: وهذا معروف عند اللغويين أن تأتي «هل» معبرة عن «قد».
(٩٧١) فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو أفصح العرب: «اللهم هل بلَّغتُ»، يريد: قد بلَّغت.
قال وهب بن منبِّه: استأذن موسى شعيباً عليهما السلام في الرجوع إِلى والدته، فأذن له، فخرج بأهله، فوُلد له في الطريق في ليلة شاتية، فقدح فلم يور الزّناد، فبينا هو في مزاولته ذلك، أبصر ناراً من بعيد عن يسار الطريق وقد ذكرنا هذا الحديث بطوله في كتاب «الحدائق» فكرهنا إِطالة التفسير بالقصص، لأن غرضنا الاقتصار على التفسير ليسهل حفظه، قال المفسرون: رأى نوراً، ولكن أخبر بما كان في ظن موسى. فَقالَ لِأَهْلِهِ يعنى: امرأته امْكُثُوا اي: أقيموا مكانكم وقرأ حمزة: «لأَهْلِهُ امكثوا» بضمّ الهاء ها هنا وفي القصص «١» إِنِّي آنَسْتُ ناراً قال الفراء: إِني وجدت، يقال: هل آنستَ أحداً، أي: وجدتَ؟ وقال ابن قتيبة: «آنستُ» بمعنى أبصرتُ. فأما القَبَس، فقال الزجاج: هو ما أخذته من النار في رأس عود أو في رأس فتيلة.
قوله تعالى: أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً قال الفراء: أراد: هادياً، فذكره بلفظ المصدر، قال ابن الأنباري: يجوز أن تكون «على» ها هنا بمعنى «عند»، وبمعنى «مع»، وبمعنى الباء. وذكر أهل التّفسير أنه كان قد ضلّ عن الطريق، فعلم أن النار لا تخلو من مُوقِد. وحكى الزجاج: أنه ضل عن الماء، فرجا أن يجد من يهديه الطريق أو يدلّه على الماء.
قوله تعالى: فَلَمَّا أَتاها يعني: النار نُودِيَ يا مُوسى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ إنما كرّر الكناية، لتوكيد
صحيح. أخرجه البخاري ٩٢٥ و ٢٥٩٧ و ٦٦٣٦ و ٧١٧٤ ومسلم ١٨٣٢ وأبو داود ٢٩٤٦ والحميدي ٨٤٠ وأحمد ٥/ ٤٢٣- ٤٢٤ من طرق عن الزهري عن عروة عن أبي حميد وهو بعض حديث.
وأخرجه البخاري ٦٩٧٩ و ٧١٩٧ ومسلم ١٨٣٢ ح ٢٧ و ٢٨ والحميدي ٨٤٠ والشافعي ١/ ٢٤٧ من طرق عن هشام بن عروة، عن عروة به، وأتم. وأخرجه البغوي ١٥٦٢ والشافعي ١/ ٢٤٦- ٢٤٧ والبيهقي ٧/ ١٦ و ١٠/ ١٣٨ عن الزهري عن عروة بن الزبير عن أبي حميد الساعدي قال: استعمل النبي صلى الله عليه وسلّم رجلا من الأزد يقال له ابن الأتبية على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي لي. قال: «فهلا جلس في بيت أبيه- أو بيت أمه- فينظر يهدى إليه أم لا؟ والذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منكم شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيرا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر» ثم رفع بيده حتى رأينا عفرة إبطيه «اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت» ثلاثا.
__________
(١) سورة القصص: ٢٩.
152
الدلالة وتحقيق المعرفة وإِزالة الشبهة، ومثله: إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ «١». قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر: «أَنِّيَ» بفتح الألف والياء. وقرأ نافع وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي:
«إِنِّي» بكسر الألف، إِلا أن نافعاً فتح الياء، قال الزجاج: من قرأ: «أَنِّي أنا» بالفتح، فالمعنى: نودي بأني أنا ربك، ومن قرأ بالكسر، فالمعنى: نودي يا موسى، فقال الله: إِنِّي أنا ربُّك. قوله تعالى:
فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ في سبب أمره بخلعهما قولان:
(٩٧٢) أحدهما: أنهما كانا من جلدِ حمارٍ ميت، رواه ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم وبه قال عليّ بن أبي طالب، وعكرمة.
والثاني: أنهما كانا من جلد بقرة ذُكِّيتْ، ولكنه أُمر بخلعهما ليباشر تراب الأرض المقدسة، فتناله بركتها، قاله الحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة.
قوله تعالى: إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ فيه قولان قد ذكرناهما في سورة المائدة «٢» عند قوله تعالى:
الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ. قوله تعالى: طُوىً قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: «طُوى، وأنا» غير مُجْراة. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «طُوىً» مُجْراة وكلُّهم ضم الطاء، وقرأ الحسن وأبو حيوة: «طِوىً» بكسر الطاء مع التنوين، وقرأ عليّ بن نصر عن أبي عمرو: «طِوى» بكسر الطاء من غير تنوين. قال الزجاج: في «طُوى» أربعة أوجه. طُوى، بضم أوَّله من غير تنوين وبتنوين. فمن نوَّنه، فهو اسم للوادي. وهو مذكَّر سمي بمذكَّر على فُعَلٍ نحو حُطَمٍ وصُرَدٍ، ومن لم ينوِّنه ترك صرفه من جهتين: إِحداهما: أن يكون معدولاً عن طاوٍ، فيصير مثل «عُمَرَ» المعدول عن عامر، فلا ينصرف كما لا ينصرف «عُمَر». والجهة الثانية: أن يكون اسماً للبقعة، كقوله: فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ «٣»، وإِذا كُسِر ونوِّن فهو مثل مِعىً. والمعنى: المقدَّس مَرَّة بعد مَرَّة كما قال عدي بن زيد:
أَعاذِلَ، إِنَّ اللَّومَ في غَيْرِ كُنْهِهِ عليَّ طوىً مِن غَيِّك المُتَردِّد
أي: اللوم المكرَّر عليَّ ومن لم ينوِّن جعله اسماً للبقعة.
وللمفسرين في معنى «طوىً» ثلاثة أقوال: أحدها: أنه اسم الوادي، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: أن معنى «طوى» : طأِ الوادي، رواه عكرمة عن ابن عباس، وعن مجاهد كالقولين.
والثالث: أنه قدِّس مرتين، قاله الحسن وقتادة.
قوله تعالى: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ أي: اصطفيتُك، وقرأ حمزة، والمفضل: «وأنّا» بالنون المشدّدة
ضعيف جدا. أخرجه الترمذي ١٧٣٤ والطبري ٢٤٠٣٨ والحاكم ٢/ ٣٧٩ والذهبي في «الميزان» ١/ ٦١٥ من طرق عن حميد بن عبد الله الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن ابن مسعود مرفوعا. صححه الحاكم على شرط البخاري! وتعقبه الذهبي بقوله: بل ليس على شرط البخاري وإنما غرّه أن في الإسناد حميد بن قيس كذا، وهو خطأ. إنما هو حميد الأعرج الكوفي ابن علي أو ابن عمارة، أحد المتروكين. فظنه المكي الصادق.
وقال الترمذي: غريب، وحميد هو ابن علي، سمعت محمدا- البخاري- يقول: منكر الحديث. ونقل الذهبي في «الميزان» ١/ ٦١٥ عن ابن حبان قوله: روى عن ابن مسعود نسخة كأنها موضوعة.
__________
(١) سورة الحجر: ٨٩.
(٢) سورة المائدة: ٢١.
(٣) سورة القصص: ٣٠.
153
«اخترناكَ» بألف. فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى أي: للذي يوحى، قال ابن الأنباري: الاستماع ها هنا محمول على الإِنصات. المعنى: فأنصت لوحيي، والوحي ها هنا قوله: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي أي: وحِّدني، وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي فيه قولان: أحدهما: أقم الصلاة متى ذكرتَ أن عليكَ صلاةً، سواء كنتَ في وقتها أو لم تكن، هذا قول الأكثرين.
(٩٧٣) وروى أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «من نسي صلاة فليصلها إِذا ذكرها، لا كفارة لها غير ذلك، وقرأ: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي».
والثاني: أقم الصلاة لتَذْكُرَني فيها، قاله مجاهد: وقيل: إِن الكلام مردود على قوله: فَاسْتَمِعْ، فيكون المعنى: فاستمع لما يوحى، واستمع لذِكْري. وقرأ ابن مسعود، وأُبيُّ بن كعب، وابن السميفع:
«وأقم الصلاة للذِّكْرى» بلامين وتشديد الذال.
قوله تعالى: أَكادُ أُخْفِيها أكثر القراء على ضم الألف. ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال «١» :
أحدها: أكاد أخفيها من نفسي، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد في آخرين. وقرأ ابن مسعود وأُبيّ بن كعب، ومحمد بن عليّ: أكاد أخفيها من نفسي، قال الفراء: المعنى: فكيف أُظهركم عليها؟
قال المبرِّد: وهذا على عادة العرب، فإنهم يقولون إِذا بالغوا في كتمان الشيء: كتمتُه حتى مِنْ نَفْسي، أي: لم أُطلع عليه أحداً. والثاني: أن الكلام تم عند قوله: «أكاد»، وبعده مضمر تقديره: أكاد آتي بها والابتداء: أخفيها، قال ضابئ البرجمي:
هممت ولم أفعل وكدت «٢» أراد: كدتُ أفعل. والثالث: أن معنى «أكاد» : أريد، قال الشاعر:
كادَتْ وكِدْتُ وَتِلْكَ خَيْرُ إِرَادَةٍ لَوْ عَادَ مِنْ لَهْو الصَّبابَة مَا مَضَى «٣»
معناه: أرادت وأردتُ، ذكرهما ابن الأنباري.
فإن قيل: فما فائدة هذا الإِخفاء الشديد؟ فالجواب: أنه للتحذير والتخويف، ومن لم يعلم متى يهجم عليه عدوُّه كان أشد حذراً. وقرأ سعيد بن جبير، وعروة بن الزبير، وأبو رجاء العطاردي، وحميد بن قيس: «أَخفيها» بفتح الألف، قال الزجاج: ومعناه: أكاد أظهرها، قال امرؤ القيس:
وإن تَدفِنُوا الدَّاءَ لا نَخْفِهِ وإِنْ تَبْعَثُوا الحَرْبَ لا نقعد «٤»
صحيح. أخرجه البخاري ٥٩٧ و ٨٤٧ ومسلم ٦٨٤ وأبو داود ٤٤٢ والترمذي ١٧٨ والنسائي ٦١٤ وابن ماجة ٦٩٦ وأحمد ٣/ ٢٤٣ وأبو يعلى ٢٨٥٤ كلهم من حديث أنس.
__________
(١) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٨/ ٤٠٢: والذي هو أولى بتأويل الآية من القول، قول من قال: معناه:
أكاد أخفيها من نفسي لأن تأويل أهل التأويل بذلك جاء.
(٢) هو صدر بيت وتمامه:
هَمَمْتُ ولَم أَفْعَلْ وكِدْتُ ولَيْتَنِي تَرَكْتُ على عثمان تبكي حلائله
(٣) البيت غير منسوب في «اللسان» - كود-.
(٤) البيت في ديوانه ١٨٦ و «اللسان» - خفا-.
154
أي: إِن تدفنوا الداء لا نُظهره. قال: وهذه القراءة أَبْيَن في المعنى، لأن معنى «أكاد أُظهرها» قد أخفيتُها وكدت أُظهرها. لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى أي: بما تعمل. ولِتُجْزى متعلق بقوله: «إِن الساعة آتية» لتجزى، ويجوز أن يكون على «أقم الصلاة لذكري» لتجزى.
قوله تعالى: فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها أي: عن الإِيمان بها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها أي: من لا يؤمن بكونها والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلّم خطاب لجميع أُمَّته، وَاتَّبَعَ هَواهُ أي: مُراده وخالف أمر الله عزّ وجلّ، فَتَرْدى أي: فتَهلِك قال الزجاج: يقال: رَدِي يردى ردى: إذا هلك.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٧ الى ٢٣]
وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (١٧) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (١٨) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (١٩) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (٢٠) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (٢١)
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (٢٢) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (٢٣)
قوله تعالى: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ قال الزجاج: «تلك» اسم مبهم يجري مجرى «التي»، والمعنى: ما التي بيمينك؟ قوله تعالى: أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها التّوكّؤ: التّحامل على الشيء اليابس وَأَهُشُّ بِها قال الفراء: أضرب بها الشجر اليابس ليسقط ورقه فترعاه غنمي، قال الزجاج: واشتقاقه من أنّي أُحيل الشيء إِلى الهشاشة والإِمكان. والمآرب: الحاجات، واحدها: مَأْرُبَة، ومَأْرَبَة، وروى قتيبة، وورش: «مآرب» بامالة الهمزة. فإن قيل: ما الفائدة في سؤال الله تعالى له: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ وهو يعلم؟ فعنه جوابان: أحدهما: أن لفظه لفظ الاستفهام، ومجراه مجرى السؤال، يجيب المخاطَب بالإِقرار به، فتثبت عليه الحجة باعترافه فلا يمكنه الجحد، ومثله في الكلام أن تقول لمن تخاطبه وعندك ماء: ما هذا؟ فيقول: ماءٌ، فتضع عليه شيئاً من الصبغ، فإن قال: لم يزل هكذا، قلت له: ألست قد اعترفت بأنه ماء؟ فتثبت عليه الحجة، هذا قول الزجاج. فعلى هذا تكون الفائدة أنه قرَّر موسى أنها عصاً لمّا أراد أن يريَه من قدرته في انقلابها حيَّة، فوقع المُعْجِز بها بعد التثبت في أمرها. والثاني: أنه لما اطَّلع الله تعالى على ما في قلب موسى من الهيبة والإِجلال حين التكليم، أراد أن يؤانسه ويخفف عنه ثِقَل ما كان فيه من الخوف، فأجرى هذا الكلام للاستئناس، حكاه أبو سليمان الدمشقي. فإن قيل: قد كان يكفي في الجواب أن يقول: «هي عصاي» فما الفائدة في قوله: «أتوكَّأُ عليها» إِلى آخر الكلام، وإِنما يُشرح هذا لمن لا يعلم فوائدها؟ فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أنه أجاب بقوله: «هي عصاي» فقيل له: ما تصنع بها؟ فذكر باقي الكلام جواباً عن سؤال ثانٍ، قاله ابن عباس، ووهب. والثاني: أنه إِنما أظهر فوائدها، وبيَّن حاجته إِليها، خوفاً من أن يأمره بإلقائها كالنّعلين، قاله سعيد بن جبير. والثالث: أنه بيَّن منافعها لئلا يكون عابثاً بحملها، قاله الماوردي. فإن قيل: فلم اقتصر على ذِكْر بعض منافعها ولم يُطِل الشرح؟ فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أنه كره أن يشتغل عن كلام الله بتعداد منافعها. والثاني: أنه استغنى بعلم الله فيها عن كثرة التعداد. والثالث: أنه اقتصر على اللازم دون العارض. وقيل: كانت تضيء له بالليل، وتدفع عنه الهوام، وتثمر له إِذا اشتهى الثمار. وفي جنسها قولان: أحدهما: أنها كانت من آس الجنة، قاله ابن عباس. والثاني: أنها كانت من عوسج.
فإن قيل: المآرب جمع، فكيف قال: «أُخرى» ولم يقل: «أُخَر» ؟ فالجواب: أن المآرب في معنى جماعة، فكأنه قال: جماعة من الحاجات أُخرى، قاله الزجاج.
قوله تعالى: قالَ أَلْقِها يا مُوسى قال المفسرون: ألقاها، ظنّاً منه أنه قد أُمر برفضها، فسمع حِسّاً فالتفتَ فإذا هي كأعظم ثعبان تمر بالصخرة العظيمة فتبتلعها، فهرب منها.
وفي وجه الفائدة في إظهار هذه الآية ليلة المخاطبة قولان: أحدهما: لئلا يخاف منها إِذا ألقاها بين يدي فرعون. والثاني: ليريَه أن الذي أبعثك إِليه دون ما أريتك، فكما ذلَّلْتُ لك الأعظم وهو الحية، أُذلّلُ لكَ الأدنى.
ثم إِن الله تعالى أمره بأخذها وهي على حالها حيَّة، فوضع يده عَليها فعادت عصاً، فذلك قوله:
سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى قال الفرّاء: طريقتها، يقول: تردّها عصا كما كانت، قال الزّجّاج:
«وسيرتها» منصوبة على إِسقاط الخافض وإِفضاء الفعل إِليها، المعنى: سنُعيدها إِلى سيرتها.
فإن قيل: إِنما كانت العصا واحدة، وكان إِلقاؤها مَرَّة، فما وجه اختلاف الأخبار عنها، فإنه يقول في الأعراف: فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ «١»، وها هنا: «حية» وفي مكان آخر: كَأَنَّها جَانٌّ «٢» ليست بالعظيمة، والثعبان أعظم الحيات؟ فالجواب: أن صفتها بالجان عبارة عن ابتداء حالها، وبالثعبان إِخبار عن انتهاء حالها، والحيّة اسم يقع على الصغير والكبير والذكر والأنثى. وقال الزجاج: خَلْقُها خَلْق الثعبان العظيم، واهتزازها وحركتها وخِفَّتها كاهتزاز الجانِّ وخِفَّته.
قوله تعالى: وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ قال الفراء: الجناح من أسفل العَضُد إِلى الإِبط.
وقال أبو عبيدة: الجناح ناحية الجَنْب، وأنشد:
أَضُمُّهُ للصَّدْر والجَنَاحِ قوله تعالى: تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أي: من غير بَرَص آيَةً أُخْرى أي: دلالة على صدقك سوى العصا. قال الزجاج: ونصب «آيةً» على معنى: آتيناك آية، أو نؤتيك.
قوله تعالى: لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى. إِن قيل: لِمَ لم يقل: «الكُبَر» ؟ فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها:
أنه كقوله: مَآرِبُ أُخْرى وقد شرحناه، هذا قول الفراء. والثاني: أن فيه إِضماراً تقديره: لنريك من آياتنا الآية الكبرى. وقال أبو عبيدة: فيه تقديم وتأخير، تقديره: لنريك الكبرى من آياتنا. والثالث: أنه إنما كان ذلك لوفاق الآي، حكى القولين الثّعلبيّ.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٢٤ الى ٣٥]
اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٢٤) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨)
وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣)
وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (٣٤) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (٣٥)
قوله تعالى: إِنَّهُ طَغى أي: جاوز الحدَّ في العصيان.
قوله تعالى: اشْرَحْ لِي صَدْرِي قال المفسرون: ضاق موسى صدراً بما كلِّف من مقاومة فرعون
(١) سورة الأعراف: ١٠٧.
(٢) سورة النمل: ٢٠. [.....]
وجنوده، فسأل الله تعالى أن يُوسِّع قلبه للحق حتى لا يخاف فرعونَ وجنوده. ومعنى قوله: وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي: سهِّل عليَّ ما بعثتَني له. وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي قال ابن قتيبة: كانت فيه رُتَّة «١» قال المفسرون: كان فرعون قد وضع موسى في حِجره وهو صغير، فجرَّ لحية فرعون بيده، فهمَّ بقتله، فقالت له آسية: إِنه لا يعقل، وسأُريك بيان ذلك، قدِّم إِليه جمرتين ولؤلؤتين، فإن اجتنب الجمرتين عرفت أنه يعقل، فأخذ موسى جمرة فوضعها في فيه فأحرقت لسانه وصار فيه عقدة، فسأل حَلَّها ليفهموا كلامه.
وأما الوزير، فقال ابن قتيبة: أصل الوِزَارة من الوِزْر وهو الحِمْلِ، كأن الوزير قد حمل عن السلطان الثِّقْل. وقال الزجاج. اشتقاقه من الوَزَر، والوَزَر: الجبل الذي يُعتصم به ليُنجى من الهلكة، وكذلك وزير الخليفة، معناه: الذي يعتمد عليه في أموره ويلتجئ إِلى رأيه. ونصب «هارون» من جهتين. إِحداهما: أن تكون «اجعل» تتعدى إِلى مفعولين، فيكون المعنى: اجعل هارون أخي وزيري، فينتصب «وزيراً» على أنه مفعولٌ ثانٍ. ويجوز أن يكون «هارون» بدلاً من قوله: وَزِيراً، فيكون المعنى: اجعل لي وزيراً من أهلي، ثم أبدل هارون من وزير والأول أجود. قال الماوردي: وإِنما سأل الله تعالى أن يجعل له وزيراً، لأنه لم يُرِد أن يكون مقصوراً على الوزارة حتى يكون شريكاً في النبوَّة، ولولا ذلك لجاز أن يستوزر من غير مسألة. وحرّك ابن كثير، وأبو عمرو بفتح ياء «أخيَ». قوله تعالى: اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي قال الفراء: هذا دعاء من موسى، والمعنى: اشْدُد به يا ربِّ أزري، وأَشْرِكه يا ربِّ في أمري. وقرأ ابن عامر: «أَشدد» بالألف مقطوعة مفتوحة، «وأشركه» بضمّ الألف، وكذلك يبتدئ بالأَلفين. قال أبو علي: هذه القراءة على الجواب والمجازاة، والوجه الدعاء دون الإِخبار، لأن ما قَبْله دعاء، ولأن الإِشراك في النبوَّة لا يكون إلّا من الله عزّ وجلّ. قال ابن قتيبة: والأَزْر: الظهر، يقال: آزرت فلاناً على الأمر، أي: قوَّيته عليه وكنت له فيه ظَهْراً. قوله تعالى: وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي أي:
في النبوَّة معي كَيْ نُسَبِّحَكَ أي: نصلّي لكَ وَنَذْكُرَكَ بألسنتنا حامدين لك على ما أوليتنا أي من نِعَمِكَ إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً أي: عالما إذ خصصتنا بهذه النّعم،
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٣٦ الى ٤٢]
قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (٣٦) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (٣٧) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (٣٩) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (٤٠)
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (٤٢)
قوله تعالى: قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ قال ابن قتيبة: أي: طَلِبَتَكَ، وهو «فُعْل» من «سَأَلْت»، أي:
أُعطيتَ ما سألتَ. قوله تعالى: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ أي: أنعمنا عليكَ مَرَّةً أُخْرى قبل هذه المَرَّة. ثم بيَّن متى كانت بقوله: إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى أي: ألهمناها ما يُلهم مما كان سببا لنجاتك، ثم فسّر
(١) في «اللسان» : الرّتّة بالضم: عجلة في الكلام، وقلة أناة، وقيل: هو أن يقلب اللام ياء.
157
ذلك بقوله: أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ وقذف الشيء: الرمي به. فإن قيل: ما فائدة قوله: لِما يُوحى وقد علم ذلك؟ فقد ذكر عنه ابن الأنباري جوابين: أحدهما: أن المعنى: أوحينا إِليها الشيء الذي يجوز أن يوحى إِليها، إِذ ليس كل الأمور يصلح وحيه إِليها، لأنها ليست بنبيّ، وذلك أنها أُلهمت. والثاني: أنّ لِما يُوحى أفاد توكيداً، كقوله: فَغَشَّاها ما غَشَّى «١».
قوله تعالى: فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ قال ابن الأنباري: ظاهر هذا الأمرُ، ومعناه معنى الخبر، تأويله: يلقيه اليمُّ، ويجوز أن يكون البحر مأموراً بآلة ركَّبها الله تعالى فيه، فسمع وعقل، كما فعل ذلك بالحجارة والأشجار. فأما الساحل، فهو: شط البحر. يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ يعني: فرعون. قال المفسرون:
اتخذت أُمُّه تابوتاً وجعلت فيه قطناً محلوجاً، ووضعت فيه موسى وأَحكمت بالقار شقوق التابوت، ثم ألقته في النيل، وكان يشرع منه نهر كبير في دار فرعون، فبينا هو جالس على رأس البركة مع امرأته آسية، إِذا بالتابوت، فأمر الغلمان والجواري بأخذه، فلما فتحوه رأَوا صبياً من أصبح الناس وجهاً فلما رآه فرعون أحبَّه حُبّاً شديداً، فذلك قوله: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي، قال أبو عبيدة: ومعنى «ألقيتُ عليكَ» أي: جعلتُ لكَ مَحَبَّة مِنّي. قال ابن عباس: أَحَبَّه وحبَّبَه إِلى خَلْقه، فلا يلقاه أحد إِلا أحبَّه من مؤمن وكافر. وقال قتادة: كانت في عينيه مَلاحة، فما رآه أحد إلّا أحبّه.
قوله تعالى: وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي وقرأ أبو جعفر: «ولْتُصنعْ» بسكون اللام والعين والإِدغام. قال قتادة: لتُغذى على محبتي وإِرادتي. قال أبو عبيدة: على ما أُريد وأُحِبّ. قال ابن الأنباري: هو من قول العرب: غُذي فلان على عيني، أي: على المَحَبَّة مِنّي. وقال غيره: لتُرَبَّى وتغذى بمرأىً مني، يقال:
صنع الرَّجل جاريته: إِذا ربَّاها وصنع فرسه: إِذا داوم على علفه ومراعاته، والمعنى: ولِتُصْنَعَ على عيني، قدَّرنا مشي أختك وقولها: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ لأن هذا كان من أسباب تربيته على ما أراد الله تعالى. فأما أُخته، فقال مقاتل: اسمها مريم. قال الفراء: وإِنما اقتصر على ذِكْر المشي، ولم يذكر أنها مشت حتى دخلت على آل فرعون فدلّتهم على الظّئر، لأنّ العرب تجتزئ بحذف كثير من الكلام، وبقليله، إِذا كان المعنى معروفاً، ومثله قوله: أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ «٢»، ولم يقل: فأُرسل حتى دخل على يوسف.
قال المفسرون: سبب مشي أُخته أن أُمَّه قالت لها: قُصِّيه، فاتَّبعت موسى على أثر الماء، فلما التقطه آل فرعون جعل لا يقبل ثدي امرأة، فقالت لهم أُخته: «هل أدُلُّكم على من يَكْفُلُه» أي: يُرْضِعه ويضمه إِليه، فقيل لها: ومن هي؟ فقالت: أُمي، قالوا: وهل لها لبن؟ قالت: لبن أخي هارون، وكان هارون أسنَّ من موسى بثلاث سنين، فأرسلوها، فجاءت بالأم فقبل ثديها، فذلك قوله تعالى:
فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ أي: رددناك إِليها كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها بك وبرؤيتك. وَقَتَلْتَ نَفْساً يعني: القبطي الذي وكره فقضى عليه، وسيأتي ذِكْره إِن شاء الله تعالى فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وكان مغموماً مخافةَ أن يُقْتَل به، فنجّاه الله بأن هرب إِلى مَدْيَن، وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فيه ثلاثة أقوال: أحدها: اختبرناك اختباراً، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: أخلصناك إِخلاصاً، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال مجاهد. والثالث: ابتليناك ابتلاءً، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال قتادة. وقال الفراء: ابتليناك بغمّ
(١) سورة النجم: ٥٤.
(٢) سورة يوسف: ٤٥.
158
القتل ابتلاءً. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: الفتون: وقوعُه في محنة بعد محنة خلَّصه الله منها، أولها أن أُمَّه حملته في السنة التي كان فرعون يذبح فيها الأطفال، ثم إِلقاؤه في البحر، ثم منعه الرضاع إِلا من ثدي أمه، ثم جرُّه لحية فرعون حتى همَّ بقتله، ثم تناوله الجمرة بدل الدُّرَّة، ثم قتله القبطيّ، ثم خروجه إِلى مَدْيَن خائفاً وكان ابن عباس يقصُّ هذه القصص على سعيد بن جبير، ويقول له عند كلّ بليّة: وهذا من الفُتون يا ابن جبير فعلى هذا يكون معنى «فتنَّاكَ» خلَّصناكَ من تلك المحن كما يُفْتَن الذهب بالنار فيخلص من كل خبث. والفتون: مصدر.
قوله تعالى: فَلَبِثْتَ سِنِينَ تقدير الكلام: فخرجتَ إِلى أهل مدين. ومدين: بلد شعيب، وكان على ثماني مراحل من مصر، فهرب إِليه موسى. وقيل: مدين: اسم رجل، وقد سبق هذا «١». وفي قدر لبثه هناك قولان: أحدهما: عشر سنين، قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: ثمان وعشرون سنة، عشر منهنَّ مهر امرأته، وثمان عشرة أقام حتى وُلد له، قاله وهب.
قوله تعالى: ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ أي: جئتَ لميقاتٍ قدَّرتُه لمجيئكَ قبل خَلْقِك، وكان ذلك على رأس أربعين سنة، وهو الوقت الذي يوحى فيه إِلى الأنبياء، هذا قول الأكثرين. وقال الفراء: «على قَدَرٍ» أي: على ما أراد الله به من تكليمه.
قوله تعالى: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي أي: اصطفيتُك واختصصتك، والاصطناع: اتخاذ الصنيعة، وهو الخير تسديه إِلى إِنسان. وقال ابن عباس: اصطفيتك لرسالتي ووحيي اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وفيها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها العصا واليد. وقد يُذْكَر الاثنان بلفظ الجمع. والثاني: العصا واليد وحَلُّ العُقدة التي ما زال فرعون وقومه يعرفونها، ذكرهما ابن الأنباري. والثالث: الآيات التسع. والأول أصح. قوله تعالى: وَلا تَنِيا قال ابن قتيبة: لا تَضْعُفا ولا تفْتُرا يقال: ونَى يني في الأمر وفيه لغة أخرى: وَنَيَ، يونى. وفي المراد بالذّكر ها هنا قولان «٢» : أحدهما: أنه الرسالة إِلى فرعون. والثاني: أنه القيام بالفرائض والتّسبيح والتّهليل.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٤٣ الى ٤٨]
اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٤٣) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (٤٤) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (٤٥) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (٤٦) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (٤٧)
إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٤٨)
قوله تعالى: اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ فائدة تكرار الأمر بالذهاب، التوكيد. وقد فسرنا قوله إِنَّهُ طَغى «٣». قوله تعالى: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً وقرأ أبو عمران الجوني، وعاصم الجحدري: «ليْنا» باسكان
(١) في سورة الأعراف: ٨٦.
(٢) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ١٩٤: والمراد أنهما لا يفتران عن ذكر الله، بل يذكر ان الله في حال مواجهة فرعون، ليكون ذكر الله عونا لهما عليه، وقوّة لهما وسلطانا كاسرا له، كما جاء في الحديث: «إن عبدي كل عبدي للذي يذكرني وهو مناجز قرنه».
(٣) في سورة طه: ٢٤.
159
الياء، أي: لطيفا رفيقاً. وللمفسرين فيه خمسة أقوال: أحدها: قولا له: قل: «لا إِله إِلا الله وحده لا شريك له»، رواه خالد بن معدان عن معاذ، والضحاك عن ابن عباس. والثاني: أنه قوله: هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى «١»، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مقاتل. والثالث: كنِّيَاه، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال السدي. فأما اسمه، فقد ذكرناه في البقرة «٢». وفي كنيته أربعة أقوال.
أحدها: أبو مُرَّة، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثاني: أبو مصعب، ذكره أبو سليمان الدمشقي.
والثالث: أبو العباس. والرابع: أبو الوليد، حكاهما الثعلبي. والقول الرابع: قولا له: إِن لكَ ربّاً، وإِن لكَ مَعَاداً، وإِن بين يديكَ جَنَّة وناراً، قاله الحسن. والخامس: أن القول اللين: أن موسى أتاه، فقال له: تؤمن بما جئتُ به وتعبد ربَّ العالمين، على أن لكَ شبابك فلا تهرم، وتكون مَلِكاً لا يُنزع منك حتى تموت، فإذا متَّ دخلتَ الجنة، فأعجبه ذلك فلما جاء هامان، أخبره بما قال موسى، فقال: قد كنتُ أرى أن لكَ رأياً، أنت ربٌّ أردتَ أن تكون مربوباً؟! فقلبه عن رأيه، قاله السدي. وحكي عن يحيى بن معاذ أنه قرأ هذه الآية، فقال: إِلهي هذا رِفقك بمن يقول: أنا إله، فكيف رِفقك بمن يقول:
أنت إِله.
قوله تعالى: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى قال الزجاج: «لَعَلَّ» في اللغة: ترجٍّ وطمع، تقول: لَعَلِّي أصير إلى خير، فخاطب الله تعالى العباد بما يعقلون. والمعنى عند سيبويه: اذهبا على رجائكما وطمعكما. والعلم من الله تعالى من وراء ما يكون، وقد عَلِم أنه لا يتذكر ولا يخشى، إِلا أن الحُجَّة إِنما تجب عليه بالآية والبرهان، وإِنما تُبعث الرسل وهي لا تعلم الغيب ولا تدري أيُقبل منها، أم لا، وهم يرجون ويطمعون أن يُقبل منهم، ومعنى «لعلَّ» متصوَّر في أنفسهم، وعلى تصوُّر ذلك تقوم الحُجَّة. قال ابن الأنباري: ومذهب الفراء في هذا: كي يتذكَّر. وروى خالد بن معدان عن معاذ قال:
والله ما كان فرعون ليخرج من الدنيا حتى يتذكَّر أو يَخْشى، لهذه الآية، وإِنَّه تذكَّر وخشي لمَّا أدركه الغرق. وقال كعب: والذي يحلِفُ به كعب، إِنه لمكتوب في التوراة: فقولا له قولاً ليِّناً، وسأقسِّي قلبه فلا يؤمن. قال المفسرون: كان هارون يومئذ غائباً بمصر، فأوحى الله تعالى إِلى هارون أن يتلقَّى موسى، فتلقَّاه على مرحلة، فقال له موسى: إِن الله تعالى أمرني أن آتيَ فرعون، فسألتُه أن يجعلكَ معي فعلى هذا يحتمل أن يكونا حين التقيا قالا: ربَّنا إِننا نخاف. قال ابن الأنباري: ويجوز أن يكون القائل لذلك موسى وحده، واخبر الله عنه بالتثنية لمَّا ضم إِليه هارون، فإن العرب قد تُوقع التثنية على الواحد، فتقول: يا زيد قوما، يا حرسيُّ اضربا عنقه.
قوله تعالى: أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا وقرأ عبد الله بن عمرو، وابن السميفع، وابن يعمر، وأبو العالية:
«أن يُفْرِط» برفع الياء وكسر الراء. وقرأ عكرمة، وإِبراهيم النخعي: «أن يَفْرَط» بفتح الياء والراء. وقرأ أبو رجاء العطاردي، وابن محيصن: «أن يفرط» بضمّ الياء وفتح الراء. قال الزجاج: المعنى، أن يبادر بعقوبتنا، يقال: قد فَرَط منه أمر، أي: قد بَدَر وقد أفرط في الشيء: إِذا اشتطَّ فيه وفرَّط في الشيء:
إِذا قصَّر ومعناه كلُّه: التقدم في الشيء، لأن الفرط في اللغة: المتقدّم.
(١) سورة النازعات: ١٨ و ١٩.
(٢) سورة البقرة: ٤٩.
160
(٩٧٤) ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «أنا فَرَطُكم على الحوض».
قوله تعالى: أَوْ أَنْ يَطْغى فيه قولان: أحدهما: يستعصي، قاله مقاتل. والثاني: يجاوز الحدَّ في الإِساءة إِلينا. قال ابن زيد: نخاف أن يعجِّل علينا قبل أن نبلِّغه كلامك وأمرك.
قوله تعالى: إِنَّنِي مَعَكُما أي: بالنصرة والعون أَسْمَعُ أقوالكم وَأَرى أفعالكم. قال الكلبي: أسمعُ جوابَه لكما، وأرى ما يفعل بكما.
قوله تعالى: فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ أي: خلِّ عنهم (ولا تعذِّبهم) وكان يستعملهم في الأعمال الشاقَّة، قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ قال ابن عباس: هي العصا. قال مقاتل: أظهر اليد في مقام، والعصا في مقام. قوله تعالى: وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى قال مقاتل: على مَنْ آمن بالله. قال الزجاج:
وليس يعني به التحيَّة، وإِنما معناه: أن مَن اتَّبع الهُدى، سَلِم من عذاب الله وسخطه، والدليل على أنه ليس بسلام، أنه ليس بابتداء لقاءٍ وخطاب. قوله تعالى: عَلى مَنْ كَذَّبَ أي: بما جئنا به وأعرض عنه.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٤٩ الى ٥٥]
قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (٤٩) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (٥٢) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (٥٣)
كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (٥٤) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (٥٥)
قوله تعالى: قالَ فَمَنْ رَبُّكُما في الكلام محذوف معناه معلوم، وتقديره: فأتَياه فأَدَّيا الرسالة.
قال الزجاج: وإِنما لم يقل: فأتَياه، لأن في الكلام دليلاً على ذلك، لأن قوله: «فمن ربُّكما» يدل على أنهما أتياه وقالا له.
قوله تعالى: أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أعطى كُلَّ شيء صورته، فخلق كُلَّ جنس من الحيوان على غير صورة جنسه، فصورة ابن آدم لا كصورة البهائم، وصورة البعير لا كصورة الفرس، روى هذا المعنى الضحاك عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وسعيد بن جبير. والثاني: أعطى كلّ ذكر زوجة مثله، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال السدي، فيكون المعنى: أعطى كُلَّ حيوان ما يشاكله. والثالث: أعطى كل شيء ما يُصْلِحه، قاله قتادة. وفي قوله: ثُمَّ هَدى ثلاثة أقوال: أحدها: هدى كيف يأتي الذَّكَرُ الأنثى، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال ابن جبير.
والثاني: هدى للمنكح والمطعم والمسكن، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: هدى كل شيء إِلى معيشته، قاله مجاهد. وقرأ عمر بن الخطاب، وابن عباس، والأعمش، وابن السميفع، ونصير عن الكسائي: «أعطى كُلَّ شيء خَلَقَهُ» بفتح اللام.
صحيح. أخرجه البخاري ٦٥٨٩ ومسلم ٢٢٨٩ والحميدي ٧٨٧ وابن أبي شيبة ١١/ ٤٤٠ وأحمد ٤/ ٣١٣ والطبراني ١٦٨٨ و ١٦٨٩ و ١٦٩١ وابن حبان ٦٤٤٥ و ٦٤٤٦ من طرق عن جندب بن سفيان البجليّ. وفي الباب أحاديث كثيرة.
فإن قيل: ما وجه الاحتجاج على فرعون من هذا؟
فالجواب: أنه قد ثبت وجود خَلْق وهداية، فلا بد من خالقٍ وهادٍ.
قوله تعالى: قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى اختلفوا فيما سأل عنه من حال القرون الأولى على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه سأله عن أخبارها وأحاديثها، ولم يكن له بذلك عِلْم، إِذ التوراة إِنما نزلت عليه بعد هلاك فرعون، فقال: عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي، هذا مذهب مقاتل. وقال غيره: أراد: إِنِّي رسول، وأخبار الأمم علم غيب، فلا علم له بالغيب. والثاني: أن مراده من السؤال عنها: لم عُبدت الأصنامُ، ولِم لم يُعبدِ اللهُ إِن كان الحقُّ ما وصفتَ؟! والثالث: أن مراده: ما لها لا تُبعث ولا تُحاسَب ولا تجازى؟! فقال: عِلْمها عند الله، أي: عِلْم أعمالها. وقيل: الهاء في «عِلْمُها» كناية عن القيامة، لأنه سأله عن بعث الأمم، فأجابه بذلك.
وقوله: فِي كِتابٍ أراد: اللوح المحفوظ. قوله تعالى: لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى وقرأ عبد الله بن عمرو، وعاصم الجحدري، وقتادة، وابن محيصن: «لا يُضِلُّ» بضم الياء وكسر الضاد، أي: لا يضيِّعه وقرأ أبو المتوكل، وابن السميفع: «لا يُضَل» بضم الياء وفتح الضاد. وفي هذه الآية توكيد للجزاء على الأعمال، والمعنى: لا يخطئ ربي ولا ينسى ما كان من أمرهم حتى يجازيهم بأعمالهم. وقيل: أراد: لم يجعل ذلك في كتاب لأنه يضل وينسى.
قوله تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر:
«مهاداً». وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: «مهداً» بغير ألف. والمهاد: الفراش، والمهد: الفرش.
وَسَلَكَ لَكُمْ أي: أدخل لأجْلكم في الأرض طُرُقاً تسلكونها، وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً يعني: المطر.
وهذا آخر الإِخبار عن موسى. ثم أخبر الله تعالى عن نفسه بقوله: فَأَخْرَجْنا بِهِ يعني: بالماء أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى أي: أصنافاً مختلفة في الألوان والطُّعوم، كل صنف منها زوج. و «شتى» لا واحد له من لفظه. كُلُوا أي: مما أخرجنا لكم من الثمار وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ يقال: رعى الماشية، يرعاها: إِذا سرَّحها في المرعى. ومعنى هذا الأمر: التذكير بالنِّعم، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أي: لَعِبَراً في اختلاف الألوان والطعوم لِأُولِي النُّهى قال الفراء: لذوي العقول، يقال للرجل: إِنه لذو نُهْيَةٍ: إِذا كان ذا عقل. قال الزجاج: واحد النُّهى: نُهْيَة، يقال: فلان ذو نُهْيَة، أي: ذو عقل ينتهي به عن المقابح، ويدخل به في المحاسن قال: وقال بعض أهل اللغة: ذو النُّهية: الذي يُنتهى ِإِلى رأيه وعقله، وهذا حسن أيضاً. قوله تعالى: مِنْها خَلَقْناكُمْ يعني: الأرض المذكورة في قوله: «جعل لكم الأرض مهاداً».
والإِشارة بقوله: «خلقناكم» إِلى آدم، والبشر كلُّهم منه. وَفِيها نُعِيدُكُمْ بعد الموت وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أي: مَرَّة أُخْرى بعد البعث، يعني: كما أخرجناكم منها أولاً عند خلق آدم من الأرض.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٥٦ الى ٦٤]
وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (٥٦) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (٥٨) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٥٩) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (٦٠)
قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (٦١) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (٦٢) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (٦٣) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (٦٤)
162
قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرَيْناهُ يعني: فرعون آياتِنا كُلَّها يعني: التسع الآيات، ولم ير كلَّ آية لله، لأنها لا تحصى، فَكَذَّبَ إذ نسب الآيات إِلى الكذب، وقال: هذا سِحْر وَأَبى أن يؤمن قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا يعني: مصر بِسِحْرِكَ أي: تريد أن تغلب على ديارنا بسحرك فتملكها وتخرجنا منها فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ أي: فلنقابلنَّ ما جئتَ به من السِّحر بمثله فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً أي: اضرب بيننا وبينكَ أجَلاً وميقاتاً لا نُخْلِفُهُ أي: لا نجاوزه نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً وقيل:
اجعل بيننا وبينكَ موعداً مكاناً نتواعد لحضورنا ذلك المكان، ولا يقع مِنَّا خلاف في حضوره. سُوىً قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، والكسائي بكسر السين. وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، وخلف، ويعقوب: «سُوىً» بضمها. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو المتوكل، وابن أبي عبلة: «مكاناً سَواءً» بالمد والهمز والنصب والتنوين وفتح السين. وقرأ ابن مسعود مثله، إِلا أنه كسر السين. قال أبو عبيدة: هو اسم للمكان النصف فيما بين الفريقين، والمعنى: مكاناً تستوي مسافته على الفريقين، فتكون مسافة كل فريق إِليه كمسافة الفريق الآخر. قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ قرأ الجمهور برفع الميم. وقرأ الحسن، ومجاهد، وقتادة، وابن أبي عبلة، وهبيرة عن حفص بنصب الميم. وفي هذا «اليوم» أربعة أقوال:
أحدها: يوم عيد لهم، رواه أبو صالح عن ابن عباس، والسدي عن أشياخه، وبه قال مجاهد، وقتادة، وابن زيد. والثاني: يوم عاشوراء، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثالث: يوم النيروز، ووافق ذلك يوم السبت أول يوم من السنة، رواه الضحاك عن ابن عباس. والرابع: يوم سوق لهم، قاله سعيد بن جبير.
وأما رفع اليوم، فقال البصريون: التقدير: وقتُ موعدكم يومُ الزينة، فناب الموعد عن الوقت، وارتفع به ما كان يرتفع بالوقت إِذا ظهر. فأما نصبه، فقال الزجاج: المعنى: موعدُكم يقع يوم الزينة، وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ موضع «أن» رفع، المعنى: موعدكم حشر الناس ضُحًى أي: إِذا رأيتم الناس قد حُشروا ضحى. ويجوز أن تكون «أن» في موضع خفض عطفاً على الزينة، المعنى: موعدكم يوم الزينة ويوم حشر الناس ضحىً. وقرأ ابن مسعود: وابن يعمر، وعاصم الجحدري: «وأن تَحْشُر» بتاء مفتوحة ورفع الشين ونصب «الناسَ». وعن ابن مسعود، والنخعي: «وأن يَحشُر» بالياء المفتوحة ورفع الشين ونصب «الناسَ».
قال المفسرون: أراد بالناس: أهلَ مصر، وبالضحى: ضحى اليوم، وإِنما علَّقه بالضحى، ليتكامل ضوء الشمس واجتماع الناس، فيكون أبلغ في الحجّة وأبعد من الرّيبة.
قوله تعالى: فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فيه قولان: أحدهما: أن المعنى: تولَّى عن الحق الذي أُمِر به.
والثاني: أنه انصرف إِلى منزله لاستعداد ما يلقى به موسى، أي: مكره وحيلته ثُمَّ أَتى أي: حضر الموعد. قال لهم موسى: أي للسحرة وقد ذكرنا عددهم في الأعراف «١».
(١) سورة الأعراف: ١١٤.
163
قوله تعالى: وَيْلَكُمْ قال الزجاج: هو منصوب على «ألزمكم الله ويلاً» ويجوز أن يكون على النداء، كقوله تعالى: يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا «١».
قوله تعالى: لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً قال ابن عباس: لا تشركوا معه أحداً.
قوله تعالى: فَيُسْحِتَكُمْ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم:
«فيَسحَتَكم» بفتح الياء، من «سحت». وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «فيُسحِتكم» بضم الياء، من «أسحت». قال الفراء: ويُسحت أكثر، وهو الاستئصال، والعرب تقول: سحته الله، وأسحته، قال الفرزدق:
وعضّ زمان يا بن مَرْوَانَ لَمْ يَدَعْ مِنَ المَالِ إِلاَّ مُسْحَتاً أوْ مُجَلَّفُ «٢»
هكذا أنشد البيت الفراء، والزجاج، ورواه أبو عبيدة: «إلا مسحت أبو مُجلَّفُ» بالرفع.
قوله تعالى: فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ يعني: السحرة تناظروا فيما بينهم في أمر موسى، وتشاوروا وَأَسَرُّوا النَّجْوى أي: أَخْفَوْا كلامهم من فرعون وقومه. وقيل: من موسى وهارون. وقيل: «أسرّوا» ها هنا بمعنى «أظهروا».
وفي ذلك الكلام الذي جرى بينهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم قالوا إِن كان هذا ساحراً، فإنا سنغلبه، وإِن يكن من السماء كما زعمتم، فله أمره، قاله قتادة. والثاني: أنهم لما سمعوا كلام موسى قالوا: ما هذا بقول ساحر، ولكن هذا كلام الرب الأعلى، فعرفوا الحقَّ، ثم نظروا إِلى فرعون وسلطانه، وإِلى موسى وعصاه، فنُكسوا على رؤوسهم، وقالوا إِن هذان لساحران، قاله الضحاك، ومقاتل. والثالث:
أنهم قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ الآيات، قاله السدي.
واختلف القراء في قوله تعالى: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ فقرأ أبو عمرو بن العلاء: «إِنَّ هذين» على إِعمال «إِنَّ» وقال: إِني لأستحيي من الله أن أقرأ «إِنْ هذان». وقرأ ابن كثير: «إِنْ» خفيفه «هذانّ» بتشديد النون. وقرأ عاصم في رواية حفص: «إِنْ» خفيفة «هذان» خفيفة أيضاً. وقرأ نافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «إِنّ» بالتشديد «هاذان» بألف ونون خفيفة. فأما قراءة أبي عمرو، فاحتجاجه في مخالفة المصحف بما روى عن عثمان وعائشة، أن هذا من غلط الكاتب على ما حكيناه في قوله تعالى:
وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ «٣» في سورة النساء. وأما قراءة عاصم، فمعناها: ما هذان إِلا ساحران، كقوله تعالى: وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ «٤» أي: ما نظنك إِلا من الكاذبين، وأنشدوا في ذلك:
ثكلتْك أمُّك إِن قتلتَ لَمُسْلِماً حَلّت عَليه عُقوبة المُتَعمِّدِ
أي: ما قتلت إِلا مسلماً. قال الزجاج: ويشهد لهذه القراءة، ما روي عن أبيّ بن كعبٍ أنه قرأ «ما هذان إِلا ساحران»، وروي عنه، «إن هذان لساحران» بالتخفيف، ورويت عن الخليل «إِنْ هذان» بالتخفيف والإِجماع على أنه لم يكن أحدٌ أعلمَ بالنحو من الخليل. فأما قراءة الأكثرين بتشديد «إِنَّ»
(١) سورة يس: ٥٢.
(٢) البيت في ديوانه ٥٥٦ و «اللسان» - جلف-. والمجلّف: الذي أتى عليه الدهر فأذهب ماله. والجلف: أشد استئصالا من الجرف وأجفى.
(٣) سورة النساء: ١٦٢.
(٤) سورة الشعراء: ١٨٦.
164
وإِثبات الألف في قوله: «هاذان» فروى عطاء عن ابن عباس أنه قال: هي لغة بلحارث بن كعب وقال ابن الأنباري: هي لغة لنبي الحارث بن كعب، وافقتها لغة قريش. قال الزجاج: وحكى أبو عبيدة عن أبي الخطاب، وهو رأس من رؤوس الرواة: أنها لغة لكنانة، يجعلون ألف الاثنين في الرفع والنصب والخفض على لفظ واحد، يقولون: أتاني الزيدان، ورأيت الزيدان، ومررت بالزيدان، وأنشدوا:
فأَطْرَقَ إِطْرَاقَ الشُّجاعِ وَلَوْ رَأىَ... مَسَاغاً لِنَابَاهُ الشُّجَاعُ لَصَمَّمَا»
ويقول هؤلاء: ضربته بين أُذناه وقال النحويون القدماء: ها هنا هاء مضمرة، المعنى: إِنه هذان لساحران. وقالوا أيضاً: إِن معنى «إِنَّ» : نعم «هذان لساحران»، وينشدون:
ويقلن شيب قد علاك... وقد كَبِرتَ فقلتُ إِنَّهْ «٢»
قال الزجاج: والذي عندي، وكنتُ عرضتُه على عالمنا محمد بن يزيد، وعلى إسماعيل بن إسحاق بن حماد بن زيد، فقبلاه، وذكرا أنه أجود ما سمعناه في هذا، وهو أن «إِنَّ» قد وقعت موقع «نعم»، والمعنى: نعم هذان لهما الساحران، ويلي هذا في الجودة مذهب بني كنانة. وأستحسن هذه القراءة، لأنها مذهب أكثر القراء، وبها يُقرأ. وأستحسن قراءة عاصم، والخليل، لأنهما إِمامان، ولأنهما وافقا أُبَيَّ بن كعب في المعنى. ولا أجيز قراءة أبي عمرو لخلاف المصحف. وحكى ابن الأنباري عن الفراء قال: «ألف» «هذان» هي ألف «هذا» والنون فرَّقتْ بين الواحد والتثنية، كما فرقت نون «الذين» بين الواحد والجمع.
قوله تعالى: وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ وقرأ أبان عن عاصم: «ويُذهِبا» بضم الياء وكسر الهاء. وقرأ ابن مسعود، وأُبَيُّ بن كعب، وعبد الله بن عمرو، وأبو رجاء العطاردي: «ويذهبا بالطريقة» بألف ولام، مع حذف الكاف والميم. وفي الطريقة قولان: أحدهما: بدينكم المستقيم، رواه الضحاك عن ابن عباس.
وقال أبو عبيدة: بسُنَّتِكم ودِينِكم وما أنتم عليه، يقال: فلان حسن الطريقة. والثاني: بأمثلكم، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وقال مجاهد: بأُولي العقل، والأشراف، والأسنان. وقال الشعبي: يصرفان وجوه الناس إِليهما. قال الفراء: الطريقة: الرجال الأشراف، تقول العرب للقوم الأشراف: هؤلاء طريقة قومهم، وطرائق قومهم.
فأما «المثلى» فقال أبو عبيدة: هي تأنيث الأمثل. تقول في الإناث: خذ المثلى منها، وفي الذكور: خذ الأمثل. وقال الزجاج: ومعنى المثلى والأمثل: ذو الفضل الذي به يستحق أن يقال هذا أمثل قومه قال: والذي عندي أن في الكلام محذوفاً، والمعنى: يذهبا بأهل طريقتكم المثلى، وقول العرب: هذا طريقة قومه، أي: صاحب طريقتهم.
قوله تعالى: فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ قرأ الأكثرون: «فأجمِعوا» بقطع الألف من «أجمعت». والمعنى:
ليكن عزمكم مجمعاً عليه، لا تختلفوا فيختلَّ أمرُكم. قال الفراء: والإِجماع: الإِحكام والعزيمة على
(١) البيت للمتلمس. وهو في «اللسان» - صمم-. والشجاع: ضرب من الحيات، وقيل الحية الذكر. والمساغ:
المدخل، وفي حديث أبي أيوب: إذا شئت فاركب ثم سغ في الأرض ما وجدت مساغا. [.....]
(٢) البيت لعبد الله بن قيس الرقيات، وهو في «اللسان» - أنن-.
أي: إنّه كما تقلن.
165
الشيء، تقول: أجمعت على الخروج، وأجمعت الخروج، تريد: أزمعت، قال الشاعر:
يا لَيْتَ شِعْرِي والمنى لا تنفع هل أغدون يوما وأمري مُجْمَع «١»
يريد: قد أُحكم وعُزم عليه. وقرأ أبو عمرو: «فاجمَعوا» بفتح الميم من «جمعت»، يريد: لا تَدَعوا من كيدكم شيئاً إِلا جئتم به. فأما كيدهم، فالمراد به: سحرهم، ومكرهم.
قوله تعالى: ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا أي: مُصْطَفِّين مجتمعين، ليكون أنظم لأموركم، وأشدَّ لهيبتكم.
قال أبو عبيدة: «صفاً» أي: صفوفاً. وقال ابن قتيبة: «صفاً» بمعنى: جمعاً. قال الحسن: كانوا خمسة وعشرين صفاً، كلُّ ألف ساحر صفٌّ.
قوله تعالى: وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى قال ابن عباس: فاز من غلب.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٦٥ الى ٧٣]
قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (٦٥) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (٦٦) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (٦٧) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (٦٨) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (٦٩)
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (٧٠) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (٧١) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (٧٢) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (٧٣)
قوله تعالى: بَلْ أَلْقُوا قال ابن الأنباري: دخلت بَلْ لمعنى: جحد في الآية الأولى، لأن الآية إِذا تُؤمِّلتْ وُجِدتْ مشتملة على: إِما أن تلقي، وإِما أن لا تلقي. قوله تعالى: وعصيتهم قرأ الحسن، وأبو رجاء العطاردي، وأبو عمران الجوني، وأبو الجوزاء: «وعُصيُّهم» برفع العين. قوله تعالى: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ وقرأ أبو رزين العقيلي، وأبو عبد الرحمن السُّلَمي، والحسن، وقتادة، والزهري، وابن أبي عبلة: «تُخيَّلُ» بالتاء، «إِليه» أي: إِلى موسى. يقال: خُيِّل إِليه: إِذا شُبِّه له. وقد استدل قوم بهذه الآية على أنّ السّحر ليس بشيء. قالوا إنما خيّل إلى موسى، والجواب: أنا لا ننكر أن يكون ما رآه موسى تخيّلا، وليس بحقيقة، فإنه من الجائز أن يكونوا تركوا الزئبق في سلوخ الحيات حتى جرت، وليس ذلك بحيَّات. فأما السحر، فإنه يؤثِّر، وهو أنواع.
(٩٧٥) وقد سحر رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى أثر فيه،
صحيح. أخرجه البخاري ٦٣٩١ و ٣١٧٥ و ٥٧٦٥ و ٥٧٦٣ و ٦٠٦٣ ومسلم ٢١٨٩ وابن ماجة ٣٥٤٥ والنسائي في «الكبرى» ٧٦١٥ وأحمد ٦/ ٥٧ و ٦٣ و ٩٦ وابن أبي شيبة ٨/ ٣٠- ٣١ وابن سعد ٢/ ١٩٦ وأبو يعلى ٤٨٨٢ والحميدي ٢٥٩ والطحاوي في «المشكل» ٥٩٣٤ وابن حبان ٦٥٨٣ والبيهقي ٨/ ١٣٥ من طرق عن عائشة رضي الله عنها قالت: سحر رسول الله صلى الله عليه وسلّم رجل من بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم، حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يخيّل إليه أنه كان يفعل الشيء وما فعله حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة وهو عندي لكنه دعا ودعا، ثم قال: «يا عائشة أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ فقال: مطبوب قال: من طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: في أي شيء؟ قال: في مشط ومشاطة، وجف طلع نخلة ذكر، قال: وأين هو؟ قال: في بئر ذروان.
فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلّم في ناس من أصحابه فجاء، فقال: «يا عائشة كأن ماءها نقاعة الحنّاء، وكأن رؤوس نخلها رؤوس الشياطين»
قلت: يا رسول الله أفلا استخرجته؟ قال: «قد عافاني الله فكرهت أن أثور على الناس فيه شرا» فأمر بها فدفنت. لفظ البخاري.
__________
(١) البيت في «اللسان» - جمع- بلا نسبة.
166
(٩٧٦) ولعن العاضهة، وهي الساحرة.
قوله تعالى: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً قال ابن قتيبة: أضمر في نفسه خوفاً. وقال الزجاج: أصلها «خِوفة» ولكن الواو قلبت ياءً لانكسار ما قبلها. وفي خوفه قولان: أحدهما: أنه خوف الطبع البشري.
والثاني: أنه لما رأى سحرهم من جنس ما أراهم في العصى، خاف أن يلتبس على الناس أمره، ولا يؤمنوا، فقيل له: لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى عليهم بالظَّفَر والغَلَبة. وهذا أصح من الأول. قوله تعالى:
وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ يعني: العصا تَلْقَفْ وقرأ ابن عامر: «تلقَّفُ ما» برفع الفاء وتشديد القاف. وروى حفص عن عاصم: «تلقف» خفيفة. وكان ابن كثير يشدِّد التاء من «تلقف» يريد: «تتلقف». وقرأ ابن مسعود، وأُبَيُّ بن كعب، وسعيد بن جبير، وأبو رجاء: «تلقم» بالميم. وقد شرحنا هذا في سورة الأعراف «١»، إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ قرأ حمزة، والكسائى وخلف «كيد سحر» وقرأ الباقون «كيد ساحر» بألف والمعنى إِن الذي صنعوا كيد ساحر»، أي: عمل ساحر. وقرأ ابن مسعود، وأبو عمران الجوني: «إِنما صنعوا كيدَ» بنصب الدال. وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ قال ابن عباس: لا يسعد حيثما كان «٢». وقيل: لا يفوز.
(٩٧٧) وروى جندب بن عبد الله البجلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «إذا أخذتم الساحر فاقتلوه، ثم قرأ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى، قال: «لا يأمن حيث وجد».
قوله تعالى: قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم، وورش عن نافع: «آمنتم له» على لفظ الخبر. وقرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، «آمنتم له» بهمزة ممدودة. وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «أآمنتم له» بهمزتين الثانية ممدودة. قوله تعالى: إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ قال ابن عباس:
معلِّمكم. قال الكسائي: الصبي بالحجاز إِذا جاء عند معلِّمه، قال: جئت من عند كبيري. قوله تعالى:
وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ «في» بمعنى «على»، ومثله: أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ «٣». وَلَتَعْلَمُنَّ أيّها
ضعيف. أخرجه ابن عدي في «الكامل» ٣/ ٣٣٩ من حديث ابن عباس، وفي إسناده زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام، وكلاهما ضعيف. وقال الحافظ ابن حجر ٢/ ٥٩٠ في «تخريجه» : وله شاهد عند عبد الرزاق من رواية ابن جريج عن عطاء اه. وهذا مرسل، فهو ضعيف.
ضعيف. أخرجه ابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» ٣/ ٢٠٠ عن الحسن البصري عن جندب البجلي مرفوعا، وإسناده ضعيف، الحسن لم يسمع من جندب كما في «المراسيل» لابن أبي حاتم ص ٤٢.
__________
(١) سورة الأعراف: ١١٧.
(٢) تقدم الكلام عن حكم السحر في الإسلام في «سورة البقرة» عند الآية ١٠٢.
(٣) سورة الطور: ٣٨.
167
السحرة أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً لكم وَأَبْقى أي: أدوَم، أنا على إِيمانكم، أو ربُّ موسى على ترككم الإِيمان به؟ قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ أي: لن نختارك عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ يعنون اليد والعصا.
فإن قيل: لم نسبوا الآيات إِلى أنفسهم بقولهم: «جاءنا» وإِنما جاءت عامة لهم ولغيرهم.
فالجواب: أنهم لما كانوا بأبواب السحر ومذاهب الاحتيال أعرف من غيرهم، وقد علموا أن ما جاء به موسى ليس بسحر، كان ذلك في حق غيرهم أبْيَن وأوضح، وكانوا هم لمعرفته أخص.
وفي قوله تعالى: وَالَّذِي فَطَرَنا وجهان ذكرهما الفراء، والزجاج: أحدهما: أن المعنى: لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات، وعلى الذي فطرنا. والثاني: أنه قسم، تقديره: وحقِّ الذي فطرنا.
قوله تعالى: فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ أي: فاصنع ما أنت صانع. وأصل القضاء: عمل باحكام إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا قال الفراء: «إِنما» حرف واحد، فلهذا نصب: الحياة الدنيا». ولو قرأ قارئ برفع «الحياة» لجاز، على أن يجعل «ما» في مذهب «الذي»، كقولك: إِن الذي تقضي هذه الحياة الدنيا.
وقرأ ابن أبي عبلة، وأبو المتوكل: «إِنما تُقضى» بضم التاء على ما لم يُسمَّ فاعله، «الحياةُ» برفع التاء.
قال المفسرون: والمعنى إِنما سلطانك وملكك في هذه الدنيا، لا في الآخرة. قوله تعالى: لِيَغْفِرَ لَنا يعنون الشرك وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ أي: والذي أكرهتنا عليه، أي: ويغفر لنا إِكراهك إِيَّانا على السحر.
فإن قيل: كيف قالوا: أكرهتنا، وقد قالوا: إِنَّ لَنا لَأَجْراً وفي هذا دليل على أنهم فعلوا السحر غير مكرهين؟ فعنه أربعة أجوبة: أحدها: أن فرعون كان يكره الناس على تعلّم السِّحر، قاله ابن عباس.
قال ابن الأنباري: كان يطالب بعض أهل مملكته بأن يعلِّموا أولادهم السحر وهم لذلك كارهون، وذلك لشغفه بالسحر، ولما خامر قلبه من خوف موسى، فالإِكراه على السحر، هو الإِكراه على تعلُّمه في أول الأمر. والثاني: أن السحرة لما شاهدوا موسى بعد قولهم: «أئن لنا لأجراً» ورأوا ذكرَه الله تعالى وسلوكه منهاج المتقين، جزعوا من ملاقاته بالسحر، وحذروا أن يظهر عليهم فيطَّلع على ضعف صناعتهم، فتفسد معيشتهم، فلم يقنع فرعون منهم إِلا بمعارضة موسى، فكان هذا هو الإِكراه على السحر. والثالث: أنهم خافوا أن يُغلَبوا في ذلك الجمع، فيقدح ذلك في صنعتهم عند الملوك والسُّوَق وأكرههم فرعون على فعل السحر. والرابع: أن فرعون أكرههم على مفارقة أوطانهم، وكان سبب ذلك السّحر، ذكر هذه الأقوال ابن الأنباري.
قوله تعالى: وَاللَّهُ خَيْرٌ أي: خير منك ثواباً إِذا أُطيع وَأَبْقى عقاباً إِذا عُصي، وهذا جواب قوله: «ولتعلمُنَّ أيُّنا أشد عذاباً وأبقى» وهذا آخر الإخبار عن السّحرة.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٧٤ الى ٧٦]
إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (٧٤) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (٧٥) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (٧٦)
قوله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً يعني: مشركاً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها فيستريح وَلا يَحْيى حياة تنفعه «١». أنشد ابن الأنباري في مثل هذا المعنى قوله:
(١) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ٢٠٢: الظاهر من السياق أن هذا من تمام ما وعظ به السحرة فرعون، يحذرونه من نقمة الله وعذابه الدائم السرمدي، ويرغبونه في ثوابه الأبدي المخلّد، قالوا إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً أي: يلقى الله يوم القيامة وهو مجرم فَإِنَّ لَهُ نار جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى وروى الإمام مسلم وأحمد عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحبون، ولكن أناس تصيبهم النار بذنوبهم فتميتهم إماتة حتى إذا صاروا فحما أذن في الشفاعة، فجيء بهم ضبائر ضبائر، فبثوا على أنهار الجنة فيقال: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم. فينبتون نبات الحبة في حميل السيل، فقال رجل من القوم: كأن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان في البادية.
أَلاَ مَنْ لِنَفْسٍ لاَ تَمُوتُ فَيَنْقَضي شَقَاهَا ولا تحيا حياة لهم طَعْمُ
قوله تعالى: قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ قال ابن عباس: قد أدَّى الفرائض، فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى يعني: درجات الجنة، وبعضها أعلى من بعض. والعلى، جمع العليا، وهو تأنيث الأعلى. قال ابن الأنباري: وإِنما قال: «فأولئك»، لأن «مَن» تقع بلفظ التوحيد على تأويل الجمع. فإذا غلب لفظها، وُحِّد الراجع إِليها، وإِذا بُيِّن تأويلها، جُمع المصروف إِليها.
قوله تعالى: وَذلِكَ يعني الثواب جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى أي: تطهّر من الكفر والمعاصي.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٧٧ الى ٨٢]
وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (٧٧) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (٧٩) يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (٨٠) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (٨١)
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (٨٢)
قوله تعالى: أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي أي: سِرْ بهم ليلاً من أرض مصر فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً أي: اجعل لهم طريقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً قرأ أبو المتوكل والحسن والنخعي: «يَبْساً» باسكان الباء. وقرأ الشعبي وأبو رجاء وابن السميفع: «يابساً» بألف. قال أبو عبيدة: اليبس، متحرك الحروف، بمعنى اليابس، يقال:
شاة يبس، أي يابسة ليس لها لبن. وقال ابن قتيبة: يقال لليابس: يَبَس، ويَبْس. قوله تعالى: لا تَخَفْ قرأ الأكثرون بألف. وقرأ أبان وحمزة عن عاصم: «لا تخفْ» قال الزجاج: من قرأ «لا تخاف» فالمعنى: لست تخاف، ومن قرأ «لا تخفْ» فهو نهي عن الخوف. قال الفراء: قرأ حمزة: «لا تخفْ» بالجزم، ورفع «ولا تخشى» على الاستئناف، كقوله تعالى: يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ استأنف ب «ثم» فهذا مثله، ولو نوى حمزة بقوله: «ولا تخش» الجزم وإِن كانت فيه الياء، كان صواباً، قال ابن قتيبة: ومعنى دَرَكاً لحاقاً. قال المفسرون: قال أصحاب موسى: هذا فرعون قد أدركنَا، وهذا البحر بين أيدينا، فأنزل الله على موسى لا تَخافُ دَرَكاً أي: من فرعون، ولا تخشى غرقاً في البحر.
قوله تعالى: فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ قال ابن قتيبة: لحقهم. وروى هارون عن أبي عمرو: «فاتَّبعهم» بالتشديد. وقال الزجاج: تبع الرجل الشيء، وأتبعه، بمعنى واحد، ومن قرأ «فاتّبعهم» بالتشديد، ففيه دليل على أنه اتبعهم ومعه الجنود. ومن قرأ «فأتبعهم» فمعناه: ألحق جنوده بهم، وجائز أن يكون معهم على هذا اللفظ، وجائز أن لا يكون إِلا أنه قد كان معهم، فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ أي: فغشيهم من
ماء البحر ما غرَّقهم، وقال ابن الأنباري: ويعني بقوله: «ما غشيهم» البعض الذي غشيهم، لأنه لم يغشَهم كل مائِهِ. وقرأ ابن مسعود، وعكرمة، وأبو رجاء، والأعمش: «فغشَّاهم من اليم ما غشَّاهم» بألف فيهما مع تشديد الشين وحذف الياء.
قوله تعالى: وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ أي: دعاهم إِلى عبادته وَما هَدى أي: ما أرشدهم حين أوردهم موارد الهلكة. وهذا تكذيب له في قوله: وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ «١».
قوله تعالى: وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ لأخذ التوراة. وقد ذكرنا في مريم «٢» معنى «الأيمن» وذكرنا في البقرة «٣» «المن والسلوى». قوله تعالى: كُلُوا أي: وقلنا لهم: كلوا. قوله تعالى: وَلا تَطْغَوْا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: لا تبطروا في نعمي فتظلموا. والثاني: لا تجحدوا نعمي فتكونوا طاغين.
والثالث: لا تدَّخروا منه لأكثر من يوم وليلة. قوله تعالى: فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي أي: فتجب لكم عقوبتي. والجمهور قرءوا «فيحِل» بكسر الحاء وَمَنْ يَحْلِلْ بكسر اللام. وقرأ الكسائي: «فيحُل» بضم الحاء «ومن يحلُل» بضم اللام. قال الفراء: والكسر أحب إِليَّ، لأن الضم من الحلول، ومعناه: الوقوع، و «يحل» بالكسر، يجب، وجاء التفسير بالوجوب، لا بالوقوع. قوله تعالى: فَقَدْ هَوى أي: هلك.
قوله تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ الغفار: الذي يغفر ذنوب عباده مرة بعد أُخرى، فكلما تكررت ذنوبهم تكررت مغفرته، وأصل الغفر: الستر، وبه سمي زِئْبَر الثوب: غفراً، لأنه يستر سداه. فالغفار: الستار لذنوب عباده، المسبل عليهم ثوب عطفه. قوله تعالى: لِمَنْ تابَ قال ابن عباس: لمن تاب من الشرك وَآمَنَ أي: وحَّد الله وصدَّقه وَعَمِلَ صالِحاً أدَّى الفرائض. وفي قوله تعالى: ثُمَّ اهْتَدى ثمانية أقوال «٤» : أحدها: علم أن لعمله هذا ثواباً، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: لم يشكّك، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: علم أن ذلك توفيق من الله له، رواه عطاء عن ابن عباس.
والرابع: لزم السنة والجماعة، قاله سعيد بن جبير. والخامس: استقام، قاله الضحاك. والسادس: لزم الإِسلام حتى يموت عليه، قاله قتادة. والسابع: اهتدى كيف يعمل، قاله زيد بن أسلم. والثامن:
اهتدى إلى ولاية بيت النبيّ صلى الله عليه وسلّم، قاله ثابت البنانيّ.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٨٣ الى ٨٩]
وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (٨٣) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (٨٤) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧)
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (٨٨) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (٨٩)
(١) سورة غافر: ٢٩.
(٢) سورة مريم: ٥٢.
(٣) سورة البقرة: ٥٧.
(٤) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٨/ ٤٤٢: الاهتداء هو الاستقامة على هدى، ولا معنى للاستقامة عليه إلا وقد جمعه الإيمان والعمل الصالح فمن فعل ذلك وثبت عليه، فلا شك في اهتدائه.
170
قوله تعالى: وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى قال المفسرون: لما نجَّى الله تعالى بني إِسرائيل وأغرق فرعون، قالوا: يا موسى، لو أتيتنا بكتاب من عند الله، فيه الحلال والحرام والفرائض، فأوحى الله تعالى إِليه يَعِدُهُ أنه ينزل عليه ذلك في الموضع الذي كلَّمه فيه، فاختار سبعين، فذهبوا معه إِلى الطور لأخذ التوراة، فعَجِل موسى من بينهم شوقاً إِلى ربه، وأمرهم بلحاقه، فقال الله تعالى له: ما الذي حملك على العجلة عن قومك، قالَ هُمْ أُولاءِ أي: هؤلاء عَلى أَثَرِي، وقرأ أبو رزين العقيلي، وعاصم الجحدري: «على إِثْري» بكسر الهمزة وسكون الثاء. وقرأ عكرمة، وأبو المتوكل، وابن يعمر، برفع الهمزة وسكون الثاء. وقرأ أبو رجاء، وأبو العالية: بفتح الهمزة وسكون الثاء. والمعنى: هم بالقرب مني يأتون بعدي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى أي: لتزداد رضىً، قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ قال الزجاج: ألقيناهم في فتنة ومحنة، واختبرناهم. قوله تعالى: مِنْ بَعْدِكَ أي: من بعد انطلاقك من بينهم وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ أي: كان سبباً لإِضلالهم، وقرأ معاذ القارئ، وأبو المتوكل، وعاصم الجحدري، وابن السميفع: «وأضلُّهم» برفع اللام. وقد شرحنا في البقرة «١» سبب اتّخاذ السّامريّ العجل، وشرحنا في سورة الأعراف «٢» معنى قوله تعالى: غَضْبانَ أَسِفاً.
قوله تعالى: أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أي: صدقاً، وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: إِعطاء التوراة. والثاني: قوله: لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ إِلى قوله: لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ... الآية في المائدة «٣»، وقوله تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ «٤». والثالث: النصر والظَّفَر.
قوله تعالى: أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أي: مدة مفارقتي إِياكم أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ أن تصنعوا صنيعاً يكون سبباً لغضب ربكم فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي أي: عهدي، وكانوا قد عاهدوه أنه إِن فكَّهم الله من مَلَكَة آل فرعون، أن يعبدوا الله ولا يشركوا به، ويقيموا الصلاة، وينصروا الله ورسله. قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر: بكسر الميم، وقرأ نافع، وعاصم: بفتح الميم. وقرأ حمزة، والكسائي: بضم الميم. قال أبو علي: وهذه لغات. وقال الزجاج: المُلْك بالضم: السلطان والقدرة. والمِلْك، بالكسر: ما حوته اليد. والمَلْك، بالفتح:
المصدر، يقال: ملكت الشيء أملكه ملكاً. وللمفسرين في معنى الكلام أربعة أقوال: أحدها: ما كنا نملك الذي اتُّخذ منه العجلُ ولكنها كانت زينة آل فرعون، فقذفناها، قاله ابن عباس. والثاني: بطاقتِنا قاله قتادة، والسدي. والثالث: لم نملك أنفسنا عند الوقوع في البليَّة، قاله ابن زيد. والرابع: لم يملك مؤمنونا سفهاءنا، ذكره الماوردي. فيخرَّج فيمن قال هذا لموسى قولان: أحدهما: أنهم الذين لم يعبُدوا العجل. والثاني: عابدوه.
قوله تعالى: وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وحفص عن عاصم: «حُمِّلْنا» بضم الحاء وتشديد الميم. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: «حملنا» خفيفة.
والأوزار: الاثقال. والمراد بها: حلي آل فرعون الذي كانوا استعاروه منهم قبل خروجهم من مصر.
فمن قرأ «حُمِّلنا» بالتشديد فالمعنى: حمّلناها موسى، أمَرَنا باستعارتها من آل فرعون فَقَذَفْناها أي
(١) سورة البقرة: ٥٢.
(٢) سورة الأعراف: ١٥٠.
(٣) سورة المائدة: ١٣.
(٤) سورة طه: ٨٢. [.....]
171
طرحناها في الحفيرة. وقد ذكرنا سبب قذفهم إِياها في سورة البقرة «١».
قوله تعالى: فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فيه قولان: أحدهما: أنه ألقى حلياً كما ألقَوْا. والثاني: ألقى ما كان من تراب حافر فرس جبريل. وقد سبق شرح القصة في البقرة «٢» وذكرنا في الأعراف «٣» معنى قوله تعالى: عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ.
قوله تعالى: فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ هذا قول السامري ومن وافقه من الذين افتُتنوا.
قوله تعالى: فَنَسِيَ في المشار إِليه بالنسيان قولان: أحدهما: أنه موسى. ثم في المعنى ثلاثة أقوال: أحدها: هذا إِلهكم وإِله موسى فنسي موسى أن يخبركم أن هذا إِلهه، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثاني: فنسي موسى الطريق إِلى ربه، روي عن ابن عباس أيضاً. والثالث: فنسي موسى إِلهه عندكم، وخالفه في طريق آخر، قاله قتادة. والثاني: أنه السامري، والمعنى: فنسي السامريُّ إِيمانه وإِسلامه، قاله ابن عباس. وقال مكحول: فنسي، أي: فترك السامريُّ ما كان عليه من الدين. وقيل:
فنسي أن العجل لا يرجع إِليهم قولاً، ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً. فعلى هذا القول، يكون قوله تعالى: فَنَسِيَ من إخبار الله عزّ وجلّ عن السامري. وعلى ما قبله، فيمن قاله قولان: أحدهما: أنه السامريُّ. والثاني: بنو إِسرائيل. قوله تعالى: أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ قال الزجاج: المعنى: أفلا يرون أنه لا يرجع إِلَيْهِمْ قَوْلًا.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٩٠ الى ٩٤]
وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (٩١) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤)
قوله تعالى: وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ أي: من قبل أن يأتي موسى يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ أي: ابتليتم وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ لا العجل، قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ أي: لن نزال مقيمين على عبادة العجل حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى فلما رجع موسى قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا بعبادة العجل أَلَّا تَتَّبِعَنِ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «ألا تتبعني» بياء في الوصل ساكنة، ويقف ابن كثير بالياء، وأبو عمرو بغير ياء. وروى إِسماعيل بن جعفر عن نافع: «ألا تتبعنيَ أفعصيت» بياء منصوبة. وروى قالون عن نافع مثل أبي عمرو سواء. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة والكسائي: بغير ياء في الوصل، والوقف. والمعنى: ما منعك من اتباعي و «لا» كلمة زائدة. وفي المعنى ثلاثة أقوال: أحدها: تسير ورائي بمن معك من المؤمنين، وتفارقهم. رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني: أن تناجزهم القتال، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: في الإِنكار عليهم، قاله مقاتل.
قوله تعالى: أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي وهو قوله في وصيته إِياه «اخلفني في قومي وأصلح». قال المفسرون: ثم أخذ برأس أخيه ولحيته غضباً منه عليه «٤». وهذا وإِن لم يذكر ها هنا، فقد ذكر في
(١) سورة البقرة: ٥٢.
(٢) في الآية ٥٢ من سورة البقرة.
(٣) سورة الأعراف: ١٤٨.
(٤) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» ٧/ ٢٥٥: وكان هارون أكبر من موسى- صلوات الله وسلامه عليهما بثلاث سنين، وأحب إلى بني إسرائيل من موسى لأنه كان ليّن الغضب. وللعلماء في أخذ موسى برأس أخيه أربعة تأويلات: الأول- أن ذلك كان متعارفا عندهم، من قبض الرجل على لحية أخيه وصاحبه إكراما وتعظيما، فلم يكن على طريق الإذلال. والثاني: أن ذلك إنما كان ليسرّ إليه نزول الألواح عليه لأنها نزلت عليه في هذه المناجاة وأراد أن يخفيها عن بني إسرائيل قبل التوراة. فقال له هارون: لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي، لئلا يشتبه سراره على بني إسرائيل بإذلاله. والثالث: إنما فعل ذلك لأنه وقع في نفسه أن هارون مائل مع بني إسرائيل فيما فعلوه من أمر العجل. ومثل هذا لا يجوز على الأنبياء. والرابع: ضمّ إليه أخاه ليعلم ما لديه، فكره ذلك هارون لئلا يظن بنو إسرائيل أنه أهانه، فبين له أخوه أنهم استضعفوه، يعني عبدة العجل، وكادوا يقتلونه أي قاربوا. وقد دلت هذه الآية على أنه لمن خشي القتل على نفسه عند تغيير المنكر أن يسكت.
وقال ابن العربي: وفيها دليل على أن الغضب لا يغير الأحكام كما زعم بعض الناس، فإن موسى لم يغير غضبه شيئا من أفعاله، بل اطردت على مجراها، وقال المهدوي: لأن غضبه كان لله عز وجل وسكوته عن بني إسرائيل خوفا أن يتحاربوا ويتفرقوا.
الأعراف «١» فاكتُفي بذلك، وقد شرحنا هناك معنى «يا ابن أم» واختلاف القراء فيها.
قوله تعالى: لا بِرَأْسِي
أي: بشعر رأسي. وهذا الغضب كان لله عزّ وجلّ لا لنفسه، لأنه وقع في نفسه، أن هارون عصى الله بترك اتِّباع موسى.
قوله تعالى: نِّي خَشِيتُ
أي: إن فارقتهم واتّبعتك نْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ
وفيه قولان: أحدهما: باتباعي إِياك ومن معي من المؤمنين. والثاني: بقتالي لبعضهم ببعض.
وفي قوله تعالى: لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي
قولان: أحدهما: لم ترقب قولي لك: «اخلفني في قومي وأصلح». والثاني: لم تنتظر أمري فيهم.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٩٥ الى ٩٨]
قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (٩٥) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (٩٧) إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (٩٨)
قوله تعالى: فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ أي: ما أمرك وشأنك الذي دعاك إِلى ما صنعت؟ قال ابن الأنباري: وبعض اللغويين يقول: الخطب مشتق من الخطاب. المعنى: ما أمرُك الذي تخاطب فيه؟! واختلفوا في اسم السامري على قولين «٢» : أحدهما: موسى أيضاً، قاله وهب بن منبه، وقال: كان ابن عم موسى بن عمران. والثاني: ميخا، قاله ابن السائب.
وهل كان من بني إِسرائيل، أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: لم يكن منهم، قاله ابن عباس. والثاني:
كان من عظمائهم، وكان من قبيلة تسمى «سامرة»، قاله قتادة.
وفي بلده قولان: أحدهما: كرمان، قاله سعيد بن جبير. والثاني: باجرما، قاله وهب.
(١) سورة الأعراف: ١٥٠.
(٢) ليس في تسميته كبير فائدة، ولو تعلقت بذلك فائدة لذكره الله عز وجل.
173
قوله تعالى: بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ وقرأ حمزة والكسائي: «تَبصروا» بالتاء، فعلى قراءة الجمهور أشار إِلى بني إِسرائيل، وعلى هذه القراءة خاطب الجميع. قال أبو عبيدة: علمت ما لم يعلموا. قال: وقوم يقولون: بصرت، وأبصرت سواء، بمنزلة أسرعت، وسَرُعت. وقال الزجاج:
يقال: بصُر الرجل يبصُر: إِذا صار عليماً بالشيء، وأبصر يبصر: إِذا نظر. قال المفسرون: فقال له موسى: وما ذاك؟ قال: رأيت جبريل على فرس، فأُلقي في نفسي: أن اقبض من أثرها فَقَبَضْتُ قَبْضَةً، وقرأ أُبيُّ بن كعب، والحسن، ومعاذ القارئ: «قبصة» بالصاد. قال الفراء: والقبضة بالكفِّ كلِّها. والقبصة- بالصاد- بأطراف الأصابع. قال ابن قتيبه: ومثل هذا: الخضم بالفم كله، والقضم بأطراف الأسنان. والنضخ أكثر من النضح، والرجز: العذاب والرجس: النتن، والهُلاس في البدن، والسُّلاس في العقل، والغلط في الكلام، والغلت في الحساب، والخصر: الذي يجد البرد، والخرص: الذي يجد البرد والجوع، والنار الخامدة: التي قد سكن لَهَبها ولم يطفأ جمرها، والهامدة:
التي طفئت فذهبت البتَّة، والشُّكْد: العطاء ابتداءً، فإن كان جزاءً فهو شُكْم، والمائح: الذي يدخل البئر فيملأ الدلو، والماتح: الذي ينزعها.
قوله تعالى: فَنَبَذْتُها أي: فقذفتها في العجل. وقرأ أبو عمرو وحمزة، والكسائي، وخلف:
«فنبذتها» بالإِدغام وَكَذلِكَ أي: وكما حدثتك سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي أي: زيَّنتْ لي قالَ موسى فَاذْهَبْ أي: من بيننا فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أي: ما دمت حياً أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ أي: لا أَمسُّ ولا أُمَسُّ، فصار السامريُّ يهيم في البرِّيَّة مع الوحش والسباع، لا يمسَّ أحداً، ولاَ يمَسُّه أحدٌ، عاقبه الله بذلك، وألهمه أن يقول: «لا مساس»، فكان إِذا لقيَ أحداً يقول: لا مساس، أي: لا تقربني، ولا تمسّني، وصار بذلك عقوبة لولده، حتى بقاياهم اليوم، فيما ذكر أهل التفسير، بأرض الشام يقولون ذلك. وحكي أنه إِن مس واحدٌ من غيرهم واحداً منهم، أخذتهما الحمَّى في الحال. قوله تعالى: وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً أي: لعذابك يوم القيامة لَنْ تُخْلَفَهُ أي: لن يتأخر عنك ومن كسر لام «تخلف» أراد: لن تغيب عنه.
قوله تعالى: وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ يعني: العجل الَّذِي ظَلْتَ قال ابن عباس: معناه: أقمت عليه، وقال الفراء: معنى «ظلت» : فعلته نهاراً. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو الجوزاء، وابن يعمر: «ظُلت» برفع الظاء. وقرأ ابن مسعود، وأبو رجاء، والأعمش، وابن أبي عبلة: «ظِلت» بكسر الظاء. وقال الزجاج: «ظَلت» و «ظلت» بفتح الظاء وكسرها، فمن فتح، فالأصل فيه: «ظللت» ولكن اللام حذفت لثقل التضعيف والكسر، وبقيت الظاء على فتحها، ومن قرأ: «ظِلت» بالكسر، حوَّل كسرة اللام على الظاء. ومعنى عاكِفاً مقيماً، لَنُحَرِّقَنَّهُ قرأ الجمهور لَنُحَرِّقَنَّهُ بضم النون وفتح الحاء وتشديد الراء، وقرأ علي بن أبي طالب، وأبو زرين، وابن يعمر: «لنَحْرقنه» بفتح النون وسكون الحاء ورفع الراء مخففة. وقرأ أبو هريرة، والحسن، وقتادة: «لنحرقنه» برفع النون وإِسكان الحاء وكسر الراء مخففة.
قال الزجاج: إِذا شدد فالمعنى: نحرقه مرة بعد مرة وتأويل «لنحرقنَّه» : لنبردنَّه، يقال: حرقت أحرُق وأحْرِق: إِذا بردت الشيء، والنسف: التذرية. وجاء في التفسير: أن موسى أخذ العجل فذبحه، فسال منه دم، لأنه كان قد صار لحماً ودماً، ثم أحرقه بالنار، ثم ذراه في البحر، ثم أخبرهم موسى عن إِلههم، فقال: إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي: هو الذي يستحق العبادة، لا العجل،
174
وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أي: وسع علمه كلّ شيء.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٩٩ الى ١٠٤]
كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (٩٩) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (١٠٠) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (١٠١) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (١٠٢) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (١٠٣)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (١٠٤)
قوله تعالى: كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ أي: كما قصصنا عليك يا محمد من نبأ موسى وقومه، نقص عليك مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ أي: من أخبار من مضى، والذِّكْر ها هنا: القرآن مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فلم يؤمن به ولم يعمل بما فيه فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وقرأ عكرمة وأبو المتوكل، وعاصم الجحدري: «يُحَمَّل» برفع الياء وفتح الحاء وتشديد الميم، وِزْراً أي: إِثماً خالِدِينَ فِيهِ أي: في عذاب ذلك الوزر وَساءَ لَهُمْ قال الزجاج: المعنى: وساء الوزر لهم يوم القيامة حِمْلًا و «حملاً» منصوب على التمييز. قوله تعالى: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ قرأ أبو عمرو: «ننفخ» بالنون. وقرأ الباقون من السبعة:
«ينفخ» بالياء، على ما لم يسم فاعله. وقرأ أبو عمران الجوني: «يوم ينفخ» بياء مفتوحة ورفع الفاء وقد سبق ذكر الصّور. وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ وقرأ أُبيُّ بن كعب وأبو الجوزاء وطلحة بن مصرِّف: «ويحشر» بياء مفتوحة ورفع الشين. وقرأ ابن مسعود والحسن وأبو عمران: «ويحشر» بياء مرفوعة وفتح الشين، «المجرمون» بالواو. قال المفسرون: والمراد بالمجرمين: المشركون يَوْمَئِذٍ زُرْقاً وفيه قولان:
أحدهما: عُمياً، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وقال ابن قتيبة: بيض العيون من العمى، قد ذهب السواد والناظر. والثاني: زُرق العيون من شدة العطش، قاله الزهري. والمراد: أنه يشوِّه خَلْقَهم بسواد الوجوه وزرق العيون.
قوله تعالى: يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ أي: يسارّ بعضهم بعضاً إِنْ لَبِثْتُمْ أي: ما لبثتم إِلا عشر ليال.
وهذا على طريق التقليل، لا على وجه التحديد. وفي مرادهم بمكان هذا اللبث قولان: أحدهما:
القبور. ثم فيه قولان. أحدهما: أنهم عَنَوا طول ما لبثوا فيها، روى أبو صالح عن ابن عباس: إِن لبثتم بعد الموت إِلا عشراً. والثاني: ما بين النفختين، وهو أربعون سنة، فإنه يخفف عنهم العذاب حينئذ، فيستقلُّون مدة لبثهم لهول ما يعاينون، حكاه علي بن أحمد النيسابوري. والقول الثاني: أنهم عَنَوا لبثهم في الدنيا، قاله الحسن: وقتادة.
قوله تعالى: إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً أي: أعقلهم، وأعدلهم قولاً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً فنسي القوم مقدار لبثهم لهول ما عاينوا.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٠٥ الى ١١٤]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (١٠٥) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (١٠٦) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (١٠٧) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (١٠٨) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (١٠٩)
يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (١١٠) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (١١١) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (١١٢) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (١١٣) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (١١٤)
175
قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ.
(٩٧٨) سبب نزولها أن رجالاً من ثقيف أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقالوا يا محمد: كيف تكون الجبال يوم القيامة؟ فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
قوله تعالى: فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً قال المفسرون: النسف: التذرية. والمعنى: يصيِّرها رِمالاً تسيل سيلاً، ثم يصيِّرها كالصوف المنفوش، تطيِّرها الرياح فتستأصلها فَيَذَرُها أي: يدَع أماكنها من الأرض إِذا نسفها قاعاً قال ابن قتيبة القاع من الأرض: المستوي الذي يعلوه الماء، والصفصف:
المستوي أيضاً، يريد: أنه لا نبت فيها.
قوله تعالى: لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أن المراد بالعِوَج:
الأودية، وبالأمَتْ: الرَّوابي، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وكذلك قال مجاهد: العِوَج:
الانخفاض، والأمَتْ: الارتفاع، وهذا مذهب الحسن. وقال ابن قتيبة: الأمَتْ: النَّبَك. والثاني: أن العِوَج: المَيْل، والأَمْت: الأثَرَ مثل الشِّراك، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: أن العِوَج: الصدع، والأَمْت: الأَكَمة.
قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ قال الفراء: أي يتَّبعون صوت الداعي للحشر، لا عِوَج لهم عن دعائه: لا يقدرون أن لا يتَّبِعوا. قوله تعالى: وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ أي: سكنت وخفيت فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً وفيه ثلاثة أقوال: أَحدها: وطْء الأقدام، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وسعيد بن جبير، وعكرمة ومجاهد في رواية، واختاره الفراء، والزجاج. والثاني: تحريك الشفاه بغير نطق، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثالث: الكلام الخفيّ، روي عن مجاهد. وقال أبو عبيدة:
الصوت الخفيّ.
قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ يعني لا تنفع أحداً إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ أي: إِلا شفاعة من أَذِن له الرحمن، أي: أَذِن أن يُشْفَع له وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا أي: ورضي للمشفوع فيه قولاً، وهو الذي كان في الدنيا من أهل «لا إِله إِلا الله». يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ الكناية راجعة إِلى الذين يتَّبعون الداعي. وقد شرحنا هذه الآية في سورة البقرة «١» وفي هاء «به» قولان: أحدهما: أنها ترجع إِلى الله تعالى، قاله مقاتل. والثاني: إِلى «ما بين أيديهم وما خلفهم»، قاله ابن السائب.
قوله تعالى: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ قال الزجاج: «عَنَتْ» في اللغة: خضعت، يقال: عنا يعنو: إذا
باطل، عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، ورواية أبي صالح هو الكلبي وهذا إسناد ساقط، وتفرد به المصنف عند هذه الآية دون سائر أهل التفسير، ولم أجده عند غيره، فهو شبه موضوع، بل هو باطل.
__________
(١) سورة البقرة: ٢٥٥.
176
خضع، ومنه قيل: أُخِذتْ البلاد عَنْوَةً: إِذا أُخذتْ غَلَبة، وأُخذتْ بخضوع من أهلها. والمفسرون: على أن هذا في يوم القيامة، إِلا ما روي عن طلق بن حبيب: هو وضع الجبهة والأنف والكفّين والرُّكبتين وأطراف القدمين على الأرض للسّجود. وقد شرحنا في آية الكرسيّ معنى «الحيّ القيّوم» «١».
قوله تعالى: وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً قال ابن عباس: خَسِر من أشرك بالله.
قوله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ «من» ها هنا للجنس. وإِنما شرط الإِيمان، لأن غير المؤمن لا يُقبَل عملُه، ولا يكون صالحاً فَلا يَخافُ أي: فهو لا يخاف. وقرأ ابن كثير: «فلا يَخَفْ» على النهي. قوله تعالى: ظُلْماً وَلا هَضْماً فيه أربعة أقوال: أحدها: لا يخاف أن يُظلَم فيُزاد في سيِّئاته، ولا أن يُهضَم من حسناته، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: لا يخاف أن يُظلَم فيزاد من ذَنْب غيره، ولا أن يُهضم من حسناته، قاله قتادة. والثالث: لا يخاف أن يؤاخَذ بما لم يعمل، ولا يُنتقص من عمله الصالح، قاله الضحاك. والرابع: لا يخاف أن لا يُجزَى بعمله، ولا أن يُنقَص من حَقِّه، قاله ابن زيد. قال اللغويون: الهَضْم: النَّقْص، تقول العرب: هضمتُ لك من حَقِّي، أي:
حَطَطْتُ، ومنه: فلان هضيم الكَشْحَيْن، أي: ضامر الجنبين، ويقال: هذا شيء يهضم الطعام، أي:
ينقص ثِقْله. وفرق بعض المفسرين بين الظُّلم والهَضْم، فقال: الظُّلم: منع الحق كلِّه، والهضم: منع البعض، وإِن كان ظُلْماً أيضاً.
قوله تعالى وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ أي: وكما بيَّنَّا في هذه السورة، أنزلناه، أي: أنزلنا هذا الكتاب قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ أي: بيَّنَّا فيه ضروب الوعيد. قال قتادة: يعني: وقائعه في الأمم المكذِّبة. قوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي: ليكون سبباً لاتِّقائهم الشرك بالاتِّعاظ بِمَنْ قبلهم أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ أي: يجدِّد لهم القرآن، وقيل: الوعيد ذِكْراً أي: اعتباراً، فيتذكَّروا به عِقاب الأمم، فيعتبروا. وقرأ ابن مسعود، وعاصم الجحدري: «أو نُحْدِثُ» بنون مرفوعة. قوله تعالى: فَتَعالَى اللَّهُ أي: جَلَّ عن إِلحاد الملحِدين وقول المشركين في صفاته، الْمَلِكُ الذي بيده كلّ شيء، الْحَقُّ وقد ذكرناه في سورة يونس «٢».
قوله تعالى: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ في سبب نزولها قولان:
(٩٧٩) أحدهما: أن جبريل كان يأتي النبيّ صلى الله عليه وسلّم بالسورة والآي فيتلوها عليه، فلا يفرغ جبريل من
أصل الحديث محفوظ، وذكر سبب النزول لهذه الآية باطل. تفرد به أبو صالح عن ابن عباس، وعن أبي صالح الكلبيّ، وهو يضع الحديث. والذي صح في هذا الباب هو ما أخرجه البخاري ٥ و ٤٩٢٩ و ٥٠٤٤ و ٧٥٢٤ ومسلم ٤٤٨ والنسائي ٢/ ١٤٩ والترمذي ٣٣٢٩ وأحمد ١/ ٣٤٣ وابن سعد ١/ ١٩٨ والحميدي ٥٢٧ وابن حبان ٣٩ والطبراني ١٢٢٩٧ والطيالسي ٢٦٢٨ والبيهقي في «الأسماء والصفات» ١٩٨ كلهم عن ابن عباس في قوله: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
قال: كان النبي صلى الله عليه وسلّم يعالج من التنزيل شدة، كان يحرك شفتيه. فقال ابن عباس: أنا أحركهما كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يحركهما. فأنزل الله: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
قال: جمعه في صدرك، ثم تقرؤه فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
قال: فاستمع له وأنصت ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ثم إن علينا أن تقرأه. قال فكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا أتاه جبريل، استمع، فإذا انطلق جبريل، قرأه النبي صلى الله عليه وسلّم كما كان أقرأه». وليس في الحديث سبب نزول هذه الآية وإنما الآيات التي نزلت من سورة القيامة.
__________
(١) سورة البقرة: ٢٥٥.
(٢) سورة يونس: ٣٢.
177
آخرها حتى يتكلّم رسول الله صلى الله عليه وسلّم بأولها مخافة أن ينساها، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
(٩٨٠) والثاني: أن رجلاً لطم امرأته، فجاءت إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم تطلب القصاص، فعجّل رسول الله صلى الله عليه وسلّم بينهما القصاص، فنزلت هذه الآية، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى نزل قوله تعالى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ «١»، قاله الحسن البصري.
قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وقرأ ابن مسعود، والحسن، ويعقوب، «نَقْضِيَ» بالنون وكسر الضاد وفتح الياء «وَحْيَه» بنصب الياء.
وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: لا تعجل بتلاوته قبل أن يفرغ جبريل من تلاوته تخاف نسيانه، هذا على القول الأول. والثاني: لا تقرئ أصحابك حتى نبيِّن لك معانيه، قاله مجاهد، وقتادة.
والثالث: لا تسأل إِنزاله قبل أن يأتيك الوحي، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً فيه ثلاثة أقوال: أحدها: زِدْني قرآناً، قاله مقاتل. والثاني:
فهماً. والثالث: حفظا، ذكرهما الثّعلبيّ.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١١٥ الى ١٢٧]
وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (١١٦) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (١١٧) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (١١٩)
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (١٢٠) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (١٢١) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (١٢٢) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤)
قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (١٢٧)
قوله تعالى: وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ أي: أمرناه وأوصيناه أن لا يأكل من الشجرة مِنْ قَبْلُ أي:
مِنْ قبل هؤلاء الذين نقضوا عهدي وتركوا الإِيمان بي، وهم الذين ذكرهم في قوله: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ،
ضعيف جدا. أخرجه الطبري ٩٣٠٨ عن الحسن مرسلا، ومراسيل الحسن واهية والمتن منكر جدا، فإن السورة مكيّة.
__________
(١) سورة النساء: ٣٤.
178
والمعنى: أنهم إِن نقضوا العهد، فإن آدم قد عَهِدنا إِليه فَنَسِيَ.
وفي هذا النسيان قولان: أحدهما: أنه التَّرك، قاله ابن عباس، ومجاهد، والمعنى: ترك ما أُمِر به. والثاني: أنه من النسيان الذي يخالف الذِّكْر، حكاه الماوردي. وقرأ معاذ القارئ، وعاصم الجحدري، وابن السميفع: «فَنُسّيَ» برفع النون وتشديد السين.
قوله تعالى: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً العَزْمُ في اللغة: توطينُ النفس على الفعل.
وفي المعنى أربعة أقوال «١» : أحدها: لم نجد له حفظاً، رواه العوفي عن ابن عباس، والمعنى:
لم يحفظ ما أُمِر به. والثاني: صبراً، قاله قتادة، ومقاتل، والمعنى: لم يصبر عمَّا نُهي عنه. والثالث:
حزماً، قاله ابن السائب. قال ابن الأنباري: وهذا لا يُخرج آدم من أُولي العزم، وإِنما لم يكن له عزم في الأكل فحسب. والرابع: عزماً في العَوْد إِلى الذَّنْب، ذكره الماوردي. وما بعده هذا قد تقدّم تفسيره «٢» إِلى قوله تعالى: فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى قال المفسرون: المراد به نَصَب الدُّنيا وتعبها من تكلُّف الحرث والزرع والعجن والخَبزْ وغير ذلك. قال سعيد بن جبير: أُهبط إِلى آدم ثور أحمر، فكان يعتمل عليه ويمسح العرق عن جبينه، فذلك شقاؤه. قال العلماء: والمعنى: فتشقَيا وإِنما لم يقل فتشقيا، لوجهين: أحدهما: أن آدم هو المخاطَب، فاكتفى به، ومثله: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ «٣»، قاله الفراء. والثاني: أنه لما كان آدم هو الكاسب، كان التعب في حَقِّه أكثر، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: أَلَّا تَجُوعَ فِيها قرأ أُبيّ بن كعب: «لا تُجاع ولا تعرى» بالتاء المضمومة والألف.
وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم: «وأَنَّكَ» مفتوحة الألف. وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم: «وإِنَّكَ» بكسر الألف. قال أبو علي: من فتح حمله على أن لك أن لا تجوع وأن لك أن لا تظمأ، ومن كسر استأنف.
قوله تعالى: لا تَظْمَؤُا فِيها أي: لا تعطش. يقال: ظمئ الرجل يظمأ ظمأ، فهو ظمآن، أي:
عطشان. ومعنى وَلا تَضْحى لا تبرز للشمس فيصيبك حَرُّها، لأنه ليس في الجنة شمس. قوله تعالى: هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ أي: على شجرةٍ مَنْ أكل منها لم يَمُتْ وَمُلْكٍ لا يَبْلى جديده ولا يفنى، وما بعد هذا مفسر في الأعراف «٤». وفي قوله تعالى: فَغَوى قولان: أحدهما: ضلَّ طريق الخلود حيث أراده من قِبَل المعصية. والثاني: فسد عليه عيشه، لأن معنى الغيّ: الفساد. قال ابن الأنباري: وقد غلط بعض المفسرين، فقال: معنى «غوى» : أكثر مما أكل من الشجرة حتى بشم «٥»، كما يقال: غوى الفصيل إِذا أكثر من لبن أمّه فبشم وكاد يهلك، وهذا خطأٌ من وجهين: أحدهما: أنه لا يقال من البشم: غَوَى يَغْوِي، وإِنما يقال: غَوِي يَغْوَى. والثاني: أن قوله تعالى: فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ «٦» يدل على أنهما لم يُكثِرا، ولم تتأخر عنهما العقوبة حتى يصلا إِلى الإِكثار. قال ابن قتيبة: فنحن نقول
(١) قال الطبري رحمه الله ٨/ ٤٦٦: وأصل العزم: اعتقاد القلب على الشيء، ومن اعتقاد القلب: حفظ الشيء ومنه الصبر على الشيء، لأنه لا يجزع جازع إلا من خور قلبه وضعفه، فيكون تأويله ولم نجد له عزم قلب، على الوفاء لله بعهده، ولا على حفظ ما عهد إليه.
(٢) سورة البقرة: ٣٤.
(٣) سورة ق: ١٧.
(٤) سورة الأعراف: ٢٢. [.....]
(٥) في «اللسان» : البشم: التخمة عن الدسم.
(٦) سورة الأعراف: ٢٢.
179
في حق آدم: عصى وغوى كما قال الله عزّ وجلّ، ولا نقول: آدم عاصٍ وغاوٍ، كما تقول لرجل قطع ثوبه وخاطه: قد قطعه وخاطه، ولا تقول: هذا خياط، حتى يكون معاوداً لذلك الفعل، معروفاً به.
قوله تعالى: ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ قد بيَّنَّا الاجتباء في الأنعام «١». فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى أي: هداه للتوبة. قالَ اهْبِطا في المشار إِليهما قولان: أحدهما: آدم وإِبليس، قاله مقاتل. والثاني: آدم وحواء، قاله أبو سليمان الدّمشقي. ومعنى قوله عزّ وجلّ: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ آدم وذريته، وإِبليس وذريته، والحية أيضاً وقد شرحنا هذا في البقرة «٢».
قوله تعالى: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ أي: رسولي وكتابي فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى قال ابن عباس: من قرأ القرآن واتَّبَع ما فيه، هداه الله من الضلالة، ووقاه سوء الحساب، ولقد ضمن الله لمن اتَّبع القرآن أن لا يَضِلَّ في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، ثم قرأ هذه الآية. قوله تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي قال عطاء: عن موعظتي. وقال ابن السائب: عن القرآن ولم يؤمن به ولم يتَّبعه. قوله تعالى: فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً قال أبو عبيدة: معناه: معيشة ضيِّقة، والضَّنك يوصَف به الأنثى والذكر بغير هاءٍ، وكل عيش أو مكان أو منزل ضيِّق، فهو ضَنك، وأنشد:
وإِنْ نَزَلُوا بِضَنْكٍ فانْزلِ «٣» وقال الزجاج: الضَّنْك أصله في اللغة: الضِّيق والشدَّة.
وللمفسرين في المراد بهذه المعيشة خمسة أقوال: أحدها: أنها عذاب القبر.
(٩٨١) رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أتدرون ما المعيشة الضنك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: عذاب الكافر في قبره، والذي نفسي بيده إِنه ليسلَّط عليه تسعة وتسعون تِنِّيناً ينفخون في جسمه ويلسعونه ويخدشونه إِلى يوم القيامة». وممن ذهب إِلى أنه عذاب القبر ابن مسعود، وأبو سعيد الخدري، والسدي.
ضعيف. أخرجه ابن حبان ٣١٢٢ والطبري ٢٤٤٢٦ والبيهقي في «إثبات عذاب القبر» ٦٨ من حديث أبي هريرة، وإسناده ضعيف، وقال الشيخ شعيب في «الإحسان» : إسناده حسن. فإن أبا السمح أحاديثه مستقيمة إلا ما كان عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، وهو هاهنا عن ابن حجيرة وقد روى له مسلم اه.
وفيما قاله نظر. جاء في «الميزان» ٢٦٦٧ في ترجمة درّاج أبي السّمح ما ملخصه: قال أحمد: أحاديثه مناكير، ولينه. وقال الدوري عن يحيى: ليس به بأس، وقال الدارمي عن يحيى: ثقة. وقال فضلك الرازي: ما هو ثقة ولا كرامة وقال النسائي: منكر الحديث، وفي رواية: ليس بالقوي. وقال أبو حاتم: ضعيف. وساق له ابن عدي أحاديث، وقال: عامتها لا يتابع عليها. وقال الدارقطني: ضعيف. ورواية: متروك اه. فتلخص من هذا، أن الرجل ضعفه الجمهور، وهو الصواب. وحديثه هذا منكر، فمثله لا يحسن حديثه خلافا للشيخ شعيب. والله الموفق. وقال ابن كثير عقب هذا الحديث: رفعه منكر جدا. راجع «تفسيره» ٣/ ٢١٣ و «تفسير الشوكاني» ١٦١٠ و ١٦١١ بتخريجي، والله الموفق.
__________
(١) سورة الأنعام: ٨٧.
(٢) سورة البقرة: ٣٦.
(٣) هو جزء من عجز بيت لعنترة بن شداد العبسي وهو في مختار الشعر الجاهلي ١/ ٣٨٨ و «اللسان» - ضنك- وتمامه:
إن يلحقوا أكرر وإن يستلحموا أشدد وإن يلفوا بضنك أنزل
والضنك: الضيق من كل شيء.
180
والثاني: أنه ضغطة القبر حتى تختلف أضلاعه فيه، رواه عطاء عن ابن عباس. والثالث: شِدَّة عيشه في النار، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وقتادة، وابن زيد. قال ابن السائب:
وتلك المعيشة من الضريع والزقُّوم. والرابع: أن المعيشة الضَّنْك: كسب الحرام، روى الضحاك عن ابن عباس قال: المعيشة الضَّنْك: أن تضيق عليه أبواب الخير فلا يهتدى لشيء منها، وله معيشة حرام يركض فيها. قال الضحاك: فهذه المعيشة هي الكسب الخبيث، وبه قال عكرمة. والخامس: أن المعيشة الضَّنْك: المال الذي لا يتَّقي اللهَ صاحبُه فيه، رواه العوفي عن ابن عباس.
فخرج في مكان المعيشة ثلاثة أقوال: أحدها: القبر. والثاني: الدنيا. والثالث: جهنم.
وفي قوله تعالى: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وحفص عن عاصم: «أعمى» «حشرتَني أعمى» بفتح الميمين، وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم بكسرهما. وقرأ نافع بين الكسر والفتح. ثم في هذا المعنى للمفسرين قولان: أحدهما: أعمى البصر، روى أبو صالح عن ابن عباس قال: إِذا أُخرج من القبر خرج بصيراً، فإذا سيق إِلى المحشر عمي.
والثاني: أعمى عن الحُجَّة، قاله مجاهد، وأبو صالح. قال الزجاج: معناه: فلا حُجَّة له يهتدي بها، لأنه ليس للناس على الله حُجَّة بعد الرسل.
قوله تعالى: كَذلِكَ أي: الأمر كذلك كما ترى أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها أي: فتركتَها ولم تؤمن بها، وكما تركتَها في الدنيا تُترَك اليوم في النار وَكَذلِكَ أي: وكما ذكرناه نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ أي: أشرك وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ من عذاب الدنيا ومن عذاب القبر وَأَبْقى لأنه يدوم.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٢٨ الى ١٣٠]
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (١٢٨) وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (١٣٠)
قوله تعالى: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ أي: أفلم يتبيَّن لكفار مكة إِذا نظروا آثار مَنْ أهلكْنا مِنَ الأمم وكانت قريش تتَّجر وترى مساكن عاد وثمود وفيها علامات الهلاك، فذلك قوله تعالى: يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ. وروى زيد عن يعقوب: «أفلم نَهْدِ» بالنون.
قوله تعالى: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ في تأخير العذاب عن هؤلاء الكفار إِلى يوم القيامة، وقيل: إِلى يوم بدر، وقيل: إِلى انقضاء آجالهم لَكانَ لِزاماً أي: لكان العذاب لزاماً، أي: لازماً لهم. واللِّزام: مصدر وُصف به العذاب. قال الفراء وابن قتيبة: في هذه الآية تقديم وتأخير، والمعنى:
ولولا كلمة وأَجَل مسمّىً لكان لزاماً.
قوله تعالى: فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ أمر الله تعالى نبيَّه بالصبر على ما يسمع من أذاهم إِلى أن يحكم الله فيهم، ثم حكم فيهم بالقتل، ونسخ بآية السيف إِطلاق الصّبر.
قوله تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي: صلِّ له بالحمد له والثناء عليه قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ يريد الفجر وَقَبْلَ غُرُوبِها يعني: العصر وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ الآناء: الساعات، وقد بيَّنَّاها في آل عمران «١»،
(١) سورة آل عمران: ١١٣.
فَسَبِّحْ أي: فصلِّ.
وفي المراد بهذه الصلاة أربعة أقوال: أحدها: المغرب والعشاء، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال قتادة. والثاني: جوف الليل، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: العشاء، قاله مجاهد، وابن زيد. والرابع: أول الليل وأوسطه وآخره، قاله الحسن.
قوله تعالى: وَأَطْرافَ النَّهارِ المعنى: وسبِّح أطرافَ النهاء. قال الفرّاء: إنّما هما طَرَفان، فخرجا مخرج الجمع، كقوله تعالى: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما «١».
وللمفسرين في المراد بهذه الصلاة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الظُّهر، قاله قتادة فعلى هذا، إِنما قيل لصلاة الظهر: أطراف النهار، لأن وقتها عند الزوال، فهو طَرَف النِّصف الأول النِّصف الثاني.
والثاني: أنها صلاة المغرب وصلاة الصبح، قاله ابن زيد وهذا على أن الفجر في ابتداء الطّرف الأوّل، والمغرب عند انتهاء الطَّرف الثاني. والثالث: أنها الفجر والظهر والعصر فعلى هذا يكون الفجر من الطرف الأول، والظهر والعصر من الطرف الثاني، حكاه الفراء.
قوله تعالى: لَعَلَّكَ تَرْضى قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، وحفص عن عاصم: «ترضى» بفتح التاء. وقرأ الكسائي، وأبو بكر عن عاصم بضمها. فمن فتح، فالمعنى: لعلَّك ترضى ثواب الله الذي يُعطيك. ومَنْ ضمَّها، ففيه وجهان: أحدهما: لعلَّكَ ترضى بما تُعطى. والثاني:
لعلَّ الله أن يرضاك.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٣١ الى ١٣٢]
وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٣١) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (١٣٢)
قوله تعالى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ.
(٩٨٢) سبب نزولها، ما روى أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، قال: نزل ضيف برسول الله صلى الله عليه وسلّم، فدعاني فأرسلني إِلى رجل من اليهود يبيع طعاماً، فقال: قل له: إِن رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «بعني كذا وكذا من الدقيق، أو أسلفني إِلى هلال رجب» فأتيته فقلت له ذلك، فقال اليهودي: والله لا أبيعه ولا أسلفه إلّا برهن، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخبرتُه، فقال: «والله لو باعني أو أسلفني لقضيته، وإِني لأمين في السماء أمين في الأرض، اذهب بدرعي الحديد إِليه»، فنزلت هذه الآية تعزية له في الدنيا. قال أُبيّ بن كعب: من لم يتعزَّ بعزاء الله تقطَّعت نفسه حسراتٍ على الدنيا. وقد مضى تفسير هذه الآية في آخر سورة الحجر «٢».
إسناده ضعيف، والمتن منكر. أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» ٦١٥ من طريق روح عن موسى بن عبيدة الربذي عن يزيد عن عبد الله بن قسيط عن أبي رافع به. وفيه موسى بن عبيدة الربذي، ضعيف ليس بشيء.
وأخرجه الطبري ٢٤٤٥٥ من طريق موسى بن عبيدة بالإسناد السابق مختصرا. وأخرجه الطبري ٢٤٤٥٦ من وجه آخر من حديث أبي رافع، وفيه الحسين بن داود، وهو ضعيف. ثم إن السورة مكية كما تقدم في مطلعها، وأما الخبر فمدني. وانظر «فتح القدير» ١٦١٦.
__________
(١) سورة التحريم: ٤.
(٢) سورة الحجر: ٨٨.
قوله تعالى: زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وقرأ ابن مسعود، والحسن، والزهري، ويعقوب: «زَهَرة» بفتح الهاء. قال الزجاج: وهو منصوب بمعنى «متَّعنا»، لأن معنى «متَّعنا» : جعلنا لهم الحياة الدنيا زهرة، لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ أي: لنجعل ذلك فتنة لهم. وقال ابن قتيبة: لنختبرهم. قال المفسرون: زهرة الدنيا:
بهجتها وغضارتها وما يروق الناظر منها عند رؤيته، وهو من زهرة النبات وحسنه. قوله تعالى: وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى فيه قولان: أحدهما: أنه ثوابه في الآخرة. والثاني: القناعة.
قوله تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ قال المفسرون: المراد بأهله: قومه ومن كان على دينه، ويدخل في هذا أهل بيته «١». قوله تعالى: وَاصْطَبِرْ عَلَيْها أي: واصبر على الصلاة لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً أي: لا نكلِّفك رزقاً لنفسك ولا لِخَلقنا، إِنما نأمرك بالعبادة ورزقُكَ علينا، وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى أي:
وحُسن العاقبة لأهل التقوى. وكان بكر بن عبد الله المزني إِذا أصاب أهلَه خصاصةٌ قال: قوموا فصلُّوا، ثم يقول: بهذا أمر الله تعالى ورسوله، ويتلو هذه الآية.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٣٣ الى ١٣٥]
وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٣٣) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (١٣٤) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (١٣٥)
قوله تعالى: وَقالُوا يعني: المشركين لَوْلا أي: هلاّ يَأْتِينا محمد بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أي كآيات الأنبياء، نحو النّاقة والعصا أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ قرأ نافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم: «تأتهم» بالتاء.
وقرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: «يأتهم» بالياء.
قوله تعالى: بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى أي: أولم يأتهم في القرآن بيان ما في الكتب من أخبار الأمم التي أهلكناها لمَّا سألوا الآيات ثم كفروا بها، فما يؤمِّنهم أن تكون حالُهم في سؤال الآيات كحال أولئك؟! وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ يعني: مشركي مكة بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ في الهاء قولان: أحدهما: أنها ترجع إِلى الكتاب، قاله مقاتل. والثاني: إِلى الرسول، قاله الفراء.
قوله تعالى: لَقالُوا يوم القيامة رَبَّنا لَوْلا أي: هلاّ أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا يدعونا إِلى طاعتك فَنَتَّبِعَ آياتِكَ أي: نعمل بمقتضاها مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ بالعذاب وَنَخْزى في جهنم. وقرأ ابن عباس، وابن السميفع، وأبو حاتم عن يعقوب: «نُذَلَّ» «ونُخْزَى» برفع النون فيهما، وفتح الذال.
قُلْ لهم يا محمد: كُلٌّ منا ومنكم مُتَرَبِّصٌ أي: نحن نتربَّص بكم العذاب في الدنيا، وأنتم تتربصون بنا الدوائر فَتَرَبَّصُوا أي: فانتظروا فَسَتَعْلَمُونَ إِذا جاء أمر الله مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ أي: الدِّين المستقيم وَمَنِ اهْتَدى من الضلالة، أنحن، أم أنتم؟ وقيل: هذه منسوخة بآية السيف، وليس بشيء.
(١) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» ٢/ ٣٥٠: ويؤدب الغلام على الطهارة والصلاة إذا تمت له عشر سنين. وهذا الأمر والتأديب في حق الصبي لتمرينه على الصلاة، كي يألفها ويعتادها والأصل في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلّم: «علّموا الصبي الصلاة ابن سبع سنين واضربوه عليها ابن عشر».
Icon