تفسير سورة طه

فتح البيان
تفسير سورة سورة طه من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن المعروف بـفتح البيان .
لمؤلفه صديق حسن خان . المتوفي سنة 1307 هـ
بسم الله الرحمان الرحيم
سورة طه
آياتها مائة وثلاثون آية أو أربعون واثنتان
قال القرطبي : مكية في قول الجميع، وبه قال ابن عباس وابن الزبير، وقال السيوطي في الإتقان : استثنى منها ( فاصبر على ما يقولون. ).
وأخرج ابن مردويه عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( كل القرآن يوضع عن أهل الجنة فلا يقرءون منه شيئا إلا سورة طه ويس فإنهم يقرءون بهما في الجنة ) وعن أنس بن مالك فذكر قصة عمر ابن الخطاب مع أخته وخباب، وقراءتهما طه، وكان ذلك سبب إسلام عملا والقصة مشهورة في كتب السير.

(طه) قد اختلف أهل العلم في معنى هذه الكلمة على أقوال:
الأول: أنها من المتشابه الذي لا يفهم المراد به.
والثاني: أنها بمعنى يا رجل في لغة عكل، وفي لغة عك (١)، قال الكلبي: لو قلت لرجل من عك يا رجل لم يجب حتى تقول طه، وقيل إنها في لغة عك بمعنى يا حبيبي. وقال قطرب: هي كذلك في لغة طيء، أي بمعنى يا رجل، وكذا قال الحسن وعكرمة، وقيل هي كذلك في اللغة السريانية حكاه المهدوي، وحكى ابن جرير أنها كذلك في اللغة النبطية، وبه قال السدي وسعيد بن جبير، وحكى عن عكرمة أنها كذلك في لغة الحبشة ولا مانع من أن تكون هذه الكلمة موضوعة لذلك المعنى في تلك اللغات كلها إذا صح النقل.
الثالث: أنها اسم من أسماء الله سبحانه.
الرابع: أنها اسم للنبي صلى الله عليه وسلم.
الخامس: أنها اسم للسورة.
_________
(١) عك قبيلة من قبائل العرب، إهـ خازن.
209
السادس: أنها حروف مقطعة كل واحد منها على معنى، ثم اختلفوا في هذه المعاني التي تدل عليها هذه الحروف، على أقوال كلها متكلفة متعسفة.
السابع: أن معناها طوبى لمن اهتدى.
الثامن: أن معناها طأ الأرض يا محمد قال ابن الأنباري: وذلك أن النبي ﷺ كان يتحمل مشقة الصلاة حتى كادت قدماه تتورم ويحتاج إلى التروح، فقيل له: طأ الأرض أي لا تتعب حتى تحتاج إلى التروض.
وحكى القاضي عياض في الشفاء عن الربيع بن أنس قال: كان النبي ﷺ إذا صلى قام على رجل ورفع الأخرى فأنزل الله طه يعني طأ الأرض يا محمد، وعن الحسن البصري أنه قرأ: طه، على وزن دع أمر بالوطء والأصل طأ فقلبت الهمزة هاء.
التاسع: أنه قسم أقسم الله بطوله وهدايته، وعن أكثر المفسرين أن معناها يا رجل يريد النبي ﷺ وهو قول الحسن وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة ومجاهد وابن عباس غير أن بعضهم يقول: إنها بلسان الحبشة والنبطية والسريانية ويقول الكلبي. هي بلغة عك كما مر.
قال ابن الأنباري: ولغة قريش وافقت تلك اللغة في هذا المعنى لأن الله سبحانه لم يخاطب نبيه ﷺ بلسان غير قريش انتهى وإذا تقرر أنها لهذا المعنى في لغة من لغات العرب كانت ظاهرة المعنى، واضحة الدلالة؛ خارجة عن فواتح السور، التي قدمنا بيان كونها من المتشابه في فاتحة سورة البقرة وهكذا إذا كانت لهذا المعنى في لغة من لغات العجم، واستعملتها العرب في كلامها في ذلك المعنى كسائر الكلمات العجمية التي استعملتها العرب الموجودة في الكتاب العزيز، فإنها صارت بذلك الاستعمال من لغة
210
العرب، قال النسفي: وما روي أن معناه يا رجل فإن صح فظاهر وإلا فالحق ما هو المذكور في سورة البقرة، انتهى ولذا قال المحلى والله أعلم بمراده بذلك.
211
(ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) مستأنفة مسوقة لتسلية رسول الله ﷺ عما كان يعتريه من جهة المشركين من التعب، والشقاء يجيء في معنى التعب وشائع فيه.
قال ابن كيسان: وأصل الشقاء في اللغة التعب والعناء، ولعله عدل إليه للإشعار بأنه أنزل عليه ليسعد والمعنى ما أنزلنا عليك يا محمد القرآن لتتعب بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم وتحسرك على أن يؤمنوا إذ ما عليك إلا أن تبلغ، فهو كقوله سبحانه: (فلعلك باخع نفسك).
قال النحاس: بعض النحاة يقول هذه اللام في لتشقى لام النفي وبعضهم يقول لام الجحود، وقال ابن كيسان: هي لام الخفض وهذا التفسير للآية على قول من قال إن طه كسائر فواتح السور التي ذكرت تعديداً لأسماء الحروف، وإن جعلت اسماً للسورة كان قوله ما أنزلنا الخ خبراً عنها.
وأما على أن معناها يا رجل أو بمعنى الأمر بوطء الأرض فتكون الجملة مستأنفة أيضاً مسوقة لصرفه (- ﷺ -) عما كان عليه من المبالغة في العبادة.
وعن ابن عباس قال: إن النبي ﷺ أول ما أنزل عليه الوحي كان يقوم على صدر قدميه إذا صلى فأنزل الله طه، الآية، وعنه قال: قالوا: لقد شقي هذا الرجل بربه فأنزل الله هذه الآية، وعنه قال: كان رسول الله ﷺ إذا قام من الليل يربط نفسه بحبل لئلا ينام فأنزل الله هذه الآية، وعن علي كان يراوح بين قدميه يقوم على كل رجل حتى نزلت هذه الآية وحسن السيوطي إسناده.
211
وانتصاب
212
(إلا تذكرة) على أنه مفعول له لأنزلنا، كقولك: ما ضربتك للتأديب إلا إشفاقاً عليك، وقال الزجاج: هو بدل لتشقى، أي ما أنزلناه إلا تذكرة، وأنكره أبو علي الفارسي من جهة أن التذكرة ليست الشقاء، قال: وإنما هو منصوب على المصدرية أي أنزلناه لتذكر به تذكرة أو على المفعول من أجله أي ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى به ما أنزلناه إلا للتذكرة، وقيل الاستثناء منقطع لأن التذكرة ليست من جنس الشقاء المنفي أي لكن أنزلناه عظة.
(لمن يخشى) أي لمن خاف الله أو لمن يؤول أمره إلى الخشية أو لمن في قلبه خشية ورقة يتأثر بالإنزال. أو لمن علم الله أنه يخشى بالتخويف منه فإنه المنتفع، وكأنه يشير إلى أن اللام في لمن للعاقبة
(تنزيلاً ممن خلق الأرض والسماوات العلى) أي أنزلناه تنزيلاً، أو بدل من تذكرة، أو منصوب على المدح أو يخشى تنزيلاً من الله أو على الحال وبالرفع على معنى هذا تنزيل وتخصيص خلق الأرض والمسموات لكونهما أعظم ما يشاهده العباد من مخلوقاته عز وجل، والعلى جمع العليا أي المرتفعة كجمع كبرى وصغرى على كُبَر وصُغَر، وفي الآية إخبار لعباده عن كمال عظمته سبحانه وعظيم جلاله.
(الرحمن على العرش) هو في اللغة السرير، وقيل هو ما علا فأظل وسمي مجلس السلطان عرشاً اعتباراً بعلوه (استوى) استواء يليق به، قال ثعلب: الاستواء الإقبال على الشيء. وكذا قال الزجاج والفراء، وقيل هو كناية عن الملك والعز والسلطان، وأما استوى بمعنى استقر، فقد رواه البيهقي في كتاب الأسماء والصفات بروايات كثيرة عن جماعة من السلف وضعفها كلها.
وعن مالك: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة؛ قال البغوي: أهل السنة يقولون الاستواء على العرش صفة الله بلا كيف يجب على الرجل الإيمان به ويكل العلم به إلى الله عز
212
وجل، وعن الثوري والأوزاعي والليث وابن عيينة وابن المبارك وغيرهم في أمثال هذه الآيات التي جاءت في الصفات أقروها كما جاءت بلا كيف وفيه مذهبان.
الأول: القطع بكونه تعالى متعالياً عن المكان والجهة وعدم الخوض في تأويلها وبه قال الخازن واختاره.
الثاني: الخوض فيه على التفصيل، وفيه قولان:
الأول: العرش في كلامهم هو السرير الذي يجلس عليه الملك، فإذا استقام له ملكه، واطرد أمره ونفذ حكمه قالوا استوى على عرشه واستوى على سرير ملكه قاله القفال، قال الخازن: والذي قاله حق وصواب والمراد منه نفاذ القدرة وجريان المشيئة، ويدل على صحة هذا قوله في سورة يونس. (ثم استوى على العرش يدبر الأمر) فقوله يدبر الأمر جرى مجرى التفسير لقوله: ثم استوى على العرش.
الثاني: أن يكون استوى بمعنى استولى، وهذا مذهب المعتزلة وجماعة من المتكلمين، واحتجوا عليه بقول الشاعر.
قد استوى بشر على عراق من غير سيف ودم مهراق
ورد هذا بأن العرب لا تعرف استوى بمعنى استولى، وإنما يقال استوى فلان على كذا إذا لم يكن في ملكه، ثم ملكه واستولى عليه، والله تعالى لم يزل مالكاً للأشياء كلها ومستولياً عليها، فأي تخصيص للعرش هنا دون غيره من المخلوقات؛ وقال أبو الحسن الأشعري: المعنى أن الله مستو على عرشه وأنه فوق الأشياء بائن منها ولا تحله ولا يحلها ولا يماسها ولا يشبهها.
وعن ابن الأعرابي: جاءه رجل فقال: ما معنى هذه الآية؟ قال: إنه مستو على عرشه كما أخبر فقال الرجل إنما معنى قوله: استوى استولى فقال له
213
ابن الأعرابي: ما يدريك العرب لا تقول استوى فلان على الشيء، حتى يكون له فيه مضاد فأيهما غلب؟ قيل لمن غلب قد استولى عليه والله تعالى لا مضاد له فهو على عرشه كما أخبر، لا كما يظنه البشر، وقد تقدم الكلام على هذه الآية في سورة الأعراف وفيه رسائل مستقلة وكتب مفردة للحفاظ والمحدثين ونزاع قديم بين المتقدمين والمتأخرين.
والحق ما ذهب إليه سلف الأمة وأئمتها من إمرار الصفات على ظاهرها من غير تكييف ولا تعطيل ولا تمثيل ولا تحريف ولا تشبيه ولا تأويل، والذي ذهب إليه أبو الحسن الأشعري أنه سبحانه مستو على عرشه بغير حدّ ولا كيف وإلى هذا القول سبقه الجماهير من السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم والمجتهدين الأربعة وأهل الحديث والأثر، الذين يمرون الصفات كما وردت من دون تحريف ولا تعطيل ولا تأويل والبحث في تحقيق هذا يطول جداً وليس هذا موضع بسط ذلك رداً وتعقباً وقد أوضحنا ذلك إيضاحاً شافياً في رسائلنا (الانتقال الرجيح) و (هداية السائل) و (بغية الرائد) (١) وغيرها فليرجع إليها قاله الشوكاني.
_________
(١) يسر الله لنا طبعها.
214
(له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما) من الموجودات؛ وقيلِ يعني الهواء (وما تحت الثرى) هو في اللغة التراب الندي فإن لم يكن ندياً فهو تراب ولا يقال له حينئذ ثرى، أي ما تحت التراب النديّ من شيء، والمراد الأرضون السبع لأنها تحته.
قال الواحدي: والمفسرون يقولون: إنه سبحانه أراد الثرى الذي تحت الصخرة التي عليها الثور الذي تحت الأرض، ولا يعلم ما تحت الثرى إلا الله سبحانه. قال قتادة: الثرى كل شيء مبتل.
214
وأخرج أبو يعلى عن جابر أن النبي ﷺ سئل ما تحت هذه الأرض؟ قال: " الماء "، قيل فما تحت الماء؟ قال: " ظلمة "، قيل فما تحت الظلمة؟ قال: " الهواء " قيل فما تحت الهواء، قال: " الثرى "، قيل فما تحت الثرى، قال: " انقطع علم المخلوقين عند علم الخالق ". وأخرج ابن مردويه عنه نحوه بأطول منه.
215
(وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى) الجهر بالقول هو رفع الصوت به، والسر ما حدَّث به الإنسان غيره وأسره إليه، والأخفى من السر هو ما حدّث به الإنسان نفسه وأخطره بباله، والمعنى أن تجهر بذكر الله ودعائه فاعلم أنه غني عن ذلك فإنه يعلم السر وما هو أخفى من السر فلا حاجة لك إلى الجهر بالقول، وفي هذا معنى النهي عن الجهر كقوله سبحانه: (واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة) وقيل السر ما أسر الإنسان في نفسه، والأخفى منه هو ما خفي على ابن آدم مما هو فاعله وهو لا يعلمه. وبه قال ابن عباس، وزاد فإنه يعلم ذلك كله فيما مضى من ذلك وما بقى علم واحد؛ وجميع الخلائق عنده في ذلك كنفس واحدة، وهو كقوله (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة).
وقيل السر ما أضمره الإنسان في نفسه والأخفى منه ما لم يكن ولا أضمره أحد، وقيل السر سر الخلائق، والأخفى منه سر الله عز وجل، وأنكر ذلك ابن جرير وقال: إن الأخفى ما ليس في سر الإنسان وسيكون في نفسه. وعن ابن عباس أيضاً قال: السر ما علمته أنت، وأخفى ما قذف الله في قلبك مما لم تعلمه، وفي لفظ: يعلم ما تسر في نفسك ويعلم ما تعمل غداً.
وفي الآية تنبيه على أن الذكر والدعاء والجهر فيهما ليس لإعلام الله تعالى وإسماعه، بل لغرض آخر كتصوير النفس بالذكر ورسوخها فيه ودفع الشواغل والوساس، ومنعها عن الاشتغال بغيره، وهضمها بالتضرع والجؤار
215
ثم ذكر أن الموصوف بالعبادة على الوجه المذكور هو الله سبحانه المتنزه عن الشريك المستحق لتسميته بالأسماء الحسنى فقال:
216
(الله) أي الموصوف بهذه الصفات الكمالية الله، وجملة (لا إله إلا هو) مستأنفة لبيان اختصاص الإلهية به سبحانه أي لا إله في الوجود إلا هو وهكذا جملة (له الأسماء الحسنى) مبينة لاستحقاقه تعالى لها وهي التسعة والتسعون، التي بها ورد الحديث الصحيح، وقد تقدم بيانها في سورة الأعراف؛ والحسنى تأنيث الأحسن فهي اسم تفضيل يوصف به الواحد من المؤنث والجمع من المذكر ثم قرر سبحانه أمر التوحيد الذي إليه انتهى مساق الحديث، بذكر قصة موسى المشتملة على القدرة الباهرة والخبر الغريب فقال:
(وهل أتاك حديث موسى) الاستفهام للتقرير؛ ومعناه أليس قد أتاك؟ وقيل معناه قد أتاك، وقال الكلبي: لم يكن قد أتاه حديث موسى إذ ذاك، وفي سياق هذه القصة تسلية للنبي ﷺ لما يلاقيه من مشاق أحكام النبوة وتحمل أثقالها ومقاساة خطوبها وأن ذلك شأن الأنبياء قبله، وأنه أمر مستمر فيما بينهم كابراً عن كابر، والمراد بالحديث القصة الواقعة لموسى.
(إذ رأى ناراً) أي اذكر وقت رؤيته ناراً، وقيل أي حين رأى ناراً كان كيت كيت، وكانت رؤيته للنار في ليلة مظلمة مثلجة شاتية شديدة البرد لما خرج مسافراً إلى أمه بعد استئذانه لشعيب وكانت ليلة الجمعة.
(فقال لأهله امكثوا) المراد بالأهل هنا امرأته، وهي بنت شعيب واسمها صفورا، وقيل صفوريا، وقيل صفورة واسم أختها ليا، وقيل شرقا وقيل عبدا واختلف في التي تزوجها هل هي الصغرى أو الكبرى، والجمع لظاهر لفظ الأهل، أو للتفخيم، وقيل المراد بهم المرأة والولد والخادم،
216
والمعنى أقيموا مكانكم، وذلك في مسيرة من مدين طالباً مصر، ولما قضى الأجل الذي جعله عليه شعيب وبينها وبين مصر ثمان مراحل، وعبر بالمكث دون الإقامة لأنها تقتضي الدوام والمكث ليس كذلك.
(إني آنست ناراً) أي أبصرت يقال آنست الصوت سمعته وآنست الرجل أبصرته، وقيل الإيناس الإبصار البَيِّن، ومنه إنسان العين لأنه يبصر به الأشياء وقيل هو الوجدان وقيل الإحساس فهو أعم من الإبصار وقيل الإيناس مختص بإبصار ما يؤنس، والجملة تعليل للأمر بالمكث ولما كان الإتيان بالقبس ووجود الهدى متوقعين بني الأمر على الرجاء فقال:
(لعلّي) لعدم الجزم بوفاء الوعد (آتيكم) أجيئكم (منها) أي من النار (بقبس) هو الجذوة والشعلة من النار في رأس عود أو قصبة أو فتيلة ونحوها وهو فَعَل بمعنى مفعول كالقَبَض والنَقَض بمعنى المقبوض والمنقوض وكذا المقياس يقال قبست منه ناراً أقبس قبساً فأَقْبَسَني أي أعطاني وكذا اقْتَبَسْتُ، قال اليزيدي: أَقْبَسْتُ الرجلَ علما وَقَبَسْتُهُ ناراً ففرقوا بينهما هذا قول المبرد، فإن كنت طلبتها له قلت: أقبسته، وقال الكسائي: أقبسته ناراً وعلماً سواء قال: وقبسته أيضاً فيهما.
(أو) لمنع الخلو وهو الظاهر دون الجمع (أجد على النار) وحرف الاستعلاء للدلالة على أن أهل النار مستعلون على أقرب مكان إليها كما قال سيبويه (هدى) أي هادياً يهديني إلى الطريق، ويدلني عليها، قاله ابن عباس وكان أخطأها لظلمة الليل، قال الفراء: أراد هادياً، فذكره بلفظ المصدر، أو عبر بالمصدر لقصد المبالغة على حذف المضاف أي ذا هدى ولعله لم يقل قوماً يهدونني كما في الكشاف إذ لا دليل على فوق الواحد.
217
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (١٢) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (١٣) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (١٤) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (١٥) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (١٦) وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (١٧) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (١٨) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (١٩) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (٢٠)
218
(فلما أتاها) أي النار التي أنسها (نودي) من الشجرة كما هو مصرح بذلك في سورة القصص أي من جهتها وناحيتها، قيل كانت الشجرة سمرة خضراء وقيل كانت من عوسج وقيل كانت العليق وقيل شجرة من العقاب والله أعلم بما كان.
وقيل لم يكن الذي رآه ناراً، بل كان نوراً وذكر بلفظ النار، لأن موسى حسبه ناراً، وقيل هي النار بعينها، وهي إحدى حجب الرب سبحانه، ويدل له ما روي عن أبي موسى الأشعري عن النبي ﷺ قال: " حجابه النار، لو كشفها لأهلكت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه " (١) أخرجه مسلم.
(يا موسى) أي نودي من الشجرة، فقيل يا موسى وهذا أول الكلمات بينه وبين الله تعالى، وسيأتي آخرها وهو قوله: (أن العذاب على من كذب وتولى)؛ وهذا بالنسبة لهذه الواقعة، وهذه الحالة وإلا فله مكالمات أخر قاله سليمان الجمل ولما نودي موسى، قال: من المتكلم فقال الله تعالى:
_________
(١) مسلم ١٧٩.
(إني أنا ربك) فعرف أنه كلام الله تعالى وليس هذا النداء والخطاب هو الذي وقع فيه الصعقة ودك الجبل كما تقدم ذكره في سورة الأعراف، بل هذا غيره؛ إذ هذا أول بدء رسالته، وذاك إنما كان بعد غرق فرعون حين أعطاه الله التوراة.
(فاخلع نعليك) أمره الله سبحانه بخلع نعليه تعظيماً، لأن الحفوة أبلغ في التواضع وأقرب إلى التشريف والتكريم وحسن التأدب. وقيل معناه انزعهما لتصيب قدميك بركة الوادي المقدس، والأول أولى، قيل ومن ثَم طاف السلف بالكعبة حافين.
قال النسفي: والقرآن يدل على أن ذلك احترام للبقعة وتعظيم لها، فخلعهما وألقاهما من وراء الوادي انتهى، وقيل لأنهما كانا من جلد حمار ميت أو من جلد مدبوغ، قاله علي وابن مسعود، وروي عن السدي وقتادة، وقيل معنى الخلع لهما تفريغ القلب من الأهل والمال وهو من بدع التفاسير، ثم علل سبحانه الأمر بالخلع فقال:
(إنك بالواد المقدس) أي المطهر، والمبارك والقدس الطهارة، والأرض المقدسة الطهرة، سميت بذلك لأن الله تعالى أخرج منها الكافرين وعمرها بالمؤمنين (طوى) اسم للوادي، قال الجوهري: هو اسم موضع بالشام يكسر طاؤه ويضم ويصرف ولا يصرف، فمن صرفه وجعله اسم واد ومكان جعله نكرة، ومن لم يصرفه جعله بلدة وبقعة وجعله معرفة، وقيل طوى كثني من الطي مصدر لنودي أو للمقدس، أي نودي نداءين أو قدس مرة بعد أخرى، قال ابن عباس: يعني الأرض المقدسة وذلك أنه مر بواديها ليلاً فطوى، يقال طويت وادي كذا وكذا، وقيل طوى واد مستدير عميق، مثل المطوي في استدارته.
(وأنا اخترتك) بالإفراد وقرئ إنَّا اخْتَرْنَاكَ بالجمع، قال النحاس: والأول أولى لأنها أشبه بالخط وأولى بنسق الكلام، لقوله: (يا موسى إني أنا ربك)
219
والمعنى اصطفيتك بالنبوة والرسالة، فنبأه وأرسله في ذلك الوقت وفي ذلك المكان، وكان عمره حينئذ أربعين سنة.
(فاستمع لما يوحى) إليك مني أو للوحي، وفيه نهاية الهيبة والجلال له كأنه قال لقد جاءك أمر عظيم فتأهب له.
220
(إنني أنا الله لا إله إلا أنا) ثم أمره بالعبادة فقال: (فاعبدني) لأن اختصاص الإلهية به سبحانه موجب لتخصيصه بالعبادة (وأقم الصلاة) خصها بالذكر مع كونها داخلة تحت الأمر بالعبادة لكونها أشرف طاعة وأفضل عبادة وعلل الأمر بإقامة الصلاة بقوله: (لذكري) أي لتذكرني، فإن الذكر الكامل لا يتحقق إلا في ضمن العبادة والصلاة، أو المعنى لتذكرني فيهما لاشتمالهما على الأذكار أو لذكري إياك أو لذكري خاصة لا تشوبه بذكر غيري، أو لأمري بها في الكتاب وذكري إياها، أو لتكون ذاكراً إلى غير ناس، وقيل لأوقات ذكري وهي مواقيت الصلاة، أو المعنى أقم الصلاة متى ذكرت أن عليك صلاة وقيل لذكر صلاتي.
وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أنس أن رسول الله ﷺ قال: " إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها، فإن الله قال: (أقم الصلاة لذكري) (١).
وأخرج الترمذي وابن ماجة وابن حبان وغيرهم من حديث أبي هريرة قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها، فإن الله قال: (أقم الصلاة لذكري) " (٢). وكان ابن شهاب يقرؤها للذكرى، وقيل المعنى لأذكرك بالمدح في عليين، فالمصدر على هذا يحتمل الإضافة إلى الفاعل أو إلى المفعول. وقيل لإخلاص ذكري وطلب وجهي، ولا ترائي فيها، ولا تقصد بها غرضاً آخر.
_________
(١) مسلم ٦٨٤ - البخاري ٣٨٤.
(٢) الترمذي كتاب الصلاة الباب ١٦ - ١٧ - ابن ماجة كتاب الصلاة الباب ١٠.
(إن الساعة) أي التي هي وقت الحساب والعقاب (آتية) أي كائنة وحاصلة لا محالة فاعمل الخير من عبادة الله والصلاة، وهذا تعليل لما قبله من الأمر (أكاد) أي أريد، قاله الأخفش. وقيل صلة (أخفيها) قال الواحدي: قال أكثر المفسرين: أخفيها من نفسي، وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد وقتادة. وقال المبرد وقطرب: هذا على عادة مخاطبة العرب، يقولون إذا بالغوا في كتمان الشيء: كتمته حتى من نفسي، أي لم أطلع عليه أحداً.
ومعنى الآية أن الله تعالى بالغ في اخفاء الساعة فذكره بأبلغ ما تعرفه العرب والمعنى في إخفائها التهويل والتخويف؛ وكذلك المعنى في إخفاء وقت الموت على الإنسان ليكون على حذر، تقديم الْوَجَل في كل وقت.
وقد روي عن سعيد بن جبير أنه قرأ أخفيها بفتح الهمزة، ومعناه أظهرها، قال النحاس: وأجود من هذا ما روي عنه أنه قرأها بضم الهمزة، قال الفراء: معناه على الفتح أكاد أظهرها من خفيت الشيء إذا أظهرته، أخفيه.
قال القرطبي: قال بعض اللغويين يجوز أن يكون أخفيها بضم الألف معناه أظهرها، لأنه يقال خفيت الشيء وأخفيته من حروف الأضداد يقع على الستر والإظهار، قال أبو عبيدة: خفيت وأخفيت بمعنى واحد، قال النحاس وهذا أحسن، وليس المعنى على أظهرها ولا سيما وأخفيها قراءة شاذة، فكيف ترد القراءة الصحيحة الشائعة، وقال ابن الأنباري: في الآية تفسير آخر، وهو أن الكلام ينقطع على (أكاد) وبعده مضمر، أي أكاد آتي بها، ووقع الابتداء بأخفيها إلى آخره، واختار هذا النحاس.
وقال أبو علي الفارسي: هو من باب السلب وليس من الأضداد، ومعنى أخفيها أزيل عنها خفاءها وهو سترها، ومن هذا قولهم اشكيته أي أزلت شكواه وعن الأخفش أن كاد زائدة للتأكيد، قال: ومثله إذا أخرج يده لم يكد يراها، قال والمعنى أقارب ذلك لأنك إذا قلت كاد زيد يقوم جاز أن
221
يكون قام: وأن يكون لم يقم، ودل على أنه قد أخفاها بدلالة غير هذه الآية على هذا.
(لتجزى كل نفس بما تسعى) أي بسعيها، والسعي وإن كان ظاهراً في الأفعال فهو هاهنا يعم الأفعال، والتُّرُوك للقطع بأن تارك ما يجب عليه معاقب بتركه مأخوذ به.
222
(فلا يصدنك عنها) أي لا يصرفنك عن الإيمان بالساعة والتصديق بها أو عن ذكرها ومراقبتها وهذا أولى وأليق بشأن موسى عليه السلام، وإن كان النهي بطريق التهييج والإلهاب.
وقيل الضمير للصلاة بعيد وهو (من لا يؤمن بها) من الكفرة، وهذا النهي وإن كان للكافر بحسب الظاهر فهو في الحقيقة نهي له ﷺ عن الانصداد أو عن إظهار اللين للكافرين، فهو من باب لا أريتك ههنا، كما هو معروف.
(واتبع هواه) أي هوى نفسه بالانهماك في اللذات الحسية الفانية، وفي إنكار الساعة (فتردى) أي فتهلك لأن انصدادك عنها لصد الكافرين لك مستلزم للهلاك ومستتبع له.
(وما تلك بيمينك يا موسى) قال الزجاج والفراء: إن تلك اسم ناقص، وُصِلَتْ بيمينك أي ما التي بيمينك. وروي عن الفراء أنه قال: تلك بمعنى هذه ولو قال ما ذلك لجاز، أي ما ذلك الشيء، وبالأول قال الكوفيون. قال الزجاج: ومعنى السؤال عن العصا التنبيه له عليها لتقع المعجزة بها بعد التثبيت فيها والتأمل لها، قال الفراء: ومقصود السؤال تقرير الأمر حتى يقول موسى هي عصاي لتثبيت الحجة عليه بعدما اعترف، وإلا فقد علم الله ما هي في الأزل. وقيل السؤال للتوطين لئلا يهول انقلابها حية، أو للإيناس ورفع الهيبة للمكالمة.
(قال هي عصاي) وقرئ عصي على لغة هذيل قال ابن عباس:
222
أعطاه ملك من الملائكة إذ توجه إلى مدين فكانت تضيء له بالليل ويضرب بها الأرض فيخرج له النبات، ويهش بها على غنمه ورق الشجر. وعن قتادة: كانت تضيء له بالليل، وكانت عصا آدم عليه السلام ورثها شعيب وأعطاها لموسى بعد أن زوَّجه ابنته. قيل وكان لها شعبتان وفي أسفلها سنان ولها محجن واسمها تبعة (أتوكأ) أي أتحامل (عليها) في المشي وأعتمدها عند الإعياء والوقوف على قطيع الغنم وعند الوثوب والنهوض للقيام، ومنه الاتكاء.
(وأهش بها على غنمي) هش بالعصا يهش هشاً إذا خبط بها الشجر ليسقط منه الورق، أي أضرب بها الشجر فيتساقط منه الورق على غنمي؛ قاله عكرمة. وقد روي نحو هذا عن جماعة من السلف.
وقرأ النخعي أهس بالسين المهملة، وهو زجر الغنم، وكذا قرأ عكرمة، وقيل هما لغتان بمعنى واحد، ولما ذكر تفصيل منافع العصا عقبه بالإجمال فقال: (ولي فيها مآرب) أي حوائج (أخرى) قاله مجاهد وقتادة، وأحدها مأرُبة مثلت الراء، كذا قال ابن الأعرابي وقطرب، والقياس أُخر، وإنما قال أخرى رداً إلى الجماعة أو لنسق الأخرى، ولما ذكر بعضها شكراً أجمل الباقي حياء من التطويل أو ليسأل عنها الملك العلام فيزيد في الإكرام ويتلذذ بالخطاب.
وقد تعرض قوم لتعداد منافع العصا فذكروا من ذلك أشياء، منها قول بعض العرب:
عصاي أركزها لصلاتي وأعدها لعداتي وأسوق بها دابتي وأقوى بها على سفري وأعتمد عليها في مشيتي ليتسع خطوي، وأثب بها النهر وتؤمنني العثر وألقي عليها كسائي فتقيني الحر وتدفيني من القر وتدني إلى ما بعد مني، وهي تحمل سفرتي وعلاقة أدواتي، أعصي (١) بها عند الضراب وأقرع بها الأبواب وأقي بها عقور الكلاب، وتنوب عن الرمح في الطعان وعن السيف عند منازلة الأقران ورثتها عن أبي وأورثها بعدي بني. أهـ.
_________
(١) يقال عصى بالسيف يعْصى إذا ضرب به، أ. هـ صحاح.
223
وقال الشوكاني: قد وقفت على مصنف في مجلد لطيف في منافع العصا لبعض المتأخرين. وذكر فيه أخباراً وأشعاراً وفوائد لطيفة ونكتاً رشيقة، وقد جمع الله سبحانه لموسى في عصاه من البراهين العظام والآيات الجسام ما أمن به من كيد السحرة ومعرة المعاندين، واتخذها سليمان لخطبته وموعظته وطول صلاته، وكان ابن مسعود صاحب عصاة النبي ﷺ وعنزته؛ وكان يخطب بالقضيب وكذلك الخلفاء من بعده، وكان عادة العرب العرباء أخذ العصا والاعتماد عليها عند الكلام وفي المحافل والخطب.
وقال بعضهم: إمساك العصا سنة الأنبياء وزينة الصلحاء وسلاح على الأعداء وعون الضعفاء وغم المنافقين وزيادة في الطاعات.
ويقال إذا كان مع المؤمن العصا يهرب منه الشيطان ويخشع منه المنافق والفاجر وتكون قبلته إذا صلى وقوته إذا أعيا.
224
(قال ألقها يا موسى) هذه جملة مستأنفة أمره سبحانه بإلقائها ليريه ما جعل له فيها من المعجزة الظاهرة
(فألقاها) أي طرحها موسى على الأرض (فإذا هي حية تسعى) ولم تكن قبل ذلك حية، فمرت بشجرة فأكلتها ومرت بصخرة فابتلعتها، فجعل موسى يسمع وقع الصخرة في جوفها قاله ابن عباس، وذلك بقلب الله سبحانه لأوصافها وأعراضها حتى صارت حية تسعى، أي تمشي بسرعة وخفة على بطنها.
قيل كانت عصا ذات شعبتين فصار الشعبتان فماً وباقيها جسم حية تنتقل من مكان إلى مكان وتلتقم الحجارة مع عظم جرمها وفظاعة منظرها، وقال في موضع آخر كأنها جان. وهي الحية الصغيرة الجسم الخفيفة، وقال في موضع آخر كأنها ثعبان، وهو أكبر ما يكون من الحيات، ووجه الجمع أن الحية اسم جامع للكبير والصغير والذكر والأنثى.
وقيل كانت في عظم الثعبان وسرعة الجان. وقيل سماها جاناً تارة نظراً للمبدأ وثعباناً مرة باعتبار المنتهى، وحية تارة أخرى باعتبار الاسم الذي يعم الحالين فلما رآها كذلك خاف وفزع وولى مدبراً ولم يعقب فنودي أن يا موسى.
224
قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (٢١) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (٢٢) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (٢٣) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (٢٤) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (٢٩) هَارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (٣٤) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (٣٥) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (٣٦) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (٣٧)
225
(قال) سبحانه عند ذلك (خذها ولا تخف) منها (سنعيدها سيرتها) أي حالتها (الأولى) قال ابن عباس: فلم يأخذها، ثم نودي الثانية أن خذها ولا تخف فلم يأخذها، فقيل له في الثالثة إنك من الآمنين فأخذها.
قال الأخفش والزجاج: التقدير إلى سيرتها مثل واختار موسى قومه. قال: ويجوز أن يكون مصدراً لأن معنى سنعيدها سنسيرها، أو سائرة أو مسيرة، والمعنى سنعيدها بعد أخذك لها إلى حالتها الأولى التي هي العصوية، والأولى تأنيث الأول، والسيرة الحالة التي يكون عليها الإنسان غريزية أو مكتسبة، وهي في الأصل فِعْلة من السير كالرِّكْبَة من الركوب، ثم استعملت بمعنى الحالة والطريقة والهيئة.
قيل إنه لما قيل له لا تخف طابت نفسه حتى بلغ من عدم الخوف إلى أن كان يدخل يده في فمها ويأخذ بلحييها، قال المحلي وأرى ذلك موسى لئلا يجزع إذا انقلبت حية لدى فرعون.
(واضمم يدك) اليمنى بمعنى الكف لا بمعنى حقيقتها، وهي الأصابع إلى المنكب (إلى جناحك) قال الفراء والزجاج: جناح الإنسان عضده.
225
وبه قال مجاهد وقال إلى بمعنى تحت وقال قطرب: جنبه، وعبر بالجناح عن الجنب لأنه في محل الجناح. وقال مقاتل: إلى بمعنى مع، أي مع جناحك الأيسر تحت العضد إلى الأبط.
وجواب الأمر (تخرج) يدك خلاف ما كانت عليه من الأدمة حال كونها (بيضاء) نيرة مشرقة كائنة.
(من غير سوء) أي عيب كنى به عن البرص، ويسمى هذا عند أهل البيان الاحتراس، وهو أن يؤتى بشيء يرفع توهم غير المراد، وذلك أن البياض قد يراد به البرص والبهق، فأتى بقوله: (من غير سوء) نفياً لذلك.
والمعنى تخرج بيضاء ساطعاً نورها تضيء بالليل والنهار كضوء الشمس، تغشي البصر من غير برص، وبه قال ابن عباس.
(آية) أي معجزة (أخرى) غير العصا. وقال الأخفش: أنها بدل من بيضاء، قال النحاس. وهو قول حسن، وقال الزجاج: المعنى آتيناك أو نؤتيك آية أخرى، لأنه لما قال: (تخرج بيضاء) دل على أنه قد آتاه آية أخرى، ثم علل سبحانه ذلك بقوله:
226
(لنريك من آياتنا الكبرى) قيل والتقدير فعلنا ذلك لنريك، والكبرى معناها العظمى، أي لنريك بهاتين الأيتين يعني اليد والعصا بعض آياتنا الكبرى على رسالتك فلا يلزم أن تكون، اليد هي الآية الكبرى وحدها حتى تكون أعظم من العصا، فيرد على ذلك أنه لم يكن في اليد إلا تغير اللون فقط بخلاف العصا فإن فيها مع تغير اللون الزيادة في الحجم وخلق الحياة والقدرة على الأمور الخارقة ومن قال هي اليد قال لأنها لم تعارض أصلاً، وأما العصا فقد عارضها السحرة، والأول أولى.
ثم صرح سبحانه بالغرض المقصود من هذه المعجزات فقال:
(اذهب) رسولاً (إلى فرعون) ومن معه بهاتين الآيتين: العصا واليد،
226
وانظر رسالته لبني إسرائيل من أين تؤخذ، قال بعضهم: تؤخذ من قوله: (وأنا اخترتك) أي للنبوة والرسالة، وخصه بالذكر لأن قومه تبع له، ثم علل ذلك بقوله.
(إنه طغى) أي عصى وتمرد وتكبر وكفر وتجبر وتجاوز الحد في كفره إلى ادعاء الإلهية.
227
(قال رب اشرح لي صدري) مستأنفة كأنه قيل فماذا قال موسى، ومعنى شرح الصدر توسيعه، تضرع عليه السلام إلى ربه وأظهر عجزه بقوله: " ويضيق صدري ولا ينطلق لساني "
(ويسر لي أمري) أي سهل عليّ ما أمرتني به من تبليغ الرسالة إلى فرعون، والتيسير معناه التسهيل.
قال الزمخشري: فإن قلت (لي) من قوله: (اشرح لي صدري ويسر لي أمري) ما جدواه، والكلام منتظم بدونه؟ قلت قد أبهم الكلام أولاً فقال: اشرح لي ويسر لي، فعلم أن ثم مشروحاً وميسراً، ثم بين ورفع الإبهام بذكرهما فكان آكد لطلب الشرح لصدره والتيسير لأمره، ويقال يسرت له كذا ومنه هذه الآية وتيسرته لكذا، ومنه فسنيسره لليسرى.
(واحلل عقدة من لساني) يعني العجمة التي كانت فيه من أثر الجمرة التي ألقاها في فيه وهو طفل، أي أطلق عن لساني العقدة التي فيه، قيل أذهب الله سبحانه تلك العقدة جميعها بدليل قوله: (قد أوتيت سؤلك يا موسى) وقيل لم تذهب كلها لأنه لم يسأل حل عقدة لسانه بالكلية، بل سأل حل عقدة تمنع الإفهام بدليل قوله من لساني، أي كائنة من عند لساني، ويؤيد ذلك قوله هو أفصح مني لساناً، وقوله حكاية عن فرعون ولا يكاد يبين.
وجواب الأمر قوله:
(يفقهوا قولي) أي لكي يفهموا كلامي عند تبليغ الرسالة، والفقه في كلام العرب الفهم، ثم خص به علم الشريعة، والعالم به فقيه. قاله الجوهري.
(واجعل لي وزيراً من أهلي) أي معيناً وظهيراً، والوزير الموازر
227
كالأكيل المواكل لأنه يحمل عن السلطان وزره أي ثقله. قال الزجاج: واشتقاقه في اللغة من الوزر وهو الملجأ الذي يعتصم به لينجي من الهلكة، ومنه قوله تعالى: (كلا لا وزر) والوزير الذي يعتمد الملك على رأيه في الأمور ونلتجئ إليه. وقال الأصمعي: هو مشتق من الموازرة وهي المعاونة، نقله الزمخشري عن الأصمعي
228
(هارون أخي) وكان أكبر من موسى وأفصح لساناً وأجمل وأوسم، وكان موسى آدم أقنى جعداً.
(اشدد به أزري وأشركه في أمري) على صيغة الدعاء أي يا رب أحكم به قوتي واجعله شريكي في أمر الرسالة، والأزر القوة، يقال آزره أي قواه، وقيل الظهر أي اشدد به ظهري، وقرئ أشدد بهمزة قطع وأشركه بضم الهمزة، أي أشدد أنا به أزري وأشركه أنا في أمري.
قال ابن عباس: نبئ هارون ساعتئذ حين نبئ موسى.
(كي نسبحك كثيراً ونذكرك كثيراً) هذا الذكر والتسبيح هما الغاية من الدعاء المتقدم، والمراد التسبيح هنا باللسان. وقيل المراد به الصلاة
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٣:﴿ كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا ﴾ هذا الذكر والتسبيح هما الغاية من الدعاء المتقدم، والمراد التسبيح هنا باللسان. وقيل المراد به الصلاة
(إنك كنت بنا بصيراً) هو المبصر والعالم بخفيات الأمور وهو المراد هنا، أي إنك كنت بنا عالماً في صغرنا فأحسنت إلينا فأحسن أيضاً كذلك الآن. ثم أخبره الله سبحانه بأنه قد أجاب ذلك الدعاء.
(قال قد أوتيت سؤلك يا موسى) أي أعطيت ما سألته منا عليك، والسؤل المسؤول، أي المطلوب، كقولك خبز بمعنى مخبوز، ومسؤوله هو قوله رب اشرح لي؛ وزيادة قوله يا موسى لتشريفه بالخطاب مع رعاية الفواصل.
(ولقد مننا عليك مرة أخرى) كلام مستأنف لتقوية قلب موسى بتذكيره نعم الله عليه، والمن الإحسان والإفضال، والمعنى ولقد أحسنا إليك قبل هذه المرة وهي حفظ الله سبحانه له من شر الأعداء كما بينه سبحانه هنا، وأخرى تأنيث آخر بمعنى غير، وحاصل ما ذكره من المنن عليه من غير سؤال ثمانية.
228
إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (٣٩) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (٤٠) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (٤٢) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (٤٣)
الأولى: قوله:
229
(إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى) إلى قوله: (عدو له) أي مننا ذلك الوقت وقت الإيحاء، والمراد به إما مجرد الإلهام لأمه واسمها يوحانذ، قاله السيوطي في شرح النقابة؛ أو في النوم بأن أراها ذلك، أو على لسان نبي أو على لسان ملك لا على طريق النبوة، كالوحي إلى مريم، أو بإخبار الأنبياء المتقدمين بذلك وانتهى الخبر إليها؛ والمراد بما يوحى ما سيأتي من الأمر لها أبهمه أولاً وفسره ثانياً تفخيماً لشأنه بقوله:
(أن) مفسرة لأن الوحي فيه معنى القول، أو بأن (اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم) القذف هنا الطرح، أي اطرحيه في البحر، واليم البحر والنهر الكبير. قال الفراء: هذا أمر وفيه المجاراة، أي اقذفيه، والتابوت الصندوق.
(فليلقه اليم بالساحل) الأمر للبحر مبني على تنزيله منزلة من يفهم ويميز لا كان إلقاؤه بالساحل أمراً واجب الوقوع، وهذا أمر معناه الخبر وإنما
229
جيء به بصيغة الأمر مبالغة، إذ الأمر أقطع الأفعال وآكدها، والساحل هو شط البحر، سمي ساحلاً لأن الماء سحله قال ابن دريد: والمراد هنا ما يلي الساحل من البحر لا نفس الساحل، والضمائر كلها لموسى لا للتابوت، وإن كان قد ألقي معه، لكن المقصود هو موسى مع كون الضمائر قبل هذا وبعده له قال السدي: اليم هو النيل.
(يأخذه عدو لي وعدو له) جواب الأمر بالإلقاء أو القذف، والمراد بالعدو فرعون، فإن أم موسى لما ألقته في البحر، وهو النيل المعروف: وكان يخرج منه نهر إلى دار فرعون، فساقه الله في ذلك النهر إلى داره؛ فأخذ التابوت فوجد موسى فيه. وقيل أن البحر ألقاه بالساحل فنظره فرعون فأمر من يأخذه. وقيل وجدته ابنة فرعون، والأول أولى، والمنة الثانية قوله:
(وألقيت عليك محبة مني) أي ألقى الله على موسى محبة عظيمة كائنة من الله تعالى في قلوب عباده لا يراه أحد إلا أحبه وقيل جعل عليه سبحة من جمال لا يراه أحد من الناس إلا أحبه وقال ابن جرير: المعنى وألقيت عليك رحمتي وقيل المعنى أحببتك؛ ومن أحبه الله أحبه الناس، والقلوب لا محالة. قال ابن عباس: كل من رآه ألقيت عليه منه محبة، وعن سلمة بن كهيل قال: حببتك إلى عبادي، والمنة الثالثة قوله:
(ولتصنع على عيني) أي ولتربّى وتغذَّى بمرأى مني، ويحسن إليك وأنا مراعيك ومراقبك كما يراعي الإنسان الشيء بعينه إذا اعتنى به. قاله الزمخشري والعين هنا بمعنى الرعاية مجاز مرسل من إطلاق السبب على المسبب، يقال صنع الرجل جاريته إذا رباها، وصنع فرسه إذا داوم على علفه والقيام عليه، وتفسير (على عيني) بمرأى مني صحيح. قال النحاس: وذلك معروف في اللغة ولكن لا يكون في هذا تخصيص لموسى فإن جميع الأشياء بمرأى من الله. وقال أبو عبيدة: وابن الأنباري: أن المعنى لتغذى على محبتي وإرادتي، تقول أتخذ الأشياء على عيني أي على محبتي قال ابن الأنباري: العين في هذه الآية يقصد
230
بها قصد الإرادة والاختيار: من قول العرب: عدا فلان على عيني أي على المحبة مني، قيل أي فعلت ذلك لتصنع.
وقيل أي ولتصنع على عيني قدرنا مشي أختك، والعين أيضاً من ألفاظ الصفات فلا تؤَوَّل وَتُجْزى على ظاهرها وهو الأولى، وقرئ ولتصنع بإسكان اللام على الأمر وقرئ بفتح التاء والمعنى ولتكون حركتك وتصرفك بمشيئتي، وعلى عين مني، وقال الزمخشري قريباً منه.
231
(إذ تمشي أختك) وكانت شقيقته واسمها مريم وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية (فتقول هل أدلكم على من يكفله) وذلك أنها خرجت متعرفة لخبره فوجدت فرعون وامرأته آسية يطلبان له مرضعة فقالت لهما هذا القول أي هل أدلكم على من يضمه إلى نفسه ويربيه ويكمل له رضاعه؟ وكانت أمه قد أرضعته ثلاثة أشهر؛ وقيل أربعة قبل إلقائه في اليم، فقالا لها ومن هو؟ قالت أمي، فقالا: هل لها لبن، قالت نعم ابن أخي هارون أكبر من موسى بسنة، وقيل بأكثر فجاءت الأم فقبل ثديها وكان لا يقبل ثدي مرضعة غيرها وهذا هو معنى: (فرجعناك إلى أمك).
وفي مصحف أبيّ فرددناك وهذه هي المنة الرابعة.
(كي تقر عينها) بلقائك قال الجوهري: قررت به عيناً قرة وقروراً ورجل قرير العين وقد قرت عينه تقر وتقر نقيض سخنت، والمراد بقرة العين السرور برجوع ولدها إليها بعد أن طرحته في البحر وعظم فراقه عليها (ولا تحزن) حيئنذ أي لا يحصل لها ما يكدر ذلك السرور من الحزن بسبب من الأسباب، ولو أراد الحزن بالسبب الذي قرت عنها بزواله لقدم نفي الحزن على قرة العين فيحمل هذا النفي على ما يحصل بسبب يطرأ بعد ذلك، ويمكن أن يقال إن الواو لما كانت لمطلق الجمع كان هذا الحمل غير متعين، قال البيضاوي: ولا تحزن أنت يا موسى على فراقها وفقد إشفاقها وهو تعسف.
231
والمنة الخامسة قوله: (وقتلت نفساً) المراد بالنفس هنا نفس القبطي الذي وكزه موسى فقضى عليه واسمه (قاب قان) وكان طباخاً لفرعون وكان قتله له خطأ وكان عمره إذ ذاك اثنتي عشرة سنة، وقيل ثلاثين سنة (فنجيناك من الغم) أي الغم الحاصل معك من قتله خوفاً من العقوبة الأخروية أو الدنيوية أو منهما جميعاً، وقيل من جهة فرعون لا من جهة قتله لأنه كان كافراً وأيضاً قتله له كان خطأ، وقيل الغم هو القتل بلغة قريش وما أبعده هذا.
والمنة السادسة قوله: (وفتناك فتوناً) الفتنة تكون بمعنى المحنة وبمعنى الأمر الشاق، وكل ما يبتلى به الإنسان، والفتون مصدر كالثبور والسكون والكفور أي اختبرناك اختباراً وابتليناك ابتلاء أو فتوناً من الابتلاء على أنه جمع فتن أو فتنة على ترك الاعتداد بتاء التأنيث كحجوز في حجزة، وبدور في بدرة أي خلصناك مرة بعد مرة مما وقعت فيه من المحن التي سبق ذكرها قبل أن نصطفيك لرسالتنا أولها أن أمه حملته في السنة التي كان فرعون يذبح فيها الأطفال ثم إلقاءه في البحر في التابوت، ثم منعه من الرضاع إلا من ثدي أمه، ثم أخذه بلحية فرعون حتى هم بقتله؛ ثم تناوله الجمرة بدل الجوهر، ثم قتله القبطي وخروجه إلى مدين خائفاً.
وقد أخرج عبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبن مردويه عن ابن عباس أثراً طويلاً في تفسير هذه الآية فمن أحب استيفاء ذلك فلينظر في كتاب التفسير من سنن النسائي ولعل المقصود بذكر تنجيته من الغم الحاصل له بذلك السبب وتنجيته من المحن هو الامتنان عليه بصنع الله سبحانه وتقوية قلبه عند ملاقاة ما سيقع له من ذلك مع فرعون وبني إسرائيل.
والمنة السابعة قوله: (فلبثت سنين في أهل مدين) قال الفراء: تقدير الكلام وفتناك فتوناً فخرجت إلى أهل مدين فلبثت سنين ومثل هذا الحذف
232
كثير في التنزيل، وكذا في كلام العرب، فإنهم يحذفون كثيراً من الكلام إذا كان المعنى معروفاً، ومدين هى بلد شعيب، وكانت على ثمان مراحل من مصر هرب إليها موسى فأقام بها عشرين سنة وهى أتم الأجلين وقيل أقام عند شعيب ثمانية وعشرين سنة، منها عشر مهر امرأته ابنة شعيب، ومنها ثماني عشرة سنة بقي فيها عنده حتى ولد له.
(ثم جئت على قدر يا موسى) أي في وقت سبق في قضائي وعلمي وقدري أن أكلمك وأجعلك نبياً أو على ميقات ومقدار من الزمان يوحي فيه إلى الأنبياء قاله ابن عباس، وهو رأس أربعين سنة، أو على موعد قد عرفته بإخبار شعيب لك به قاله مجاهد وقتادة قال الشاعر:
نال الخلافة إذ كانت له قدراً كما أتى ربه موسى على قدر
وكلمة ثم المفيدة للتراخي للدلالة على أن مجيئه عليه السلام كان بعد مدة وذلك بسبب ما وقع له من ضلال الطريق وتفرق غنمه ونحو ذلك، وعلى بمعنى مع.
233
(واصطنعتك لنفسي) بالرسالة والاصطناع اتخاذ الصنعة وهو الخير تسديه إلى إنسان، والمعنى اصطنعتك لوحي ورسالتي لتنصرف على إرادتي، قال الزجاح: تأويله اخترتك لإقامة حجتي وجعلتك بيني وبين خلقي وصرت بالتبليغ عني بالنزلة التي أكون أنا بها لو خاطبتهم واحتجبت عليهم، قيل وهو تمثيل لما خَوَّله الله سبحانه من الكرامة العظمى بتقريب الملك لبعض خواصه وهذه هي المنة الثامنة.
قال أبو السعود: وفي قوله يا موسى تشريف له عليه السلام وتنبيه على انتهاء الحكاية التي هي تفصيل المرة الأخرى التي وقعت قبل المرة المحكية أولاً وقوله (اصطنعتك لنفسي) تذكير لقوله: (وأنا اخترتك) وتمهيد لإرساله إلى فرعون مؤيداً بأخيه انتهى.
(اذهب أنت وأخوك) أي وليذهب أخوك حسبما طلبت وهو كلام مستأنف مسوق لبيان ما هو المقصود من الاصطناع، وفيه اختصار لما ذكر المذهوب إليه في قوله اذهبا إلى فرعون وحذفه هنا.
(بآياتي) أي بمعجزاتي التي جعلتها لك آية وهي اليد والعصا فقط وعليه أكثر المفسرين وقيل هي التسع الآيات وفيه نظر والباء للمصاحبة أي مصحوبين بها متمسكين بها في إجراء أحكام الرسالة وإكمال أمر الدعوة وليست المتعدية إذ ليس المراد مجرد ذهابهما وإيصالها إلى فرعون.
(ولا تنيا) أي لا تضعفا ولا تفترا يقال ونى ينى وَنْياً إذا ضعف وتواني في الأمر توانياً لم يبادر إلى ضبطه ولم يهتم به فهو متوان أي غير مهتم ولا محتفل.
(في ذكري) قال الفراء هذا وعن ذكري سواء، والمعنى لا تقتصرا عن ذكري بالإحسان إليكما والإنعام عليكما، ومن ذكر النعمة شكرها، وقيل المعنى لا تبطيا في تبليغ رسالتي، وفي قراءة ابن مسعود لا تهنا في ذكري.
(اذهبا إلى فرعون) هذا أمر لهما جميعاً بالذهاب وموسى حاضر وهارون غائب بل كان في ذلك الوقت بمصر تغليباً لموسى، لأنه الأصل في أداء الرسالة وكذا الحال في صيغة النهي المذكورة وعلل الأمر بالذهاب بقوله: (إنه طغى) أي جاوز الحد في الكفر والتمرد، بادعائه الربوبية، وخص موسى وحده بالأمر بالذهاب فيما تقدم وجمعهما هنا تشريفاً لموسى بإفراده، وقيل الأول أمر لموسى بالذهاب إلى كل الناس، والثاني أمر لهما بالذهاب إلى فرعون.
234
فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (٤٤) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (٤٥) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (٤٦) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (٤٧) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٤٨) قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (٤٩) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (٥٠) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (٥١) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (٥٢)
ثم أمرهما سبحانه بالإنة للقول لما في ذلك من التأثير في الإجابة فإن التخشين بادئ بدء يكون من أعظم أسباب النفور والتصلب في الكفر فقال:
235
(فقولا له قولاً ليناً) أي دَارِيَاه وارفقا به، ولا تعنُفا في قولكما في رجوعه عن ذلك؛ والقول اللين هو الذي لا خشونة فيه؛ يقال لأن الشيء يلين ليناً، والمراد تركهما للتعنيف كقولهما: (هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى) فإنه دعوة في صورة عرض ومشاورة، وقيل: القول اللين هو الكنية له أي: قولا له: يا أبا الوليد، وقيل يا أبا العباس، وقيل يا أبا مرة، وقيل أن بَعِدَاهُ بنعيم الدنيا والآخرة إن أجاب، وقيل أن يعداه بشباب لا يهرم بعده وملك لا يزول إلا بالموت. قاله البيضاوي.
ثم علل الأمر بالإنة للقول له بقوله: (لعله يتذكر أو يخشى) أي بَاشِرَا ذلك مباشَرَةً من يرجو ويطمع فالرجاء راجع إليهما كما قاله جماعة من النحوين سيبويه وغيره، وقد تقدم تحقيقه في غير موضع.
قال الزجاج: لعل لفظة طمع وترج فخاطبهم بما يعقلون، وقيل لعل هنا بمعنى الاستفهام، والمعنى فانظر هل يتذكر أو يخشى، وقيل بمعنى كي، والتذكر النظر فيما بلغاه من الذكر وإمعان الفكر فيه حتى يكون ذلك سبباً في الإجابة
235
والخشية هي خشية عقاب الله الموعود به على لسانهما، وكلمة أو لمنع الخلو دون الجمع، وفائدة إرسالهما والمبالغة عليهما في الاجتهاد مع علم الله بأنه لا يؤمن إلزام الحجة وقطع المعذرة وإظهار ما حدث في أضاعيف ذلك من الآيات.
236
(قالا ربنا إننا نخاف) أسند القول إليهما مع أن القائل حقيقة هو موسى تغليباً للإيذان بأصالته في كل قول وفعل، أو قاله هارون بعد ملاقاتهما، فحكى ذلك مع قول موسى عند نزول الآية؛ كما في قوله تعالى: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات) فإن هذا الخطاب قد حكي بصيغة الجمع مع أن كلاً من المخاطبين لم يخاطب إلا بطريق الانفراد ضرورة استحالة اجتماعهم في الوجود، فكيف باجتماعهم في الخطاب.
(أن يفرط) فرعون (علينا) بفتح الياء وضم الراء أي يَعْجَل ويبادر بعقوبتنا، قاله ابن عباس، يقال فَرَط منه أمر أي بَدَر، ومنه الفارط وهو الذي يتقدم القوم إلى الماء أي يعذبنا عذاب الفارط في الذنب وهو المتقدم فيه، كذا قال المبرد، وقال أيضاً: فرط منه أمر وأفرط أسرف وفرط ترك وقرئ يُفْرَط بضم الياء وفتح الراء أي يحمله حامل على التسرع إلينا، وقرأت طائفة من الإفراط أي يشتط في أذيتنا أي فلا يصبر إلى تمام الدعوة وإظهار المعجزة.
(أو أن يطغى) أي يعتدي قاله ابن عباس وإظهار كلمة (أن) مع استقامة المعنى بدونها لإظهار كمال الاعتناء بالأمر والإشعار بتحقق الخوف من كل منهما
(قال) تعالى (لا تخافا) ما توهمتماه من الأمرين ثم علل ذلك بقوله: (إنني معكما) بالنصر لكما والمعونة على فرعون (أسمع وأرى) أي أدرك ما يجري بينكما وبينه بحيث لا يخفى علي منه خافية، ولست بغافل عنكما فأفعل في كل حال ما يليق بكما من دفع ضرر وجلب نفع، وعن ابن جريج قال: أسمع ما يقول وأرى ما يجاوبكما به فأوحي إليكما فتُجَاوِبَاه.
236
وعن ابن مسعود قال: لما بعث الله موسى إلى فرعون قال: رب أي شيء أقول قال: قل هيا شرا هيا، قال الأعشى: تفسير ذلك الحي قبل كل شيء، والحي بعد كل شيء وجود السيوطي إسناده، وسَبَقَه إلى تجويد إسناده ابن كثير في تفسيره، ثم أمرهما بإتيانه الذي هو عبارة عن الوصول إليه بعد أمرهما بالذهاب إليه فلا تكرار فقال:
237
(فأتياه فقولا) أَمَرَهُما أن يقولا ست جمل.
الأولى قوله: (إنّا رسولا ربك) أرسلنا إليك (فأرسل معنا بني إسرائيل) أي خل عنهم وأطلقهم من الأسر والقسر (ولا تعذبهم) بالبقاء على ما كانوا عليه، وقد كانوا عند فرعون في عذاب شديد، يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم. ويكلفهم من العمل ما لا يطيقونه من الحفر والبناء وحمل الثقيل.
(قد جئناك بآية من ربك) قيل هي العصا واليد. وقيل إن فرعون قال لهما وما هي؟ فأدخل موسى يده في جيب قميصه ثم أخرجها ولها شعاع كشعاع الشمس، فعجب فرعون من ذلك، ولم يره موسى العصا إلا يوم الزينة.
قال الزمخشري؛ وهذه الجملة جارية من الجملة الأولى مجرى البيان والتفسير، لأن دعوى الرسالة لا تثبت إلا ببينتها التي هي مجيء الآية، وإنما وحد بآية ولم يثن معه آيتان لأن المراد تثبيت الدعوى ببرهانها، فكأنه قيل قد جئناك بمعجزة وبرهان وحجة على ما ادعيناه من الرسالة.
(والسلام) أي السلامة من العذاب (على من اتبع الهدى) قال الزجاج: أي من اتبع الهدى سلم من سخط الله عز وجل ومن عذابه وليس بتحية. قال: والدليل على ذلك أنه ليس بابتداء لقاء ولا خطاب، قال الفراء: السلام على من اتبع ولمن اتبع سواء.
237
والجملة السادسة قوله:
238
(إنا قد أوحي إلينا) من جهة الله سبحانه (أن العذاب على من كذب) ما جئنا به (وتولى) أعرض عنه، والمراد بالعذاب الهلاك والدمار في الدنيا والخلود في النار، والمراد بالتكذيب التكذيب بآيات الله وبرسله والتولي الإعراض عن قبولها والإيمان بها. قال قتادة: كذب كتاب الله وتولى عن طاعته فأتياه وقالا جميع ما ذكر وسارعا إلى الامتثال من غير تلعثم.
(قال) فرعون لهما (فمن ربكما يا موسى؟) فأضاف الرب إليهما لما أن المُرْسِل لا بد أن يكون رباً للرسول أو لأنهما قد صرحا بربوبيته تعالى للكل، ولم يضفه إلى نفسه لعدم تصديقه لهما ولجحده للربوبية وغاية عتوه ونهاية طغيانه، وخص موسى بالنداء لكونه الأصل في الرسالة. وقيل لمطابقة رؤوس الآي والأول أولى.
(قال) موسى مجيباً له: (ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه) الذي هو عليه متميز به عن غيره؛ قرئ بفتح اللام على أنه فعل وبسكون اللام، والمعنى أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يطابق بالمنفعة المنوطة به المطابقة له كاليد للبطش والرجل للمشي واللسان للنطق والعين للنظر والأذن للسمع، كذا قال الضحاك وغيره. قال الحسن وقتادة: أعطى كل شيء صلاحه وهداه لما يصلحه. وقال مجاهد: المعنى لم يخلق خلق الإنسان في خلق البهائم، ولا خلق البهائم في خلق الإنسان، ولكن خلق كل شيء فقدره تقديراً. ومنه قول الشاعر:
وله في كل شيء خلقه... وكذلك الله ما شاء فعل
وقال الفراء: المعنى خلق للرجل المرأة ولكل ذكر ما يوافقه من الإناث أو المعنى أعطى خلقه كل شيء يحتاجون إليه ويرتفقون به، ومعنى (ثم
238
هدى) أنه سبحانه هداهم إلى طريق الانتفاع بما أعطاهم فانتفعوا بكل شيء فيما خلق له، أو المعنى أعطى كل شيء خلقه الله سبحانه ولم يخله من عطائه.
قال ابن عباس: خلق لكل شيء زوجة ثم هدى، قال هداه لمنكَحِهِ ومطعمه ومشربه ومسكنه، ولما سمع فرعون ما احتج به موسى في ضمن هذا الكلام على إثبات الربوبية وشاهَد ما نَظَمَه في سلك الاستدلال من البرهان النير كما لا يخفى من أن الخلق والهداية ثابتان بلا خلاف ولا بد لهما من خالق وهاد، وذلك الخالق والهادي هو الله سبحانه لا رب غيره، خاف أن يظهر للناس أحقية ما قاله موسى وبطلان خرافاته، أراد أن يصرف موسى عن سننه إلى ما لا يعنيه من الأمور التي لا تعلق لها بالرسالة من الحكايات لأجل أن يرى قومه أن عنده معرفة.
239
(قال فما بال القرون الأولى) كقوم نوح وهود ولوط وصالح في عبادتهم الأوثان فإنها لم تُقِرّ بالرب، بل عبدت الأوثان ونحوها من المخلوقات. ومعنى البال الحال والشأن، أي ما حالهم وما شأنهم وماذا جرى عليهم من الحوادث المفصلة. فأجابه موسى و
(قال علمها عند ربي) أي أن هذا الذي سألت عنه ليس مما نحن بصدده، بل هو من علم الغيب الذي استأثر الله به لا تعلمه أنت ولا أنا وإن العلم بأحوالهم لا تعلق له بمنصب الرسالة (في كتاب) أي أنها مثبتة في اللوح المحفوظ. قال الزجاج: المعنى أن أعمالهم محفوظة عند الله يجازي بها يوم القيامة والتقدير علم أعمالها عند ربي في كتاب.
واعلم أن فرعون لما سأل موسى عن الإله وكان ذلك مما سبيله الاستدلال أجابه موسى بأوجز عبارة وأحسن معنى، ولما سأله عن القرون الأولى، وكان ذلك مما سبيله الإخبار ولم يأته خبر في ذلك وكله إلى عالم
239
الغيوب. قاله الكرخي (لا يضل ربي ولا ينسى) اختلف في معناه على أقوال:
الأول: أنه ابتداء كلام مستأنف تنزيه لله سبحانه عن هاتين الصفتين، وقد تم الكلام عند قوله في كتاب. قاله الزجاج قال: ومعنى لا يضل لا يهلك، من قوله تعالى: (أئذا ضللنا في الأرض)، ولا ينسى شيئاً من الأشياء فقد نزهه عن الهلاك والنسيان.
الثاني: أن معنى لا يضل لا يخطىء. قاله ابن عباس.
الثالث: أن معناه لا يغيب. قال ابن الأعرابي: أصل الضلال الغيبوبة.
الرابع: أن المعنى لا يحتاج إلى كتاب ولا يضل عنه علم شيء من الأشياء ولا ينسى ما علمه منها. حكي هذا عن الزجاج أيضاً. قال النحاس: وهو أشبهها بالمعنى ولا يخفى أنه كقول ابن الأعرابي.
الخامس: أن المعنى لا يذهب شيء عن علمه ولا ينسى، أي بعدما علم، وهذا كالرابع.
السادس: أن اللفظ الأول إشارة إلى كونه عالماً بكل المعلومات. والثاني دليل على بقاء ذلك العلم أبد الآباد، وهو إشارة إلى نفي التغير.
السابع: أن هاتين الجملتين صفة للكتاب، والمعنى أن الكتاب غير ذاهب عن الله ولا هو ناس له.
240
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (٥٣) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (٥٤) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (٥٥) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (٥٦) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (٥٨)
241
(الذي جعل لكم الأرض مهداً) أي مهدها مهداً أو ذات مهد، وهو اسم لما يمهد كالفراش لما يفرش، وقرئ مهاداً. قال النحاس: والجمع أولى من المصدر لأن هذا الموضع ليس موضع مصدر إلا على حذف المضاف. وقيل مهاد مفرد كالفراش أو جمع معناه الفراش؛ فالمهاد جمع المهد، أي جعل كل موضع منها مهداً لكل واحد منكم، وهذا من جملة كلام موسى في جواب فرعون عن سؤاله الأول فهو مرتبط بقوله ثم هدى، لكنه ذكر في خلال كلامه على سبيل الاعتراض على سؤال فرعون الثاني وجوابه.
(وسلك لكم فيها سبلاً) السلك إدخال الشيء في الشيء، والمعنى أدخل في الأرض لأجلكم طرقاً تسلكونها وسهلها لكم، وَوَسطَها بين الجبال والأودية والبراري تسلكونها من قطر إلى قطر لتقضوا منها مأربكم وتنتفعوا بمنافعها ومرافقها. وفي آية أخرى (الذي جعل لكم الأرض مهداً وجعل لكم فيها سبلاً لعلكم تهتدون).
ثم قال سبحانه تتميماً لما وصفه به موسى (وأنزل من السماء ماء) هو ماء المطر. قيل إلى هنا انتهى كلام موسى، وما بعده وهو (فأخرجنا به) من كلام الله سبحانه. قاله ابن عطية وتبعه المحلى وفيه بعد. وقيل: هو من
241
الكلام المحكي عن موسى، وإنما التفت إلى التكلم للتنبيه على ظهور ما فيه من الدلالة على كمال القدرة والحكمة وإيذاناً بأنه مطاع تنقاد الأشياء المختلفة لمشيئته، ونوقش بأن هذا خلاف الظاهر مع استلزامه فوت الالتفات لعدم اتحاد المتكلم، ويجاب عنه بأن الكلام كله محكي عن واحد وهو موسى، والحاكي للجميع هو الله سبحانه. والمعنى فأخرجنا بذلك الماء بسبب الحرث، والمعالجة.
(أزواجاً من نبات شتى) أي ضروباً وأشباهاً من أصناف النبات المختلفة الألوان والطعوم والروائح والمنافع، فمنها ما هو للناس، ومنها ما هو للدواب، سميت بذلك لازدواجها، واقتران بعضها ببعض.
والنبات مصدر سمي به النابت، فاستوى فيه الواحد والجمع، وشتى جمع شتيت وزنه فعلَى وألفه للتأنيث.
وقال الأخفش: التقدير أزواجاً شتى من نبات، يقال أمر شَتٌّ، أي متفرق وَشَتَّ الأمر شتاً يَشِتُ شتاً وشتاتاً تفرق واشْتَثَّ مثله، والشتيت المتفرق، وشتَّان اسم فعل ماض بمعنى افترق، ولذلك لا يكتفي بواحد، قاله السمين، قال ابن عباس: شيء مختلف.
242
(كلوا وارعوا أنعامكم) أي قائلين لهم ذلك والأمر للإباحة وتذكير النعمة والجملة حال، يقال رعت الماشية الكلأ ورعاها صاحبها رعاية، أي أسامها وسرحها، يجئ لازماً ومتعدياً، والأنعام جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم. والمعنى مُعديها لانتفاعكم بالأكل والعلف آذنين فيه.
(إن في ذلك) الإشارة إلى ما تقدم ذكره في هذه الآيات (لآيات) أي لعبر (لأولي النهى) جمع نُهْيَة وهي العقل، وسمي به لأنه ينهي صاحبه عن ارتكاب القبائح، وقيل: إنه اسم مفرد وهو مصدر كالهدى والسرى، قاله
242
أبو علي وخص ذوي النهى لأنهم الذين يُنْتَهى إلى رأيهم. وقال ابن عباس: لأولي الحجى والعقل وعنه لأولي التقى، وهذا كله من موسى احتجاج على فرعون في إثبات الصانع جواباً لقوله: فمن ربكما يا موسى؟.
(منها) أي من الأرض المذكورة سابقاً (خلقناكم) قال الزجاج وغيره: يعني أن آدم خلق من الأرض وأولاده منه، فعلى هذا يكون خلق كل إنسان غير آدم من الأرض بوسائط عديدة بقدر ما بينه وبين آدم. وقيل المعنى أن كل نطفة مخلوقة من تراب في ضمن خلق آدم، لأن كل فرد من أفراد البشر له حظ من خلقه وعلى هذا يدل ظاهر القرآن.
(وفيها) أي في الأرض (نعيدكم) بعد الموت فتدفنون فيها وتتفرق أجزاؤكم حتى تصير من جنس الأرض، وجاء بـ (في) دون إلى للدلالة على الاستقرار (ومنها) أي من الأرض (نخرجكم) كما أخرجناكم عند ابتداء خلقكم (تارة) أي مرة (أخرى) بالبعث والنشور وتأليف الأجسام ورد الأرواح إليها على ما كانت عليه قبل الموت.
عن عطاء الخراساني قال: إن الملك ينطلق فيأخذ من تراب المكان الذي يدفن فيه فيذره على النطفة فيخلق من التراب ومن النطفة، وذلك قوله:
243
(منها خلقناكم وفيها نعيدكم).
وأخرج أحمد والحاكم عن أبي أمامة قال: لما وضعت أم كلثوم بنت
رسول الله ﷺ في القبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى)، بسم الله؛ وفي
سبيل الله، وعلى ملة رسول الله " (١).
_________
(١) المستدرك كتاب التفسير ٢/ ٣٧٩.
243
وفي حديث في السنن أنه أخذ قبضة من التراب فألقاها في القبر وقال: " منها خلقناكم -ثم أخرى- وقال: وفيها نعيدكم -ثم أخرى- وقال: ومنها نخرجكم تارة أخرى ".
244
(ولقد أريناه) الرؤية بصرية أي أَبْصَرْنا فرعون وَعَرَّفْناه (آياتنا كلها) المراد بها الآيات التسع المذكورة في قوله ولقد آتينا موسى تسع آيات، على أن الإضافة للعهد، وهي العصا واليد والسنين ونقص الثمرات والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم وطمس الأموال والشد على القلوب.
وقال أبو السعود: هي العصا واليد وصيغة الجمع مع كونهما اثنتين باعتبار ما في تضاعيفهما من بدائع الأمور التي كل منها آية بينة لقوم يعقلون انتهى، وهذا مبني على أن هذا إخبار عما وقع له مع فرعون في أول دعائه له، وليس كذلك بل هذا إخبار عن جملة ما وقع له في مدة دعائه له، وهي عشرون سنة؛ وأن هذا من جملة الكلام المعْتَرَض به في أثناء القصة، وقيل: المراد جميع الآيات التي جاء بها موسى والتي جاء بها غيره من الأنبياء وأن موسى قد كان عرفه جميع معجزاته؛ ومعجزات سائر الأنبياء، والأول أولى، وقيل المراد بها حجج الله سبحانه الدالة على توحيده.
(فكذب) فرعون بها أو بموسى، وزعم أنها سحر (وأبى) عليه أن يجيبه إلى الإيمان وأن يوحد الله، وهذا يدل على أن كفر فرعون كفر عناد لأنه رأى الآيات وكذب بها كما في قوله: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً).
(قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا؟) مستأنفة مرتبة على جواب موسى؛ والهمزة للإنكار لما جاء به موسى من الآيات أي جئت يا موسى لتوهم الناس بأنك نبي يجب عليهم اتباعك، والإيمان بما جئت به حتى تتوصل بذلك الإيهام الذي هو شعبة من السحر إلى أن تَغْلِب على أرضنا، يعني مصر وتخرجنا منها، ويكون لك الملك فيها وإنما ذكر الملعون الإخراج من الأرض
244
لتنفير قومه عن إجابة موسى فإنه إذا وقع في أذهانهم وتقرر في أفهامهم أن عاقبة إجابتهم لموسى الخروج من ديارهم وأوطانهم كانوا غير قابلين لكلامه ولا ناظرين في معجزاته ولا ملتفتين إلى ما يدعو إليه من الخير.
(بسحرك يا موسى) فيه دليل على أنه خاف منه خوفاً شديداً وإلا فأي ساحر يقدر أن يخرج ملكاً من أرضه
245
(فلنأتينك بسحر مثله) أي والله لنعارضنك بمثل ما جئت به من السحر في الغرابة، حتى يتبين للناس أن الذي جئت به سحر يقدر على مثله ساحر.
(فاجعل بيننا وبينك موعداً) هو مصدر أي وعداً، وقيل اسم مكان أي اجعل لنا يوماً معلوماً أو مكاناً معلوماً أو أجلاً وميقاتاً، قال الجوهري: الميعاد المواعدة والوقت والموضع وكذلك الموعد، قال القشيري وأبو البقاء، والأظهر أنه مصدر ولهذا قال.
(لا نخلفه) أي لا نخلف ذلك الوعد ولا نجاوزه، وقرئ بالرفع على أنه صفة لموعد أي لا نخلف ذلك الموعد، وقرئ بالجزم على أنه جواب الأمر، والاخلاف أن تعد شيئاً ولا تنجزه (نحن) توكيد مصحح للعطف على الضمير المرفوع المستتر في نخلفه.
(ولا أنت) فوض تعيين الموعد إلى موسى إظهاراً لكمال اقتداره على الإتيان به بمثل ما أتي به موسى (مكاناً) منصوب باجعل على أنه مفعول فيه وأطال الكلام على نصبه السمين (سوى) بضم السين وبكسرها وهما قراءتان سبعيتان وكسر السين هي اللغة العالية الفصيحة، والمراد مكاناً مستوياً، وقيل مكاناً منصفاً عدلاً بيننا وبينك، قال سيبويه يقال: سوى وسوى أي عدل يعني عدلاً بين المكانين.
قال أبو عبيدة والقتيبي: معناه مكاناً وسطاً بين الفريقين، لأن المسافة من الوسط إلى الطرفين مستوية، وقيل معناه سوى هذا المكان وفيه بعد.
245
قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٥٩) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (٦٠) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (٦١) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (٦٢) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (٦٣) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (٦٤) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (٦٥)
ثم واعده موسى لوقت معلوم و
246
(قال موعدكم) أي زمان الوعد (يوم الزينة) أو وعدكم وعد يوم الزينة وقرئ يوم بالنصب أي في يوم الزينة إنجاز موعدنا، قال مجاهد وقتادة ومقاتل والسدي: كان ذلك يوم عيد يتزينون فيه؛ وقال سعيد بن جبير: كان ذلك يوم عاشوراء، وبه قال ابن عباس، وعن ابن عمر نحوه.
وقال الضحاك: يوم السبت، وقيل يوم النيروز، وقيل يوم كسر الخليج. وإنما جعل الميعاد زماناً بعد أن طلب منه فرعون أن يكون مكاناً سوى، لأن يوم الزينة يدل على مكان مشهور يجتمع فيه الناس ذلك اليوم، وإنما خص عليه السلام ذلك اليوم ليكون ظهور الحق وزهوق الباطل في يوم مشهور على رؤوس الأشهاد، ويشيع ذلك فيما بين كل حاضر وباد، ولما أن ذلك اليوم وقت ظهور غاية شوكتهم، ولإظهار كمال قوته، وكونه على ثقة من أمره وعدم مبالاته بهم.
(وأن يحشر الناس ضحى) يعني وقت الضحى ذلك اليوم الذي هو عبارة من ارتفاع الشمس، والمراد بالناس أهل مصر، والمعنى يحشرون إلى العيد وقت الضحى نهاراً وينظرون في أمر موسى وفرعون جهاراً ليكون أبعد من الريبة وأبين لكشف الحق وليشيع في جميع أهل الوبر والمدر.
246
قال الفراء: إذا رأيت الناس يحشرون من كل ناحية ضحى، فذلك الموعد قال: وجرت عادتهم بحشر الناس في ذلك اليوم، وقرئ يحشر على البناء للمفعول وللفاعل أي وأن يحشر الله الناس، وقرئ بالنون؛ وبالفوقية أي وأن تحشر أنت يا فرعون، والضحى قال الجوهري: ضحوة النهار بعد طلوع الشمس، ثم بعده الضحى وهو حين تشرق الشمس، وخص الضحى لأنه أول النهار فإذا امتد الأمر بينهما كان في النهار متسع.
247
(فتولى فرعون) أي انصرف من ذلك المقام والمجلس ليهيئ ما يحتاج إليه مما تواعدا عليه، وقيل معنى تولى أعرض عن الحق، والأول أولى: (فجمع كيده) أي جمع ما يكيد به سحره وحيلته، والمراد أنه جمع السحرة، قيل كانوا اثنين من القبط وسبعين من بني إسرائيل، وقيل أربعمائة وقيل اثنى عشر ألفاً، وقيل أربعة عشر ألفاً، وقال ابن المنذر: كانوا ثمانين ألفاً، وقيل غير ذلك مع كل واحد حبل وعصا.
(ثم أتى) فرعون الموعد الذي تواعدا إليه مع جمعه الذي جمعه وأتى موسى أيضاً
(قال لهم موسى) مستأنفة جواب سؤال مقدر.
(ويلكم لا تفتروا على الله كذباً) دعا عليهم بالويل ونهاهم عن افتراء الكذب بإشراك أحد معه بادعاء كون ما ظهر على يدي سحراً، قال الزجاج: التقدير ألزمهم الله ويلاً، أو هو نداء كقوله: (يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا).
(فيسحتكم بعذاب) عظيم السحت الاستئصال يقال سحت وأسحت بمعنى وأصله استقصاء الشعر قرئ من السحت، وهي لغة نجد وبني تميم، وقرئ من سحت وهي لغة الحجاز، قال ابن عباس: يسحتكم يهلككم، وقال قتادة: يستأصلكم؛ وقال أبو صالح: فيذبحكم.
(وقد خاب من افترى) أي قد خسر وهلك من كذب على الله أيّ
247
كذب كان
248
(فتنازعوا) أي السحرة (أمرهم بينهم) لما سمعوا كلام موسى تناظروا وتشاوروا في أمر موسى وأخيه وتجاذبوا أطراف الكلام في ذلك أي هل هما ساحران أو رسولان؟ (وأسروا النجوى) أي من موسى وكانت نجواهم هي قولهم الآتي: أن هذان لساحران.
وقيل إنهم تناجوا فيما بينهم، فقالوا إن كان ما جاء به موسى سحراً فسنغلبه وإن كان من عند الله فسيكون له أمر.
وقيل الذي أسروه أنه إذا غلبهم اتبعوه، قاله الفراء والزجاج، وقيل الذي أسروه أنهم لما سمعوا قول موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذباً قالوا: ما هذا بقول ساحر، والنجوى المناجاة يكون اسماً ومصدراً.
(قالوا) لأنفسهم أي قال بعضهم لبعض سراً، وحاصل ما قالوه ست جمل أولها قولهم: (إن هذان لساحران) وآخرها قولهم: (وقد أفلح اليوم من استعلى) وقرئ إن هذين وروي هذا عن عثمان وعائشة وغيرهما من الصحابة، وبها قرأ الحسن والنخعي وغيرهما من التابعين وهذه موافقة للإعراب الظاهر مخالفة لرسم المصحف فإنه مكتوب بالألف، وقرئ إن هذان بتخفيف إن على أنها نافية، وهذه موافقة للرسم وللإعراب.
وقرأ أهل المدينة والكوفة إنَّ هذان بتشديد إن وبالألف فوافقوا الرسم وخالفوا الإعراب الظاهر.
وقد تكلم جماعة من أهل العلم في توجيه هذه القراءة وقد استوفى ذلك ابن الأنباري والنحاس، فقيل إنها لغة بني الحرث بن كعب ومراد وخثعم وكنانة يجعلون رفع المثنى ونصبه وجره بالألف أي في أحواله الثلاث، وبه صرح سيبويه والأخفش وأبو زيد والكسائي والفراء.
وقيل: إن بمعنى نعم هاهنا قاله عاصم، قال النحاس: رأيت الزجاج
248
والأخفش يذهبان إليه، وقال الزجاج المعنى أن هذان لهما ساحران وأنكره أبو علي الفارسي وأبو الفتح وابن جني، وقيل أن الألف في هذا مشبهة بالألف في يفعلان فلم تغير، وقيل إنه هذان لساحران، وبه قال قدماء النحاة، وقال ابن كيسان: إنه لما كان يقال. هذا بالألف في الرفع والنصب والجر على حال واحدة، وكانت التثنية لا تغير الواحد أجريت مجرى الواحد، فثبتت الألف في الرفع والنصب والجر، وقيل تقديره ما هذان إلا ساحران فهذه أقوال تتضمن توجيه هذه القراءة بوجه تصح به وتخرج به عن الخطأ وبذلك يندفع ما روي عن عثمان وعائشة أنه غلط من الكاتب للمصحف.
وحاصل القراءات السبعية التي في هذا التركيب أربعة واحدة لأبي عمرو، وهي التي بالياء، والثانية ألف بعدها نون مشددة ومخففة من ان، والأخريان تخفيف النون التي في هذان مع تشديد النون من ان وتخفيفها، وإثبات كل من الياء والألف في النطق وإن كان قراءة سبعية صحيحة متواترة لكنه مشكل من حيث مخالفته لخط الصحف الإمام فإنه ليس فيه ياء ولا ألف فإن رسمه كما في السمين هذن من غير ألف ولا ياء، ثم قال: وكم جاء في الرسم أشياء خارجة عن القياس، وقد نصوا على أنه لا نُجَوِّز القراءة بها فليكن هذا الموضع مما خرج عن القياس.
(يريدان أن يخرجاكم من أرضكم) وهي أرض مصر (بسحرهما) الذي أظهراه (ويذهبا بطريقتكم المثلى) قال الكسائي: أي بسنتكم، والمثلى نعت، كقولك: امرأة كبرى تقول العرب فلان على الطريقة المثلى يعنون على الهدى المستقيم، قال الفراء: العرب تقول هؤلاء طريقة قومهم وطرائق قومهم لأشرافهم ونحوه في القاموس والمثلى تأنيث الأمثل وهو الأفضل يقال: فلان أمثل قومه أي أفضلهم وهم الأماثل وإنما أتت باعتبار التعبير بالطريقة وإلا فباعتبار المعنى كأن يقال أماثل، والمعنى أنهما أن يغلبا بسحرهما مال إليهما السادة والأشراف منكم أو يذهبا بمذهبكم الذي هو أمثل المذاهب.
249
قال ابن عباس: يقول أمثلكم وهم بنو إسرائيل وقال علي: أي يصرف وجوه الناس إليهما.
250
(فأجمعوا كيدكم) الفاء فصيحة، أي إذا كان الأمر كما ذكر من كونهما ساحرين فأجمعوا، والإجماع الإحكام والعزم على الشيء. قاله الفراء، تقول أجمعت على الخروج مثل أزمعت. وقال الزجاج: معناه ليكن عزمكم كلكم كالكيد مجمعاً عليه بحيث لا يتخلف عنه واحد منكم.
(ثم ائتوا صفاً) أي مصطفين مجتمعين ليكون أنظم لأمرهم وأشهد لهيبتهم وأدخل في استجلاب الخشية، وهذا قول جمهور المفسرين. وقال أبو عبيدة: الصف المجمع، ويسمى المصلى الصف. قال الزجاج: وعلى هذا معناه: ثم ائتوا الموضع الذي تجتمعون فيه لعيدكم وصلاتكم، يقال أتيت الصف بمعنى أتيت المصلى. فعلى التفسير الأول نصب صفاً على الحال، وعلى الثاني على المفعولية، قال الزجاج: يجوز أن يكون المعنى " ثم ائتوا والناس مصطفون " فيكون مصدراً في موضع الحال ولذلك لم يجمع.
(وقد أفلح اليوم من استعلى) أي فاز من غلب، يقال استعلى عليه إذا غلبه؛ وهذا كله من قول السحرة بعضهم لبعض، وقيل: من قول فرعون لهم، وهذه جملة معترضة.
(قالوا يا موسى) اختر أحد الأمرين، كذا قدره الزمخشري، وهذا تفسير معنى (إما أن تلقي) ما تلقيه أو التقدير الأمر إما إلقاؤك أول أو إلقاؤنا، كذا قدره الزمخشري، أو إلقاؤك أول، ويدل عليه قوله:
(وإما أن نكون) نحن (أول من ألقى) ما يلقيه، واختاره المحلى، أو أول من يفعل الإلقاء والمراد إلقاء العصا على الأرض، وكانت السحرة معهم عصيّ، وكان موسى قد ألقى عصاه يوم دخل على فرعون، فلما أراد السحرة معارضته قالوا له هذا القول، وهذا منهم استعمال أدب حسن معه، وكأنه تعالى ألهمهم ذلك وقد وصلت إليهم بركته.
250
قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (٦٦) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (٦٧) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (٦٨) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (٦٩) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (٧٠) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (٧١)
وعلم موسى اختيار إلقائهم أولاً حتى
251
(قال) لهم (بل ألقوا) أنتم أولاً، وإنما أمرهم بذلك لتكون معجزته أظهر إذا ألقوا ما معهم فيصير آية نيرة للناظرين وعبرة بينة للمعتبرين، ثم يلقي هو عصاه فتبتلع ذلك ويظهر سلطانه. وقيل: إنما بتَّ عليه السلام لهم القول مقابلة للأدب بأحسن من أدبهم، وإظهاراً لعدم المبالاة بسحرهم.
فألقوا (فإذا حبالهم) الفاء فصيحة، يقال إذاً هذه هي المفاجئة، والتحقيق أنها إذاً الكائنة بمعنى الوقت للطالبة ناصباً لها، وقد يكون ناصبها فعلاً مخصوصاً وهو فعل المفاجأة (وعصيهم) بكسر العين اتباعاً لكسرة الصاد، وقرئ بضمها وهي لغة بني تميم.
(يخيل إليه من سحرهم) بالتحتية على البناء للمفعول، وقرئ تخيل بالفوقية لأن العصي والحبال مؤنثة، وقريء نخيل بالنون على أن الله سبحانه هو المخيل لذلك، وقرئ بالتحتية مبنياً للفاعل على أن المخيل هو الكيد.
وقيل المخيل هو (أنها تسعى) أي يخيل إليه سعيها، ذكر معناه الزجاج، وقال ومن قرأ بالفوقية جعل أن في موضع نصب، أي تخيل إليه ذات سعي. يقال خيل إليه إذا شبه له، وأدخل عليه التهمة والشبهة، وذلك أنهم لطخوها وطلوها بالزئبق فلما أصابها حر الشمس ارتعشت واهتزت
251
واضطربت، فخيل إليه أنها تتحرك.
252
(فأوجس) أي أحس وقيل وجد وقيل أضمر وقيل خاف (في نفسه خيفة موسى) وذلك لما يُعْرَض من الطباع البشرية عند مشاهدة ما يخشى منه، وقيل خاف أن يفتتن الناس قبل أن يلقي عصاه، أو لعله كان مأموراً بأن لا يفعل شيئاً إلا بالوحي، فلما تأخر نزول الوحي في ذلك المحفل بقي في الخجل. قاله ابن عادل وقيل أن سبب خوفه هو أن سحرهم كان من جنس ما أراهم في العصا، فخاف أن يلتبس أمره على الناس فلا يؤمنوا، فأذهب الله سبحانه ما حصل معه من الخوف بما بشره به بقوله:
(قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى) أي المستعلي عليهم بالظفر والغلبة، والجملة تعليل للنهي عن الخوف، وفيه إشارة إلى أن لهم علواً وغلبة بالنسبة إلى سائر الناس، ولذلك أوجس منهم خيفة فرد ذلك بأنواع من المبالغة، أحدها ذكر كلمة التوكيد وهي (إنَّ) وثانيها تكرير الضمير، وثالثها لام التعريف، ورابعها لفظ العلو وهو الغلبة الظاهرة، وهذا يكفي فيه ظن العلو في أمرهم لا أن الأعلى لمجرد الزيادة، لأنه لم يكن للسحرة علو حتى يكون هو أعلى منهم كما قيل. قاله الكرخي.
(وألق ما في يمينك) يعني العصا، وإنما أبهمها تعظيماً وتفخيماً، أي لا تحتفل بهذه الأجرام فإن في يمينك شيئاً أعظم منها كلها، وهذه على كثرتها أقل شيء عندها، فألقها ولا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم، وجاز أنه يكون الإبهام للتصغير أي وألق العُوَيْد الفريد الصغير الجرم، الذي بيدك فإنه بقدرة الله تعالى: (تلقف) على وحدته وكثرتها وصغره وعظمها.
قرئ تلقف بسكون اللام من لقفه إذا ابتلعه بسرعة، وقرئ بالرفع على تقدير فإنها تلقف. وقال الزجاج: القراءة بالجزم جواب الأمر، ويجوز الرفع على معنى الحال كأنه قال ألقها متلقفة (ما صنعوا) من الحبال والعصيّ.
(إنما صنعوا كيد ساحر) أي جنسه، أي أن الذي صنعوه كيد
252
ساحر، أو أن صنعهم كيد ساحر وقرئ سِحر، وإضافة الكيد إلى السحر على الاتساع من غير تقدير، أو بتقدير ذي سحر وقيل غير ذلك.
(ولا يفلح) ولا يسعد (الساحر) أي جنس الساحر (حيث أتى) أي حيث كان وأين توجه وأقبل، وهذا من تمام التعليل.
253
(فألقي السحرة) أي فألقى ذلك الأمر الذي شاهدوه من موسى والعمى إياهم (سجداً) لله تعالى، وذلك لأنهم كانوا في أعلى طبقات السحر، فلما رأوا ما فعله موسى خارجاً عن صناعتهم، عرفوا أنه ليس من السحر البتة، وقد مر تحقيق هذا في سورة الأعراف.
قال صاحب الكشاف: سبحان الله ما أعجب أمرهم، قد ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود، ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة للشكر والسجود، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين؛ وقيل إنهم لم يرفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة والنار والثواب والعقاب (قالوا آمنا برب هارون وموسى) إنما قدم هارون على موسى هنا في حكاية كلامهم، وأخر في الشعراء رعاية لفواصل الآي وعناية بتوافق رؤوسها؛ ولأن الواو لا توجب ترتيباً.
قال عكرمة: إن سحرة فرعون كانوا تسعمائة، فقالوا لفرعون: إن يكن هذان ساحرين فإنا نغلبهما فإنه لا أسحر منا، وإن كانا من رب العالمين فإنه لا طاقة لنا برب العالمين، فلما كان من أمرهم أن خروا سجداً أراهم الله في سجودهم منازلهم التي يصيرون إليها في الجنة، فعندها قالوا هذا القول، وقالوا أيضاً: (لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات) إلى قوله: (والله خير وأبقى).
(قال) فرعون (آمنتم له) يقال آمن له وبه، فمن الأول قوله (فآمن له لوط)، ومن الثاني قوله في الأعراف: (آمنتم به). قيل: أن الفعل هنا متضمن معنى الاتباع، وقرئ على الاستفهام التوبيخي أي كيف آمنتم به (قبل أن آذن لكم) أي من غير إذن مني لكم بذلك.
253
(إنه) أي أن موسى (لكبيركم) أي أسحركم وأعلاكم درجة في صناعة السحر، فلا عبرة بما أظهرتموه، أو معلمكم وأستاذكم، كما يدل عليه قوله: (الذي علمكم السحر) يعني إنكم تلامذته في السحر، فاصطلحتم وتواطأتم معه على أن تظهروا العجز من أنفسكم ترويجاً لأمره وتفخيماً لشأنه.
قال الكسائي: الصبي بالحجاز إذا جاء من عند معلمه قال: جئت من عند كبيري. وقال محمد بن إسحاق: إنه لعظيم السحر. قال الواحدي: الكبير في اللغة الرئيس. ولهذا يقال للمعلم الكبير، أراد فرعون بهذا القول أن يدخل الشبهة على الناس حتى لا يؤمنوا، وإلا فقد علم أنهم لم يتعلموا من موسى ولا كان رئيساً لهم ولا بينه وبينهم مواصلة.
(فلأقطعن أيديكم وأرجلكم) أي والله لأفعلن بكم ذلك، والتقطيع للأيدي. والأرجل (من خلاف) هو قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، لأن كل واحد من العضوين يخالف الآخر بأن هذا يد وذاك رجل، وهذا يمين وذاك شمال، أي لأقطعنها مختلفات، ومن لابتداء الغاية، كان القطع ابتدئ من مخالفة العضو للعضو.
(ولأصلبنكم في جذوع النخل) أي على جذوعها؛ كقوله: (أم لهم سلم يستمعون فيه) أي عليه، وإنما آثر كلمة (في) للدلالة على استقرارهم عليها؛ كاستقرار المظروف في الظرف، وهذا هو المشهور، وخص النخل لطول جذوعها؛ وقيل إنه نقر جذوع النخل حتى جوفها ووضعهم فيها فماتوا جوعاً وعطشاً، وهذا على الحقيقة كما أن الأول على المجاز وهو الأولى.
(ولتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقى) أراد لتعلمن هل أنا أشد عذاباً لكم على إيمانكم به أم موسى؟ ومعنى أبقى أدوم، وهو يريد بكلامه هذا الاستهزاء بموسى لأن موسى لم يكن من التعذيب في شيء، ويمكن أن يريد العذاب الذي توعدهم به موسى إن لم يؤمنوا، وقيل إشارة إلى أن إيمانهم لم يكن ناشئاً عن مشاهدة المعجزة بل كان من خوفهم من موسى حيث رأوا ما وقع من عصاه.
254
قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (٧٢) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (٧٣) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (٧٤) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (٧٥) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (٧٦)
255
(قالوا) غير مكترثين بوعيده لهم (لن نؤثرك) أي لن نختارك (على مما جاءنا) به موسى أو جاءنا من عند الله على يده (من البينات) أي من المعجزات الواضحات من عند الله سبحانه كاليد والعصا، وقيل: إنهم أرادوا بالبينات ما رأوه في سجودهم من المنازل المعدة في الجنة، وأنما نسب المجيء إليهم وإن كانت البينات جاءت لهم ولغيرهم، لأنهم كانوا أعرف بالسحر من غيرهم، وقد علموا أن ما جاءهم به موسى ليس من السحر، فكانوا على جلية من العلم بالمعجز وغيره. وغيرهم كالمقلد وأيضاً كانوا هم المنتفعين بها.
(و) لن نختارك على (الذي فطرنا) أي خلقنا والواو للعطف، وإنما أخروا ذكر الباري تعالى لأنه من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى، وقيل إنها واو القسم والموصول مقسم به وجوابه محذوف، أي وحق الذي، أو والله الذي فطرنا لا نؤثرك على الحق، وهذان الوجهان في تفسير الآية ذكرهما الفراء والزجاج والسمين.
(فاقض ما أنت قاض) هذا جواب منهم لفرعون لا قال لهم لأقطعن أيديكم الخ. والمعنى فاصنع ما أنت صانعه من القتل والصلب؛ واحكم ما أنت حاكم به. قال المفسرون: وليس في القرآن أن فرعون فعل بالسحرة ما
255
هددهم به، ولم يثبت في الأخبار أيضاً. قاله أبو السعود. وفي بعض التفاسير أنه فعله بهم كما مر.
(إنما تقضي هذه الحياة الدنيا) تعليل لعدم المبالاة المستفادة من قولهم: لن نؤثرك ومن الأمر بالقضاء، أي إنما تصنع ما تهواه أو تحكم بما تراه في هذه الدنيا وما لنا من رغبة فيها ولا رهبة من عذابها. والمعنى إنما سلطانك علينا ونفوذ أمرك فينا في هذه الحياة الدنيا ولا سبيل لك علينا فيما بعدها فسيزول عن قريب قال الفراء: ما بمعنى الذي، أي أن الذي تقضيه هو هذه الحياة الدنيا، فقضاؤك وحكمك منحصر في ذلك.
256
(إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا) التي سلفت منا من الكفر وغيره (و) يغفر لنا (ما) أي الذي (أكرهتنا عليه من) عمل (السحر) في معارضة موسى فـ (ما) في محل نصب على المفعولية، وقيل ما نافية، قال النحاس: والأول أولى، ويجوز أن تكون في محل رفع بالابتداء والخبر محذوف، أي وما أكرهتنا عليه من السحر محطوط وموضوع عنا، أو لا يؤاخذنا به ربنا. قال ابن عباس: أخذ فرعون أربعين غلاماً من بني إسرائيل فأمر أن يعلموا السحر فتعلموا، وقال علموهم تعليماً لا يغلبهم أحد في الأرض، فهم من الذين آمنوا بموسى، وقالوا هذا القول:
(والله خير) منك ثواباً (وأبقى) منك عذاباً. قال محمد بن كعب القرظي: خير منك إن أطيع وأبقى منك عذاباً إن عصي، وهذا رد لقوله: (ولتعلمن أينا) الخ حيث كان مراده نفسه.
(إنه) أي الشأن (من يأت ربه مجرماً) هو المتلبس بالكفر والمعاصي، المائت عليها (فإن له جهنم لا يموت فيها) فيستريح (ولا يحيى) حياة تنفعه قال المبرد: لا يموت ميتة مريحة ولا يحيى حياة ممتعة، فهو يألم كما يألم الحي ويبلغ به حالة الموت في المكروه، إلا أنه لا يبطل فيها عن إحساس الألم، والعرب تقول: فلان لا حي ولا ميت، إذا كان غير منتفع بحياته، وهذا تحقيق لكون عذابه أبقى، وهذه الآية من جملة ما حكاه الله
256
سبحانه من قول السحرة. وقيل هو ابتداء كلام، وهذا هو الأظهر. قاله النسفي.
أخرج أحمد ومسلم وابن أبي حاتم وغيرهم عن أبي سعيد أن رسول الله ﷺ خطب فأتى على هذه الآية فقال: " أما أهلها الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحييون، وأما الذين ليسوا بأهلها فإن النار تميتهم إماتة ثم يقوم الشفعاء فيشفعون، فيؤتى بهم ضبائر على نهر يقال له الحياة أو الحيوان فينبتون كما ينبت القثاء في حميل السيل " (١).
_________
(١) مسلم ١٨٥ - وأحمد بن حنبل ٣/ ١١.
257
(ومن يأته) أي ومن يأت ربه (مؤمناً) أي مصدقاً به (قد عمل الأعمال (الصالحات) أي الطاعات ومات على الإيمان وليس فيه ما يدل على عدم اعتبار الإيمان المجرد عن العمل الصالح في استتباع الثواب، لأن ما نيط من الأعمال الصالحة هو الفوز بالدرجات العلى لا الثواب مطلقاً (فأولئك) الإشارة إلى من باعتبار معناه (لهم الدرجات العلى) أي المنازل الرفيعة التي قصرت دونها الصفات، والعلى جمع علياء مؤنث أعلى.
(جنات عدن تجري من تحتها الأنهار) بيان للدرجات، وعدن علم للإقامة كما سبق (خالدين فيها) أي ماكثين دائمين، فيه مراعاة لمعنى من (وذلك) أي ما تقدم لهم من الأجر (جزاء من تزكى) أي من تطهر من الكفر والذنوب والمعاصي الموجبة للنار.
وأخرج أبو داود وابن مردويه عن أبي سعيد قال، قال رسول الله (- ﷺ -): " إن أهل الدرجات العلى ليراهم من تحتهم كما ترون الكوكب الدري في أفق السماء وإن أبا بكر وعمر منهم وأنْعِمَا " (١)، وفي الصحيحين بلفظ " إن أهل عليين ليرون من فوقهم، كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء " (٢).
_________
(١) صحيح الجامع الصغير ٢٠٢٦.
(٢) مسلم ٢٨٣١ - البخاري ١٥٤٠.
257
وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (٧٧) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (٧٩) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (٨٠) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (٨١) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (٨٢)
258
(ولقد أوحينا إلى موسى) هذا شروع في إنجاء بني إسرائيل وإهلاك عدوهم، وقد تقدم في البقرة والأعراف، وفي يونس، واللام في لقد هي الموطئة للقسم، وفي ذلك من التأكيد ما لا يخفى (أن أسر بعبادي) أي أسر بهم ليلاً من مصر إلى البحر، وقد تقدم هذا مستوفى.
(فاضرب) أي اجعل (لهم طريقاً) وأشرعه، وقيل طريقاً مفعول به على سبيل المجاز بأن يكون المعنى اضرب البحر لينفلق لهم فيصير طريقاً لهم فعلى هذا تصح نسبة الضرب إلى الطريق؛ والمراد بالطريق جنسه، فإن الطرق كانت اثنتي عشرة بعدد أسباط بني إسرائيل (في البحر يبساً) أي يابساً وصف به الفاعل مبالغة، وذلك أن الله تعالى أيبس لهم تلك الطريق، ومرت عليه الصَّبا فجففته حتى لم يكن فيها ماء ولا طين قاله محمد بن كعب ومجاهد، وقرئ بسكون الباء مخففاً من يَبْساً المحرك وهو مصدر أو جمع يابس كصحب وصاحب وصف به الواحد مبالغة.
(ولا تخاف دركاً) أي آمناً من أن يدرككم العدوّ من ورائكم، والدرك اللحاق بهم من فرعون وجنوده، وبه قال ابن عباس قرأ الجمهور لا تخاف وهي أرجح لعدم الجزم في قوله سبحانه: (ولا تخشى) أي من فرعون أو من البحر أن يغرقك
(فأتبعهم فرعون بجنوده) اتبع هنا مطاوع اتبع يقال:
258
أتبعتهم إذا تبعتهم وذلك إذا سبقوك فلحقته، فالعنى تبعهم فرعون ومعه جنوده، وقيل الباء زائدة والأصل أتبعهم جنوده أي أمرهم أن يتبعوا موسى وقومه، وقرئ فاتبعهم بالتشديد أي لحقهم بجنوده وهو معهم، كما يقال ركب الأمير بسيفه أي معه سيفه وقيل سائقاً جنوده معه.
(فغشيهم من اليمِّ ما غشيهم) أي علاهم وأصابهم منه ما غمرهم من الأمر الهائل الذي لا يقادر قدره، ولا يبلغ كنهه، وقال السمين: هذا من باب الاختصار وجوامع الكلم أي ما يقل لفظها ويكثر معناها، والتكرير للتعظيم والتهويل؛ كما في قوله: (الحاقة ما الحاقة) وقيل غشيهم ما سمعت قصته؛ وقال ابن الأنباري: غشيهم البعض الذي غشيهم لأنه لم يغشهم كل ماء البحر بل الذي غشيهم بعضه، فهذه العبارة للدلالة على الذي أغرقهم بعض الماء، والأول أولى لما يدل عليه من التهويل والتعظيم.
وقرئ (فغشاهم من اليمِّ ما غشاهم) أي غطاهم ما غطاهم من الغرق وسترهم ما لم يعلم كنهه إلا الله سبحانه فغرق فرعون وجنوده ونجا موسى وقومه.
259
(وأضل فرعون قومه وما هدى) هذا إخبار عن حاله قبل الغرق أي أضلهم عن الرشد وما هداهم إلى طريق النجاة لأنه قدر أن موسى وقومه لا يفوتونه لكونهم بين يديه يمشون في طريق يابسة وبين أيديهم البحر وفي قوله: (وما هدى) تأكيد وتقرير لإضلاله لأن المضل قد يرشد من يضله في بعض الأمور وفيه تكذيب لفرعون في قوله: وما أهديكم إلا سبيل الرشاد.
(يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم) ذكر سبحانه ما أنعم به على بني إسرائيل بعد إنجائهم، وفي هذا الترتيب غاية الحسن حيث قدم تذكير نعمة الإنجاء ثم النعمة الدينية ثم الدنيوية والتقدير: قلنا لهم بعد إنجائهم يا بني إسرائيل ويجوز أن يكون خطاباً لليهود المعاصرين لنبينا ﷺ لأن النعمة على الآباء معدودة من النعم على الأبناء، والمراد بعدوهم هنا فرعون وجنوده، وذلك بإغراقه وإغراق قومه في البحر بمرأى من بني إسرائيل.
259
(وواعدناكم جانب الطور الأيمن) انتصاب جانب على أنه مفعول به لا على الظرفية لأنه مكان معين غير مبهم، وإنما تنتصب الأمكنة على الظرفية إذا كانت مبهمة، قال مكي: وهذا أصل لا خلاف فيه.
قال النحاس: والمعنى أمرنا موسى أن يأمركم بالخروج معه لنكلمه بحضرتكم فتسمعوا الكلام، وقيل وعد موسى بعد إغراق فرعون أن يأتي جانب الطور فالوعد كان لموسى وإنما خوطبوا به لأن الوعد كان لأجلهم فهو من المجاز العقلي. وقرئ (ووعدناكم) لأن الوعد إنما هو من الله لموسى خاصة والمواعدة لا تكون إلا من اثنين، وقد قدمنا في البقرة هذا المعنى، والأيمن صفة للجانب، والمراد يمين الشخص لأن الجبل ليس له يمين ولا شمال، فإذا قيل خذ عن يمين الجبل فمعناه عن يمينك من الجبل
(ونزلنا عليكم) أي في التيه (المن والسلوى) قد تقدم تفسير المن بالترنجبين والسلوى بالسمان وأوضحنا ذلك بما لا مزيد عليه، وقال أبو السعود: المن هو شيء حلو أبيض مثل الثلج كان ينزل من الفجر إلى طلوع الشمس لكل إنسان صاع ويبعث الريح الجنوب عليهم السماني فيذبح الرجل منهم ما يكفيه.
260
(كلوا) أي قلنا لهم: كلوا (من طيبات ما رزقناكم) أي المنعم به عليكم المراد بالطيبات المستلذات، وقيل الحلال، على الخلاف المشهور في ذلك (ولا تطغوا فيه) الطغيان التجاوز أي لا تتجاوزوا ما هو جائز إلى ما لا يجوز كالسرف والبطر والمنع عن المستحق.
وقيل: المعنى لا تجحدوا نبي الله فتكونوا طاغين، وقيل: لا تكفروا نعمة الله ولا تنسوا شكرها، وقيل: لا تعصوا النعم أي لا تحملنكم السعة والعافية على المعصية ولا مانع من حمل الطغيان على جميع هذه المعاني، فإن كل واحد منها يصدق عليه أنه طغيان.
260
(فيحل) بكسر الحاء أي يجب (عليكم غضبي) أي يلزمكم وبضمها بمعنى ينزل بكم وهو مأخوذ من حلول الدين أي حضور وقت أدائه (ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى) قرئ بكسر اللام الأولى وبضمها وهما لغتان.
قال الفراء: الكسر أحب إليّ من الضم لأن الضم من الحلول بمعنى الوقوع ويحل بالكسر يجب وجاء التفسير بالوجوب لا بالوقوع وذكر نحو هذا أبو عبيدة وغيره، وَهَوَى بمعنى هلك، قال الزجاج: فقد هوى أي صار إلى الهاوية وهي قعر النار من هوى يهوي هوياً: أي سقط من علو إلى سفل وهوى فلان أي مات، وقال ابن عباس: هوى أي شقي.
261
(وإني لغفار لمن تاب) من الذنوب التي أعظمها الشرك بالله أو من الشرك قاله ابن عباس (وآمن) بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وقال ابن عباس: وحد الله (وعمل) عملاً (صالحاً) مما ندب إليه الشرع وحسنه، وقال ابن عباس: أدى الفرائض وظاهر اللفظ يشمل الفرض والنفل.
(ثم اهتدى) أي استقام واستمر على ذلك حتى يموت، قاله الزجاج وغيره وقال سعيد بن جبير: لزم السنة والجماعة، وعن ابن عباس قال: من تاب من الذنب وآمن من الشرك وعمل صالحاً فيما بينه وبين ربه ثم اهتدى أي علم أن لعمله ثواباً وعلى تركه عقاباً يجزى عليه، وقيل تعلم العلم ليهتدي به، وقيل لم يشك في إيمانه والأول أرجح مما بعده، و (ثم) إما للتراخي باعتبار الانتهاء لبعده عن أول الاهتداء أو الدلالة على بعد ما بين المرتبتين فإن المداومة أعظم وأعلى من الشروع.
والإيضاح أن المراد الاستمرار على تلك الطريقة إذ المهتدي في الحال لا يكفيه ذلك في الفوز بالنجاة، حتى يستمر عليه في المستقبل ويموت عليه، قاله الكرخي.
261
وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (٨٣) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (٨٤) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (٨٨)
262
(وما أعجلك عن قومك يا موسى؟) هذا حكاية لما جرى بين الله سبحانه، وبين موسى عند موافاته الميقات. والسؤال وقع من الله لكنه ليس لاستدعاء المعرفة بل إما لتعريف غيره أو لتبكيته أو لتنبيهه كما صرح به الراغب وظاهره أنه ليس بمجاز كما يقول التلميذ سألني الأستاذ عن كذا ليعرف فهمي ونحو ذلك، قال المفسرون: كانت المواعدة أن يوافي موسى وجماعة من وجوه قومه فسار موسى بهم، ثم عجل من بينهم شوقاً إلى ربه فقال الله تعالى له: ما الذي حملك على العجلة حتى تركت قومك وخرجت من بينهم؟ والمراد بهم جملة بني إسرائيل فإن موسى كان قد أمر هارون أن يسير بهم على أثره ويلحقونه في مكان المناجاة، فأجاب موسى عن ذلك.
(قال هم أولاء على أثري) أي بالقرب مني تابعون لأثري واصلون بعدي ليس بيني وبينهم إلا مسافة يسيرة، وقيل لم يرد أنهم يسيرون خلفه؛ بل أراد أنهم بالقرب منه ينتظرون عوده إليهم. بنو تميم يقولون أولى مقصورة وأهل الحجاز أولاء ممدودة؛ قاله عيسى بن عمرو، وقرئ إثر بكسر الهمز وإسكان الثاء وبفتحهما وهما لغتان.
ثم قال مصرحاً بسبب ما سأله الله عنه، فقال: (وعجلت إليك رب
262
لترضى) عني بمسارعتي إلى امتثال أمرك أو لتزداد رضا عني بذلك، وفيه دليل على جواز الاجتهاد، والمعنى عجلت إلى الوضع الذي أمرتني بالمصير إليه لترضى عني يقال رجل عجل وعجول بين العجلة والعجلة خلاف البطء.
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة والبيهقي في الشعب من طريق عمرو بن ميمون عن رجل من أصحاب النبي ﷺ قال: " تعجل موسى إلى ربه فرأى في ظل العرش رجلاً فعجب له فقال: من هذا يا رب؛ قال لا أحدثك من هو لكن سأخبرك بثلاث فيه كان لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله ولا يعن والديه ولا يمشي بالنميمة ".
263
(قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك) مستأنفة كأنه قيل فماذا؟ قال الله أي ابتليناهم واختبرناهم وألقيناهم في فتنة ومحنة، قال ابن الأنباري: صيرناهم مفتونين أشقياء بعبادة العجل من بعد انطلاقك من بينهم وهم الذين خلفهم مع هارون وكانوا ستمائة ألف فافتتنوا غير اثني عشر ألفاً وهذه الفتنة وقعت لهم بعد خروج موسى من عندهم بعشرين يوماً، وهذا الإخبار من الله تعالى عنها قيل إنه كان وقت سؤاله بقوله: وما أعجلك الخ فهو أول حضوره الميقات وفي ذلك الوقت لم تكن الفتنة وقعت لهم كما علمت فيكون هذا الإخبار فيه تجوز من إطلاق الماضي على المستقبل على حد (أتى أمر الله) وقيل إنه كان بعد تمام الأربعين أو في العشر الأخير منها.
قال الشهاب: وعليه الجمهور وعليه فيكون الإخبار حقيقاً لا تجوز فيه.
(وأضلهم السامري) أي دعاهم إلى الضلالة وكان من قوم يعبدون البقر فدخل في دين بني إسرائيل في الظاهر وفي قلبه ما فيه من عبادة البقر وكان من قبيلة تعرف بالسامرة، وقيل كان من القبط، وقيل كان علجاً من علوج كرمان رفع إلى مصر، وكان جاراً لموسى وآمن به واسمه موسى بن ظفر وكان منافقاً، فقال لمن معه من بني إسرائيل إنما تخلف موسى عن الميعاد الذي بينكم وبينه لا صار معكم من الحلي، وهي حرام عليكم وأمرهم بإلقائها في
263
النار وكان من أمر العجل ما كان.
264
(فرجع موسى إلى قومه) قيل وكان الرجوع إلى قومه بعدما استوفى أربعين يوماً ذا القعدة وعشر ذي الحجة وأخذ التوراة، روي أنه لما رجع موسى سمع الصياح والضجيج وكانوا يرقصون حول العجل، فقال للسبعين الذين كانوا معه: هذا صوت الفتنة.
وفي القرطبي: وسئل الإمام أبو بكر الطرطوشي عن جماعة يجتمعون ويكثرون من ذكر الله وذكر رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم إنهم يضربون بالقضيب على شيء من الطبل ويقوم بعضهم يرقص ويتواجد حتى يقع مغشياً عليه ويحضرون شيئاً يأكلونه، فهل الحضور معهم جائز أم لا؟.
فأجاب: يرحمك الله، مذهب الصوفية بطالة وجهالة وضلالة، وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري لما اتخذ لهم عجلاً جسداً له خوار، فقاموا يرقصون حوله ويتواجدون، فهو دين الكفار وعباد العجل. وأما الطبل فأول من اتخذه الزنادقة ليشغلوا به المسلمين عن كتاب الله تعالى؛ وإنما كان مجلس النبي مع أصحابه كأنما على رؤوسهم الطير من الوقار، فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعهم من الحضور في المساجد وغيرها، ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم أو يعينهم على باطلهم. وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة المسلمين. إهـ.
(غضبان أسفاً) الأسَفِ الشديد الغضب، وقيل الحزين، وقد مضى في الأعراف بيان هذا مستوفى (قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً) الاستفهام للإنكار التوبيخي، والوعد الحسن وعدهم بالجنة إذا أقاموا على طاعته. وقيل وعدهم أن يسمعهم كلامه في التوراة على لسان موسى ليعملوا بما فيها فيستحقوا ثواب عملهم، وكانت ألف سورة كل سورة ألف آية، يحمل أسفارها سبعون جملاً، ولا وعد أحسن من ذلك. قاله النسفي، وقيل
264
وعدهم النصر والظفر. وقيل هو قوله: (وإني لغفار لمن تاب) الآية.
(أفطال عليكم العهد) أي أوعدكم ذلك فطال عليكم الزمان فنسيتم (أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم) أي يلزمكم أو ينزل عليكم، والغضب العقوبة والنقمة. والمعنى أم أردتم أن تفعلوا فعلاً يكون سبب حلول غضب الله عليكم بإرادتكم واختياركم.
(فأخلفتم موعدي) أي موعدكم إياي، فالصدر مضاف إلى المفعول لأنهم وعدوه أن يقيموا على طاعة الله عز وجل إلى أن يرجع إليهم من الطور. وقيل وعدوه أن يأتوا على أثره إلى الميقات فتوقفوا وتركوا المجيء بعده، وهذا ترتيب على كل واحد من شقي الترديد على سبيل البدل.
فأجابوه و
265
(قالوا ما أخلفنا موعدك) الذي وعدناك (بملكنا) بفتح اليم وقرئ بكسرها؛ واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم لأنها على اللغة العالية الفصيحة، وهو مصدر ملكت الشيء أملكه ملكاً، والمصدر مضاف إلى الفاعل والمفعول محذوف، أي بملكنا أمورنا، أو بملكنا الصواب، بل أخطأنا ولم نملك أنفسنا، وكنا مضطرين إلى الخطأ، أي سوَّل لنا السامري ما سوّل. وغلب على عقولنا.
قال ابن عباس: بملكنا أي بأمرنا. وقال قتادة، بطاقتنا، وعن السدي مثله، وقيل باختيارنا، وذلك أن المرء إذا وقع في الفتنة لم يملك نفسه، وقرئ بملكنا بضم اليم. والمعنى بسلطاننا، قاله الحسن، أي لم يكن لنا ملك فنخلف موعدك وقيل: أن الفتح والكسر والضم كلها لغات سبعية في مصدر ملكت الشيء.
(ولكنا حملنا أوزاراً من زينة القوم) قرئ حملنا بضم الحاء وتشديد الميم وقرئ بفتح الحاء واليم مخففة، واختارها أبو عبيد وأبو حاتم لأنهم حملوا حلية القوم معهم باختيارهم وما حملوها كرهاً، فإنهم كانوا استعاروها منهم حين أرادوا الخروج مع موسى وأوهموهم أنهم يجتمعون في عيد لهم أو وليمة.
265
وقيل هو ما أخذوه من آل فرعون لما قذفهم البحر إلى الساحل. وسميت أوزاراً أي آثاماً لأنه لا يحل لهم أخذها ولا تحل لهم الغنائم في شريعتهم، والأوزار في الأصل الأثقال كما صرح به أهل اللغة، والمراد بالزينة هنا الحلى (فقذفناها) أي طرحناها في النار طلباً للخلاص من إثمها، وقيل المعنى طرحناها إلى السامري لتبقى لديه حتى يرجع موسى فيرى فيها رأيه.
(فكذلك ألقى السامري) أي فمثل ذلك القذف ألقاها السامري، قيل إنه قال لهم حين استبطأ القوم رجوع موسى. إنما احتبس عنكم لأجل ما عندكم من الحلى فجمعوه ودفعوه إليه فرمى به في النار وصاغ لهم منه عجلاً، ثم ألقى عليه قبضة من أثر الرسول، وهو جبريل.
266
(فأخرج لهم) السامري من الحفرة، وهذا من كلامه تعالى: (عجلاً) صاغه من الحلى في ثلاثة أيام (جسداً) أي حال كونها جسداً أي صائرة جسداً، أي دماً ولحماً، والجسد جمعه أجساد.
قال في البارع: لا يقال الجسد إلا للحيوان العاقل، وهو الإنسان والملائكة والجن، ولا يقال لغيره جسد إلا للزعفران، وللذم إذا يبس أيضاً جسد وجاسد والمعنى أخرج لهم عجلاً ذا جثة على التشبيه بالعاقل.
(له خوار) صوت يسمع، أي يخور كما يخور الحي من العجول، والخوار صوت البقر؛ وقيل خواره كان بالريح لأنه كان عمل فيه خروقاً فإذا دخلت الريح في جوفه خار، ولم تكن فيه حياة.
(فقالوا) أي السامري ومن وافقه بادئ الرأي (هذا إلهكم وإله موسى فنسي) أي فضل موسى ولم يعلم مكان إلهه هذا، وذهب يطلبه في الطور، وهذا يقتضي أنهم جعلوا العجل إلهاً يعبدونه لذاته، لا لتقريبه لهم من الله تعالى. وقيل المعنى فنسي موسى أن يذكر لكم أن هذا إلهه وإلهكم. قاله ابن عباس وقيل الناسي هو السامري؛ أي ترك السامري ما أمر به موسى من الإيمان وضل كذا قال ابن الأعرابي.
266
أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (٨٩) وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (٩١) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (٩٥) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦)
267
(أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولاً) الاستفهام للتوبيخ والتقريع، أي أفلا يعتبرون ويتفكرون في هذا العجل لا يرد عليهم جواباً، ولا يكلمهم إذا كلموه، فكيف يتهمون أنه إلهه وهو عاجز عن المكالمة، و (أن) مخففة ويرجع بالرفع في قراءة العامة، وقرئ بالنصب وفيه ضعف، والرؤية على الأول علمية، وعلى الثاني بصرية.
(ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً) أي لا يقدر على أن يدفع عنهم ضراً، ولا أن يجلب إليهم نفعاً.
(ولقد قال لهم هارون) اللام هي الموطئة للقسم، وجملة مؤكدة لما تضمنته الجملة التي قبلها من الإنكار عليهم والتوبيخ لهم، أي والله لقد نصح لهم هارون (من قبل) أي من قبل أن يأتي موسى ويرجع إليهم (يا قوم إنما فتنتم به) أي وقعتم في الفتنة بسبب العجل وابتليتم به وضللتم عن طريق
267
الحق لأجله. قيل ومعنى القصر المستفاد من إنما هو أن العجل صار سبباً لفتنتهم لا لرشادهم، وليس معناه أنهم فتنوا بالعجل لا بغيره.
(وإن ربكم الرحمن) لا العجل؛ خص هذا الموضع باسم الرحمن تنبيهاً على أنهم متى تابوا قبل الله توبتهم لأنه هو الرحمن ومن رحمته أن خلصهم من آفات فرعون (فاتبعوني) في أمري لكم بعبادة الله، ولا تتبعوا السامري في أمره لكم بعبادة العجل.
(وأطيعوا أمري) لا أمره
268
(قالوا لن نبرح عليه عاكفين) أجابوا هارون عن قوله المتقدم بهذا الجواب المتضمن لعصيانه وعدم قبول ما دعاهم إليه من الخير، وحذرهم عنه من الشر؛ أي لن نزال مقيمين على عبادة هذا العجل (حتى يرجع إلينا موسى) فينظر هل يقرنا على عبادته أو ينهانا عنها؛ فجعلوا هذا غاية لعكوفهم لكن لا على طريق الوعد بل بطريق التعلل والتسويف فعند ذلك اعتزلهم هارون في اثنى عشر ألفاً من المنكرين لما فعله السامري.
أخرج الحاكم وصححه عن عليّ قال: لما تعجل موسى إلى ربه عمد السامري فجمع ما قدر عليه من حلى بني إسرائيل فضربه عجلاً، ثم ألقى القبضة في جوفه فإذا هو عجل جسد له خوار، فقال لهم السامري: هذا إلهكم وإله موسى، فقال لهم هارون: يا قوم الم يعدكم ربكم وعداً حسناً؟ فلما أن رجع موسى أخذ برأس أخيه فقال له هارون مما قال، فقال موسى للسامري ما خطبك؟ قال قبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها، وكذلك سوَّلت لي نفسي، فعمد موسى إلى العجل فوضع موسى عليه المبارد فبرده بها وهو على شط نهر، فما شرب أحد من ذلك الماء ممن كان يعبد ذلك العجل إلا اصفر وجهه مثل الذهب، فقالوا لموسى ما توبتنا؟ قال يقتل بعضكم بعضاً، فأخذوا السكاكين فجعل الرجل يقتل أخاه وأباه وابنه ولا يبالي بمن قتل حتى
268
قتل منهم سبعون ألفاً، فأوحى الله إلى موسى: مرهم فليرفعوا أيديهم فقد غفرت لمن قتل وتبت على من بقي، والحكايات لهذه القصة كثيرة جداً.
269
(قال يا هارون ما منعك) جملة مستأنفة، والمعنى أن موسى لما وصل إليهم أخذ بشعور رأس أخيه هارون وبلحيته، وقال ما منعك من اتباعي واللحوق بي عند أن وقعوا في هذه الضلالة ودخلوا في الفتنة؟.
وقيل المعنى ما منعك من اتباعي في الإنكار عليهم؟ وقيل معناه هلا قاتلتهم إذ قد علمت أني لو كنت بينهم لقاتلتهم؟ وقيل معناه هلا فارقتهم؟.
(إذ رأيتهم ضلوا
ألا تتبعن؟) أي أيُّ شيء منعك حين رؤيتك لضلالهم من اتباعي، ومن أن تلحقني وتأتيني في الجبل فتخبرني بما فعلوا، وهذه الياء من ياءات الزوائد فحقها أن تحذف في الرسم كما هي كذلك في مصحف الامام ولا زائدة للتوكيد.
(أفعصيت) الهمزة للإنكار والتوبيخ، والمعنى كيف خالفت (أمري) لك بالقيام لله ومنابذة من خالف دينه، وأقمت بين هؤلاء الذين اتخذوا العجل إلهاً؟ وقيل: المراد بقوله: (أمري) هو قوله الذي حكى الله عنه. وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين، فلما أقام معهم ولم يبالغ في الإنكار عليهم نسبه إلى عصيانه ومخالفة أمره، وبه قال ابن جرير والقرطبي.
(قال) هارون (يا ابن أم) بفتح الميم وبكسرها، وعلى كل من القراءتين أراد أمي لكن على الأولى حذفت الألف المنقلبة عن الياء اكتفاء عنها بالفتحة، وعلى الثانية حذفت الياء اكتفاء عنها بالكسرة، ونسبه إلى الأم مع كونه أخاه لأبيه وأمه عند الجمهور استعطافاً له وترقيقاً لقلبه؛ فليس ذكرها لكونه أخاه من أمه فقط كما قيل، فإن الحق إنه كان شقيقه.
269
(لا تأخذ بلحيتي) وكان أخذها بشماله (ولا برأسي) وكان أخذ شعره بيمينه غضباً، والمعنى ولا بشعر رأسي وكان قد أخذ بذؤابتيه، أي لا تفعل هذا بي عقوبة منك لي فإن لي عذراً هو (إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل) أي خشيت إن خرجت عنهم وتركتهم أن يتفرقوا فتقول لي إنك فرقت جماعتهم وتغضب عليّ، وذلك لأن هارون لو خرج لتبعه جماعة ممن لم يعبد العجل وتخلف مع السامري عند العجل آخرون، وربما أفضى ذلك إلى القتال بينهم.
(ولم ترقب قولي) أي تقول لم تعمل بوصيتي لك فيهم وتحفظها، ومراده بوصية موسى له قوله هو: اخلفني في قومي وأصلح. قال أبو عبيدة: معناه ولم تنتظر عهدي وقدومي لأنك أمرتني أن أكون معهم. وقال ابن جريج: لم تنتظر قولي ما أنا صانع.
وقال ابن عباس: لم تحفظ قومي، والياء في (قولي) وواقعة على موسى، وقيل واقعة على هارون، لَكِنْ المفسرون على الاحتمال الأول كالسمين والبيضاوي والخازن والخطيب فكلهم اقتصروا على ذلك.
والمعنى على الثاني وخشيت عدم تأملك في القول حتى تفهم عذري، فاعتذر هارون إلى موسى هاهنا بهذا، واعتذر إليه في الأعراف بما حكاه الله عنه هنالك حيث قال: إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني.
ثم ترك موسى الكلام مع أخيه وخاطب السامري
270
(قال فما خطبك) أي ما شأنك الداعي؟ وما الذي حملك على ما صنعت (يا سامري،
قال بصرت بما لم يبصروا به) أي رأيت ما لم يروا وعلمت بما لم يعلموا وفطنت لما لم يفطنوا له وأراد بذلك أنه رأى جبريل على فرس الحياة فألقى في ذهنه أن يقبض قبضة من أثره، وأن ذلك الأثر لا يقع على جماد إلا صار حياً.
270
وقرئ لم تبصروا بالفوقية على الخطاب وبالتحتية وهي أولى لأنه يبعد كل البعد أن يخاطب موسى بذلك ويدير لنفسه أنه علم ما لم يعلم به موسى يقال بَصر بالشيء أي علمه وأبصره أي نظر إليه. كذا قال الزجاج، وقيل هما بمعنى علمه والعامة على ضم الصاد، وقرئ بالكسر وهي لغة.
(فقبضت قبضة) بالضاد المعجمة فيهما، وقرئ بالصاد المهملة فيهما، والفرق بينهما أن ما بالمعجمة هو الأخذ بجميع الكف، وما بالمهملة بأطراف الأصابع والقبضة بضم القاف القدر المقبوض.
قال الجوهري: هي ما قبضت عليه من شيء. قال وربما جاء بالفتح وقد قرئ قبضة بضم القاف وفتحها ومعنى الفتح المرة من القبض ثم أطلقت على المقبوض وهو معنى القبضة بضم القاف.
(من أثر الرسول) أي من المحل الذي وقع عليه حافر فرس جبريل أي الملك الذي أرسل إليك ليذهب بك إلى الطور للمناجاة وأخذ التوراة ولعل ذكره بعنوان الرسالة للإشعار بوقوفه على ما لم يقف عليه القوم، وللتنبيه على وقت أخذ القبضة.
(فنبذتها) أي فطرحتها في الحلى المذابة المسبوكة على صورة العجل فَخَارَ (وكذلك) أي ومثل ذلك التسويل (سوّلت) أي زينت (لي نفسي) قاله الأخفش، وقيل حدثتني نفسي أن أفعله ففعلته اتباعاً لهواي، وهو اعتراف بالخطأ واعتذار فلما سمع موسى منه ذلك.
271
قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (٩٧) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (٩٨) كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (٩٩) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (١٠٠) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (١٠١) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (١٠٢)
272
(قال فاذهب) من بيننا (فإن لك في الحياة) أي ما دمت حياً وما عشت (أن تقول) لمن رأيته (لا مساس) أي لا تقربني وهو مأخوذ من المماسة أي لا يَمَسُّك أحد ولا تَمَسُّ أحداً، لكن لا بحسب الاختيار منك بل بموجب الاضطرار الملجئ إلى ذلك، لأن الله سبحانه أمر موسى أن ينفي السامري عن قومه وأمر بني إسرائيل أن لا يخالطوه ولا يقربوه ولا يكلموه عقوبة له ولا شيء أوحش منها ولا أعظم في الدنيا.
ويقال إن قومه باقية فيهم تلك الحالة إلى اليوم، قيل إنه لما قال له موسى ذلك هرب فجعل يهيم في البرية مع السباع والوحش ولا يجد أحداً من الناس يمسه حتى صار كمن يقول لا مساس لبعده عن الناس وبعد الناس عنه، قال الجوهري في الصحاح، وأما قول العرب: لا مساس مثل قطام فإنما بني على الكسر لأنه معدول عن المصدر وهو المس إهـ.
ولا مساس مصدر ماس (١) كقتال من قاتل فهو يقتضي المشاركة وهو مبني مع لا الجنسية؛ والمراد به النهي أي لا تمسني ولا أمسك وحاصل ما قيل في معنى لا مساس ثلاثة أوجه.
_________
(١) وأصلها قبل الإدغام: ماسس.
272
الأول: أنه حرم عليه مماسة الناس وكان إذا مسه أحد حم الماس والممسوس فلذلك كان يصيح إذا رأى أحداً: لا مساس.
والثاني: أن المراد منع الناس من مخالطته، واعترض بأن الرجل إذا صار مهجوراً فلا يقول هو لا مساس، وإنما يقال له ذلك وأجيب بأن المراد الحكاية أي أجعلك يا سامري بحيث إذا أخبرت عن حالك قلت لا مساس.
الثالث: أن المراد انقطاع نسله وأن يخبر بأنه لا يتمكن من مماسة المرأة قاله أبو مسلم وهو ضعيف جداً ويقال: إن موسى هم بقتل السامري، فقال الله تعالى لا تقتله فإنه سخي نقله القرطبي؛ وهذه الآية أصل في نفي أهل البدع والمعاصي وهجرانهم وأن لا يخالطوا قاله الكرخي، ثم ذكر حاله في الآخرة فقال:
(وإن لك موعداً لن تخلفه) بفتح اللام وبالفوقية مبنياً للمفعول أي لن يخلفك الله ذلك الموعد وهو يوم القيامة والموعد مصدر أي إن لك وعداً لعذابك وهو كائن لا محالة، قال الزجاج: أي يكافئك الله على ما فعلت في القيامة والله لا يخلف الميعاد، وقرئ لن تخلفه بكسر اللام وله معنيان أحدهما ستأتيه ولن تغيب عنه ولا مذهب لك عنه ولن تجده مخلفاً، كما تقول أحمدته أي وجدته محموداً، والثاني على التهديد أي لا بد لك أن تصير إليه، ولن يخلف الله موعده الذي وعدك بل توافيه وسيصل إليك، ولن تستطيع الروغان ولا الحيدة عنه، وقرئ لن نخلفه بالنون أي لن يخلفه الله.
(وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفاً) أصله ظللت، وقرئ بكسر الظاء أي دمت وأقمت على عبادته، قاله ابن عباس والعاكف الملازم.
(لنحرقنه) بالنار قرئ بضم النون وتشديد الراء من حرقه يحرقه وقرئ بتخفيف الراء من أحرقه يحرقه، ومن حرقت الشيء أحرقه حرقاً، إذا بردته وحككت بعضه ببعض أي لنبردنه بالمبارد، ويقال للمبرد المحرق والقراءة الأولى أولى، ومعناها الإحراق بالنار، وكذلك معنى الثانية، وقد جمع بين هذه
273
الثلاث القراءات بأنه أحرق؛ ثم برد بالمبرد، وفي قراءة ابن مسعود لنذبحنه ثم لنحرقنه واللام هي الموطئة للقسم.
(ثم لننسفنه في اليم نسفاً) قال ابن عباس. أي لنذرينه في هواء البحر بحيث لا يبقى منه عين ولا أثر، والمقصود من ذلك زيادة عقوبته وإظهار غباوة المفتنين به لمن له أدنى نظر، والنسف نقض الشيء لتذهب به الريح، وقرئ بضم السين وبكسرها وهما لغتان، والمِنْسَف ما ينسف به الطعام وهو شيء منصوب الصدر أعلاه مرتفع والنسافة ما يسقط منه، والنسف التفرقة والتذرية، وقيل قلع الشيء من أصله، واليم البحر قاله ابن عباس، وقال عليّ: النهر.
274
(إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو) لا هذا العجل الذي فتنكم به السامري استئناف مسوق لتحقيق الحق إثر إبطال الباطل (وسع كل شيء علماً) أي وسع علمه كل شيء، وقرئ وسع مشددة، قال قتادة: وسع ملأ، وهذا آخر قصة موسى في هذه السورة المبتدأة بقوله: (وهل أتاك حديث موسى) الخ.
(كذلك) كلام مستأنف خوطب به النبي ﷺ تسلية له وتبصرة بأحوال من تقدم وتكثيراً لمعجزاته وتذكيراً للمستبصرين من أمته؛ أي كما قصصنا عليك خبر موسى:
(نقص عليك من أنباء ما قد سبق) أي من أخبار الحوادث الماضية في الأمم الخالية لتكون تسلية لك، ودلالة على صدقك ومن للتبعيض أي بعض أخبار ذلك.
(وقد آتيناك من لدنا ذكراً) منطوياً ومشتملاً على هذه القصص والأخبار والمراد بالذكر القرآن قاله ابن زيد، وسمي ذكراً لما فيه من الموجبات للتذكر والاعتبار، وقيل المراد بالذكر الشرف كقوله: (وإنه لذكر لك ولقومك) ثم توعد سبحانه المعرضين عن هذا الذكر فقال:
(من أعرض عنه) فلم يؤمن به ولا عمل بما فيه، وقيل عن الله سبحانه (فإنه) أي المعرض عنه (يحمل يوم القيامة وزراً) أي إثماً عظيماً وعقوبة ثقيلة بسبب إعراضه
(خالدين فيه) أي في عذاب الوزر، والمعنى أنهم مقيمون في جزائه فأقيم السبب مقام المسبب (وساء لهم) اللام للبيان كما في هيت لك (يوم القيامة حملاً) أي بئس الحمل، والمخصوص بالذم محذوف أي ساء لهم حملاً وزرهم.
(يوم) أي اذكر يوم (ينفخ) قرئ بضم التحتية وبالنون مبنياً للفاعل، وبفتح الياء على أن الفاعل هو الله أو إسرافيل (في الصور) بسكون الواو، وقرئ بفتحها جمع صورة، والأول أولى وهو قرن ينفخ فيه يدعى به الناس للمحشر، والمراد بهذه النفخة الثانية لأنه أتبعه بقوله: (ونحشر المجرمين) المراد بهم المشركون والكافرون والعصاة المأخوذون بذنوبهم التي لم يغفرها الله لهم.
والمراد بقوله: (يومئذ) يوم النفخ في الصور (زرقاً) أي زرق العيون مع سواد الوجوه، والزرقة الخضرة في العين كعين السنور، والعرب تتشاءم بزرقة العين لأن الروم كانوا أعدى أعدائهم وهم زرق؛ والزراقة أسوأ ألوان العين، وأبغضها إلى العرب ولذلك قالوا في صفة العدو: أسود الكبد أصهب السبال أزرق العين.
وقال الفراء: زرقاً أي عمياً، وقال الأزهري: عطاشاً، وهو قول الزجاج لأن سواد العين يتغير بالعطش إلى الزرقة، وقيل: إنه كناية عن الطمع الكاذب إذا تعقبته الخيبة، وقيل هو كناية عن شخوص البصر من شدة الحرص، والقول الأول أولى، والجمع بين هذه الآية وبين قوله: ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً ما قيل من أن ليوم القيامة حالات ومواطن تختلف فيها صفاتهم ويتنوع عندها عذابهم، قال ابن عباس: فيه حالات يكونون في حال زرقاً، وفي حال عمياً.
275
يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (١٠٣) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (١٠٤) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (١٠٥) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (١٠٦) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (١٠٧) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (١٠٨) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (١٠٩)
276
(يتخافتون بينهم) أي يتشاورون قاله ابن عباس، وقيل يتسارون جملة حالية أو مستأنفة لبيان ما هم فيه في ذلك اليوم، والخَفْتُ في اللغة السكون والمخافتة والتخافت والخفت بوزن السبت إسرار المنطق ثم قيل لمن خفض صوته خفته، والمعنى يخفضون أصواتهم ويخفونها ويقول بعضهم لبعض سراً لما لحقهم من هول ذلك اليوم ورعبه.
(إن) أي ما (لبثتم) في الدنيا أو في القبور، أو ما بين النفختين وهو مقدار أربعين سنة (إلا عشراً) من الليالي بأيامها لأن الشهور غررها بالليالي فتكون الأيام داخلة فيها تبعاً، قاله في الكشاف، والمعنى أنهم يستقصرون ويستقلون مدة مقامهم ولبثهم في الدنيا جداً، وقيل: المراد بالعشر عشر ساعات، ثم لما قالوا هذا قال الله سبحانه
(نحن أعلم بما يقولون) فيما بينهم.
(إذ يقول أمثلهم طريقة) أي أعدلهم قولاً وأكملهم رأياً وأعلمهم عند نفسه وقال سعيد بن جبير أوفاهم عقلا (إن لبثتم إلا يوماً) واحداً ونسبة هذا القول إلى أمثلهم لكونه أدل على شدة الهول لا لكونه أقرب إلى الصدق.
(ويسألونك عن) حال (الجبال) قال ابن جريج: قالت قريش كيف يفعل ربك بهذه الجبال يوم القيامة أي على سبيل الاستهزاء فأمره الله سبحانه أن يجيب عنهم فقال (فقل) الفاء لجواب شرط محذوف، والتقدير.
276
إن سألوك فقل، أو للمسارعة إلى إلزام السائلين (ينسفها ربي نسفاً).
قال ابن الأعرابي وغيره: يقلعها قلعاً من أصولها ثم يصيرها رملاً تسيل سيلاً ثم يصيرها كالصوف المنفوش تطيرها الرياح هكذا وهكذا، ثم كالهباء المنثور، يقال: نَسَفَت الريح التراب نسفاً من باب ضرب اقتلعته وفرقته واسم الآلة مِنْسَف بكسر الميم.
277
(فيذرها) أي يترك الجبال باعتبار مواضعها أي فيذر مواضعها وأجزاءها السافلة الباقية بعد النسف وهي مقارُّها ومراكزُها، أي فيذر ما انبسط منها، وساوى مُسَطَّحُه مُسَطَّحَ أجزاء الأرض بعد نسف ما كان عليها من الجبال الشواهق، أو الضمير للأرض المدلول عليها بقرينة الحال أنها الباقية بعد نسف الجبال (قاعاً صفصفاً) قال ابن الأعرابي: هو الأرض الملساء بلا نبات ولا بناء وقال الفراء: القاع مستنقع الماء، والصفصف القرعاء الملساء التي لا نبات فيها، كأن أجزاءها صف واحد من كل جهة فـ (صفصفاً) قريب في المعنى من (قاعاً) فهو كالتأكيد له.
قال الجوهري: القاع المستوي الصلب من الأرض والجمع أَقْوُع وَأَقْوَاع وقيعان، والظاهر -من لغة العرب- أن القاع الموضع المنكشف، والصفصف الستوى الأملس.
(لا ترى فيها) الضمير راجع إلى الجبال بذلك الاعتبار، أو إلى الأرض على ما مر (عوجاً) أي انخفاضاً وهو بكسر العين التَّعَوُّج. قاله ابن الأعرابي (ولا أمتاً) هو التلال الصغار، والَأمْت في اللغة المكان المرتفع، وقيل العِوج اليل والأمت الأثر مثل الشراك، وقيل العوج الوادي والأمت الرابية، وقيل الأمت النتوء اليسير، يقال مد حبله حتى ما فيه أَمْت، وقيل هما الانخفاض والارتفاع. وقيل العوج الصدوع والأمت الأكمة، وقيل الأمت الشقوق في الأرض. وقيل الآكام.
وقيل الأمت أن تغلظ في مكان، وتدق في مكان، ووصف مواضع الجبال
277
بالعوج بكسر العين هاهنا يدفع ما يقال إن العوج بكسر العين في المعاني وبفتحها في الأعيان والمحسوسات؛ إلا أن يقال عبر فيه بمكسور العين لكونه لشدة خفائه، كأنه صار من قبيل المعاني؛ أي لا تدركه فيها، ولو تأملته بالمقاييس الهندسية. قاله أبو السعود.
وقد تكلف لذلك صاحب الكشاف في هذا الموضع بما عنه غِنىً وفي غيره سعة. وعن ابن عباس قال: هي الأرض الملساء التي ليس فيها رابية مرتفعة ولا انخفاض. قال البيضاوي: هي ثلاثة أحوال مترتبة فالأولان باعتبار الإحساس والثالث باعتبار المقياس، ولذلك ذكر العوج وهو يخص المعاني.
278
(يومئذ) أي يوم نسف الجبال (يتبعون الداعي) أي يتبع الناس داعي الله إلى المحشر فيقبلون من كل أوب إلى صوبه. قال الفراء: يعني بالداعي صوت الحشر، وقيل هو إسرافيل إذا نفخ في الصور، والراجح أن الداعي جبريل والنافخ إسرافيل تأمل.
(لا عوج له) أي مَعْدِل لهم عن دعائه فلا يقدرون على أن يزيغوا عنه وينحرفوا منه بل يسرعون إليه، كذا قال أكثر المفسرين، وقيل لا عوج لدعائه ولا يزيغون عنه يميناً ولا شمالاً، بل يتبعونه ويأتونه سراعاً ولا يميلون إلى ناس دون ناس، وقيل لا عوج لذلك الاتباع، والأول أظهر.
وعن محمد بن كعب القرظي قال: يحشر الناس يوم القيامة في ظلمة تطوى السماء وتتناثر النجوم وتذهب الشمس والقمر؛ وينادي مناد فيتبع الناس الصوت يَؤُمّونه، فذلك قول الله يومئذ (يتبعون الداعي لا عوج له).
وعن أبي صالح في الآية قيل: يضع إسرافيل الصور في فيه ويقف على صخرة بيت المقدس وينادي: أيتها العظام البالية والجلود المتمزقة واللحوم المتفرقة والأوصال المتقطعة، هلمي إلى عرض الرحمن فإن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء، فيقبلون من كل أوب إلى صوبه لا يعدلون عنه ويستوون إليه من غير انحراف، متبعين لصوته.
278
(وخشعت الأصوات للرحمن) أي خفضت لهيبته وجلاله؛ وقيل ضعفت لعظمته، وقيل ذلت من شدة الفزع، وقيل سكنت، قاله ابن عباس، والمراد أصحاب الأصوات.
(فلا تسمع إلا همساً) هو الصوت الخفي، قاله ابن عباس ومجاهد. وقال أكثر المفسرين: هو صوت نقل الأقدام إلى المحشر ووطئها، ومنه همست الإبل إذا سمع ذلك من وقع أخفافها على الأرض. وعن الضحاك وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن مثله، وعن سعيد أيضاً قال: سر الحديث والظاهر أن المراد هنا كل صوت خفي، سواء كان بالقدم أو من الفم بتحريك الشفاه أو غير ذلك، ويؤيده قراءة أبي: فلا ينطقون إلا همساً وهو مصدر همست الكلام، من باب ضرب إذا أخفيته والاستثناء مفرغ. وقال الزمخشري: الهمس الذكر الخفي ومنه الحروف المهموسة.
279
(يومئذ) أي يوم يقع ما ذكرنا (لا تنفع الشفاعة) من شافع كائناً من كان (إلا) شفاعة (من أذن له الرحمن) في أن يشفع لغيره، وبه بدأ القاضي كالكشاف لما فيه من تعظيم الشافع، واللام للتعليل، أي لأجله.
(ورضي له قولاً) أي رضي قوله في الشفاعة، أو رضي لأجله قول الشافع، والمعنى إنما تنفع الشفاعة لمن أذن له الرحمن في أن يشفع له وكان له قول يرضى، ومثل هذه الآية قوله: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى). وقوله (لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً). وقوله: (فما تنفعهم شفاعة الشافعين). وفيه دلالة على أنه لا يشفع أحد لأحد إلا لمن يأذن الله له فيها، فلا شفاعة إلا بإذن منه سبحانه، وهذا يدل على أنه لا يشفع لغير المؤمنين، وبه صرح البغوي؛ وهذه الآية من أقوى الدلائل على ثبوت الشفاعة في حق الفساق، لأن قوله ورضي له قولاً، يكفي في صدقه أن يكون الله تعالى قد رضي له قولاً واحداً من أقواله. والفاسق قد رضي الله من أقواله شهادة أن لا إله إلا الله فوجب أن تكون الشفاعة نافعة له بعد الإذن، لأن الاستثناء من النفي إثبات. والجملة تفسير لمن يؤذن في الشفاعة له.
279
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (١١٠) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (١١١) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (١١٢) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (١١٣)
وحاصل هذا التفسير أنه كل من قال في الدنيا لا إله إلا الله، أي كان مسلماً ومات على الإسلام وإن عمل السيئات
280
(يعلم ما بين أيديهم) من أمور الساعة والآخرة (وما خلفهم) من أمور الدنيا، والمراد جميع الخلق. وقيل المراد بهم الذين يتبعون الداعي. وقيل الضمير للشافعين، وقال ابن جرير: يرجع إلى الملائكة أعلم الله من يعبدها أنها لا تعلم ما بين أيديها وما خلفها، والعموم أولى (ولا يحيطون به علماً) أي بالله سبحانه لا تحيط علومهم بذاته ولا بصفاته ولا بمعلوماته.
وقيل الضمير راجع إلى ما في الموضعين، فإنهم لا يعلمونّ جميع ذلك
(وعنت الوجوه للحي القيوم) أي ذلت وخضعت. قاله ابن الأعرابي وعن ابن عباس وقتادة مثله. وقال مجاهد: خشعت. وقال أبو العالية: خضعت، وعن ابن عباس قال: وعنت الوجوه: الركوع والسجود، قال الزجاج: معنى عَنَتْ في اللغة خضعت، يقال عنا يعنو عنواً إذا خضع وذل وأعناه غيره؛ أي أذله، ومنه قيل للأسير عانٍ والجمع عناة؛ وقيل هو من العناء بمعنى التعب، وذكر الوجوه وأراد بها أصحابها، وخص الوجوه بالذكر لأن الخضوع بها يتبين وأول ما يظهر فيها؛ ثم قسمها إلى قسمين بقوله:
(وقد خاب من حمل ظلماً) أي خسر من حمل شيئاً من الظلم، وقيل هو الشرك، وبه قال ابن جريج وقتادة.
وقوله
(ومن يعمل من) الأعمال (الصالحات) الطاعات (وهو)
280
أي والحال أنه (مؤمن) بالله لأن العمل لا يقبل من غير إيمان، بل هو شرط في القبول (فلا يخاف) قرئ برفعه على النفي والاستئناف، أي فهو لا يخاف، وقرئ بجزمه على النهي (ظلماً) يصاب به من نقص ثواب في الآخرة (ولا هضماً) هو النقص والكسر، يقال هضمت لك من حقي أي حططته وتركته ونقصت منه، وهذا يهضم الطعام، أي ينقص ثقله، وامرأة هضيم الكشح أي ضامرة البطن. ومنه أيضاً طلعها هضيم أي دقيق متراكب كان بعضه يظلم بعضاً فينقصه حقه، ورجل هضيم ومهتضم أي مظلوم، وهضمته واهتضمته وتهضمته كله بمعنى، قيل الظلم والهضم متقاربان، وفرق القاضي الماوردي بينهما فقال: الظلم منع جميع الحق، والهضم منع بعضه.
قال قتادة: ظلماً أن يزاد في سيئاته ولا هضماً أن ينقص من حسناته، وقيل هضماً أي غضباً، وقيل لا يؤاخذ بذنب لم يعمله ولا تبطل عنه حسنة عملها
281
(وكذلك) أي مثل ذلك الإنزال.
(أنزلناه) أي القرآن كله حال كونه (قرآناً عربياً) أي بلغة العرب ليفهموه ويقفوا على ما فيه من النظم المعجز الدال على كونه خارجاً عن طوق البشر نازلاً من عند خالق القوى والقدر، وإضمار القرآن من غير سبق ذكره للإيذان بنباهة شأنه وكونه مركوزاً في العقول حاضراً في الأذهان (وصرفنا) أي وبينا (فيه) ضروباً (من الوعيد) تخويفاً وتهديداً وكررنا فيه بعضاً منه، والمراد الجنس ومن مزيدة على رأي الأخفش.
(لعلهم يتقون) أي كي يخافوا الله فيجتنبوا معاصيه ويحذروا عقابه (أو يحدث لهم ذكراً) أي اعتباراً واتعاظاً بهلاك من تقدمهم من الأمم فيعتبرون، وقيل ورعاً، وقيل شرفاً وقيل طاعة وعبادة لأن الذكر يطلق عليها، وأضيف الذكر إلى القرآن ولم تضف التقوى إليه، لأن التقوى عبارة عن أن لا يفعل القبيح وذلك استمرار على العدم الأصلي فلم يحسن إسناده إلى القرآن، وأما حدوث الذكر فأمر يحدث بعد أن لم يكن فجازت إضافته إليه. قاله الكرخي.
281
فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (١١٤) وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (١١٥) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (١١٦) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (١١٧) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (١١٨) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (١١٩) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (١٢٠)
282
(فتعالى الله الملك الحق) لما بين سبحانه للعباد عظيم نعمته عليهم بإنزال القرآن نزه نفسه عن مماثلة مخلوقاته في شيء من الأشياء، أي جل الله عن إلحاد الملحدين وعما يقول المشركون والمعطلون في صفاته، فإنه الملك الذي بيده الثواب والعقاب، نافذ أمره ونهيه وأنه الحق، أي ذو الحق في ملكوته وألوهيته أو الحقيق بأن يرجى وعده ويخشى وعيده، أو الثابت في ذاته وصفاته. وقيل إنما وصف نفسه باْلمَلِك الحق لأن ملكه لا يزول ولا يتغير وليس بمستفاد من قبل الغير ولا غيره أولى به منه.
(ولا تعجل بالقرآن) أي بقراءته (من قبل أن يقضى) أي يتم (إليك وحيه) أي يفرغ جبريل من إبلاغه. قال المفسرون: كان النبي ﷺ يبادر جبريل فيقرأ قبل أن يفرغ جبريل من الوحي حرصاً منه على ما ينزل عليه منه، فنهاه الله عن ذلك، ومثله قوله (لا تحرك به لسانك لتعجل به) على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
وقيل المعنى ولا تُلْقِه إلى الناس قيل أن يأتيك بيان تأويله، وقرئ نقضي بالنون. قال ابن عباس: لا تعجل حتى نبينه لك. وقال قتادة: لا تَتْلُه على أحد حتى نتمه لك.
282
وعن الحسن قال: لطم رجل امرأته فجاءت إلى النبي (- ﷺ -) تطلب قصاصاً فجعل للنبي ﷺ القصاص، فأنزل الله: (ولا تعجل بالقرآن)، الآية فوقف النبي ﷺ حتى نزلت: (الرجال قوامون على النساء)، الآية. أخرجه القربان وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(وقل رب زدني علماً) أي سَلْ في نفسك ربك زيادة العلم بكتابه وبمعانيه فإنه الموصل إلى مطلوبك دون الاستعجال فكلما أنزل عليه شيء منه زاد به علمه وما أمر الله رسوله ﷺ بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم، وفيه التواضع والشكر لله، والتنبيه على عظم موقع العلم وفضله، وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية قال: اللهم زدني علماً وإيماناً ويقيناً ذكره الخطيب وأقول. رب زدني علماً نافعاً وعملاً صالحاً وإيماناً كاملاً ويقيناً تاماً وعاقبة محمودة.
283
(ولقد عهدنا إلى آدم) اللام هي الموطئة للقسم، والجملة مستأنفة مقررة لما قبلها من تصريف الوعيد أي لقد أمرناه ووصيناه؛ والمعهود محذوف وهو ما سيأتي من نهيه عن الأكل من الشجرة (من قبل) أي من قبل هذا الزمان أو قبل أكله منها.
(فنسي) المراد بالنسيان هنا ترك العمل بما وقع به العهد إليه فيه، وبه قال أكثر المفسرين كما في قوله (إنا نسيناكم) أي تركناكم في العذاب فلا يشكل بوصفه بالعصيان غياً، وقيل النسيان على حقيقته وأنه نسى ما عهد الله به إليه وسها عنه وكان آدم مأخوذاً بالنسيان في ذلك الوقت، وإن كان النسيان مرفوعاً عن هذه الأمة، والمراد من الآية تسلية النبي ﷺ على القول الأول أي أن طاعة بني آدم للشيطان أمر قديم، وأن هؤلاء المعاصرين له إن نقضوا العهد فقد نقض أبوهم آدم، كذا قال ابن جرير والقشيري وما اعترضه ابن عطية قائلاً يكون آدم مماثلاً للكفار الجاحدين بالله، فليس
283
بشيء، وقرئ فَنُسِّيَ بضم النون وتشديد السين مكسورة أي فنساه إبليس. قال ابن عباس: إنما سمي الإنسان لأنه عهد إليه فنسي أي لقد عهدنا إلى آدم أن لا يقرب الشجرة فنسي فترك عهدي (ولم نجد) من الوجدان بمعنى العلم أو من الوجود ضد العدم (له عزماً) أي حزماً وصبراً عما نهيناه عنه أو حفظاً قاله ابن عباس، والعزم في اللغة توطين النفس على الفعل والتصميم عليه والمضي على المعتقد في أي شيء كان، وقد كان آدم عليه السلام قد وطن نفسه على أن لا يأكل من الشجرة وصمم على ذلك فلما وسوس إليه إبليس لانت عريكته وفتر عزمه وأدركه ضعف البشر، وقيل العزم: الصبر كما مر أي لم نجد له صبراً عن أكل الشجرة.
قال النحاس: وهو كذلك في اللغة يقال: لفلان عزم أو صبر وثبات على التحفظ عن المعاصي حتى يسلم منها، ومنه (كما صبر أولوا العزم من الرسل)، وقيل المعنى ولم نجد له عزماً على الذنب، وبه قال ابن كيسان، وقيل ولم نجد له رأياً معزوماً عليه، وبه قال ابن قتيبة.
ثم شرع سبحانه في كيفية ظهور نسيانه وفقدان عزمه فقال:
284
(وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) أي اذكر، وتعليق الذكر بالوقت مع أن المقصود ذكر ما فيه من الحوادث للمبالغة لأنه إذا وقع الأمر بذكر الوقت كان ذكر ما فيه من الحوادث لازماً بطريق الأولى كررت هذه القصة في سبع سور من القرآن لسر يعلمه الله وبعض خلقه.
(فسجدوا إلا إبليس) وهو أبو الجن كان يصحب الملائكة ويعبد الله معهم فالاستثناء منقطع، وقيل متصل، والأول أولى (أبى) أن يسجد لآدم وقال أنا خير منه
(فقلنا يا آدم إن هذا) يعني إبليس (عدو لك ولزوجك) أي حواء بالمد حيث لم يسجد لك ولم ير فضلك، وسبب العداوة ما رأى من آثار نعمة الله على آدم فحسده فصار عدواً له.
(فلا يخرجنكما من الجنة) أسند الخروج إليه وإن كان الله تعالى هو
284
المخرج لأنه لما كان يوسوسه وفعل آدم ما يترتب عليه الخروج صح ذلك (فتشقى) الشقاء الشدة والعسر ويمد ويقصر يقال: شقي كرَضي شقاوة، والمعنى فتتعب في تحصيل ما لا بد منه في المعاش وتنصب ويكونَ عيشك من كدِّ يمينك بعرق جبينك وهو الحرث والزرع والطحن والخبز ولم يقل فتشقياً لأن الكلام من أول القصة مع آدم وحده أو أن في ضمن شقاء الرجل شقاء أهله كما أن في سعادته سعادتهم لأنه القيم عليهم أو أريد بالشقاء التعب في طلب القوت وذلك على الرجل دون المرأة لأن الرجل هو الساعي على زوجته، ثم علل ما يوجبه ذلك النهي بما فيه الراحة الكاملة عن التعب والاهتمام فقال:
285
(إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى) المعنى أن لك فيها تمتعاً بأنواع المعاش وتنعماً بأصناف النعم من الآكل الشهية والملابس البهية، فإنه لا نُفي عنه الجوع والعري أفاد ثبوت الشبع والاكتساء له وهكذا قوله:
(وإنك لا تظمأ فيها ولا تضحى) فإن نفي الظمأ يستلزم حصول الرِّيِّ ووجود المسكن الذي يدفع عنه مشقة الضحو يقال: ضحى الرجل يضحي ضحواً إذا برز للشمس فأصابه حرها وعن ابن عباس قال: لا يصيبك فيها عطش ولا حر إذ ليس فيها شمس وأهلها في ظل ممدود فذكر سبحانه هاهنا أنه قد كفاه الاشتغال بأمر المعاش، وتعب الكد في تحصيله.
ولا ريب أن أصول المتاعب في الدنيا التي يدور عليها كفاية الإنسان هي تحصيل الشبع والري والكسوة والسكن وما عدا هذه ففضلات يمكن البقاء بدونها وهو إعلام من الله سبحانه لآدم أنه إن أطاعه فله في الجنة هذا كله وأن ضيع وصيته ولم يحفظ عهده أخرجه من الجنة إلى الدنيا فيحل به التعب والنصب بما يدفع به الجوع والعري والظمأ والضحو فالمراد على هذا بالشقاء المتقدم شقاء الدنيا كما قاله كثير من المفسرين لا شقاء الأخرى.
قال الفراء: هو أن يأكل من كد يديه، قال الصفوي: قابل سبحانه وتعالى بين الجوع والعري والظمأ والضحو؛ وإن كان الجوع يقابل العطش،
285
والعري يقابل الضحو، لأن الجوع ذل الباطن والعري ذل الظاهر، والظمأ حر الباطن والضحو حر الظاهر، فنفى عن ساكنها ذل الظاهر والباطن وحرهما، ذكره ابن لقيمة.
قال أبو السعود: وفصل الظمأ من الجوع مع تجانسهما وتقارنهما في الذكر عادة وكذا حال العري والضحو المتجانسين لتوقية مقام الامتنان حقه للإشارة إلى أن نفي كل واحد من تلك الأمور نعمة على حيالها ولو جمع بين الجوع والظمأ لربما توهم أن نفيهما نعمة واحدة وكذا الحال في الجمع بين العري والضحو ولزيادة التقرير بالتنبيه على أن نفي كل واحد من هذه الأمور مقصود بالذات مذكور بالأصالة لا أن نفي بعضها مذكور بطريق الاستطراد والتبعية لبعض آخر كما عسى يتوهم لو جمع كل من المتجانسين انتهى.
286
(فوسوس إليه الشيطان) قد تقدم تفسيره وما بعده في الأعراف في قوله: (فوسوس لهما الشيطان) أي ألقى إليه وسوسته، وأما وسوس له فمعناه وسوس لأجله وقال أبو البقاء: عدي بإلى لأنه بمعنى أسر، وعدي باللام في موضع آخر لكونه بمعنى ذكر له ويكون بمعنى لأجله.
(قال يا آدم) بيان لصورة الوسوسة (هل أدلك على شجرة الخلد) هي الشجرة التي من أكل منها لم يمت أصلاً وبقي مخلداً.
أخرج أحمد وعبد بن حميد وابن أبي حاتم، عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: " إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، وهي شجرة الخلد " (١) (وملك لا يبلى) أي تصرف يدوم ولا يزول ولا ينقضي ولا يبيد ولا يفنى وهو لازم الخلود.
_________
(١) أحمد بن حنبل ٢/ ٢٥٧ - ٤٠٤ - ٤١٨ - ٤٣٨ - ٤٥٢ - ٤٥٥ - ٣/ ١١٠ - ١٣٥ - ١٦٤ - ١٨٥ - ٢٠٧ - ٢٣٤ - مسلم ٢٨٢٦.
286
فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (١٢١) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (١٢٢) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (١٢٤) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (١٢٥) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (١٢٦)
287
(فأكلا) أي آدم وحواء (منها) أي من الشجرة (فبدت لهما سوءآتهما) يعني عَريَا من الثياب التي كانت عليهما بسبب تساقط حلل الجنة عنهما، لما أكلا من الشجرة حتى ظهر لكل واحد منهما قُبَله وقُبُل الآخر ودُبُرَه وسمي كلاًّ منهما سوأة لأن انكشافه يسوء صاحبه ويحزنه.
(وطفقا) طفق يفعل كذا مثل جعل يفعل وهو ككاد في وقوع الخبر فعلاً مضارعاً إلا أنه للشروع في أول الأمر وكاد للْمُدنو منه، قال الفراء: معنى طفقا في العربية أقبلا، وقيل أخذا وجعلا (يخصفان) يلصقان (عليهما) ويلزقان لأجل سوءآتهما أي يسترهما، فَعَلى تعليلية.
(من ورق الجنة) أي من ورق التين بعضه ببعض حتى يصير طويلاً عريضاً يصلح للاستتار به (وعصى آدم ربه) أي خالف نهيه بالأكل من الشجرة فالعصيان هو المخالفة لكنه خالف بتأويل لأنه اعتقد أن أحداً لا يحلف بالله كاذباً أو لأنه اعتقد أن النهي قد نسخ لما حلف له إبليس أو اعتقد أن النهي عن شجرة معينة وأن غيرها من بقية أفراد الجنس ليس منهياً عنه.
(فغوى) أي فضلّ عن الصواب أو عن مطلوبه وهو الخلود بالأكل
287
من تلك الشجرة أي حاد عنه ولم يظفر به هذا هو الحق في تقرير هذا المقام، وقيل فسد عليه عيشه بنزوله إلى الدنيا، وقيل جهل موضع رشده، وقيل بشم (١) من كثرة الأكل، قال ابن قتيبة: أكل آدم من الشجرة التي نهى عنها باستزلال إبليس وخدعه إياه، والقسم له بالله إنه له لمن الناصحين حتى دلاه بغرور، ولم يكن ذنبه عن اعتقاد متقدم ونية صحيحة، فنحن نقول عصى آدم ربه فغوى انتهى.
قال القاضي أبو بكر بن العربي: لا يجوز لأحد أن يخير اليوم بذلك عن آدم. قلت لا مانع من هذا بعد أن أخبرنا الله سبحانه في كتابه بأنه عصاه، وكما يقال: حسنات الأبرار سيئات المقربين، قال في المدارك: وفي التصريح بقوله: (وعصى آدم ربه فغوى) والعدول عن قوله: وزل آدم، مزجرة عظيمة وموعظة بليغة للمكلفين كافة كأنه قيل له انظروا واعتبروا كيف نعيت على النبي المعصوم زلته بهذه الغلظة فلا تتهاونوا بما يفرط منكم من الصغائر فضلاً عن الكبائر، ومما قال الشوكاني في هذا المعنى:
عصى أبو الْعَالَمَ وهو الذي... من طينة صوره الله
وأسْجَدَ الأملاك من أجله... وصير الجنة مأواه
أغواه إبليس فمن ذا أنا الـ... ـمسكينُ إنْ إبليسُ أغواه
وحديث محاجة آدم وموسى في الصحيحين عن أبي هريرة كما سيأتي، وفيه: أتلومني على أمر قدره الله عليَّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة، وقد أطال الرازي في بيان اختلاف الناس في عصمة الأنبياء في هذا المقام بما عنه غنى وفي تركه سعة وتبعه في ذلك الخازن في تفسيره فلا نطول الكلام بذكره.
_________
(١) البشم: التخمة يقال بشمت من الطعام بالكسر أهـ صحاح.
288
(ثم اجتباه ربه) أي اصطفاه وقربه واختاره بالحمل على التوبة
288
والتوفيق لها من جَبَى إليّ كذا فاجتبيته، وأصل الكلمة الجمع، قال ابن فورك: كانت المعصية هذه من آدم قبل النبوة بدليل ما في هذه الآية فإنه ذكر الاجتباء والهداية بعد أن ذكر المعصية وإذا كانت المعصية قبل النبوة فجائز عليهم الذنوب وجهاً واحداً (فتاب عليه) من معصيته وقبل توبته. (وهدى) أي هداه إلى الثبات والمداومة على التوبة، فلم ينقضها أو إلى الاعتذار والاستغفار، قيل وكانت توبة الله عليه قبل أن يتوب هو وحواء، بقولهما: (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين)، وقد مر وجه تخصيص آدم بالذكر دون حواء. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: " حاج آدم موسى، قال له: أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم بمعصيتك. قال آدم: يا موسى أنت الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه أتلومني على أمر كتبه الله عليّ قبل أن يخلقني، أو قدره عليّ قبل أن يخلقني؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فحج آدم موسى " (١)
_________
(١) مسلم ٢٦٥٢ - البخاري ١٦٠٤.
289
(قال اهبطا منها جميعاً) أي أنزلا بما اشتملتما من ذريتكما من الجنة إلى الأرض والخطاب وإن كان مثنى في اللفظ لكنه في المعنى للجمع ليحصل التوفيق بين هذه الآية وآية الأعراف، وهي قوله: قال اهبطوا، وبالجملة خصهما الله سبحانه بالهبوط لأنهما أصل البشر.
ثم عمم الخطاب لهما ولذريتهما فقال: (بعضكم) بعض الذرية (لبعض عدو) من أجل ظلم بعضهم بعضاً، والمعنى تَعَادِيهِم في أمر المعاش ونحوه فيحدث بسبب ذلك القتال والخصام.
(فإما يأتينكم مني هدى) بإرسال الرسل وإنزال الكتب (فمن اتبع هداي) أي الكتاب والرسول، وضع الظاهر موضع المضمر مع الإضافة إلى ضميره تعالى لتشريفه والمبالغة في إيجاب اتباعه (فلا يضل) في الدنيا (ولا يشقى) في الآخرة أخرج ابن أبي شيبة والطبراني وأبو نعيم في الحلية وابن
289
مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من اتبع كتاب الله هداه الله من الضلالة في الدنيا ووقاه سوء الحساب يوم القيامة، وذلك أن الله يقول: فمن اتبع. الآية (١) " وعن ابن عباس قال: أجار الله تابع القرآن من أن يضل في الدنيا أو يشقى في الآخرة ثم قرأ هذه الآية.
_________
(١) ضعيف الجامع الصغير ٥٣٣٥.
290
(ومن أعرض عن ذكري) أي الهدى الذاكر لي والداعي إليّ، أو عن ديني وتلاوة كتابي والعمل بما فيه، ولم يتبع هداي (فإن له معيشة ضنكاً) أي عيشاً ضيقاً في هذه الحياة الدنيا؛ يقال منزل ضنك وعيش ضنك أي ضيق، في القاموس الضنك الضيق في كل شيء، يقال ضَنُك ضَنْكاً وَضَنَاكة وضُنوكة ضاق. وهو مصدر يستوي فيه الواحد وما فوقه والمذكر والمؤنث، وقرئ بضم الضاد على فعلي. ومعنى الآية أن الله عز وجل جعل لمن اتبع هداه وتمسك بدينه أن يعيش في الدنيا عيشاً هنيئاً غير مهموم ولا مغموم ولا متعب نفسه، كما قال سبحانه (فلنحيينه حياة طيبة) وجعل لمن لم يتبع هداه وأعرض عن دينه أن يعيش عيشاً، ضيقاً، وفي تعب ونصب، ومع ما يصيبه في هذه الدنيا من المتاعب فهو في الآخرة أشد تعباً وأعظم ضيقاً وأكثر نصباً.
وعن أبي سعيد الخدري مرفوعاً معيشة ضنكاً، قال: عذاب القبر. أخرجه البيهقي والحاكم وصححه، ومسدد في مسنده، ولفظ عبد الرزاق: يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، ولفظ ابن أبي حاتم قال: ضمة القبر، وفي سنده ابن لهيعة، وفيه مقال معروف. وقال ابن كثير: الموقوف أصح.
وأخرج البزار وابن أبي حاتم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: " المعيشة الضنكى أن تسلط عليه تسع وتسعون حية ينهشون لحمه حتى تقوم الساعة " وعنه مرفوعاً قال: عذاب القبر. أخرجه البيهقي والبزار وابن المنذر وغيرهم. قال ابن كثير بعد إخراجه بإسناد جيد عن ابن
290
مسعود مثله موقوفاً، ومجموع ما ذكرنا هنا يرجح تفسير المعيشة الضنكى بعذاب القبر. وعنه قال: بالشقاء. وقيل هو الزقوم والضريع والغسلين في النار. وقيل هو الحرام والكسب الخبيث؛ والأول أولى.
وقال ابن جبير: يسلبه القناعة حتى لا يشبع، وقيل الحياة في المعصية وإن كان في رخاء ونعمة، قاله الرازي. أو المراد بها عيشة في جهنم، وبما تقرر علم أنه لا يرد أن يقال. نحن نرى المعرضين عن الإيمان في خصب معيشة.
(ونحشره) أي المعرض عن القرآن (يوم القيامة أعمى) أي مسلوب البصر، وهو كقوله: (ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً) قال النسفي: وهو الوجه، وقيل المراد العمى عن الحجة، وقيل أعمى عن جهات الخير لا يهتدي إلى شيء منها.
وقال عكرمة: عمي عليه كل شيء إلا جهنم. وفي لفظ: لا يبصر إلا النار
291
(قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً) في الدنيا وعند البعث
(قال كذلك) أي مثل ذلك فعلت أنت أو الأمر كذلك، ثم فسره بقوله: (أتتك آياتنا فنسيتها) أي أعرضت عنها وتركتها ولم تنظر فيها (وكذلك اليوم) أي مثل ذلك النسيان الذي كنت فعلته في الدنيا (تنسى) أي تترك في العمى أو النار وقيل نُسُوا من الخير والبركة والرحمة ولم يُنْسَوْا من العذاب في النار.
قال الفراء: يقال إنه يخرج بصيراً من قبره فيعمى في حشره
291
وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (١٢٧) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (١٢٨) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (١٣٠)
292
(وكذلك) أي مثل ذلك الجزاء (نجزي من أسرف) الإسراف الانهماك في الشهوات، وقيل الشرك بالله، قاله سفيان: (ولم يؤمن بآيات ربه) بل كذب بها (ولعذاب الآخرة أشد) أي أفظع من المعيشة الضنكى (وأبقى) أي أدوم وأثبت لأنه لا ينقطع.
(أفلم يهد لهم) الاستفهام للتقريع والتوبيخ وقرئ بالنون، والمعنى على هذا واضح والجملة مستأنفة لتقرير ما قبلها (كم أهلكنا قبلهم من القرون) قال القفال: جعل كثرة ما أهلك من القرون مبيناً لهم، قال النحاس: وهذا خطأ لأن كم استفهام فلا يعمل فيها ما قبلها.
وقال الزجاج: المعنى أفلم يهد لهم الأمر بإهلاكنا من أهلكناه، وحقيقته تدل على الهدى فالفاعل هو الهدى، وقيل الفاعل ضمير الله أو الرسول أو القرآن، والجملة بعده تفسره.
ومعنى الآية على ما هو الظاهر: أفلم يتبين لأهل مكة خبر من أهلكنا قبلهم من القرون حال كون تلك القرون (يمشون في مساكنهم) ويتقلبون في ديارهم فيعتبروا بهذا الإهلاك فيرجعوا عن تكذيب الرسول أو حال كون هؤلاء يمشون في مساكن القرون الذين أهلكناهم عند خروجهم للتجارة، وطلب العيشة إلى الشام وغيرها، فيرون بلاد الأمم الماضية والقرون الخالية خاوية
292
خاربة من أصحاب الحجر وثمود، وقرى قوم لوط فإن ذلك مما يوجب اعتبارهم لئلا يحل بهم مثل ما حل بأولئك.
(إن في ذلك لآيات) أي لعبراً (لأولي النُّهى) تعليل للإنكار وتقرير للهداية، والإشارة إلى مضمون كم أهلكنا، والنهى جمع نهية وهي العقل، أي بذوي العقول التي تنهى أربابها عن القبيح.
293
(ولولا كلمة سبقت من ربك) أي الكلمة السابقة وهي وعد الله سبحانه بتأخير عذاب هذه الأمة إلى الدار الآخرة (لكان) عقاب ذنوبهم (لزاماً) أي لازماً لهم في الدنيا لا ينفك عنهم بحال ولا يتأخر، كما لزم القرون الماضية واللزام مصدر لازم.
(وأجل مسمى) معطوف على قوله (كلمة) وهو يوم القيامة أو يوم بدر ويجوز عطفه على الضمير المستتر في (كان) العائد إلى الأخذ المفهوم من السياق أي لكان الأخذ العاجل، وأجل مسمى لازمين لهم، كما كانا لازمين لعاد وثمود وفيه تعسف ظاهر.
قال ابن عباس: هذا من مقاديم الكلام؛ يقول: لولا كلمة وأجل مسمى لكان لزاماً أي موتاً. وعن السدي نحوه، وعن مجاهد قال: الأجل المسمى الكلمة التي سبقت.
ثم لما بين الله سبحانه أنه لا يهلكهم بعذاب الاستئصال أمره بالصبر فقال
(فاصبر على ما يقولون) من أنك ساحر كذاب شاعر كاهن ونحو ذلك من مطاعنهم الباطلة، والمعنى لا تحتفل بهم فإن لعذابهم وقتاً مضروباً بألا يتقدم ولا يتأخر، وأنهم معذبون لا محالة فَتَسَلَّ واصبر. وقيل هذا منسوخ بآية القتال. وقيل إنها محكمة. قال الشهاب: الفاء سببية، والمراد بالصبر عدم الاضطراب لما صدر عنهم لا ترك القتال حتى تكون الآية منسوخة.
(وسبح بحمد ربك) أي متلبساً بحمده، قال أكثر المفسرين: والمراد الصلوات الخمس كما يفيده قوله: (قبل طلوع الشمس) فإنه إشارة إلى
293
صلاة الفجر (وقبل غروبها) فإنه إشارة إلى صلاة العصر. وفي صحيح مسلم وسنن أبي داود والنسائي عن عمارة بن رويبة سمعت رسول الله (- ﷺ -) يقول: " لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها " (١).
(ومن آناء الليل) العتمة والمراد بالآناء الساعات، وهي جمع إناء بالكسر والقصر وهو الساعة، ومعنى (فسبح) فصلّ المغرب والعشاء، والفاء إما عاطفة على مقدر، أو واقعة في جواب شرط مقدر أو زائدة. قال ابن عباس: وهي الصلاة المكتوبة.
وفي الصحيحين وغيرهما من حديث جرير قال: قال رسول الله (- ﷺ -) " إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا "، وقرأ هذه الآية (٢).
(وأطراف النهار) أي في طرفي نصفيه أي في الوقت الذي يجمع الطرفين وهو وقت الزوال فهو نهاية للنصف الأول وبداية للنصف الثاني، والمراد صلاة الظهر لأن الظهر في آخر طرف النهار الأول وأول طرف النهار الآخر. وقيل أن الإشارة إلى صلاة الظهر هي بقوله: (وقبل غروبها) لأنها هي وصلاة العصر قبل غروبها. وقيل المراد بالآية صلاة التطوع.
ولو قيل ليس في الآية إشارة إلى الصلاة بل المراد التسبيح في هذه الأوقات أي قول القائل سبحان الله لم يكن ذلك بعيداً من الصواب، والتسبيح وإن كان يطلق على الصلاة لكنه مجاز، والحقيقة أولى إلا لقرينة تصرف ذلك إلى المعنى المجازي، وجمع الأطراف وهما طرفان لأمن الالتباس.
(لعلك ترضى) أي سبح في هذه الأوقات رجاء أن تنال عند الله سبحانه ما ترضي به نفسك من الثواب، هذا على قراءة الجمهور، وقرئ تُرْضي بضم التاء أي يرضيك ربك وَتُعْطَى ما يرضيك.
_________
(١) مسلم ٦٣٤.
(٢) مسلم ٦٣٣ - البخاري ٣٥٨.
294
وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (١٣١) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (١٣٢) وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (١٣٣) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (١٣٤) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (١٣٥)
295
(ولا تمدن) أي لا تطل نظر (عينيك) بطريق الرغبة والميل (إلى ما متعنا به) أي لذذنا، فالإمتاع والتمتيع معناه الإيقاع في اللذة (أزواجاً منهم) مدّ النظر تطويله وأن لا يكاد يرده استحساناً للمنظور إليه وإعجاباً به، وفيه أن النظر غير الممدود معفو عنه، وذلك أن يبادر الشيء بالنظر ثم يغض الطرف، ولقد شدد المتقون في وجوب غض البصر عن أبنية الظلمة وعدد الفسقة في ملابسهم ومراكبهم، حتى قال الحسن: " لا تنظروا إلى دقدقة (١) هماليج (٢) الفسقة، ولكن انظروا كيف يلوح ذل المعصية من تلك الرقاب " وهذا لأنهم اتخذوا هذه الأشياء لعيون النظارة، فالناظر إليها محصل لغرضهم ومغر لهم على اتخاذها، وقد تقدم تفسير هذه الآية في الحجر.
(زهرة الحياة الدنيا) أي زينتها وبهجتها بالنبات وغيره، وقرئ زهرة بفتح الهاء وهي نور النبات، وذكر السمين في نصبه تسعة أوجه. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي سعيد أن رسول الله ((- ﷺ -)) قال: " إن أخوف ما أخاف عليك ما يفتح الله لكم من زهرة الدنيا "، قالوا: وما زهرة الدنيا يا رسول الله؛ قال: " بركات الأرض ".
_________
(١) الدقدقة حكاية أصوات حوافر الدواب مثل الطقطقة. إهـ صحاح.
(٢) الهملاج من البراذين واحد الهماليج ومشيها الهملجة فارسي معرب إهـ صحاح.
295
(لنفتنهم فيه) أي لنجعل ذلك فتنة لهم وضلالة ابتلاء منا لهم، كقوله: (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم). وقيل لنعذبهم في الآخرة، وقيل لنشدد عليهم في التكليف، وقيل أزيد لهم النعمة فيزيدوا بذلك كفراً وطغياناً (ورزق ربك) أي ثواب الله في الجنة وما ادخر لصالحي عباده في الآخرة (خير) مما رزقهم في الدنيا على كل حال، وأيضاً فإن ذلك لا ينقطع وهذا ينقطع وهو معنى (وأبقى) وقيل المراد بهذا الرزق ما يفتح الله على المؤمنين من الغنائم ونحوها، والأول أولى لأن الخيرية المحققة والدوام الذي لا ينقطع إنما يتحققان في الرزق الأخروي لا الدنيوي وإن كان حلالاً طيباً، قال تعالى: (ما عندكم ينفد وما عند الله باق).
عن أبي رافع قال: أضاف النبي " - ﷺ - " ضيفاً ولم يكن عند النبي ما يصلحه، فأرسلني إلى رجل من اليهود أن بعنا أو أسلفنا دقيقاً إلى هلال رجب، فقال: لا إلا بِرَهْن، فأتيت النبي " - ﷺ - " فأخبرته، فقال: " أما والله إني لأمين في السماء أَمين في الأرض، ولئن أسلفني أو باعني لأديت إليه، اذهب بدرعي الحديد، فلم أخرج من عنده حتى نزلت هذه الآية، كأنه يعزيه عن الدنيا. أخرجه البزار وأبو يعلى وابن أبي شيبة وغيرهم (١).
_________
(١) صحيح الجامع الصغير ١٣٤٩.
296
(وأْمر أهلك) المراد بهم أهل بيته، وقيل جميع أمته ولم يذكر هاهنا الأمر من الله له (بالصلاة) بل قصر الأمر على أهله إما لكون إقامته لها أمراِّ معلوماً أو لكون أمره بها قد تقدم في قوله: (وسبح بحمد ربك) الخ، أو لكون أمره بالأمر لأهله أمراً له؛ ولهذا قال: " واصطبر عليها " أي اصبر على محافظة الصلاة فإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر ولا تشتغل عنها بشيء من أمور الدنيا.
وقيل اصبر عليها فعلاً، فإن الوعظ بلسان الفعل أبلغ منه بلسان
296
القول. أخرج ابن النجار وابن عساكر وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت هذه الآية كان النبي ﷺ يجيء إلى باب عليّ صلاة الغداة ثمانية أشهر يقول: " الصلاة رحمكم الله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ".
وأخرج أحمد والبيهقي وغيرهما عن ثابت قال: كان النبي ﷺ إذا أصابت أهله خصاصة نادى أهله: " يا أهلاه صلوا صلوا " قال ثابت: وكانت الأنبياء إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة.
وعن عبد الله بن سلام، قال السيوطي: بسند صحيح قال: كان النبي ﷺ إذا نزلت بأهله شدة أو ضيق أمرهم بالصلاة، وقرأ (وأمر أهلك بالصلاة) الآية: وكان عروة بن الزبير إذا رأى ما عند السلاطين قرأ هذه الآية ثم ينادى الصلاة الصلاة رحمكم الله، وكان بكر بن عبد الله المزني إذا أصاب أهله خصاصة قال قوموا فصلوا، بهذا أمر الله رسوله، وعن مالك بن دينار مثله.
(لا نسألك رزقاً) أي لا نكلفك أن ترزق نفسك ولا أهلك وتشتغل بذلك عن الصلاة (نحن نرزقك) ونرزقهم (والعاقبة) المحمودة وهي الجنة (للتقوى) أي لأهل التقوى على حذف المضاف، كما قال الأخفش وفيه دليل على أن التقوى هي ملاك الأمر وعليها تدور دوائر الخير.
297
(وقالوا) أي قال كفار مكة (لولا) هلا (يأتينا) محمد ﷺ (بآية من) آيات (ربه) كما كان يأتي بها مَنْ قَبْله من الأنبياء؟ وذلك كالناقة والعصا أو المعنى هلا يأتينا بآية من الآيات التي قد اقترحناها عليه؟.
فأجاب الله سبحانه وتعالى عليهم بقوله: (أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى) يريد بها التوراة والإنجيل والزبور وسائر الكتب المنزلة وفيها التصريح بنبوته والتبشير به، وذلك يكفي، فإن هذه الكتب المنزلة هم
297
معترفون بصدقها وصحتها وفيها ما يدفع إنكارهم لنبوته ويبطل تعنتاتهم وتعسفاتهم، وقيل المعنى أو لم يأتهم إهلاكنا للأمم الذين كفروا واقترحوا الآيات فما يؤمنهم إن أتتهم الآيات التي اقترحوها أن يكون حالهم كحالهم.
وقيل: المراد أو لم تأتهم آية هي من الآيات وأعظمها في باب الإعجاز؟ يعني القرآن فإنه برهان لما في سائر الكتب المنزلة، قالوا: وعاطفة على مقدر يقتضيه المقام كأنه قيل ألم تأتهم سائر الآيات ولم تأتهم خاصة بينة ما في الصحف الأولى تقريراً لإتيانه وإيذاناً بأنه من الوضوح بحيث لا يأتي معه إنكار أصلاً.
قرئ أو لم يأتهم بالتحتية لأن معنى البينة البيان والبرهان.
298
(ولو أنا أهلكناهم) مستأنفة سيقت لتقرير ما قبلها (بعذاب من قبله) أي من قبل بعثة محمد ﷺ أو من قبل إتيان البينة بنزول القرآن (لقالوا) يوم القيامة أي لكان لهم أن يحتجوا ويتعللوا بقولهم:
(ربنا لولا) هلاًّ (أرسلت إلينا رسولاً) في الدنيا (فنتبع آياتك) اللاتي يأتي بها الرسول (من قبل أن نذل) بالعذاب والهوان في الدنيا (ونخزى) بدخول النار، وقرئ نُذَلّ وَنُخْزَى على البناء للمفعول وقد قطع الله معذرة هؤلاء الكفرة بإرسال الرسول إليهم قبل إهلاكهم، ولهذا حكى الله عنهم أنهم قالوا: (بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء).
(قل) لهم يا محمد (كلٌّ) أي كل واحد منا ومنكم (متربص) أي منتظر لما يؤول إليه الأمر (فتربصوا) أنتم (فستعلمون) عن قريب (من أصحاب الصراط السوي) أي الطريق المستقيم (ومن اهتدى) من الضلالة، ونزع عن الغواية، أنحن أم أنتم؟ قال النحاس والفراء: نذهب إلى أن معنى مَنْ أصحاب الصراط السوي من لم يضل، ومعنى: من اهتدى من ضل ثم اهتدى، ومن في الموضعين استفهامية أو موصولة.
298

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الأنبياء
(مكية. قال القرطبي في قول الجميع، وهي مائة وإحدى أو اثنتا عشرة آية)
وسميت بذلك لذكر قصص الأنبياء فيها وأخرج البخاري وغيره عن ابن مسعود قال بنو إسرائيل والكهف ومريم والأنبياء من العتاق الأول وهن من تلادى.
عن عامر بن ربيعة أنه نزل به رجل من العرب فأكرم عامر مثواه وكلم فيه رسول الله - ﷺ - فجاءه الرجل فقال: إني استقطعت رسول الله - ﷺ - وادياً ما في ديار العرب واد أفضل منه. وقد أردت أن أقطع إليك قطعة تكون لك ولعقبك من بعدك، فقال عامر: لا حاجة لي في قطعتك نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا يريد هذه السورة.
299

بسم الله الرحمن الرحيم

اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥)
301
Icon