تفسير سورة ص

تفسير القاسمي
تفسير سورة سورة ص من كتاب محاسن التأويل المعروف بـتفسير القاسمي .
لمؤلفه جمال الدين القاسمي . المتوفي سنة 1332 هـ
سورة ص مكية، وقيل : مدنية وضعّف، وآياتها ثمان وثمانون.

القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١)
ص بالسكون على الوقف. وقرئ بالكسر والفتح. اسم للسورة، على القول المتجه عندنا فيه وفي نظائره. لما قدمنا غير ما مرة. وقيل: قسم رمزي، وإليه نحا المهايميّ. قال: أقسم الله سبحانه وتعالى بصدق محمد صلّى الله عليه وسلّم الذي اعترف به الكل في غير دعوى النبوة، حتى صدقه أهل الكتابين في إخباره عن الغيوب، الدال على الصدق في دعوى النبوّة. أو بصفائه عن رذائل الأخلاق وقبائح الأفعال الدال على صفائه عن نقيصة الكذب. أو بصعوده في مدارج الكمالات، الدال على صعوده في مدارج القرب من الله- أو بصبره الكامل هو لوازم الرسالة على أنه رسوله. انتهى.
وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ أي الشرف الدال على حقيقته وصدقه. أو التذكير، كآية لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ [الأنبياء: ١٠]، والجواب محذوف لدلالة السياق عليه. أي إنه لحق. وقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ٢]
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢)
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ أي كبر وَشِقاقٍ أي عداوة للحق والإذعان له.
إضراب عما قبله. كأنه قيل: لا ريب فيه قطعا. وليس عدم إيمان الكفرة به لشائبة ريب ممّا فيه. بل هم في حميّة جاهلية وشقاق بعيد لله ولرسوله. ولذلك لا يذعنون له. وقيل: الجواب ما دل عليه الجملة الإضرابية. أي ما كفر به من كفر لخلل وجده فيه. بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ ثم أوعدهم على شقاقهم بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ٣]
كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (٣)
كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ أي لكبرهم عن الحق، ومعاداتهم لأهله فَنادَوْا أي فدعوا واستغاثوا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ أي وليس الحين حين فرار ومهرب ومنجاة. والكلام على (لات) وأصلها وعملها والوقف عليها، ووصل التاء بها أو فصلها عنها، مبسوط في مطولات العربية، وفي معظم التفاسير هنا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : الآيات ٤ الى ٥]
وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥)
وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ أي رسول مِنْهُمْ أي من أنفسهم. يعني النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ أي بليغ في العجب. وذلك لتمكن تقليد آبائهم في نفوسهم، ورسوخه في أعماق قلوبهم. ومضي قرون عديدة عليه، وإلفهم به وأنسهم له، حتى ران على قلوبهم، وغشي على أبصارهم، ونسي باب النظر والاستدلال. بل محي بالكلية من بينهم.
وصار عندهم من أبطل الباطل وأمحل المحال.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ٦]
وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦)
وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أي الأشراف من قريش يحضون بعضهم على التمسك بالوثنية، ويتواصون بالصبر على طغيانهم قائلين أَنِ امْشُوا أي في طريق آبائكم وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ أي عبادتها مهما سمعتم من تسفيه أحلامنا وتفنيد مزاعمنا إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ تعليل للأمر بالصبر. أي يراد منا إمضاؤه وتفنيده لا محالة. أي يريده محمد من غير صارف يلويه، ولا عاطف يثنيه، لا قول يقال من طرف اللسان.
أو المعنى: إن هذا الأمر لشيء من نوائب الدهر يراد منا. أي بنا. فلا انفكاك لنا عنه.
وما لنا إلا الاعتصام عليه بالصبر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ٧]
ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (٧)
ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ أي ما سمعنا بهذا التوحيد الذي ندعى إليه في ملة النصارى. لأنهم مثلثة غير موحدة. أو في ملة قريش التي أدركنا عليها آباءنا
إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ أي ما هذا التوحيد إلا فرية محضة، لا مستند له سوى هذا الذكر بزعمهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ٨]
أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨)
أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا أي مع أن فينا من هو أثرى وأعلى رئاسة. قال الزمخشريّ: أنكروا أن يختص بالشرف من بين أشرافهم ورؤسائهم، وينزل عليه الكتاب من بينهم كما قالوا: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: ٣١]، وهذا الإنكار ترجمة عما كانت تغلي به صدورهم من الحسد، على ما أوتي من شرف النبوة من بينهم بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي إضراب عن مقدّر. أي: إنكارهم للذكر ليس عن علم، بل هم في شك منه. يقولون في أنفسهم:
إمّا وإمّا بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ أي على الإنكار. فإذا ذاقوه زال عنهم ما بهم من الشك والحسد، وصدّقوا وتصديقهم لا ينفعهم حينئذ لأنهم صدقوا مضطرين.
قال الناصر في (الانتصاف) : ويؤخذ منه أن (لما) لائقة بالجواب. وإنما ينفى بها فعل يتوقع وجوده. كما يقول سيبويه. وفرق بينها وبين (لم) بأن (لم) نفي لفعل يتوقع وجوده لم يقبل مثبته (قد). و (لما) نفي لما يتوقع وجوده أدخل على مثبته (قد).
وقال: وإنما ذكرت ذلك لأني حديث عهد بالبحث في قوله عليه الصلاة والسلام: الشفعة فيما لم يقسم. فإني استدللت به على أن الشفعة خاصة بما يقبل القسمة. فقيل لي: إن غايته أنه أثبت الشفعة فيما نفى عنه القسمة. فإما لأنها لا تقبل قسمة. وإما أنها تقبل ولم تقع القسمة، فأبطلت ذلك بأن آلة النفي المذكورة (لم) ومقتضاها، قبول المحل الفعل المنفيّ وتوقع وجوده. ألا تراك تقول: الحجر لا يتكلم. ولو قلت: الحجر لم يتكلم. لكان ركيكا من القول، لإفهامه قبوله للكلام.
انتهى. وهو لطيف جيد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ٩]
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩)
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ أي حتى يتخيروا للنبوة ما تهوى أنفسهم. كلا وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ [القصص: ٦٨]، اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام: ١٢٤].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ١٠]
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠)
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ أي فليصعدوا في المراقي التي توصلهم إلى السماء، وليتحكموا بما شاءوا في الأمور الربانية والتدابير الإلهية.
روى ابن جرير بسنده عن الربيع بن أنس قال: الأسباب أدق من الشعر وأشدّ من الحديد. وهو بكل مكان. غير أنه لا يرى. انتهى.
وهذا البيان ينطبق على ما يعرّف به الأثير الموجود في أجزاء الخلاء المظنون أنها فارغة. فتأمل.
ثم قال ابن جرير: وأصل السبب عند العرب، كل ما تسبب به إلى الوصول إلى المطلوب من حبل أو وسيلة، أو رحم أو قرابة أو طريق أو محجة، وغير ذلك. انتهى.
وقال المهايميّ: أي فليصعدوا في الأسباب التي هي معارج الوصول إلى العرش، ليستووا عليه، فيدبروا العالم وينزلوا الوحي على من شاءوا. وأنّى لهم ذلك؟؟
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ١١]
جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (١١)
جُنْدٌ ما أي هم جند حقير هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ أي الذين كانوا يتحزبون على الأنبياء قبلك. وأولئك قد قهروا وأهلكوا. وكذا هؤلاء. فلا تبال بما يقولون ولا تكترث لما به يهذون. وهُنالِكَ إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل هذا القول، فهو مجاز. وجوز أن يكون حقيقة، للإشارة إلى مكان قولهم وهو مكة. قال قتادة: وعده الله وهو بمكة يومئذ، أنه سيهزم جندا من المشركين. فجاء تأويلها يوم بدر. وقال ابن كثير: هذه الآية كقوله جلت عظمته أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر: ٤٤- ٤٥].
وكان ذلك يوم بدر. وفي الآية أوجه من الإعراب أشار له السمين بقوله: جُنْدٌ يجوز فيه وجهان: أحدهما- وهو الظاهر- أنه خبر مبتدأ. أي هم جند. وما فيها وجهان، أحدهما- أنها مزيدة. والثاني أنها صفة ل (جند) على سبيل التعظيم، للهزء بهم، أو للتحقير. فإن (ما) إذا كانت صفة تستعمل لهذين المعنيين.
وهُنالِكَ يجوز فيه ثلاثة أوجه: أحدها- أن يكون خبرا ل (جند) و (ما) مزيدة ومَهْزُومٌ نعت ل (جند). الثاني- أن يكون صفة ل (جند). الثالث- أن يكون منصوبا ب (مهزوم). ومَهْزُومٌ يجوز فيه أيضا وجهان: أحدهما- أنه خبر ثان لذلك المبتدأ المقدر، والثاني أنه صفة ل (جند). وهُنالِكَ مشار به إلى موضع التقاول والمحاورة بالكلمات السابقة، وهو مكة. أي سيهزمون بمكة. وهو إخبار بالغيب. وقيل: مشار به إلى نصرة الإسلام. وقيل: إلى حفر الخندق، يعني إلى مكان ذلك. الثاني من الوجهين الأولين أن يكون (جند) مبتدأ و (ما) مزيدة وهُنالِكَ نعت ومَهْزُومٌ خبره. وفيه بعد، لتفلّته عن الكلام الذي قبله. انتهى.
فائدة:
روى ابن عباس في هذه الآية أنه لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل. فقالوا إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويفعل. ويقول ويقول. فلو بعثت إليه فنهيته! فبعث إليه. فجاء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فدخل البيت وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس رجل. قال فخشي أبو جهل لعنه الله. إن جلس إلى جنب أبي طالب، أن يكون أرق له عليه. فوثب فجلس في ذلك المجلس. ولم يجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم مجلسا قرب عمه. فجلس عند الباب، فقال له أبو طالب: أي ابن أخي! ما بال قومك يشكونك! يزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول. قال، وأكثروا عليه من القول.
وتكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا عم إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها. تدين لهم بها العرب. وتؤدي إليهم بها العجم الجزية. ففزعوا لكلمته ولقوله. فقال القوم:
كلمة واحدة؟ نعم، وأبيك عشرا. فقالوا: وما هي؟ وقال أبو طالب: وأي كلمة هي يا ابن أخي؟ قال صلّى الله عليه وسلم: لا إله إلا الله. فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم وهم يقولون:
أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ ونزلت الآية. رواه ابن جرير والإمام أحمد والنسائيّ، والترمذيّ
وحسّنه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ١٢]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ أي قبل قريش قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وهم قوم هود وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ أي الملك الثابت. وأصله البيت المطنّب، أي المربوطة أطنابه- أي حباله- بأوتاده. استعير للملك استعارة تصريحية. وصف به فرعون مبالغة بجعله عين ملكه. أو شبه فرعون في ثبات ملكه بذي بيت ثابت أقيم عموده وثبتت أوتاده. على
طريق الاستعارة المكنية. وأثبت له ما هو من خواصه تخييلا، وهو قوله: ذُو الْأَوْتادِ فإنه لازم له. أو هو كناية. حيث أطلق اللازم وأريد الملزوم وهو الملك الثابت. وقد جاء هذا في قول الأسود من شعراء الجاهلية:
ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة في ظل ملك ثابت الأوتاد
أو المعنى: ذو الجموع الكثيرة. سمّوا بذلك لأن بعضهم يشد بعضا، كالوتد يشد البناء. فالاستعارة تصريحية في الأوتاد. أو هو مجاز مرسل للزوم الأوتاد للجند.
أو هو على حقيقته والمراد المباني العظيمة والهياكل الثابتة الفخيمة. واللفظ صادق في الكل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ١٣]
وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣)
وَثَمُودُ وهم قوم صالح وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أي الغيضة، وهم قوم شعيب أُولئِكَ الْأَحْزابُ أي الكفار المتحزبون على رسلهم، الذين جعل الجند المهزوم منهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ١٤]
إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤)
إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ أي فوجبت عليهم عقوبتي. قال الشهاب: إِنْ نافية وكُلٌّ محذوف الخبر. والتفريغ من أعمّ العام. أي ما كل أحد مخبر عنه بشيء، إلا مخبر عنه بأنه كذب جميع الرسل، لأن الرسل يصدق كلّ منهم الكل. فتكذيب واحد منه تكذيب للكل. أو على أنه من مقابلة الجمع بالجمع. فيكون كل كذب رسوله. أو الحصر مبالغة. كأن سائر أوصافهم بالنظر إليه، بمنزلة العدم. فهم غالون فيه. انتهى.
وقال الزمخشريّ: وفي تكرير التكذيب وإيضاحه بعد إبهامه، والتنويع في تكريره بالجملة الخبرية أولا، والاستثنائية ثانيا. وما في الاستثنائية من الوضع على وجه التوكيد والتخصيص- أنواع من المبالغة المسجلة عليهم باستحقاق أشد العقاب وأبلغه.
وزاد الناصر فائدة أخرى للتكرير. وهي أن الكلام لما طال بتعديد آحاد
المكذبين، ثم أريد ذكر ما حاق بهم من العذاب جزاء لتكذيبهم، كرر ذلك مصحوبا بالزيادة المذكورة، ليلى قوله تعالى: فَحَقَّ عِقابِ على سبيل التطرية المعتادة عند طول الكلام. وهو كما قدمته في قوله: وَكُذِّبَ مُوسى [الحج: ٤٤]، حيث كرر الفعل ليقترن بقوله: فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ [الحج: ٤٤]. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ١٥]
وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (١٥)
وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ أي أهل مكة إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً أي أخذة واحدة بعذاب بئيس. يقال: صاح الزمان بهم، إذا هلكوا. كما قال:
صاح الزمان بآل برمك صيحة خرّوا لشدّتها على الأذقان
وأصله من الغارة إذا عافصت القوم فوقعت الصيحة فيهم ما لَها مِنْ فَواقٍ أي من توقف مقدار فواق. وهو ما بين الحلبتين. أو رجوع وترداد. فإنه فيه يرجع اللبن إلى الضرع ف (فواق) إما بحذف مضافين أو مجاز مرسل بذكر الملزوم وإرادة لازمه.
وقرئ بالضم. وهما لغتان. وقيل: المفتوح اسم مصدر من (أفاق المريض) إفاقة وفاقة، إذا رجع إلى الصحة. والمضموم اسم ساعة رجوع اللبن للضرع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ١٦]
وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦)
وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا أي نصيبنا من العذاب الذي وعدته. كقوله تعالى:
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ [الحج: ٤٧] و [العنكبوت: ٥٣ و ٥٤]، قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ أي الجزاء. وقولهم ذلك على سبيل الاستهزاء والسخرية. كما قص عنهم نظائره في عدة آيات.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ١٧]
اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧)
اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ أي فقد وعدت بالنصر والظفر والملك والتأييد، كما أوتي داود عليه السلام، مما سارت به الأمثال ولذا قال تعالى: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ أي: القوة. أي: الاجتهاد في أداء الأمانة والتشدد في القيام بالدعوة ومجانبة إظهار الضعف والوهن إِنَّهُ أَوَّابٌ أي رجّاع إليه تعالى بالإنابة والخشية والعبادة والصيام.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : الآيات ١٨ الى ١٩]
إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩)
إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ أي تبعا لتسبيحه بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً أي مجموعة عنده يسبحن معه كُلٌّ لَهُ أي لله تعالى أَوَّابٌ أي مطيع منقاد. يرجع بتسبيحه وتقديسه إليه.
قال ابن كثير: أي أنه تعالى سخر الجبال تسبح معه عند إشراق الشمس وآخر النهار. كما قال عز وجل: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ [سبأ: ١٠]، وكذلك كانت الطير تسبح بتسبيحه وترجّع بترجيعه، إذا مرّ به الطير وهو سابح في الهواء، فسمعه وهو يترنم بقراءة الزبور لا يستطيع الذهاب. بل يقف في الهواء ويسبح معه وتجيبه الجبال الشامخات ترجّع معه، وتسبح تبعا له. انتهى. أي بأن خلق فيها حياة ونطقا.
أو كان له عليه السلام من شدة صوته الحسن دويّ في الجبال. وحنين من الطيور إليه، وترجيع. وقد عهد من الطير القمريّ أنه ينتظر سكتة المصوّت والقارئ بصوت حسن أو المنشد، فيجيبه، والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ٢٠]
وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠)
وَشَدَدْنا مُلْكَهُ أي قويناه بوفرة العدد والعدد ونفوذ السلطة وإمداده بالتأييد والنصر وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ أي النبوة أو الكلام المحكم المتضمن للمواعظ والأمثال والحضّ على الآداب ومكارم الأخلاق. وكان زبوره عليه السلام، كله حكما غررا وَفَصْلَ الْخِطابِ أي فصل الخصام بتمييز الحق من الباطل، ورفع الشبه، وإقامة الدلائل. وكان يقيم بذلك العدل الجالب محبة الخلائق، ولا يخالفه أحد من أقاربه ولا من الأجانب. ثم ذكر تعالى من حكمته عليه السلام وقضائه الفصل، وشدة خوفه وخشيته مع ذلك، ما قصه بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ٢١]
وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١)
وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ أي ولجوه. و (المحراب) مقدم كل بيت وأشرفه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ٢٢]
إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢)
إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ أي منا. فلسنا فاتكين وإنما نحن خَصْمانِ أي شخصان متخاصمان تحاكمنا إليك بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ أي تعدى فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ أي بما يطابق أمر الله وَلا تُشْطِطْ أي ولا تبعد عن الحق أو تجاوزه وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ أي بحيث لا تميل عن الحق أصلا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ٢٣]
إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣)
إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً أي أنثى من الضأن وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ أي فلم ينظر إلى غناه عنها، ولا إلى افتقاري إليها، بل أراد التغلب عليّ فَقالَ أَكْفِلْنِيها أي: ملكنيها. بمعنى اجعلني كافلها كما أكفل ما تحت يدي. أو بمعنى اجعلها كفلي أي نصيبي: وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ أي غلبني في المكالمة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : الآيات ٢٤ الى ٢٥]
قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥)
قالَ أي داود لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ أي طلب نعجتك التي أنت أحوج إليها ليضمها إِلى نِعاجِهِ أي مع استغنائه عن هذا الضم وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ أي الإخوان الأصدقاء المتخالطين في شؤونهم لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ أي بغي الأعداء. مع أن واجب حقهم النصفة على الأقل. إن لم يقوموا بفضيلة الإيثار إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي فإنهم لا يبغون وَقَلِيلٌ ما هُمْ أي وهم قليل. و (ما) مزيدة للإبهام والتعجيب من قلتهم.
قال الشهاب: فيه مبالغة من وجوه: وصفهم بالقلة، وتنكير (قليل) وزيادة (ما) الإبهامية. والشيء إذا بولغ فيه كان مظنة للتعجب منه. فكأنه قيل: ما أقلهم.
247
وفي قضائه عليه السلام هذا، من الحكمة وفصل الخطاب ما يهيج الأفئدة ويقر عين المغبون. ذلك أنه صدع بالحق أبلغ صدع. فجهر بظلم خصمه وبغيه جهرا لا محاباة فيه ولا مواربة فأقر عين المظلوم. وعرف الباغي ظلمه وحيفه، وأن سيف العدل والإنصاف فوقه. ثم نفس عن قلب المظلوم البائس. وروّح عن صدره بذكر ما عليه الأكثر من هذه الخلة- خلة البغي وعدم الإنصاف- مع الخلطة والخلة، ليتأسى ويتسلى كما قيل (إن التأسي روح كل حزين) ثم أكد الأمر بقلة القائمين بحقوق الأخوة، ممن آمن وعمل صالحا، فكيف بغيرهم؟. وكلها حكم وغرر ودرر، حقائق تنطبق على أكثر هذا السواد الأعظم من الناس، الذين يدعون المحبة، والصداقة. ولعظم شأن حقوق المحبة أسهب في آدابها علماء الأخلاق، إسهابا نوعوا فيه الأبواب، ولونوا فيه الفصول، ومع ذلك لا تزال الشكوى عامة. وقد امتلأت من منظومها ومنثورها كتب الأدب، كما لا يخفى على من له إلمام به. وبالله التوفيق وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ أي ابتليناه بتلك الحكومة فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ أي ما استغفر منه وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى أي لقربا وَحُسْنَ مَآبٍ أي مرجعا حسنا وكرامة، في الآخرة.
تنبيهات:
الأول- للمفسرين في هذا النبأ أقوال عديدة ووجوه متنوعة. مرجعها إلى مذهبين: مذهب من يرى أنها تشير تعريضا إلى وزر ألمّ به داود عليه السلام ثم غفر له، ومذهب من يرى أنها حكومة في خصمين لا إشعار لها بذلك. فممن ذهب إلى الأول ابن جرير. فإنه قال: هذا مثل ضربه الخصم المتسوّرون على داود محرابه.
وذلك أن داود كانت له، فيما قيل، تسع وتسعون امرأة. وكانت للرجل الذي أغزاه حتى قتل امرأة واحدة، فلما قتل نكح، فيما ذكر، داود امرأته، ثم لما قضى للخصمين بما قضى، علم أنه ابتلي. فسأل غفران ذنبه وخرّ ساجدا لله وأناب إلى رضا ربه، وتاب من خطيئته. هذا ما قاله ابن جرير. ثم أسند قصته مطولة من روايات عن ابن عباس والسدّيّ وعطاء والحسن وقتادة ووهب ومجاهد. ومن طريق عن أنس مرفوعا. ويشبه سياق بعضها ما ذكر في التوراة المتداولة الآن قال السيوطي في (الإكليل) : القصة التي يحكونها في شأن المرأة، وأنها أعجبته، وأنه أرسل زوجها مع البعث حتى قتل، أخرجها ابن أبي حاتم من حديث أنس مرفوعا. وفي إسناده ابن لهيعة، وحاله معروف، عن ابن صخر عن يزيد الرقاشيّ وهو ضعيف. وأخرجها من حديث ابن عباس موقوفا. انتهى.
248
أقول: أما المرفوع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلّم فيها، فلم يأت من طريق صحيح، وأما الموقوف من ذلك على الصحب والأتباع رضي الله عنهم، فمعوّلهم في ذلك ما ذكر في التوراة من هذا النبأ، أو الثقة بمن حكى عنها. وينبني على ذلك ذهابهم إلى تجويز مثل هذا على الأنبياء. وقد ذهبت طائفة إلى تجويز ما عدا الكذب في التبليغ.
كما فصّل في مطولات الكلام.
قال ابن حزم رحمه الله: وهو قول الكرامية من المرجئة. وابن الطيّب الباقلانيّ من الأشعرية، ومن اتبعه. وهو قول اليهود والنصارى. ثم رد هذا القول، رحمه الله، ردّا متينا.
وأما المذهب الثاني، فهو ما جزم به ابن حزم في (الفصل) وعبارته: ما حكاه تعالى عن داود عليه السلام قوله صادق صحيح، لا يدل على شيء مما قاله المستهزئون الكاذبون المتعلقون بخرافات ولّدها اليهود. وإنما كان ذلك الخصم قوما من بني آدم، بلا شك، مختصمين في نعاج من الغنم على الحقيقة بينهم. بغى أحدهما على الآخر على نصّ الآية. ومن قال إنهم كانوا ملائكة معرّضين بأمر النساء، فقد كذب على الله عزّ وجلّ، وقوله ما لم يقل، وزاد في القرآن ما ليس فيه، وكذّب الله عز وجل وأقر على نفسه الخبيثة، أنه كذّب الملائكة. لأن الله تعالى يقول:
وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ فقال هو: لم يكونوا قط خصمين، ولا بغى بعضهم على بعض، ولا كان قط لأحدهما تسع وتسعون نعجة، ولا كان للآخر نعجة واحدة، ولا قال له أكفلنيها فاعجبوا. لم يقحمون فيه الباطل أنفسهم؟ ونعوذ بالله من الخذلان، ثم كل ذلك بلا دليل، بل الدعوى المجرّدة. وتالله! إن كل امرئ منا ليصون نفسه وجاره المستور عن أن يتعشق امرأة جاره، ثم يعرّض زوجها للقتل عمدا، ليتزوجها.
وعن أن يترك صلاته لطائر يراه. هذه أفعال السفهاء المتهوّكين الفسّاق المتمردين. لا أفعال أهل البرّ والتقوى. فكيف برسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي أوحى إليه كتابه وأجرى على لسانه كلامه؟ لقد نزّهه الله عزّ وجلّ عن أن يمر مثل هذا الفحش بباله. فكيف أن يستضيف إلى أفعاله؟ وأما استغفاره وخروره ساجدا، ومغفرة الله له، فالأنبياء عليهم السلام أولى الناس بهذه الأفعال الكريمة. والاستغفار فعل خير لا ينكر من ملك ولا من نبيّ. ولا من مذنب ولا من غير مذنب. فالنبيّ يستغفر الله لمذنبي أهل الأرض.
والملائكة كما قال الله تعالى: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ [غافر: ٧].
وأما قوله تعالى عن داود عليه السلام وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ وقوله تعالى: فَغَفَرْنا
249
لَهُ ذلِكَ
فقد ظن داود عليه السلام أن يكون ما آتاه الله عزّ وجلّ من سعة الملك العظيم فتنة. فقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم «١» يدعو في أن يثبت الله قلبه على دينه، فاستغفر الله تعالى من هذا الظن، فغفر الله تعالى له هذا الظن. إذ لم يكن ما آتاه الله من ذلك فتنة. انتهى كلام ابن حزم، وهو وقوف على ظاهر الآية، مجردا عن إشارة وإيماء.
وقال البرهان البقاعي في (تفسيره) : وتلك القصة وأمثالها من كذب اليهود.
ثم قال: وأخبرني بعض من أسلم منهم أنهم يتعمدون ذلك في حق داود عليه السلام. لأن عيسى عليه السلام من ذريته، ليجدوا سبيلا إلى الطعن فيه. انتهى.
ثم قال: وقوله تعالى: فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ أي الوقوع في الحديث عن إسناد الظلم إلى أحد بدون سماع لكلامه. وهذه الدعوى تدريب لداود عليه السلام في الأحكام. وذكرها للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم تدريب له في الأناة في جميع أموره على الدوام. ولما ذكر هذا، ربما أوهم شيئا في مقامه صلّى الله عليه وسلم، فدفعه بقوله تعالى: وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ. فالقصة لم يجر ذكرها إلا للترقية في رتب الكمال. وأول دليل على ما ذكرته، أن هذه الفتنة إنما هي بالتدريب في الحكم، لا بامرأة ولا غيرها. وأن ما ذكروه من قصة المرأة باطل وإن اشتهر. فكم من باطل مشهور، ومذكور، هو عين الزور. انتهى.
وقال ابن كثير: قد ذكر المفسرون هاهنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات.
ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه. ولكن روى ابن أبي حاتم هنا حديثا لا يصح سنده، لأنه من رواية يزيد الرقاشيّ عن أنس رضي الله عنه. ويزيد، وإن كان من الصالحين، لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة. فالأولى أن يقتصر على مجرد تلاوة هذه القصة، وأن يردّ علمها إلى الله عزّ وجلّ. فإن القرآن حق، وما تضمن فهو حق أيضا. انتهى.
وقال القاضي عياض في (الشفا) : وأما قصة داود عليه السلام، فلا يجب أن يلتفت إلى ما سطره فيها الأخباريون على أهل الكتاب الذين بدلوا وغيروا، ونقله بعض المفسرين. ولم ينص الله على شيء من ذلك، ولا ورد في حديث صحيح.
والذي نص الله عليه قوله: وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ وقوله فيه أَوَّابٌ فمعنى فَتَنَّاهُ أي اختبرناه. وأَوَّابٌ قال قتادة: مطيع.
(١) أخرجه الترمذي في: القدر، ٧- باب ما جاء أن القلوب بين إصبعي الرحمن.
250
وهذا التفسير أولى. قال ابن عباس وابن مسعود: ما زاد داود على أن قال للرجل: انزل عن امرأتك وأكفلنيها.. فعاتبه الله على ذلك ونبهه عليه. وأنكر عليه شغله بالدنيا، وهذا هو الذي ينبغي أن يعوّل عليه من أمره. وقد قيل خطبها على خطبته، وقيل بل أحب بقلبه أن يستشهد. وحكى السمرقنديّ أن ذنبه الذي استغفر منه قوله لَقَدْ ظَلَمَكَ فظلمه بقول خصمه. وقيل: بل لما خشيه على نفسه، وظن من الفتنة بما بسط له من الملك والدنيا. وإلى نفي ما أضيف في الأخبار إلى داود من ذلك- ذهب أحمد بن نصر وأبو تمام، وغيرهما من المحققين. قال الداوديّ: ليس في قصة داود وأوريا خبر يثبت. ولا يظن بنبي محبة قتل مسلم. وقيل: إن الخصمين اللذين اختصما إليه، رجلان في نتاج غنم على ظاهر الآية. وقيل: بل لما خشي على نفسه وظن من الفتنة لما بسط له من الملك والدنيا. انتهى.
وقال ابن القيم في أواخر كتابه (الجواب الكافي) في مباحث العشق: وقد أرشد صلّى الله عليه وسلّم المتحابين إلى النكاح. كما
في سنن ابن ماجة «١» مرفوعا: لم ير للمتحابّين مثل النكاح
. ونكاحه لمعشوقه هو دواء العشق الذي جعله الله دواءه شرعا وقدرا. وبه تداوى نبيّ الله داود صلى الله عليه وسلّم ولم يرتكب نبيّ الله محرما. وإنما تزوج المرأة وضمها إلى نسائه لمحبته لها. وكانت توبته بحسب منزلته عند الله وعلوّ مرتبته. ولا يليق بنا المزيد على هذا. انتهى.
وهذا منه تسليم ببعض القصة لا بتمامها. وهو من الأقوال فيها.
وأما دعوى بعضهم أن التوراة تعدّ داود ملكا حكيما، لا نبيا، بدليل ذكره في أسفار الملوك منها، وما فيها من أنه بعث إليه نبيّ يقال له قاشان، ضرب له المثل المذكور- فدعوى مردودة من وجوه: منها أن الاستدلال بالتوراة التي بين أيديهم في إثبات أو نفي لا يعول عليه. كيف لا؟ وقد أوتينا بيضاء نقية محفوظة من التغيير والتبديل بحمده تعالى. ومنها أن نبوة داود عليه السلام لا خلاف فيها عند المسلمين، فلا عبرة بخلاف غيرهم. ومنها أنه لا مانع أن تجتمع النبوة والملك لمن أراده الله واصطفاه. وقد فعل ذلك بداود وسليمان عليهما السلام. ومنها أنه لا حاجة في كتابنا الكريم أن يتمم بما جاء في غيره، أو يحاول رده إلى سواه من الكتب، أو هي إليه، لاستغنائه بنفسه. بل وكونه مهيمنا على سائر الكتب، كما أخبر الله تعالى عنه، فليتأمل ذلك. والله أعلم.
(١) أخرجه ابن ماجة في: النكاح، ١- باب ما جاء في فضل النكاح، حديث ١٨٤٧..
251
وقد روي أن عمر بن عبد العزيز حدّث بنبإ داود على ما يرويه القصاص، وعنده رجل من أهل الحق. فكذّب المحدّث به، وقال: إن كانت القصة على ما في كتاب الله، فما ينبغي أن يلتمس خلافها. وأعظم بأن يقال غير ذلك، وإن كانت على ما ذكرت وكف الله عنها سترا على نبيّه، فما ينبغي إظهارها عليه. فقال عمر: لسماعي هذا الكلام، أحبّ إلى مما طلعت عليه الشمس. نقله الزمخشري.
قال الناصر في (الانتصاف) : وقد التزم المحققون من أئمتنا أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، داود وغيره، منزهون من الوقوع في صغائر الذنوب، مبرءون من ذلك، والتمسوا المحامل الصحيحة لأمثال هذه القصة. وهذا هو الحق الأبلج، والسبيل الأبهج، إن شاء الله تعالى، انتهى.
التنبيه الثاني- قال ابن الفرس: في هذه القصة دليل على جواز القضاء في المسجد (أي لظاهر المحراب. إلا أنه ليس نصّا في محراب المسجد) والتلطف في ردّ الإنسان عن المكروه صنعه. وأنه لا يؤاخذ بعنف ما أمكن. وجواز المعاريض من القول.
قال الزمخشري: وإنما جاءت على طريقة التمثيل والتعريض، دون التصريح، لكونها أبلغ في التوبيخ. من قبل أن المتأمل إذا أدّاه إلى الشعور بالمعرّض به، كان أوقع في نفسه، وأشد تمكنا من قلبه، وأعظم أثرا فيه، وأجلب لاحتشامه وحيائه، وأدعى إلى التنبيه على الخطأ فيه، من أن يباده به صريحا، مع مراعاة حسن الأدب بترك المجاهرة. ألا ترى إلى الحكماء؟ كيف أوصوا في سياسة الولد، إذا وجدت منه هنة منكرة، بأن يعرّض له بإنكارها عليه، ولا يصرح. وأن تحكي له حكاية ملاحظة لحاله، إذا تأملها استسمج حال صاحب الحكاية، فاستسمج حال نفسه. وذلك أزجر له. لأنه ينصب ذلك مثالا لحاله، ومقياسا لشأنه. فتصور قبح ما وجد منه بصورة مكشوفة، مع أنه أصون لما بين الوالد والولد من حجاب الحشمة.
الثالث- قال ابن مسعود في قوله تعالى: إِنَّ هذا أَخِي أي على ديني.
أخرجه ابن أبي حاتم. ففيه جواز إطلاق (الأخ) على غير المناسب. واستدل بقوله تعالى: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ على جواز الشركة. أفاده في (الإكليل).
الرابع- قال السيوطيّ في (الإكليل) : استدل بقوله تعالى: وَخَرَّ راكِعاً من أجاز التعويض عن سجود التلاوة بركوع. والأكثرون على أن الركوع هنا مجاز مرسل، عن السجود. لأنه، لإفضائه إليه، جعل كالسبب، ثم تجوّز به عنه. أو هو استعارة له، لمشابهته له في الانحناء والخضوع.
252
الخامس- قال ابن كثير: اختلف الأئمة في سجدة (ص) هل هي من عزائم السجود؟ على قولين: أحدهما أنها ليست من العزائم، بل هي سجدة شكر، لما
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إنها ليست من عزائم السجود، وقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسجد فيها، رواه أحمد والبخاري «١» وأصحاب السنن.
وعنه أنه قال: إن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم سجد في (ص) وقال: سجدها داود عليه الصلاة والسلام توبة، ونسجدها شكرا، تفرد به النسائي «٢».
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو على المنبر (ص) فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه. فلما كان يوم آخر قرأها. فلما بلغ السجدة تشزّن الناس للسجود. فقال صلّى الله عليه وسلم:
إنما هي توبة نبيّ. ولكن رأيتكم تشزنتم، فنزل وسجد. تفرّد به أبو داود «٣».
وإسناده على شرط الصحيح، وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ٢٦]
يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (٢٦)
يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ أي استخلفناك على الملك في الأرض كمن يستخلفه بعض السلاطين على بعض البلاد ويملكه عليها، ومنه قولهم: خلفاء الله في أرضه فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى أي هوى النفس، من الميل إلى مال أو جاه أو قريب أو صاحب فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي صراطه الموصل إلى الكمالات، كحفظ المملكة والنصر على الأعداء، والنجاة في الآخرة ورفع الدرجات فيها إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ أي بسبب نسيانهم، وهو ضلالهم عن السبيل، فإن تذكره يقتضي ملازمة الحق ومخالفة الهوى.
تنبيه:
في الآية بيان وجوب الحكم بالحق، وأن لا يميل إلى أحد الخصمين لقرابة أو رجاء أو سبب يقتضي الميل. واستدل بها بعضهم على احتياج الأرض إلى خليفة من الله. كذا في (الإكليل).
(١) أخرجه البخاري في: سجود القرآن، ٣- باب سجدة ص، حديث ٥٨٩.
(٢) أخرجه في: الافتتاح، ٤٨- باب سجود القرآن، السجود في ص.
(٣) أخرجه في: السجود، ٥- باب السجود في ص، حديث رقم ١٤١٠.
وقال ابن كثير: هذه وصية من الله عز وجل لولاة الأمور أن يحكموا بين الناس بالحق المنزل من عنده تبارك وتعالى. ولا يعدلوا عنه فيضلوا عن سبيل الله. وقد توعد تبارك وتعالى من ضل عن سبيله وتناسى يوم الحساب، بالوعيد الأكيد والعذاب الشديد. روى ابن أبي حاتم عن أبي زرعة، أن الوليد بن عبد الملك قال له: أيحاسب الخليفة، فإنك قد قرأت الكتاب الأول وقرأت القرآن وفقهت؟ فقلت: يا أمير المؤمنين؟ أقول؟ قال: قل في أمان. قلت: يا أمير المؤمنين! أنت أكرم على الله أو داود عليه الصلاة والسلام؟ إن الله تعالى جمع له النبوة والخلافة. ثم توعده في كتابه قال تعالى: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ الآية.
وقال الرازي: اعلم أن الإنسان خلق مدنيّا بالطبع. لأن الإنسان الواحد لا تنتظم مصالحه إلا عند وجود مدينة تامة. حتى هذا يحرث وذاك يطحن وذلك يخبز وذلك ينسج والآخر يخيط. وبالجملة، فيكون كل واحد منهم مشغولا بمهمّ. وينتظم من أعمال الجميع مصالح الجميع. فثبت أن الإنسان مدنيّ بالطبع. وعند اجتماعهم في الموضع الواحد يحصل بينهم منازعات ومخاصمات، ولا بد من إنسان قادر قاهر يقطع تلك الخصومات ويفصل تلك الحكومات. وذلك هو السلطان الذي ينفذ حكمه على الكل. فثبت أنه لا تنتظم مصالح الخلق إلا بسلطان قاهر سائس. ثم إن ذلك السلطان القاهر السائس. إن كان حكمه على وفق هواه ولطلب مصالح دنياه، عظم ضرره على الخلق. فإنه يجعل الرعية فداء لنفسه، ويتوسل بهم إلى تحصيل مقاصد نفسه. وذلك يفضي إلى تخريب العالم ووقوع الهرج والمرج في الخلق.
وذلك يفضي بالآخرة إلى هلاك ذلك الملك. أما إذا كانت أحكام ذلك الملك مطابقة للشريعة الحقة الإلهية، انتظمت مصالح العالم واتسعت أبواب الخيرات على أحسن الوجوه: فهذا هو المراد من قوله: فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ يعني لا بد من حاكم بين الناس بالحق. فكن أنت ذلك. ثم قال: وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الآية، وتفسيره أن متابعة الهوى توجب الضلال عن سبيل الله، والضلال عن سبيل الله يوجب سوء العذاب. فينتج أن متابعة الهوى توجب سوء العذاب. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ٢٧]
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧)
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا أي خلقا باطلا، لا حكمة فيه. أو
مبطلين عابثين، كقوله تعالى وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [الدخان: ٣٨- ٣٩]. وهو أن تقوم الناس بالقسط في المعتقدات والعبادات والمعاملات ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا أي ولذا أنكروا البعث والجزاء على الأعمال، وأخذوا يصدّون عن سبيل الله ويبغون في الأرض الفساد.
قال الزمخشري: ومن جحد الخالق فقد جحد الحكمة من أصلها. ومن جحد الحكمة في خلق العالم فقد سفه الخالق، وظهر بذلك أنه لا يعرفه ولا يقدره حق قدره. فكان إقراره بكونه خالقا، كلا إقرار.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ٢٨]
أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨)
أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ قال المهايمي:
أي: أنترك البعث بالكلية، أم نبعث ونجعل الذين آمنوا فشكروا نعمة العقل والكتاب. وعملوا الصالحات فشكروا نعمة الأعضاء، كالمفسدين، بصرف العقل والأعضاء إلى الغير ما خلقت له؟ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ أي مخالفة أمر الله رعاية لمحبته كَالْفُجَّارِ أي الذين يخالفون أوامر الله، ولا يبالون بعداوته. أي لا نفعل ذلك ولا يستوون عند الله.
قال ابن كثير: وإذا كان الأمر كذلك، فلا بد من دار أخرى يثاب فيها هذا المطيع، ويعاقب فيها هذا الفاجر، وهذا الإرشاد يدل العقول السليمة والفطر المستقيمة، على أنه لا بدّ من معاد وجزاء. فإذا نرى الظالم الباغي يزداد ماله وولده ونعيمه، ويموت كذلك. ونرى المطيع المظلوم يموت بكمده. فلا بد في حكمة الحكيم العليم العادل، الذي لا يظلم مثقال ذرة، من إنصاف هذا من هذا. وإذا لم يقع هذا في هذه الدار، فتعين أن هناك دارا أخرى لهذا الجزاء والمواساة. ولما كان القرآن يرشد إلى المقاصد الصحيحة والمآخذ العقلية الصريحة، قال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ٢٩]
كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٩)
كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ أي كثير الخير لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ قال المهايمي:
أي لينظروا في ألفاظه وترتيبها ولوازمها. فيستخرجوا منها علوما بطريق الاستدلال.
وقال الزمخشري: تدبر الآيات: التفكر فيها والتأمل الذي يؤدي إلى معرفة ما يدبر ظاهرها من التأويلات الصحيحة والمعاني الحسنة، لأن من اقتنع بظاهر المتلوّ لم يحل منه بكثير طائل. وكان مثله كمثل من له لقحة درور لا يحلبها، ومهرة نثور لا يستولدها. وعن الحسن: قد قرأ هذا القرآن عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله.
حفظوا حروفه وضيعوا حدوده. حتى إن أحدهم ليقول: والله! لقد قراءات القرآن فما أسقطت منه حرفا، وقد، الله! أسقطه كله. ما يرى للقرآن عليه أثر في خلق ولا عمل، والله! ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده. والله! ما هؤلاء بالحكماء ولا الوزعة، لا كثر الله في الناس مثل هؤلاء. اللهم اجعلنا من العلماء المتدبرين، وأعذنا من القراء المتكبرين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ٣٠]
وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠)
وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ أي كثير الرجوع إلى الله تعالى، بالتوبة والإنابة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ٣١]
إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١)
إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ أي من الخيل، جمع (صافن) وهو الذي يقوم على طرف سنبك يد أو رجل، الْجِيادُ جمع (جواد) وهو الذي يسرع في جريه أو بمعنى الحسان جمع (جيّد).
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ٣٢]
فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢)
فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي أي آثرته عليه. عدل عنه للمناسبة اللفظية وقصد التجنيس. وفائدة التضمين إشارة إلى عروضه، وذِكْرِ رَبِّي إما مضاف لفاعله أو لمفعوله.
قال الزمخشريّ: و (الخير) المال كقوله: إِنْ تَرَكَ خَيْراً [البقرة: ١٨٠]، وقوله: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات: ٨]، والمال: الخيل التي شغلته، أو
سمي الخيل خيرا كأنها نفس الخير، لتعلق الخير بها.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «١» : الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة
وقال في زيد الخيل حين وفد عليه وأسلم: ما وصف لي رجل فرأيته، إلا كان دون ما بلغني، إلا زيد الخيل
، وسماه زيد الخير، وسأل رجل بلالا رضي الله عنه عن قوم يستبقون، من السابق؟ فقال: رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال له الرجل: أردت الخيل. فقال: وأنا أردت الخير. حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ أي غربت الشمس. متعلق بقوله تعالى: أَحْبَبْتُ وفيه استعارة تصريحية أو مكنية لتشبيه الشمس بامرأة حسناء، أو ملك. وباء بِالْحِجابِ للظرفيّة، أو الاستعانة أو الملابسة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ٣٣]
رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣)
رُدُّوها عَلَيَّ يعني الصافنات. وهذا من مقول القول، فلا حاجة إلى تقدير قول آخر فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ أي فجعل يمسح مسحا، أي يمسح بالسيف بسوقها وأعناقها، يعني يقطعها.
تنبيه:
قال ابن كثير: ذكر غير واحد من السلف والمفسرين أن سليمان عليه السلام اشتغل بعرض الخيل حتى فات وقت صلاة العصر، والذي يقطع به أنه لم يتركها عمدا بل نسيانا، كما شغل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يوم الخندق عن صلاة العصر، حتى صلاها بعد الغروب. وذلك ثابت في الصحيحين «٢» من غير وجه. ويحتمل أنه كان سائغا في ملتهم تأخير الصلاة لعذر الغزو، والقتال. والخيل تراد للقتال، وقد ادعى طائفة من العلماء أن هذا كان مشروعا فنسخ ذلك بصلاة الخوف، ومنهم من ذهب إلى ذلك في حال المسايفة والمضايقة حتى لا تمكن صلاة ولا ركوع ولا سجود. كما فعل الصحابة رضي الله عنهم في فتح (تستر) وهو منقول عن مكحول والأوزاعيّ وغيرهما، والأول أقرب. لأنه قال بعد رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ قال
(١) أخرجه البخاري في: المناقب، ٢٨- باب حدثني محمد بن المثنى، حديث رقم ١٣٦٨، عن أنس.
(٢) أخرجه البخاري في: المغازي، ٢٩- باب غزوة الخندق، حديث رقم ١٤٠٠، عن علي.
وأخرجه مسلم في: المساجد ومواضع الصلاة، حديث رقم ٢٠٢.
257
الحسن البصري: قال: لا، والله! لا تشغليني عن عبادة ربي آخر ما عليك. ثم أمر بها فعقرت. وكذلك قال قتادة.
وقال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: جعل يمسح أعراف الخيل وعراقيبها حبّا لها. وهذا القول اختاره ابن جرير. قال: لأنه لم يكن ليعذب حيوانا بالعرقبة، ويهلك مالا من ماله بلا سبب، سوى أنه اشتغل عن صلاته بالنظر إليها ولا ذنب لها. وهذا الذي رجح ابن جرير، فيه نظر، لأنه قد يكون في شرعهم جواز مثل هذا، ولا سيما إذا كان غضبا لله تعالى، بسبب أنه اشتغل بها حتى خرج وقت الصلاة. ولهذا لما خرج عنها لله تعالى، عوضه الله عزّ وجلّ ما هو خير منها.
وهو الريح التي تجري بأمره رخاء حيث أصاب، غدوّها شهر ورواحها شهر. فهذا أسرع وخير من الخيل،
روى الأمام أحمد «١» عن ابن قتادة وأبي الدهماء، وكانا يكثران السفر نحو البيت، قالا: أتينا على رجل من أهل البادية فقال لنا البدوي، أخذ بيدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجل يعلمني مما علمه الله عزّ وجلّ. وقال: إنك لا تدع سببا اتقاء الله تعالى، إلا أعطاك الله عزّ جلّ خيرا منه.
انتهى ما ذكره ابن كثير.
وقال القاشانيّ: أي طفق يمسح السيف بسوقها، يعرقب بعضها وينحر بعضها، كسرا لأصنام النفس التي تعبدها بهواها، وقمعا لسورتها وقواها، ورفعا للحجاب الحائل بينه وبين الحق، واستغفارا وإنابة إليه بالتجريد والترك.
وقد ذهب الرازي إلى تأويل آخر استصوبه، قال: إن رباط الخيل كان مندوبا إليه في دينهم. كما أنه كذلك في دين الإسلام. ثم إن سليمان عليه السلام احتاج إلى الغزو. فجلس وأمر بإحضار الخيل وأمر بإجرائها. وذكر أني لا أحبها لأجل الدنيا ونصيب النفس، وإنما أحبها لأمر الله وطلب تقوية دينه. وهو المراد من قوله: عَنْ ذِكْرِ رَبِّي ثم إنه عليه السلام أمر بإعدائها وتسييرها حتي توارت بالحجاب أي غابت عن بصره. ثم أمر الرائضين بأن يردوا تلك الخيل إليه. فلما عادت إليه طفق يمسح سوقها وأعناقها، والغرض من ذلك المسح أمور:
الأول تشريفا لها وإبانة لعزتها، لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدوّ.
والثاني- أنه أراد أن يظهر أنه في ضبط السياسة والملك يتصنع إلى حيث يباشر أكثر الأمور بنفسه.
(١) أخرجه في المسند ٥/ ٧٨.
258
الثالث- أنه كان أعلم بأحوال الخيل وأمراضها وعيوبها. فكان يمتحنها ويمسح سوقها وأعناقها، حتى يعلم هل فيها ما يدل على المرض.
وقال: فهذا التفسير الذي ذكرناه ينطبق عليه لفظ القرآن انطباقا مطابقا موافقا.
ولا يلزمنا نسبة شيء من تلك المنكرات والمحذورات.
قال: وأنا شديد التعجب من الناس كيف قبلوا هذه الوجوه السخيفة. مع أن العقل والنقل يردها. وليس لهم في إثباتها شبهة فضلا عن حجة فإن قيل: إن الجمهور فسّروا الآية بذلك الوجه، فما قولك فيه؟ فنقول: لنا هاهنا مقامان:
المقام الأول- أن ندعي أن لفظ الآية لا يدل على شيء من تلك الوجوه التي يذكرونها. وقد ظهر، والحمد لله، أن الأمر كما ذكرناه، وظهوره لا يرتاب العاقل فيه.
المقام الثاني- أن يقال: هب أن لفظ الآية لا يدل عليه، إلا أنه كلام ذكره الناس. فما قولك فيه؟ وجوابنا أن الأدلة الكثيرة قامت على عصمة الأنبياء عليهم السلام. ولم يدل دليل على صحة هذه الحكايات. ورواية الآحاد لا تصلح معارضة للدلائل القوية، فكيف الحكايات عن أقوام لا يبالي بهم ولا يلتفت إلى أقوالهم؟
والله أعلم. انتهى كلام الرازي.
وسبقه ابن حزم حيث قال: تأويل الآية على أنه قتل الخيل إذ اشتغل بها عن الصلاة. خرافة موضوعة مكذوبة سخيفة باردة. قد جمعت أفانين من القول، لأن فيها معاقبة خيل لا ذنب لها، والتمثيل بها. وإتلاف مال منتفع به بلا معنى. ونسبة تضييع الصلاة إلى نبيّ مرسل، ثم يعاقب الخيل على ذنبه لا على ذنبها. وإنما معنى الآية أنه أخبر أنه أحب حب الخير. من أجل ذكر ربه حتى توارت الشمس أو تلك الصافنات بحجابها. ثم أمر بردها. فطفق مسحا بسوقها وأعناقها بيده، برّا بها وإكراما لها، هذا هو ظاهر الآية الذي لا يحتمل غيره. وليس فيها إشارة أصلا إلى ما ذكروه من قتل الخيل وتعطيل الصلاة. وكل هذا قد قاله ثقات المسلمين. فكيف ولا حجة في قول أحد دون رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ انتهى كلام ابن حزم.
وأقول: الذي يتجه أن هذه القصة أشير بها إلى نبأ لديهم. لأن التنزيل الكريم مصدق الذي بين يديه. إلا أن له الهيمنة عليه. فما وقف فيه على حدّ من أنباء ما بين يديه، يوقف عنده ولا يتجاوز. وحينئذ، فالقصة المعروفة عندهم هي التي أشير إليها. لكن مع الهيمنة عليها، إذ لا تقبل على علّاتها. وقوله تعالى:
259
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ٣٤]
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤)
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ أي ابتليناه وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً أي جسما مجسدا كناية عن صنم- على ما رووه- وإنما أوثر الجسد عليه- إجلالا لسليمان عليه السلام، وإشارة إلى أن قصته- إن صحت- كانت أمرا عرض وزال، بدليل قوله تعالى: ثُمَّ أَنابَ أي إلى ربه بالتوبة والاستغفار، كما بينه بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ٣٥]
قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥)
قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي أي غيري، لفخامته وعظمته، هبة فضل وإيثار امتنان إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ٣٦]
فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦)
فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ أي فذللناها لطاعته إجابة لدعوته تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً أي لينة سهلة، مع شدة وقوة، ولذا وصفت في الآية الأخرى ب عاصِفَةً حَيْثُ أَصابَ أي أراد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ٣٧]
وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧)
وَالشَّياطِينَ عطف على الريح كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ أي في قعر البحر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ٣٨]
وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨)
وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ أي مسلسلين في الأغلال لا يبعثهم إلى عمل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ٣٩]
هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩)
هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أي على من شئت من المقرنين وغيرهم أَوْ أَمْسِكْ أي
امنع بِغَيْرِ حِسابٍ أي غير محاسب على المنّ والإمساك، فيكون حالا من المستكن، أو هو حال من العطاء، أو صلة له، وما بينهما اعتراض. والمعنى: إنه عطاء جمّ لا يكاد يمكن حصره. فقد يعبر عن الكثير ب (لا يعدّ) و (لا يحسب) ونحوه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ٤٠]
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠)
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى أي لقربى في الدرجات، ووَ حُسْنَ مَآبٍ أي مرجع في الآخرة.
تنبيه:
روى الأثريّون هاهنا قصصا مطولة ومختصرة، مؤتلفة ومختلفة. قال ابن كثير:
وكلها متلقاة من أهل الكتاب، وفيهم طائفة لا يعتقدون نبوة سليمان عليه الصلاة والسلام، فالظاهر أنهم يكذبون عليه ولهذا كان في سياقها منكرات. وتقوية ابن حجر لبعض منها بأنه خرجه النسائي بإسناد قوي- لا عبرة له. فليس المقام قاصرا على صحة السند فحسب، لو كان ذلك في الصحيحين، فإنّى بمروي غيرهما؟؟
وذكر الرازي أن القصص المروية هنا هي لأهل الحشو من تأويلهم، وأما أهل التحقيق فلهم تأويلات، وقد ساقها فانظرها.
وقال الإمام ابن جزم: معنى قوله تعالى: فَتَنَّا سُلَيْمانَ أي آتيناه من الملك ما اختبرنا به طاعته، كما قال تعالى مصدقا لموسى عليه السلام في قوله: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ إذ من الفتنة ما يهدي الله بها من يشاء وقال تعالى: الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ [العنكبوت:
١- ٣] فهذه الفتنة هي الاختبار حتى يظهر المهتدي من الضال، فهذه فتنة الله تعالى لسليمان إنما هي اختباره حتى ظهر فضله فقط. وما عدا هذا خرافات ولّدها زنادقة اليهود وأشباههم. وأما الجسد الملقى على كرسيّه فقد أصاب الله تعالى به ما أراد. نؤمن بهذا كما هو، ونقول (صدق الله عز وجل، كل من عند الله ربنا) ولو جاء نص صحيح في القرآن أو عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بتفسير هذا الجسد ما هو، لقلنا به، فإذا لم يأت بتفسيره ما هو نص ولا خبر صحيح. فلا يحل لأحد القول بالظن الذي هو أكذب الحديث في ذلك، فيكون كاذبا على الله عزّ وجلّ، إلا أننا لا نشك
البتّة في بطلان قول من قال إنه كان جنيا تصور بصورته، بل نقطع على أنه كذب.
والله تعالى لا يهتك ستر رسوله صلّى الله عليه وسلّم هذا الهتك، وكذلك نبعد في قول من قال إنه كان ولدا له، أرسله إلى السحاب ليربيه. فسليمان عليه السلام كان أعلم من أن يربي ابنه بغير ما طبع الله عزّ وجلّ بنية البشر عليه من اللبن والطعام. وهذه كلها خرافات موضوعة مكذوبة، لم يصح إسنادها قط. انتهى.
وزعم القاشاني أن حكاية الجني والخاتم مع سليمان، هي من موضوعات حكماء اليهود، كسائر ما وضعت الحكاء في تمثيلاتهم من حكايات أبسال وسلامان.
ثم أخذ القاشاني في تأويلها، إلا أنه حل الإشكال بإشكال أعظم منه، عفا الله عنه، وقال قبل: إن صحت الحكاية في مطابقتها للواقع، كان قد ابتلي بمثل ما ابتلي به ذو النون وآدم عليهما السلام، انتهى والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ٤١]
وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١)
وَاذْكُرْ أي في باب الابتلاء وحسن عاقبة الصبر عليه عَبْدَنا أي الكامل في التحقق بالعبودية أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أي دعاه وابتهل إليه قائلا أَنِّي مَسَّنِيَ أي أصابني الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ أي مشقة (بضم النون وفتحها مع سكون الصاد، وبفتحهما وضمهما) وَعَذابٍ أي ألم شديد. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ٤٢]
ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢)
ارْكُضْ بِرِجْلِكَ حكاية لما أجيب به دعاؤه عليه السلام. أي: فاستجبنا له وقلنا: اركض برجلك. أي أعد بها وامش، فقد برأت وشفيت من مرضك. وقوي جسمك وصح بدنك هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ أي ماء تغتسل به وتشرب منه.
والإشارة إلى عين أو نهر أو نحوهما.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ٤٣]
وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣)
وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ بأن جمعناهم عليه بعد تفرقهم وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا
أي ترحما منا عليه بهذا الإضعاف والمباركة وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ أي وتذكيرا لهم لينتظروا الفرج بالصبر والنوال بصدق الاتكال.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ٤٤]
وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤)
وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً أي حزمة صغيرة فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً أي في كل ما ابتليناه به نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ أي كثير الرجوع إلى الله تعالى، بالإنابة والابتهال والعبادة.
تنبيهات:
الأول- كان أيوب عليه السلام نبيا غنيا من أرباب العقار والماشية، وكان أميرا في قومه. وكانت أملاكه ومنزله في الجنوب الشرقيّ من البحر الميت، بين بلاد أدوم وصحراء العربية. وكانت إذ ذاك خصيبة رائعة التربة كثيرة المياه المتسلسلة.
وكان زمنه بعد زمن إبراهيم وقبل زمن موسى عليهم السلام. هذا ما حققه بعض الباحثين. والله أعلم.
الثاني- يذكر كثير من المفسرين هاهنا مرويات وقصصا إسرائيلية في ابتلائه عليه السلام. ولا وثوق من ذلك كله إلا بمجمله. وهو ما أشار له التنزيل الكريم لأنه المتيقن. وهو أنه عليه الصلاة والسلام أصابته بلوى عظيمة في نفسه وماله وأهله.
وأنه صبر على ذلك صبرا صار يضرب به المثل لثباته وسعة صدره وشجاعته. وأنه جوزي بحسنة صبره أضعافها المضاعفة.
الثالث- قال الزمخشري: فإن قلت: لم نسب المسّ إلى الشيطان ولا يجوز أن يسلطه الله على أنبيائه، ليقضي من إتعابهم وتعذيبهم وطره، ولو قدر على ذلك لم يدع صالحا إلا وقد نكبه وأهلكه. وقد تكرر في القرآن أنه لا سلطان له إلا الوسوسة فحسب؟
قلت: لما كانت وسوسته إليه، وطاعته له فيما وسوس، سببا فيما مسّه الله به من النصب والعذاب- نسبه إليه. وقد راعى الأدب في ذلك حيث لم ينسبه إلى الله في دعائه، مع أنه فاعله ولا يقدر عليه إلا هو. وقيل: أراد ما كان يوسوس به إليه في مرضه من تعظيم ما نزل به من البلاء، ويغريه على الكراهة والجزع، فالتجأ إلى الله تعالى في أن يكفيه ذلك بكشف البلاء، أو بالتوفيق في دفعه ورده بالصبر الجميل. انتهى.
263
الرابع- دلّ قوله تعالى: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً الآية، على تقدم يمين منه عليه السلام. وقد رووا هنا آثارا في المحلوف عليه، لم يصح منها شيء، فالله أعلم به ولا ضرورة لبيانه. إذ القصد الإعلام برحمة أخرى ونعمة ثانية عليه، صلوات الله عليه. وهي الدلالة إلى المخرج من الحنث، برخصة وطريقة سهلة سمحة ترفع الحرج. ونحن نورد هنا أمثل ما كتب في الآية، إيقافا للقارئ عليه، قال السيوطي في (الإكليل) : أخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن عباس وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وغيرهم أن أيوب حلف ليجلدن امرأته مائة جلد. فلما كشف الله عنه البلاء أمر أن يأخذ ضغثا فيضربها به. فأخذ شماريخ مائة ثم ضربها ضربة واحدة. قال سعيد بن جبير: وهي لهذه الأمة لمن حلف على مثل ما حلف عليه أيوب. ثم أخرج أيضا عن عطاء قال: هي للناس عامة. وعن مجاهد قال: كانت لأيوب خاصة قال الكيا الهراسي: ذهب الشافعي وأبو حنيفة وزفر، إلى أن من فعل ذلك فقد برّ في يمينه، وخالف مالك ورآه خاصا بأيوب.
قال: وفي الآية دليل على أن للزوج ضرب زوجته، وأن يحلف ولا يستثني.
انتهى.
واستدل بهذه الآية على أن الاستثناء شرطه الاتصال. إذ لو لم يشترط لأمره تعالى بالاستثناء ولم يحتج إلى الضرب بالضغث. واستدل عطاء بالآية على مسألة أخرى. فأخرج سعيد بن منصور عنه بسند صحيح أن رجلا قال له: إني أردت أن لا أكسي امرأتي ذراعا حتى تقف بعرفة. فقال: احملها على حمار ثم اذهب فقف بها بعرفة. فقال: إنما عنيت يوم عرفة. فقال عطاء: وأيوب حين حلف ليجلدن امرأته مائة جلدة، ما نوى أن يضربها بالضغث، إنما أمره الله أن يأخذ ضغثا فيضربها به.
قال عطاء: إنما القرآن عبر. انتهى كلام (الإكليل).
وقد رد الإمام ابن القيّم في كتابه (إغاثة اللهفان) الاستدلال بهذه الآية على جواز الحيلة. وعبارته: وأما قوله تعالى لأيوب عليه السلام وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ فمن العجب أن يحتج بهذه الآية على من يقول: إنه لو حلف ليضربنه عشرة أسواط فجمعها وضربه بها ضربة واحدة لم يبرّ في يمينه، هذا قول أصحاب أبي حنيفة ومالك وأصحاب أحمد. وقال الشافعيّ: إن علم أنها مسته كلها، برّ في يمينه. وإن علم أنها لم تمسه، لم يبر. وإن شك لم يحنث. ولو كان هذا موجبا لبرّ الحالف، لسقط عن الزاني والقاذف والشارب بعدد الضرب، بأن يجمع له مائة سوط
264
أو ثمانين ويضربه بها ضربة واحدة. وهذا إنما يجري في المرض كما قال الإمام أحمد، في المريض عليه الحدّ، ويضرب بعثكال يسقط عنه الحد. واحتج بما
رواه عن أبي أمامة بن سهل، عن سعيد بن سعد بن عبادة «١» قال: كان بين أبنائنا إنسان مخدج ضعيف، لم يرع أهل الدار إلا وهو على أمة من إماء الدار يخبث بها. وكان مسلما. فرفع شأنه سعد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقال: اضربوه حدّه، قالوا: يا رسول الله! إنه أضعف من ذلك إن ضربناه مائة قتلناه. فقال: فخذوا له عثكالا فيه مائة شمراخ فاضربوه ضربة واحدة، وخلوا سبيله.
وأما قصة أيوب فلها فقه دقيق. فإن امرأته كانت لشدة حرصها على عافيته وخلاصه من دائه، تلتمس له الدواء بما تقدر عليه، فلما لقيها الشيطان وقال ما قال، أخبرت أيوب عليه السلام بذلك، فقال: إنه الشيطان. ثم حلف لئن شفاه الله تعالى ليضربنها مائة سوط فكانت معذورة محسنة في شأنه، ولم يكن في شرعهم كفارة.
فإنه لو كان في شرعهم كفارة، لعدل إلى التفكير، ولم يحتج إلى ضربها. فكانت اليمين موجبة عندهم كالحدود. وقد ثبت أن المحدود إذا كان معذورا خفف عنه، بأن يجمع له مائة شمراخ أو مائة سوط فيضرب بها ضربة واحدة. وامرأة أيوب كانت معذورة، لم تعلم أن الذي خاطبها الشيطان، وإنما قصدت الإحسان. فلم تكن تستحق العقوبة، فأفتى الله نبيه أيوب عليه السلام أن يعاملها معاملة المعذور، هذا مع رفقها به وإحسانها إليه فجمع له بين البر في يمينه والرفق بامرأته المحسنة المعذورة، التي لا تستحق العقوبة. فظهر موافقة نص القرآن في قصة أيوب عليه السلام، لنص السنة، في شأن الضعيف الذي زنى. فلا يتعدى بهما عن محلهما.
فإن قيل: فقولوا هذا في نظير ذلك ممن حلف ليضربن امرأته أو أمته مائة، وكانتا معذورتين لا ذنب لهما، إنه يبرّ بجمع ذلك في ضربها بمائة شمراخ. قيل: قد جعل الله له مخرجا بالكفارة، ويجب عليه أن يكفر يمينه، ويقضي الله بالبر في يمينه هاهنا، ولا يحل له أن يبرّ فيها، بل بره فيها هو حنثه مع الكفارة. ولا يحل له أن يضربها لا مفرقا ولا مجموعا.
فإن قيل: فإذا كان الضرب واجبا كالحد، هل تقولون ينفعه ذلك؟ قيل: إما أن يكون العذر مرجوّ الزوال كالحر والبرد الشديد، والمرض اليسير، فهذا ينتظر زواله.
(١) أخرجه في المسند ٥/ ٢٢٢.
265
ثم يحدّ الحد الواجب. كما
روى مسلم «١» في صحيحه عن عليّ رضي الله عنه، أن أمة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم زنت. فأمرني أن أجلدها. فأتيتها فإذا هي حديثة عهد بنفاس.
فخشيت إن جلدتها أن أقتلها، فذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقال: أحسنت.
اتركها حتى تماثل.
انتهى كلام ابن القيم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ٤٥]
وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥)
وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ أي ذوي القوة في العبادة والأفكار في معرفة الله تعالى. قال القاشانيّ: أي العمل والعلم، لنسبة الأول إلى الأيدي والثاني إلى البصر والنظر، وهم أرباب الكمالات العملية والنظرية.
قال الشهاب: (الأيدي) مجاز عن القوة، مجاز مرسل. و (الأبصار) جمع بصر بمعنى بصيرة. وهو مجاز أيضا، لكنه مشهور فيه. وإذا أريد ب (الأيدي) الأعمال، فهو من ذكر السبب وإرادة المسبب. و (الأبصار) بمعنى البصائر مجاز عما يتفرع عليها من المعارف كالأول أيضا. وعلى الوجهين، فيه تعريض بأن من ليس كذلك، كان لا جارحة له ولا بصر. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ٤٦]
إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦)
إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ أي صفيناهم عن شوب صفات النفوس وكدورة حظوظا.
وجعلناهم لنا خالصين بالمحبة الحقيقية بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ أي الباقية والمقر الأصليّ، أي استخلصناهم لوجهنا بسبب تذكرهم لعالم القدس، وإعراضهم عن معدن الرجس، مستشرفين لأنوارنا، لا التفات لهم إلى الدنيا وظلماتها أصلا.
لطيفة:
قال السمين: قرأ نافع وهشام: بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ بالإضافة. وفيها أوجه:
أحدها- أن يكون أضاف خالصة إلى ذكرى للبيان. لأن الخاصة قد تكون ذكرى وغير ذكرى. كما قوله: بِشِهابٍ قَبَسٍ [النمل: ٧]، لأن الشهاب يكون قبسا وغيره.
الثاني- أن الخالصة مصدر بمعنى إخلاص، فيكون مصدرا مضافا لمفعوله، والفاعل
(١) أخرجه في: الحدود، حديث رقم ٣٤.
محذوف، أي بأن أخلصوا ذكر الدار وتناسوا عند ذكرها ذكر الدنيا. وقد جاء المصدر على (فاعلة) كالعاقبة. أو يكون المعنى بأن أخلصنا نحن لهم ذكرى الدار.
وقرأ الباقون بالتنوين وعدم الإضافة. وفيها أوجه: أحدها- أنها مصدر بمعنى الإخلاص، فيكون (ذكرى) منصوبا به، وأن يكون بمعنى الخلوص، فيكون (ذكرى) مرفوعا به، والمصدر يعمل منوّنا كما يعمل مضافا. أو يكون (خالصة) اسم فاعل على بابه. و (ذكرى) بدل أو بيان لها أو منصوب بإضمار (أعني) أو هو مرفوع على إضمار مبتدأ، و (الدار) يجوز أن يكون مفعولا به ب (ذكرى) وأن يكون ظرفا إما على الاتساع وإما على إسقاط الخافض. و (خالصة) إن كانت صفة، فهي صفة لمحذوف. أي بسبب خصلة خالصة. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : الآيات ٤٧ الى ٤٨]
وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (٤٨)
وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ أي المختارين من أبناء جنسهم لقربنا الْأَخْيارِ أي المنزهين عن شوائب الشرور. على أنه جمع (خير) مقابل (شر) الذي هو أفعل تفضيل. أو هو جمع (خيّر) المشدد أو المخفف منه وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ أي بالنبوة والرسالة، للهداية والإصلاح.
و (اليسع) خليفة إلياس وكان خادمه. ويقال له بالعبرانية (اليشاع) كما يسمى إلياس فيها (إيليا)، وفي التوراة نبأ طويل عن اليسع ونبوته ومعجزاته صلوات الله عليه.
وتقدم علم أنباء هؤلاء الأنبياء عليهم السلام، في سورة الأنبياء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : الآيات ٤٩ الى ٥٠]
هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠)
هذا ذِكْرٌ أي شرف لهم. و (الذكر) يتجوز به عنه. قال الشهاب: لأن الشرف يلزمه الشهرة والذكر بين الناس، فتجوّز به عنه بعلاقة اللزوم. فيكون المعنى:
أي في ذكر قصصهم وتنويه الله بهم شرف لهم. واختار الزمخشريّ أن المعنى: هذا نوع من الذكر وهو القرآن. أي فالتنوين للتنويع. والمراد بالذكر القرآن. فذكره إنما هو للانتقال من نوع من الكلام إلى آخر.
قال الزمخشريّ: لما أجرى ذكر الأنبياء وأتمه، وهو باب من أبواب التنزيل،
ونوع من أنواعه، وأراد أن يذكر على عقبه بابا آخر، وهو ذكر الجنة وأهلها، قال هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ جَنَّاتِ عَدْنٍ أي إقامة وخلود مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ أي متى جاءوها يرونها في انتظارهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ٥١]
مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١)
مُتَّكِئِينَ فِيها أي على الأرائك يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ أي مهما طلبوا وجدوا، وأحضر كما أرادوا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ٥٢]
وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢)
وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أي لا ينظرن إلى غير أزواجهن. أو يمنعن طرف الأزواج أن تنظر للغير، لشدة الحسن. وهو أبلغ. أو بمعنى حور الطرف جمع (أحور) والثوب المقصور يشبه بالحواريّ في بياضه ونصاعته أَتْرابٌ أي متساوية في السن والرتب، لا عجوز بينهن. جمع (ترب) بكسر فسكون. وهو من يولد معه في وقت واحد. كأنهما وقعا على التراب في زمان واحد. ف (ترب) فعل بمعنى مفاعل ومتارب. وكمثل بمعنى، مماثل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ٥٣]
هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣)
هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ أي لوقت جزائه. واللام تعليلية. فإن ما وعده لأجل طاعتهم وأعمالهم الصالحة. وهي تظهر بالحساب وتقع بعده. فجعل كأنه علة لتوقف إنجاز الوعد عليه. فالنسبة لليوم والحساب مجازية. ولو جعلت اللام بمعنى (بعد) كما في (كتب لخمس) سلم مما ذكر. أفاده الشهاب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ٥٤]
إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (٥٤)
إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ أي انقطاع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : الآيات ٥٥ الى ٥٦]
هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦)
هذا أي باب في وصف الجنة وأهلها. فهو مبتدأ خبر مقدر. أو الأمر هذا.
فهو خبر لمحذوف. أو مفعول لمحذوف وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ أي الفراش. مستعار من فراش النائم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ٥٧]
هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧)
هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وهو ما يغسق من صديد أهل النار. أي يسيل وجملة فَلْيَذُوقُوهُ معترضة بين المبتدأ وخبره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ٥٨]
وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨)
وَآخَرُ أي ومذوق، أو عذاب آخر مِنْ شَكْلِهِ أي هذا المذوق أو العذاب في الشدة والهوان أَزْواجٌ أي أجناس وأصناف. ثم بيّن ما يقال للرؤساء الطاغين، إذا أدخلوا النار.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ٥٩]
هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩)
هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ أي هذا جمع من أتباعكم وأشباهكم، أهل طبائع السوء والرذائل المختلفة، مقتحم معكم في مضايق المذلة ومداخل الهوان.
والاقتحام ركوب الشدة والدخول فيها. وقوله لا مَرْحَباً بِهِمْ دعاء من الرؤساء على أتباعهم. أو صفة ل (فوج). أو حال. أي مقولا فيهم لا مَرْحَباً بِهِمْ أي ما أتوا ربهم رحبا وسعة، لشدة عذابهم وكونهم في الضيق والضنك، واستيحاش بعضهم من بعض، لقبح المناظر وسوء المخابر إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ أي داخلوها بأعمالهم مثلنا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ٦٠]
قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠)
قالُوا أي الأتباع للرؤساء بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أي بل أنتم أحق بما
قلتم، لتضاعف عذابكم بضلالكم وإضلالكم أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا أي قدمتم العذاب بإضلالنا وإغوائنا.
قال القاشانيّ: وهذه المقاولات قد تكون بلسان المقال وقد تكون بلسان الحال. أي لأن الوضع لا يختص بالحقيقة. إلا أن الأظهر الأول. ويؤيده قوله تعالى بعد إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ فَبِئْسَ الْقَرارُ أي المستقر جهنم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ٦١]
قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١)
قالُوا أي الأتباع أيضا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ كقوله تعالى: رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ [الأحزاب: ٦٨].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ٦٢]
وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢)
وَقالُوا أي الطاغون أو الأتباع ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ يعنون فقراء المسلمين الذين يسترذلونهم ويسخرون بهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ٦٣]
أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣)
أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا قرئ بلفظ الإخبار على أنه صفة ل (رجالا). وبهمزة الاستفهام على أنه إنكار على أنفسهم وتأنيب لها في الاستسخار منهم. وقوله تعالى: أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ أي مالت عنهم كبرا، وتنحّت عنهم أنفة. والمعنى أيّ الفعلين فعلنا بهم، السخرية منهم أم الإزراء بهم، على معنى إنكار الأمرين على أنفسهم، تحسرا وندامة على ما فعلوا، وعلى ما حاق بهم وحدهم من سوء العذاب، وقيل (أم) بمعنى (بل) أي بل زاغت عنهم أبصارنا لخفاء مكانهم علينا في النار.
كأنهم يسلّون أنفسهم بالمحال، يقولون: أو لعلهم معنا في جهنم ولكن لم يقع بصرنا عليهم. فعند ذلك يعرفون أنهم في الدرجات العاليات وهو قوله عز وجل وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا، قالُوا نَعَمْ، فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [الأعراف: ٤٤]، إلى قوله: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ [الأعراف: ٤٩]، الآية. وقيل: (أم)
بمعنى (بل) أيضا، أي بل زاغت عنهم أبصارنا لكونهم في دار أخرى وهي دار النعيم. وقرئ (سخريّا) بضم السين وكسرها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ٦٤]
إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤)
إِنَّ ذلِكَ أي الذي حكي عنهم لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ أي لواقع وثابت.
وتَخاصُمُ بدل من (حقّ) أو خبر لمحذوف. وقرئ بالنصب على البدل من ذلِكَ قال الزمخشريّ: فإن قلت: لم سمي ذلك تخاصما؟ قلت: شبه تقاولهم وما يجري بينهم من السؤال والجواب، بما يجري بين المتخاصمين من نحو ذلك. ولأن قول الرؤساء لا مَرْحَباً بِهِمْ وقول أتباعهم بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ من باب الخصومة. فسمي التقاول كله تخاصما، لأجل اشتماله على ذلك. انتهى.
فكتب الناصر عليه: هذا يحقق ما تقدم من أن قوله: لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ من قول المتكبرين الكفار. وقوله تعالى: بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ من قول الأتباع. فالخصومة على هذا التأويل حصلت من الجهتين. فيتحقق التخاصم.
خلافا لمن قال إن الأول من كلام خزنة جهنم والثاني من كلام الأتباع. فإنه على هذا التقدير، إنما تكون الخصومة من أحد الفريقين. فالتفسير الأول أمكن وأثبت. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ٦٥]
قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥)
قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ أي رسول مخوّف وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ أي بلا ولد ولا شريك الْقَهَّارُ أي الغالب على خلقه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ٦٦]
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦)
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا أي من الخلق والعجائب الْعَزِيزُ أي الذي لا يغلب إذا عاقب العصاة الْغَفَّارُ أي لمن تاب وأناب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ٦٧]
قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧)
قُلْ هُوَ أي الذي أنذرتكم به من التوحيد ومن البعثة به نَبَأٌ عَظِيمٌ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ٦٨]
أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨)
أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ لتمادي غفلتكم. فإن العاقل لا يعرض عن مثله. كيف وقد قامت عليه الحجج الواضحة. أما على التوحيد، فما مرّ من آثار قدرته وصنعه البديع. أما على بعثته صلّى الله عليه وسلّم به، فقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ٦٩]
ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩)
ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ أي فإن إخباره عن محاورة الملائكة وما جرى بينهم، على ما ورد في الكتب المتقدمة، من غير سماع ومطالعة كتاب، لا يتصور إلا بالوحي.
قال القاشانيّ: وفرق بين اختصام الملأ الأعلى واختصام أهل النار بقوله في تخاصم أهل النار إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ وفي اختصام الملأ الأعلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ لأن ذلك حقيقيّ لا ينتهي إلى الوفاق أبدا. وهذا عارضيّ نشأ من عدم اطلاعهم على كمال آدم عليه السلام، الذي هو فوق كمالاتهم. وانتهى إلى الوفاق عند قولهم سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا [البقرة: ٣٢]، وقوله تعالى: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [البقرة: ٣٣]، على ما ذكر في البقرة عند تأويل هذه القصة. انتهى.
وبالجملة، فالاختصام المذكور في الآية، هو المشار إليه في قوله تعالى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة: ٣٠]، قال الرازيّ: وهو أحسن ما قيل فيه.
ثم قال: ولو قيل: كيف جازت مخاصمة الملائكة معه تعالى؟ قلنا: لا شك أنه جرى هناك سؤال وجواب. وذلك يشابه المخاصمة والمناظرة. والمشابهة علة لجواز المجاز. فلهذا السبب حسن إطلاق لفظ المخاصمة عليه. انتهى.
وملخصه: أن يَخْتَصِمُونَ استعارة تبعية ل (يتقاولون). وقيل: معنى الآية نفي علم الغيب عنه صلّى الله عليه وسلّم وردّ اقتراحهم عليه أن يخبرهم بما يحدث في الملأ الأعلى من التخاصم، كقوله تعالى: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ
[الأنعام: ٥٠]، وقوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ [الملك: ٢٦]، ولذا قال بعد:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ٧٠]
إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠)
إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ وقرئ إنما بالكسر على الحكاية.
تنبيهات:
الأول- قال الرازيّ: واعلم أن قوله أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ترغيب في النظر والاستدلال، ومنع من التقليد. لأن هذه المطالب مطالب شريفة عالية، فإن بتقدير أن يكون الإنسان فيها على الحق، يفوز بأعظم أبواب السعادة، وبتقدير أن يكون الإنسان فيها على الباطل، وقع في أعظم أبواب الشقاوة. فكانت هذه المباحث أنباء عظيمة ومطالب عالية بهية. وصريح العقل يوجب على الإنسان أن يأتي فيها بالاحتياط التام، وأن لا يكتفي بالمساهلة والمسامحة.
الثاني- قدمنا أن أكثر المفسرين على تأويل الاختصام بالتقاول في شأن آدم عليه السلام مع الملائكة. وقيل: مخاصمتهم مناظرتهم بينهم في استنباط العلم.
كما تجري المناظرة بين أهل العلم في الأرض. حكاه الكرمانيّ في (عجائبه).
وذهب ابن كثير إلى أنه عنى به ما كان في شأن آدم عليه السلام، وامتناع إبليس من السجود له، ومحاجته ربه في تفضيله عليه. وإن قوله تعالى بعد وَإِذْ قالَ رَبُّكَ [البقرة: ٣٠]، تفسير له. ولم أره مأثورا عن أحد. بل المأثور عن ابن عباس وغيره ما تقدم، من أنه في شأن آدم والملائكة. وهذا كله على إثبات علم التخاصم بالوحي.
بتقدير (ما كان لي من علم لولا الوحي) ولا تنس القول الآخر. والنظم الكريم يصدق على الكل بلا تناف. والله أعلم.
وقد جاء ذكر تخاصم الملأ الأعلى في
حديث أخرجه الإمام أحمد «١» عن معاذ رضي الله عنه قال: احتبس علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات غداة عن صلاة الصبح. حتى كدنا أن نتراءى قرن الشمس. فخرج صلّى الله عليه وسلّم سريعا. فثوّب بالصلاة. فصلى وتجوز في صلاته. فلما سلّم قال صلّى الله عليه وسلّم: كما أنتم. ثم أقبل إلينا فقال: إني قمت من الليل
(١) أخرجه في المسند ٥/ ٢٤٣.
فصليت ما قدّر لي. فنعست في صلاتي حتى استيقظت. فإذا أنا بربي عز وجل في أحسن صورة. فقال: يا محمد! أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري، يا رب! أعادها ثلاثا. فرأيته وضع كفه بين كتفيّ حتى وجدت برد أنامله بين صدري:
فتجلى لي كل شيء وعرفت. فقال: يا محمد! فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: في الكفارات. قال: وما الكفارات؟ قلت: نقل الأقدام إلي الجماعات، والجلوس في المساجد بعد الصلوات، وإسباغ الوضوء عند الكريهات. قال: وما الدرجات؟ قلت:
إطعام الطعام، ولين الكلام، والصلاة والناس نيام. قال: سل. قلت: اللهم! إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لي وترحمني. وإذا أردت فتنة بقوم، فتوفني غير مفتون. وأسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربني إلى حبك. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنها حق فادرسوها وتعلموها.
قال ابن كثير: هذا حديث المنام المشهور. ومن جعله يقظة فقد غلط. وهو في السنن من طرق. وهذا الحديث بعينه قد رواه الترمذيّ «١» من حديث جهضم بن عبد الله اليماميّ به، وقال: حسن صحيح.
ثم قال ابن كثير: وليس هذا الاختصام المذكور في القرآن. فإن هذا قد فسّر.
وأما الاختصام الذي في القرآن فقد فسر بعد هذا. انتهى. يعني قوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : الآيات ٧١ الى ٧٢]
إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢)
إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ أي فخرّوا له ساجدين تعظيما وتكريما، إذا عدلت خلقته وأحييته بنفخ الروح فيه. (فإذا) بدل من (إذا) الأولى مفصل لما أجمل قبلها من الاختصام، وهذا ما رآه الزمخشريّ وتابعه ابن كثير. وقدّر أبو البقاء (اذكر) وهو الأظهر عندي، ويعضده القول الثاني في الآية المتقدمة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : الآيات ٧٣ الى ٧٤]
فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤)
(١) أخرجه في: التفسير، ٣٨- سورة ص، ٤- حدثنا محمد بن بشار. [.....]
فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ أي تعظم وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ أي باستكباره أمر الله تعالى، واستكباره عن طاعته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ٧٥]
قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥)
قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أي بنفسي من غير توسط، كأب وأم أَسْتَكْبَرْتَ أي: أعرض لك التكبر والاستنكاف أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ أي عليه زائدا في المرتبة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ٧٦]
قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦)
قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ يعني أن الروح الحيوانيّ الناري أشرف من المادة الكثيفة البدنية. وعاب عنه ما تضمنته من الحكمة الإلهية، واللطيفة الربانية حتى تمسك بالقياس، وعصى الله تعالى في السجود.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ٧٧]
قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧)
قالَ فَاخْرُجْ مِنْها أي من الجنة أو السماء فَإِنَّكَ رَجِيمٌ أي مطرود من الرحمة ومحل الكرامة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ٧٨]
وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨)
وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ قال القاشانيّ: الرجيم واللعين من بعد عن الحضرة القدسية، المنزهة عن المواد الرجسية، بالانغماس في الغواشي الطبيعية، والاحتجاب بالكوائن الهيولانية. ولهذا وقّت اللعن بيوم الدين. وحدد نهايته به، لأن وقت البعث والجزاء هو زمان تجرد الروح عن البدن ومواده. وحينئذ لا يبقى تسلطه على الإنسان. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : الآيات ٧٩ الى ٨٣]
قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣)
قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ وهو القيامة الكبرى قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ وهم الذين أخلصهم الله لنفسه من أهل العناية عن ثوب الكدورات النفسية وحجب الأنانية، وصفي فطرتهم عن خلط ظلمة النشأة البشرية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : آية ٨٤]
قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤)
قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ جملة معترضة، للتأكيد، أي ولا أقول إلا الحق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : الآيات ٨٥ الى ٨٦]
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦)
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ أي تبعك في التعزز والاستكبار والإباء عن الحق والمحاجة في الباطل قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ أي على القرآن أو الوحي. قال القاشانيّ: أي لا غرض لي في ذلك. فإن أقوال الكامل المحقق بالحق مقصودة بالذات، غير معلولة بالغرض وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ قال الزمخشريّ: أي المتصنعين الذين يتحلون بما ليسوا من أهله، وما عرفتموني قط متصنعا ولا مدعيا ما ليس عندي، حتى أنتحل النبوة وأدّعي القرآن.
تنبيه:
في الآية ذم التكليف. وقد روى الشيخان «١» عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: يا أيها الناس! من علم شيئا فليقل به، ومن لم يعلم فليقل الله أعلم. فإن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم: الله أعلم. فإن الله عز وجل قال لنبيكم صلّى الله عليه وسلّم
(١) أخرجه البخاري في: التفسير، ٣٨- صورة ص، ٣- باب وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ، حديث ٥٧٠.
وأخرجه مسلم في: صفات المنافقين وأحكامهم، حديث رقم ٣٩ و ٤٠.
قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة ص (٣٨) : الآيات ٨٧ الى ٨٨]
إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨)
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ أي عظة وتذكير لهم. وهذا كقوله لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام: ١٩]، وقوله سبحانه وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هود: ١٧]، وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ أي عند ظهور الإسلام وانتشاره، ودخول الناس فيه أفواجا أفواجا، من صحة خبره، وإنه الحق والصدق. وهذا من أجلّ معجزات القرآن، لأنه من الغيوب التي ظهر مصداقها، إذ كان زمن الإخبار به زمن قلة من المؤمنين، وخوف من المشركين. فلم يمض ردح من الزمن حتى أبدل الله قلتهم كثرة، وضعفهم قوّة، وخوفهم أمنا، وكمونهم ظهورا وانتشارا. فصدق الله العظيم، وصدق نبيّه الكريم، وحقت كلمة الله على الكافرين، والحمد لله رب العالمين.
277

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الزّمر
سميت بها لاشتمالها على الآية التي ذكر فيها زمر الفريقين، المشيرة إلى تفصيل الجزاء وإلزام الحجة وبطلان المعذرة. وهذا من أعظم مقاصد القرآن. قاله المهايميّ. وهي مكية، واستثنى بعضهم ثلاث آيات قُلْ يا عِبادِيَ [الزمر: ٥٣]، إلخ ذهابا إلى أنها نزلت في وحشي قاتل حمزة على ما روي. قيل، ورابعة وهي اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ [الزمر: ٢٣]، حكاه ابن الجوزيّ، وتقدم الكلام في مثل هذا.
وآياتها خمس وسبعون.
أخرج النسائيّ «١» عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يصوم حتى نقول ما يريد أن يفطر. ويفطر حتى نقول ما يريد أن يصوم.
وكان صلّى الله عليه وسلّم يقرأ في كل ليلة بني إسرائيل والزمر.
(١) أخرجه في: الصيام، ٣٤- باب الاختلاف على محمد بن إبراهيم فيه.
278
Icon