تفسير سورة ص

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة ص من كتاب مختصر تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
- ١ - ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ
- ٢ - بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ
- ٣ - كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ
أَمَّا الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إعادته ههنا، وقوله تعالى ﴿وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ﴾ أَيْ وَالْقُرْآنِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى مَا فِيهِ ذِكْرٌ لِلْعِبَادِ، وَنَفْعٌ لَهُمْ فِي المعاش والمعاد، قال الضحّاك ﴿ذِي الذكر﴾ كقوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذكركم﴾ أي تذكيركم (وبه قال قتادة واختاره ابن جرير رحمة الله).
وقال ابن عباس ﴿ذِي الذِّكْرِ﴾ ذِي الشَّرَفِ أَيْ ذِي الشَّأْنِ وَالْمَكَانَةِ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ فَإِنَّهُ كِتَابٌ شَرِيفٌ، مُشْتَمِلٌ عَلَى التَّذْكِيرِ وَالْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ، وَاخْتَلَفُوا في جواب هذا القسم: فقال قَتَادَةُ: جَوَابُهُ ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ﴾ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقِيلَ: جَوَابُهُ مَا تضمنه سياق السورة بكمالها، والله أعلم، وقوله تعالى: ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ﴾ أَيْ إن هذا القرآن لذكرى لِمَنْ يَتَذَكَّرُ وَعِبْرَةً لِمَنْ يَعْتَبِرُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ الْكَافِرُونَ لِأَنَّهُمْ ﴿فِي عِزَّةٍ﴾ أَيِ استكباراً عنه وحمية، ﴿وَشِقَاقٍ﴾ أي ومخالفة لَهُ وَمُعَانَدَةٍ وَمُفَارَقَةٍ، ثُمَّ خَوَّفَهُمْ مَا أَهْلَكَ به الأمم المكذبة قبلهم فقال تَعَالَى: ﴿كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ﴾ أَيْ مِنْ أُمَّةٍ مُكَذِّبَةٍ، ﴿فَنَادَواْ﴾ أَيْ حِينَ جَاءَهُمُ العذاب استغاثوا وجأروا إلى الله تعالى، وَلَيْسَ ذَلِكَ بمُجْدٍ عَنْهُمْ شَيْئًا، كَمَا قَالَ عزَّ وجلَّ: ﴿فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ﴾ أي يهربون، قال التميمي: سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن قول الله تبارك وتعالى: ﴿فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ﴾! قَالَ: لَيْسَ بِحِينِ نداء ولا نزعٍ ولا فرار، وعن ابن عباس: ليس بحين مغاث، نادوا بالنداء حِينَ لَا يَنْفَعُهُمْ، وَأَنْشَدَ:
تذكَّرَ لَيْلَى لَاتَ حين تذكر
وقال محمد بن كعب: نَادَوْا بِالتَّوْحِيدِ حِينَ تَوَلَّتِ الدُّنْيَا عَنْهُمْ، وَاسْتَنَاصُوا لِلتَّوْبَةِ حِينَ تَوَلَّتِ الدُّنْيَا عَنْهُمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ: لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ أَرَادُوا التَّوْبَةَ فِي غَيْرِ حِينِ النِّدَاءِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ﴾ ليس بحين فرار ولا إجابة، وعن زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: ﴿وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ﴾ وَلَا نِدَاءَ فِي غَيْرِ حِينِ النِّدَاءِ، وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ، وَهِيَ (لَاتَ) هِيَ (لَا) الَّتِي لِلنَّفْيِ زِيدَتْ مَعَهَا التَّاءُ، كَمَا تُزَادُ فِي ثُمَّ، فَيَقُولُونَ: ثمت، ورب، فيقولون: ربت.
196
وَأَهْلُ اللُّغَةِ يَقُولُونَ: النَّوْصُ: التَّأَخُّرُ، وَالْبَوْصُ: التَّقَدُّمُ، ولهذا قال تبارك وتعالى: ﴿وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ﴾ أَيْ لَيْسَ الْحِينُ حِينَ فرار ولا ذهاب، والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب.
197
- ٤ - وَعَجِبُوا أَن جَآءَهُم مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ
- ٥ - أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ
- ٦ - وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاْصْبِرُواْ عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ
- ٧ - مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخرة إِنْ هذا إِلاَّ اختلاق
- ٨ - أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ
- ٩ - أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ
- ١٠ - أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُواْ فِى الْأَسْبَابِ
- ١١ - جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّن الْأَحْزَابِ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ في تعجبهم من بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشيراً ونذيراً، كما قال عزَّ وجلَّ: ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أنذر الناس﴾؟ الآية، وقال جلَّ وعلا ههنا: ﴿وَعَجِبُوا أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ﴾ أَيْ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ، وَقَالَ الْكَافِرُونَ ﴿هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً﴾ أي أزعم أم الْمَعْبُودَ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلَّا هُوَ؟ أَنْكَرَ الْمُشْرِكُونَ ذَلِكَ قَبَّحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَتَعَجَّبُوا مِنْ تَرْكِ الشِّرْكِ بِاللَّهِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا قَدْ تَلَقَّوْا عن آبائهم عبادة الأوثان وأشربته قلووبهم، فلما دَعَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى خلع ذلك من قلوبهم وإفراد الآله بِالْوَحْدَانِيَّةِ، أَعَظَمُوا ذَلِكَ وَتَعَجَّبُوا، وَقَالُوا: ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ﴾ وَهُمْ سَادَتُهُمْ وَقَادَتُهُمْ وَرُؤَسَاؤُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ قائلين ﴿امْشُوا﴾ أَيِ اسْتَمِرُّوا عَلَى دِينِكُمْ، ﴿وَاْصْبِرُواْ عَلَى آلِهَتِكُمْ﴾، وَلَا تَسْتَجِيبُوا لِمَا يَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ من التوحيد، وقوله تعالى ﴿إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ﴾ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّ هَذَا الَّذِي يَدْعُونَا إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ التَّوْحِيدِ لَشَيْءٌ يُرِيدُ بِهِ الشَّرَفَ عَلَيْكُمْ وَالِاسْتِعْلَاءَ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُ منكم أتباع ولسنا نجيبه إليه.
(ذكر سبب نزول هذه الآيات الكريمات).
روى ابن جرير، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا مَرِضَ أَبُو طَالِبٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَهْطٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِيهِمْ (أَبُو جَهْلٍ) فَقَالُوا: إِنَّ ابْنَ أَخِيكَ يَشْتُمُ آلِهَتَنَا، وَيَفْعَلُ وَيَفْعَلُ وَيَقُولُ وَيَقُولُ، فَلَوْ بَعَثْتَ إِلَيْهِ فَنَهَيْتَهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَخَلَ الْبَيْتَ، وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَبِي طَالِبٍ قَدْرُ مَجْلِسِ رجُل، قال: فخشي أبو جهل، لعنه الله، إِنْ جَلَسَ إِلَى جَنْبِ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يَكُونَ أَرَقَّ لَهُ عَلَيْهِ، فَوَثَبَ فَجَلَسَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، وَلَمْ يَجِدْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجْلِسًا قُرْبَ عَمِّهِ، فَجَلَسَ عِنْدَ الْبَابِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو طَالِبٍ: أَيِ ابن أخي، ما بال قومك يشكونك ويزعمون أَنَّكَ تَشْتُمُ آلِهَتَهُمْ وَتَقُولُ وَتَقُولُ؟ قَالَ: وَأَكْثَرُوا عَلَيْهِ مِنَ الْقَوْلِ، وَتَكَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا عَمِّ، إِنِّي أُرِيدُهُمْ عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يَقُولُونَهَا تَدِينُ لَهُمْ بِهَا الْعَرَبُ، وَتُؤَدِّي إِلَيْهِمْ بِهَا الْعَجَمُ الْجِزْيَةَ»، ففزعوا لكلمته ولقوله، فقال القوم: كلمة واحدة نعم وأبيك عشراً (أي نعطيك بدل الكلمة الواحدة عشر كلمات)، فَقَالُوا: وَمَا هِيَ؟ وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: وَأَيُّ كلمة هي يا ابن أخي؟ قال
197
صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ»، فَقَامُوا فَزِعِينَ يَنْفُضُونَ ثِيَابَهُمْ، وَهُمْ يَقُولُونَ: ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِداً! إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ ونزلت من هذا الموضع إلى قوله: ﴿بَلْ لَّمَّا يَذُوقُواْ عذاب﴾ (أخرجه ابن جرير ورواه أحمد والنسائي والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما).
وَقَوْلُهُمْ: ﴿مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِى الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ﴾ أَيْ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا الَّذِي يَدْعُونَا إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ مِنَ التَّوْحِيدِ فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ، قَالَ مجاهد وقتادة: يعنون دين قريش، وقال السدي: يعنون النصرانية، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِى الْمِلَّةِ الآخرة﴾ يعني دين النَّصْرَانِيَّةَ، قَالُوا: لَوْ كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ حَقًّا لأخبرتنا بِهِ النَّصَارَى ﴿إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلَاقٌ﴾ قَالَ مجاهد: كذب، وقال ابن عباس: تخرص، وقولهم: ﴿أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا﴾ يَعْنِي أَنَّهُمْ يَسْتَبْعِدُونَ تخصيصه بإنزال القرآن عليه من بينهم كما قال فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ﴾، وَلِهَذَا لَمَّا قَالُوا هَذَا الَّذِي دَلَّ عَلَى جَهْلِهِمْ وَقِلَّةِ عَقْلِهِمْ، فِي اسْتِبْعَادِهِمْ إِنْزَالَ الْقُرْآنِ عَلَى الرَّسُولِ مِنْ بَيْنِهِمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿بَل لَّما يَذُوقُواْ عَذَابِ﴾ أَيْ إِنَّمَا يَقُولُونَ هذا، لأنهم ما ذاقوا عذاب الله تعالى ونقمته، وسيعلمون غِبَّ ما قالوا وما كذبوا به.
ثم قال تعالى مُبَيِّنًا أَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ فِي مُلْكِهِ، الْفَعَّالُ لِمَا يشاء، الَّذِي يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيُنَزِّلُ الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عباده، وأنَّ الْعِبَادَ لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا مِنَ الْأَمْرِ وَلَيْسَ إِلَيْهِمْ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْمُلْكِ وَلَا مثقال ذرة، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ: ﴿أَمْ عِنْدَهُمْ
خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ﴾
أَيِ الْعَزِيزِ الَّذِي لَا يُرَامُ جَنَابُهُ، الْوَهَّابِ الَّذِي يُعْطِي ما يريد لمن يريد، وهذه الآية الكريمة شبيهة بقوله تَعَالَى: ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً * أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾ الْآيَةَ، كما أخبر عزَّ وجلَّ عَنْ قَوْمِ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ قَالُوا: ﴿أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا، بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ * سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الكذاب الأشر﴾ وقوله تعالى: ﴿أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُواْ فِى الْأَسْبَابِ﴾ أَيْ إِنْ كَانَ لَهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْعَدُوا فِي الْأَسْبَابِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي طُرُقَ السَّمَاءِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: فَلْيَصْعَدُوا إِلَى السماء السابعة، ثم قال عزَّ وجلَّ: ﴿جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّن الْأَحْزَابِ﴾ أَيْ هؤلاء الجند المكذبون سَيُهْزَمُونَ وَيُغْلَبُونَ، وَيُكْبَتُونَ كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قبلهم من الأحزاب المكذبين، وهذه الآية كقوله جلَّت عظمته: ﴿أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ ويولون الدبر﴾ كان ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ ﴿بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أدهى وأمر﴾.
198
- ١٢ - كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ
- ١٣ - وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ
- ١٤ - إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ
- ١٥ - وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ
- ١٦ - وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحساب
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ هَؤُلَاءِ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ وَمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ وَالنَّقَمَاتِ في مخالفة الرسل وتكذيب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ قِصَصُهُمْ مَبْسُوطَةً فِي أَمَاكِنَ مُتَعَدِّدَةٍ، وقوله تعالى: {أولئك
198
الْأَحْزَابُ} أَيْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْكُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وأكثر أموالاً وأولاداً، فما دَفَعَ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ، ولهذا قال عزَّ وجلَّ: ﴿إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ﴾ فجعل علة إهلاكهم هُوَ تَكْذِيبُهُمْ بِالرُّسُلِ، فَلْيَحْذَرِ الْمُخَاطَبُونَ مِنْ ذَلِكَ أشد الحذر، وقوله تَعَالَى: ﴿وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ﴾ قال زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَيْ لَيْسَ لَهَا مَثْنَوِيَّةٌ، أَيْ مَا يَنظُرُونَ ﴿إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا﴾ أَيْ فَقَدِ اقْتَرَبَتْ وَدَنَتْ وَأَزِفَتْ، وَهَذِهِ الصَّيْحَةُ هِيَ نَفْخَةُ الْفَزَعِ التي يأمر الله تعالى إِسْرَافِيلَ أَنْ يُطَوِّلَهَا، فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فَزِعَ إِلَّا مَنِ استثنى الله عزَّ وجلَّ، وقوله جلَّ جلاله: ﴿وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحساب﴾ هذا إنكار من الله تعالى عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي دُعَائِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِتَعْجِيلِ الْعَذَابِ، فَإِنَّ القِط هُوَ الْكِتَابُ، وَقِيلَ: هُوَ الْحَظُّ وَالنَّصِيبُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ: سألوا تعجيل العذاب كَمَا قَالُواْ: ﴿اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ وَقِيلَ: سَأَلُوا تَعْجِيلَ نَصِيبِهِمْ مِنَ الْجَنَّةِ إِنْ كانت موجودة ليلقوا ذَاكَ فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا خَرَجَ هَذَا مِنْهُمْ مَخْرَجَ الِاسْتِبْعَادِ وَالتَّكْذِيبِ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: سَأَلُوا تَعْجِيلَ مَا يَسْتَحِقُّونَهُ مِنَ الْخَيْرِ أَوِ الشَّرِّ في الدنيا، وهذا الذي قاله جيد، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْكَلَامُ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِهْزَاءِ وَالِاسْتِبْعَادِ قَالَ اللَّهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آمِرًا لَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى أَذَاهُمْ، وَمُبَشِّرًا لَهُ عَلَى صَبْرِهِ بِالْعَاقِبَةِ وَالنَّصْرِ والظفر.
199
- ١٧ - اصبر على مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ
- ١٨ - إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ
- ١٩ - وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ
- ٢٠ - وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ
يَذْكُرُ تَعَالَى عَنْ عبده ورسوله (داود) عليه الصلاة والسلام إِنَّهُ كان ذا أيد، و (الأيد) الْقُوَّةُ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْأَيْدُ الْقُوَّةُ، وَقَرَأَ ابْنُ زَيْدٍ: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بأيد وإنا لموسعون﴾ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْأَيْدُ، الْقُوَّةُ فِي الطَّاعَةِ. وَقَالَ قتادة: أعطي داود عليه الصلاة والسلام قُوَّةً فِي الْعِبَادَةِ وَفِقْهًا فِي الْإِسْلَامِ، وَقَدْ ذكر لنا أنه عليه الصلاة والسلام كَانَ يَقُومُ ثُلُثَ اللَّيْلِ، وَيَصُومُ نِصْفَ الدَّهْرِ، وَهَذَا ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَحَبُّ الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله عزَّ وجلَّ صِيَامُ دَاوُدَ، كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ
وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَكَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا ولا يفر إذا لاقى»
(أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة) وَإِنَّهُ كَانَ (أوَّاباً) وَهُوَ الرَّجاع إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ في جميع أموره وشؤونه، وقوله تعالى: ﴿إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يسبَّحن بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ﴾ أَيْ إِنَّهُ تَعَالَى سَخَّرَ الْجِبَالَ تُسَبِّحُ مَعَهُ عِنْدَ إِشْرَاقِ الشَّمْسِ وَآخِرِ النَّهَارِ، كَمَا قَالَ عزَّ وجلَّ: ﴿يا جبال أَوِّبِي مَعَهُ والطير) وَكَذَلِكَ كَانَتِ الطَّيْرُ تُسَبِّحُ بِتَسْبِيحِهِ وَتُرَجِّعُ بِتَرْجِيعِهِ، إِذَا مَرَّ بِهِ الطَّيْرُ وَهُوَ سَابِحٌ فِي الْهَوَاءِ، فَسَمِعَهُ وَهُوَ يَتَرَنَّمُ بِقِرَاءَةِ الزَّبُورِ لَا يستطيع الذهاب بل يقف في الهواء، ويسبح مَعَهُ وَتُجِيبُهُ الْجِبَالُ الشَّامِخَاتُ تُرَجِّعُ مَعَهُ وَتُسَبِّحُ تبعاً له.
ولهذا قال عزَّ وجلَّ: {وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً﴾
أَيْ مَحْبُوسَةً فِي الْهَوَاءِ، ﴿كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ﴾ أَيْ مُطِيعٌ يُسَبِّحُ تَبَعًا لَهُ، قال سعيد بن جبير وقتادة ﴿كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ﴾ أي مطيع، وقوله تعالى: ﴿وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ﴾ أَيْ جَعَلْنَا لَهُ مُلْكًا كَامِلًا مِنْ جَمِيعِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُلُوكُ، قَالَ مُجَاهِدٍ: كَانَ أَشَدَّ أَهْلِ الدُّنْيَا سُلْطَانًا، وَقَالَ السدي: كان يحرسه كل يوم أربعة آلاف، وقوله جلَّ وعلا: ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي الْفَهْمَ وَالْعَقْلَ والفطنة، وعنه: ﴿الحكمة﴾
199
العدل، وَقَالَ قَتَادَةُ: كِتَابَ اللَّهِ وَاتِّبَاعَ مَا فِيهِ، وقال السُّدي: ﴿الحكمة﴾ النبوة، وقوله جلَّ جلاله: ﴿وَفَصْلَ الْخِطَابِ﴾. قَالَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي وَالشَّعْبِيُّ: فَصْلُ الْخِطَابِ: الشُّهُودُ وَالْأَيْمَانُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: شَاهِدَانِ عَلَى المدعي أو يمين المدعي عليه، وقال مجاهد والسدي: هو إصابة القضاء وفهم ذلك، وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: هُوَ الْفَصْلُ فِي الْكَلَامِ وفي الحكم، وهذا يشمل كل ذلك، وهو المراد واختاره ابن جرير، وعن أبي موسى رضي الله عنه، أَوَّلُ مَنْ قَالَ: (أَمَّا بَعْدُ) دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ فَصْلُ الْخِطَابِ، وَكَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ: فَصْلُ الْخِطَابِ: أَمَّا بَعْدُ.
200
- ٢١ - وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ
- ٢٢ - إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ
- ٢٣ - إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ
- ٢٤ - قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ
- ٢٥ - فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ
قد ذكر المفسرون ها هنا قِصَّةً أَكْثَرُهَا مَأْخُوذٌ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِيهَا عَنِ الْمَعْصُومِ حَدِيثٌ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ، وَلَكِنْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ هُنَا حَدِيثًا، لَا يَصِحُّ سَنَدُهُ، لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ عن أنَس رضي الله عنه، وَيَزِيدُ وَإِنْ كَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ، لَكِنَّهُ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ؛ فَالْأُولَى أَنْ يُقْتَصَرَ عَلَى مُجَرَّدِ تِلَاوَةِ هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَأَنْ يُرَدَّ عِلْمُهَا إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ، وما تضمن فهو حق أيضاً (زعموا أن المراد بالخصم جبريل وميكائيل، وضمير الجمع في: تسوروا، يرجع إليهما، حملاً على لفظ الخصم. والنعجة: كناية عن المرأة، والمراد: أم سليمان، وكانت أمرأة أوريا قبل داود، إلى آخر ما هنالك من أقوال غير صحيحة)، وقوله تعالى: ﴿فَفَزِعَ مِنْهُمْ﴾ إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ فِي مِحْرَابِهِ، وَهُوَ أَشْرَفُ مَكَانٍ فِي دَارِهِ، وكان قد أمر أن لا يَدْخُلَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَلَمْ يَشْعُرْ إِلَّا بِشَخْصَيْنِ قَدْ تَسَوَّرَا عَلَيْهِ الْمِحْرَابَ، أَيِ احتاطا به، يسألانه عن شأنهما، وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾ أَيْ غَلَبَنِي، يُقَالُ: عَزَّ يعز إذا قهر وغلب، وقوله تعالى: ﴿وَظَنَّ داود أَنَّمَا فَتَنَّاهُ﴾ قال ابن عباس: أي اختبرناه، وقوله تعالى ﴿وَخَرَّ رَاكِعاً﴾ أي ساجداً، ﴿وَأَنَابَ﴾ أي رجع وتاب وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ رَكَعَ أَوَّلًا ثُمَّ سَجَدَ بَعْدَ ذلك، ﴿فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ﴾ أَيْ مَا كَانَ مِنْهُ مما يقال فيه «حَسَنَاتِ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ».
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِي سَجْدَةِ (ص) هَلْ هِيَ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: الْجَدِيدُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ، بَلْ هِيَ سجدة شكر؛ والدليل على ذلك ما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قال: السجدة فِي (ص) لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ، وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسجد فيها (أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي والإمام أحمد، وقال الترمذي: حسن صحيح)،
200
وروى البخاري عند تفسيرها عَنِ الْعَوَامِّ قَالَ: سَأَلْتُ مُجَاهِدًا عَنْ سَجْدَةِ (ص) فقال: سألت ابن عباس رضي الله عنهما مِنْ أَيْنُ سَجَدْتَ؟ فَقَالَ: أَوَمَا تَقْرَأُ ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِهِ داود وسليمان﴾، ﴿أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده﴾؟ فكان داود عليه الصلاة والسلام مِمَّنْ أُمِرَ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقتدي به، فسجدها داود عليه الصلاة والسلام، فَسَجَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقوله تعالى: ﴿وَإِن لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنُ مَآبٍ﴾ أَيْ وإن يوم لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَقُرْبَةً يُقَرِّبُهُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ بها، وحسن مرجع، وهو الدرجات العالية فِي الْجَنَّةِ لِتَوْبَتِهِ وَعَدْلِهِ التَّامِّ فِي مُلْكِهِ، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ: «الْمُقْسِطُونَ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يُقْسِطُونَ فِي أَهْلِيهِمْ وَمَا وُلُّوا». وعن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَقْرَبَهُمْ مِنْهُ مَجْلِسًا إِمَامٌ عَادِلٌ، وَإِنَّ أَبْغَضَ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ يوم القيامة وأشدهم عذاباً إمام جائر» (أخرجه الإمام أحمد والترمذي).
201
- ٢٦ - يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الْحِسَابِ
هَذِهِ وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ لِوُلَاةِ الْأُمُورِ، أَنْ يَحْكُمُوا بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَلاَ يعدلوا عنه فيضلوا عن سبيل الله، وقد توعد تبارك وتعالى مَنْ ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَتَنَاسَى يَوْمَ الْحِسَابِ، بالوعيد الأكيد والعذاب الشديد، روى ابن أبي حاتم بسنده عن أبي زُرْعَةَ - وَكَانَ قَدْ قَرَأَ الْكِتَابَ - أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ لَهُ: أَيُحَاسَبُ الْخَلِيفَةُ فَإِنَّكَ قَدْ قَرَأْتَ الْكِتَابَ الْأَوَّلَ وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ وَفَقِهْتَ؟ فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَقُولُ؟ قَالَ: قل في أمان الله، قَلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْتَ أَكْرَمُ عَلَى الله أو داود عليه الصلاة والسلام؟ إن الله تعالى جَمَعَ لَهُ النُّبُوَّةَ وَالْخِلَافَةَ ثُمَّ تَوَعَّدَهُ فِي كتابه فقال تعالى: ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله﴾ الآية (أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي زرعة)، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: ﴿لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ هَذَا مِنَ الْمُقَدَّمِ وَالْمُؤَخَّرِ: لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ يَوْمَ الْحِسَابِ بِمَا نَسُوا، وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا تَرَكُوا أَنْ يعملوا ليوم الحساب، وهذا القول أظهر، والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب.
- ٢٧ - وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ
- ٢٨ - أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ
- ٢٩ - كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الْأَلْبَابِ
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ مَا خَلَقَ الْخَلْقَ عبثاً، وإنما خلقهم ليعبدوه ويوحّده، ثم يجمعهم يوم الْجَمْعِ فَيُثِيبُ الْمُطِيعَ وَيُعَذِّبُ الْكَافِرَ، وَلِهَذَا قَالَ تبارك وتعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾، أَيِ الَّذِينَ لَا يَرَوْنَ بَعْثًا وَلَا مَعَادًا، وَإِنَّمَا يَعْتَقِدُونَ هَذِهِ الدَّارَ فَقَطْ، ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴾ أَيْ وَيْلٌ لَهُمْ
201
يَوْمَ مَعَادِهِمْ وَنَشُورِهِمْ مِنَ النَّارِ الْمُعَدَّةِ لَهُمْ، ثم بيَّن تعالى أنه عزَّ وجلَّ من عدله وحكمته لا يساوي بين المؤمنين والكافرين، فقال تَعَالَى: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ * أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾ أَيْ لَا نَفْعَلُ ذَلِكَ، وَلَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَلَا بُدَّ مِنْ دَارٍ أُخْرَى يُثَابُ فِيهَا هَذَا الْمُطِيعُ، ويعاقب فيها هذا الفاجر، وتدل الْعُقُولَ السَّلِيمَةَ وَالْفِطَرَ الْمُسْتَقِيمَةَ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مَعَادٍ وَجَزَاءٍ، فَإِنَّا نَرَى الظَّالِمَ الْبَاغِيَ يَزْدَادُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ وَنَعِيمُهُ وَيَمُوتُ كَذَلِكَ، وَنَرَى الْمُطِيعَ الْمَظْلُومَ يَمُوتُ بِكَمَدِهِ، فَلَا بُدَّ فِي حِكْمَةِ الْحَكِيمِ الْعَلِيمِ الْعَادِلِ، الَّذِي لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ إِنْصَافِ هَذَا مِنْ هَذَا، وَإِذَا لَمْ يَقَعْ هَذَا فِي هَذِهِ الدَّارِ فَتَعَيَّنَ أَنَّ هُنَاكَ دَارًا أُخْرَى، لِهَذَا الْجَزَاءِ وَالْمُوَاسَاةِ، وَلَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ يُرْشِدُ إِلَى المقاصد الصحيحة والمآخذ العقلية الصريحة قال تَعَالَى: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الْأَلْبَابِ﴾ أَيْ ذَوُو الْعُقُولِ، وَهِيَ (الْأَلْبَابُ) جَمْعُ لُبٍّ وَهُوَ الْعَقْلُ، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: وَاللَّهِ مَا تَدَبَّرَهُ بِحِفْظِ حُرُوفِهِ، وَإِضَاعَةِ حُدُودِهِ، حَتَّى إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَقُولُ: قَرَأْتُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ مَا يُرَى لَهُ الْقُرْآنُ فِي خُلُقٍ وَلَا عَمَلٍ (رواه ابن أبي حاتم عن الحسن البصري).
202
- ٣٠ - وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ
- ٣١ - إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ
- ٣٢ - فَقَالَ إني أحببت حُبَّ الخير عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ
- ٣٣ - رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا أَنَّهُ وَهَبَ لداود (سليمان) أي نبياً، كما قال عزَّ وجلَّ: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ﴾ أَيْ فِي النُّبُوَّةِ، وَإِلَّا فَقَدَ كَانَ لَهُ بَنُونَ غَيْرُهُ، فَإِنَّهُ قَدْ كان عنده مائة امرأة حرائر، وقوله تعالى: ﴿نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ ثَنَاءٌ عَلَى سُلَيْمَانَ بِأَنَّهُ كَثِيرُ الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ وَالْإِنَابَةِ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وقوله تعالى: ﴿إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ﴾ أَيْ إذ عرض على سليمان عليه الصلاة والسلام فِي حَالِ مَمْلَكَتِهِ وَسُلْطَانِهِ الْخَيْلُ الصَّافِنَاتُ، قَالَ مُجَاهِدٌ: وَهِيَ الَّتِي تَقِفُ عَلَى ثَلَاثٍ وَطَرَفِ حافر الرابعة، والجياد السراع (وكذلك قال غير واحد من السلف)، وعن إبراهيم التيمي قال: كانت النخيل الَّتِي شَغَلَتْ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِشْرِينَ ألف فرس فعقرها، وعن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ تبوك أو خبير وَفِي سَهْوَتِهَا سَتْرٌ، فَهَبَّتِ الرِّيحُ، فَكَشَفَتْ نَاحِيَةَ الستر عن بنات لعائشة رضي الله عنها لعب، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا هَذَا يَا عائشة؟» قالت رضي الله عنها: بَنَاتِي، وَرَأَى بَيْنَهُنَّ فَرَسًا لَهُ جَنَاحَانِ مِنْ رقاع، فقال صلى الله عليه وسلم: «ما هذا الذي أرى أوسطهن؟» قال رضي الله عنها: فرس، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فرس له جناحان» قالت رضي الله عنها:! أما سمعت أن سليمان عليه الصلاة والسلام كانت له خيل لها أجنحة؟ قالت رضي الله عنها: فضحك ﷺ حتى رِأيت نواجذه (أخرجه أبو داود في السنن من حديث عائشة رضي الله عنها). وقوله تبارك وتعالى: ﴿فقال إني أحببت حُبَّ الخير عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ﴾ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْمُفَسِّرِينَ: أَنَّهُ اشْتَغَلَ بِعَرْضِهَا حَتَّى فَاتَ وَقْتُ صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَالَّذِي يُقْطَعُ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْهَا عَمْدًا، بَلْ نِسْيَانًا، كَمَا شُغِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ عَنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ، حَتَّى صَلَّاهَا بَعْدَ الغروب؛ وذلك ثابت
202
في الصحيحين عن جابر رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَجَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ، وَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا كِدْتُ أُصَلِّي الْعَصْرَ حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ تَغْرُبُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَا»، فَقَالَ: فَقُمْنَا إِلَى بطحان فتوضأ نبي الله ﷺ لِلصَّلَاةِ وَتَوَضَّأْنَا لَهَا، فَصَلَّى الْعَصْرَ بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهَا الْمَغْرِبَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ سَائِغًا فِي مِلَّتِهِمْ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ لعذر الغزو والقتال، والأول أقرب، لأنه قال بعده: ﴿رُدُّوهَا عليَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ﴾ قَالَ الحسن البصري: لَا وَاللَّهِ لَا تَشْغَلِينِي عَنْ عِبَادَةِ رَبِّي آخِرَ مَا عَلَيْكِ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَعُقِرَتْ، وقال السدي: ضرب أعناقها وعراقيبها بالسيوف (وروي عن ابن عباس أنه قال: جعل يمسح أعراف الخيل وعراقيبها بيده حباً لها، والأظهر قول الحسن والسدي)، ولهذا عوضه الله عزَّ وجلَّ ما هو خير منها، وهو الرِّيحُ الَّتِي تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ، غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ، فَهَذَا أَسْرَعُ وَخَيْرٌ من الخيل.
203
- ٣٤ - وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ
- ٣٥ - قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ
- ٣٦ - فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ
- ٣٧ - وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ
- ٣٨ - وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ
- ٣٩ - هَذَا عَطَآؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ
- ٤٠ - وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ﴾ أَيِ اخْتَبَرْنَاهُ بِأَنْ سَلَبْنَاهُ الْمُلْكَ، ﴿وَأَلْقَيْنَا على كرسيه جسداً﴾ (رويت عدة روايات مطولة عن موضوع (فتنة سليمان) وكلها إسرائيليات، ومن أغربها وأنكرها ما رواه ابن أبي حاتم إن سليمان عليه السلام أراد أَنْ يَدْخُلَ الْخَلَاءَ فَأَعْطَى الْجَرَادَةَ خَاتَمَهُ وَكَانَتِ أحب نسائه إليه، فجاءها الشيطان بصورة سليمان فقال لها: هاتي خاتمي، فظنته سليمان فَأَعْطَتْهُ إِيَّاهُ، فَلَمَّا لَبِسَهُ دَانَتْ لَهُ الْإِنْسُ والجن والشياطين.. وكل هذه القصص لا تصح لأنها من الإسرائيليات وقد ذكرها ابن كثير وبيّن غرابتها ونكارتها، ولذلك ضربنا صفحاً عنها). وقال ابن عباس والحسن وقتادة: يَعْنِي شَيْطَانًا، ﴿ثُمَّ أَنَابَ﴾ أَيْ رَجَعَ إِلَى مُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ وَأُبَّهَتِهِ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَكَانَ اسم ذلك الشيطان صخراً، وقيل: آصف، ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ﴾ قَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ لَا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِي أَيْ لَا يَصْلُحُ لِأَحَدٍ أَنْ يسلبنيه بعدي، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ سَأَلَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مُلْكًا لَا يَكُونُ لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ مِنَ الْبَشَرِ مِثْلُهُ، وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ السِّيَاقِ مِنَ الْآيَةِ، وبذلك وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ مِنْ طُرُقٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ الْبُخَارِيُّ عند تفسير هذه الآية، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النبي ﷺ قال: "إن عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ تَفَلَّتَ عليَّ الْبَارِحَةَ - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - لِيَقْطَعَ عَلَيَّ الصَّلَاةَ فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ تبارك وتعالى مِنْهُ، وَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تُصْبِحُوا وَتَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ، فذكرت قول أخي سليمان عليه الصلاة والسلام: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي﴾ " قَالَ رَوْحٌ: فَرَدَّهُ خاسئاً. وروى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ: «أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، ثُمَّ قَالَ، أَلْعَنُكَ بِلَعْنَةِ اللَّهِ» ثَلَاثًا، وَبَسَطَ يَدَهُ كَأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ شَيْئًا، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ قُلْنَا: يا رسول الله
203
سَمِعْنَاكَ تَقُولُ فِي الصَّلَاةِ شَيْئًا لَمْ نَسْمَعْكَ تَقُولُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَرَأَيْنَاكَ بَسَطَتْ يَدَكَ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ إِبْلِيسَ جَاءَ بِشِهَابٍ مِنْ نَارٍ لِيَجْعَلَهُ فِي وَجْهِي، فَقُلْتُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قُلْتُ: أَلْعَنُكَ بِلَعْنَةِ اللَّهِ التَّامَّةِ، فَلَمْ يَسْتَأْخِرْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أردت أن أَخْذَهُ، وَاللَّهِ لَوْلَا دَعْوَةُ أَخِينَا سُلَيْمَانَ لَأَصْبَحَ موثقاً يلعب به صبيان أهل المدينة" (أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي الدرداء مرفوعاً).
وعن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ يصلي الصبح، وأنا خَلْفُهُ فَقَرَأَ، فَالْتَبَسَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صِلَاتِهِ قَالَ: «لَوْ رَأَيْتُمُونِي وَإِبْلِيسَ فَأَهْوَيْتُ بِيَدِي، فَمَا زِلْتُ أَخْنُقُهُ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ لُعَابِهِ بَيْنَ أُصْبُعَيَّ هَاتَيْنِ - الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا - ولولاد دَعْوَةُ أَخِي سُلَيْمَانَ لَأَصْبَحَ مَرْبُوطًا بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ يَتَلَاعَبُ بِهِ صِبْيَانُ الْمَدِينَةِ، فَمَنِ استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين القبلة أحد فليفعل» (أخرجه الإمام أحمد وروى بعضه أبو داود في سننه).
وقوله تبارك وتعالى: ﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ﴾ قال الحسن البصري: لما عقر سليمان عليه الصلاة والسلام الْخَيْلَ غَضَبًا لِلَّهِ عزَّ وجلَّ، عَوَّضَهُ اللَّهُ تعالى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا وَأَسْرَعُ الرِّيحُ الَّتِي غدوها شهر ورواحها شهر، وقوله جلَّ وعلا: ﴿حَيْثُ أَصَابَ﴾ أَيْ حَيْثُ أَرَادَ مِنَ الْبِلَادِ، وقوله جلَّ جلاله: ﴿والشياطين كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ﴾ أي منهم ما هُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْأَبْنِيَةِ الْهَائِلَةِ مِنْ مَحَارِيبَ وتماثيل إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا الْبَشَرُ، وَطَائِفَةٌ غَوَّاصُونَ فِي البحار يستخرجون ما بها من الآلئ والجواهر والأشياء النفسية الَّتِي لَا تُوجَدُ إِلَّا فِيهَا، ﴿وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصفاد﴾ أي موثوقون في الأغلال والأكبال ممن تَمَرَّدَ وَعَصَى، وَامْتَنَعَ مِنَ الْعَمَلِ وَأَبَى، أَوْ قد أساء في صنيعه واعتدى، وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿هَذَا عَطَآؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أَيْ هَذَا الَّذِي أَعْطَيْنَاكَ مِنَ الْمُلْكِ التَّامِّ وَالسُّلْطَانِ الْكَامِلِ كَمَا سَأَلْتَنَا، فَأَعْطِ مَنْ شِئْتَ، وَاحْرِمْ مَنْ شِئْتَ، لَا حِسَابَ عَلَيْكَ، أَيْ مهما فعلت فهو جائز لك، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خيَّر بَيْنَ أن يكون (عبداً رسولاً)، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ (مَلِكًا نَبِيًّا) يُعْطِي مَنْ يَشَاءُ وَيَمْنَعُ مَنْ يَشَاءُ، بِلَا حِسَابٍ وَلَا جُنَاحٍ، اخْتَارَ الْمَنْزِلَةَ الْأُولَى بَعْدَ مَا اسْتَشَارَ جبريل عليه السلام، فَقَالَ لَهُ: تَوَاضَعْ فَاخْتَارَ الْمَنْزِلَةَ الْأُولَى، لِأَنَّهَا أرفع قدراً عند الله عزَّ وجلَّ وَأَعْلَى مَنْزِلَةً فِي الْمَعَادِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَنْزِلَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ النُّبُوَّةُ مَعَ الْمُلْكِ عَظِيمَةً أَيْضًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ تَبَارَكَ وتعالى ما أعطى سليمان عليه الصلاة والسلام في الدنيا نبه تعالى أَنَّهُ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ القيامة أيضا، فقال تعالى: ﴿وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنُ مَآبٍ﴾ أَيْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ.
204
- ٤١ - وَاذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ
- ٤٢ - ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ
- ٤٣ - وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لأُوْلِي الْأَلْبَابِ
- ٤٤ - وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ
يَذْكُرُ تبارك وتعالى عبده ورسوله (أيوب) عليه الصلاة والسلام، وَمَا كَانَ ابْتَلَاهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ الضُّرِّ في
204
جَسَدِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ مَنْ جشده مَغْرَزُ إِبْرَةٍ سَلِيمًا سِوَى قَلْبِهِ، وَلَمْ يَبْقَ له من الدُّنْيَا شَيْءٌ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى مَرَضِهِ وَمَا هُوَ فِيهِ، غَيْرَ أَنَّ زَوْجَتَهُ حَفِظَتْ وِدَّهُ لإيمانها بالله تعالى وَرَسُولِهِ، فَكَانَتْ تَخْدُمُ النَّاسَ بِالْأُجْرَةِ وَتُطْعِمُهُ وَتَخْدُمُهُ، نَحْوًا مِنْ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةٍ، وَقَدْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي مَالٍ جَزِيلٍ وَأَوْلَادٍ وَسَعَةٍ طَائِلَةٍ مِنَ الدُّنْيَا، فَسُلِبَ جَمِيعَ ذَلِكَ حَتَّى رفضه الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ
سِوَى زَوْجَتِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فإنها كانت لا تفارقه صباحاً ومساء إِلَّا بِسَبَبِ خِدْمَةِ النَّاسِ ثُمَّ تَعُودُ إِلَيْهِ قَرِيبًا، فَلَمَّا طَالَ الْمَطَالُ، وَاشْتَدَّ الْحَالُ، وَانْتَهَى القدر، وَتَمَّ الْأَجَلُ الْمُقَدَّرُ تَضَرَّعَ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ وَإِلَهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين﴾، وفي هذه الآية الكريمة قال: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾ قِيلَ ﴿بنُصْب﴾ فِي بدين ﴿وَعَذَابٍ﴾ فِي مَالِي وَوَلَدِي، فَعِنْدَ ذَلِكَ اسْتَجَابَ لَهُ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَقَامِهِ، وَأَنْ يَرْكُضَ الْأَرْضَ بِرِجْلِهِ، فَفَعَلَ، فَأَنْبَعَ الله تعالى عيناً وأمره أن يغتسل منها، فأذهبت جَمِيعَ مَا كَانَ فِي بَدَنِهِ مِنَ الْأَذَى؛ ثُمَّ أَمَرَهُ فَضَرَبَ الْأَرْضَ فِي مَكَانٍ آخَرَ، فَأَنْبَعَ لَهُ عَيْنًا أُخْرَى، وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْرَبَ منها، فأذهبت جميع مَا كَانَ فِي بَاطِنِهِ مِنَ السُّوءِ، وَتَكَامَلَتِ العافية ظاهراً وباطناً، ولهذا قال تبارك وتعالى: ﴿اركض بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ﴾. روى ابن جرير وابن أبي حاتم، عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ أَيُّوبَ عَلَيْهِ الصلاة والسلام لبث في بلائه ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَرَفَضَهُ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ، إِلَّا رَجُلَيْنِ كَانَا مِنْ أَخَصِّ إِخْوَانِهِ بِهِ، كَانَا يَغْدُوَانِ إِلَيْهِ وَيَرُوحَانِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: تَعَلَّمْ وَاللَّهِ لَقَدْ أَذْنَبَ أَيُّوبُ ذَنْبًا مَا أَذْنَبَهُ أحد في الْعَالَمِينَ، قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: مُنْذُ ثَمَانِيَ عشرة سنة لم يرحمه الله تعالى، فَيَكْشِفَ مَا بِهِ، فَلَمَّا رَاحَا إِلَيْهِ لَمْ يَصْبِرِ الرَّجُلُ حَتَّى ذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ أيوب عليه الصلاة والسلام: أَدْرِي مَا تَقُولُ غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ أَمُرُّ عَلَى الرَّجُلَيْنِ يَتَنَازَعَانِ، فيذكران الله تعالى، فَأَرْجِعُ إِلَى بَيْتِي فَأُكَفِّرُ عَنْهُمَا كَرَاهِيَةَ أَنْ يذكر الله تعالى إِلَّا فِي حَقٍّ، قَالَ: وَكَانَ يَخْرُجُ إِلَى حَاجَتِهِ، فَإِذَا قَضَاهَا أَمْسَكَتِ امْرَأَتُهُ بِيَدِهِ حَتَّى يَبْلُغَ، فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَبْطَأَ عَلَيْهَا، فأوحى الله تبارك وتعالى إلى أيوب عليه الصلاة والسلام أَنِ: ﴿ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ﴾ فاستبطأته، فالتفتت تَنْظُرُ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهَا، قَدْ أَذْهَبَ اللَّهُ مَا بِهِ مِنَ الْبَلَاءِ، وَهُوَ عَلَى أَحْسَنِ مَا كَانَ، فَلَمَّا رَأَتْهُ قَالَتْ: أَيْ بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ، هَلْ رَأَيْتَ نَبِيَّ اللَّهِ هَذَا الْمُبْتَلَى، فوالله القدير عَلَى ذَلِكَ، مَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَشْبَهَ بِهِ مِنْكَ إِذْ كَانَ صَحِيحًا، قَالَ: فَإِنِّي أَنَا هو" (أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم بنحوه وهذا لفظ ابن جرير).
وفي الحديث قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَيْنَمَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا خَرَّ عَلَيْهِ جَرَادٌ من ذهب فجعل أيوب عليه الصلاة والسلام يحثو في ثوبه، فناداه ربه عزَّ وجلَّ: يَا أَيُّوبُ أَلَمْ أَكُنْ أَغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرَى؟ قال عليه الصلاة والسلام: بَلَى يَا رَبِّ، وَلَكِنْ لَا غِنَى بِي عن بركتك" (أخرجه البخاري والإمام أحمد عن أبي هريرة مرفوعاً)، ولهذا قال تبارك وتعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لأُوْلِي الْأَلْبَابِ﴾ قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: أَحْيَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ بِأَعْيَانِهِمْ وَزَادَهُمْ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ، وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿رَحْمَةً مِّنَّا﴾ أَيْ بِهِ عَلَى صَبْرِهِ وَثَبَاتِهِ وَإِنَابَتِهِ وَتَوَاضُعِهِ وَاسْتِكَانَتِهِ، ﴿وَذِكْرَى لأُوْلِي الْأَلْبَابِ﴾ أَيْ لِذَوِي الْعُقُولِ لِيَعْلَمُوا أَنَّ عَاقِبَةَ الصَّبْرِ الْفَرَجُ، وقوله جلَّت عظمته: ﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ﴾ وذلك أن أيوب عليه الصلاة والسلام كان قد غضب على زوجته ووجد في أمر فعلته، وحلف إن شفاه الله تعالى ليضربنها مائة
205
جلدة، فلما شفاه الله عزَّ وجلَّ وَعَافَاهُ مَا كَانَ جَزَاؤُهَا مَعَ هَذِهِ الْخِدْمَةِ التَّامَّةِ وَالرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ وَالْإِحْسَانِ أَنْ تُقَابَلَ بِالضَّرْبِ، فَأَفْتَاهُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ أَنْ يَأْخُذَ ﴿ضِغْثاً﴾ وَهُوَ الشِّمْرَاخُ فِيهِ مِائَةُ قَضِيبٍ، فَيَضْرِبُهَا بِهِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، وَقَدْ بَرَّتْ يَمِينُهُ، وَخَرَجَ مِنْ حِنْثِهِ وَوَفَى بِنَذْرِهِ، وَهَذَا مِنَ الْفَرَجِ وَالْمَخْرَجِ لمن اتقى الله تعالى وأناب إليه، ولهذا قال جلَّ وعلا: ﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَمَدَحَهُ بِأَنَّهُ ﴿نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ أَيْ رجَّاع مُنِيبٌ؛ وَلِهَذَا قال جلَّ جلاله: ﴿وَمَن يَتَّقِ
اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يحتسب﴾
الآية واستدل كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى مسائل في الإيمان والله أعلم.
206
- ٤٥ - واذكر عِبَادَنَآ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأيدي وَالْأَبْصَارِ
- ٤٦ - إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ
- ٤٧ - وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ
- ٤٨ - وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ
- ٤٩ - هَذَا ذِكْرٌ
يقول تبارك وتعالى مُخْبِرًا عَنْ فَضَائِلَ عِبَادِهِ الْمُرْسَلِينَ وَأَنْبِيَائِهِ الْعَابِدِينَ: ﴿واذكر عِبَادَنَآ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأيدي وَالْأَبْصَارِ﴾ يَعْنِي بِذَلِكَ الْعَمَلَ الصَّالِحَ وَالْعِلْمَ النَّافِعَ والقوة في العبادة والبصيرة النافذة، قال ابن عباس ﴿أُوْلِي الأيدي﴾: أولي القوة، ﴿والأبصار﴾: الْفِقْهِ فِي الدِّينِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿أُوْلِي الْأَيْدِي﴾ يعني القوة في طاعة الله تعالى، ﴿وَالْأَبْصَارِ﴾ يَعْنِي الْبَصَرَ فِي الْحَقِّ، وَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: أُعْطُوا قُوَّةً فِي الْعِبَادَةِ وَبَصَرًا فِي الدين، وقوله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ جَعَلْنَاهُمْ يَعْمَلُونَ لِلْآخِرَةِ لَيْسَ لَهُمْ همٌّ غيرها، وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قُلُوبِهِمْ حُبَّ الدُّنْيَا وَذِكْرَهَا وَأَخْلَصَهُمْ بِحُبِّ الْآخِرَةِ وذكرها، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَعْنِي بِالدَّارِ (الْجَنَّةَ) يقول: أخلصناها لهم بذكرهم لَهَا، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: جُعِلَ
لَهُمْ خَاصَّةً أفضل شيء في الدار الآخرة، وقوله تعالى: ﴿وَأَنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ المصطفين الأخيار﴾ أي الْمُخْتَارِينَ الْمُجْتَبِينَ الْأَخْيَارِ، فَهُمْ أَخْيَارٌ مُخْتَارُونَ، وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنَ الْأَخْيَارِ﴾. قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَصَصِهِمْ وَأَخْبَارِهِمْ في سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بما أغنى عن إعادته ههنا، وقوله عزَّ وجلَّ ﴿هَذَا ذِكْرٌ﴾ أَيْ هَذَا فَصْلٌ فِيهِ ذِكْرٌ لمن يتذكر، وقال السدي: يعني القرآن العظيم.
(تتمة الآية ٤٩): وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ
- ٥٠ - جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ
- ٥١ - مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ
- ٥٢ - وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ
- ٥٣ - هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ
- ٥٤ - إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ السُّعَدَاءِ أَنَّ لَهُمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ ﴿لَحُسْنَ مَآبٍ﴾ وَهُوَ الْمُرْجِعُ وَالْمُنْقَلَبُ. ثُمَّ فسره بقوله تعالى: ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾ أَيْ جَنَّاتِ إِقَامَةٍ ﴿مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأبواب﴾ والألف واللام ههنا بِمَعْنَى الْإِضَافَةِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ مُفَتَّحَةً لَهُمْ أَبْوَابُهَا، أي إذا جاءوها فتحت لهم أبوابها، وَقَدْ وَرَدَ فِي ذِكْرِ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ أحاديث كثيرة
206
من وجوه عديدة، وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿مُتَّكِئِينَ فِيهَا﴾ قيل: متربعين على سرير تَحْتَ الْحِجَالِ، ﴿يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ﴾ أَيْ مهما طلبوا وجدوا وأحضر كَمَا أَرَادُوا، ﴿وَشَرَابٍ﴾ أَيْ مِنْ أَيِّ أَنْوَاعِهِ شاءوا أتتهم به الخدام ﴿بِأَكْوَابٍ وأبارق وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ﴾، ﴿وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطرف﴾ أي من غَيْرِ أَزْوَاجِهِنَّ فَلَا يَلْتَفِتْنَ إِلَى غَيْرِ بُعُولَتِهِنَّ ﴿أَتْرَابٌ﴾ أَيْ مُتَسَاوِيَاتٌ فِي السِّنِّ وَالْعُمُرِ، ﴿هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ﴾ أَيْ هَذَا الَّذِي ذكرنا من صفة الجنة هي الَّتِي وَعَدَهَا لِعِبَادِهِ الْمُتَّقِينَ، الَّتِي يَصِيرُونَ إِلَيْهَا بَعْدَ نُشُورِهِمْ وَقِيَامِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ وَسَلَامَتِهِمْ مِنَ النار، ثم أخبر تبارك وتعالى عَنِ الْجَنَّةِ أَنَّهُ لَا فَرَاغَ لَهَا وَلَا زوال ولا انقضاء ولا انتهاء فقال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ﴾، كقوله عزَّ وجلَّ: ﴿عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾، وكقوله تعالى: ﴿لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ أَيْ غَيْرُ مَقْطُوعٍ، وَكَقَوْلِهِ: ﴿أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ﴾، وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا.
207
- ٥٥ - هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ
- ٥٦ - جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ
- ٥٧ - هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ
- ٥٨ - وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ
- ٥٩ - هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُواْ النَّارِ
- ٦٠ - قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ
- ٦١ - قَالُواْ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ
- ٦٢ - وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الْأَشْرَارِ
- ٦٣ - أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ
- ٦٤ - إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النار
لما ذكر تبارك وتعالى مَآلَ السُّعَدَاءِ ثنَّى بِذِكْرِ حَالِ الْأَشْقِيَاءِ وَمَرْجِعِهِمْ ومآبهم، فقال الله عزَّ وجلَّ: ﴿هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ﴾ وَهُمُ الْخَارِجُونَ عَنْ طَاعَةِ الله عزَّ وجلَّ، المخالفون لرسل الله صلى الله عليهم وسلم ﴿لَشَرَّ مَآبٍ﴾ أَيْ لَسُوءَ مُنْقَلَبٍ وَمَرْجِعٍ، ثُمَّ فسره بقوله جلَّ وعلا: ﴿جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا﴾ أَيْ يَدْخُلُونَهَا فَتَغْمُرُهُمْ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِمْ ﴿فَبِئْسَ الْمِهَادُ * هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ﴾، أَمَّا الْحَمِيمُ فَهُوَ الْحَارُّ الَّذِي قَدِ انْتَهَى حَرُّهُ، وَأَمَّا الْغَسَّاقُ فَهُوَ ضِدُّهُ وَهُوَ الْبَارِدُ الَّذِي لَا يُسْتَطَاعُ مِنْ شِدَّةِ بَرْدِهِ الْمُؤْلِمِ، ولهذا قال عزَّ وجلَّ ﴿وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ﴾ أَيْ وَأَشْيَاءُ مِنْ هذا القبيل، الشيء وضده يتعاقبون بها، عن أبي سعيد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَوْ أَنَّ دَلْوًا مِنْ غسَّاق يُهَرَاقُ فِي الدُّنْيَا لَأَنْتَنَ أهل الدنيا» (أخرجه الإمام أحمد ورواه الترمذي وابن جرير). وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ ﴿غَسَّاقٌ﴾ عَيْنٌ فِي جَهَنَّمَ يَسِيلُ إِلَيْهَا حُمَةُ كُلِّ ذَاتِ حُمَةٍ مِنْ حَيَّةٍ، وَعَقْرَبٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَيَسْتَنْقِعُ، فَيُؤْتَى بِالْآدَمِيِّ، فَيُغْمَسُ فِيهَا غَمْسَةً وَاحِدَةً فَيَخْرُجُ، وَقَدْ سَقَطَ جِلْدُهُ وَلَحْمُهُ عَنِ الْعِظَامِ، وَيَتَعَلَّقُ جِلْدُهُ وَلَحْمُهُ في كعبيه وعقبيه، ويجر لحمه كله كَمَا يَجُرُّ الرَّجُلُ ثَوْبَهُ (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حاتم عن كعب الأحبار)، وقال الحسن البصري ﴿وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ﴾: أَلْوَانٌ مِنَ الْعَذَابِ، كَالزَّمْهَرِيرِ، وَالسَّمُومِ، وَشُرْبِ الْحَمِيمِ، وَأَكْلِ الزَّقُّومِ، وَالصُّعُودِ وَالْهُوِيُّ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ المتضادة، وَالْجَمِيعُ مِمَّا يُعَذَّبُونَ بِهِ،
207
ويهانون بسببه، وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُواْ النار﴾، هذا إخبار من الله تعالى عَنْ قِيلِ أَهْلِ النَّارِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا﴾ يَعْنِي بَدَلَ السَّلَامِ يَتَلَاعَنُونَ وَيَتَكَاذَبُونَ، وَيَكْفُرُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، فَتَقُولُ الطَّائِفَةُ الَّتِي تَدْخُلُ قَبْلَ الْأُخْرَى، إذا أقبلت مَعَ الْخَزَنَةِ مِنَ الزَّبَانِيَةِ ﴿هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ﴾ أَيْ دَاخِلٌ ﴿مَّعَكُمْ لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُواْ النَّارِ﴾ أَيْ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ جَهَنَّمَ، ﴿قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ﴾ أَيْ فَيَقُولُ لَهُمُ الدَّاخِلُونَ ﴿بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا﴾ أَيْ أَنْتُمْ دَعَوْتُمُونَا إِلَى مَا أَفْضَى بِنَا إِلَى هَذَا الْمَصِيرِ، ﴿فَبِئْسَ الْقَرَارُ﴾ أَيْ فَبِئْسَ الْمَنْزِلُ وَالْمُسْتَقَرُّ وَالْمَصِيرُ ﴿قَالُواْ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ﴾، كَمَا قَالَ عزَّ وجلَّ: ﴿قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ * قَالَ لكلٍ ضعفٌ ولكن لاَ تَعْلَمُونَ﴾ أَيْ لِكُلٍّ مِنْكُمْ عَذَابٌ بِحَسَبِهِ، ﴿وَقَالُواْ مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الْأَشْرَارِ *
أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبصارْ؟ هَذَا إِخْبَارٌ عَنِ الْكُفَّارِ فِي النَّارِ، أَنَّهُمْ يفتقدون رجالاً كانوا معهم يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ عَلَى الضَّلَالَةِ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ فِي زَعْمِهِمْ قَالُوا: مَا لَنَا لَا نَرَاهُمْ مَعَنَا فِي النَّارِ؟ قَالَ مُجَاهِدٌ: هَذَا قَوْلُ أَبِي جَهْلٍ يَقُولُ: مَا لِي لَا أَرَى بِلَالًا وعماراً وصهيباً وفلاناً وفلاناً؟ وهذا ضرب مثل، وَإِلَّا فَكُلُّ الْكُفَّارِ هَذَا حَالُهُمْ، يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَدْخُلُونَ النَّارَ، فَلَمَّا دَخَلَ الْكُفَّارُ النَّارَ، افْتَقَدُوهُمْ فَلَمْ يَجِدُوهُمْ، فَقَالُوا: {مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الْأَشْرَارِ * أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً﴾
أي في الدار الدُّنْيَا ﴿أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ﴾؟ يُسَلُّونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْمُحَالِ، يَقُولُونَ: أَوْ لَعَلَّهُمْ مَعَنَا فِي جَهَنَّمَ، وَلَكِنْ لَمْ يَقَعْ بَصَرُنَا عَلَيْهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَعْرِفُونَ أَنَّهُمْ فِي الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَاتِ وَهُوَ قَوْلُهُ عزَّ وجلَّ: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رنبا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً؟ قَالُواْ: نَعَمْ، فأذَّن مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ الله على الظالمين﴾، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ﴾، أَيْ إِنَّ هَذَا الَّذِي أَخْبَرْنَاكَ بِهِ يَا مُحَمَّدُ، مِنْ تَخَاصُمِ أَهْلِ النَّارِ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، وَلَعْنِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، لحقٌ لَا مِرْيَةَ فِيهِ ولا شك.
208
- ٦٥ - قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ
- ٦٦ - رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ
- ٦٧ - قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ
- ٦٨ - أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ
- ٦٩ - مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ
- ٧٠ - إِنْ يُوحَى إليَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لِلْكَفَّارِ بِاللَّهِ الْمُشْرِكِينَ بِهِ المكذبين لرسوله ﴿إنما أنا مذر؟﴾ لَسْتُ كَمَا تَزْعُمُونَ، ﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ أَيْ هُوَ وَحْدَهُ قَدْ قَهَرَ كُلَّ شَيْءٍ وَغَلَبَهُ، ﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ أَيْ هُوَ مَالِكٌ جَمِيعَ ذَلِكَ وَمُتَصَرِّفٌ فِيهِ، ﴿العزيز الغفار﴾ أي غفار مع عظمته وعزته، ﴿قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ﴾ أَيْ خَبَرٌ عَظِيمٌ وشأن بليغ، وهو إرسال الله تعالى إِيَّايَ إِلَيْكُمْ، ﴿أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ﴾ أَيْ غَافِلُونَ، قال مجاهد ﴿قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ﴾: يَعْنِي الْقُرْآنَ، وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ أَيْ لَوْلَا الْوَحْيُ مِنْ أَيْنَ كُنْتُ أَدْرِي بِاخْتِلَافِ الْمَلَأِ الْأَعْلَى؟ يَعْنِي فِي شأن آدم عليه الصلاة والسلام، وَامْتِنَاعِ إِبْلِيسَ مِنَ السُّجُودِ لَهُ، وَمُحَاجَّتِهِ رَبَّهُ في تفضيله عليه، وغير ذلك.
- ٧١ - إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ
- ٧٢ - فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ
- ٧٣ - فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ
- ٧٤ - إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ
- ٧٥ - قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ
- ٧٦ - قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ
- ٧٧ - قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ
- ٧٨ - وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ
- ٧٩ - قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ
- ٨٠ - قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ
- ٨١ - إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ
- ٨٢ - قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ
- ٨٣ - إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ
- ٨٤ - قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ
- ٨٥ - لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ
هَذِهِ القصة ذكرها الله تبارك وتعالى في سورة البقرة، وفي أول سورة الأعراف، وفي سورة الحجر، وسبحان، والكهف، وههنا، وهي أن الله سبحانه وتعالى، أعلم الملائكة قبل خلق آدم عليه الصلاة والسلام، بِأَنَّهُ سَيَخْلُقُ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ، وقد تقدم إِلَيْهِمْ بِالْأَمْرِ مَتَى فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ وَتَسْوِيَتِهِ، فَلْيَسْجُدُوا لَهُ إِكْرَامًا وَإِعْظَامًا وَاحْتِرَامًا وَامْتِثَالًا لِأَمْرِ الله عزَّ وجلَّ، فامتثل الملائكة كلهم سِوَى إِبْلِيسَ وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ جِنْسًا، كَانَ مِنَ الجن (هذا الرأي وهو أن إبليس من الجن وليس من الملائكة هو الذي تطمئن إليه النفس وترتاح، وتدل عليه النصوص الشرعية
كقوله تعالى: ﴿إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ ربه﴾، وانظر الأدلة في كتابنا (النبوة والأنبياء)، صفحة (١٢٨) تحت عنوان: هل كان إبليس من الملائكة؟)، فخانه طبعه وجبلته، فَاسْتَنْكَفَ عَنِ السُّجُودِ لِآدَمَ، وَخَاصَمَ رَبَّهُ عزَّ وجلَّ فِيهِ، وَادَّعَى أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ آدَمَ، فَإِنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ نَارٍ، وَآدَمُ خُلِقَ مِنْ طِينٍ، وَالنَّارُ خَيْرٌ مِنَ الطِّينِ فِي زَعْمِهِ، وَقَدْ أَخْطَأَ فِي ذَلِكَ وَخَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ تعالى، وكفر بذلك فأبعده الله عزَّ وجلَّ، وَأَرْغَمَ أَنْفَهُ وَطَرَدَهَ عَنْ بَابِ رَحْمَتِهِ وَمَحَلِّ أُنْسِهِ، وَحَضْرَةِ قُدْسِهِ، وَسَمَّاهُ (إِبْلِيسَ) إِعْلَامًا لَهُ بِأَنَّهُ قَدْ أَبْلَسَ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَأَنْزَلَهُ مِنَ السَّمَاءِ مَذْمُومًا مَدْحُورًا إِلَى الْأَرْضِ، فَسَأَلَ اللَّهَ النَّظِرَةَ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَأَنْظَرَهُ الْحَلِيمُ الَّذِي لَا يَعْجَلُ عَلَى مَنْ عَصَاهُ، فَلَمَّا أَمِنَ الْهَلَاكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ تَمَرَّدَ وَطَغَى، وَقَالَ: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾، كَمَا قَالَ عزَّ وجلَّ: ﴿لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلًا﴾ وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُسْتَثْنَوْنَ فِي الْآيَةِ الأُخرى، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ
سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً﴾
، وقوله تعالى: ﴿قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ﴾، قَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أجمعين﴾، وكقوله عزَّ وجلَّ: ﴿قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جزاؤكم جزاءاً موفوراً﴾.
- ٨٦ - قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ
- ٨٧ - إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ
- ٨٨ - وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ
209
يَقُولُ تَعَالَى: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى هَذَا الْبَلَاغِ، وَهَذَا النُّصْحِ أجراً تعطوني إياه مِنْ عَرَضِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴿وَمَآ أَنَآ مِنَ المتكلفين﴾ أي وما أريد على ما أرسلني الله تعالى بِهِ، وَلَا أَبْتَغِي زِيَادَةً عَلَيْهِ، بَلْ مَا أُمِرْتُ بِهِ أَدَّيْتُهُ، لَا أَزْيَدُ عَلَيْهِ وَلَا أَنْقَصُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ والدار الآخرة، قال مسروق: أتينا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ عَلِمَ شَيْئًا فَلْيَقُلْ به، ومن لم يَعْلَمُ فَلْيَقُلْ: اللَّهُ أَعْلَمُ، فَإِنَّ مِنَ الْعِلْمِ أن يقول الرجل لما لا يعلم: الله أعلم، فإن اللَّهَ عزَّ وجلَّ قَالَ لِنَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ المتكلفين﴾ (أخرجاه في الصحيحين من حديث الأعمش). وقوله تعالى: ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ﴾ يَعْنِي الْقُرْآنُ ذكر لجميع المكلفين من الإنس والجن، قال ابن عباس ﴿لِّلْعَالَمِينَ﴾ قال: الجن والإنس (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ)، وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بلغ﴾، وقوله تعالى ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ﴾ أَيْ خَبَرَهُ وَصِدْقَهُ ﴿بَعْدَ حِينِ﴾ أَيْ عَنْ قَرِيبٍ، قَالَ قَتَادَةُ: بَعْدَ الْمَوْتِ، قال عِكْرِمَةُ: يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنَّ مَنْ مَاتَ فَقَدْ دَخَلَ فِي حكم القيامة، وقال الحسن البصري: يَا ابْنَ آدَمَ عِنْدَ الْمَوْتِ يَأْتِيكَ الْخَبَرُ اليقين.
210
- ٣٩ - سورة الزمر
211
روى النسائي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ مَا يُرِيدُ أَنْ يُفْطِرَ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ مَا يُرِيدُ أَنْ يَصُومَ، وَكَانَ ﷺ يَقْرَأُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالزُّمَرَ (أخرجه النسائي من حديث عائشة رضي الله عنها).
211

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

211
Icon