تفسير سورة الزمر

إعراب القرآن للنحاس
تفسير سورة سورة الزمر من كتاب إعراب القرآن المعروف بـإعراب القرآن للنحاس .
لمؤلفه ابن النَّحَّاس . المتوفي سنة 338 هـ

الجزء الرابع
٣٩ شرح إعراب سورة الزّمر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الزمر (٣٩) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١)
تَنْزِيلُ الْكِتابِ رفع بالابتداء، وخبره مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ أي أنزل من عند الله جلّ وعزّ، ويجوز أن يكون مرفوعا بمعنى: هذا تنزيل الكتاب. وأجاز الكسائي والفراء تَنْزِيلُ «١» الْكِتابِ بالنصب على أنه مفعول. قال الكسائي: أي اتّبعوا واقرءوا تنزيل الكتاب. وقال الفراء: على الإغراء مثل كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [النساء: ٢٤] أي الزموا كتاب الله.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٣]
أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣)
أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ أي الذي لا يشوبه شيء، وفي حديث الحسن عن أبي هريرة أن رجلا قال: يا رسول الله إنّي أتصدّق بالشّيء وأصنع الشيء أريد به وجه الله جلّ وعزّ وثناء الناس. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «والذي نفس محمد بيده لا يقبل الله جلّ ثناؤه شيئا شورك فيه ثم تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ» «٢». وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ في موضع رفع بالابتداء، والتقدير: والذين اتّخذوا من دونه أولياء قالوا: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى ويجوز أن يكون «الذين» في موضع رفع بفعلهم أي وقال «زلفى» في موضع نصب بمعنى المصدر أي تقريبا.
(١) انظر معاني الفراء ٢/ ٤١٤.
(٢) انظر تفسير الطبري ٢٣/ ١٩٠. [.....]

[سورة الزمر (٣٩) : آية ٤]

لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٤)
لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ أي لو أراد ذلك أن يسمي أحدا من خلقه بهذا ما جعله إليهم. سُبْحانَهُ مصدر أي تنزيها له من الولد.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٥]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥)
قال الضحاك: أي يلقي هذا على هذا وهذا على هذا. قال أبو جعفر: وهذا معنى التكوير في اللغة. وقد روي عن ابن عباس غير هذا في معنى الآية، قال: ما نقص من الليل دخل في النهار وما نقص من النهار دخل في الليل.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٦]
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦)
أي لا تمنعه الظلمة كما تمنع المخلوقين.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٧]
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧)
وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ أي يرض الشكر لكم أن تشكروا يدلّ على الشكر.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٨]
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (٨)
دَعا رَبَّهُ مُنِيباً على الحال.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٩]
أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (٩)
أَمَّنْ «١» هُوَ قانِتٌ قراءة الحسن وأبي عمرو وأبي جعفر وعاصم والكسائي. وقرأ
(١) انظر تيسير الداني ١٥٣.
4
نافع وابن كثير ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة أَمَّنْ هُوَ «١» وحكى أبو حاتم عن الأخفش قال: من قرأ في الزمر أَمَّنْ هُوَ بالتخفيف فقراءته ضعيفة لأنه استفهام ليس معه خبر. قال أبو جعفر: هذا لا يلزم وقد أجمعوا جميعا على أن قرءوا «أفمن شرح الله صدره للإسلام» وهو مثله. وفي القراءة بالتخفيف وجهان حسنان في العربية، وليس في القراءة الأخرى إلا وجه واحد. فأحد الوجهين أن يكون نداء، كما يقال: يا زيد أقبل، ويقال: أزيد أقبل. حكى ذلك سيبويه وجميع النحويين كما قال: [الكامل] ٣٨٦-
أبني لبينى لستم بيد إلّا يدا ليست لها عضد
«٢» وكما يقال: فلان لا يصلّي ولا يصوم أمن يصلّي ويصوم أبشر، والوجه الآخر أن يكون في موضع رفع بالابتداء والمعنى معروف أي: أمن هو قانت اناء الليل أفضل أم من جعل لله أندادا؟ والتقدير: الّذي هو قانت. ومن قرأ أَمَّنْ هُوَ فتقديره أم الذي هو قانت أفضل ممّن ذكر و «أم» بمعنى «أبل». فأما معنى قانت فيما رواه عمرو بن الحارث عن درّاج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «كلّ قنوت في القرآن فهو طاعة لله جلّ وعزّ» «٣».. وروى الأعمش عن أبي سفيان عن جابر أنه قال:
«سئل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أي الصلاة أفضل، قال: طول القنوت» «٤» فتأوّله جماعة من أهل العلم على أنه طول القيام. وروى عبد الله عن نافع عن ابن عمر سئل عن القنوت قال: ما أعرف القنوت إلّا طول القيام وقراءة القرآن، وقال مجاهد: من القنوت طول الركوع، وغضّ البصر. وكان العلماء إذا وقفوا في الصلاة غضّوا أبصارهم وخضعوا، ولم يلتفتوا في صلاتهم، ولم يعبثوا، ولم يذكروا شيئا من أمر الدنيا إلّا ناسين. قال أبو جعفر:
أصل هذا أن القنوت الطاعة، وكل ما قيل فيه فهو طاعة الله جلّ وعزّ وهذه الأشياء كلّها داخلة في الطاعة وما هو أكثر منها، كما قال نافع وقال لي ابن عمر: قم فصلّ فقمت أصلّي وكان عليّ ثوب حلق فدعاني فقال لي: أرأيت لو وجّهتك في حاجة وراء الجدار أكنت تمضي هكذا، فقلت: لا كنت أتزيّن، قال: فالله أحقّ أن يتزيّن له.
قال الحسن: آناءَ اللَّيْلِ ساعاته أوّله وأوسطه واخره.
وعن ابن عباس قال: آناءَ اللَّيْلِ جوف الليل. قال سعيد بن جبير: يَحْذَرُ الْآخِرَةَ أي عذاب الآخرة. قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ قال أبو إسحاق: أي
(١) البحر المحيط ٧/ ٤٠٢.
(٢) الشاهد لأوس بن حجر في ديوانه ص ٢١، وشرح أبيات سيبويه ٢/ ٦٨، ولطرفة بن العبد في ديوانه ص ٤٥، وشرح المفصّل ٢/ ٩٠، وبلا نسبة في الكتاب ٢/ ٣٢٨، وأمالي ابن الحاجب ص ٤٤١، والمقتضب ٤/ ٤٢١، ومعاني الفراء ١/ ٣١٧.
(٣) مرّ الحديث في إعراب الآية ٢٦- الروم.
(٤) أخرجه الترمذي في سننه- الصلاة ٢/ ١٧٨، وابن ماجة في إقامة الصلاة حديث رقم (١٤٢١).
5
كما لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون كذا لا يستوي الطائع والعاصي. وقال غيره: الذين يعلمون هم الذي ينتفعون بعلمهم ويعملون به، فأما من لم ينتفع بعلمه ولم يعمل به فبمنزلة من لم يعلم. إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ أي إنما ينتفع بذكره وينتفع به ويعتبر أولو العقول الذين ينتفعون بعقولهم فهؤلاء ينتفعون ويمدحون بعقولهم لأنهم انتفعوا بها.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ١٠ الى ١٣]
قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣)
قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ قيل معناه اتّقوا معاصيه والتاء مبدلة من واو.
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ يجوز أن يكون في الدنيا داخلا في الصلة أي لهم حسنة في الآخرة وإن لم يكن داخلا في الصلة فالمعنى للذين أحسنوا حسنة في الدنيا.
فالحسنة التي لهم في هذه الدنيا موالاة الله جلّ وعزّ إيّاهم وثناؤه عليهم وتسميته إياهم بالأسماء الحسنة. وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ في معناه قولان: أحدهما أنه يراد بها أرض الجنة، والآخر أن معناه أن أرض الله واسعة فهاجروا فيها ولا تقيموا مع من يعمل بالمعاصي.
إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ صابر يمدح به، إنّما هو لمن صبر عن المعاصي، فإن أردت أنه صابر على المعصية قلت صابر على كذا. بِغَيْرِ حِسابٍ قيل: بغير تقدير، وقيل: يراد على الثواب، لأنه لو أعطي بقدر ما عمل لكان بحساب، وقيل معنى «بغير حساب» بغير متابعة ولا مطالبة كما تقع المطالبة بنعم الدنيا.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ١٤]
قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤)
قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ نصب بأعبد، وسيبويه يجيز الرفع على حذف الهاء، ولا نعلم أحدا من النحويين وافقه على ذلك في الاسم العلم.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ١٥]
فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥)
الَّذِينَ في موضع رفع على خبر إِنَّ وأَهْلِيهِمْ في موضع نصب معطوفون على أنفسهم وعلامة النصب الياء. وقال ميمون بن مهران عن ابن عباس: ليس من أحد إلّا وقد خلق الله جلّ وعزّ له زوجة في الجنة فإذا دخل النار خسر نفسه وأهله.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ١٦]
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (١٦)
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ الواحدة ظلّة وهو ما ارتفع فوقهم من النار وثبت.
وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ مجاز أي مثل ذلك من تحتهم، وقيل: هو حقيقة أي من تحتهم ظلل
لمن هو أسفل منهم من أهل النار. ذلِكَ في موضع رفع بالابتداء أي ذلك الذي ذكرناه من العذاب يخوّف الله به عباده يا عِبادِ فَاتَّقُونِ بحذف الياء من عبادي لأن النداء موضع حذف، ويجوز إثباتها على الأصل، ويجوز فتحها.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ١٧ الى ١٩]
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩)
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها قال الأخفش: الطاغوت جمع، ويجوز أن يكون واحدة مؤنّثة.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٢٠]
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (٢٠)
وَعْدَ اللَّهِ نصب على المصدر لأن معنى لَهُمْ غُرَفٌ وعدهم الله جلّ وعزّ ذلك وعدا، ويجوز الرفع بمعنى ذلك وعد الله.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٢١]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١)
فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ واحدها ينبوع، ويقال: ينبع وجمعه ينابيع وقد نبع الماء ينبع وينبع. وحكى لنا ابن كيسان في قول الشاعر: [الكامل] ٣٨٧-
ينباع من ذفرى غضوب جسرة
«١» إنّ معناه ينبع فأشبع الفتحة فصارت ألفا. ثُمَّ يَهِيجُ قال محمد بن يزيد: قال الأصمعي يقال: هاجت الأرض تهيج إذا أدبر نبتها وولى. قال: وكذلك قال غير الأصمعي. ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً قال: من تحطيم العود إذا تفتّت من اليبس. إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ واحدها ذو، وهو اسم للجمع، وزيد في كتابها واو عند بعض أهل اللغة فرقا بينها وبين إلى.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٢٢]
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢)
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ قال أبو إسحاق: هذه الفاء فاء المجازاة. فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ
(١) الشاهد لعنترة في ديوانه ٢٠٤، والإنصاف ١/ ٢٦، وخزانة الأدب ١/ ١٢٢، والخصائص ٣/ ١٢١، وسرّ صناعة الإعراب ١/ ٣٣٨، وشرح شواهد الشافية ص ٢٤، ولسان العرب (غضب) و (نع) و (زيف)، والمحتسب ١/ ٢٥٨، وبلا نسبة في الخصائص ٣/ ١٩٣، ورصف المباني ١١، وشرح شافية ابن الحاجب ١/ ٧٠، ولسان العرب (بوع)، و (تنف)، و (دوم)، (خظا)، ومجالس ثعلب ٢/ ٥٣٩، والمحتسب ١/ ٧٨.
قال محمد بن يزيد: يقال: قسا إذا صلب، قال: وكذلك عتا وعسا مقاربة لها، وقلب قاس أي صلب لا يرقّ ولا يلين. أُولئِكَ في موضع رفع بالابتداء أي أولئك الذين قست قلوبهم فِي ضَلالٍ مُبِينٍ.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٢٣]
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣)
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً على البدل من أحسن. مَثانِيَ نعت لكتاب.
ولم ينصرف لأنه جمع لا نظير له في الواحد تَقْشَعِرُّ مِنْهُ في موضع نصب على أنه نعت لكتاب ذلِكَ في موضع رفع بالابتداء أي ذلك الخوف والرجاء ولين القلوب هُدَى اللَّهِ.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٢٤ الى ٢٥]
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥)
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ حذف الجواب. قال الأخفش سعيد: أي أفمن يتّقي بوجهه سوء العذاب أفضل أم من سعد.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٢٦]
فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦)
فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ قال محمد بن يزيد: يقال لكل ما نال الجارحة من شيء قد ذاقته أي قد وصل إليها كما تصل الحلاوة والمرارة إلى ذائقهما، قال: والخزي المكروه والخزاء إفراط الاستحياء.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٢٧ الى ٢٨]
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨)
قُرْآناً عَرَبِيًّا نصب على الحال. قال الأخفش: لأن قوله جلّ وعزّ في هذا القرآن معرفة. وقال علي بن سليمان: «عربيا» نصب على الحال وقرانا توطئة الحال، كما تقول: مررت بزيد رجلا صالحا، فقولك صالحا هو المنصوب على الحال. قال أبو إسحاق: «قرانا عربيا» على حال، وقال: «قرانا» توكيد. غَيْرَ ذِي عِوَجٍ نعت. أحسن ما قيل فيه ما قاله الضحاك قال مختلف.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٢٩]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٩)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ قال الفراء: أي مختلفون. قال محمد بن
يزيد: أي متعاسرون، من شكس يشكس فهو شكس مثل عسر يعسر عسرا فهو عسر.
وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ هذه قراءة أهل المدينة وأهل الكوفة، وقرأ ابن عباس والحسن ومجاهد والجحدري وأبو عمرو وابن كثير. وَرَجُلًا سَلَماً فسّرها ابن عباس قال:
خالصا. قال أبو جعفر: ومال أبو عبيد إلى هذه القراءة قال: لأن السالم ضد المشرك، والسلم ضد الحرب ولا معنى للمحارب هاهنا. قال أبو جعفر: وهذا الاحتجاج لا يلزم لأن الحرف إذا كان له معنيان لم يحمل إلّا على أولاهما فهذا وإن كان السلم ضد الحرب فله موضع أخر، كما يقال: كان لك في هذا المنزل شركاء فصار سلما لك ويلزمه أيضا في سالم ما لزمه في غيره لأنه يقال: شيء سالم لا عاهة به. والقراءتان حسنتان قد قرأ بهما الأئمة.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٣٠]
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠)
وقراءة ابن محيصن وابن أبي إسحاق وعيسى إنّك مائت وإنّهم مائتون. قال أبو جعفر: وهي قراءة حسنة ومثل هذه الألف تحذف في السواد. ومائت في المستقبل كثير في كلام العرب، ومثله: ما كان مريضا وإنّه لمارض من هذا الطعام. وميّت جائز أيضا وتخفيفه جائز عند غير أبي عمرو بن العلاء فإنه كان لا يجيز التخفيف في المستقبل.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٣١]
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١)
قيل: يعني في المظالم، وفي الحديث المسند «أول ما تقع فيه الخصومات الدماء» «١».
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٣٢]
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢)
أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ مَثْوىً في موضع رفع ولم يتبيّن فيه الإعراب لأنه مقصور. وهو مشتق من ثوى يثوي، ولو كان من أثوى لكان مثوى، وهذا يدلّ على أنّ ثوى هو اللغة الفصيحة. وقد حكى أبو عبيدة أثوى، وأنشد: [الكامل] ٣٨٨-
أثوى وقصّر ليلة ليزوّدا
«٢»
(١) أخرجه الترمذي في الديات ٦/ ١٧٣.
(٢) الشاهد للأعشى في ديوانه ٢٧٧، ولسان العرب (خلف) و (ثوا)، وجمهرة اللغة ص ٦١٥، ومقاييس اللغة ١/ ٣٩٣، ومجمل اللغة ٢/ ٢١٣، وديوان الأدب ٤/ ١٠٩، وتهذيب اللغة ١٥/ ١٦٧، وتاج العروس (خلف)، و (ثوى)، وبلا نسبة في المخصّص ١٣/ ٢٦٢. وعجزه:
«فمضت وأخلف من قتيله مواعدا»
والأصمعي لا يعرف إلّا ثوى ويرويه أثوى.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٣٣ الى ٣٥]
وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥)
وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ في موضع رفع بالابتداء، وخبره أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ وتأوّله إبراهيم النخعي على أنه للجماعة، وقال: الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ المؤمنون الذين يجيئون بالقرآن يوم القيامة فيقولون هذا الذي أعطيتمونا قد اتّبعنا ما فيه، فيكون الذي على هذا بمعنى جمع كما يكون «من» بمعنى جمع. وقيل بل حذفت النون لطول الاسم. وتأوله الشّعبي على أنه واحد، وقال: الذي جاء بالصدق محمد صلّى الله عليه وسلّم، وصدق به أبو بكر الصديق رضي الله عنه، والصحابة فيكون على هذا خبره جماعة كما يقال لمن يعظّم: هم فعلوا كذا وكذا. وجواب أخر أن يكون له ولمن اتّبعه صلّى الله عليه وسلّم وفي قراءة ابن مسعود والذين جاءوا بالصدق وصدّقوا به فهذه قراءة على التفسير، وفي قراءة أبي صالح الكوفي وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ «١» «٢» مخفّفا يكون معناه- والله أعلم- وصدق فيه كما يقال: فلان بمكّة وفي مكّة.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (٣٧)
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ حذفت الياء لسكونها وسكون التنوين بعدها، وكان الأصل ألّا تحذف في الوقف لزوال التنوين إلّا أنها حذفت ليعلم أنها كذلك في الوصل، ومن العرب من يثبتها في الوقف على الأصل فيقول: كافي عبده.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٣٨]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨)
هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ «٣» بغير تنوين قراءة أبي جعفر ونافع وابن كثير ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي، وقرأ أبو عمرو وشيبة وهي المعروفة من قراءة الحسن وعاصم هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ ومُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ بالتنوين على الأصل لأنه لما لم يقع بعد ولو كان ماضيا لم يجز فيه التنوين. وحذف التنوين على التخفيف فإذا حذف التنوين لم يبق بين الاسمين حاجز فخفضت الثاني بالإضافة. وحذف التنوين
(١) انظر معاني الفراء ٢/ ٤١٩.
(٢) انظر البحر المحيط ٧/ ٤١٢.
(٣) انظر تفسير الداني ١٥٤.
كثير في كلام العرب موجود حسن. قال الله جلّ وعزّ: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ، [المائدة:
٩٥] وكذا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا [الأحقاف: ٢٤]، وكذا إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ [القمر: ٢٧].
قال سيبويه: مثل ذلك كثير مثله غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ [المائدة: ١] لأن معناه كمعنى وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ [المائدة: ٢]، وأنشد سيبويه: [البسيط].
٣٨٩-
هل أنت باعث دينار لحاجتنا أو عبد ربّ أخا عون بن مخراق
«١» وقال النابغة: [البسيط] ٣٩٠-
واحكم كحكم فتاة الحيّ إذ نظرت إلى حمام شراع وارد الثمد
«٢» معناه وارد الثّمد فحذف التنوين مثل «كاشفات ضرّه».
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٣٩ الى ٤٠]
قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٤٠)
قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ على مكانتي أي على جهتي التي تمكّنت عندي.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٤١]
إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١)
قيل: معناه لنبيّنه للناس بالحقّ الذي أمروا به فيه.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٤٢ الى ٤٣]
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (٤٣)
فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وقراءة يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ «٣» على ما لم يسمّ فاعله، والمعنى واحد غير أن القراءة الأولى أبين وأشبه بنسق الكلام لأنهم قد جمعوا على «ويرسل» ولم
(١) الشاهد لجابر بن رألان أو لجرير أو لتأبط شرا، أو هو مصنوع في خزانة الأدب ٨/ ٢١٥، ولجرير بن الخطفى أو لمجهول أو هو مصنوع في المقاصد النحوية ٣/ ٥١٣، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٢/ ٢٥٦، والدرر ٦/ ١٩٢، والكتاب ١/ ٢٢٧، وشرح أبيات سيبويه ١/ ٣٩٥، وشرح الأشموني ٢/ ٣٤٤، والمقتضب ٤/ ١٥١، وهمع الهوامع ٢/ ١٤٥.
(٢) الشاهد للنابغة الذبياني في ديوانه ٢٣، والكتاب ١/ ٢٢٣، وأدب الكاتب ص ٢٥، والحيوان ٣/ ٢٢١، والدرر ١/ ٢١٧، وشرح أبيات سيبويه ١/ ٣٣، ولسان العرب (حكم) و (حمم)، وبلا نسبة في شرح التصريح ١/ ٢٢٥.
(٣) انظر تيسير الداني ١٥٤. [.....]
يقرءوا ويرسل وقد مرّ في الكتاب الذي قبل هذا العلّة في فتح الواو في قوله جلّ وعزّ:
أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٤٤]
قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤)
نصب على الحال، فإن قيل: جميع إنّما يكون للاثنين فصاعدا والشفاعة واحدة.
فالجواب أن الشفاعة مصدر، والمصدر يؤدّي عن الاثنين والجميع.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٤٥]
وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٥)
وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ نصب على المصدر عند الخليل وسيبويه «١»، وعلى الحال عند يونس قال محمد بن يزيد: اشْمَأَزَّتْ أي انقبضت.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٤٦]
قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦)
قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ نصب لأنه نداء مضاف، وكذا عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ ولا يجوز عند سيبويه أن يكون نعتا.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٤٧]
وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧)
من أجلّ ما روي فيه ما رواه منصور عن مجاهد قال: عملوا أعمالا توهّموا أنها حسنات فإذا هي سيئات، وقيل: عملوا أعمالا سيئة وتوهّموا أنهم يتوبون قبل الموت فأدركهم الموت، وقد كانوا ظنوا أنّهم ينجون بالتوبة فبدا لهم ما لم يكونوا يحتسبون، ويجوز أن يكونوا توهّموا أنهم يغفر لهم من غير توبة فبدا لهم ما لم يكونوا يحتسبون، من دخول النار.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٤٨]
وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤٨)
وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ أي عقاب سيّئات أو ذكر سيئات.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٤٩]
فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٩)
قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ قال أبو إسحاق: أي على شرف وفضل يجب لي به هذا
(١) انظر الكتاب ١/ ٤٤٢.
الذي أعطيته فقد علمت أنّي سأعطى هذا بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ قال الفراء: أنّث لتأنيث الفتنة ولو كان بل هو فتنة لجاز. قال أبو جعفر: التقدير: بل أعطيته فتنة. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي لا يعلمون أنّ إعطاءهم المال اختبار، وقيل: عملهم عمل من لا يعلم.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٥٠ الى ٥٢]
قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢)
قَدْ قالَهَا الَّذِينَ على تأنيث الكلمة.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٥٣]
قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣)
قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وإن شئت حذفت الياء لأن النداء موضع حذف. ومن أجلّ ما روي فيه ما رواه محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر قال:
لما اجتمعنا على الهجرة اتّعدت أنا وهشام بن العاصي بن وائل السّهمي وعيّاش بن عتبة فقلنا الموعد أضاة غفر، وقلنا من تأخر منّا فقد حبس فأصبحت أنا وعيّاش بن عتبة بها، ولم يواف هشام وإذا به قد فتن ففتن. وكنا نقول بالمدينة هؤلاء قوم قد عرفوا الله جلّ وعزّ وآمنوا به وبرسوله صلّى الله عليه وسلّم ثم افتتنوا ببلاء لحقهم لا نرى لهم توبة وكانوا هم أيضا يقولون هذا فأنزل الله جلّ وعزّ قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إلى أخر القصة. وروى عبد الأعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان قوم من المشركين قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا فقالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم أو بعثوا إليه إنّ ما تدعونا إليه لحسن لو تخبرنا أنّ لنا توبة فأنزل الله جلّ وعزّ: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ إلى أخر الآيات، قال عبد الله بن عمر: هذه أرجى آية في القرآن فردّ عليه ابن عباس فقال:
بل أرجى آية في القرآن وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ [الرعد: ٦]. وروى حمّاد بن سلمة عن ثابت عن شهر بن حوشب عن أسماء أنها سمعت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقرأ:
قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ولا يبالي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وفي مصحف ابن مسعود «١» إنّ الله يغفر الذّنوب جميعا لمن يشاء وهاتان القراءتان على التفسير أي يغفر لمن يشاء، وقد عرّف الله جلّ وعزّ من يشاء أن يغفر له، وهو التائب أو من عمل صغيرة ولم يكن له كبيرة ودلّ على أنه يريد التائب ما بعده.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٥٤ الى ٥٥]
وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٥٥)
وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ فالتائب مغفور له ذنوبه جميعا. يدل على ذلك وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ [طه: ٨٢]. فهذا الإشكال فيه وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ قال الضحاك:
(١) انظر معاني الفراء ٢/ ٤٢١.
أي «أنيبوا» ارجعوا إلى طاعته جلّ وعزّ وأمره. قال أبو جعفر: ثم تواعد ما لم يثب فقال: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ أي فلا يدفعه أحد عنكم.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٥٦]
أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦)
أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ في موضع نصب أي كراهة أن تقول، وعند الكوفيين بمعنى لئلا تقول نفس يا حَسْرَتى والأصل: يا حسرتي أي يا ندمي، فأبدل من الياء ألفا لأنها أخفّ فالفائدة في نداء الحسرة أنّ في ذلك معنى أنّها لازمة موجودة فهذا أبلغ من الخبر. وأجاز الفراء «١» في الوصل: يا حسرتاه على كذا: ويا حسرتاه على كذا، وذكر هذا القول في الآية وشبّهه بالندبة. وإثبات الهاء في الوصل خطأ عند جميع النحويين غيره، وليس هذا موضع ندبة ولا في السّواد هاء ولا قرأ به أحد عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ قال الضحاك: أي في ذكر الله قال: يعني القرآن والعمل به. وفي حديث ابن عجلان عن سعيد المقبريّ عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما جلس رجل مجلسا ولا مشى مشيا ولا اضطجع مضطجعا لم يذكر الله جلّ وعزّ فيه إلّا كانت عليه ترة يوم القيامة» «٢» أي حسرة. قال إبراهيم التيمي: من الحسرات يوم القيامة أن يرى الرجل ماله الذي أتاه الله إيّاه يوم القيامة في ميزان غيره قد ورثه فعمل فيه بالحقّ، وكان له أجره، وعلى الآخر وزره. ومن الحسرات أن يرى الرجل عبده الذي خوّله الله إياه جلّ وعزّ في الدنيا أقرب منزلة من الله جلّ وعزّ، أو يرى رجلا يعرفه أعمى في الدنيا قد أبصر يوم القيامة وعمي هو. وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ قال أبو إسحاق: أي ما كنت إلّا من المستهزئين.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٥٧]
أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧)
قيل: معناه لو هداني إلى النجاة من النار، وردّني إلى التكليف. لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ المعاصي. وقيل: لو أن الله هداني في الدنيا، فردّ عليه فقيل بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي أي قد هديتك بالبيّنات.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٥٨]
أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨)
أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ نصب على جواب التمني، فإن شئت كان معطوفا على كرة لأن معناه أن أكون كما قال: [الوافر] ٣٩١-
للبس عباءة وتقرّ عيني أحبّ إليّ من لبس الشّفوف
«٣»
(١) انظر معاني الفراء ٢/ ٤٢٢.
(٢) أخرجه المتقي الهندي في كنز العمال (٢٥٤٦١).
(٣) مرّ الشاهد رقم (١٢٣).

[سورة الزمر (٣٩) : آية ٥٩]

بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (٥٩)
بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي بفتح الكاف، والنفس مؤنّثة لأن المعنى للمذكر، وقرأ «١» عاصم الجحدري بالكسر على تأنيث النفس والقراءة بالكسر تروى عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٦٠]
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠)
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ مبتدأ وخبره في موضع نصب، ويجوز النصب على أن تكون وجوههم بدلا من الذين. أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ وبيّن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معنى الكبر فقال: الكبر سفه الحقّ وغمس الناس أي احتقارهم. وفي حديث عبد الله بن عمر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «يحشر المتكبّرون يوم القيامة كهيئة الذّرّ يلحقهم الصّغار حتّى يؤتى بهم إلى سجن في جهنّم» «٢».
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٦١]
وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١)
وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ هذه قراءة أكثر الناس على التوحيد لأنها مصدر.
وقرأ الكوفيون (بمفازاتهم) «٣» وهو جائز كما تقول: بسعاداتهم وعن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم تفسير هذه الآية من حديث أبي هريرة قال: «يحشر الله جلّ وعزّ مع كلّ امرئ عمله فيكون عمل المؤمن معه في أحسن صورة فكلّما كان رعب أو خوف قال له: لا ترع فما أنت بالمراد به، ولا أنت بالمعنيّ به فإذا كثر ذلك عليه قال له: ما أحسنك فمن أنت؟
فيقول، أما تعرفني أنا عملك الصالح حملتني على ثقلي فو الله لأحملنّك اليوم ولأدفعنّ عنك فهي التي قال: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ»
«٤».
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٦٢]
اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢)
أي هو حافظه والقائم به.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٦٣]
لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٣)
لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ واحدها مقليد وأكثر ما يستعمل فيه إقليد وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ مبتدأ أُولئِكَ هُمُ مبتدأ ثان: الْخاسِرُونَ خبر الثاني «وهم» فاصلة، ويجوز أن يكون «أولئك» بدلا من الذين و «هم» مبتدأ و «الخاسرون» خبره والجملة خبر الذين.
(١) انظر البحر المحيط ٧/ ٤١٩.
(٢) أخرجه أحمد في مسنده ٢/ ١٧٨، والترمذي رقم الحديث (٢٤٩٢)، والمنذري في الترغيب والترهيب ٤/ ٣٨٨ انظر رقم ١٩ والزبيدي في إتحاف السادة المتّقين ١/ ٣٠٩.
(٣) انظر البحر المحيط ٧/ ٤٢٠.
(٤) ذكره القرطبي في تفسيره ١٥/ ٢٧٤.

[سورة الزمر (٣٩) : آية ٦٤]

قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤)
غير نصب بأعبد، والكسائي يذهب إلى أن التقدير: أن أعبد ثم حذف أن فرفع الفعل، وهو أحد قولي سيبويه «١» في أَعْبُدُ هذا، وقوله الآخر أنّ التقدير «أفغير الله أعبد فيما تأمروني» وهذا قول بيّن أي أفغير الله أعبد أنتم تأمرونّي، وفي هذا معنى في أمركم. والأخفش سعيد يقول: تأمرونني ملغى كما تقول: قال ذلك زيد بلغني. وهذا هو قول سيبويه بعينه فأما أن يكون الشيء يعمل نصبا فإذا حذف كان عمله أقوى فعمل رفعا فبين الخطأ، ولو أظهرت «أن» هاهنا لم يجز وكان تفريقا بين الصلة والموصول، والأصل: تأمرونني أدغمت النون في النون فأما «تأمروني» بنون واحدة مخفّفة فإنما يجيء مثله شاذّا في الشعر، وأبو عمرو بن العلاء رحمه الله يقول لحن، وقد أنشد سيبويه في مثله: [الوافر] ٣٩٢-
ترعاه كالثّغام يعلّ مسكا يسوء الفاليات إذا فليني
«٢» وسمعت علي بن سليمان يقول: كان النحويون من قبل يتعجّبون من فصاحة جرير وقوله على البديه إنهم يبدؤوني. فأما حذف الياء من «تأمروني» فسهل لأنّ النون كأنها عوض منها والكسرة دالّة عليها.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٦٥]
وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥)
وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ قال محمد بن يزيد:
ليفسدنّ وذهب إلى أنّه من قولهم حبط بطنه يحبط وحبج يحبج إذا فسد من داء بعينه.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٦٦]
بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦)
بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ قال أبو جعفر: في كتابي عن أبي إسحاق لفظ اسم الله جلّ وعزّ منصوب بأعبد، قال: ولا اختلاف في هذا عند البصريين والكوفيين. قال أبو جعفر:
وقد قال الفراء «٣» : يكون نصبا بإضمار فعل لأنه أمر. فأمال الفاء فقال أبو إسحاق: إنها للمجازاة، وغيره يقول بأنها زائدة.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٦٧]
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧)
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ قال محمد بن يزيد: أي عظّموه من قولك فلان عظيم
(١) انظر الكتاب ٣/ ١١٦.
(٢) مرّ الشاهد رقم (١٣٤).
(٣) انظر معاني الفراء ٢/ ٢٤٢.
القدر. قال أبو جعفر: فالمعنى على هذا: وما عظّموا الله حقّ عظمته إذ عبدوا معه غيره، وهو خالق الأشياء ومالكها وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ مبتدأ وخبره، وأجاز الفراء «١» :«قبضته» بالنصب بمعنى في قبضته. قال أبو إسحاق: لم يقرأ به، وهو خطأ عند البصريين لا يجوز لا يقولون: زيد قبضتك ولا المال قبضتك أي في قبضتك، قال: ولو جاز هذا لجاز: زيد دارك، أي في دارك. وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ مبتدأ وخبره، وأجاز الكسائي والفراء «٢» وأبو إسحاق: «مطويّات» بكسر التاء، قال أبو إسحاق: على الحال.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٦٨ الى ٧٠]
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (٧٠)
ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ وأجاز الكسائي: قياما بالنصب، كما تقول:
خرجت فإذا زيد جالسا. قال زيد بن أسلم في قوله جلّ وعزّ: وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ الشهداء الحفظة.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٧١ الى ٧٣]
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣)
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً نصب على الحال. حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها «٣» جواب إذا. وفي قصّة أهل الجنة. وَفُتِحَتْ بالواو. فالكوفيون يقولون:
الواو زائدة، وهذا خطأ عند البصريين لأنها تفيد معنى وهي العطف هاهنا والجواب محذوف قال محمد بن يزيد: أي سعدوا. وحذف الجواب بليغ في كلام العرب وأنشد: [الطويل] ٣٩٣-
فلو أنّها نفس تموت سويّة ولكنّها نفس تساقط أنفسا
«٤» فحذف جواب «لو»، والتقدير: لكان أروح. فأما الحكمة في إثبات الواو في الثاني وحذفها من الأول فقد تكلّم فيه بعض أهل العلم، يقول: لا أعلم أنه سبقه إليه
(١) انظر معاني الفراء ٢/ ٤٢٥.
(٢) انظر معاني الفراء ٢/ ٤٢٥. [.....]
(٣) انظر تيسير الداني ١٥٤.
(٤) مرّ الشاهد رقم (٢٨٤).
أحد، وهو أنه قال: لمّا قال الله جلّ وعزّ في أهل النار حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها دلّ بهذا على أنها كانت مغلقة، ولما قال في أهل الجنة حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها دلّ بهذا على أنها كانت مفتّحة قبل أن يجيئوها. والله جلّ وعزّ أعلم.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٧٤]
وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤)
وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ قد ذكرنا قول قتادة إنها أرض الجنة، وقد قيل: إنها أرض الدنيا على التقديم والتأخير.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٧٥]
وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٧٥)
حَافِّينَ قال الأخفش: واحدهم حافّ، وقال الفراء: لا يفرد لهم واحد لأن هذا الاسم لا يقع لهم إلّا مجتمعين وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي يقول المؤمنون: الحمد لله الذي أثابنا فله الحمد على ما أثابنا من نعمه وإحسانه ونصرنا على من ظلمنا.
Icon