تفسير سورة الزمر

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة الزمر من كتاب تفسير القشيري المعروف بـلطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ

سورة الزمر
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» بسم الله كلمة سماعها يوجب للقلوب شفاءها، وللأرواح ضياءها، وللأسرار سناءها وعلاءها.
كلمة من سمعها بسمع العلم ازداد بصيرة على بصيرة، ثم بلطائف من التعريف غير محصورة.
ومن سمعها بسمع الوجد ظلّت ألبابه مبهورة، وأسراره بقهر الكشوفات منشورة.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١)
أي هذا كتاب عزيز نزل من ربّ عزيز على عبد عزيز بلسان ملك عزيز في شأن أمة عزيزة بأمر عزيز. وفي ورود الرسول به من الحبيب الأول نزهة لقلوب الأحباب بعد ذبول غصن سرورها، وارتياح عند قراءة فصولها.
وكتاب موسى في الألواح التي كان منها يقرأ موسى، وكتاب نبيّنا ﷺ نزل به الروح الأمين على قلب المصطفى صلوات الله عليه.. وفصل بين من يكون كتاب ربّه مكتوبا في ألواحه، وبين من يكون خطاب ربّه محفوظا في قلبه، وكذلك أمته، قال تعالى:
«بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ «١» ».
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٢]
إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢)
أي أنزلنا عليك القرآن بالدين الحق والشرع الحق، وأنا محقّ في إنزاله.
(١) آية ٤٩ سورة العنكبوت.
والعبادة الخالصة معانقة الأمر على غاية الخشوع. وتكون بالنّفس والقلب والروح فالتى بالنفس فالإخلاص فيها التباعد عن الانتقاص، والتي بالقلب فالإخلاص فيها العمى عن رؤية الأشخاص، والتي بالروح فالإخلاص فيها التنقّى عن طلب الاختصاص «١».
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٣]
أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣)
الدين الخالص ما تكون جملته لله فما للعبد فيه نصيب فهو من الإخلاص بعيد، اللهم أن يكون بأمره فإنه إذا أمر العبد أن يحتسب الأجر على طاعته فإطاعته لا تخرجه عن الإخلاص باحتسابه ما أمره به، ولولا هذا لما صحّ أن يكون في العالم مخلص.
«وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ... » أي الذين عبدوا الأصنام قالوا: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى»، ولم يقولوا هذا من قبل الله ولا بأمره ولا بإذنه، وإنما حكموا بذلك من ذات أنفسهم، فردّ الله عليهم. وفي هذا إشارة إلى أن ما يفعله العبد من القرب بنشاط نفسه من غير أن يقتضيه حكم الوقت، وما يعقد بينه وبين الله من عقود ثم لا يفى بها.. فكل ذلك اتباع هوى، قال تعالى: «وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها «٢» ».
قوله جل ذكره: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ لا تهديهم اليوم لدينه، ولا في الآخرة إلى ثوابه. والإشارة فيه إلى تهديد من يتعرّض لغير مقامه، ويدّعى شيئا ليس بصادق فيه، فالله لا يهديه قط إلى ما فيه سداده ورشده.
وعقوبته أن يحرمه ذلك الشيء الذي تصدّى له بدعواه قبل تحققه بوجوده وذوقه.
(١) تصلح هذه الفقرة لتوضيح درجات العبادة ودرجات الإخلاص، والآفات التي تلحق كل درجة منها، وكيفية التنقى عن هذه الآفات- وبمعنى آخر فإنها تهمنا عند ما نبحث أصول ما أطلقنا عليه: علم النفس الصوفي. [.....]
(٢) آية ٢٧ سورة الحديد.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٤]
لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٤)
خاطبهم على قدر عقولهم وعقائدهم حيث قالوا: المسيح ابن الله، وعزيز ولد الله فقال:
لو أراد أن يتّخذ ولدا للتبنّى والكرامة لاختار من الملائكة الذين هم منزّهون عن الأكل والشرب وأوصاف الخلق.
ثم أخبر عن تقدّسه عن ذلك فقال: «سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ» تنزيها له عن اتخاذ الأولاد.. لا في الحقيقة لاستحالة معناه في نعته، ولا بالتبنى لتقدّسه عن الجنسية والمحالات، وإنما يذكر ذلك على جهة استبعاد إذ لو كان ذلك فكيف كان يكون حكمه؟ كقوله تعالى: «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا «١» ».
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٥]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥)
أي خلقهما وهو محقّ في خلقهما.
يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يدخل الليل على النهار، ويدخل النهار على الليل في الزيادة والنقصان، وسخّر الشمس والقمر. وقد مضى فيما تقدم اختلاف أحوال العبد في القبض والبسط، والجمع والفرق، والأخذ والرد، والصحو والسّكر، ونجوم العقل وأقمار العلم، وشموس المعرفة ونهار التوحيد، وليالى الشّكّ والجحد ونهار الوصل، وليالى الهجر والفراق وكيفية اختلافها، وزيادتها ونقصانها.
أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ «الْعَزِيزُ» المتعزّز على المحبين، «الْغَفَّارُ» للمذنبين.
(١) آية ٢٢ سورة الأنبياء.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٦]
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦)
«مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها» يعنى آدم وحواء.
«وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ» أي خلق لكم، «ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ» فمن الإبل اثنين، ومن البقر اثنين، ومن الضأن اثنين، ومن المواشي اثنين.
«يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ» : أي يصوّركم، ويركّب أحوالكم.
«فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ» : ظلمة البطن، وظلمة الرّحم، وظلمة المشيمة «١». ذكّرهم نسبتهم لئلا يعجبوا بأحوالهم.
ويقال بيّن آثار أفعاله الحكيمة في كيفية خلقتك- من قطرتين- أمشاجا متشاكلة الأجزاء، مختلفة الصّور في الأعضاء، سخّر بعضها محالّ للصفات الحميدة كالعلم والقدرة والحياة.. وغير ذلك من أحوال القلوب، وسخّر بعضها محالّ للحواس كالسمع والبصر والشّمّ وغيرها.
ويقال هذه كلها نعم أنعم الله بها علينا فذكّرنا بها- والنفوس مجبولة، وكذلك القلوب على حبّ من أحسن إليها- استجلابا لمحبتنا له.
«ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ » «٢» أي إن الذي أحسن إليكم بجميع هذه الوجوه هو ربّكم.
(١) هكذا في م وهي الصواب أما في ص فهى (البشيمة) والظلمات الثلاث التي أوردها القشيري على هذا النحو قالها ابن عباس وعكرمة ومجاهد وقتادة والضحاك.
وقال أبو عبيدة: ظلمة صلب الرجل، وظلمة بطن المرأة، وظلمة الرحم (القرطبي ج ١٥ ص ٢٣٦).
(٢) يبدو أن القشيري منذ هذه اللحظة وحتى الاية الكريمة التالية انتابته حالة من حالات الذكر، فجاءت كلماته أشبه بالتسبيح والنجوى.
أي: أنا خلقتكم وأنا رزقتكم وأنا صوّرتكم فأحسنت صوركم، وأنا الذي أسبغت عليكم إنعامى، وخصعتكم بجميل إكرامى، وأغرقتكم في بحار أفضالى، وعرفتكم استحقاق جمالى وجلالى، وهديتم إلى توحيدى، وألزمتكم رعاية حدودى... فما لكم لا تنقطعون بالكلية إليّ؟ ولا ترجون ما وعدتكم لديّ؟ وما لكم في الوقت بقلوبكم لا تنظرون إليّ؟
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٧]
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧)
إن أعرضتم وأبيتم، وفي جحودكم تماديتم.. فما نفتقر إليكم إذ نحن أغنياء عنكم، ولكنّى لا أرضى لكم أن تبقوا عنى! يا مسكين... أنت إن لم تكن لى فأنا عنك غنيّ، وأنا إن لم أكن لك فمن تكون أنت؟ ومن يكون لك؟ من الذي يحسن إليك؟ من الذي ينظر إليك؟ من الذي يرحمك؟
من الذي ينثر التراب على جراحك؟
من الذي يهتم بشأنك؟ بمن تسلو إذا بقيت عنّى؟ من الذي يبيعك رغيفا بمثاقيل ذهب؟!.
عبدى.. أنا لا أرضى ألا تكون لى وأنت ترضى بألا تكون لى! يا قليل الوفاء، يا كثير التجنّى! إن أطعتنى شكرتك، وإن ذكرتنى ذكرتك، وإن خطوت لأجلى خطوة ملأت السماوات والأرضين من شكرك:
لو علمنا أنّ الزيارة حقّ... لفرشنا الخدود أرضا لترضى
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٨]
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (٨)
إذا مسّه ضرّ خشع وخضع، وإلى قربه فزع، وتملّق بين يديه وتضرع. فإذا أزال عنه ضرّه، وكفاه أمره، وأصلح شغله نسى ما كان يدعو إليه من قبل، وجعل لله أندادا، فيعود إلى رأس كفرانه، وينهمك في كبائر عصيانه، ويشرك بمعبوده. هذه صفته... فسحقا له وبعدا، ولسوف يلقى عذابا وخزيا.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٩]
أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (٩)
«١» «قانِتاً» : القنوت هو القيام، وقيل طول القيام. والمراد هو الذي يقوم بحقوق الطاعة أوقات الليل والنهار أي في جميع الأوقات.
والهمزة للاستفهام أي أمن هو قانت كمن ليس بقانت؟ أمن هو قانت كالكافر الذي جرى ذكره؟ أي ليس كذلك.
ويقال القنوت القيام بآداب الخدمة ظاهرا وباطنا من غير فتور ولا تقصير. «يَحْذَرُ» العذاب الموعود في الآخرة، «وَيَرْجُوا» الثواب الموعود. وأراد بالحذر الخوف.
قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ
(١) قال ابن عباس في رواية عطاء: نزلت في أبى بكر الصديق رضى الله عنه.
وقال ابن عمر: نزلت في عثمان بن عفان.
وقال مقاتل: نزلت في عمار بن ياسر.
(اسباب النزول للواحدى ص ٢٤٧)
أي هل يستويان؟ هذا في أعلى الفضائل وهذا في سوء الرذائل! «الَّذِينَ يَعْلَمُونَ» : العلم فى وصف المخلوق على ضربين: مجلوب مكتسب للعبد، وموهوب من قبل الربّ. ويقال مصنوع وموضوع. ويقال علم برهان وعلم بيان فالعلوم الدينية كلّها برهانية إلّا ما يحصل بشرط الإلهام.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ١٠]
قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠)
أطيعوه واحذروا مخالفة أمره. «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا» بأداء الطاعات، (والإحسان هو الإتيان بجميع وجوه الإمكان) «١».
«وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ» : أي لا تتعلّلوا بأذى الأعداء إن نبا بكم منزل فتعلّلكم بمعاداة قوم ومنعهم إياكم- لا يسمع، فأرض الله واسعة، فاخرجوا منها إلى موضع آخر تتم لكم فيه عبادتكم «٢».
«إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ». والصبر حبس النّفس على ما تكرهه.
ويقال هو تجرّع كاسات التقدير من غير استكراه ولا تعبيس.
ويقال هو التهدّف «٣» لسهام البلاء.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ١١ الى ١٢]
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢)
(١) تأخر ما بين قوسين فجاء بعد (السهام البلاء) فوضعناه في هذا المكان لأنه يوضح المقصود بتوضيح «أحسنوا».
(٢) يقول القشيري في إحدى وصاياه للمريدين حاثا على السفر: «إن ابتلى مريد بجاه أو معلوم أو صحبة حدث أو ميل إلى امرأة أو استنامة إلى معلوم وليس هناك شيخ يدله على ما به يتخلص من ذلك فعند ذلك حل له السفر والتحول عن ذلك الموضع ليشوش على نفسه تلك الحالة» (الرسالة ص ٢٠٢).
(٣) التهدف- الدنو والاستقبال.
مضى القول في معنى الإخلاص. وفي الخبر: إن الله يقول: «الإخلاص سرّ بين الله وعبده» «١».
ويقال الإخلاص لا يفسده الشيطان، ولا يطّلع علية الملكان.
«أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ..» أمرت لأن أكون أول المسلمين في وقتى وفي شرعى. والإسلام الانقياد لله بكل وجه.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ١٣]
قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣)
أخاف أصناف العذاب التي تحصل في ذلك اليوم.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ١٤ الى ١٥]
قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥)
هذا غاية الزجر والتهديد، ثم بيّن أن ذلك غاية الخسران، وهو الخزي والهوان. والخاسر- على الحقيقة- من خسر دنياه بمتابعة الهوى، وخسر عقباه بارتكابه ما الربّ عنه نهى، وخسر مولاه فلم يستح منه فيما رأى.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ١٦]
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (١٦)
أحاط بهم سرادقها فهم لا يخرجون منها، ولا يفترون عنها. كما أنهم اليوم في جهنم
(١) أخطأ الناسخ في ص إذ جعلها (ستر) بالتاء والصواب هى (سر)، وقد ورد الخبر في الرسالة هكذا:
أخبر النبي (ص) عن جبريل عن الله سبحانه أنه قال: «الإخلاص سر من سرى استودعته قلب من أحببته من عبادى» (الرسالة ص ١٠٤).
عقائدهم يستديم حجابهم، ولا ينقطع عنهم عقابهم «١».
«ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ » إن خفت اليوم كفيت خوف ذلك اليوم وإلّا فبين يديك عقبة كوود.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ١٧]
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧)
«٢» طاغوت كلّ إنسان نفسه وإنما يجتنب الطاغوت من خالف هواه، وعانق رضا مولاه.
وعبادة النّفس بموافقة الهوى- وقليل من لا يعبد هواه، ويجتنب حديث النّفس.
«وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ» : أي رجعوا إليه في كل شىء.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ١٨]
الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨)
«٣» «يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ» يقتضى أن يكون الاستماع لكل شىء، ولكن الاتباع يكون للأحسن. «أَحْسَنَهُ» : وفيه قولان أحدهما أن يكون بمعنى الحسن ولا تكون الهمزة للمبالغة، كما يقال ملك أعزّ أي عزيز. والثاني: والأحسن على المبالغة، والحسن ما كان مأذونا فيه في صفة الخلق ويعلم ذلك بشهادة العلم «٤»، والأحسن هو الأولى والأصوب. ويقال الأحسن ما كان لله دون غيره، ويقال الأحسن هو ذكر الله خالصا له. ويقال من عرف الله لا يسمع إلا بالله.
(١) إن استيلاء الحب على قلب الصوفي يجعله ينظر إلى العقوبة في الآخرة على أنها أقل تعذيبا إذا قيست بعذاب الهجر والنأى، أو على حد تعبيرهم جهنم الاحتراق أخف من جهنم الفراق.. ولهم في ذلك أقوال جريئة كثيرة (انظر كتابنا: نشأة التصوف الإسلامى ط دار المعارف ص ٢٤٨).
(٢) قال ابن زيد: نزلت هذه الآية في ثلاثة أنفار كانوا في الجاهلية يقولون: لا إله إلا الله، وهم زيد بن عمرو وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي (الواحدي ص ٢٤٧).
(٣) نزلت في عثمان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة وسعيد بن زيد وسعد بن أبى وقاص وكان استماعهم لأبى بكر وهو يخبرهم بإيمانه (الواحدي ص ٢٤٧، ٢٤٨).
(٤) استخدم القشيري هذا المفهوم في تأييد وترخيص «السماع» بالمعنى الصوفي (الرسالة ص ١٦٦).
ويقال إن للعبد دواعى من باطنه هي هواجس النفس ووساوس الشيطان وخواطر الملك وخطاب الحقّ يلقى في الرّوع فوساوس الشيطان تدعو إلى المعاصي، وهواجس النفس تدعو إلى ثبوت الأشياء من النّفس وأنّ لها في شىء نصيبا، وخواطر الملك تدعو إلى الطاعات والقرب، وخطاب الحقّ في حقائق التوحيد.
«أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ» :- أولئك الذين هداهم الله لتوحيده، وأولئك الذين عقولهم غير معقولة «١».
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ١٩]
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩)
؟ الذين حقّت عليهم كلمة العذاب فريقان: فريق حقت عليهم كلمة بعذابهم في النار، وفريق حقت عليهم كلمة العذاب بالحجاب اليوم، فهم اليوم لا يخرجون عن حجاب قلوبهم، ولا يكون لهم بهذه الطريقة إيمان- وإن كانوا من أهل الإيمان».
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٢٠]
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (٢٠)
وعد المطيعين بالجنّة- ولا محالة لا يخلف، ووعد التائبين بالمغفرة- ولا محالة يغفر لهم، ووعد المريدين بالوجود والوصول- وإذا لم تقع لهم فترة فلا محالة مصدق وعده.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٢١]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١)
(١) (عقولهم غير معقولة) أي غير حبيسة أو ممنوعة عن الإدراك وتصحيح الإيمان، فهذه هي المهمة الأساسية العقل في نظر المصنف- كما نوهنا بذلك. وربما كانت في الأصل (مقفولة) فيها أيضا يستقيم المعنى. [.....]
(٢) نعلم أن كثيرين في أوساط أهل السّتّة يعارضون العديد من مسائل التصوف، ومن أمثالهم ابن تيميه وابن الجوزي.
أخبر أنه ينزل من السماء المطر فيخرج به الزرع فيخضرّ، ثم يأخذ في الجفاف، ثم يصير هشيما والإشارة من هذا إلى الإنسان، يكون طفلا ثم شابا ثم كهلا ثم شيخا ثم يصير إلى أرذل العمر ثم في آخره يخترم.
ويقال إن الزّرع ما لم يأخذ في الجفاف لا يؤخذ منه الحبّ، فالحبّ هو المقصود منه..
كذلك الإنسان ما لم يحصل من نفسه وصول لا يكون له قدر ولا قيمة.
ويقال إن كون المؤمن بقوة عقله يوجب استفادة له بعلمه إلى أن يبدو منه كمال يمكّن من أنوار بصيرته، ثم إذا بدت لائحة من سلطان المعارف تصير تلك الأنوار مغمورة. فإذا بدت أنوار التوحيد استهلكت تلك الجملة، قالوا:
فلمّا استبان الصبح أدرج «١» ضوءه بأنواره أنوار تلك الكواكب
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٢٢]
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢)
جواب هذا الخطاب محذوف أي أفمن شرح الله صدره للإسلام كمن ليس كذلك؟
لمّا نزلت هذه الآية سئل الرسول- صلى الله عليه وسلم- عن الشرح المذكور فيها، فقال: «ذلك نور يقذف فى القلب، فقيل: وهل لذلك أمارة؟
(١) أدرج الشيء أي أفناه (الوسيط). والمقصود أن أنوار مصابيح المعرفة الإنسانية تتلاشى وتفنى عند سطوع شمس الحقيقة. وقد وردت في ص ٤٣ من الرسالة (أدرك) والصواب في نظرنا (أدرج).
قال: نعم التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله «١» ».
والنور الذي من قبله- سبحانه- نور الّلوائح بنجوم العلم، ثم نور اللوامع ببيان الفهم، ثم نور المحاضرة بزوائد اليقين، ثم نور المكاشفة بتجلى الصفات، ثم نور المشاهدة بظهور الذات، ثم أنوار الصمدية بحقائق التوحيد.. وعند ذلك فلا وجد ولا فقد «٢»، ولا قرب «٣» ولا بعد... كلّا بل هو الله الواحد القهار «٤».
«فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» «٥» : أي الصلبة قلوبهم، لم تقرعها خواطر التعريف فبقيت على نكرة الجحد.. أولئك في الضلالة الباقية، والجهالة الدائمة..
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٢٣]
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣)
«٦»
(١) أورد الغزالي هذا الخبر في منقذه، وشرح مهمة هذا النور بأنه الذي يطلب منه الكشف: وأنه ينبجس من النور الإلهى (المنقذ من الضلال ط القاهرة ص ٢٥٥).
(٢) هكذا في م وهي في ص (قصد) بالصاد وهي خطأ في النسخ، فالوجد يقابله الفقد.
(٣) فى ص (ولا فرق) والصواب أن تكون (ولا قرب) لتقابل (ولا بعد) لأنه لو قال (ولا فرق) لكان قد قال (ولا جمع) مع أن الموقف هنا موقف (جمع).. والمقصود اختفاء تقلبات التلوين، والوصول إلى مرتبة التمكين، أي الوصول إلى حال (جمع الجمع).
(٤) تفيد هذه الفقرة في فهم كثير من المصطلحات، وهذه أول مرة نصادف للقشيرى عبارة (بظهور الذات) لأنه في مواضع كثيرة يلح على أن المشاهدة (للصفات كالجمال أو الجلال أو... إلخ) أما (الذات) فقد جلّت الصمدية- كما يقول- عن أن يستشرف منها مخلوق.
(٥) نزلت في أبى لهب وأولاده الذين قست قلوبهم عن ذكر الله. (الواحدي ص ٢٤٨) واختار الطبري القول بأن (من) فى الآية بمعنى (عن) أي قست قلوبهم عن ذكر الله.
(٦) قال سعد بن أبى وقاص: قال أصحاب رسول الله (ص) : لو حدّثتنا.. فانزل الله عزّ وجل «الله نزّل أحسن الحديث» فقالوا: لو قصصت علينا.. فنزل «نحن نقص عليك أحسن القصص»
«أَحْسَنَ الْحَدِيثِ» لأنه غير مخلوق «١» «كِتاباً مُتَشابِهاً» فى الإعجاز والبلاغة.
«مَثانِيَ» : يثنى فيها الحكم ولا يملّ بتكرار القراءة، ويشتمل على نوعين:
الثناء عليه بذكر سلطانه وإحسانه، وصفات الجنة والنار والوعد والوعيد.
«تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ» إذا سمعوا آيات الوعيد.
«ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ» إذا سمعوا آيات الوعد.
ويقال: تقشعر وتلين بالخوف والرجاء، ويقال بالقبض والبسط، ويقال بالهيبة والأنس، ويقال بالتجلّى والاستتار «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٢٤]
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤)
أي فمن يتقى بوجهه سوء العذاب كمن ليس كذلك؟ وقيل إنّ الكافر يلقى النار أوّل ما يلقاها بوجهه لأنه يرمى فيها منكوسا. فأمّا المؤمن فيوقى ذلك وإنما يلقّى النضرة والسرور والكرامة فوجهه ضاحك مستبشر.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٢٥]
كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥).
(١) سمّى القرآن حديثا لأن الرسول (ص) كان يحدّث به أصحابه وقومه، وهو كقوله: «فبأى حديث بعده يؤمنون» وقوله: «أفمن هذا الحديث تعجبون» ويخطّىء أهل السّنّة من يستند في أن القرآن مخلوق إلى أن «الحديث» من الحدوث فالكلام محدث فقالوا: الحدوث يرجع إلى التلاوة لا إلى المتلو، كالذكر مع المذكور إذا ذكرنا أسماء الله وصفاته الحسنى.
(٢) يستفيد الصوفية من هذه الآية في تدعيم نظريتهم فى «السماع» والتأثرات النفسية والعضوية الناجمة عن تقلب الأحوال.
أشدّ العذاب ما يكون بغتة، كما أنّ أتمّ السرور ما يكون فلتة.
ومن الهجران والفراق ما يكون بغتة غير متوقع، وهو أنكى للفؤاد وأشدّ وأوجع تأثيرا في القلب، وفي معناه قلنا:
فبتّ بخير والدّنى مطمئنة وأصبحت يوما والزمان تقلّبا
وأتمّ السرور وأعظمه تأثيرا ما يكون فجأة، قال قائلهم:
بينما خاطر المنى بالتلاقى سابح في فؤاده وفؤادى
جمع الله بيننا فالتقينا هكذا صدفة بلا ميعاد قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٢٧ الى ٢٨]
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨)
أي أوضحنا لهم الآيات، ووقفناهم على حقائق الأشياء.
«غَيْرَ ذِي عِوَجٍ» : فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٢٩]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٩)
مثّل الكافر ومعبوديه يعبد اشترك فيه متنازعون.
«فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ» : فالصنم يدعى فيه قوم وقوم آخرون فهذا يقول:
أنا صنعته، وذلك يقول: أنا استعملته، وثالث يقول: أنا عبدته.
أمّا المؤمن فهو خالص لله عزّ وجلّ، يشبه «عبدا سلما لرجل» أي ذا سلامة من التنازع والاختلاف.
ويقال «رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ» تتجاذبه أشغال الدّنيا، شغل الولد وشغل العيال، وغير ذلك من الأشغال المختلفة والخواطر المشتّتة.
أمّا المؤمن فهو خالص لله ليس لأحد فيه نصيب ولا للدنيا معه سبب إذ ليس منها شىء، ولا للرضوان معه شغل «١»، إذ ليس له طاعات يدلّ بها، وعلى الجملة فهو خالص لله، قال تعالى لموسى: «وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي» «٢» أي أبقيتك لى حتى لا تصلح لغيرى.
«الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ» : الثناء له، وهو مستحقّ لصفات الجلال.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٣٠ الى ٣١]
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١)
نعاه- عليه السلام- إليه. ونعى المسلمين إليهم ففزعوا بأجمعهم من ماثمهم «٣»، ولا تعزية في العادة بعد ثلاث. ومن لم يتفرّغ من مآثم نفسه وأنواع همومه، فليس له من هذا الحديث «٤» شمّة، فإذا فرغ قلبه من حديث نفسه، وعن الكون بجملته فحينئذ يجد الخير من ربّه، وليس هذا الحديث إلا بعد فنائهم عنهم، وأنشد بعضهم:
(١) لقيت الجنة من كبار الشيوخ مواقف لا يخلو التعبير عنها- عند من لا يفقهونها- الكثير من الاستغراب، من ذلك ما يقوله أبو يزيد البسطامي: ما الجنة؟ لعبة صبيان! ويقول: الجنة هي الحجاب الأكبر لأن أهل الجنة سكنوا إلى الجنة، وكلّ من سكن إلى الجنة سكن إلى سواه فهو محجوب.
(٢) آية ٤١ سورة طه.
(٣) هكذا في ص وهي مقبولة لتناسب الخصومة التي سيترتب عليها في الآخرة الاختصام.
(٤) يقصد حديث الفناء عن كل أرب وسيب، أي الفناء بالمعنى الصوفي. [.....]
كتابى إليكم بعد موتى بليلة... ولم أدر أنى بعد موتى أكتب
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٣٢]
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢)
الإشارة فيه إلى من أشار إلى أشياء لم يبلغها، وادّعى وجود أشياء لم يذق شيئا منها، قال تعالى: «وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ «١» ».
ويقال: لا بل هؤلاء هم الكفار، وأمّا المدّعى الذي لم يبلغ ما يدّعيه فليس يكذب على ربّه إنما يكذب على نفسه حيث ادّعى لها أحوالا لم يذقها ولم يجدها، فأمّا غير المتحقق الذي يكذب على الله فهو الجاحد والمبتدع الذي يقول في صفة الحقّ- سبحانه- ما يتقدّس ويتعالى عنه «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٣٣ الى ٣٤]
وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤)
الذي جاء بالصدق في أفعاله من حيث الإخلاص، وفي أحواله من حيث الصدق، وفي أسراره من حيث الحقيقة.
«ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ» : الإحسان- كما جاء في الخبر- أن تعبد الله كأنك تراه.
فمن كانت- اليوم- مشاهدته على الدوام كانت رؤيته غدا على الدوام، ومن لا فلا «٣».
(١) آية ٦٠ من هذه السورة.
(٢) وإلى أمثال هؤلاء أشار القشيري في مستهل رسالته قائلا «.. ثم لم يرضوا بما تعاطوه من سوء الأفعال، حتى أشاروا إلى أعلى الحقائق والأحوال، وادّعوا أنهم تحرروا عن رق الاغلال، وتحققوا بحقائق الوصال، وأنهم قائمون بالحق تجرى عليهم أحكامه وهم محو، وأنهم كوشفوا بأسرار الأحدية وزالت عنهم أحكام البشرية، والقائل عنهم غيرهم إذا نطقوا... » الرسالة ص ٣.
(٣) روى مسلم عن جابر ويبعث كل عبد على مامات عليه» ٦/ ٤٥٧ فيض القدير للمناوى «ومن كان مجالة لقى الله عليها».
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٣٥]
لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥)
من لا يكون مؤمنا فليس من أهل هذه الجملة. ومن كان معه إيمان: فإذا كفّر عنه أسوأ ما عمله فأسوأ أعماله كبائره فإن غفرت يجزهم بأحسن أعمالهم. وأحسن أعمال المؤمن الإيمان والمعرفة، فإن كان الإيمان مؤقتا كان ثوابه مؤقتا، وإن كان الإيمان على الدوام فثوابه على الدوام. ثم أحسن الأعمال عليها أحسن الثواب، وأحسن الثواب الرؤية فيجب أن تكون على الدوام «١» - وهذا استدلال قوى.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (٣٧)
استفهام والمراد منه التقرير فالله كاف عبده اليوم في عرفانه بتصحيح إيمانه ومنع الشّرك عنه، وغدا في غفرانه بتأخير العذاب عنه، وما بينهما فكفايته تامة وسلامته عامة.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٣٨]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨)
قرّر عليهم علوّ صفاته، وما هو عليه من استحقاق جلاله فأقرّوا بذلك، ثم طالبهم بذكر صفات الأصنام التي عبدوها من دونه، فلم يمكنهم في وصفها إلا بالجمادية، والبعد عن الحياة والعلم والقدرة والتمكّن من الخلق، فيقول: كيف أشركتم به هذه الأشياء؟ وهلّا استحييتم من إطلاق أمثال ذلك في صفته؟.
(١) «فيجب أن تكون الرؤية على الدوام» نلاحظ إلحاح القشيري على هذا الرأى في خاتمة تفسيره للآية السابقة وفي هذه الآية، ولهذا الرأى أهميته في مسألتين: خلود الجنة والرؤية.. مسألتان كان حولهما جدل كثير أشرنا إلى بعضه في تعليقات سابقة.
قل- يا محمد- حسبى الله، عليه يتوكل المتوكلون كافيّ الله المتفرّد بالجلال، القادر على ما يشاء، المتفضّل عليّ بما يشاء.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٣٩ الى ٤٠]
قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٤٠)
سوف ينكشف ربحنا وخسرانكم، وسوف تظهر زيادتنا ونقصانكم، وسوف نطالبكم فلا جواب لكم، ونعذّبكم فلا شفيع لكم، وندمّر عليكم فلا صريخ لكم.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٤١]
إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١)
من أحسن فإحسانه إلى نفسه اكتسبه «١»، ومن أساء فبلاؤه على نفسه جلبه- والحقّ غنيّ عن التجمّل بطاعة من أقبل والتنقّص بزلّة من أعرض.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٤٢]
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢)
يقبض الأرواح «٢» حين موتها، والتي لم تمت من النفوس في حال نومها، فإذا نامت
(١) (اكتسبه) موجودة في م وسقطت في ص.
(٢) واضح هنا أن القشيري لا يكاد يميز بين (النفس) و (الروح) مع أنه في الرسالة ص ٤٨ يميز بينهما فيقول (يحتمل أن تكون النفس لطيفة مودعة في القالب) - البدن وهي محل الأخلاق المعلولة (موجودة في الرسالة خطأ المعلومة) كما أن الروح لطيفة في القالب هي محل الأخلاق المحمودة.. والجميع إنسان واحد، وكونهما بصفة-
فيقبض أرواحها «١». وقبض الأرواح في حال الموت بإخراج اللطيفة التي في البدن وهي الروح، ويخلق بدل الاستشعار والعلم الغفلة والغيبة في محالّ الإحساس والإدراك. ثم إذا قبض الأرواح عند الموت خلق في الأجزاء الموت بدل الحياة، والموت ينافى الإحساس والعلم. وإذا ردّ الأرواح بعد النوم إلى الأجساد خلق الإدراك في محل الاستشعار فيصير الإنسان متيقظا، وقبض الله الأرواح في حال النوم وردت به الأخبار، وذلك على مراتب فإنّ روحا تقبض على الطهارة ترفع إلى العرش وتسجد لله تعالى، وتكون لها تعريفات، ومعها مخاطبات «والله أعلم».
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٤٣]
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (٤٣)
أي أنهم- وإن اتخذوا على زعمهم من دون الله شفعاء بحكمهم لا بتعريف من قبل الله أو إخبار- فإنّ الله تعالى لا يقبل الشفاعة من أحد إلّا إذا أذن بها، وإنّ الذي يقولونه إنما هو افتراء على الله.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٤٥]
وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٥)
اللطافة في الصورة ككون الملائكة والشياطين بصفة اللطافة» ثم يعود بعد قليل متحدثا عن الروح فيقول: الأرواح مختلف فيها عند أهل التحقيق من أهل السنة فمنهم من يقول إنها الحياة، ومنهم من يقول إنها أعيان مودعة في القالب (اللطائف ح ٢ ص ٣٦٧) وفي تقديرنا أن المسألة ذات جانبين: فإذا نظرنا إلى الموضوع خارج دائرة التصوف فالروح والنفس بمعنى واحد متصل بالحياة، وقبضهما معناه موت البدن بدليل ما ورد عن الرسول (ص)، فهو مرة يقول (كما في حديث أم سلمة) : دخل رسول الله (ص) على أبى سلمة وقد شق (- انفتح) بصره فأغمضه ثم قال: «إن الروح إذا قبض تبعه البصر» وفي مرة أخرى يقول (ص) فى حديث صحيح خرجه ابن ماجه: «تحضر الملائكة فإذا كان الرجل صالحا قالوا اخرجى أيتها النفس الطيبة... » وفي صحيح مسلم: قال «ص» :«إذا خرجت روح المؤمن تلقاها ملكان يصعدان بها».
أما الجانب الآخر للمسألة فهو كونهما مصطلحين صوفيين فالنفس محل المعلولات والروح محل المحمودات..
وذلك ركن هام في مذهب القشيري لم يتخل عنه في كتاب من كتبه، كما هو مذهب كثيرين من المتصوفة.
(١) قبض الروح عند النوم معناه ترقيها (الرسالة ص ٤٨).
اشمأزّت قلوب الذين جحدوا ولم تسكن نفوسهم إلى التوحيد، وإذا ذكر الذين من دونه استأنسوا إلى سماعه:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٤٦]
قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦)
- علّمه- صلى الله عليه وسلم- كيف يثنى عليه- سبحانه «١».
وتشتمل الآية على الإشارة إلى بيان ما ينبغى من التنصّل والتذلّل، وابتغاء العفو والتفضّل، وتحقيق الالتجاء بحسن التوكل. ثم أخبر عن أحوالهم في الآخرة فقال:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٤٧]
وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧)
لا فتدوا به.. ولكن لا يقبل منهم، واليوم لو تصدّقوا بمثقال ذرة لقبل منهم. كما أنهم لو بكوا في الآخرة بالدماء لا يرحم بكاؤهم، ولكنهم بدمعة واحدة- اليوم- يمحى الكثير من دواوينهم.
قوله جل ذكره: وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ فى سماع هذه الآية حرات لأصحاب الانتباه.
(١) فى صحيح مسلم: أن عائشة سئلت بأى شىء كان النبي ﷺ يستفتح صلاته إذا قام من الليل؟ قالت: كان إذا قام من الليل افتتح صلاته: «اللهم رب جبريل وميكائيل واسرافيل، فاطر السماوات والأرض.
.. يختلفون»
، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدى من تشاء إلى صراط مستقيم».
وقال سعيد بن جبير: إنى لأعرف آية ما قرأها أحد قط وسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه قوله تعالى: «قل اللهم فاطر...... يختلفون».
وفي بعض الأخبار أن قوما من المسلمين من أصحاب الذنوب يؤمر بهم إلى النار [فإذا وافوها يقول لهم مالك: من أنتم؟ إن الذين جاءوا قبلكم من أهل النار وجوهم كانت مسودّة، وعيونهم «١» ] كانت مزرقّة.. وأنتم لستم بتلك الصفة، فيقولون: ونحن لم نتوقع أن نلقاك، وإنما انتظرنا شيئا آخر! قال تعالى «وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ»
«٢».
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٤٨]
وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤٨)
حاق بهم وبال استهزائهم وجزاء مكرهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٤٩ الى ٥١]
فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٩) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١)
فى حال الضّرّ يتبرّءون من الاستحقاق والحول والقوة، فإذا كشف عنهم البلاء وقعوا فى مغاليطهم، وقالوا: إنما أوتينا هذا باستحقاق منّا، قال تعالى: «بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ» ولكنهم لم يعلموا، ثم أخبر أن الذين من قبلهم مثل هذا قالوا وحسبوا، ولم يحصلوا إلا على مغاليطهم، فأصابهم شؤم ما قالوا، وهؤلاء سيصيبهم أيضا مثل ما أصاب أولئك.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٥٢]
أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢).
(١) ما بين القوسين مستدرك في هامش الورقة ٤٩٦ من النسخة ص
(٢) عن مجاهد قال: إنهم عملوا أعمالا توهموا أنها حسنات فإذا هي سيئات.
وقيل عملوا أعمالا توهموا أنهم يتوبون منها قبل الموت فأدركهم الموت قبل أن يتوبوا.
أما القشيري فيصرفها إلى المؤمنين العصاة، وواضح أنه يميز بين حالة ورودهم إلى النار، وورود الكفار، فهؤلاء على التأبيد وأولئك إلى حين.
أو لم يروا كيف خالف بين أحوال الناس في الرزق: فمن موسّع عليه رزقه، ومن مضيّق عليه، وليس لواحد منهم شىء ممّا خصّ به من التقليل أو التكثير.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٥٣]
قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣)
«١» التسمية ب «يا عِبادِيَ» مدح «٢»، والوصف بأنهم «أَسْرَفُوا» ذم. فلمّا قال:
«يا عِبادِيَ» طمع المطيعون في أن يكونوا هم المقصودين بالآية، فرفعوا رءوسهم، ونكّس العصاة رءوسهم وقالوا: من نحن.. حتى يقول لنا هذا؟! فقال تعالى: «الَّذِينَ أَسْرَفُوا» فانقلب الحال فهؤلاء الذين نكّسوا رءوسهم انتعشوا وزالت ذلّتهم، والذين رفعوا رءوسهم أطرقوا وزالت صولتهم «٣».
ثم أزال الأعجوبة عن القسمة بما قوّى رجاءهم بقوله: «عَلى أَنْفُسِهِمْ» يعنى إن أسرفت فعلى نفسك أسرفت.
«لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ» : بعد ما قطعت اختلافك إلى بابنا فلا ترفع قلبك عنّا.
«إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً» الألف واللام فى «الذُّنُوبَ» للاستغراق والعموم، والذنوب جمع ذنب، وجاءت «جَمِيعاً» للتأكيد فكأنه قال: أغفر ولا أترك، وأعفو ولا أبقى.
(١) أورد الواحدي في أسباب النزول عدة اقوال بشأن من نزلت فيهم هذه الآية الكريمة، ومن هذه الروايات:
عن ابن عباس قال: نزلت في أهل مكة حين قالوا: يزعم محمد أن من عبد الأوثان وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر له، فكيف نهاجر ونسلم وقد عبدنا مع الله إلها آخر وقتلنا النفس التي حرم الله.
وقال ابن عمر: نزلت في عياش بن ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين كانوا قد أسلموا ثم فتنوا وعذبوا فتركوا دينهم.
ويروى أنها نزلت في وحشي قاتل حمزة. (الواحدي ص ٢٤٨، ٢٤٩).
(٢) يقول الدقاق: ليس شىء أشرف من العبودية، وقد سمى بها الحق نبيه (ص) فقال: سبحان الذي أسرى بعبده، وقال: فأوحى إلى عبده ما أوحى- ولو كان اسم أجل من العبودية لسماه به. (الرسالة ص ١٠٠).
(٣) راجع ما قاله القشيري في قصة داود: (إنّ زلّة أسفك عليها يوصلك إلى ربك أجدى عليك من طاعة إعجابك بها يقصيك عن ربك). ويقول على بن أبى طالب: ما في القرآن أوسع من هذه الآية. ويقول عبد الله ابن عمر: هذه أرجى آية في القرآن. [.....]
ويقال إن كانت لكم جناية كثيرة عميمة فلى بشأنكم عناية قديمة «١».
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٥٤ الى ٥٥]
وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٥٥)
الإنابة الرجوع بالكلية. وقيل الفرق بين الإنابة وبين التوبة أن التائب يرجع من خوف العقوبة، وصاحب الإنابة يرجع استحياء لكرمه «٢».
«وَأَسْلِمُوا لَهُ» : وأخلصوا في طاعتكم، والإسلام- الذي هو بعد الإنابة- أن يعلم أنّ نجاته بفضله لا بإنابته فبفضله يصل إلى إنابته.. لا بإنابته يصل إلى فضله.
«مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ» قبل الفراق. ويقال هو أن يفوته وقت الرجوع بشهود الناس ثم لا ينصرف عن ذلك.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٥٦ الى ٥٨]
أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨)
يقال هذا في أقوام يرون أمثالهم تقدموا عليهم في أحوالهم، فيتذكرون ما سلف من تقصيرهم، ويرون ما وفّق إليه أولئك من المراتب فيعضون بنواجذ الحسرة على أنامل الخيبة.
(١) واضح أن القشيري يحاول بطرق شتى أن يفتح كل أبواب الأمل أمام اليائسين، فمهما كانت الذنوب كثيرة فعفو الله أكبر وأشمل، وبدا أن النص القرآنى يحتمل كل المحاولات التي يبذلها القشيري بسماحته الصوفية الأصيلة.
(٢) ينقل القشيري عن شيخه الدقاق قوله في هذا الخصوص: «أولها توبة وأوسطها إنابة وآخرها أوبة».
ثم يعلق على ذلك قائلا: فكل من تاب لخوف العقوبة فهو صاحب توبة، ومن تاب طمعا في الثواب فهو صاحب إنابة، ومن تاب مراعاة للأمر- لا لرغبة في ثواب أو رهبة من عقاب- فهو صاحب أوبة. ويقال التوبة صفة المؤمنين (وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون)، والإنابة صفة الأولياء والمقربين (وجاء بقلب منيب)، والأوبة صفة الأنبياء والمرسلين (نعم العبد إنه أواب) الرسالة ص ٥٠.
أو يقول: لو أنّ الله هدانى لكنت كذا، ويقول آخر: لو أنّ لى كرّة فأكون كذا، فيقول الحقّ- سبحانه:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٥٩]
بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (٥٩)
فذق من العذاب ما على جرمك استوجبت.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٦٠]
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠)
هؤلاء الذين ادّعوا أحوالا ولم يصدقوا فيها، وأظهروا المحبة لله ولم يتحققوا بها، وكفاهم افتضاحا بذلك! وأنشدوا:
ولمّا ادّعيت الحبّ قالت كذبتنى فمالى أرى الأعضاء منك كواسيا؟!
فما الحبّ حتى تنزف العين بالبكا وتخرس حتى لا تجيب المناديا «١»
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٦١]
وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١)
كما وقاهم- اليوم- عن المخالفات، حماهم- غدا- من العقوبات، فالمتقون فازوا بسعادة الدارين اليوم عصمة، وغدا نعمة. اليوم عناية وغدا حماية وكفاية.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٦٢]
اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢).
(١) ورد الشاهد الشعرى في الرسالة ص ١٦٠ هكذا: البيت الأول مطابق، والثاني هكذا ومتبوعا بثالث: -
فما الحب حتى يلصق القلب بالحشا وتذبل حتى لا تجيب المناديا
وتنحل حتى لا يبقى لك الهوى سوى مقلة تبكى بها وتناجيا
وقد أورده صاحب اللمع على هذا النحو (اللمع ص ٣٢١).
تدخل أكساب العباد في هذه الجملة، ولا يدخل كلامه فيه لأن المخاطب لا يدخل تحت الخطاب ولا صفاته «١».
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٦٣]
لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٣)
«مَقالِيدُ» أي مفاتيح، والمراد منه أنه قادر على جميع المقدورات، فما يريد أن يوجده أوجده.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٦٤]
قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤)
أي متى يكون لكم طمع في أن أعبد غيره.. وبتوحيده ربّانى، وبتفريده غذانى، وبشراب حبّه سقانى؟! «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٦٥ الى ٦٦]
وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦)
لئن لا حظت غيرى، وأثبت معى في الإبداع سواى أحبطت عملك، وأبطلت سعيك، بل الله- يا محمد- فاعبد، وكن من جملة عبادى الشاكرين.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٦٧]
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧).
(١) هذه إشارة خطيرة في شأن الموضوعات الكلامية المصلة بالفعل الإنسانى، وبمسألة خلق القرآن (أنظر كتابنا: الإمام القشيري: تصوفه وأدبه ط مؤسسة الحلبي للنشر).
(٢) هذه هي التربية التي عناها القشيري في موضع سابق حين قال: «ليس الاعتبار بالتربة بل بالتربية».
ما عرفوه حقّ معرفته «١»، وما وصفوه حقّ وصفه، وما عظّموه حقّ تعظيمه فمن اتصف بتمثيل، أو جنح إلى تعطيل «٢» حاد عن السّنّة المثلى وانحرف عن الطريقة الحسنى. وصفوا الحقّ بالأعضاء، وتوهّموا في نعته الأجزاء، فما قدروه حقّ قدره فالخلق في قبضة قدرته، والسماوات مطويات بيمينه، ويمينه قدرته «٣». ولأنه أقسم أن يفنى السماوات ويطويها فهو قادر على ذلك.
«سُبْحانَهُ وَتَعالى» تنزيها له عما أشركوا في وصفه.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٦٨]
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨)
فى النفخة الأولى تموتون، ثم في النفخة الثانية تحشرون، والنفختان متجانستان ولكنه يخلق عند إحداهما إزهاق الأرواح، وفي الأخرى حياة النفوس ليعلم أن النفخة لا تعمل شيئا لعينها «٤»، وإنما الجبّار بقدرته يخلق ما يشاء.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٦٩]
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩)
(١) أتى النبي ﷺ رجل من أهل الكتاب فقال: يا أبا القاسم بلغك أن الله يحمل الخلائق على أصبع والأرضين على أصبع والشجرة على أصبع والثرى على أصبع! فضحك رسول الله (ص) حتى بدت نواجذه، فأنزل الله تعالى: «وما قدروا الله حق قدره» (الواحدي ص ٢٥٠).
(٢) (التعطيل على ثلاثة أقسام: تعطيل المصنوع عن صانعه وخالقه، وتعطيل الصانع- سبحانه- عن كماله المقدس بتعطيل أسمائه وصفاته وأفعاله، وتعطيل معاملته عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد.. ومن هذا شرك طائفة أهل وحده الوجود الذين يقولون ما ثم خالق ولا مخلوق (الجواب الكافي ص ٩٠ لابن القيم ط التقدم).
(٣) نحسب أن من دواعى التأويل أن الله سبحانه وتعالى قد يخاطبنا عن ذاته وصفاته بما نتخاطب به فيما بيننا حتى نفهم، والآية تشير إلى ذلك في وضوح فقد عبر عن قدرته مرة بالقبضة ومرة باليمين، ومعنى هذا أن الله يقدر على قبض الأرض وجميع ما فيها قدرة أحدنا على ما يحمل بأصبعه.
(٤) كلام القشيري عن تجانس النفختين واختلاف تأثيريهما، ثم كلامه بعد قليل عن تجانس السوقين واختلاف وجهتيهما.. مقصود منه- كما نظن- أن القياس الإنسانى ليس دائما على صواب، مثال ذلك قوله تعالى: «مطويات بيمينه»، ونسبة الوجه واليد والعين.. ونحو ذلك لله سبحانه ليس بالضرورة أن يكون على نحو ما يفهم الإنسان من هذه الماديات، فالكلمة هي الكلمة.. ولكن شتان بين الدلالة هنا والدلالة هناك.. والله أعلم بمقصود القشيري..
ولكن هكذا نظن.
نور يخلقه في القيامة فتشرق القيامة به، وذلك عند تكوير الشمس وانكدار النجوم، ويستضىء بذلك النور والإشراق قوم دون قوم. الكفّار يبقون في الظلمات، والمؤمنون نورهم يسعى بين أيديهم.
ويقال اليوم إشراق، وغدا إشراق، اليوم إشراق القلب بحضوره، وغدا إشراق الأرض بنور ربها. ويقال غدا أنوار التولّى للمؤمنين، واليوم أنوار التجلّى للعارفين.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٧٠]
وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (٧٠)
إن كان خيرا فخير، وإن كان غير خير فغير خير.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٧١]
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١)
الكفار يساقون إلى النار عنفا، والمؤمنون يساقون إلى الجنة لطفا فالسّوق يجمع الجنسين.. ولكن شتان بين سوق وسوق!.
فإذا جاء الكفار قابلهم خزنة النار بالتوبيخ والعتاب والتأنيب فلا تكريم ولا تعظيم، ولا سؤال ولا استقبال.. بل خزى وهوان، ومن كل جنس من العذاب ألوان.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٧٣]
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣)
سوّق ولكن بغير تعب ولا نصب، سوق ولكن بروح وطرب.
«زُمَراً» جماعات، وهؤلاء هم عوامّ أهل الجنة، وفوق هؤلاء: «يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً» «١» وفوقهم من قال فيهم: «وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ» «٢» وفرق بين من يساق إلى الجنة، وبين من تقرّب منه الجنة.. هؤلاء الظالمون، والآخرون المقتصدون، والآخرون السابقون «٣».
«حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها » وإذا وافوا الجنة تكون الأبواب مفتّحة لئلا يصيبهم نصب الانتظار.
ويقال إذا كان حديث الجنة فالواجب أن يبادر إليها ولا يحتاج أن يساق، ولعلّ هؤلاء لا رغبة لهم في الجنة بكثير فلهم معه في الطريق قول «طِبْتُمْ» أي أنهم يساقون إلى الجنة بلطف دون عنف.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٧٤]
وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤)
صدقنا وعده بإدخالنا الجنة، وإكمال المنّة.
«وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ» أي أرض الجنة نَتَبَوَّأُ منها حَيْثُ نَشاءُ. وهؤلاء قوم مخصوصون، والذين هم قوم «الغرف» أقوام آخرون.
قوله جل ذكره:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٧٥]
وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٧٥)
يسبّحون بحمد ربهم في عموم الأوقات.. هذا هو عمل الملائكة الذين من حول العرش.
وقضى بين أهل الجنة وأهل النار بالحقّ، لهؤلاء دركات ولأولئك درجات.. إلى غير ذلك من فنون الحالات. وقضى بين الملائكة أيضا في مقاماتهم على ما أراده الحقّ في عباداتهم.
(١) آية ٨٥ سورة مريم.
(٢) آية ٣١ سورة ق.
(٣) إشارة إلى الآية: «فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ» (آية ٣٣ سورة فاطر).
Icon