تفسير سورة الزمر

تفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة
تفسير سورة سورة الزمر من كتاب تفسير ابن عرفة المعروف بـتفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة .
لمؤلفه ابن عرفة . المتوفي سنة 803 هـ

سُورَةُ الزُّمَرِ
قوله تعالى: ﴿لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ... (٤)﴾
ابن عطية: أي اتخاذ التشريف [والتبني*]، وأما الاتخاذ المسمى المعلوم؛ فلا يتوهم ولا يستقيم عليه الاصطفاء، قال: وقوله تعالى: (وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا)؛ توهم اتخاذ ولد واتخاذ الاصطفاء، فأما الأول [فبالمعقول*]، وأما الثاني فبخبر الشارع.
وقال الزمخشري: أي لو أراد اتخاذ الولد لم يصح لكونه محالا، [ولم يتأت*] إلا أن يصطفي بعض خلقه ويختصهم ويقربهم؛ كما يختص الرجل ولده، وقد فعل ذلك بالملائكة فغركم ذلك وزعمتم أنهم أولاده [جهلا*] منكم.
قال ابن عرفة: فحمله ابن عطية على اتخاذ التشريف، [وحمله*] الزمخشري على اتخاذ الولد حقيقة، فكان جواب الشرط على قول الزمخشري مشكلا؛ لأن القضية الشرطية المتصلة يلزمها منفصلة مانعة الجمع من غير مقدمها، ونقيض بالهاء ومانعة الخلو من نقيض مقدمها وعين تاليها، فيدخلها نفي الملزوم مع صحة وجود اللازم، وهذا خلاف إجماع النظام، لأنه قال: لو أراد الله اتخاذ الولد لامتنع ذلك، لكونه محالا؛ [فلم يبق*] إلا أن يصطفي من خلقه ما يشاء، وقد فعل ذلك بالملائكة والأنبياء عليهم السلام مع أن (لَوْ) إذا دخلت محل نفي عاد ثبوتين وبالعكس، وهنا دخلت على ثبوتين فيعودا [نفيين*] فيعود أحدهما: وهو الأول نفيا، والثاني ثبوتا.
وأجاب شيخنا: بأن المثبت الاصطفاء الواقع من الله تعالى للأنبياء؛ لَا الاصطفاء الذي هو [التبني*] وهو المراد من اللازم، والمراد نفيه فينتفي الملزوم، وتقديره لو أراد الله اتخاذ الولد للاصطفاء اصطفاء [التبني*] واللازم باطل والملزوم مثله، قيل له: عبر في اللازم بالإرادة وفي الملزوم بالمشيئة؛ وهما معنى واحد، فأجاب: بأنه تفنن في الخطاب، قيل له: هل [يدل*] لفظ التكوير على أن السماء كورية؟ فقال: نعم؛ لأن تكويرها مع [فلكها*] عن محله محال، ومن لوازمه تكور فلكها لاستحالة تعلقها دون مكان.
فإن قلت (٥): [**معهم التكوير مع البساطة؛ لأن المراد تداخل الزمانين والباء من أحدهما للآخر]، قلت: مسلم لكن مع إشعار لفظ التكوير؛ [يريد تكويرا ككور العمامة*] بعضه على بعض.
فإن قلت: بدأ بالليل على النهار في التكوير على العادة عند العرب، وبدأ بالشمس في التسخير، والمناسب كان الابتداء بالقمر لمقابلته الليل، لأنه فيه يظهر، فلم عدل [عن*] ذلك؟ قلت: لأن آية الشمس أبدع في النفوس بخلاف القمر.
فإن قلت (٦): إذا كان المراد من النفس آدم؛ فيكون لفظ (خلق) استعمل في حقيقته ومجازه؛ لأنه في أولاد آدم المباشرين حقيقة، وفي غيرهم مجاز، ثم إنه عبر عن الخلائق بالخلق، وعن جواب الجعل.
قلت: لأن الزمخشري كان تقدم له أنه خلق بمعنى أبرز من العدم إلى الوجود وجعل معنى صير وهو [تكوين*].
قال شيخنا: قالوا: إن حواء عليها السلام خلقت من ضلع أعوج، قال: و [... ]. الآخرة مسألة [**الخشي]، قال: وهذا خلاف مذهب أهل التشريع؛ لأنهم قالوا: لو وقع بالآخر لوجد؛ لأنه مما يدرك بالبصر ولم يدرك ولم يوجد؛ واختار التراخي في الزمان.
قوله تعالى: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ).
كقوله تعالى: (فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ)
(فِيهِ) الإشارة للتعظيم.
قوله تعالى: ﴿إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ... (٧)﴾
الخطاب لمن في قولكم، والمراد من هذا الكلام، في قوله تعالى: (غَنِيٌّ عَنْكُمْ)، لازمه، وهو أن الضرر الناشئ عن الكفر إنما يعود عليكم، لأن الله تعالى غني على الإطلاق؛ فكفركم إنما يعود بالوبال عليكم.
قال: والمنفي في قوله تعالى: (وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ)، على ظاهره من الرضى الذي هو الحب لَا الإرادة، قال: وأما الوجه الثاني في أن المراد بالعباد المؤمنين فقط، بخلاف الظاهر.
فإن قلت: [ما ذكرتموه يتلزم عليه الإضمار، وما ذكرناه يلزم عليه التخصيص*]، وهو خير من الإضمار، قلت: ذكره آخر الشكر، في قوله تعالى: (وَإِنْ تَشْكُرُوا)، يدل على الأول دون الثاني.
فإن قلت: هل ينتفع بـ (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)، في مسألة علمه بالجزئيات؟ فقلت. نعم.
قوله تعالى: ﴿وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ... (٣٢)﴾
قال الشيخ ابن عبد السلام: يدخل في هذا جميع من كذب على الله من أكثر الفقهاء، إذا لم تحكم بمستند التنزيل [**وهو الداء إذا لم يستحقها].
قيل: هل في الآية دليل على تكفير من يكفر بالذنب؛ لأنه سجل عليهم بوصف الكفر، فقال: قد لَا يؤخذ ذلك وقد يؤخذ، قيل له: قوله تعالى: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ)، وهل فيه حذف الفاعل تقديره: والذي جاءوا فيكون المراد بالذي الجنس، فقال: ما ذكرته إنما يصح إذا جاء بالموصول مجموعا، فحينئذ تؤتى بالصلة مفردة حذفا لما ذكرت، وهنا ليس كذلك فليس من ذكر الباب، وإنما المراد بالذي الجنس، دليله قوله تعالى: (أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)، قيل: هل يتناول العصاة أو لا؟ فقال: لَا لأنه يلزم عليه أن يكونوا موعدين بأن لهم ما [يشاءون*] عند ربهم، وذلك باطل إجماعا.
قيل له: أجمع أهل السنة على أنهم لَا بد لهم من الجنة، فقال: وأجمع المسلمون ما عدا الجبرية على دخول طائفة النار، وإلا فيلزم أن يوصف ذو الكبيرة بالرحمة، وأنه يعبد الله كأنه يراه، وذلك باطل بالإجماع.
قوله تعالى: ﴿أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا... (٣٥)﴾
قال: لما كانوا في غاية الورع كانت تصدر منهم بعض الحسنات يعدونها سيئات، وليست بسيئة، وإنما هي حسنة، وليس المراد بقوله (أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا) أسوأ السيئات، وإنما المراد التشبيه في اعتقادهم أنها سيئة.
فإن قلت: لم قال هنا (بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ)، وقال تعالى في النحل (بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، قلت: في النحل تقدم ذكرها، وهنا تقدم ذكر الذي في قوله (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ).
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ... (٤٥)﴾
[وجه نظم هذه مع التي قبلها، ما قرره الأصوليون والجدَلِيُّون، أنّ وجه الترتيب في المناظرة أن يبدأ المستدلُّ بإبطال مذهب الخصم، ثم يصحِّحُ مذهبَه، ثم إنْ كان في مقالة خصمِه تناقضٌ أو تهافتٌ بيَّنَه له؛ وعلى هذا الترتيب أتتْ هذه الآيات؛ أنكَرَ أوّلا على الكفار مُدَّعاهم، مقْرونا ذلك الإنْكارُ بالدّليل الدالِّ على بطلان تلك الدعوى، وهو قولُه (أَم اتَّخَذُوا) الآية؛ ثم ذكَر مُدَّعى المومنين مقرونا بدليل صحّته، فقاَل (قُل للَّهِ الشفَاعَةُ جَميعاً)؛ ثم أكّد دليلَ إبْطال مُدَّعَى الكفار بتناقضهم في دعْواهم فقال (وَإِذَاَ ذُكِرَ اللَّهُ)؛ وبيانُ التناقض أنهم زعموا أن تلكَ الآلهةَ تشْفع لهم عند اللَّه تعالى، والمشفوعُ عنده أعلى رتبةً من الشفيع، فالمناسبُ إذا ذُكر اللَّه وحده أن تطمئن قلوبُهم إليه، فنفورُها عند ذلك مع كونه مشْفوعا له تناقض منهم] (١).
قيل: له قوله تعالى: (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧).. ، هل كقوله في
الحديث: "لهم فيها ما لَا عين رأت ولا أذن سمعت"، بالنقيض أم لَا؟ فقال: لَا لأنه
إنما نفى ما لم يحتسبوه، وإلا فهو محسوب عند غيرهم، لأنه من جنس ما يقع منهم،
(١) تم جبر هذا السقط من كتاب (النكت والتنبيهات للبسيلي. ٣/ ٤٨٩).
أما قوله: "فيها ما لَا عين رأت" فنقيض أنهم سيروا لهم في الآخرة ما لم يقدر أحد ولا يخطر على قلب بشر.
قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ... (٥٣)﴾
حصول الغفران مطلقا، أو لمن تاب.
قال الشيخ: والظاهر أن هذا العموم مخصوص؛ لأنه إن لم يخصه يلزم [عنه*] مذهب المرجئة، قال: ومن نظر [وعقل سبب النزول أدرك*] ما قلناه من التخصيص.
قيل: لم أسقط البغتة في الأول (٥٤)؟ فقال: فيه حذف التقابل، قيل له: المفهوم من قوله تعالى: (وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (٥٥).. ، هو المفهوم من قوله تعالى: (بَغتَة)، فقال: تأكيد وانتقال من [التزام المطابقة*].
قوله تعالى: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ... (٦٢)﴾
قال: الآية مخصوصة بالإجماع بالواجبات كلها، قيل له: هل ينتفع بها في مسألة خلق الأعمال؟ فقال: لَا لوجهين:
الأول: أن المخصوص هل يبقى حجة أم لَا؟ فيه خلاف، وإذا قلنا: [لا يبقي حجة*]، فالمسألة من قواعد العقائد؛ فلا يثبت بمثل هذا.
الثاني: أن المراد خالف المعنى؛ فيقتضي إن ما وجد مخلوقا فالله خالقه؛ وعلى هذا لَا دليل فيه ألبتَّة؛ لأن خلقها لله محل النزاع، والمنسوب في الآية ما هو منسوب لله.
فإِن قلت: هل يؤخذ من الآية أن المعدوم شيء أو لَا؟ قال: قلت: لَا يؤخذ؛ وإنما المراد ما وجه مخلوقا لله فالله خالقه.
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ... (٦٣)﴾
[أَوْرَدَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» سُؤَالًا، وَهُوَ أَنَّهُ بِمَ اتَّصَلَ قَوْلُهُ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا)؟ وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ اتَّصَلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا) [الزُّمَرِ: ٦١] أَيْ يُنَجِّي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ بِمَفَازَتِهِمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وَاعْتَرَضَ مَا بَيْنَهُمَا أَنَّهُ خَالِقٌ لِلْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، وَأَنَّ لَهُ مقاليد السموات وَالْأَرْضِ. وَأَقُولُ هَذَا عِنْدِي ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ*]
الطول؛ لأن فيه عطف جملة اسمية على فعلية وهو قليل.
وأما الثاني: فلأن الكافرين هم بعض النَّاس [... ].
قال: والصواب أنها كلية مستقلة بنفسها، قيل له: وهل ينتفع بها الملائكة في القول بالإحباط بمجرد الردة؟ قال: إن قلنا: إن المراد من خوطب به خاصة؛ فلا يلزم ذلك إذ لَا يلزم من إحباط المخاطب مجرد الردة إحباط غيره، لأن عقوبة [المقربين أشد*]، قال: والأظهر أن المراد بقوله تعالى: (بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ).
قوله تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ... (٦٧)﴾
يدل على تعظيمه الممكن المقدور عليه؛ المأمور هو به، أما تعظيمه حق تعظيمه؛ فلا يستطيع أحد عليه؛ ولهذا كان بعض شيخونا ينهى أن يكتب في الصدقات: الحمد الله حق حمده، والحمد لله كما يحب لجلاله؛ لأنه قد يقول ذلك ولا يعرف جلاله.
قال الفقيه أحمد بن سيدي الفقيه أبي القاسم أحمد الغبريني قال: ورد على صداق وأنا قاضي بباجية فيه أعلم بثبوته على ما هو عليه.
ابن عبد السلام ابن يوسف الهواري: فلم أجد في الصداق موجبا لذلك إلا الحمد الله حق حمده، قال ابن عبد السلام: وما حكاه عن جبريل هو تصحيف، وإنَّمَا هو جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
قوله تعالى: (نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ).
الظاهر أن النسيان ضد الشرك لَا ضد الذكر، لأن ترتيب الذم عليه أشد، والأول يرجع إلى ترك الأسباب.
قوله تعالى: (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ).
قال: ضم الياء أحسن من فتحها، لأن الفتح إما أن تكون اللام لام العلة، أو لام الصيرورة؛ والقسمان باطلان، أما الأول فلأن من جعل لله أندادا قد حصل في أشد الضلال في تعيبه، وجعل الله أندادا يقتضي تقدم الضلال؛ فيلزم تصيير ما سبق تصييره وذلك باطل، قيل له: ما المانع أن يكون المراد بصيرورة الضلال مداومة وجوده؟ فقال: يحتمل ويفضله قوله تعالى: (قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا)، إن التمتع به المداومة.
381
قال الشيخ: ومَن في قوله تعالى: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ)، لَا يصح أن تكون استفهاما لامتناع اجتماع حرفي الاستفهام في كلمة واحدة؛ فلا بد أن تكون من موصولة، قيل له: ما المانع من كونها منادى والهمزة حرف نداء؟ فقال: يحتمل على [... ]. وقرئ (أَمَّنْ) بالتشديد.
فإن قلت: هل البداية بالسجود يدل على أنه أشرف أحوال الصلاة؛ لأنه قدم على القيام الذي هو أول؟ قال: المراد في تفضيل العملين على غيرهما من العبادة، لقوله تعالى: (سَاجِدًا وَقَائِمًا).
قوله تعالى: (اتَّقُوا رَبَّكُمْ).
قيل له: هل هو النفاق؛ لأنه كان يقول (اتَّقُوا رَبَّكُمْ)، فقال: لَا نسلم لأن الأمر بالتقوى صادر منه عليه السلام، فحسن أن يقول ربكم، قيل له: يعكس عليك قوله تعالى: (يَا عِبَادِيَ)، وهو السلام لَا نخاطبهم بذلك، فقال: الأول على جهة الحكاية، قيل له: أيما أبلغ هذه أم قوله تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى)، فقال الثانية لأنها أعم من أن تكون في الدنيا أو في الآخرة، قيل له: ما مناسبة قوله تعالى: (وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ)؟ قال: فكأن القائل يقول: فإن بعض الإحسان في بعض البلاد في العمل، فقال تعالى (وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ).
قوله تعالى: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ).
قال: ظاهر كلام الزمخشري في جواز العطف؛ إنما لاختلاف الجهة دفعا للسؤال؛ والسؤال لَا يزول، ولابد الإخبار بالجملة الثانية لَا معنى له إذ هو مستفاد من الأولى بالضرورة؛ لأن عبادة الله منه مخلصا؛ لَا بد أن يكون ذلك أول الإسلام لاستحالة وقوع ذلك بدون الإسلام، فالأولى أخص؛ والثانية أعم، والأخص يستلزم الأعم، فلما ذكر اللازم الثاني، قيل له: لاختلاف الجهة، فقال: اختلافها إنما هو بالنسبة إلى اللفظ في حق غيره؛ وهذا السؤال إنما ورد من جهة المعنى، ومن جهة اختصاصه به.
قوله تعالى: (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ).
بوقوعها في العذاب الدائم؛ وليس لهم من الحور العين أو في الدنيا حصول.
382
قوله تعالى: (ظُلَلٌ).
الظلل إنما يكون لدفع حرارة الشمس، وهذه تجلب قوة الحرارة.
قوله تعالى: (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ).
فإن قلت: ما معنى (مَبْنِيَّةٌ)؟ قلت: رد لما يتوهم من أنها كالدنيا من أن الغرف التي على الأرض مبنية، والتي فوقها من القصب والخوص والرؤية في الأثر بصرية.
قوله تعالى: (مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ).
قوله تعالى: (ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا).
وقال تعالى في الحديد (ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا)، فأجاب: بأنه لما كانت هذه الأفعال هنا مضافة إلى الله تعالى عز وجل حسن أن يقول: [(ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا) *] ولما كانت في تلك غير مصرح بها حسن أن يقول: (ثُمَّ يَكُونُ)، قيل له: هل ينتفع بها من يقول: إن الإسلام والإيمان بمعنى واحد؛ لأن شرح الصدر إنما يكون ما محله القلب، وقد جعل هنا أن الإسلام محله القلب؛ لأنه مشروح له، فدل على أن المراد بالإسلام الإيمان.
قوله تعالى: (أَحْسَنَ الْحَدِيثِ)، اختار الشيخ بالحديث الكتب الأربعة المنزلة وأحسنه القرآن و (كِتَابًا) [بدل من أحسن الحديث*].
قوله تعالى: (مُتَشَابِهًا).
أي متشابه الأجزاء من أقاصيص وأخبار.
قوله تعالى: (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ).
قال: هذا [تهكم*]؛ لأن الوجه في العادة إنما يتقي عنه لَا به؛ وهو هنا به لَا عنه.
قوله تعالي: (وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ).
الخطاب في الدار الآخرة؛ لأنها ليست دار تكليف؛ وإنما إخبار بخلودهم.
قوله تعالى: ﴿كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (٢٥)﴾
383
[**الآية]، فيكون عذابا في عذاب؛ وجعل النَّاس كأنهم علموا أولا أشياء ثم نسوها، فضرب الأمثال؛ ومن كلامه في سورة الزمر، قوله تعالى: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ)، وجه مناسبتها لما قبلها؛ أن الاشتراك في الأمر المشق المؤلم أهون على النفوس من الاختصاص به، كمن ضاع له دينار ولم يضع لغيره شيء، وآخر ضاع له ولغيره، وكذلك فعل [الطاعات*].
قال: ووقوعنا من بئس القوم ابتداء أقرب إلى الإنذار به فيها والإتباع، فلذلك قال (أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ)، ثم قال (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ).
قال الزمخشري: يعني أن الله تعالى أمرني أن أخلص له الدين بدليل العقل والسمع، فإن عصيت ديني لمخالفة الدليلين استوجبت عذابه.
قيل لابن عرفة: هذا اعتزال، فقال: هذا تنبيه يصدر من السني والمعتزلي، فالمجرور في قوله بدليلي العقل تعلق بالفعل، وهو (أمرني) وهو اعتزال، وإن تعلق بقوله: (أخلص) فليس باعتزال، قيل له: قد نص [الضرير*] في أرجوزته على اعتقاد وحدانية الإله واجبة بالعقل والفروع، والشرائع هي الواجبة بالسمع، لأنه قال: ما نصه فخالق الأشياء وجداني، وشاهد العقل بذلك [يشهد*].
قال ابن عرفة: هذا خطأ لأن الأصوليين حكموا الخلاف في النظر؛ فمذهب أهل السنة أنه واجب بالسمع، ومذهب أهل المعتزلة أنه واجب بالعقل على أن كلام المفسرين يمكن تأويله، فيحتمل أنه يريد به قصر معرفة ذلك في الدليل والإدراك، أو رجوعه إلى الأمر التكليفي.
قيل له: ما عمله شارحه ابن خليل في شرحه: أن السلطان وأميره إذا دعا إلى معصية؛ فإنه يجب اتباعه، قال: وهذا خطأ طرح؛ وحديث مسلم في كتاب الإعادة يرد عليه.
قوله تعالى: (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُم)،
أي الخسران الأخص، أي خسروا لذة أنفسهم ونعم أنفسهم؛ لأن خسران الشيء هو ضياعه، وأنفسهم لم تزل باقية.
قوله تعالى: (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ).
384
إن قلت: ظلل النار عليهم لَا لهم، فالجواب: أنه استغنى عن على بكلمة فوق، فلو أتى بعلى لكان تكراره أتى ليفيد اختصاصهم بعذاب العذاب العظيم، وإدخال من على فوق ليفيد أول مواضع الفوقية؛ فيشعر بكمال ملاصقة النار لهم من غير فاصل.
قوله تعالى: (وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ).
جعلت النار ظله باعتبار أن لهيبها يصعد إلى فوق؛ فيعلو عليهم ويصيرون تحته، أو باعتبار أن النار تدور بهم كالكرة فيصير الأعلى أسفل؛ والأسفل أعلى، فهي ظلة باعتبار ما كانت عليه، فكل جهة منها فوقهم وتحتهم وفوق آخرين.
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا).
قال الزمخشري: (الطَّاغُوتَ) مبالغة؛ وقدر وجه المبالغة أنه إما مصدر المراد به الجنس، فعبر فيه عن شخص معين؛ وهو الشيطان أو غيره من معبوداتهم، الثاني: فيه القلب؛ لأن أصله [فعلوت من الطغيان كالملكوت والرحموت، إلا أن فيها قلبا بتقديم اللام على العين*].
قال ابن عرفة: ليس في القلب مبالغة.
قوله تعالى: (وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ).
قال ابن عرفة: عادتهم أنهم يقولون: الإنابة سبب في اجتناب الطاغوت، والأصل تقديم السبب على مسببه، فكان بعضهم يجيب: بأن الانتقال من الشيء لغيره لأحد وجهين:
إما لوصف في المنتقل عنه ونحوه.
قال ابن التلمساني في باب الأوامر في المسألة الثانية عشر في اعتراضه على مذهب: [الأمر بالشيء عين النهي عن ضده*]؛ [**قد يكون مقصود الطالب أعلى الخبر الأول]؛ فيكون الطلب منه نهيا، وقد يكون مقصوده [امتثال*] الخبر الثاني فيكون الطلب فيه أمرا [مقدرا*] هنا، السبب إشغال بأن اجتنابهم الطاغوت لمحض ما فيه من المفسدة الدائمة لَا لكونهم رأوا الإنابة إلى الله أحسن منه؛ إذ الاشتراك بينهما في الحسن بوجه، فكان الابتداء به أهم وأولى.
قوله تعالى: (لَهُمُ الْبُشْرَى).
385
قدم المجرور للحصر إما للتشريف، وإما لأجل الآي، وإما باعتبار تقابله.
قوله تعالى: (يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ).
ابن عطية: قيل: هو كتاب الله.
ابن عرفة: فعلى هذا يكون في القرآن حسن وأحسن منه وفيه خلاف، هل يصح أن يقال: بعض العذاب أعظم من بعض؟ أو أوضح من بعض؟ وهو بمعنى لفظ القرآن بالعجز، وإنما معناه القديم الأزلي فلا تجوز فيه ذلك بإتقان، وإما أن يراد بأحسنه أبينه؛ وهو عند المتشابه، وأما تعليم التكاليف التي عليها الثواب عند المباح الذي لا ثواب فيه.
قوله تعالى: (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ).
ابن عرفة: هذا من باب إطلاق المسبب على السبب، لأن المراد: فمن دام على الكفر وضمير (عَلَيهِ) فأنت تنقله عنه وتصرفه إلى الإيمان، فالكفر سبب في العذاب، والإيمان سبب في الإبعاد.
قال ابن عطية: وأسقط الثاني في الفعل إما للفصل، مثل: حضر القاضي اليوم امرأة، وإما لتأنيث الكلمة غير حقيقي.
ابن عرفة: كان بعضهم يقول: وإما لأن العذاب مذكور، فتوحي إضافة الكلمة إليه؛ لأنه الأهم المقصود بالذات.
قوله تعالى: (لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ).
يحتمل أن يريد من فوقها غرف لهم أيضا، كما ورد "أن أهل الجنة يرون الغرف كما ترون الكوكب الدري في السماء"، والظاهر الأول إذ به تتم النعمة، والأنهار تجري من تحت الجميع، أو تجري تحت الغرف العليا كما تجري تحت السفلى، فهو أكمل في باب النعمة.
قوله تعالى: (مَبْنِيَّةٌ).
ابن عرفة: وكان بعضهم يقول: بل هو إشارة إلى وجودها الآن، وأنها مخلوقة خلافا لمن أنكر ذلك.
قيل لابن عرفة: أو هذا إشارة إلى تنويعها إلى أصناف من الذهب والفضة والياقوت والزبرجد، كما أن البناء في الغرف يتنوع إلى الحجر والجص والجير، فليس الحائط كله زجاجا خالصا، ولا ذهبا خالصا، وإنما هو منوع فهو أعظم وأعجب.
386
قوله تعالى: (وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ).
أما فيما يرجع إلى الثواب فظاهر إذ لَا خلاف فيه، وأما فيما يرجع إلى العقاب، ففيه خلاف بيننا وبين المعتزلة في المعاصي؛ فنحن نقول: إنه في المشيئة، والمعتزلة يقولون: بتخليده في نار جهنم؛ فيكون عندنا مخصوص بالمعاصي.
قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً)
فإن قلت: لم عبر في (أَنْزَلَ) وسلكه بالماضي، وقال (ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا)، فعبر بالمستقبل؟ فالجواب بوجهين:
الأول: أن إنزال الماء في الأرض سبب في إخراج النبات، فناسب جعل السبب ماضيا ومسببه مستقبلا لتأخره عنه في الوجود.
الثاني: أن الماء إذا حصل في الأرض لَا يستغرقها ولا يتغير، والنبات إذا خرج يتغير وييبس فناسب أن يعبر عن الأول بالماضى المقتضي للتحقيق والثبوت، وعن الثاني بالمستقبل المقتضي للتجدد والاختلاف.
قوله تعالى: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ).
إشارة إلى اتصافه بالمقدمات والدلائل المرشدة إلى الهداية.
قوله تعالى: (فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ).
إشارة إلى حصول النتيجة عن ذلك، وأنه نظر فاهتدى.
قال: وفي الآية حذف التقابل، أي فيرى له (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ)، فهم على ضلال من ربهم، وأسند الشرح إلى الصدر مبالغة وتخصيصا على الاتصاف بأسباب ذلك.
قوله تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا).
ابن عرفة: لما تقدمها (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم) عقبه ببيان أن قساوة قُلُوبِهِم أمر ذاتي لها؛ لَا بسبب غموض الذكر والقرآن الملقى إليهم؛ بل هو أحسن الحديث وأبينه.
وذكر ابن عطية في سبب نزول الآية غير هذا.
ونقل الزمخشري، عن ابن مسعود: أن أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ملوا ملة، فقالوا [حدثنا*] فنزلت.
387
ابن عرفة: وفي هذا اللفظ [بعد*]، والصواب ما قلناه].
قوله تعالى: (مُتَشَابِهًا).
قال المفسرون: أي متماثل المعاني في الصحة والكلام والصدق، ونفع الخلق وتناسب ألفاظه.
ابن عرفة: وكان بعضهم يقول: يحتمل أن يريد بالتشابه أن آياته متشابهات باعتبار الحفظ؛ بحيث تشتبه على من هو ضعيف الحفظ.
قوله تعالى: (مَثَانِيَ).
جمع مثنى أي مكرر ومردد لما بين من قصصه وأحكامه، أو إشارة إلى أنه مهما كرر في التلاوة يزداد حلاوة ولا يمل.
ابن عرفة: ويحتمل أن يراد به الدوام، يعني أنه محفوظ لَا يزال دائما يكرر ويقوى إلى آخر الدهر؛ بخلاف غيره من الكتب المنزلة.
قوله تعالى: (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ).
الزمخشري: إن قلت: [لم ذكرت*] الجلود وحدها أولا، ثم كرر [معها*] القلوب ثانيا؟ فأجاب: بأن ذكر الخشية أولا أغنى عن ذكر القلوب؛ لأنه محلها.
ابن عرفة: وكان بعضهم يقدر الجواب: بأن وجوب السبب يستلزم وجود المسبب؛ فوصف الجلود بكونها مقشعرة مسبب عن وصف القلوب بالخشية والخوف، ووصف الجلود باللين [يقتضي نفيه*] عنها، ونفي المسبب لاستلزام السبب؛ فلذلك ذكرت القلوب ثانيا.
قوله تعالى: (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ).
قال ابن عرفة: ذكر اسم الإشارة، وإن كان مستغنى عنه؛ إشارة إلى تحقيق القرآن، [المعجز*] المشتمل على أخبار الصدق والمواعظ الحسنة، فلذلك فرقوا في باب الإيمان بين من حلف لَا آكل طعام فلان فأكله بعد انتقاله عن ملك فلان، قالوا: لا يحنث، وبين قوله: لَا أكلت هذا الطعام؛ فأكل منه أنه يحنث على كل حال.
قوله تعالى: (مِنْ كُلِّ مَثَلٍ).
يؤخذ منه جواز القياس، ولاسيما القياس التمثيلي؛ لأنه تشبيه معلوم في إثبات حكم لهما، أو نفيه عنهما.
388
قوله تعالى: ﴿غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨)﴾
إما تعليل التعليل أو تعليل بعد تعليل، فعلى الأول: المعنى رجاء أن يتذكروا؛ فيكون تذكرهم سببا في ترجي تقواهم.
وعلى الثاني: المعنى رجاء أن يحصل لهم التذكر والتقوى.
قيل لابن عرفة: فهلا عطف؟ فقال: الحكمان إذا كانا في غاية الاتصال، أو في غاية الانفصال لَا يعطفان.
قوله تعالى: (غَيْرَ ذِي عِوَجٍ).
قالوا إذا قلت: زيد ذو مال، فهو دليل على كثرة ماله، ومنه قوله تعالى: (عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (١٣) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ)، ونحوه للقاضي عياض في حديث: "قد بلغ علي من الوجع ما ترى وأنا ذو مال".
وقال السهيلي في الروض الأُنف في حديث هرقل في قول أبي سفيان: [هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ*] [**والانخفاض منه].
قوله تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا).
لما تقدم أن القرآن يشتمل على ضرب الأمثال عقبه ببيان أن من حمله ذلك هذا المثل.
قوله تعالى: (فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ).
ذكر ابن عرفة كلام المفسرين، ثم قال: وكان بعضهم يحمله على أن طريق الحق واحدة، والضلال متعددة، فنسب ما أفصح به الزمخشري، في قوله تعالى: (وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ) فالمحق يتبع دليلا واحدا؛ والمبطل من نفسه [عنده*] الشهوات متعددة.
قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ).
إشارة إلى أن من ليس فيه [استثارة قابلة*] للعلم فجهله نعمة، لأن الحمد إنما هو على [النعم*].
قيل لابن عرفة: اختار جملة نعمة لغيره؛ لأنه نعمة به.
389
فإن قلت: لم قال فيه شركاء [فعداه بـ في، و (سلما لرجل) *]: فعداه باللام، قلنا: اللام تفيد الاختصاص، وهو مناسب للمؤمن، والمشرك مناسب للظرفية؛ لأن كل واحد له فيه جزاء مظروف منه.
قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ).
قال ابن عرفة: اعلم إنه تارة يكون المقصود نفي الثاني، والمقصود هنا ملزوم الشرطية، وهو أنه لَا يجتمع وجود ملكهم لما في الأرض ومثله وجه؛ مع عدم اقتدائهم به من سوء العذاب.
قوله تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ).
ابن عرفة: يحتمل أن يريد ما عظموه [حق*] تعظيمه، وهو مقتضي كلام المفسرين، ويحتمل أن ما عظموه مطلق تعظيمه؛ وهو الصواب، لقوله تعالى: في سورة الأنعام (إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) فهم أنكروا الرسالة، فلو عظموه [في مطلق التعظيم] لصدقوا الرسول الوارد عنه، والقرآن يفسر بعضه بعضا.
قيل لابن عرفة: تأكيده بالمصدر دليل على أن المراد أخص تعظيم، فقال: التأكيد يشعر بأن المراد التعظيم الواجب التكميلي.
قوله تعالى: (وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
قال ابن عرفة: عادتهم يوردون: فيه سؤالا، وهو أنه ما المناسبة لتعقبه بهذا مع هذا لَا يعقب إلا بما يناقضه، فيقال: ما عظمت زيدا؛ وهو شجاع عالم محظي عند الأمير؛ فتأتي بما يناقض عدم تعظيمك له في الحال لَا في المستقبل، ولا تقول: ما عظمت زيدا وهو بعد عشرين متصف بالشجاعة والعلم والحظوة، فالمناسب كان عدم تقييد الجملة بيوم القيامة، وأجيب: بأن العلم بتحقيق وقوع ذلك في المستقبل كاف في حصول التصديق به، واتصاف فاعله بكمال القدرة؛ لأن بعثة الرسول عندنا جائزة، وقد أخبر الرسول بوقوع المعاد الدار الآخرة، وهو حاصل بالدليل السمعي، ونسب الطي للسماوات دون الأرض لعظمتها، فكبر جرمها بالنسبة إلى الأرض؛ فليس وجوب المعاد مستفاد بالدليل العقلي إلا عند المعتزلة القائلين بالتحسين والتقبيح.
قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ... (٧٤)﴾
ابن عرفة: قالوا: لم عطفه بالواو؟ فأجابوا: بأنه لو لم يعطفه لتوهم إنه من تمام المقاولة مع الملائكة، كأن قائلا يقول: بالذي أجابوا به الملائكة، فيقال (الْحَمْدُ
لِلَّهِ)، فلما عطفه بالواو دل على أنه معطوف على قوله تعالى: (وَفُتِحَت أَبْوَابُهَا)، وما بينهما جملة اعتراض.
فإن قلت؛ هل قال: (صَدَقنَا) في خبره؟ فالجواب: أن الصدق في الخبر واجب، والوفاء بالعهد مختلف فيه، قيل: يجب، وقيل: لَا يلزم؛ وإذا صدق حيث لا يلزم الصدق، فأحرى أن يصدق حيث يلزم الصدق، فهو من التنبيه بالأدنى على الأعلى.
قوله تعالى: ﴿وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ... (٧٥)﴾
يحتمل أن يريد حوله في [مقعَّره*] من داخل، [أو في مخْرجه من خارج،*]، وهو الذي تقدم لنا؛ هل خارجه [الخلا والملا*]؟
قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا).
كان بعضهم يأخذ من هذه الآية أن جاء لَا يصدق إلا على من مضى ووصل إلى الشيء، بخلاف قولك: مضى زيد لعمرو، فإنه يحتمل أن يكون رجع من الطريق، وبقي المعنى مستفاد من قوله (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا)، فما أفاد جاء إلا لدخول المحل.
* * *
Icon