تفسير سورة غافر

تفسير البغوي
تفسير سورة سورة غافر من كتاب معالم التنزيل المعروف بـتفسير البغوي .
لمؤلفه البغوي . المتوفي سنة 516 هـ
سورة غافر
مكية وآياتها خمس وثمانون
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنبأنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان، حدثنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني، حدثنا حميد بن زنجويه، حدثنا عبيد الله بن موسى، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، قال : إن مثل القرآن كمثل رجل انطلق يرتاد لأهله منزلاً، فمر بأثر غيث، فبينما هو يسير فيه ويتعجب منه إذ هبط على روضات دمثات، فقال : عجبت من الغيث الأول، فهذا أعجب منه، فقيل له : إن مثل الغيث الأول مثل عظم القرآن، وإن مثل هؤلاء الروضات الدمثات مثل آل حم في القرآن.
أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي، أنبأنا أبو محمد الرومي، حدثنا أبو العباس السراج، أنبأنا قتيبة، حدثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب الجراح بن الجراح، حدثه عن ابن عباس، قال : لكل شيء لباب، ولباب القرآن الحواميم، وقال ابن مسعود : إذا وقعت في آل حم وقعت في روضات أتأنق فيهن، وقال سعد بن إبراهيم : كن آل الحواميم يسمين العرائس.

سُورَةُ غَافِرٍ مَكِّيَّةٌ (١) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) ﴾
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿حم﴾ قَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي حُرُوفِ التَّهَجِّي (٢). قَالَ الْسُّدِّيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: حم اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ. وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنْهُ قَالَ: الر، وَحم، وَنون، حُرُوفُ "الرَّحْمَنِ" مُقَطَّعَةً (٣). وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: الْحَاءُ افْتِتَاحُ أَسْمَائِهِ: حَكِيمٌ حَمِيدٌ حَيٌّ حَلِيمٌ حَنَّانٌ، وَالْمِيمُ افْتِتَاحُ أَسْمَائِهِ: مَالِكٌ مَجِيدٌ مَنَّانٌ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالْكِسَائِيُّ: مَعْنَاهُ قَضَى مَا هُوَ كَائِنٌ كَأَنَّهُمَا أَشَارَا إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ: حُمَّ، بِضَمِّ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ (٤). وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ: حِم بِكَسْرِ الْحَاءِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا.
﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنْبِ﴾ سَاتِرِ الذَّنْبِ، ﴿وَقَابِلِ التَّوْبِ﴾
(١) أخرج ابن الضريس والنحاس والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: أنزلت الحواميم السبع بمكة.
وأخرج ابن جرير عن الشعبي -رضي الله عنه- قال: أخبرني مسروق رضي الله عنه أنها أنزلت بمكة.
وأخرج ابن مردويه والديلمي عن سمرة بن جندب -رضي الله عنه- قال: نزلت الحواميم جميعا بمكة.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: نزلت حم (المؤمن) بمكة، انظر: الدر المنثور: ٧ / ٢٦٨.
(٢) راجع فيما سبق: ١ / ٥٨-٥٩.
(٣) أخرجه الطبري: ٢٤ / ٣٩.
(٤) قال صاحب البحر المحيط: ٧ / ٤٤٧: "تقدم الكلام على هذه الحروف المقطعة في أول البقرة، وقد زادوا في حاميم أقوالا وهي مروية عن السلف غنينا عن ذكرها لاضطرابها وعدم الدليل على صحة شيء منها".
يَعْنِي التَّوْبَةَ، مَصْدَرُ تَابَ يَتُوبُ تَوْبًا. وَقِيلَ: التَّوْبُ جَمْعُ تَوْبَةٍ مِثْلُ دَوْمَةٍ وَدَوْمٍ وَحَوْمَةٍ وَحَوْمٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: غَافِرُ الذَّنْبِ لِمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، [وَقَابِلُ التَّوْبِ مِمَّنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ] (١) ﴿شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ لِمَنْ لَا يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، ﴿ذِي الطَّوْلِ﴾ ذِي الْغِنَى عَمَّنْ لَا يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: "ذِي الطَّوْلِ": ذِي السَّعَةِ وَالْغِنَى. وَقَالَ الْحَسَنُ: ذُو الْفَضْلِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُو النِّعَمِ. وَقِيلَ: ذُو الْقُدْرَةِ. وَأَصْلُ الطَّوْلِ الْإِنْعَامُ الَّذِي تَطُولُ مُدَّتُهُ عَلَى صَاحِبِهِ. ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾.
﴿مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (٤) ﴾
﴿مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ﴾ فِي دَفْعِ آيَاتِ اللَّهِ بِالتَّكْذِيبِ وَالْإِنْكَارِ، ﴿إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: آيَتَانِ مَا أَشَدَّهُمَا عَلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي الْقُرْآنِ: "مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الذين كفروا" و"إن الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ" (٢) (الْبَقَرَةِ-١٧٦).
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ، أَخْبَرَنَا دَاوُدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْجُعْفِيُّ عَنْ زَائِدَةَ عَنْ لَيْثٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ جِدَالًا فِي الْقُرْآنِ كُفْرٌ" (٣).
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ بِشْرَانَ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّفَّارُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمًا يَتَمَارَوْنَ فِي الْقُرْآنِ، فَقَالَ: "إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِهَذَا، ضَرَبُوا كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، وَإِنَّمَا نَزَلَ كِتَابُ اللَّهِ يُصَدِّقُ
(١) ما بين القوسين زيادة من "ب".
(٢) انظر: القرطبي: ١٥ / ٢٩٢.
(٣) عزاه السيوطي في الدر المنثور: ٧ / ٢٧٣ لعبد بن حميد، وليث فيه ضعف. وانظر: الكافي الشاف ص (١٤٤) وأخرجه الطيالسي في المسند ص ٣٠٢ والبيهقي من حديث عبد الله بن عمرو بلفظ: "لا تجادلوا في القرآن، فإن جدالا فيه كفر" انظر: الفتح السماوي: ٣ / ٩٧٥-٩٧٦ كنز العمال: ١ / ٦١٥.
بَعْضُهُ بَعْضًا، فَلَا تُكَذِّبُوا بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، فَمَا عَلِمْتُمْ مِنْهُ فَقُولُوهُ، وَمَا جَهِلْتُمْ مِنْهُ فَكِلُوهُ إِلَى عَالِمِهِ" (١).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ﴾ تَصَرُّفُهُمْ فِي الْبِلَادِ لِلتِّجَارَاتِ وَسَلَامَتُهُمْ فِيهَا مَعَ كُفْرِهِمْ، فَإِنَّ عَاقِبَةَ أَمْرِهِمُ الْعَذَابُ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: "لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ" (آلِ عِمْرَانَ-١٩٦).
﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (٥) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (٦) ﴾
﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ وَهُمُ الْكُفَّارُ الذين تحزبوا ١٠٩/أعَلَى أَنْبِيَائِهِمْ بِالتَّكْذِيبِ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ، ﴿وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِيَقْتُلُوهُ وَيُهْلِكُوهُ. وَقِيلَ: لِيَأْسِرُوهُ. وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْأَسِيرَ أَخِيذًا، ﴿وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا﴾ لِيُبْطِلُوا، ﴿بِهِ الْحَقَّ﴾ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ وَمُجَادَلَتُهُمْ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: "إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مثلنا" (إبراهيم-١٠)، و"لولا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ" (الْفَرْقَانِ-٢١) وَنَحْوَ ذَلِكَ، ﴿فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ﴾.
﴿وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ﴾ يَعْنِي: كَمَا حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ حَقَّتْ، ﴿عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ مِنْ قَوْمِكَ، ﴿أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ قَالَ الْأَخْفَشُ: لِأَنَّهُمْ أَوْ بِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ.
﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (٧) ﴾
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ﴾ حَمَلَةُ الْعَرْشِ وَالطَّائِفُونَ بِهِ وَهُمُ الْكَرُوبِيُّونَ، وَهُمْ سَادَةُ الْمَلَائِكَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَمَلَةُ الْعَرْشِ مَا بَيْنَ كَعْبِ أَحَدِهِمْ إِلَى أَسْفَلِ قَدَمَيْهِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ (٢)، وَيُرْوَى أَنَّ أَقْدَامَهُمْ فِي تُخُومِ الأرضين، والأرضون والسموات إِلَى
(١) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (كتاب الجامع للإمام معمر) : ١١ / ٢١٧، والإمام أحمد: ٢ / ١٩٥، وابن ماجه بمعناه برقم: (٨٥) في المقدمة: ١ / ٣٣ وقال في الزوائد: إسناده صحيح ورجاله ثقات، وعزاه في مجمع الزوائد: ١ / ١٧١ للطبراني في الكبير، وفيه صالح بن أبي الأخضر.
(٢) أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات: ٢ / ١٤٣، وعزاه السيوطي في الدر المنثور: ٧ / ٢٧٥-٢٧٦ لعبد بن حميد وابن مردويه.
139
حُجُزِهِمْ، وَهُمْ يَقُولُونَ: سُبْحَانَ ذِي الْعِزَّةِ وَالْجَبَرُوتِ، سُبْحَانَ ذِي الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ، سُبْحَانَ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، سَبُوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ.
وَقَالَ مَيْسَرَةُ بْنُ عَرُوبَةَ: أَرْجُلُهُمْ فِي الأرض السفلى، ورؤوسهم خَرَقَتِ الْعَرْشَ، وَهُمْ خُشُوعٌ لَا يَرْفَعُونَ طَرْفَهُمْ، وَهُمْ أَشَدُّ خَوْفًا مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَأَهْلُ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ أَشَدُّ خَوْفًا مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا، وَالَّتِي تَلِيهَا أَشَدُّ خَوْفًا مِنَ الَّتِي تَلِيهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْعَرْشِ سَبْعُونَ حِجَابًا مِنْ نُورٍ.
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنَيْهِ إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعِمِائَةِ عَامٍ" (١).
وَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ قَالَ: [إِنَّ مَا] (٢) بَيْنَ الْقَائِمَةِ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ وَالْقَائِمَةِ الثَّانِيَةِ خَفَقَانَ الطَّيْرِ الْمُسْرِعِ ثَلَاثِينَ أَلْفَ عَامٍ، وَالْعَرْشُ يُكْسَى كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِينَ أَلْفَ لَوْنٍ مِنَ النُّورِ، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ، وَالْأَشْيَاءُ كُلُّهَا فِي الْعَرْشِ كَحَلْقَةٍ فِي فَلَاةٍ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَبَيْنَ الْعَرْشِ سَبْعُونَ أَلْفَ حِجَابٍ مِنْ نُورٍ، وَحِجَابٍ مِنْ ظُلْمَةٍ وَحِجَابُ نُورٍ وَحِجَابُ ظُلْمَةٍ.
وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: إِنَّ حَوْلَ الْعَرْشِ سَبْعِينَ أَلْفَ صَفٍّ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، صَفٌّ خَلْفَ صَفٍّ يَطُوفُونَ بِالْعَرْشِ، يُقْبِلُ هَؤُلَاءِ [وَيُدْبِرُ] (٣) هَؤُلَاءِ، فَإِذَا اسْتَقْبَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا هَلَّلَ هَؤُلَاءِ وَكَبَّرَ هَؤُلَاءِ، وَمِنْ وَرَائِهِمْ سَبْعُونَ أَلْفَ صَفٍّ قِيَامٌ، أَيْدِيهِمْ إِلَى أَعْنَاقِهِمْ قَدْ وَضَعُوهَا عَلَى عَوَاتِقِهِمْ، فَإِذَا سَمِعُوا تَكْبِيرَ أُولَئِكَ وَتَهْلِيلَهُمْ رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ، فَقَالُوا: سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ مَا أَعْظَمَكَ
(١) أخرجه أبو داود في السنة، باب في الجهمية: ٧ / ١٧ والبيهقي في الأسماء والصفات: ٢ / ١٤٢ بسند صحيح، وزاد السيوطي في الدر المنثور: ٧ / ٢٧٤ عزوه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ في العظمة، وابن مردويه.
(٢) زيادة من "ب".
(٣) في "أ": ويقبل.
140
وَأَجَلَّكَ أَنْتَ اللَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُكَ، أَنْتَ الْأَكْبَرُ، الْخَلْقُ كُلُّهُمْ لَكَ رَاجِعُونَ. وَمِنْ وَرَاءِ هَؤُلَاءِ مِائَةُ أَلْفِ صَفٍّ مِنَ الْمَلَائِكَةِ قَدْ وَضَعُوا الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى لَيْسَ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ يُسَبِّحُ بِتَحْمِيدٍ لَا يُسَبِّحُهُ الْآخَرُ، مَا بَيْنَ جَنَاحَيْ أحدهم مسيرة ثلثمائة عَامٍ، وَمَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى عَاتِقِهِ أَرْبَعُمِائَةِ عَامٍ، وَاحْتَجَبَ اللَّهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ حَوْلَ الْعَرْشِ بِسَبْعِينَ حِجَابًا مِنْ نَارٍ، وَسَبْعِينَ حِجَابًا مِنْ ظُلْمَةٍ، وَسَبْعِينَ حِجَابًا مِنْ نُورٍ، وَسَبْعِينَ حِجَابًا مِنْ دُرٍّ أَبْيَضَ، وَسَبْعِينَ حِجَابًا مِنْ يَاقُوتٍ أَحْمَرَ، [وَسَبْعِينَ حِجَابًا مِنْ يَاقُوتٍ أَصْفَرَ] (١) وَسَبْعِينَ حِجَابًا مِنْ زَبَرْجَدٍ أَخْضَرَ، وَسَبْعِينَ حِجَابًا مَنْ ثَلْجٍ، وَسَبْعِينَ حِجَابًا مِنْ مَاءٍ، وَسَبْعِينَ حِجَابًا مَنْ بَرَدٍ، وَمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ: وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ وَمَنْ حَوْلَهُ أَرْبَعَةُ وُجُوهٍ، وَجْهُ ثَوْرٍ وَوَجْهُ أَسَدٍ وَوَجْهُ نِسْرٍ وَوَجْهُ إِنْسَانٍ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ أَجْنِحَةٍ، أَمَّا جَنَاحَانِ فَعَلَى وَجْهِهِ مَخَافَةَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الْعَرْشِ فَيُصْعَقَ، وَأَمَّا جَنَاحَانِ فَيَهْفُو بِهِمَا، لَيْسَ لَهُمْ كَلَامٌ إِلَّا التَّسْبِيحُ وَالتَّحْمِيدُ وَالتَّكْبِيرُ وَالتَّمْجِيدُ (٢).
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ يُصَدِّقُونَ بِأَنَّهُ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ السَّمْعَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّيَّانِيُّ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجُوَيْهِ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرَّقَّاشِيُّ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ رَبَابٍ، حَدَّثَنَا شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ قَالَ: حَمَلَةُ الْعَرْشِ ثَمَانِيَةٌ، فَأَرْبَعَةٌ مِنْهُمْ يَقُولُونَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى حِلْمِكَ بَعْدَ عِلْمِكَ، وَأَرْبَعَةٌ مِنْهُمْ يَقُولُونَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى عَفْوِكَ بَعْدَ قُدْرَتِكَ، قَالَ: وَكَأَنَّهُمْ يَنْظُرُونَ ذُنُوبَ بَنِي آدَمَ (٣).
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا﴾ يَعْنِي يَقُولُونَ رَبَّنَا، ﴿وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا﴾ قِيلَ: نُصِبَ عَلَى التَّفْسِيرِ، وَقِيلَ: عَلَى النَّقْلِ، أَيْ: وَسِعَتْ رَحْمَتُكَ وَعِلْمُكَ كُلَّ شَيْءٍ، ﴿فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ﴾ دِينَكَ ﴿وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ قَالَ [مُطَرِّفٌ] (٤) : أَنْصَحُ عِبَادِ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ هُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَأَغَشُّ الْخَلْقِ لِلْمُؤْمِنِينَ هُمُ الشَّيَاطِينُ (٥).
(١) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(٢) انظر: زاد المسير: ٧ / ٢٠٨.
(٣) ذكره ابن كثير في تفسيره: ٤ / ٧٣.
(٤) ساقط من "أ".
(٥) انظر: القرطبي ١٥ / ٢٩٥.
141
﴿رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) ﴾
﴿رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَدْخُلُ الْمُؤْمِنُ الْجَنَّةَ فَيَقُولُ: أَيْنَ أَبِي؟ أَيْنَ أُمِّي، أَيْنَ وَلَدِي
أَيْنَ زَوْجِي؟ فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا مِثْلَ عَمَلِكَ، فَيَقُولُ: إِنِّي كُنْتُ أَعْمَلُ لِي وَلَهُمْ، فَيُقَالُ: أَدْخِلُوهُمُ الْجَنَّةَ (١).
﴿وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١) ﴾
﴿وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ﴾ الْعُقُوبَاتِ، ﴿وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ﴾ أَيْ: وَمَنْ تَقِهِ السَّيِّئَاتِ يَعْنِي الْعُقُوبَاتِ، وَقِيلَ: جَزَاءَ السَّيِّئَاتِ، ﴿يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ﴾ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُمْ فِي النَّارِ وَقَدْ مَقَتُوا أَنْفُسَهُمْ حِينَ عُرِضَتْ عَلَيْهِمْ سَيِّئَاتُهُمْ، وَعَايَنُوا الْعَذَابَ، فَيُقَالُ لَهُمْ: ﴿لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ﴾ يَعْنِي لَمَقْتُ اللَّهِ إِيَّاكُمْ فِي الدُّنْيَا إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمُ الْيَوْمَ أَنْفُسَكُمْ عِنْدَ حُلُولِ الْعَذَابِ بِكُمْ.
﴿قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا-وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: كَانُوا أَمْوَاتًا فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ فَأَحْيَاهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ أَمَاتَهُمُ الْمَوْتَةَ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ لِلْبَعْثِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَهُمَا مَوْتَتَانِ وَحَيَاتَانِ (٢)، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثم يحييكم" ١٠٩/ب (الْبَقَرَةِ-٢٨)، وَقَالَ الْسُّدِّيُّ: أُمِيتُوا فِي الدُّنْيَا ثُمَّ أُحْيَوْا فِي قُبُورِهِمْ لِلسُّؤَالِ، ثُمَّ أُمِيتُوا فِي قُبُورِهِمْ ثُمَّ أُحْيَوْا فِي الْآخِرَةِ (٣). ﴿فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ﴾ أَيْ: مِنْ خُرُوجٍ مِنَ النَّارِ إِلَى الدُّنْيَا فَنُصْلِحَ أَعْمَالَنَا وَنَعْمَلَ بِطَاعَتِكَ، نَظِيرُهُ: "هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ" (الشُّورَى-٤٤).
(١) أخرجه الطبري: ٢٤ / ٤٥.
(٢) عزاه السيوطي في الدر المنثور: ٧ / ٢٧٨ لعبد بن حميد، وابن المنذر.
(٣) أخرجه الطبري: ٢٤ / ٤٨.
﴿ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (١٤) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (١٥) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) ﴾
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ﴾ وَفِيهِ مَتْرُوكٌ اسْتُغْنِيَ عَنْهُ لِدَلَالَةِ الظَّاهِرِ عَلَيْهِ، مَجَازُهُ: فَأُجِيبُوا أَنْ لَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ، وَهَذَا الْعَذَابُ وَالْخُلُودُ فِي النَّارِ بِأَنَّكُمْ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ، إِذَا قِيلَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [كَفَرْتُمْ] (١) وَقُلْتُمْ: "أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا" (ص-٥) ﴿وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ﴾ غَيْرُهُ، ﴿تُؤْمِنُوا﴾ تُصَدِّقُوا ذَلِكَ الشِّرْكَ، ﴿فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ﴾ الَّذِي لَا أَعْلَى مِنْهُ وَلَا أَكْبَرَ.
﴿هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا﴾ يَعْنِي: الْمَطَرَ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْأَرْزَاقِ، ﴿وَمَا يَتَذَكَّرُ﴾ وَمَا يَتَّعِظُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ، ﴿إِلَّا مَنْ يُنِيبُ﴾ يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ.
﴿فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ الطَّاعَةَ وَالْعِبَادَةَ. ﴿وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾.
﴿رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ﴾ رَافِعُ دَرَجَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ فِي الْجَنَّةِ، ﴿ذُو الْعَرْشِ﴾ خَالِقُهُ وَمَالِكُهُ، ﴿يُلْقِي الرُّوحَ﴾ يُنَزِّلُ الْوَحْيَ، سَمَّاهُ رُوحًا لِأَنَّهُ تَحْيَا بِهِ الْقُلُوبُ كَمَا تَحْيَا الْأَبْدَانُ بِالْأَرْوَاحِ، ﴿مِنْ أَمْرِهِ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ قَضَائِهِ. وَقِيلَ: مِنْ قَوْلِهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: بِأَمْرِهِ. ﴿عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ﴾ أَيْ: لِيُنْذِرَ النَّبِيُّ بِالْوَحْيِ، ﴿يَوْمَ التَّلَاقِ﴾ وَقَرَأَ يَعْقُوبُ بِالتَّاءِ أَيْ: لِتُنْذِرَ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ يَوْمَ التَّلَاقِ، يَوْمَ يَلْتَقِي أَهْلُ السَّمَاءِ وَأَهْلُ الْأَرْضِ. قَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: يَلْتَقِي فِيهِ الْخَلْقُ وَالْخَالِقُ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: يَتَلَاقَى الْعِبَادُ. وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: يَلْتَقِي الظَّالِمُ وَالْمَظْلُومُ وَالْخُصُومُ. وَقِيلَ: يَلْتَقِي الْعَابِدُونَ وَالْمَعْبُودُونَ. وَقِيلَ: يَلْتَقِي فِيهِ الْمَرْءُ مَعَ عَمَلِهِ (٢).
﴿يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ﴾ خَارِجُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ ظَاهِرُونَ لَا يَسْتُرُهُمْ شَيْءٌ، ﴿لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ﴾ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ، ﴿شَيْءٌ﴾ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بَعْدَ فَنَاءِ الْخَلْقِ: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾
(١) في "ب" أنكرتم.
(٢) ذكر هذه الأقوال القرطبي: ١٥ / ٣٠٠.
143
فُلَا أَحَدٌ يُجِيبُهُ، فَيُجِيبُ نَفْسَهُ فَيَقُولُ: ﴿لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ الَّذِي قَهَرَ الْخَلْقَ بِالْمَوْتِ.
144
﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (١٧) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (١٨) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (٢١) ﴾
﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ يُجْزَى الْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ، وَالْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ، ﴿لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾.
﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ﴾ يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا قَرِيبَةٌ إِذْ كَلُّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: "أَزِفَتِ الْآزِفَةُ" (النَّجْمِ-٥٧) أَيْ: قَرُبَتِ الْقِيَامَةُ ﴿إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ﴾ وَذَلِكَ أَنَّهَا تَزُولُ عَنْ أَمَاكِنِهَا مِنَ الْخَوْفِ حَتَّى تَصِيرَ إِلَى الْحَنَاجِرِ، فَلَا هِيَ تَعُودُ إِلَى أَمَاكِنِهَا، وَلَا هِيَ تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ فَيَمُوتُوا وَيَسْتَرِيحُوا، ﴿كَاظِمِينَ﴾ مَكْرُوبِينَ مُمْتَلِئِينَ خَوْفًا وَحُزْنًا، وَالْكَظْمُ تَرَدُّدُ الْغَيْظِ وَالْخَوْفِ وَالْحُزْنِ فِي الْقَلْبِ حَتَّى يَضِيقَ بِهِ. ﴿مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ﴾ قَرِيبٌ يَنْفَعُهُمْ، ﴿وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ﴾ فَيَشْفَعُ فِيهِمْ.
﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ﴾ أَيْ: خِيَانَتَهَا وَهِيَ مُسَارَقَةُ النَّظَرِ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَهُوَ نَظَرُ الْأَعْيُنِ إِلَى مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ. ﴿وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾.
﴿وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ﴾ [يَعْنِي الْأَوْثَانَ] (١) ﴿لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ﴾ لِأَنَّهَا لَا تَعْلَمُ شَيْئًا وَلَا تَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، قَرَأَ نَافِعٌ [وَابْنُ عَامِرٍ] (٢) :"تَدْعُونَ" بِالتَّاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ. ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾.
﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: "مِنْكُمْ" بِالْكَافِ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَصَاحِفِهِمْ، ﴿وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ﴾ فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ ذَلِكَ ﴿فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ﴾ يَدْفَعُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ.
(١) زيادة من "ب".
(٢) ساقط من "ب".
﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٢٢) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (٢٥) ﴾
﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (٢٦) ﴾
﴿ذَلِكَ﴾ أَيْ: ذَلِكَ الْعَذَابُ الَّذِي نَزَلَ بِهِمْ، ﴿بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا﴾ يَعْنِي فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ ﴿اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ قَالَ قَتَادَةُ: هَذَا غَيْرُ الْقَتْلِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ قَدْ أَمْسَكَ عَنْ قَتْلِ الْوِلْدَانِ، فَلَمَّا بُعِثَ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-أَعَادَ الْقَتْلَ عَلَيْهِمْ، فَمَعْنَاهُ أَعِيدُوا عَلَيْهِمُ الْقَتْلَ (١) ﴿وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ﴾ لِيَصُدُّوهُمْ بِذَلِكَ عَنْ مُتَابَعَةِ مُوسَى وَمُظَاهَرَتِهِ، ﴿وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ﴾ وَمَا مَكَرُ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ وَاحْتِيَالُهُمْ، ﴿إِلَّا فِي ضَلَالٍ﴾ أَيْ: يَذْهَبُ كَيْدُهُمْ بَاطِلًا وَيَحِيقُ بِهِمْ مَا يُرِيدُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ﴾ لِمَلَئِهِ، ﴿ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى﴾ وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِأَنَّهُ كَانَ فِي خَاصَّةِ قَوْمِ فِرْعَوْنَ مَنْ يَمْنَعُهُ مِنْ قَتْلِهِ خَوْفًا مِنَ الْهَلَاكِ ﴿وَلْيَدْعُ رَبَّهُ﴾ أَيْ: وَلْيَدْعُ مُوسَى رَبَّهُ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ أَرْسَلَهُ إِلَيْنَا فَيَمْنَعَهُ مِنَّا، ﴿إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ﴾ يُغَيِّرَ، ﴿دِينَكُمْ﴾ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ، ﴿أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ﴾ قَرَأَ يَعْقُوبُ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ "أَوْ أَنْ يَظْهَرَ " وَقَرَأَ الْآخَرُونَ "وَأَنْ يَظْهَرَ " وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَحَفْصٌ "يُظْهِرَ" بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ عَلَى التَّعْدِيَةِ، ﴿الْفَسَادَ﴾ نُصِبَ لِقَوْلِهِ: "أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ" حَتَّى يَكُونَ الْفِعْلَانِ عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْهَاءِ عَلَى اللُّزُومِ، "الْفَسَادُ" رُفِعَ وَأَرَادَ بِالْفَسَادِ تَبْدِيلَ الدِّينِ وَعِبَادَةَ غَيْرِهِ.
(١) ذكره القرطبي: ١٥ / ٣٠٥.
﴿وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (٢٧) وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨) ﴾
﴿وَقَالَ مُوسَى﴾ لَمَّا تَوَعَّدَهُ فِرْعَوْنُ بِالْقَتْلِ، ﴿إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ﴾.
وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْمُؤْمِنِ: قَالَ مُقَاتِلٌ وَالسُّدِّيُّ: كَانَ قِبْطِيًّا ابْنَ عَمِّ فِرْعَوْنَ وَهُوَ الَّذِي حَكَى اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: "وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى" (الْقِصَصِ-٢٠)، وَقَالَ قَوْمٌ: كَانَ إِسْرَائِيلِيًّا، وَمَجَازُ الْآيَةِ: وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وَكَانَ اسْمُهُ حِزْئِيلَ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ اسْمُهُ [جُبْرَانَ] (١). وَقِيلَ: كَانَ اسْمُ الرَّجُلِ الَّذِي آمَنَ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ حَبِيبًا (٢) ﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ﴾ لِأَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ، ﴿وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ أَيْ: بِمَا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ، ﴿وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ﴾ ١١٠/ألَا يَضُرُّكُمْ ذَلِكَ، ﴿وَإِنْ يَكُ صَادِقًا﴾ فَكَذَّبْتُمُوهُ، ﴿يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ﴾ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْمُرَادُ بِالْبَعْضِ الْكُلُّ، أَيْ: إِنْ قَتَلْتُمُوهُ وَهُوَ صَادِقٌ أَصَابَكُمْ مَا يَتَوَعَّدُكُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ. قَالَ اللَّيْثُ: "بَعْضُ" صِلَةٌ، يُرِيدُ: يُصِبُكُمُ الَّذِي يَعِدُكُمْ. وَقَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: هَذَا عَلَى الظَّاهِرِ فِي الْحِجَاجِ كَأَنَّهُ قَالَ: أَقَلُّ مَا فِي صِدْقِهِ أَنْ يُصِيبَكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ وَفِي بَعْضِ ذَلِكَ هَلَاكُكُمْ، فَذَكَرَ الْبَعْضَ لِيُوجِبَ الْكُلَّ، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي﴾ إِلَى دِينِهِ، ﴿مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ﴾ [مُشْرِكٌ] (٣) ﴿كَذَّابٌ﴾ عَلَى اللَّهِ.
(١) في "ب" جبريل.
(٢) هذا القول الأخير ذكره السيوطي في الدر المنثور: ٧ / ٢٨٥، وذكر القولين السابقين الطبري: ٢٤ / ٥٨ وقال مرجحا: "وأولى القولين في ذلك بالصواب عندي، القول الذي قاله السدي من أن الرجل المؤمن كان من آل فرعون، قد أصغى لكلامه، واستمع منه ما قاله، وتوقف عن قتل موسى عند نهيه عن قتله، وقيله ما قال، وقال له: ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد، ولو كان إسرائيليا لكان حريا أن يعاجل هذا القائل له ولملئه ما قال بالعقوبة على قوله، لأنه لم يكن يستنصح بني إسرائيل، لاعتداده إياهم أعداء له، فكيف بقوله عن قتل موسى لو وجد إليه سبيلا، ولكنه لما كان من ملأ قومه، استمع قوله، وكف عما كان هم به في موسى" اهـ.
(٣) زيادة من "ب".
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنِي الْأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ، حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: أَخْبِرْنِي بِأَشَدِّ مَا صَنَعَهُ الْمُشْرِكُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِفَنَاءِ الْكَعْبَةِ إِذْ أَقْبَلَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ فَأَخَذَ بِمَنْكِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوَى ثَوْبَهُ فِي عُنُقِهِ، فَخَنَقَهُ بِهِ خَنْقًا شَدِيدًا، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ بِمَنْكِبِهِ وَدَفَعَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: "أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ من ربكم" (١).
﴿يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (٢٩) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (٣١) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (٣٢) ﴾
﴿يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ﴾ غَالِبِينَ فِي أَرْضِ مِصْرَ، ﴿فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ﴾ مَنْ يَمْنَعُنَا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، ﴿إِنْ جَاءَنَا﴾ وَالْمَعْنَى لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ فَلَا تَتَعَرَّضُوا لِعَذَابِ اللَّهِ بِالتَّكْذِيبِ، وَقَتْلِ النَّبِيِّ فَإِنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إِنْ حَلَّ بِكُمْ، ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ﴾ مِنَ الرَّأْيِ وَالنَّصِيحَةِ، ﴿إِلَّا مَا أَرَى﴾ لِنَفْسِي. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَا أُعْلِمُكُمْ إِلَّا مَا أَعْلَمُ، ﴿وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ مَا أَدْعُوكُمْ إِلَّا إِلَى طَرِيقِ الْهُدَى.
﴿وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ أَيْ: مِثْلَ عَادَتِهِمْ فِي الْإِقَامَةِ عَلَى التَّكْذِيبِ حَتَّى أَتَاهُمُ الْعَذَابُ، ﴿وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ﴾ أَيْ: لَا يُهْلِكُهُمْ قَبْلَ اتِّخَاذِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ.
﴿وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ﴾ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُدْعَى كُلُّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ وَيُنَادِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَيُنَادِي أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ، وَأَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ، وَيُنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ، وَيُنَادَى بِالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، أَلَا إِنَّ فَلَانَ بْنَ فُلَانٍ قَدْ سَعِدَ سَعَادَةً لَا يَشْقَى بَعْدَهَا أَبَدًا، وَفُلَانَ ابن فُلَانٍ قَدْ شَقِيَ شَقَاوَةً لَا يَسْعَدُ بَعْدَهَا أَبَدًا، وَيُنَادَى حِينَ يُذْبَحُ الْمَوْتُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ.
(١) أخرجه البخاري في التفسير - تفسير سورة المؤمن: ٨ / ٥٥٣-٥٥٤.
وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: "يَوْمَ التَّنَادِّ" بِتَشْدِيدِ الدَّالِّ أَيْ: يَوْمَ التَّنَافُرِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ هَرَبُوا فَنَدَّوْا فِي الْأَرْضِ كَمَا تَنِدُّ الْإِبِلُ إِذَا شَرَدَتْ عَنْ أَرْبَابِهَا.
قَالَ الضَّحَّاكُ: وَكَذَلِكَ إِذَا سَمِعُوا زَفِيرَ النَّارِ نَدَّوْا هَرَبًا فَلَا يَأْتُونَ قُطْرًا مِنَ الْأَقْطَارِ إِلَّا وَجَدُوا الْمَلَائِكَةَ صُفُوفًا، فَيَرْجِعُونَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانُوا فِيهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا" (الحاقة-١٧) وقوله: "يا معشر الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا من أقطار السموات وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا" (١). (الرَّحْمَنِ-٣٣)
﴿يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (٣٣) ﴾
(١) انظر: القرطبي: ١٥ / ٣١١.
﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (٣٤) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (٣٥) ﴾
﴿يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ﴾ مُنْصَرِفِينَ عَنْ مَوْقِفِ الْحِسَابِ إِلَى النَّارِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فَارِّينَ غَيْرَ مُعْجِزِينَ ﴿مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ﴾ يَعْصِمُكُمْ مِنْ عَذَابِهِ، ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾. ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ﴾ يَعْنِي يُوسُفَ بْنَ يَعْقُوبَ "مِنْ قَبْلُ" أَيْ: مِنْ قَبْلِ مُوسَى، ﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾ يَعْنِي قَوْلَهُ: "أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ" (يُوسُفَ-٣٩) ﴿فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، ﴿حَتَّى إِذَا هَلَكَ﴾ مَاتَ ﴿قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا﴾ أَيْ: أَقَمْتُمْ عَلَى كُفْرِكُمْ وَظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يُجَدِّدُ عَلَيْكُمُ الْحُجَّةَ، ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ﴾ مُشْرِكٌ، ﴿مُرْتَابٌ﴾ شَاكٌّ.
﴿الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ﴾ قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا تَفْسِيرٌ لِلْمُسْرِفِ الْمُرْتَابِ يَعْنِي هُمُ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَيْ: فِي إِبْطَالِهَا بِالتَّكْذِيبِ ﴿بِغَيْرِ سُلْطَانٍ﴾ حُجَّةٍ ﴿أَتَاهُمْ﴾ [مِنَ اللَّهِ] (١) ﴿كَبُرَ مَقْتًا﴾ أَيْ: كَبُرَ ذَلِكَ الْجِدَالُ مَقْتًا، ﴿عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ﴾ قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ "قَلْبٍ" بِالتَّنْوِينِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْإِضَافَةِ، دَلِيلُهُ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ "عَلَى قَلْبِ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ".
(١) زيادة من "ب".
﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (٣٦) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (٣٧) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (٣٨) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (٤٠) ﴾
﴿وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) ﴾
﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ﴾ لوزيره: ﴿يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا﴾ وَالصَّرْحُ: الْبِنَاءُ الظَّاهِرُ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَى النَّاظِرِ وَإِنْ بَعُدَ، وَأَصْلُهُ مِنَ التَّصْرِيحِ وَهُوَ الْإِظْهَارُ، ﴿لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ﴾. ﴿أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ﴾ يَعْنِي: طُرُقَهَا وَأَبْوَابَهَا مِنْ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ، ﴿فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى﴾ قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِرَفْعِ الْعَيْنِ نَسَقًا عَلَى قَوْلِهِ: "أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ" وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِنَصْبِ الْعَيْنِ وَهِيَ قِرَاءَةُ حُمَيْدٍ الْأَعْرَجِ، عَلَى جَوَابِ "لَعَلَّ" بِالْفَاءِ، ﴿وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ﴾ يَعْنِي مُوسَى، ﴿كَاذِبًا﴾ فِيمَا يَقُولُ إِنَّ لَهُ رِبًّا غَيْرِي، ﴿وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ﴾ قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَيَعْقُوبُ: "وَصُدَّ" بِضَمِّ الصَّادِ نَسَقًا عَلَى قَوْلِهِ: "زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صَدَّهُ اللَّهُ عَنْ سَبِيلِ الْهُدَى. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْفَتْحِ أَيْ: صَدَّ فِرْعَوْنُ النَّاسَ عَنِ السَّبِيلِ. ﴿وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ﴾ يَعْنِي: وَمَا كَيْدُهُ فِي إِبْطَالِ آيَاتِ مُوسَى إِلَّا فِي خَسَارٍ وَهَلَاكٍ. ﴿وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ طريق الهدى.
﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ﴾ مُتْعَةٌ تَنْتَفِعُونَ بِهَا مُدَّةً ثُمَّ تَنْقَطِعُ، ﴿وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ﴾ الَّتِي لَا تَزُولُ.
﴿مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ قَالَ مُقَاتِلٌ: لَا تَبِعَةَ عَلَيْهِمْ فِيمَا يُعْطَوْنَ فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْخَيْرِ. ﴿وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ﴾ يَعْنِي: مَا لَكُمْ، كَمَا تَقُولُ: مَا لِي أَرَاكَ حَزِينًا؟ أَيْ: مَا لَكَ؟ يَقُولُ: أَخْبِرُونِي عَنْكُمْ؟ كَيْفَ هَذِهِ الْحَالُ أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ مِنَ النَّارِ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ، ﴿وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ﴾ ؟ إِلَى الشِّرْكِ الَّذِي يُوجِبُ النَّارَ، ثُمَّ فَسَّرَ فَقَالَ:
﴿تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (٤٣) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (٤٤) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (٤٦) ﴾
﴿تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ﴾ فِي انْتِقَامِهِ مِمَّنْ كَفَرَ، الغفار لذنوب ١١٠/ب أَهْلِ التَّوْحِيدِ.
﴿لَا جَرَمَ﴾ حَقًّا، ﴿أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾ أَيْ: إِلَى الْوَثَنِ، ﴿لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ﴾ قَالَ الْسُّدِّيُّ: لَا يَسْتَجِيبُ لِأَحَدٍ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، يَعْنِي لَيْسَتْ لَهُ اسْتِجَابَةُ دَعْوَةٍ. وَقِيلَ: لَيْسَتْ لَهُ دَعْوَةٌ إِلَى عِبَادَتِهِ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّ الْأَوْثَانَ لَا تَدَّعِي الرُّبُوبِيَّةَ، وَلَا تَدْعُو إِلَى عِبَادَتِهَا، وَفِي الْآخِرَةِ تَتَبَرَّأُ مِنْ عَابِدِيهَا. ﴿وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ﴾ مَرْجِعُنَا إِلَى اللَّهِ فَيُجَازِي كُلًّا بِمَا يَسْتَحِقُّ، ﴿وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ﴾ الْمُشْرِكِينَ، ﴿هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾.
﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ﴾ إِذَا عَايَنْتُمُ الْعَذَابَ حِينَ لَا يَنْفَعُكُمُ الذِّكْرُ، ﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ﴾ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ تَوَعَّدُوهُ لِمُخَالَفَتِهِ دِينَهُمْ، ﴿إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ يَعْلَمُ الْمُحِقَّ مِنَ الْمُبْطِلِ، ثُمَّ خَرَجَ الْمُؤْمِنُ مِنْ بَيْنِهِمْ، فَطَلَبُوهُ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ.
وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ ﴿فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا﴾ [مَا أَرَادُوا بِهِ مِنَ الشَّرِّ] (١) قَالَ قَتَادَةُ: نَجَا مَعَ مُوسَى وَكَانَ قِبْطِيًّا، ﴿وَحَاقَ﴾ نَزَلَ، ﴿بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ﴾ الْغَرَقُ فِي الدُّنْيَا، وَالنَّارُ فِي الْآخِرَةِ.
وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿النَّارُ﴾ هِيَ رَفْعٌ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ السُّوءِ، ﴿يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا﴾ صَبَاحًا وَمَسَاءً، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَرْوَاحُ آلِ فِرْعَوْنَ فِي أَجْوَافِ طُيُورٍ سُودٍ يُعْرَضُونَ عَلَى النَّارِ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ، تَغْدُو وَتَرُوحُ إِلَى النَّارِ، وَيُقَالُ: يَا آلَ فِرْعَوْنَ هَذِهِ مَنَازِلُكُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ (٢).
(١) ما بين القوسين زيادة من "ب".
(٢) انظر: البحر المحيط: ٧ / ٤٦٨، والقرطبي: ١٥ / ٣١٨.
وَقَالَ قَتَادَةُ، وَمُقَاتِلٌ، وَالسُّدِّيُّ، وَالْكَلْبِيُّ: تُعْرَضُ رُوحُ كُلِّ كَافِرٍ عَلَى النَّارِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا مَا دَامَتِ الدُّنْيَا.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ، أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (١).
ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ مُسْتَقَرِّهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا﴾ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو بَكْرٍ: "السَّاعَةُ" "ادْخُلُوا" بِحَذْفِ الْأَلِفِ وَالْوَصْلِ، وَبِضَمِّهَا فِي الِابْتِدَاءِ، وَضَمِّ الْخَاءِ مِنَ الدُّخُولِ، أَيْ: يُقَالُ لَهُمْ: ادْخُلُوا يَا "آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ"، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ "أَدْخِلُوا" بِقَطْعِ الْأَلْفِ وَكَسْرِ الْخَاءِ مِنَ الْإِدْخَالِ، أَيْ: يُقَالُ لِلْمَلَائِكَةِ: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ أَلْوَانَ الْعَذَابِ غَيْرَ الَّذِي كَانُوا يُعَذَّبُونَ بِهِ مُنْذُ أُغْرِقُوا.
﴿وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (٤٧) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (٤٨) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (٤٩) ﴾
(١) أخرجه البخاري في الجنائز، باب: الميت يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي: ٣ / ٢٤٣، ومسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه وإثبات عذاب القبر، والتعوذ منه برقم: (٢٨٦٦) : ٤ / ٢١٩٩.
﴿قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (٥٠) ﴾
﴿وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ﴾ أَيْ: اذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ لِقَوْمِكَ إِذْ يَخْتَصِمُونَ، يَعْنِي أَهْلَ النَّارِ فِي النَّارِ، ﴿فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا﴾ فِي الدُّنْيَا، ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ﴾ وَالتَّبَعُ يَكُونُ وَاحِدًا وَجَمْعًا فِي قَوْلِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَوَاحِدُهُ تَابِعٌ، وَقَالَ أَهْلُ الْكُوفَةِ: هُوَ جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ، وَجَمْعُهُ أَتْبَاعٌ.
﴿قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ﴾ حِينَ اشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ، ﴿لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ﴾.
﴿قَالُوا﴾ يَعْنِي خَزَنَةُ جهنم لهم، ﴿أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا﴾ أَنْتُمْ إذًا رَبَّكُمْ، إِنَّا لَا نَدْعُو لَكُمْ، لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّهُ لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ﴾
أَيْ: يُبْطِلُ وَيُضِلُّ وَلَا يَنْفَعُهُمْ.
﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (٥١) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (٥٣) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (٥٤) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (٥٥) إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦) ﴾
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِالْغَلَبَةِ وَالْقَهْرِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: بِالْحُجَّةِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالْعُذْرِ. وَقِيلَ: بِالِانْتِقَامِ مِنَ الْأَعْدَاءِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ قَدْ كَانَ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَهُمْ مَنْصُورُونَ بِالْحُجَّةِ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ، وَقَدْ نَصَرَهُمُ اللَّهُ بِالْقَهْرِ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ وَإِهْلَاكِ أَعْدَائِهِمْ، وَنَصَرَهُمْ بَعْدَ أَنْ قُتِلُوا بِالِانْتِقَامِ مِنْ أَعْدَائِهِمْ، كَمَا نَصَرَ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا لَمَّا قُتِلَ، قُتِلَ بِهِ سَبْعُونَ أَلْفًا، فَهُمْ مَنْصُورُونَ بِأَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ، ﴿وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُومُ الْحَفَظَةُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَشْهَدُونَ لِلرُّسُلِ بِالتَّبْلِيغِ وَعَلَى الْكَفَّارِ بِالتَّكْذِيبِ.
﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ﴾ إِنِ اعْتَذَرُوا عَنْ كُفْرِهِمْ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَابُوا لَمْ يَنْفَعْهُمْ، ﴿وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ﴾ الْبُعْدُ مِنَ الرَّحْمَةِ، ﴿وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾ يَعْنِي جَهَنَّمَ.
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى﴾ قَالَ مُقَاتِلٌ: الْهُدَى مِنَ الضَّلَالَةِ، يَعْنِي التَّوْرَاةَ، ﴿وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ﴾ [التَّوْرَاةَ] (١).
﴿هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾.
﴿فَاصْبِرْ﴾ يَا مُحَمَّدُ عَلَى أَذَاهُمْ، ﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ﴾ فِي إِظْهَارِ دِينِكَ وَإِهْلَاكِ أَعْدَائِكَ ﴿حَقٌّ﴾ قَالَ الْكَلْبِيُّ: نَسَخَتْ آيَةُ الْقِتَالِ آيَةَ الصَّبْرِ (٢)، ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ هَذَا تَعَبُّدٌ مِنَ اللَّهِ لِيَزِيدَهُ بِهِ دَرَجَةً وَلِيَصِيرَ سُنَّةً لِمَنْ بَعْدَهُ، ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾ صَلِّ شَاكِرًا لِرَبِّكَ ﴿بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾ قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي صَلَاةَ الْعَصْرِ وَصَلَاةَ الْفَجْرِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ.
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ﴾ مَا فِي قُلُوبِهِمْ، وَالصَّدْرُ
(١) زيادة من "ب".
(٢) راجع فيما سبق: ٣ / ٣٢ تعليق (١).
مَوْضِعُ الْقَلْبِ، فَكَنَّى بِهِ عَنِ الْقَلْبِ لِقُرْبِ الْجِوَارِ، ﴿إِلَّا كِبْرٌ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى تَكْذِيبِكَ إِلَّا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنَ الْكِبَرِ وَالْعَظَمَةِ، ﴿مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: مَا هُمْ بِبَالِغِي مُقْتَضَى ذَلِكَ الْكِبَرِ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مُذِلُّهُمْ.
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا تَكَبُّرٌ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَمَعٌ فِي أَنْ يَغْلِبُوهُ (١) وَمَا هُمْ بِبَالِغِي ذَلِكَ.
قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ صَاحِبَنَا الْمَسِيحَ بْنَ دَاوُدَ -يَعْنُونَ الدَّجَّالَ-يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، فَيَبْلُغُ سُلْطَانُهُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَيَرُدُّ الْمُلْكَ إِلَيْنَا (٢)، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ، ﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾.
﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٥٧) ﴾
﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ مَعَ عِظَمِهِمَا، ﴿أَكْبَرُ﴾ أَعْظَمُ فِي الصُّدُورِ، ﴿مِنْ خَلْقِ النَّاسِ﴾ أَيْ: مِنْ إِعَادَتِهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ، ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ﴾ يَعْنِي الْكُفَّارَ، ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ حَيْثُ لَا يَسْتَدِلُّونَ بِذَلِكَ عَلَى تَوْحِيدِ خَالِقِهَا. وَقَالَ قَوْمٌ: "أَكْبَرُ" [أَيْ: أَعْظَمُ] (٣) مِنْ خَلْقِ الدَّجَّالِ، ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ يَعْنِي الْيَهُودَ الَّذِينَ يُخَاصِمُونَ فِي أَمْرِ الدَّجَّالِ.
وَرُوِيَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَا بَيْنَ خَلْقِ آدَمَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ خَلْقٌ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الدَّجَّالِ" (٤).
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الطَّاهِرِيُّ، أَخْبَرَنَا جَدِّي عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَزَّارُ، [أَخْبَرْنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْعُذَافِرِيُّ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّبَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ] (٥) حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عن قتادة ١١١/أعَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ الْأَنْصَارِيَّةِ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِي فَذَكَرَ الدَّجَّالَ، فَقَالَ: "إِنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ ثَلَاثَ سِنِينَ: سَنَةٌ تُمْسِكُ السَّمَاءُ ثُلُثَ قَطْرِهَا، وَالْأَرْضُ ثُلُثَ نَبَاتِهَا، وَالثَّانِيَةُ تُمْسِكُ السَّمَاءُ ثُلُثَيْ قَطْرِهَا، وَالْأَرْضُ ثُلُثَيْ نَبَاتِهَا، وَالثَّالِثَةُ تُمْسِكُ السَّمَاءُ قَطْرَهَا كُلَّهُ، وَالْأَرْضُ نَبَاتَهَا كُلَّهُ، فَلَا يَبْقَى ذَاتَ ظِلْفٍ وَلَا ذَاتَ ضِرْسٍ مِنَ الْبَهَائِمِ إِلَّا هَلَكَ، وَإِنَّ مِنْ أَشَدِّ فِتْنَتِهِ أَنَّهُ يَأْتِي الْأَعْرَابِيَّ فَيَقُولُ: أَرَأَيْتَ إِنْ أَحْيَيْتُ لَكَ إِبِلَكَ أَلَيْسَ تَعْلَمُ أَنِّي رَبُّكَ؟ قَالَ:
(١) في غريب القرآن: (أن تقتلوه) راجع القرطين لابن مطرف: ٢ / ١٠٦.
(٢) انظر: الدر المنثور: ٧ / ٢٩٤.
(٣) زيادة من "ب".
(٤) أخرجه مسلم في الفتن، باب: في بقية من أحاديث الدجال، برقم: (٢٩٤٦) : ٤ / ٢٢٦٦-٢٢٦٧.
(٥) ما بين القوسين ساقط من "أ".
153
فَيَقُولُ: بَلَى، فَيَتَمَثَّلُ لَهُ نَحْوُ إِبِلِهِ كَأَحْسَنِ مَا يَكُونُ ضُرُوعًا وَأَعْظَمِهِ أَسْنِمَةً، قَالَ: وَيَأْتِي الرَّجُلَ قَدْ مَاتَ أَخُوهُ وَمَاتَ أَبُوهُ فَيَقُولُ: أَرَأَيْتَ إِنْ أَحْيَيْتُ لَكَ أَبَاكَ وَأَخَاكَ أَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنِّي رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: بَلَى، فَيَتَمَثَّلُ لَهُ الشَّيْطَانُ نَحْوَ أَبِيهِ وَنَحْوَ أَخِيهِ". قَالَتْ: ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَاجَتِهِ، ثُمَّ رَجَعَ وَالْقَوْمُ فِي اهْتِمَامٍ وَغَمٍّ مِمَّا حَدَّثَهُمْ، قَالَتْ: فَأَخَذَ بِلُحْمَتَيِ الْبَابِ فَقَالَ: مَهْيَمْ أَسْمَاءُ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ خَلَعْتَ أَفْئِدَتَنَا بِذِكْرِ الدَّجَّالِ، قَالَ: "إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا حَيٌّ فَأَنَا حَجِيجُهُ، وَإِلَّا فَإِنَّ رَبِّي خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ"، قَالَتْ أَسْمَاءُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ إِنَّا لَنَعْجِنُ عَجِينًا فَمَا نَخْبِزُهُ حَتَّى نَجُوعَ فَكَيْفَ بِالْمُؤْمِنِينَ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: "يُجْزِيهِمْ مَا يُجْزِئُ أَهْلَ السَّمَاءِ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ" (١).
وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَمْكُثُ الدَّجَّالُ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، السَّنَةُ كَالشَّهْرِ، وَالشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ، وَالْجُمُعَةُ كَالْيَوْمِ، وَالْيَوْمُ كَاضْطِرَامِ السَّعَفَةِ فِي النَّارِ" (٢).
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الطَّاهِرِيُّ، أَخْبَرَنَا جَدِّي عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَزَّارُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْعُذَافِرِيُّ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ الدَّبَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّاسِ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ ذَكَرَ الدَّجَّالَ فَقَالَ: "إِنِّي لَأُنْذِرُكُمُوهُ، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَنْذَرَ قَوْمَهُ، لَقَدْ أَنْذَرَ نُوحٌ قَوْمَهُ، وَلَكِنِّي سَأَقُولُ لَكُمْ فِيهِ قَوْلًا لَمْ يَقُلْهُ نَبِيٌّ لِقَوْمِهِ: تَعْلَمُونَ أَنَّهُ أَعْوَرُ وَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ" (٣).
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: ذُكِرَ الدَّجَّالُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْكُمْ، إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى عَيْنِهِ، وَإِنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى، كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ" (٤).
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَدِ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ،
(١) أخرجه عبد الرازق في المصنف ١١ / ٣٩١، ومن طريقه الإمام أحمد: ٦ / ٤٥٣، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد: ٧ / ٣٤٤-٣٤٥ وقال: "رواه كله أحمد والطبراني من طرق، وفي إحداها: يكون قبل خروجه سنون خمس جدب، وفيه شهر بن حوشب، وفيه ضعف، وقد وثق" والمصنف في شرح السنة: ١٥ / ٦٠-٦١.
(٢) أخرجه عبد الرازق في المصنف: ١١ / ٣٩٢، ومن طريقه الإمام أحمد: ٦ / ٤٥٤، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد: ٧ / ٣٤٧ ونسبه إلى الطبراني وأعله بشهر، قال: "ولا يحتمل مخالفته للأحاديث الصحيحة أنه يلبث في الأرض أربعين يوما وفي هذا أربعين سنة" والمصنف في شرح السنة: ١٥ / ٦٢.
(٣) أخرجه البخاري في الأنبياء، باب: قول الله عز وجل: "ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه" ٦ / ٣٧٠، والمصنف في شرح السنة: ١٥ / ٤٩.
(٤) أخرجه البخاري في التوحيد، باب قول الله تعالى: "ولتصنع على عيني" ١٣ / ٣٨٩.
154
حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ صَفْوَانَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: انْطَلَقْتُ مَعَهُ إِلَى حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ فَقَالَ لَهُ عُقْبَةُ: حَدِّثْنِي مَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدَّجَّالِ؟ قَالَ: "إِنَّ الدَّجَّالَ يَخْرُجُ وَإِنَّ مَعَهُ مَاءً وَنَارًا، فَأَمَّا الَّذِي يَرَاهُ النَّاسُ مَاءً فَنَارٌ تَحْرِقُ، وَأَمَّا الَّذِي يَرَاهُ النَّاسُ نَارًا فَمَاءٌ بَارِدٌ عَذْبٌ، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَلْيَقَعْ فِي الَّذِي يَرَاهُ نَارًا فَإِنَّهُ مَاءٌ عَذْبٌ طَيِّبٌ" فَقَالَ عُقْبَةُ: وَأَنَا قَدْ سَمِعْتُهُ، تَصْدِيقًا لِحُذَيْفَةَ (١).
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَمْرٍو وَهُوَ الْأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَيْسَ مِنْ بَلَدٍ إِلَّا سَيَطَؤُهُ الدَّجَّالُ إِلَّا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ، لَيْسَ مِنْ نِقَابِهَا إِلَّا عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ صَافِّينَ يَحْرُسُونَهَا، [ثُمَّ] (٢) تَرْجُفُ الْمَدِينَةُ بِأَهْلِهَا ثَلَاثَ رَجَفَاتٍ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ كُلُّ كَافِرٍ وَمُنَافِقٍ" (٣).
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْخَرَقِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّيْسَفُونِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْجَوْهَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْكُشْمِهَينِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنِ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَأْتِي الْمَسِيحُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ وَهِمَّتُهُ الْمَدِينَةُ، حَتَّى يَنْزِلَ دُبُرَ أُحُدٍ، ثُمَّ تَصْرِفُ الْمَلَائِكَةُ وَجْهَهُ قِبَلَ الشَّامِ، وَهُنَاكَ يَهْلِكُ" (٤).
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الطَّاهِرِيُّ، أَخْبَرَنَا جَدِّي عَبْدُ الصَّمَدِ الْبَزَّارُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْعُذَافِرِيُّ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ الدَّبَرِيُّ، ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَارُونَ الْعَبْدِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَتْبَعُ الدَّجَّالَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا عَلَيْهِمُ السِّيجَانُ (٥) " (٦) وَيَرْوِيهِ أَبُو أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَعَ الدَّجَّالِ يَوْمَئِذٍ سَبْعُونَ أَلْفَ يَهُودِيٍّ كُلُّهُمْ ذُو تَاجٍ وَسَيْفٍ مُحَلًّى" (٧).
(١) أخرجه مسلم في الفتن، باب ذكر الدجال وصفته ومن معه برقم: (٢٩٣٤ / ٢٩٣٥) ٤ / ٢٢٥٠ والمصنف في شرح السنة: ١٥ / ٥٢.
(٢) في "أ": يوم.
(٣) أخرجه البخاري في فضائل المدينة، باب لا يدخل الدجال المدينة: ٤ / ٩٥، ومسلم في الفتن، باب قصة الجساسة برقم: (٢٩٤٣) : ٤ / ٢٢٦٥، والمصنف في شرح السنة: ٧ / ٣٢٦.
(٤) أخرجه مسلم في الحج، باب صيانة المدينة من دخول الطاعون والدجال إليها. برقم: (١٣٨٠) ٢ / ١٠٠٥، والمصنف في شرح السنة: ٧ / ٣٢٦.
(٥) الطيلسان الأخضر.
(٦) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (كتاب الجامع) : ١١ / ٣٩٣، والمصنف في شرح السنة: ١٥ / ٦٢، وفيه أبو هارون العبدي وهو متروك.
(٧) قطعة من حديث طويل رواه ابن ماجه في الفتن، باب: فتنة الدجال.. برقم (٤٠٧٧) ٢ / ١٣٥٩-١٣٦٣، وأخرجه الحاكم مختصرا، وصححه على شرط مسلم: ٤ / ٥٣٦-٥٣٧، وعزاه في كنز العمال: ١٤ / ٢٩٦ لابن خزيمة والضياء المقدسي.
155
﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (٥٨) ﴾
﴿إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (٥٩) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (٦٠) ﴾
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ﴾ قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ "تَتَذَكَّرُونَ" بِالتَّاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ، لِأَنَّ أَوَّلَ الْآيَاتِ وَآخِرَهَا خَبَرٌ عَنْ قَوْمٍ.
﴿إِنَّ السَّاعَةَ﴾ أَيْ: الْقِيَامَةَ ﴿لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ﴾.
﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ أَيِ: اعْبُدُونِي دُونَ غَيْرِي أُجِبْكُمْ وَأُثِبْكُمْ وَأَغْفِرْ لَكُمْ، فَلَمَّا عَبَّرَ عَنِ الْعِبَادَةِ بِالدُّعَاءِ جَعَلَ الْإِنَابَةَ اسْتِجَابَةً.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ سَمْعَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الرَّيَّانِيُّ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْ يُسَيْعٍ الْكِنْدِيِّ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: "إِنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ" ثُمَّ قَرَأَ: "ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ" (١).
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الدَّوْرَقِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ يُوسُفَ الشِّيرَازِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى الْقُرَشِيُّ بِبَغْدَادَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ بُدَيْلٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الْمَلِيحِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ يَذْكُرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ لَمْ يَدْعُ اللَّهَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ" (٢).
(١) أخرجه أبو داود في الصلاة، باب الدعاء: ٢ / ١٤١، والترمذي في التفسير - تفسير سورة المؤمن - ٩ / ١٢١-١٢٢ وقال: "هذا حديث حسن صحيح" والنسائي في التفسير: ٢ / ٢٥٣، وابن ماجه في الدعاء، باب فضل الدعاء برقم (٣٨٢٨) : ٢ / ١٢٥٨، وابن حبان في الأدعية، باب ما جاء في فضل الدعاء برقم: (٢٣٩٦) ص (٥٩٥)، والحاكم: ١ / ٤٩٠ وصححه ووافقه الذهبي، والطيالسي: ١ / ١٥٣، والطبري: ٢٤ / ٧٩، والمصنف في شرح السنة: ٥ / ١٨٤.
(٢) أخرجه الترمذي في الدعوات: ٩ / ٣١٣، وابن ماجه في الدعاء، باب فضل الدعاء برقم: (٣٨٢٧) : ٢ / ١٢٥٨، والإمام أحمد: ٢ / ٤٤٢، والحاكم: ١ / ٤٩١ والطبري: ٢٤ / ٧٩، والمصنف في شرح السنة: ٥ / ١٨٨، وأبو صالح الخوزي: ضعفه ابن معين. وانظر: فتح الباري: ١١ / ٩٥.
وَقِيلَ: الدُّعَاءُ هُوَ الذِّكْرُ وَالسُّؤَالُ، ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ قَرَأَ ابن كثير ١١١/ب وَأَبُو جَعْفَرٍ وَأَبُو بَكْرٍ: "سَيُدْخَلُونَ" بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْخَاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْخَاءِ، "دَاخِرِينَ" صَاغِرِينَ ذَلِيلِينَ.
﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (٦١) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٦٣) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٦٤) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٦٥) ﴾
﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾.
﴿كَذَلِكَ﴾ يَعْنِي كَمَا أُفِكْتُمْ عَنِ الْحَقِّ مَعَ قِيَامِ الدَّلَائِلِ كَذَلِكَ، ﴿يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾.
﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا﴾ فِرَاشًا، ﴿وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾ سَقْفًا كَالْقُبَّةِ، ﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾ قَالَ مُقَاتِلٌ: خَلَقَكُمْ فَأَحْسَنَ خَلْقَكُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خُلِقَ ابْنُ آدَمَ قَائِمًا مُعْتَدِلًا يَأْكُلُ وَيَتَنَاوَلُ بِيَدِهِ، وَغَيْرُ ابْنِ آدَمَ يَتَنَاوَلُ بِفِيهِ. ﴿وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ﴾ قِيلَ: مِنْ غَيْرِ رِزْقِ الدَّوَابِّ ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِ الْعَالَمِينَ﴾ قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ خَبَرٌ وَفِيهِ إِضْمَارُ الْأَمْرِ، مَجَازُهُ: فَادْعُوهُ وَاحْمَدُوهُ.
وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَلْيَقُلْ عَلَى إِثْرِهَا الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: "فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" (١).
(١) أخرجه الطبري: ٢٤ / ٨١، والحاكم: ٢ / ٤٣٨ وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" والبيهقي في الأسماء والصفات: ١ / ١٧٩ موقوفا على ابن عباس -رضي الله عنه- وزاد السيوطي في الدر المنثور: ٧ / ٣٠٤ نسبته لابن المنذر وابن مردويه.
﴿قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٦٦) ﴾
﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٦٨) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) ﴾
﴿قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ وَذَلِكَ حِينَ دُعِيَ إِلَى الْكُفْرِ.
﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا﴾ أَيْ: أَطْفَالًا ﴿ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ﴾ أَيْ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَصِيرَ شَيْخًا، ﴿وَلِتَبْلُغُوا﴾ جَمِيعًا، ﴿أَجَلًا مُسَمًّى﴾ وَقْتًا مَعْلُومًا مَحْدُودًا لَا تُجَاوِزُونَهُ، يُرِيدُ أَجَلَ الْحَيَاةِ إِلَى الْمَوْتِ، ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ أَيْ: لِكَيْ تَعْقِلُوا تَوْحِيدَ رَبِّكُمْ وَقُدْرَتَهُ.
﴿هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ﴾ يَعْنِي: الْقُرْآنَ، يَقُولُونَ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، ﴿أَنَّى يُصْرَفُونَ﴾ كَيْفَ يُصْرَفُونَ عَنْ دِينِ الْحَقِّ. قِيلَ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ (١). وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَجَمَاعَةٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْقَدَرِيَّةِ (٢).
﴿إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ﴾ [يُجَرُّونَ] (٣).
(١) ذكره الطبري: ٢٤ / ٨٣.
(٢) أخرجه الطبري: ٢٤ / ٨٣.
(٣) زيادة من "ب".
﴿فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (٧٤) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (٧٧) ﴾
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) ﴾
﴿فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ﴾ قَالَ مُقَاتِلٌ: تُوقَدُ بِهِمُ النَّارُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَصِيرُونَ وَقُودًا لِلنَّارِ. ﴿ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ يَعْنِي الْأَصْنَامَ، ﴿قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا﴾ فَقَدْنَاهُمْ فَلَا نَرَاهُمْ ﴿بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا﴾ قِيلَ: أَنْكَرُوا. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئًا يَنْفَعُ وَيَضُرُّ. وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: أَيْ: لَمْ نَكُنْ نَصْنَعُ مِنْ قَبْلُ شَيْئًا، أَيْ: ضَاعَتْ عِبَادَتُنَا لَهَا، كَمَا يَقُولُ مَنْ ضَاعَ عَمَلُهُ: مَا كُنْتُ أَعْمَلُ شَيْئًا. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿كَذَلِكَ﴾ أَيْ: كَمَا أَضَلَّ هَؤُلَاءِ، ﴿يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ﴾.
﴿ذَلِكُمْ﴾ الْعَذَابُ الَّذِي نَزَلَ بِكُمْ، ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ﴾ تَبْطَرُونَ وَتَأْشَرُونَ، ﴿فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ﴾ تَفْرَحُونَ وَتَخْتَالُونَ.
﴿ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ﴾ بِنَصْرِكَ، ﴿حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ﴾ مِنَ الْعَذَابِ فِي حَيَاتِكَ، ﴿أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ﴾ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ ذَلِكَ بِهِمْ، ﴿فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ﴾.
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ﴾ خَبَرَهُمْ فِي الْقُرْآنِ، ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ بِأَمْرِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ، ﴿فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ﴾ قَضَاؤُهُ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ، ﴿قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ﴾.
﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا﴾ بَعْضَهَا، ﴿وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ﴾ فِي
أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا وَأَلْبَانِهَا ﴿وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ﴾ تَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَاتِكُمْ، ﴿وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ﴾ أَيْ: عَلَى الْإِبِلِ فِي الْبَرِّ وَعَلَى السُّفُنِ فِي الْبَحْرِ. نَظِيرُهُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ" (الْإِسْرَاءِ-٧٠).
﴿وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (٨١) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (٨٥) ﴾
﴿وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ﴾ دَلَائِلَ قُدْرَتِهِ، ﴿فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ﴾.
﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ﴾ يَعْنِي: مَصَانِعَهُمْ وَقُصُورَهُمْ، ﴿فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ﴾ لَمْ يَنْفَعْهُمْ، ﴿مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ وَقِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ، وَمَجَازُهُ: أَيُّ شَيْءٍ أَغْنَى عَنْهُمْ كَسْبُهُمْ؟
﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا﴾ رَضُوا ﴿بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ قَوْلُهُمْ نَحْنُ أَعْلَمُ، لَنْ نُبْعَثَ وَلَنْ نُعَذَّبَ، سَمَّى ذَلِكَ عِلْمًا عَلَى مَا يَدَّعُونَهُ وَيَزْعُمُونَهُ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ جَهْلٌ. ﴿وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ﴾ يَعْنِي: تَبَرَّأْنَا مِمَّا كُنَّا نَعْدِلُ بِاللَّهِ.
﴿فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا﴾ عذابنا، ﴿سُنَّةَ اللَّهِ﴾ قِيلَ: نَصْبُهَا بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: كَسُنَّةِ اللَّهِ. وَقِيلَ: عَلَى الْمَصْدَرِ. وَقِيلَ: عَلَى الْإِغْرَاءِ أَيِ: احْذَرُوا سُنَّةَ اللَّهِ ﴿الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ﴾ وَتِلْكَ السُّنَّةُ أَنَّهُمْ إِذَا عَايَنُوا عَذَابَ اللَّهِ آمَنُوا، وَلَا يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ. ﴿وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ﴾ بِذَهَابِ الدَّارَيْنِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: الْكَافِرُ خَاسِرٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَلَكِنَّهُمْ يَتَبَيَّنُ لَهُمْ خُسْرَانُهُمْ إِذَا رَأَوُا الْعَذَابَ.
Icon