مكية
إلا الآيات١٠و١٥و٣٥ فمدنية
وآياتها٣٥ نزلت بعد الجاثية
كلماتها : ٣٤٤ ؛ حروفها : ٣٣٠٠.
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ حم( ١ ) ﴾.هي آخر الحواميم السبع، وأولها سورة غافر رقم :( ٤٠ )، والقول فيها كالقول في فواتح السور الثمانية التي تبدأ بحروف هجاء، ولهذا تقرأ –﴿ حم ﴾ وأمثالها- ساكنة الحروف فخرجت مخرج التهجّي، وربما يقال : إنها حروف مقطعة للتنبيه، أو للتحدي والإعجاز١.
القرآن – ومنه هذه السورة- منزل من المعبود بحق، العزيز الذي يَغْلِب ولا يُغْلب، الذي يقضي كل أمر وينفذه مطابقا للحكمة والصواب. و﴿ تنزيل ﴾ مرفوع بالابتداء وخبره الجملة المتممة للآية الكريمة.
فكأن المعنى : القرآن أنزله الله القوي القاهر الذي لا يمانع ولا يدافع ولا يصدر عنه- تبارك اسمه- إلا كل ما هو حق ومحكم. والله أعلم.
لم يكن خلقنا للسماوات السبع الطباق ورفعها وإبداعها بما فيها من شمس وقمر ونجوم وفلك وكواكب، وملائكة كرام، وما تعلمون وما لا تعلمون من خلق الملك العلام، وليس خلقنا للأرضين وبسطتها وسعتها، ويابسها ومائها، وسهلها وجباها، وما أودعناها من خيرات وكنوز، وما بين السماء والأرض من إنس وجن وخلاء وهواء، وعجائب صنعها بارئ الأرض والسماء- وما خلق الله ذلك إلا خلقا ملتبسا بالحق ؛ موافقا للحكمة التي من أجلها كنا، والشرعة التي باتباعها أُمِرْنَا، هاديا الفطرة السليمة والفكرة المستقيمة إلى اليقين في ربنا الحق ؛ فإن عظمة الخلق من برهان عظمة الخالق- تبارك وتعالى-.
أورد ابن جرير الطبري : ما أحدثنا السماوات والأرض فأوجدناهما خلقا مصنوعا وما بينهما من أصناف العالم إلا بالحق يعني : إلا لإقامة الحق والعدل في الخلق. اه.
﴿ وأجل مسمى ﴾
والسماوات والأرض وما بينهما خلقت- منذ أنشأها البارئ سبحانه- وقدّر لها مدة معلومة عنده-عز شأنه- فإن حان الأجل المعلوم وهو يوم القيامة بُدّلت الأرض غير الأرض والسماوات، ﴿ .. ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ﴾١.
أورد الألوسيّ : عطف على ﴿ بالحق ﴾ بتقدير مضاف أي وبتقدير أجل مسمى، وقدِّر لأن الخلق إنما يلتبس به بالأجل نفسه. اه.
﴿ والذين كفروا عما أنذروا معرضون( ٣ ) ﴾.
والذين ستروا عقولهم عن التفكر يتمادون في الإعراض والصدود عن سماع النذر، والتهيؤ لتوقي المهالك والخطر.
بعد تثبيت اليقين بصدق القرآن، وبيان الحكمة في خلق الأكوان، والتخويف من شقوة الغافلين عن لقاء الملك الديان، أمر الله تعالى نبيه أن يقيم الحجة على أهل الشرك والأوثان ؛ والاستفهام في ﴿ أرأيتم ﴾ بمعنى الطلب ﴿ ما تدعون من دون الله ﴾ أي شيء تعبدون غير الله من أصنام وأوثان، أو كواكب أو نبات أو حيوان، أو عنصر أو جن أو ملك أو إنسان فعبادته باطلة، ﴿ إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم.. ﴾١﴿ ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون. قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون ﴾٢. ﴿ أروني ﴾ أخبروني- تبكيتا لهم وتوبيخا-﴿ ماذا خلقوا من الأرض ﴾ أي جانب أو مكان من أرضنا هذه المبسوطة وما فيها ومن فيها خلقوه ؟ ﴿ أم لهم شرك في السماوات ﴾ بل ألهم شركة مع الله في خلق السماوات وما حولها من العلويات- ملائكة وشمس وقمر ونجوم، وفلك وسحب ورياح، وأبخرة وأشعة وهواء- ؟، فيكون لكم بذلك في عبادة ما عبدتم من دون الله حجة ؟ ! وهيهات !
﴿ ائتوني بكتاب من قبل هذا ﴾.
جيئوني بحجة سماوية ووحي منزل سبق هذا القرآن يشهد لآلهتكم أنها خلقت من الأرض بقعة أو شاركت البارئ المصور فاطر السماوات في إبداعها ورفعها فإنكم إن سقتهم مثل تلك الحجة[ صحت لها الشركة في النعم التي أنتم فيها، ووجب عليكم الشكر، واستحقت منكم الخدمة، لأن ذلك لا يقدر أن يخلقه إلا إله ] وما من خالق إلا الله.
﴿ أو أثارة من علم إن كنتم صادقين( ٤ ) ﴾.
أو هاتوا بقية مما يؤثر ويورث عن السابقين من علم يدل على صحة ما ادعيتم من تأليه مسميات سميتموها آلهة :﴿ .. وما من إله إلا الله.. ﴾٣. إن كنتم صادقين في دعوى اتخاذ أنداد أو شركاء لبارئ الأرض والسماء ﴿ سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا ﴾٤.
﴿ وهكذا أعجزهم الكتاب الحكيم فلم يستطيعوا الإتيان بشاهد حسي إذ تحداهم :{ أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ﴾ ولا أن يجيئوا بدليل نقلي إذا طلبوا به ﴿ ائتوني بكتاب من قبل هذا ﴾ ولا ببرهان عقلي ﴿ أو أثارة من علم ﴾ [ فإن الدعوى إذا لم يكن معها حجة لم تغن عن المدعي شيئا.. وإن من حجتي على إفرادي العبادة لربي أنه لا شريك له في إبداعها وأنه المتفرد بخلقها دون سواه ]٥.
٢ سورة سبأ الآيتان: ٤١، ٤٠..
٣ سورة آل عمران من الآية ٦٢..
٤ سورة الإسراء الآية ٤٣..
٥ ما بين العارضتين مقتبس من جامع البيان، بتصرف..
استفهام يراد به النفي، فليس من أحد يفوق المشركين أو يساويهم في ضلالهم إذ تركوا نداء السميع المجيب، ودعوا ما لا يسمع، وإن سمع لا ينفع ولا يدفع.
الآية الرابعة نفت عمن زعموهم شركاء القدرة على الخلق، وهذه الآية المباركة سلبتهم العلم والعمل :﴿ .. لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون ﴾ وقريب منه قول الحق تبارك اسمه﴿ إن تدعوهم لا يسمعوا دعائكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم.. ﴾١.
يقول أبو جعفر الطبري : وآلهتهم التي يدعونها٢ عن دعائهم إياها٣ في غفلة، لأنها لا تسمع ولا تنطق ولا تعقل، وإنما عنى بوصفها بالغفلة تمثيلها بالإنسان الساهي عما يقال له إذا كانت لا تفهم مما يقال شيئا كما لا يفهم الغافل عن الشيء ما غفل عنه، وإنما هذا توبيخ من الله لهؤلاء المشركين لسوء رأيهم وقبح اختيارهم في عبادتهم من لا يعقل شيئا ولا يفهم، وتركهم عبادة من وهبهم جميع ما بهم من نعمة، ومن به استغاثتهم عندما ينزل بهم من الحوائج والمصائب، وقيل﴿ من لا يستجيب ﴾ فأخرج ذكر الآلهة وهي جماد مخرج ذكر بني آدم ومن له الاختيار والتمييز إذا كانت قد مثلتها عَبَدَتُهَا بالملوك والأمراء التي تخدم في خدمتهم إياها ؛ فأجرى الكلام في ذلك على نحو ما كان جاريا فيه عندهم اه.
٢ نقلته بتصرف، إذ حين يكون الحديث عما لا يعقل لا يستعمل-أصلا- ضمير العقلاء..
٣ نقلته بتصرف، إذ حين يكون الحديث عما لا يعقل لا يستعمل-أصلا- ضمير العقلاء..
وحين تجيء القيامة وتعظم الطامّة، لا تخذلهم آلهتهم التي كانوا يدعون من دون الله-وكفى- وإنما يتبرءون منهم ويلعنونهم، كالذي حكاه القرآن عن قول إبراهيم عليه الصلوات والتسليم :﴿ وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار ومالكم من ناصرين ﴾١ وبهذا شهد الله الحق ﴿ واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا. كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا ﴾٢ ﴿ .. وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون ﴾٣ ﴿ .. تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون ﴾٤.
مما أورد الألوسي : والأمر ظاهر في ذوي العقول. وأما في الأصنام فقد روى أن الله تعالى يخلق لها إدراكا وينطقها فتتبرأ عن عبادتهم وكذا تكون أعداء لهم ؛ وجوز كون تكذيب الأصنام بلسان الحال لظهور أنهم لا يصلحون للعبادة وأنهم لا نفع لهم كما توهموه أولا حيث قالوا :﴿ .. ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله.. ﴾٥ ورجوا الشفاعة منهم ؛ وفسرت العداوة بالضر على أنها مجاز مرسل عنه، فمعنى :﴿ كانوا لهم أعداء ﴾ كانوا لهم ضارين. اه.
٢ سورة مريم. الآيتان: ٨١، ٨٢..
٣ سورة يونس. من الآية ٢٨..
٤ سورة القصص. من الآية ٢٨..
٥ سورة الزمر. من الآية ٣..
ومن سمات وصفات المكذبين المعاندين- مع شركهم- أنهم إذا قرئت عليهم آيات القرآن- وهو المنزل بعلمنا وحكمتنا- وهي واضحة جلية يبادر الكفار فور سماعها مع أنها الحق الذي لا يخالطه باطل- لكنهم يصفون هذا الهدى والرشد بأنه خداع بيّن، يفعل في نفس من تدبّره فعل السحر.
بل أيقولون : محمد اختلق هذا القرآن ونسبه إلى الله كذبا ؟ ! فإن وحي الله إليه أن يرد باطلهم بحقه﴿ قل إن افتريته ﴾ إن صح ما ادعيتم من باطل وأني نسبته إلى الله زورا فإن الله لن يدع عقوبتي ولن تستطيعوا أن تدفعوا عني شيئا فلماذا أُعرِّض نفسي للسخط والمقت ؟ !.
﴿ هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بيني وبينكم وهو الغفور الرحيم( ٨ ) ﴾.
ربي أعلم بما تندفعون فيه من الطعن في هذا القرآن- من قولهم- : هذا سحر مبين وقولهم : إن محمدا افتراه- وكفى بالله شهيدا يشهد لي بالصدق والبلاغ ويشهد على هؤلاء بالتكذيب والجحود، ومع ذلك فإنه عظيم الغفران والستر لذنوب من تاب وأناب، واسع الرحمة بمن صدّق بالحق واستقام عليه.
حجة أتاها الله نبيه محمدا أن يقول : لست أول رسول بُعث للناس، وإنما بعث الله قبلي أنبياء كثيرين، فماذا تستغربون من أمري ؟ وما أدري وما أعلم ماذا يحمل الغيب لي، هل سأقتل كما قتل نبيون من قبلي ؟ أم أُخرج كما أُخرج كثير من إخواني المرسلين ؟ ولا أعلم ماذا يُمضي الله فيكم ؟ أيخسف الأرض بكم أم يرميكم بالحجارة ؟.
مما أورد أبو عبد الله القرطبي : وما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا، لا يدري صلى الله عليه وسلم ما يلحقه وإياهم من مرض وصحة، ورخص وغلاء، وغنى وفقر، ومثله :﴿ .. ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير.. ﴾١ واختار الطبري أن يكون المعنى : ما أدري ما يصير إليه أمري وأمركم في الدنيا، أتؤمنون أم تكفرون، أم تعاجَلون بالعقاب أم تُؤخرون اه.
وذهب بعض المفسرين إلى أن المعنى ﴿ وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ﴾ في الآخرة ؛ ونقلوا : لما نزلت الآية فرح المشركون واليهود والمنافقون وقالوا : كيف نتبع نبيا لا يدري ما يفعل به ولا بنا، وأنه لا فضل له علينا، ولولا أنه ابتدع الذي يقوله من تلقاء نفسه لأخبره الذي بعثه بما يفعل به ؛ فنزلت :﴿ ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر.. ﴾٢ فنسخت هذه الآية، وأرغم الله أنف الكفار، وقالت الصحابة : هنيئا لك يا رسول الله، لقد بين الله لك ما يفعل بك يا رسول الله، فليت شعرنا ! ما هو فاعل بنا ؟ فنزلت :﴿ ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار.. ﴾٣ ؛ كما نقلوا حديثا أورده الثعلبي عن أم العلاء امرأة من الأنصار قالت : اقتسمنا المهاجرين فطار لنا عثمان بن مظعون.. فأنزلناه أبياتنا فتوفي، فقلت : رحمة الله عليك أبا السائب إن الله أكرمك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " وما يدريك أن الله أكرمه ؟ " فقلت بأبي وأمي يا رسول الله فمن ؟ قال :" أما هو فقد جاءه اليقين وما رأينا إلا خيرا فوالله إني لأرجو له الجنة ووالله إني لرسول الله وما أدري ما يفعل بي ولا بكم " قالت : فوالله : لا أزكي بعده أحدا أبدا.. قالوا : وإنما قال هذا حين لم يعلم بغفران ذنبه، وإنما غفر له ذنبه في غزوة الحديبية قبل موته بأربع سنين.
ورد عليهم المحققون من علماء القرآن فقالوا : حديث أم العلاء أخرجه البخاري، والرواية صحيحة فيه :( وما أدري ما يفعل به ) ليس فيه " بي ولا بكم " ومحال أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم للمشركين : ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة، ولم يزل صلى الله عليه وسلم من أول مبعثه إلى مماته يخبر أن من مات على الكفر مخلد في النار، ومن مات على الإيمان واتبعه وأطاعه فهو في الجنة.
أقول : سياق الآية يستشهد به لما اخترناه من أن المعنى : وما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا، فإن الذي يأتي على سنن المرسلين﴿ ما كنت بدعا من الرسل ﴾ على بينة من ربه، وكيف لا والله تعالى يقول :﴿ إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ﴾٤. كما أن المتبع لوحي الله، والبشير والنذير بما جاءه من الحق يعلم علم اليقين ماذا أُعدّ للمتقين وما هو مصير الكافرين :﴿ فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا ﴾٥.
﴿ إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين( ٩ ) ﴾.
ما أقول ولا أعمل إلا ما أمر به ربي الذي يعلم ما ظهر وما بطن، فلست أبتدع شيئا وإنما أستقيم على ما يوحيه إليّ الخبير البصير، ولست إلا منذرا ومحذرا أن يحملكم العناد على الوقوع في عذاب الله وسخطه، وإنذاري واضح صادق أيّدني فيه وليي سبحانه بالمعجزات.
٢ سورة الفتح. من الآية ٢..
٣ سورة الفتح. من الآية ٥..
٤ سورة غافر. الآية ٥١..
٥ سورة مريم. الآية ٩٧..
أمر من الله تعالى لنبيه ليحاجّ المشركين : أخبروني أيّ رشد فيكم إذا كان هذا القرآن- الذي تصفونه بأنه سحر مبين- وهذا كتاب من عند الله وقد آمن موسى- وهو من بني إسرائيل- بكتاب سماوي مثل القرآن : ألا وهو التوراة فكيف تكفرون أنتم بما جاءكم من الحق ؟ ١
نقل بعض المفسرين أن الشاهد ليس شخصا معينا ؛ وتقدير الكلام : لو أن رجلا منصفا عارفا بالتوراة أقرّ بذلك واعترف به ثم آمن بمحمد واستكبرتم أنتم ألم تكونوا ظالمين ضالين ؟ ! والمقصود أنه ثبت بالمعجزات القاهرة أن هذا الكتاب هو من عند الله، وثبت بشهادة الثقات أن التوراة مشتملة على البشارة بمقدم النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ثبوت هذين الأمرين كيف يليق إنكار نبوته ؛ ثم قالوا ما حاصله :[ الشاهد ] اسم جنس، وذلك المعنى عام. كما في قوله تعالى :﴿ وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين ﴾٢ وكذا قوله تبارك اسمه :﴿ إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا. ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ﴾٣.
لكن طائفة منهم ذهبوا إلى أن الشاهد هو عبد الله بن سلام- وكان من علماء اليهود-بدليل ما جاء في الصحيحين عن مالك عن أبي النضر عن عامر بن سعد عن أبيه قال : ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على وجه الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام رضي الله عنه، وفيه نزلت﴿ وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله ﴾.
﴿ فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين( ١٠ ) ﴾.
فآمن بالهدى من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ؛ وكبر عليكم أن تذعنوا لآيات ربكم لما جاءتكم ؛ وحملكم الكبر على العناد والفساد والكفر، ومن يكفر فهو أظلم الظالمين ﴿ .. إن الشرك لظلم عظيم ﴾٤.
٢ سورة الإسراء. من الآية ١٠٧والآية ١٠٨..
٣ ؟؟؟؟؟.
٤ سورة لقمان. من الآية ١٣..
ومن استكبارهم عن الحق أن أبَوْ وتأنّفوا أن يستجيبوا له من أجل من آمن به ممن ليسوا على شاكلتهم في التكبر والتجبر والفخر والخيلاء، فقالوا : لو كان هذا القرآن خيرا ما سبقنا إليه هؤلاء يعنون بلالا وعمارا وصهيبا وأشباههم- رضوان الله عليهم-
﴿ وإذا لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم( ١١ ) ﴾.
وإذا حُرم الطغاة البغاة هداه بكبريائهم وغرورهم﴿ .. كذلك يطبع الله على قلب كل متكبر جبار ﴾١ فسيفترون عليه فوق ما افتروه ويقولون : هذا باطل نقله محمد عن الأوائل الأقدمين، وما هذا إلا أساطير الأولين ؛ وكذبوا، فإنه تنزيل رب العالمين.
وأوحى الله تعالى من قبل القرآن ما أوحاه إلى موسى من التوراة التي تهدي من اتبعها، ويرحم الله من عمل بها. و﴿ إماما ورحمة ﴾ حال.
﴿ وهذا كتاب مصدق ﴾
وهذا القرآن مصدق للكتب التي أنزلها الله تعالى من قبله، ومنها التوراة المنزلة على موسى، لم يبطل الكتاب الخاتم أصول ما سبقه من كتب إلهية بل يوافقها، ولا يقبل من أتباعه إلا أن يؤمنوا بها جميعها ﴿ يا أيها الذين آمنوا آمِنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل.. ﴾١
﴿ لسانا عربيا ﴾
منصوب على الحال. والمعنى : هذا القرآن مصدق لما أنزل قبله وحالته كونه فصيحا مبينا، واضحا بليغا ؛ يقول اللغويون : و﴿ لسانا ﴾ كالتوكيد ل﴿ عربيا ﴾ كما تقول جاءني فلان رجلا صالحا.
﴿ لينذر الذين ظلموا ﴾
ليحذر الكتاب الذين ظلموا عاقبة بغيهم وتجاوزهم الحد، ومنع حق الله في الخضوع لسلطانه، وعبادته- سبحانه- ومنع حق العباد في موادعتهم والعمل على خيرهم.
﴿ وبشرى للمحسنين( ١٢ ) ﴾
فالذكر الحكيم أنزل ليحذر المسيئين ويخوفهم سوء مصيرهم، وليبشر من اتقى وأحسن ﴿ فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا ﴾٢.
٢ سورة مريم. الآية ٩٧..
إن الذين آمنوا بالله الذي لا يعبد بحق سواه، وأقروا بأنه الخالق الرازق الولي الحميد الفعال لما يريد، ثم استقام عملهم وخلقهم على المنهاج القويم والصراط السوي والدين المرتضى-الإسلام-.
يقول المفسرون :﴿ ثم ﴾ للتراخي الرتبى، فالعمل متراخي الرتبة عن الإيمان والتوحيد، وقد نصّوا على أنه لا يعتد بدونه.
أقول : وهكذا فعمل القلب والفكر أهم من عمل الجوارح ومقدم عليه، والله يشهد أنه من اعوج وعمي قلبه فعمله ساقط :﴿ .. ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله ﴾١ ﴿ وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثورا ﴾٢.
﴿ فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون( ١٣ ) ﴾.
فأولئك الذين عقلوا فأقروا بالإيمان، وأسلموا قيادهم لما جاء به القرآن، لا يخافون أن يدركهم الخزي أو العذاب، ولا يحزنون على ما فاتهم من الزينات والشهوات.
٢ سورة الفرقان. الآية ٣..
المؤمنون المستقيمون يجزون بإيمانهم واستقامتهم خلودا في الجنة، وإقامة بها، فلا يخرجون منها ولا يذوقون موتا ولا نصبا، ولا مرضا ولا تعبا، ولا غمّا ولا كدرا، بل لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما. و﴿ جزاء ﴾ نصب على المصدر.
الآيات من أول السورة تبين حقيقة الإيمان، والحجة على الكافرين، وهذه وما بعدها تبين حق الوالدين ؛ وشأن القرآن هكذا، كثيرا ما يأمر برعاية حق المولى- تبارك اسمه- ثم يُقفِّي بإكرام الوالدين ﴿ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا.. ﴾١ ﴿ وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا... ﴾٢ فالإحسان ضد الإساءة. والوصية : برهما في حياتهما وبعد مماتهما.
﴿ حملته أمه كرها ووضعته كرها ﴾
الكرْه : المشقة ؛ وليس يخفى ما تقاسي الحامل من عناء ونصب، وما تلقى الوالدة في ولادتها من ألم وخطر. و[ الكره ] بضم الكاف ما يحمله الإنسان على نفسه، إما [ الكره ] بفتحها فهو ما يجبره عليه غيره.
﴿ وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ﴾
ومدة الحمل والإرضاع الذي ينتهي بالفصال- وهو الفطام- ثلاثون شهرا فقد لا يتجاوز الحمل ستة أشهر ؛ وأربعة وعشرون تعقبها يرضع فيها الوليد من لبن أمه، وفي هذه المدة المتطاولة من الألم المتلاحق ما يجعل للأم حقا مؤكدا على مولودها لقاء بعض حقها، وجزاء لبعض معروفها.
ولما كان حال الإنسان مع أبويه يختلف، فقد يطيعهما ويبرهما، وقد يخالفهما ويعقهما ختمت هذه الآية الكريمة ببيان شأن الأبناء البررة الأوفياء.
﴿ حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ وأن أعمل صالحا ترضاه ﴾.
فإذا عاش المولود حتى اكتمل عقله وبلغ سن الأربعين. قالوا : إنه بلوغ الرشد وإنما العطف للتوكيد- فإذا كان ذلك دعا ربه وسأله التوفيق والهداية إلى أن يشكر النعمة التي أسبغها الله عليه وعلى والديه، وتضرع إليه راغبا الثبات والعون على العمل الصالح الذي يحبه الله ويرضاه ؛ و﴿ أوزعني ﴾ أي رغبني ووفقني ؛ من أوزعته بكذا- أي جعلته راغبا في تحصيله-
﴿ وأصلح لي في ذريتي ﴾ ورسخ اللهم الصلاح في نسلي وعقبي.
عن علي وابن عباس رضي الله تعالى عنهما : هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، أسلم أبواه جميعا، فأوصاه الله بهما، ولزم ذلك من بعده، وأجابه الله-إذ دعاه ﴿ وأن أعمل صالحا ترضاه ﴾- فأعتق تسعة من المؤمنين يعذبون في الله، منهم : بلال، وعامر بن فهيرة، ولم يدع شيئا من الخير إلا أعانه الله عليه.
وفي الصحيح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من أصبح منكم اليوم صائما ) ؟ قال أبو بكر : أنا. قال :( فمن تبع منكم اليوم جنازة ) ؟ قال أبو بكر : أنا. قال :( فمن أطعم منكم اليوم مسكينا ) ؟ قال أبو بكر : أنا. قال :( فمن عاد منكم اليوم مريضا ) ؟ قال أبو بكر : أنا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة ) ولم يبق له ولد ولا والد ولا والدة إلا آمنوا بالله وحده.
﴿ إني تبت إليك وإني من المسلمين( ١٥ ) ﴾.
إني رجعت إلى طريقك، وتركت طريق غيرك، ومِلت عنها، ونفرت منها. وأسلمت وجهي إليك، وجعلت انقيادي لملة الإسلام التي جمعت عليها من شرحت صدورهم للحق.
٢ سورة الإسراء. من الآية. ٢٣..
الفريق المؤمن المحسن البار بوالديه الحافظ لأهله وذريته يتقبل الله السميع العليم عنهم أعمالهم الصالحة- الطاعات والقربات-
﴿ ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة ﴾.
ونترك مؤاخذتهم بإساءات غفرناها وسترناها، وعفونا عنهم مع أهل النعيم وأصحاب الجنة، فلله الحمد أن سبقت رحمته غضبه، وعفوه سبق مؤاخذته، وبشراه الحق :﴿ إن تجتنبوا كبائر ما تُنهون عنه نُكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما ﴾. ١
﴿ وعد الصدق الذي كانوا يوعدون( ١٦ ) ﴾.
﴿ وعد ﴾ نصب لأنه مصدر مؤكد لما قبله ؛ وقريب منه قوله سبحانه :﴿ .. حق اليقين ﴾. أو التقدير : وعد الكتاب الصدق، فحذف الموصوف، ولا يخلف الله وعده. والآيتان الكريمتان السابقتان بشرتا أهل البر، ثم تليهما آيتان في أهل العقوق.
الكافر العاق لوالديه يصدر صوتا ﴿ أف ﴾ يتضجر منهما ويتقزز، أو يعني : نتنا لكما.
﴿ أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي ﴾
أبواه يدعوانه إلى الإيمان بالبعث ولقاء الله وثوابه وعقابه، وهو ينكر ما دَعَواه إليه، ويستبعد أن يخرج من قبره حيا كما كان قبل موته، ويتحداهما متعنتا : مضت قبلي إلى القبور خلائق، فهاتوهم أحياء إن أردتما مني أن أصدق قولكما.
﴿ وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق ﴾
ووالداه يستغيثان بالله من ضلاله، أو يدعوان الله له بالهداية، ويحذرانه من الويل والعذاب له إن استحب الجحود.
[ أصل[ ويل ] دعاء بالثبور يقام مقام الحث على الفعل أو تركه إشعارا بأن ما هو مرتكب له حقيق بأن يهلك مرتكبه، وأن يُطلب له الهلاك، فإذا أُسمع ذلك كان باعثا على ترك ما هو فيه والأخذ بما ينجيه١ ]. ﴿ آمن ﴾ صدّق فإن وعد الله صدق، وربنا لا يخلف الميعاد.
﴿ فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين( ١٧ ) ﴾
يقول العاق الجاحد لوالديه : ما الذي تدعواني إليه إلا أباطيل الأقدمين سطروها وابتدعوها ولا أصل لها.
أمثال هذا الجاحد الشقي وجب عليهم العذاب الذي بينه قول الله- تبارك اسمه-لإبليس :﴿ .. لأملأن جهنم منك وممن اتبعك منهم أجمعين ﴾١.
﴿ في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين( ١٨ ) ﴾
مع طوائف وأمم قد مضت وتقدمتهم في الهالكين الغابرين من الإنس والشياطين ؛ إن تلك الأمم الكافرة ومن على شاكلتهم هي الطوائف الهالكة الخاسرة ؛ نعوذ بالله من الخسران ؛ ونسأله الفوز والرضوان.
لكل من الفريقين-المؤمنين والكافرين إنسهم وجنهم- منازل من الذي عملوه، ومراتبهم عند الله بحسب أعمالهم.
قال ابن زيد : درجات أهل النار في هذه الآية تذهب سفالا، ودرجات أهل الجنة علوا.
والدرجات : جمع درجة وهي نحو المنزلة لكن يقال للمنزلة درجة إذا اعتبرت بالصعود، ودركا إذا اعتبرت بالحدور، ولهذا قيل : درجات الجنة، ودركات النار ؛ والتعبير بالدرجات على وجه التغليب، وإنما غلب أصحاب الدرجات لأنهم الأحقاء به.
﴿ وليوفيهم أعمالهم ﴾
ليعطيهم الله الشكور الودود جزاء أعمالهم وافيا.
﴿ وهم لا يظلمون( ١٩ ) ﴾.
لا يبخسهم الله حقا، ولا ينقص مثوبتهم، ولا يضيع أجر من أحسن عملا ؛ ﴿ .. ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها.. ﴾١
ويوم القيامة يعرض الكافرون بالله- أو بملائكته أو كتبه أو رسله أو بالآخرة-يعرضون على عذاب النار، ويردونه ليصلوه.
﴿ أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها ﴾
يقال لهم للتحسير والتنكيل : أذهبتم نصيبكم من الحياة الطيبة واستوفيتموه في الحياة الدنية التي كنتم تحبونها، وقضيتموها في المتع والشهوات- من قناطير الذهب والفضة والزينات واللهو والزخرف والجاه والتفاخر والتكاثر- وزينت لكم السيئات وخرجتم من الدنيا ولا حسنة لكم. وقيل : أفنيتم شبابكم في الكفر والعصيان.
﴿ فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون( ٢٠ )* ﴾
فجازاهم بما يستحقون- والجزاء من جنس العمل- وبسخريتهم من الرسل والمؤمنين سخر الله منهم وأذلهم وأخزاهم، إذ كانوا يتعاظمون على الخلق، ويخالفون عن أمر الخالق، ويخرجون عن طاعته، ويتأنفون عن عبادته.
في صحيح مسلم وغيره أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه دخل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في مشربته١ حين هجر نساءه قال : فالتفت فلم أر شيئا يرد البصر إلا أهبا٢ معطونة قد سطع ريحها، فقلت : أنت رسول الله وخيرته، وهذا كسرى وقيصر في الديباج والحرير ؟ قال : فاستوى جالسا وقال :( أفي شك أنت يا ابن الخطاب أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا ). فقلت : استغفر لي ! فقال :" اللهم اغفر له ".
وقال قتادة : ذُكِر لنا أن عمر رضي الله عنه قال : لو شئت كنت أطيبكم طعاما وألينكم لباسا، ولكني أستبقي طيباتي للآخرة.
وروى الحسن عن الأحنف بن قيس أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول : لأنا أعلم بخفض العيش، ولو شئت لجعلت أكبادا وصلاء- ما يشوى على النار- وصنابا [ أصبغة تتخذ من الخردل والزبيب، تشهّي الأكل ] وصلائق [ الخبز الرقاق العريض ] ولكني أستبقي حسناتي، فإن الله عز وجل وصف أقواما فقال :﴿ .. أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها.. ﴾.
مما نقل كثير من المفسرين عن حفص بن أبي العاص قال : كنت أتغذى عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخبز والزيت، والخبز والخل، والخبز واللبن، والخبز والقديد، وأقل ذلك- وقوعا- اللحم العريض [ الطري ] وكان يقول لا تنخلوا الدقيق فإنه طعام كله، فجيء بخبز متفلع [ مشقق ] غليظ، فجعل يأكل ويقول : كلوا، فجعلنا لا نأكل، فقال : ما لكم لا تأكلون ؟ فقلنا : والله يا أمير المؤمنين نرجع إلى طعام ألين من طعامك هذا.
كما رووا : أنه لما قدم عمر الشام صُنع له طعام لم يُر قط مثله، قال : هذا لنا ! فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا وما شبعوا من خبز الشعير ! فقال خالد ابن الوليد : لهم الجنة، فاغرورقت عينا عمر بالدموع وقال : لئن كان حضنا من الدنيا هذا الحطام، وذهبوا هم في حضهم بالجنة فقد باينونا بونا بعيدا.
يقول علماء الأحكام :[ تعاطي الطيبات من الحلال تستشره لها الطباع، وتستمرئها العادة، فإذا فقدتها استسهلت في تحصيلها بالشبهات حتى تقع في الحرام المحض بغلبة العادة واستشراه الهوى على النفس الأمارة بالسوء ؛ فأخذ عمر –رضي الله عنه-الأمر من أوله، وحماه من ابتدائه كما يفعله مثله، والذي يضبط هذا الباب.. على المرء أن يأكل ما وجد، طيبا كان أو قفارا- الطعام بلا أدم- ولا يتكلف الطيب ويتخذه عادة ؛ وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يشبع إذا وجد، ويصبر إذا عدم، ويأكل الحلوى إذا قدر عليها، ويشرب العسل إذا اتفق له، ويأكل اللحم إذا تيسر، ولا يعتمد أصلا، ولا يجعله ديدنا [ دأبا وعادة لازمة ] ؛ وقيل إن التوبيخ واقع على ترك الشكر لا على تناول الطيبات المحللة، وهو حسن ؛ فإن تناول الطيب الحلال مأذون فيه، بل مأمور به في مثل قول المولى تبارك اسمه :﴿ يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم.. ﴾٣ بل عهد به الله تعالى إلى رسله الكرام :﴿ يا أيها الرسل كلوا من الطيبات.. ﴾٤ فإذا ترك الشكر عليه واستعان به على ما لا يحل له فقد أذهبه ]٥ والله تعالى أعلم.
٢ أهبا: جمع إهاب، وهو الجلد..
٣ سورة البقرة. من الآية ١٧٢..
٤ سورة المؤمنون. من الآية ٥١..
٥ ما بين العارضتين أوردته لأذكر بالمنهاج القرآني في شأن الحياة الطيبة والرزق المبسوط..
يأمر الله تعالى نبيه أن يقص على من يستطيع تبليغه ويذكر ويعظ بخبر هود عليه السلام، وكان أخا لهم في النسب لا في الدين-إذ حذر قومه وأنذرهم وخوفهم عذاب الله الذي يحل على المفسدين والمشركين والجاحدين، وكانت ديار عاد قوم هود بالأحقاف- جمع حقف وهو ما استطال من الرمال العظيم واعوج ولم يبلغ أن يكون جبلا- وهي بالشحر قرب عدن، وقيل : كانت منازل عاد في حضرموت بواد يقال له مهرة، أو واد بين عمان ومهرة.
﴿ وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ألا تعبدوا إلا الله ﴾
وقد سبق النذير هود عليه السلام رسلنا إلى من قبله من الأمم، وكلهم صلوات الله عليهم وسلامه يدعون الناس إلى أصل الإيمان ألا تعبدوا إلا الله، وكذا من يبعث من المرسلين بعده.
ونقل عن ابن عباس رضي الله عنهما في معنى :﴿ من بين يديه ومن خلفه ﴾ يعني الرسل الذين بعثوا قبله والذين في زمانه، فمعنى ﴿ من خلفه ﴾ من بعد إنذاره١.
أو يكون المعنى٢ : وقد أرسل الله تعالى إلى من حول بلادهم في القرى مرسلين ومنذرين كقوله عز وجل :﴿ فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها.. ﴾٣، وكقوله جل وعلا :﴿ فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود. إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله.. ﴾٤ قال المرسلون إلى أقوامهم : لا تعبدوا إلا الله.
﴿ إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم( ٢١ ) ﴾.
قال هود لقومه ما قاله إخوانه من الرسل، وخشي أن يغشاهم العذاب العاجل منه والآجل، وكلاهما بالغ الهول والشدة :﴿ وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ﴾٥. فبشركهم تحق عليهم الأخذة :﴿ إن بطش ربك لشديد ﴾٦.
مما أورد صاحب جامع البيان : واذكر يا محمد لقومك الرادّين عليك ما جئتهم به من الحق هودا أخا عاد، فإن الله بعثك إليهم كالذي بعثه إلى عاد، فخوفهم أن يحل بهم من نقمة الله على كفرهم ما حلّ بهم إذ كذبوا رسولنا هودا إليهم.. لا تشركوا مع الله شيئا في عبادتكم إياه، ولكن أخلصوا له العبادة، وأفردوا له الألوهة إنه لا إله غيره.. إني أخاف عليكم أيها القوم بعبادتكم غير الله عذاب الله في يوم عظيم. اه.
٢ هذا الرأي أورده صاحب تفسير القرآن العظيم جـ٤ص٦٠..
٣ سورة البقرة. من الآية ٦٦..
٤ سورة فصلت. الآية ١٣، ومن الآية ١٤..
٥ سورة هود. الآية ١٠٢..
٦ سورة البروج. الآية ١٢..
رد قوم هود عليه إذ أمرهم بعبادة الله وحده، وحذرهم أن يعبدوا غيره، قالوا : أتدعونا لتصرفنا بالإفك والكذب عن عبادة آلهتنا ؟ والاستفهام إنكاري.
﴿ فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين( ٢٢ ) ﴾.
استعجلوا سخط الله ومقته وبأسه، واستبعدوا صدق نبيهم- صلوات الله عليه وسلامه- فيما يُبلغ عن ربه، فقالوا لهود : إن كنت صادقا فيما تنذرنا فهات ما عندك، وقد كان حذرهم حلول العذاب﴿ .. إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ﴾.
ذكرهم هود عليه السلام بضعف الخَلق وقوة الخالق فقال : علم كل شيء عند الله لا عندي ؛ فوقت حلول ما تستعجلون به ونزوله معلوم لله وحده، الذي أحاط بكل شيء علما ؛ فإن كنتم تستحقون تعجيل العذاب فسيعجله بحكمته وقدرته.
[ والكلام كناية عن أنه لا يقدر عليه ولا على تعجيله، لأنه لو قدر عليه وأراده كان له به علم في الجملة، فنفيُ عِلمه به المدلول عليه بالحصر نفيٌ لمدخليته فيه حتى يطلب تعجيله من الله عز وجل ويدعو به ]١.
وما أنا إلا مبلغ عن الله ما بعثني به إليكم، ولكني أراكم تجهلون مقام ربكم، وتجهلون عاقبة شرككم واستكباركم، وتجهلون قدرة الله على تعذيبكم، ولهذا تستعجلون ساعة هلاككم وخسرانكم، [ شأنكم الجهل، ومن آثار ذلك أنكم تقترحون عليّ ما ليس من وظائف الرسل من الإتيان بالعذاب ]٢.
[ وأي جهل من نسبة نبي الله إلى الكذب، ومن ترك طريقة الاحتياط ومن استعجال ما فيه هلاكهم ؟ ]٣.
٢ ما بين العارضتين أورده الألوسي.
٣ أورد ذلك صاحب تفسير غرائب القرآن..
الفاء للفصيحة أي فلما جاءهم ما كانوا يستعجلون رأوه عارضا مستقبل أوديتهم فقالوا هذا عارض يحمل إلينا المطر ؛ رأوا سحابا وغيما فحسبوه بشير غوث وسقيا. و﴿ عارضا ﴾ منصوب على التمييز أو الحال ؛ والعارض : السحاب الذي يعرض في أفق السماء و﴿ مستقبل أوديتهم ﴾ أي متوجه أوديتهم- والمطر إذا نزل الأودية كثر نفعه-.
نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : وكان قد جاءهم من واد جرت العادة أن ما جاء منه يكون غيثا.
﴿ بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم( ٢٤ ) ﴾.
قال هود لهم : ليس هذا سحابا ممطرا، بل هو ما كنتم تستعجلون من العذاب، إذ قلتم مستهزئين :﴿ فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ﴾، ثم بيّن ما ينطوي عليه الوعد : ريح عاتيه عقيم ﴿ تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر ﴾١ ؛ ﴿ إن عذاب ربك لواقع ﴾٢ ؛ ﴿ فكيف- كان عذابي ونذر ﴾٣.
روى البخاري في صحيحه عن عائشة – رضي الله تعالى عنها- زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالت : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكا حتى أرى منه لهواته- جمع لهاة، وهي اللحمة المشرفة على الحلق في أقصى سقف الفم- قالت : وكان إذا رأى غيما أو ريحا عرف في وجهه. قالت : يا رسول الله : الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عُرِف في وجهك الكراهية ؟ فقال :( يا عائشة ! ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب قوم بالريح وقد رأى قوم العذاب فقالوا هذا عارض ممطرنا ) وأخرجه مسلم..
وفي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور ).
٢ سورة الطور. الآية ٧..
٣ سورة القمر. الآية ٢١..
ولم تؤلمهم الريح وتوجعهم فحسب، بل سخرها الله القوي العزيز :﴿ .. سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية ﴾١ ؛ وما أصابت الأنفس دون الأموال، بل مع إتيانها على كل نفس كافرة حتى لم تبق منهم أحدا، دمرت كل شيء مرت عليه من أموال عاد :﴿ ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم ﴾٢ فلم يبق إلا طلل دورهم ليكون مزدجرا ومعتبرا لمن يأتي بعدهم :﴿ إنا كذلك نفعل بالمجرمين ﴾٣.
عن ابن إسحق قال : اعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة، ما يصيبه ومن معه إلا ما يُليّن أعلى ثيابهم، وتلتذ الأنفس به ؛ وإنها لتمر من عاد بالظعن – المسافر بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة حتى هلكوا ؛ وحكى أن شاعرهم قال في ذلك :
فدعا هود عليهم *** دعوة أضحوا همودا
عصفت ريح عليهم *** تركت عادا خمودا
سخرت سبع ليال *** لم تدع في الأرض عودا
ونقل أن هودا عمّر في قومه بعدهم مائة وخمسين سنة.
٢ سورة الذاريات. الآية ٤٣..
٣ سورة الصافات. الآية ٣٤..
ولقد مكنا عادا في الذي مكناكم فيه، ووهبناهم نعمة الحواس التي بها يشعرون، ويرون ويسمعون، وقلوبا بها يدركون ويفهمون- لو كانوا يعقلون- لكنهم لم يستدلوا بها على منعمها- تبارك اسمه- ولم يشكروه على نعمائه، فلم تستنقذهم، ولا استخلصوا أنفسهم من الهلاك والدمار باستعمالها فيما خلقت من أجله.
إذ كفروا بأنعم الله تعالى وكلماته وحل بهم عاقبة نكرانهم، وسخريتهم من نبيهم وممن آمن من قومهم.
وبعد ذكر أنباء عاد قوم هود عليه السلام التفت القرآن الكريم إلى توجيه الخطاب لكفار مكة ومن على شاكلتهم فذكّر بسنة الله تعالى في إهلاك المشركين، وجاء التذكير مؤكدا بالواو واللام وقد :﴿ ولقد أهلكنا ما حولكم ﴾ دمرنا ما حولكم، وما هو قريب منكم، ومحيط بدياركم ﴿ من القرى ﴾ كمدائن صالح، ومساكن سبأ، وحجر ثمود، وقرى قوم لوط -المؤتفكات- فهلا اعتبرتم بما فعلنا بالجاحدين، وبإهلاكنا المسرفين، فتوقيتم نقمة الله وبأسه، وآمنتم وصدقتم نبيه ؟ !
﴿ وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون ﴾ وبينا لهؤلاء المُهلكين، ووضحنا وكررنا العبر والعظات، وسقنا لهم الحجج وكلماتنا الصادقات، لكي يرجعوا عما كانوا عليه من الفسوق والكفر إلى الإيمان والرشد، فلم يرجعوا فأهلكناهم.
فهل ردت عنهم الهلاك الذي أنزلناه بهم أوثانهم التي ألّهوها من دون الله- تبارك اسمه- ؟ هل حين جاء بأسنا مَنْ قََبْلَكُمْ -بشركهم- أغنت عنهم شركاءهم التي أشركوها مع المولى الأحد الصمد ؟ ! لا ! ﴿ بل ضلوا عنهم ﴾ هلكوا عنهم، وتركوهم وبلاءهم، وغابوا وضاعوا ﴿ وذلك إفكهم ﴾ وهذا الخذلان هو كذبهم في وصف الأوثان والأصنام بأنها آلهة، أو تُقرب من الله، أو تشفع عنده ؛ فهذا الذي حل بهم أثر انصرافهم عن الحق وافترائهم الكذب.
﴿ صرفنا ﴾ أمَلْنا ووجّهنا.
﴿ نفرا ﴾ جماعة من الثلاثة إلى العشرة، وقد يطلق على الجماعة ولو وصل عددهم إلى الأربعين.
بعد أن سلّى الله تعالى نبيه محمدا- صلى الله عليه وسلم – بما جرى لإخوانه المرسلين من قبله، من تكذيب قومهم لهم، وجحودهم الحق الذي جاءهم، وكيف أهلك المهيمنُ الجبار الجاحدين ودمّر دورهم، سرّى عن خاتم النبيين بأن الجن-على بأسهم- سيقوا إلى المبعوث إلى الخلق كافة ليتعلموا مما أنزل الله عليه.
مما روى مسلم في صحيحه بسنده عن عامر قال : سألت علقمة : هل كان ابن مسعود-رضي الله عنه- شهد مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم ليلة الجن١ ؟ قال ؛ فقال علقمة : أنا سألت ابن مسعود رضي الله عنه فقلت هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ؟ قال : لا، ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقيل : استطير ؟ اغتيل ؟ قال فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قِبَل حراء. قال : فقلنا : يا رسول الله ! فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشر ليلة بات بها قوم ؛ فقال :( أتاني داعي الجن فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن ).
﴿ فلما حضروه قالوا أنصتوا ﴾.
فحين رتّلت تواصوا بالإصغاء وقال بعضهم لبعض ﴿ أنصتوا ﴾ وفي هذا توجيه إلى السكوت وحسن الاستماع في مجالس تلاوة القرآن.
﴿ فلما قضي ولّوا إلى قومهم منذرين( ٢٩ ) ﴾.
(... فلما أتم النبي قراءته أسرعوا٢ راجعين إلى قومهم من الجن ليعلموهم ويحذروهم٣ ما حذرهم منه القرآن الذي سمعوه ؛ وإلى هذا يستنفرنا الحق تبارك وتعالى :﴿ فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ﴾٤.
٢ يستفاد ذلك من العطف بالفاء، إذ العطف بها يفيد أن ما بعدها يأتي متصلا بما قبلها وعلى أثره، دون فصل أو تراخ. يقول ابن مالك في ألفيته: والفاء للترتيب باتصال..
٣ يقول ابن كثير: في الجن نذر، وليس فيهم رسل؛ إن الجن لم يبعث الله تعالى منهم رسولا، لقوله تعالى:﴿وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى..﴾أهـ..
٤ سورة التوبة. من الآية ١٢٢..
نادوا جماعتهم- حين وصلوا إليهم- أن قد سمعنا وحيا من الله تعالى، وآيات بُعِث بها نبي أرسل بعد موسى ؛ والقرآن الذي سمعنا منه يصدق ما قبله من الكتب السماوية.
ولعلهم علموا برسالة موسى ولم يعلموا برسالة عيسى، أو اعتبروا رسالة عيسى لتوكيد وتجديد ما أوتي موسى من قبل.
﴿ يهدي إلى الحق وإلى صراط مستقيم( ٣٠ ) ﴾.
يدل الكتاب – الذي سمعنا شيئا منه- ويبين كيفية الوصول إلى الحق والهدى والرشد ؛ والثبات على ذلك.
يقول أبو الفداء إسماعيل بن كثير :﴿ يهدي إلى الحق ﴾ أي في الاعتقاد والأخبار﴿ وإلى طريق مستقيم ﴾ في الأعمال١ ؛ فإن القرآن مشتمل على شيئين : خبر وطلب، فخبره صدق، وطلبه عدل، كما قال تعالى :﴿ وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا.. ﴾٢ وقال سبحانه :﴿ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق.. ﴾٣. فالهدى هو العلم النافع، ودين الحق هو العمل الصالح، وهكذا قالت الجن :﴿ يهدي إلى الحق ﴾ في الاعتقادات ﴿ وإلى طريق مستقيم ﴾ أي في العمليات.. اه.
٢ سورة الأنعام. من الآية ١١٥..
٣ سورة الفتح. من الآية ٢٨..
لم يكتف رسل رسول الله إلى الجن من قومهم بمجرد معرفة فضل القرآن على ما سبقه، أو أثره فيمن تدبره وعقله، وإنما نادوْهم إلى تلبية دعوة الله والتصديق بكماله وعلاه، والدخول في دينه الذي ارتضاه.
يدل هذا على أن النبي محمدا صلى الله عليه وسلم كان مبعوثا إلى الجن والإنس ولم يبعث الله نبيا إلى الجن والإنس قبله. روى مسلم عن جابر بن عبد الله، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي : كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود : الأحمر والأسود : الجن والإنس-وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وجعلت لي الأرض طيبة وطهورا ومسجدا فأي رجل أدركته الصلاة صلى لله حيث كان ونصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر وأعطيت الشفاعة ).
﴿ يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم( ٣١ ) ﴾.
يكفر الله عنكم- إن آمنتم- ما كان من خطاياكم ويسترها، وينقذكم من الهوان والخسران.
ويفهم من ذلك أن مؤمنيهم يدخلون الجنة وينالون نعيمها، نص على ذلك النووي والحسن البصري ومالك بن أنس وغيرهم.
والمعرض عن دعوة الله لن يفوت ربه، ولن يُفلت من قبضته، بل قدرة الله شاملة له محيطة به، وما له من دافع يدفع عنه بأسنا حين ينزل به.
﴿ أولئك في ضلال مبين( ٣٢ ) ﴾.
وهؤلاء المعرضون حادوا عن الصواب، واستوجبوا الحيرة والحسرة، والحرمان والعقاب.
وهكذا أبلغ الجن عن النبي، ودعوا إلى الله على بصيرة، وبهذا أُمِر أهل الإيمان، ففي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أبلغوا عني ولو آية ).
كما أن في الآيات تقريعا للضالين من الآدميين، فإن الجن على بأسهم سمعوا القرآن فآمنوا به وأذعنوا له، فأولى لكم أن تهتدوا بهداه.
استجيبوا واسمعوا وبلّغوا ينضر الله وجوهكم، ويهدكم، ويهد بكم.
أولم يتفكر الشاكّون في حقيقة الإيمان ويعلموا أن الله الذي أوجد السماوات والأرض دون أن يمسه تعب أو نصب، أو يدركه قصور أو عجز، لا يعجزه إحياء الموتى ؟ !
﴿ بلى إنه على كل شيء قدير( ٣٣ ) ﴾.
إن ربنا قوي مقتدر، فعال لما يريد، فالذي أنشأ أول مرة يسير عليه أن يعيد إلى الموتى أرواحهم، ويسوّي أجسادهم، كما بدأهم يعودون.
وأنذرهم يوم يعرضون على النار ويقال لهم : أليس هذا الذي ترون وتصلون حقا ؟ فيقولون : بلى وربنا، و﴿ بلى ﴾ كنعم، لكن تأتي في جواب سؤال منفي كما هاهنا ﴿ أليس هذا بالحق ﴾.
﴿ قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون( ٣٤ ) ﴾.
فيقال لهم من قبل الحق- تبارك اسمه- فاصلوا هذا اللظى والسعير، والحسرة والتخسير، بسبب كفركم وجحودكم بمقام العلي الكبير.
وما دمت على يقين من عاقبة المؤمنين والكافرين، فلا يستخفنك الذين لا يوقنون، وارتقب ما نحن بك وبهم فاعلون، واصبر كصبر إخوانك أولي العزم المرسلين، والذين طال احتمالهم لاستهزاء المستهزئين، وأذى المعاندين، وتركوا العاقبة يقضي بها أحكم الحاكمين.
وأولوا العزم من الرسل - صلوات الله عليهم أجمعين- خمسة : نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار ﴾
والذين يكذبون سيأتيهم ما كانوا به يستهزئون من العذاب الطويل الذي يظهر لهم معه أن مكثهم في الدنيا لم يكن إلا ساعة من يوم.
﴿ بلاغ ﴾
هذا القرآن بلاغ، وهذا الذي وعظتكم به كفاية في الموعظة، وتبليغ من الرسول.
﴿ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون( ٣٥ ) ﴾.
فهل يحل البوار والدمار إلا بالعصاة الكفار، الخارجين المخالفين عن أمر الواحد القهار ؟ بلى ! لا يهلك على الله إلا هالكا مشركا. وقيل هذه أقوى آية في الرجاء. والله أعلم.