تفسير سورة محمد

تفسير السمعاني
تفسير سورة سورة محمد من كتاب تفسير السمعاني المعروف بـتفسير السمعاني .
لمؤلفه أبو المظفر السمعاني . المتوفي سنة 489 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة محمد صلى الله عليه و سلم
وهي مدنية، وهذه السورة تسمى سورة القتال، وسورة الأنفال تسمى سورة الجهاد، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا قاتلوا العجم وغيرهم بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم قرءوا هاتين السورتين بين الصفين ؛ ليحرضوا المسلمين على القتال.

قَوْله تَعَالَى: ﴿الَّذين كفرُوا وصدوا عَن سَبِيل الله أضلّ أَعْمَالهم﴾ أَي: أحبط أَعْمَالهم. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: نزلت الْآيَة فِي المطعمين يَوْم بدر، وَهُوَ اثْنَا عشر نَفرا، كَانَ كل وَاحِد منم ينْحَر كل يَوْم عشرا من الْجَزُور، هَذَا هُوَ القَوْل الْمَشْهُور، و ﴿أَعْمَالهم﴾ إطعامهم، أحبطها الله تَعَالَى وَلم يقبلهَا مِنْهُم. وَيُقَال: إِن الْآيَة فِي جَمِيع أهل مَكَّة من الْكفَّار.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وآمنوا بِمَا نزل على مُحَمَّد﴾ القَوْل الْمَشْهُور فِي الْآيَة: أَن المُرَاد بهم الْأَنْصَار، وَقيل: إِنَّه فِي جَمِيع من آمن مَعَ النَّبِي.
وَقَوله: ﴿وَهُوَ الْحق من رَبهم﴾ أَي: آمنُوا بِمَا هُوَ الْحق من رَبهم.
وَقَوله: ﴿كفر عَنْهُم سيئاتهم وَأصْلح بالهم﴾ أَي: حَالهم، [يُقَال] : مَا بالك وَمَا حالك بِمَعْنى وَاحِد.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ذَلِك بِأَن الَّذين كفرُوا اتبعُوا الْبَاطِل﴾ أَي: ذَلِك الَّذِي فَعَلْنَاهُ من إحباط (أَعمال) الْكفَّار، وَقبُول أَعمال الْمُؤمنِينَ وتكفير سيئاتهم وَإِصْلَاح بالهم، كَانَ بِأَن الَّذين كفرُوا اتبعُوا الْبَاطِل، وَأَن الَّذين آمنُوا اتبعُوا الْحق من رَبهم.
167
﴿بالهم (٢) ذَلِك بِأَن الَّذين كفرُوا اتبعُوا الْبَاطِل وَأَن الَّذين آمنُوا اتبعُوا الْحق من رَبهم كَذَلِك يضْرب الله للنَّاس أمثالهم (٣) فَإِذا لَقِيتُم الَّذين كفرُوا فَضرب الرّقاب حَتَّى إِذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإمَّا منا بعد وَإِمَّا فدَاء حَتَّى تضع الْحَرْب أَوزَارهَا ذَلِك وَلَو﴾
وَقَوله: ﴿كَذَلِك يضْرب الله للنَّاس أمثالهم﴾ أَي: أَمْثَال سيئات الْكفَّار وحسنات الْمُؤمنِينَ، يُقَال: ضربت لفُلَان مثلا أَي: ذكرت لَهُ نوعا من الْكَلَام لِمَعْنى مَعْلُوم.
168
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَإِذا لَقِيتُم الَّذين كفرُوا فَضرب الرّقاب﴾ أَي: فاضربوا الرّقاب، وَضرب الرّقاب جزها وقطعها.
وَفِي التَّفْسِير: " أَن قوما من الْمُسلمين كَانَ بَعثهمْ النَّبِي لقِتَال قوم من الْكفَّار، فأحرقوا بعض الْكفَّار؛ فَبلغ النَّبِي فَأنكرهُ، وَقَالَ: " إِنِّي مَا بعثت لأعذب بِعَذَاب الله أحدا ". فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وعلمهم كَيْفيَّة الْقَتْل.
وَقَوله: ﴿حَتَّى إِذا أثخنتموهم﴾ الْإِثْخَان: بُلُوغ الْغَايَة فِي النكاية، وَيُقَال: الاستكثار من الْقَتْل.
وَقَوله: ﴿فشدوا الوثاق﴾ أَي: فأسروهم وشدوهم. وَسُئِلَ الْأَوْزَاعِيّ كَيفَ نَشد الْأَسير؟ قَالَ: بِحَبل، قيل: هَل نَشد بالقد؟ قَالَ: ذَاك عَظِيم، وَقيل لَهُ: نَشد الْمَرْأَة؟ قَالَ: نعم.
وَقَوله: ﴿فإمَّا منا بعد وَإِمَّا فدَاء﴾ فِي الْآيَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنَّهَا محكمَة، وَهُوَ الْمَعْرُوف. قَالَ مُجَاهِد وَغَيره: وَالْإِمَام بِالْخِيَارِ فِي الأسرى؛ إِن شَاءَ قتل، وَإِن شَاءَ فَادى، وَإِن شَاءَ من، وَإِن شَاءَ اسْترق، وَحكى هَذَا عَن ابْن عَبَّاس، وَالَّذِي ذَكرْنَاهُ قَول الشَّافِعِي وَكثير من الْأَئِمَّة.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْآيَة مَنْسُوخَة بقوله تَعَالَى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْركين حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ قَالَه قَتَادَة والسدى وَغَيرهمَا.
168
﴿يَشَاء الله لانتصر مِنْهُم وَلَكِن ليبلو بَعْضكُم بِبَعْض وَالَّذين قتلوا فِي سَبِيل الله فَلَنْ يضل﴾
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن الْآيَة ناسخة لقَوْله تَعَالَى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْركين﴾ ذكره الضَّحَّاك، وَلَا يجوز فِي الْأسر الْقَتْل. وَالْأول أولى الْأَقَاوِيل؛ لِأَنَّهُ قد ثَبت بروايات كَثِيرَة " أَن النَّبِي فَادى كثيرا من الْأُسَارَى، وَمن على كثير من الْأُسَارَى " على مَا ذكر فِي الْكتب الصَّحِيحَة.
وَقَوله: ﴿حَتَّى تضع الْحَرْب أَوزَارهَا﴾ قَالَ قَتَادَة: حَتَّى لَا يبْقى إِلَّا مُسلم أَو مسالم وَقَالَ سعيد بن جُبَير: حَتَّى ينزل عِيسَى [ابْن مَرْيَم] من السَّمَاء، وَيكسر الصَّلِيب، وَيسلم كل كَافِر. وَقد ثَبت أَن النَّبِي قَالَ: " لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي يُقَاتلُون على الْحق حَتَّى تقوم السَّاعَة ". وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: " حَتَّى يكون آخر من يُقَاتلُون الدَّجَّال ". وَفِي الْجُمْلَة لَا تضع الْحَرْب أَوزَارهَا مَا بَقِي فِي الْعَالم كَافِر حَرْبِيّ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ذَلِك وَلَو يَشَاء الله لانتصر مِنْهُم﴾ أَي: فانتصر مِنْهُم بجند من الْمَلَائِكَة، أَو بِأَيّ جند أَرَادَ، والانتصار هَاهُنَا هُوَ الانتقام، وَمَعْنَاهُ: أَنه لَو يَشَاء لم يَأْمُركُمْ بِقِتَال الْكفَّار، وانتقم بِنَفسِهِ مِنْهُم ﴿وَلَكِن ليبلو بَعْضكُم بِبَعْض﴾ أَي: ليبلو الْمُسلمين بالكافرين، والكافرين بِالْمُسْلِمين، مرّة تكون النُّصْرَة للْمُؤْمِنين، وَمرَّة تكون النُّصْرَة للْكَافِرِينَ مثل مَا كَانَ ببدر وَأحد، وَهُوَ تبلية الله كَيفَ يَشَاء لمن يَشَاء.
وَقَوله: ﴿وَالَّذين قتلوا فِي سَبِيل الله﴾ أَي: الشُّهَدَاء.
169
﴿أَعْمَالهم (٤) سيهديهم وَيصْلح بالهم (٥) ويدخلهم الْجنَّة عرفهَا لَهُم (٦) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن تنصرُوا الله ينصركم وَيثبت أقدامكم (٧) وَالَّذين كفرُوا فتعسا﴾
وَقَوله: ﴿فَلَنْ يضل أَعْمَالهم﴾ أَي: يثيبهم على أَعْمَالهم.
170
وَقَوله: ﴿سيهديهم وَيصْلح بالهم﴾ أَي: حَالهم.
وَقَوله: ﴿ويدخلهم الْجنَّة عرفهَا لَهُم﴾ القَوْل الْمَشْهُور أَن مَعْنَاهُ: عرفهم مَنَازِلهمْ، وَمعنى قَوْله: ﴿عرفهَا لَهُم﴾ أَي: بَينا لَهُم، فيكونون أهْدى إِلَى مَنَازِلهمْ من الْقَوْم يعودون من الْجُمُعَة إِلَى دُورهمْ. قَالَ سَلمَة بن كهيل: عرفهم (طرق) مَنَازِلهمْ فِي الْجنَّة. وَيُقَال: عرفهَا لَهُم أَي: طيبها لَهُم. وَقيل: عرفهَا لَهُم أَي: رَفعهَا لَهُم، وَالْعرْف: هُوَ الرّيح. وَفِي الْخَبَر " أَن من أعَان على قتل أَخِيه بِشَطْر كلمة لم يجد عرف الْجنَّة، وَأَن رِيحهَا يُوجد من مسيرَة خَمْسمِائَة عَام ". وَهَذَا القَوْل محكي عَن ابْن عَبَّاس. وَعَن مقَاتل أَنه قَالَ: إِذا حشر الْمُؤمن وَأمر بِهِ إِلَى الْجنَّة يقدمهُ الْملك الَّذِي كَانَ يكْتب عمله وَيَطوف بِهِ فِي الْجنَّة، ويريه مَنَازِله حَتَّى إِذا بلغ أقْصَى مَنَازِله وَرَأى جَمِيعهَا انْصَرف الْملك، وَترك الْمُؤمن فِي قصوره يتنعم فِيهَا كَمَا يَشَاء بِمَا شَاءَ.
وَعَن مُجَاهِد أَنه قَالَ: لَا يحْتَاج الْمُؤمن إِلَى دَلِيل إِلَى قصوره ومنازله، بل يكون عَارِفًا بهَا كَمَا يكون عَالما بمنزله فِي الدُّنْيَا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ياأيها الَّذين آمنُوا إِن تنصرُوا الله ينصركم﴾ مَعْنَاهُ: إِن تنصرُوا نَبِي الله أَو دين الله ينصركم. والنصرة من الله: هُوَ الْحِفْظ وَالْهِدَايَة. وَعَن قَتَادَة قَالَ: من ينصر الله ينصره، وَمن يسْأَله يُعْطه، وَيُقَال: ينصركم بتغليبكم على عَدوكُمْ وإعلائكم عَلَيْهِم.
وَقَوله: ﴿وَيثبت أقدامكم﴾ أَي: فِي الْقِتَال. وَيُقَال: يثبت أقدامكم على الصِّرَاط، وَقد حكى هَذَا عَن ابْن عَبَّاس.
170
﴿لَهُم وأضل أَعْمَالهم (٨) ذَلِك بِأَنَّهُم كَرهُوا مَا أنزل الله فأحبط أَعْمَالهم (٩) أفلم يَسِيرُوا فِي الأَرْض فينظروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الَّذين من قبلهم دمر الله عَلَيْهِم وللكافرين﴾
171
وَقَوله: ﴿وَالَّذين كفرُوا فتعسا لَهُم وأضل أَعْمَالهم﴾ أَي: بعدا لَهُم. والتعس فِي اللُّغَة هُوَ العثور والسقوط. وَقَالَ ثَعْلَب: التعس: الْهَلَاك.
قَالَ ابْن السّكيت: التعس أَن [يخر] على وَجهه، والنكس أَن يخر على رَأسه.
وَيُقَال: فتعسا لَهُم أَي: شرا لَهُم وتبا لَهُم. وَالَّذِي جَاءَ فِي الْخَبَر " تعس وانتكس "، قد بَينا معنى تعس. وَأما معنى قَوْله: انتكس أَي: انْقَلب أمره وَفَسَد، وَهَذَا على معنى الدُّعَاء.
وَقَوله: ﴿وأضل أَعْمَالهم﴾ أَي: أضلّ الله أَعْمَالهم بِمَعْنى: أحبطها، فَإِن قيل: وَأي عمل للْكفَّار حَتَّى يحبطه الله تَعَالَى؟ وَالْجَوَاب: أَنهم كَانُوا يعْملُونَ أعمالا على فضل الْخَيْر والتقرب إِلَى الله تَعَالَى مثل: الصَّدَقَة، وصلَة الرَّحِم، وَالْحج، وَالطّواف، وَمَا أشبه ذَلِك، ويظنون أَن الله تَعَالَى يثيبهم عَلَيْهَا، فَأخْبر الله تَعَالَى أَنه يحبطها بكفرهم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ذَلِك بِأَنَّهُم كَرهُوا مَا أنزل الله فأحبط أَعْمَالهم﴾ أَي: كَرهُوا نبوة مُحَمَّد وماأنزله الله من الْقُرْآن.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أفلم يَسِيرُوا فِي الأَرْض فينظروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الَّذين من قبلهم دمر الله عَلَيْهِم﴾ أَي: أهلكهم بكفرهم.
وَقَوله: ﴿وللكافرين أَمْثَالهَا﴾ أَي: لهَؤُلَاء الْكَافرين من سوء الْعَاقِبَة مثل مَا لأولئك الْكفَّار.
وَقَوله: ﴿ذَلِك بِأَن الله مولى الَّذين أمنُوا﴾ أَي: ولي الَّذين آمنُوا، وَهُوَ كَذَا فِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود.
171
﴿أَمْثَالهَا (١٠) ذَلِك بِأَن الله مولى الَّذين آمنُوا وَأَن الْكَافرين لَا مولى لَهُم (١١) إِن الله يدْخل الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات جنَّات تجْرِي من تختها الْأَنْهَار وَالَّذين كفرُوا﴾
وَقَوله: ﴿وَأَن الْكَافرين لَا مولى لَهُم﴾ أَي: لَا يتولاهم الله تَعَالَى، بِمَعْنى: أَنه لَا يهْدِيهم وَلَا ينصرهم. وَفِي بعض الْآثَار: أَن عليا رَضِي الله عَنهُ سَأَلَ ابْن الكوا فَقَالَ: من رب الْعَالمين؟ قَالَ: الله. قَالَ: صدقت قَالَ من مولى النَّاس قَالَ الله قَالَ كذبت، وتلا
172
قَوْله تَعَالَى: ﴿ذَلِك بِأَن الله مولى الَّذين آمنُوا وَأَن الْكَافرين لَا مولى لَهُم﴾ وَعَن قَتَادَة قَالَ: " نزلت الْآيَة فِي حَرْب أحد، فَإِنَّهُ لما فَشَا الْقَتْل والجراحات فِي أَصْحَاب رَسُول الله، وَفعل بِالنَّبِيِّ مَا فعل، نَادَى الْمُشْركُونَ: يَوْم بِيَوْم بدر وَالْحَرب سِجَال، ثمَّ قَالُوا: لنا الْعُزَّى، وَلَا عزى لكم، فَقَالَ: قُولُوا: الله مَوْلَانَا وَلَا مولى لكم، وَلَا سَوَاء؛ قَتْلَانَا فِي الْجنَّة وَقَتلَاكُمْ فِي النَّار ".
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الله يدْخل الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار وَالَّذين كفرُوا يتمتعون ويأكلون كَمَا تَأْكُل الْأَنْعَام﴾ يَعْنِي: لَا يخَافُونَ عقَابا، وَلَا يرجون ثَوابًا. وَقيل: لَيْسَ لَهُم هم إِلَّا التَّمَتُّع وَالْأكل كالأنعام.
وَقَوله: ﴿وَالنَّار مثوى لَهُم﴾ أَي: منزل لَهُم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وكأين من قَرْيَة﴾ " وكائن من قَرْيَة "، بِالتَّخْفِيفِ.
وَأنْشد الْأَخْفَش قَول لبيد:
(وكائن رَأينَا من مُلُوك وسوقة ومفتاح قيد للأسير المكبل)
وَمَعْنَاهُ: وَكم من أهل قَرْيَة هم أَشد قُوَّة من أهل قريتك الَّتِي أخرجتك أَي: أخرجك أَهلهَا.
172
﴿يتمتعون ويأكلون كَمَا تَأْكُل الْأَنْعَام وَالنَّار مثوى لَهُم (١٢) وكأين من قَرْيَة هِيَ أَشد قُوَّة من قريتك الَّتِي أخرجتك أهلكناهم فَلَا نَاصِر لَهُم (١٣) أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَة من ربه كمن زين لَهُ سوء عمله وَاتبعُوا أهواءهم (١٤) مثل الْجنَّة الَّتِي وعد المتقون فِيهَا أَنهَار﴾
وَقَوله: ﴿أهلكناهم فَلَا نَاصِر لَهُم﴾ أَي: لم يكن لَهُم أحد يمنعهُم من عذابنا.
173
قَوْله تَعَالَى: ﴿أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَة من ربه﴾ أَي: على يَقِين من أَمر ربه.
وَيُقَال: المُرَاد من الْآيَة مُحَمَّد.
وَقَوله: ﴿كمن زين لَهُ سوء عمله﴾ هُوَ أَبُو جهل، وَقيل: الْآيَة فِي جَمِيع الْمُؤمنِينَ وَالْكفَّار. وَمعنى الْآيَة: أَن الْفَرِيقَيْنِ لَا يستويان، فَحذف هَذَا لفهم الْمُخَاطب، وَهَذَا كَالرّجلِ يَقُول: من فعل الْخِيَار سعد، وَمن فعل السَّيِّئَات شقي. ثمَّ يَقُول: أَفَمَن سعد كمن [شقي]، يَعْنِي: لايكون، وَحذف لفهم الْمُخَاطب. وَقيل: الْألف فِي قَوْله: ﴿أَفَمَن﴾ ألف تَوْقِيف وَتَقْرِير لما علم الْمُخَاطب مِنْهُ.
وَقَوله: ﴿وَاتبعُوا أهواءهم﴾ أَي: اتبعُوا أهواءهم فِي اتِّبَاع الْكفْر.
قَوْله تَعَالَى: ﴿مثل الْجنَّة الَّتِي وعد المتقون﴾ فِي قِرَاءَة عَليّ رَضِي الله عَنهُ: " أَمْثَال الْجنَّة الَّتِي وعد المتقون " وَالْمعْنَى: صفة الْجنَّة الَّتِي وعد المتقون أَي: صِفَات الْجنَّة الَّتِي وعد المتقون، وَمَعْنَاهُ: وعد المتقون من (الشّرك).
وَقَوله: ﴿فِيهَا أَنهَار من مَاء غير الْخَيْر آسن﴾ أَي: غير متغير. يُقَال: أسن المَاء يأسن إِذا تغير، وأجن يأجن إِذا تغير أَيْضا، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك لِأَن المَاء يتَغَيَّر بطول الْمكْث، وَمَاء الْجنَّة لَا يتَغَيَّر بطول الْمكْث.
وَقَوله: ﴿وأنهار من لبن لم يتَغَيَّر طعمه﴾ أَي: يحمض. وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك لِأَن اللَّبن إِذا مر عَلَيْهِ الزَّمَان يتَغَيَّر ويحمض، وَقد ثَبت أَن النَّبِي قَالَ: " أُوتيت بإناءين لَيْلَة الْمِعْرَاج فِي أَحدهمَا خمر، وَفِي الآخر لبن، فَأخذت اللَّبن وشربته، فَقَالَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام: أصبت الْفطْرَة ".
173
﴿من مَاء غير آسن وأنهار من لبن لم يتَغَيَّر طعمه وأنهار من خمر لَذَّة للشاربين وأنهارا من عسل مصفى وَلَهُم فِيهَا من كل الثمرات ومغفرة من رَبهم كمن هُوَ خَالِد فِي النَّار وَسقوا مَاء حميما فَقطع أمعائهم (١٥) وَمِنْهُم من يستمع إِلَيْك حَتَّى إِذا خَرجُوا من عنْدك﴾
وَمن الْمَعْرُوف أَيْضا " أَن النَّبِي كَانَ إِذا أكل طَعَاما شكر الله تَعَالَى، وَسَأَلَ [الله] أَن يرزقه خيرا مِنْهُ إِلَّا اللَّبن، فَإِنَّهُ كَانَ إِذا شرب اللَّبن شكر الله تَعَالَى وَلم يقل وارزقنا خيرا مِنْهُ ".
وَقَوله: ﴿وأنهار من خمر لَذَّة للشاربين﴾ واللذة: طيبَة النَّفس فِي الشّرْب، وَقد بَينا وصف خمر الْجنَّة قبل هَذَا.
وَقَوله: ﴿وأنهار من عسل مصفى﴾ أَي: منقى من الكدر والعكر.
وَيُقَال: مصفى من الشمع أَلا يكون فِيهِ شمع.
وَقَوله: ﴿وَلَهُم فِيهَا من كل الثمرات﴾ أَي: الْفَوَاكِه.
وَقَوله: ﴿ومغفرة من رَبهم﴾ أَي: الْعَفو من رَبهم.
وَقَوله: ﴿كمن هُوَ خَالِد فِي النَّار﴾ أَي: من يُعْطي مثل هَذِه النعم يكون حَاله كَحال من هُوَ خَالِد فِي النَّار.
وَقَوله: ﴿وَسقوا مَاء حميما﴾ الْحَمِيم: هُوَ المَاء الَّذِي تناهى فِي الْحر، وَفِي التَّفْسِير: أَنه مَاء سعرت عَلَيْهِ نيران جَهَنَّم مُنْذُ خلقت، فَإِذا قربه الْكَافِر إِلَى وَجهه للشُّرْب شوى وَجهه، وَسَقَطت جلدَة وَجهه وفروة رَأسه.
174
﴿قَالُوا للَّذين أُوتُوا الْعلم مَاذَا قَالَ آنِفا أُولَئِكَ الَّذين طبع الله على قُلُوبهم وأهواءهم﴾
وَفِي بعض المسانيد بِرِوَايَة أبي أُمَامَة الْبَاهِلِيّ أَن النَّبِي قَالَ: " إِذا شرب الْكَافِر الْحَمِيم؛ قطع أمعاءه فَخرجت من دبره، ثمَّ تَلا قَوْله تَعَالَى: ﴿وَسقوا مَاء حميما فَقطع أمعاءهم﴾.
وَفِي بعض الحكايات عَن مُحَمَّد بن عبيد الله الْكَاتِب قَالَ: رجعت من مَكَّة فمررت بطيزناباد وَهُوَ مَوضِع بَين الْكُوفَة وبغداد فَرَأَيْت كرما فِيهِ عِنَب كثير، فَذكرت قَول أبي نواس:
(بطيزناباد كرم مَا مَرَرْت بِهِ إِلَّا تعجبت (مِمَّن) يشرب المَاء)
فَسمِعت قَائِلا يَقُول أسمع صَوته وَلَا أرَاهُ:
175
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمِنْهُم من يستمع إِلَيْك﴾ يَعْنِي: وَمن الْكفَّار من يستمع إِلَيْك أَي: يستمع إِلَى قَوْلك.
وَقَوله: ﴿حَتَّى إِذا خَرجُوا من عنْدك قَالُوا للَّذين أُوتُوا الْعلم﴾ قَالَ عبد الله بن بُرَيْدَة وَجَمَاعَة: هُوَ عبد الله بن مَسْعُود، وَقيل: إِنَّه أَبُو الدَّرْدَاء. وَفِي الْآيَة قَول آخر: أَنه جَمِيع أَصْحَاب رَسُول الله.
وَقَوله: ﴿مَاذَا قَالَ آنِفا﴾ أَي: مَاذَا قَالَ الْآن صَاحبكُم؟ وآنفا: قَرِيبا، وَكَانُوا يَقُولُونَ هَذَا على طَرِيق الِاسْتِهْزَاء يَعْنِي: إِنَّا شغلنا عَن سَماع كَلَامه، فَمَاذَا قَالَ؟
وَقَوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذين طبع الله على قُلُوبهم﴾ أَي: ختم الله على قُلُوبهم، وَلم يهدهم لقبُول قَول رَسُوله. وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: الْخَتْم على الْقلب (من) فهم القَوْل.
175
((١٦} وَالَّذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم (١٧) فَهَل ينظرُونَ إِلَّا السَّاعَة أَن تأتيهم بَغْتَة فقد جَاءَ أشراطها فَأنى لَهُم إِذا جَاءَتْهُم ذكراهم (١٨) فَاعْلَم أَنه لَا إِلَه إِلَّا)
وَقَوله: ﴿وَاتبعُوا أهوائهم﴾ أَي: هواهم. وَالْمرَاد من الْآيَة وفائدتها: هُوَ منع الْمُسلمين أَن يَكُونُوا مثل هَؤُلَاءِ، وَبَيَان حَالهم للْمُؤْمِنين.
176
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالَّذين اهتدوا زادهم هدى﴾ أَي: زادهم بَيَانا ورشدا، وَيُقَال: زادهم هدى أَي: الْعَمَل بالناسخ بعد الْعَمَل بالمنسوخ، وَيُقَال: الْأَخْذ بالعزائم بعد الْعَمَل بالرخص.
وَقَوله: ﴿وآتاهم تقواهم﴾ أَي: جَزَاء تقواهم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَهَل ينظرُونَ إِلَّا السَّاعَة﴾ أَي: فَهَل ينظرُونَ إِلَّا السَّاعَة أَن تأتيهم بَغْتَة أَي: تجيئهم فَجْأَة.
وَقَوله: ﴿فقد جَاءَ أشراطها﴾ أَي: علاماتها. وَفِي التَّفْسِير: أَن قَوْله: ﴿فقد جَاءَ أشراطها﴾ هُوَ مُحَمَّد. وَقد رُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ: " بعثت والساعة كهاتين، وَأَشَارَ إِلَى السبابَة وَالْوُسْطَى فَسَبَقتهَا كَمَا سبقت هَذِه " وَفِي رِوَايَة: كَادَت تسبقني. وَقد اخْتلفت الرِّوَايَات فِي أول أَشْرَاط السَّاعَة عَن بعض الْأَخْبَار " أَن أول أَشْرَاط السَّاعَة طُلُوع الشَّمْس من مغْرِبهَا، وَحِينَئِذٍ يغلق بَاب التَّوْبَة، و ﴿لَا ينفع نفسا إيمَانهَا لم تكن آمَنت من قبل﴾ على مَا قَالَ الله تَعَالَى ". وَفِي خبر آخر: " أَن
176
﴿الله واستغفر لذنبك للْمُؤْمِنين وَالْمُؤْمِنَات وَالله يعلم متقلبكم ومثواكم (١٩) وَيَقُول﴾ أول أَشْرَاط السَّاعَة نَار تخرج من الْمشرق فتسوق النَّاس إِلَى الْمغرب ". وَيُقَال: " أول أشراطها خُرُوج الدَّابَّة "، وَفِي الْأَخْبَار: [أَن] هَذِه الأشراط تكون فِي مُدَّة قريبَة، ويتتابع بَعْضهَا فِي إِثْر بعض ". وَقيل: " كلؤلؤ العقد إِذا انحل نظامه، كَانَ بعضه فِي إِثْر بعض ".
وَقَوله: ﴿فَأنى لَهُم إِذا جَاءَتْهُم ذكراهم﴾ مَعْنَاهُ: فَأَيْنَ لَهُم المفر والملجأ إِذا جَاءَهُم مَا يذكرهم؟ يَعْنِي: إِذا عاينوا الْأَمر وَحَضَرت هَذِه الأشراط. وَقَالَ قَتَادَة مَعْنَاهُ: " فَأنى لَهُم إِذا جَاءَتْهُم " أَي: السَّاعَة " ذكراهم " أَي: أَنى لَهُم التَّذَكُّر؟ أَي: مَنْفَعَة التَّذَكُّر لَو طلبوه إِذا جَاءَتْهُم السَّاعَة، وَالْمَقْصُود فَوَات مَنْفَعَة التَّذَكُّر عِنْد حُضُور الْأَمر.
177
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَاعْلَم أَنه لَا إِلَه إِلَّا الله﴾ فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ: فَاعْلَم أَنه لَا إِلَه إِلَّا الله وَقد علم؟ وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن المُرَاد مِنْهُ هُوَ الثَّبَات على الْعلم لَا ابْتِدَاء الْعلم. وَالثَّانِي: أَن مَعْنَاهُ: فاذكر أَنه لَا إِلَه إِلَّا الله، فَعبر عَن الذّكر بِالْعلمِ لحدوثه عِنْده. وَيُقَال: الْخطاب مَعَ الرَّسُول، وَالْمرَاد مِنْهُ الْأمة.
177
وَقَوله: ﴿واستغفر لذنبك وَلِلْمُؤْمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات﴾ قد ثَبت بِرِوَايَة الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي قَالَ: " إِنِّي لأستغفر الله فِي الْيَوْم سبعين مرّة "، وَفِي رِوَايَة: " مائَة مرّة ".
فَإِن قيل: كَيفَ أمره بالاستغفار وَكَانَ مَعْصُوما من الذُّنُوب؟ وَالْجَوَاب: أَنه كَانَ لَا يَخْلُو من الْخَطَأ والزلل وَبَعض الذُّنُوب الَّتِي هِيَ من الصَّغَائِر، فَأمره الله تَعَالَى بالاستغفار مِنْهَا، وَأمره بالاستغفار للْمُؤْمِنين وَالْمُؤْمِنَات، وَكَانَ يَدْعُو لَهُم ويستغفر لَهُم.
وَفِي الْمَشْهُور من الْخَبَر أَن النَّبِي لما ابْتَدَأَ بِهِ الْمَرَض الَّذِي توفى فِيهِ خرج إِلَى أحد، واستغفر لشهداء أحد، ثمَّ اسْتغْفر للْمُؤْمِنين وَالْمُؤْمِنَات "... وَالْخَبَر فِيهِ طول.
وَقَوله: ﴿وَالله يعلم متقلبكم ومثواكم﴾ أَي: منصرفكم وَمَوْضِع مقامكم، وَيُقَال: متقلبكم بِالنَّهَارِ ومثواكم بِاللَّيْلِ. وَقيل: متقلبكم ومثواكم أَي: يعلم جَمِيع مَا أَنْتُم عَلَيْهِ فِي جَمِيع أحوالكم. وَيُقَال: يعلم متقلبكم أَي: منصرفكم فِي الدُّنْيَا، ومثواكم أَي: منقلبكم فِي الْآخِرَة، وَإِمَّا إِلَى الْجنَّة، وَإِمَّا إِلَى النَّار. وَقد ثَبت بِرِوَايَة حمْرَان عَن عُثْمَان أَن رَسُول الله قَالَ: " من مَاتَ وَهُوَ يعلم أَن لاإله إِلَّا الله دخل الْجنَّة
178
﴿الَّذين آمنُوا لَوْلَا نزلت سُورَة فَإِذا أنزلت سُورَة محكمَة وَذكر فِيهَا الْقِتَال رَأَيْت الَّذين﴾
وَعَن عبيد بن الْمُغيرَة قَالَ: قَالَ حُذَيْفَة بن الْيَمَان: قَوْله: ﴿واستغفر لذنبك وَلِلْمُؤْمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات﴾ ثمَّ قَالَ: كنت رجلا ذرب اللِّسَان على أَهلِي فَقلت: يارسول الله، إِنِّي أَخَاف أَن يدخلني لساني النَّار. فَقَالَ: أَيْن أَنْت [من] الاسْتِغْفَار؟ إِنِّي لأستغفر الله فِي الْيَوْم مائَة مرّة ". وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " خير الْعَمَل لَا إِلَه إِلَّا الله، وَخير الدُّعَاء أسْتَغْفر الله ". وَفِي بعض الْآثَار: " أَن الرجل إِذا اسْتغْفر للْمُؤْمِنين وَالْمُؤْمِنَات رد الله تَعَالَى عَلَيْهِ عَن كل مُؤمن ومؤمنة ".
179
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَيَقُول الَّذين آمنُوا لَوْلَا نزلت سُورَة﴾ أَي: هلا أنزلت سُورَة، وَفِي التَّفْسِير: أَنهم كَانُوا يأنسون بِالْوَحْي إِذا نزل ويستبطئونه إِذا تَأَخّر.
وَقَوله: ﴿فَإِذا أنزلت سُورَة محكمَة﴾ وَفِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود: " محدثة " وَفِي قَوْله: ﴿محكمَة﴾ وَجْهَان: أَحدهمَا: محكمَة أَي: محكمَة بِذكر الْجِهَاد والقتال مَعَ الْكفَّار، وَالْجهَاد والقتال أَشد الْأَوَامِر على النَّفس.
179
﴿فِي قُلُوبهم مرض ينظرُونَ إِلَيْك نظر المغشي عَلَيْهِ من الْمَوْت فَأولى لَهُم (٢٠) طَاعَة وَقَول مَعْرُوف فَإِذا عزم الْأَمر فَلَو صدقُوا الله لَكَانَ خيرا لَهُم (٢١) فَهَل عسيتم إِن﴾
وَالْوَجْه الثَّانِي: محكمَة بالأوامر والنواهي.
وَقَوله: ﴿رَأَيْت الَّذين فِي قُلُوبهم مرض﴾ أَي: نفاق، فَإِن قيل: كَيفَ أخبر عَن الْمُؤمنِينَ فِي ابْتِدَاء الْآيَة ثمَّ قَالَ: ﴿رَأَيْت الَّذين فِي قُلُوبهم مرض﴾ وهم المُنَافِقُونَ، وَالْمُنَافِق لَا يكون مُؤمنا؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن فِي الْآيَة حذفا، وَمَعْنَاهُ: فَإِذا أنزلت سُورَة محكمَة وَذكر فِيهَا الْقِتَال، فَرح الْمُؤْمِنُونَ واستأنسوا بهَا. و ﴿رَأَيْت الَّذين فِي قُلُوبهم مرض ينظرُونَ إِلَيْك نظر المغشي عَلَيْهِ من الْمَوْت﴾ أَي: شخصوا بِأَبْصَارِهِمْ نَحْوك، ونظروا نظرا شَدِيدا، شبه الشاخص بَصَره عِنْد الْمَوْت، وَإِنَّمَا أَصَابَهُم مثل هَذَا؛ لأَنهم إِن قَاتلُوا خَافُوا الْهَلَاك، وَإِن لم يقاتلوا خَافُوا ظُهُور النِّفَاق.
وَالْآيَة فِي عبد الله بن أبي سلول، وَرِفَاعَة بن الْحَارِث، وَسَائِر الْمُنَافِقين.
وَقَوله: ﴿فَأولى لَهُم﴾ هَذَا وَعِيد وتهديد. قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ لمن كرهها، وَالْعرب تَقول لمن قرب من عطب وَنَجَا: أولى لَك، ويريدون بِهِ تحذيره من مثل ذَلِك. وَعَن مُحَمَّد ابْن الْحَنَفِيَّة أَنه كَانَ إِذا مَاتَ ميت بعقوته أَي: بِقرب مِنْهُ، قَالَ لنَفسِهِ: أولى لَك، كدت تكون السوَاد المخترم.
180
وَقَوله: ﴿طَاعَة وَقَول مَعْرُوف﴾ فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه بِمَعْنى الْأَمر، وَمَعْنَاهُ: قُولُوا آمنا طَاعَة وَقَول مَعْرُوف. وَالْقَوْل الْمَعْرُوف هُوَ الْإِجَابَة بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن قَوْله: ﴿طَاعَة وَقَول مَعْرُوف﴾ أَي: طَاعَة وَقَول مَعْرُوف أحسن وأميل لَهُم.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن هَذِه حِكَايَة مِنْهُم قبل نزُول آيَة الْقِتَال، كَانُوا يَقُولُونَ على هَذَا الْوَجْه فَإِذا نزلت آيَة الْقِتَال كَرهُوا وجزعوا. وَيُقَال: وَقَوله: ﴿طَاعَة وَقَول مَعْرُوف﴾
180
﴿توليتم أَن تفسدوا فِي الأَرْض وتقطعوا أَرْحَامكُم (٢٢) أُولَئِكَ الَّذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أَبْصَارهم (٢٣) أَفلا يتدبرون الْقُرْآن أم على قُلُوب أقفالها (٢٤) إِن﴾ اعْتِرَاض فِي الْكَلَام المنسوق على الأول.
وَقَوله: ﴿فَإِذا عزم الْأَمر فَلَو صدقُوا الله لَكَانَ خيرا لَهُم﴾ وَمعنى قَوْله: ﴿فَإِذا عزم الْأَمر﴾ أَي: جهد الْأَمر وَلزِمَ فرض الْقِتَال. ﴿فَلَو صدقُوا الله﴾ أَي: لَو وفوا بِمَا وعدوه من الْجِهَاد، وَقَابَلُوا أَمر الله بالامتثال لَكَانَ خيرا لَهُم.
181
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَهَل عسيتم إِن توليتم﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: إِن توليتم ولَايَة أَي: كَانَت لكم ولَايَة. وَالثَّانِي: إِن توليتم عَن الْإِيمَان بالرسول وَبِالْقُرْآنِ أَي: أعرضتم، فَهَل يكون مِنْكُم سوى أَن تفسدوا فِي الأَرْض وتقطعوا أَرْحَامكُم؟ وَقيل على القَوْل الأول: أَنه قد كَانَ هَذَا فِي صدر الْإِسْلَام؛ فَإِن قُريْشًا لما توَلّوا الْأَمر أفسدوا فِي الأَرْض وَقَطعُوا الْأَرْحَام، وَذَلِكَ من قتل بني هَاشم قُريْشًا، وَقتل قُرَيْش بني هَاشم.
وَقَوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذين لعنهم الله﴾ أَي: طردهم الله.
وَقَوله: ﴿فأصمهم﴾ أَي: جعلهم بِمَنْزِلَة الصم. وَقَوله: ﴿وأعمى أَبْصَارهم﴾ أَي: بِمَنْزِلَة الْعَمى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أَفلا يتدبرون الْقُرْآن أم على قُلُوب أقفالها﴾ التَّدْبِير: هُوَ التفكر وَالنَّظَر فِيمَا يؤول إِلَيْهِ عَاقِبَة الْأَمر.
وَقَوله: ﴿أم على قُلُوب أقفالها﴾ مَعْنَاهُ: بل على قُلُوب أقفالها، وَهُوَ على طَرِيق الْمجَاز، فَذكر القفل بِمَعْنى انغلاق الْقلب عَن فهم الْقُرْآن. وَفِي التَّفْسِير: " أَن النَّبِي كَانَ يقرئ شَابًّا هَذِه الْآيَة، فَقَالَ ذَلِك الشَّاب: بل على قُلُوب أقفالها حَتَّى يفتحها الله، فَقَالَ النَّبِي لَهُ: صدقت ".
وَعَن بَعضهم: مثل قفل الْحَدِيد على الْبَاب.
وَقَوله: ﴿إِن الَّذين ارْتَدُّوا على أدبارهم من بعد مَا تبين لَهُم الْهدى﴾ الْهدى هُوَ
181
﴿الَّذين ارْتَدُّوا على أدبارهم من بعد مَا تبين لَهُم الْهدى الشَّيْطَان سَوَّلَ لَهُم وأملى لَهُم (٢٥) ذَلِك بِأَنَّهُم قَالُوا للَّذين كَرهُوا مَا نزل الله سنعطيكم فِي بعض الْأَمر وَالله يعلم إسرارهم (٢٦) فَكيف إِذا توفتهم الْمَلَائِكَة يضْربُونَ وُجُوههم وأدبارهم (٢٧) ذَلِك﴾ الْبَيَان الْمُؤَدِّي إِلَى الْحق.
وَقَوله: ﴿الشَّيْطَان سَوَّلَ لَهُم﴾ أَي: زين لَهُم.
وَقَوله: ﴿وأملى لَهُم﴾ أَي: أمهلهم بِالْمدِّ لَهُم فِي الْعُمر، وَهُوَ رَاجع إِلَى الله تَعَالَى وَمَعْنَاهُ: وأملى لَهُم الله تَعَالَى، وَقُرِئَ: " وأملي لَهُم " على مالم يسم فَاعله، وَقُرِئَ فِي الشاذ " وأملي لَهُم " بتسكين الْيَاء، أَي: وَأَنا أملي لَهُم.
182
وَقَوله تَعَالَى: ﴿ذَلِك بِأَنَّهُم قَالُوا للَّذين كَرهُوا مَا أنزل الله﴾ فِي الْآيَة قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه قَول الْيَهُود لِلْمُنَافِقين، قَالُوا لِلْمُنَافِقين: سنطيعكم فِي بعض الْأَمر أَي: فِي كتمان صفة مُحَمَّد مَعَ علمنَا بِأَنَّهُ رَسُول. وَالْقَوْل الثَّانِي وَهُوَ الْأَظْهر أَنه قَول الْمُنَافِقين للْيَهُود.
وَقَوله: ﴿كَرهُوا مَا أنزل الله﴾ هم الْيَهُود، وَإِنَّمَا كَرهُوا حسدا وبغيا.
وَقَوله: ﴿سنطيعكم فِي بعض الْأَمر﴾ أَي: فِي بغض مُحَمَّد والعداوة مَعَه.
وَقَوله: ﴿وَالله يعلم إسرارهم﴾ أَي: مَا أسر بَعضهم إِلَى بعض، وَهَذَا القَوْل أولى؛ لِأَن الْآيَات الْمُتَقَدّمَة فِي الْمُنَافِقين.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَكيف إِذا توفتهم الْمَلَائِكَة يضْربُونَ وُجُوههم وأدبارهم﴾ أَي: يضْربُونَ وُجُوههم عِنْد الْمَوْت بصحائف الْكفْر، وَقيل: فِي الْقِيَامَة.
وَقَوله: ﴿وأدبارهم﴾ أَي: يضْربُونَ أدبارهم عِنْد سوقهم إِلَى النَّار، وَهَذَا فِي الْقِيَامَة. وَفِي بعض التفاسير: مامن عَاص يَمُوت إِلَّا وتضرب الْمَلَائِكَة وَجهه وَدبره عِنْد إِدْخَاله الْقَبْر.
182
﴿بِأَنَّهُم اتبعُوا مَا أَسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أَعْمَالهم أم حسب الَّذين فِي قُلُوبهم مرض أَن لن يخرج الله أضغانهم وَلَو نشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتهمْ بِسِيمَاهُمْ ولتعرفنهم فِي لحن القَوْل وَالله يعلم أَعمالكُم ولنبلونكم حَتَّى نعلم الْمُجَاهدين﴾
183
قَوْله تَعَالَى {ذَلِك بِأَنَّهُم اتبعُوا مَا أَسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أَعمالكُم أَي: أبطلها، وَقد بَينا مَعْنَاهُ من قبل.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أم احسب الَّذين فِي قُلُوبهم مرض أَن لن يخرج الله أضغانهم﴾ الأضغان: جمع ضغن، وَهُوَ بِمَعْنى: الحقد والغل والغش، وَمعنى الْآيَة: أَي: أَحسب المُنَافِقُونَ وَالْكفَّار أَن لن يظْهر مَا فِي قُلُوبهم لرَسُوله وَلِلْمُؤْمنِينَ.
قَالَ الشَّاعِر فِي الضغن:
(قل (لأبي) هِنْد مَا أردْت بمنطق... سَاءَ الصّديق (وسود) الأضغان) أَي: الأحقاد.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَو نشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ﴾ أَي: لعرفناهم إياك.
وَقَوله: ﴿فَلَعَرَفْتهمْ بِسِيمَاهُمْ﴾ أَي: جعلنَا لَهُم فِي وُجُوههم سمة تعرفهم بهَا.
وَقَوله: ﴿ولتعرفنهم فِي لحن القَوْل﴾ أَي: فِي فحوى القَوْل ومقصده ومغزاه. وَعَن بَعضهم: قَول الْإِنْسَان وَفعله دَلِيل على نِيَّته. وَيُقَال: لحن فِي القَوْل إِذا ترك الصَّوَاب، واللحن هَاهُنَا: هُوَ قَول يفهم الْمُخَاطب مَعْنَاهُ مَعَ إخفاء الْقَائِل المُرَاد فِيهِ، قَالَ الشَّاعِر:
(وَفِي الْجَحِيم حميم مَا تجرعه خلق فأبقى لَهُ فِي الْبَطن أمعاء)
(منطق صائب ويلحن أَحْيَانًا وَخير القَوْل مَا كَانَ لحا)
وَفِي الْخَبَر الْمَعْرُوف أَن النَّبِي قَالَ: " إِنَّكُم لتختصمون إِلَيّ، وَلَعَلَّ بَعْضكُم أَلحن بحجته من بعض " أَي: أفطن. وَعَن بَعضهم: عجبت لمن يعرف لحن الْكَلَام كَيفَ يكذب. وَفِي التَّفْسِير: أَنه لم يخف مُنَافِق بعد هَذِه الْآيَة على رَسُول الله، وَكَانَ
183
﴿مِنْكُم وَالصَّابِرِينَ ونبلو أخباركم (٣١) إِن الَّذين كفرُوا وصدوا عَن سَبِيل الله وشاقوا الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُم الْهدى لن يضروا لله شَيْئا وسيحبط أَعْمَالهم (٣٢) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وَلَا تُبْطِلُوا أَعمالكُم (٣٣) إِن الَّذين﴾ يعرفهُمْ فِي لحن كَلَامهم.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَالله يعلم أَعمالكُم﴾ يَعْنِي: الَّتِي تعملونها.
184
قَوْله تَعَالَى: ﴿ولنبلونكم حَتَّى نعلم الْمُجَاهدين مِنْكُم﴾ أَي: نعلم علم الشَّهَادَة، وَهُوَ الْعلم الَّذِي يَقع عَلَيْهِ الْوَعْد والوعيد. وَيُقَال: [لنعاملكم] مُعَاملَة من يُرِيد أَن يعلم أَعمالكُم. وَيُقَال مَعْنَاهُ: حَتَّى تعلمُوا أَنا علمنَا أَعمالكُم.
وَقَوله: ﴿وَالصَّابِرِينَ ونبلوا أخباركم﴾ أَي: نعلم الصابرين، ونعلم أخباركم. وَكَانَ مُجَاهِد إِذا بلغ إِلَى هَذِه الْآيَة قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلك أَن لَا تبلو أخبارنا فَإنَّا نفتضح.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الَّذين كفرُوا وصدوا عَن سَبِيل الله﴾ أَي: منعُوا النَّاس عَن الْإِيمَان بِاللَّه.
وَقَوله: ﴿وشاقوا الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُم الْهدى﴾ أَي: خالفوا الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُم الْهدى.
وَقَوله: ﴿لن يضروا الله شَيْئا﴾ أَي: ينقصوا الله شَيْئا.
وَقَوله: ﴿وسيحبط أَعْمَالهم﴾ أَي: يبطل أَعْمَالهم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وَلَا تُبْطِلُوا أَعمالكُم﴾ عَن أبي الْعَالِيَة الريَاحي قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ أَي: الصَّحَابَة لن يضر مَعَ الْإِيمَان شَيْء كَمَا لَا ينفع مَعَ الْكفْر شَيْء، حَتَّى أنزل الله تَعَالَى هَذِه لآيَة: ﴿وَلَا تُبْطِلُوا أَعمالكُم﴾ بِالشَّكِّ والنفاق، وَيُقَال: بالمكر وَالْخداع، وَالْمَعْرُوف بالكبائر.
184
﴿كفرُوا وصدوا عَن سَبِيل الله ثمَّ مَاتُوا وهم كفار فَلَنْ يغْفر الله لَهُم (٣٤) فَلَا تهنوا وَتَدعُوا إِلَى السّلم وَأَنْتُم الأعلون وَالله مَعكُمْ وَلنْ يتركم أَعمالكُم (٣٥) إِنَّمَا الْحَيَاة الدُّنْيَا لعب وَلَهو وَإِن تؤمنوا وتتقوا يُؤْتكُم أجوركم وَلَا يسألكم أَمْوَالكُم (٣٦) إِن﴾
185
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الَّذين كفرُوا وصدوا عَن سَبِيل الله ثمَّ مَاتُوا وهم كفار فَلَنْ يغْفر الله لَهُم﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَلَا تهنوا وَتَدعُوا إِلَى السّلم﴾ أَي: (لَا تضعفوا).
وَقَوله: ﴿وَتَدعُوا إِلَى السّلم﴾ أَي: إِلَى الصُّلْح، نهى الله تَعَالَى الْمُسلمين أَن يطلبوا الصُّلْح مَعَ الْكفَّار إِذا أمكنهم الْقِتَال.
وَقَوله: ﴿وَأَنْتُم الأعلون﴾ أَي: الغالبون القاهرون.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَالله مَعكُمْ﴾ أَي: بالنصرة وَالْحِفْظ.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَلنْ يتركم أَعمالكُم﴾ أَي: لن ينقصكم من ثَوَاب أَعمالكُم شَيْئا، وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " مامن سَاعَة تمر على العَبْد الْمُسلم لَا يذكر الله فِيهَا إِلَّا كَانَت عَلَيْهِ ترة يَوْم الْقِيَامَة " أَي: نقص.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا الْحَيَاة لدُنْيَا لعب وَلَهو﴾ أَي: مَا يلهى ويلعب بِهِ.
وَقَوله: ﴿وَإِن تؤمنوا وتتقوا يُؤْتكُم أجوركم وَلَا يسألكم أَمْوَالكُم﴾ فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: وَلَا يسألكم جَمِيع أَمْوَالكُم، إِنَّمَا يسألكم قدر الزَّكَاة، وَهُوَ الْمَعْرُوف. وَالْقَوْل الثَّانِي: لَا يسألكم أَمْوَالكُم لنَفسِهِ، إِنَّمَا يسألكم لكم. وَالْقَوْل الثَّالِث: وَلَا يسألكم أَمْوَالكُم؛ لِأَنَّهَا لَيست لكم فِي الْحَقِيقَة، إِنَّمَا هِيَ لَهُ.
185
﴿يسألكموها فيحفكم تبخلوا وَيخرج أضغانكم (٣٧) هَا أَنْتُم هَؤُلَاءِ تدعون لتنفقوا فِي﴾
186
وَقَوله تَعَالَى: ﴿إِن يسألكموها فيحفكم﴾ أَي: يُبَالغ فِي مسألتكم، وَيُقَال: يلح عَلَيْكُم ويجهدكم. وَفِي بعض أَمْثَال الْعَرَب: لَيْسَ للسَّائِل المحفي مثل منع (الْخَامِس).
وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي: " إِن الله يحب الْحَيِي الْمُتَعَفِّف، وَيبغض السَّائِل الْمُلْحِف ".
قَوْله ﴿تبخلوا﴾ أَي: تمنعوا ١٨٥٠
وَقَوله: ﴿وَيخرج أضغانكم﴾ أَي: وَيخرج الإحفاء أضغانكم، وَيظْهر مَا فِي بواطنكم من الْبُخْل والإمساك والنفاق وَالشَّكّ. وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أخبر تقله " أَي: أخبر الْإِنْسَان ببغضه، وَعَن بَعضهم أَنه قَالَ: " أَقَله بِخَبَر، يَعْنِي: ابغضه، فَهُوَ المختبر. وَفِي بعض الحكايات أَن مخارقا غَنِي لِلْمَأْمُونِ.
186
﴿سَبِيل الله فمنكم من يبخل وَمن يبخل فَإِنَّمَا يبخل عَن نَفسه وَالله الْغَنِيّ وَأَنْتُم الْفُقَرَاء وَإِن تنولوا يسْتَبْدل قوما غَيْركُمْ ثمَّ لَا يَكُونُوا أمثالكم (٣٨).﴾
(إِنِّي لمشتاق إِلَى ظلّ صَاحب يرق ويصفو إِن كدرت عَلَيْهِ)
فَقَالَ الْمَأْمُون: خُذ مني الْخلَافَة وأتني بِهَذَا الصاحب.
187
قَوْله تَعَالَى: ﴿هَا أَنْتُم هَؤُلَاءِ﴾ أَي: ياهؤلاء ﴿تدعون لتنفقوا فِي سَبِيل الله﴾ أَي: فِي الْجِهَاد.
وَقَوله: ﴿فمنكم من يبخل﴾ أى يمْنَع. وَقَوله ﴿وَمن يبخل فإنماعن نَفسه﴾ أَي: يفوت حَظّ نَفسه.
وَقَوله: ﴿وَالله الْغَنِيّ وَأَنْتُم الْفُقَرَاء﴾ أَي: الْغَنِيّ عَنْكُم، وَأَنْتُم الْفُقَرَاء إِلَيْهِ.
وَقَوله: ﴿وَإِن تَتَوَلَّوْا يسْتَبْدل قوما غَيْركُمْ﴾ أَي: إِن تعرضوا.
وَقَوله: ﴿قوما غَيْركُمْ﴾ فِيهِ أَقْوَال أَحدهَا: مَلَائِكَة السَّمَاء، وَهَذَا أَشد الْأَقْوَال. وَالْقَوْل الثَّانِي: إِن تَتَوَلَّوْا يامعشر قُرَيْش يسْتَبْدل قوما غَيْركُمْ أَي: أهل الْيمن، وَقد كَانَ الْأَنْصَار مِنْهُم، فَإِن الْأَوْس والخزرج حَيَّان من الْيمن، وَقد قَالَ الشَّاعِر:
(وَللَّه أَوْس آخَرُونَ وخزرج... )
وَالْقَوْل الثَّالِث: وَهُوَ الْمَعْرُوف، وَإِن تَتَوَلَّوْا يَا معشر الْعَرَب يسْتَبْدل قوما غَيْركُمْ أَي: الْعَجم. وَفِي الْخَبَر الْمَعْرُوف: أَن قوما سَأَلُوا النَّبِي عَن معنى هَذِه الْآيَة وَقَالُوا: من الَّذين يستبدلهم بِنَا؟ وَكَانَ سالما جَالِسا بجنبه فَقَالَ: هَذَا وَقَومه ثمَّ قَالَ: " لَو كَانَ الدّين مُعَلّقا بِالثُّرَيَّا لَنَالَهُ رجال من فَارس ".
وَقَوله: ﴿ثمَّ لَا يَكُونُوا أمثالكم﴾ أَي: يَكُونُوا خيرا مِنْكُم وأطوع لي، وَمَعْنَاهُ: لايكونوا أمثالكم فِي مُخَالفَة الْأَوَامِر، وَالله أعلم.
187

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

﴿إِنَّا فتحنا لَك فتحا مُبينًا (١) ليغفر لَك الله مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر وَيتم نعْمَته﴾
تَفْسِير سُورَة الْفَتْح
وَهِي مَدَنِيَّة فِي قَوْلهم جَمِيعًا، وَعَن بَعضهم: انها نزلت بَين مَكَّة وَالْمَدينَة عِنْد مُنْصَرفه من الْحُدَيْبِيَة، قَالَه مسور بن مخرمَة ومروان وَغَيرهمَا. وروى مَالك عَن زيد بن أسلم، عَن ابيه، عَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُول الله فِي سفر فَقَالَ: " لقد انزلت البارحة عَليّ سُورَة هِيَ أحب إِلَيّ من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، ثمَّ قَرَأَ: ﴿إِنَّا فتحنا لَك فتحا مُبينًا﴾ أخرجه البُخَارِيّ عَن (القعْنبِي) عَن مَالك.
وَرُوِيَ عَن أنس رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: لما انصرفنا من مَكَّة وَقد منعنَا من نسكنا، وبنا من الْحزن والكآبة شَيْء عَظِيم، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه السُّورَة، فَقَالَ النَّبِي: " هِيَ أحب إِلَيّ من جَمِيع الدُّنْيَا ".
188
Icon