تفسير سورة محمد

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة محمد من كتاب تفسير القشيري المعروف بـلطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ

سورة محمّد «صلى الله عليه وسلم» «١»
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» من ذكر «بِسْمِ اللَّهِ» جلّت رتبته، ومن عرف «بِسْمِ اللَّهِ» صفت حالته، ومن أحبّ «بِسْمِ اللَّهِ» أشكلت قصته «٢»، ومن صحب «بِسْمِ اللَّهِ» امتحقت إنّيته «٣»، وتلاشت- بالكلية- جملته.
قوله جل ذكره:
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ١ الى ٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (٢)
«الَّذِينَ كَفَرُوا» : امتنعوا، وصدّوا فمنعوا فلأنهم امتنعوا عن سبيل الله استوجبوا الحجبة والغيبة.
«أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ» : أي أحبطها.
«وَالَّذِينَ آمَنُوا... » بما نزّل على محمد، «وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ... »
(١) وتسمى عند بعض المفسرين «سورة القتال».
(٢) الكلام في هذه النقطة كتير لا يتسع له هامش ضيق، ومن أراد أن يعرف كيف أن قصة المحبين الإلهيين مشكلة فيكفى أن يعلم أن قمة هذه القصة الوصول إلى التوحيد.. أن يختفى الموحّد في الموحّد فلا يكون هناك إلا واحد، إن تحدث فبالله، وإن تحرك فبالله. هو بين الناس كائن وعنهم بائن، يقضى عمره بين وجد وفقد... (أنظر قصة هذا الحب بتفاصيلها الدقيقة في كتابنا: نشأة التصوف الإسلامى» باب الحب والفناء والمعرفة.
(٣) تلاشت آثار بشريته لا بشريته.
أصلح حالهم، فالكفر للأعمال محبط، والإيمان للتخليد «١» مسقط.
ويقال: الذين اشتغلوا بطاعة الله، ولم يعملوا «٢» شيئا مما خالف الله- فلا محالة- نقوم بكفاية اشتغالهم بالله.
قوله جل ذكره:
[سورة محمد (٤٧) : آية ٣]
ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (٣)
أي يضرب أمثال هؤلاء لحسناتهم، وأمثال هؤلاء لسيئاتهم.
ويكون اتباع الحقّ بموافقة السّنّة، ورعاية حقوق الله، وإيثار رضاه، والقيام بطاعته.
ويكون اتباع الباطل بالابتداع، والعمل بالهوى، وإيثار الحظوظ، وارتكاب المعصية.
قوله جل ذكره:
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ٤ الى ٦]
فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (٦)
إذا حصل الظّفر بالعدوّ فالعفو عنهم وترك المبالغة في التشديد عليهم- للندم موجب، وللفرصة تضييع بل الواجب إزهاق نفوسهم، واستئصال أصولهم، واقتلاع شجرهم من أصله.
وكذلك العبد إذا ظفر بنفسه فلا ينبغى أن يبقى بعد انتفاش شوكها بقية من الحياة، فمن وضع عليها إصبعا بثّت سمّها فيه «٣».
«فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً» ذلك إذا رجا المسلمون في ذلك غبطة أو فائدة مثل إفراج
(١) العذاب المؤيد.
(٢) هكذا في م وهي في ص (ولم يعلموا) وهي خطأ من الناسخ. [.....]
الكفّار عن قوم من المسلمين، أو بسبب ما يؤخذ من الفداء.. وأمثال هذا، فحينئذ ذلك مسلّم على ما يراه الإمام «١».
كذلك حال المجاهدة مع النّفس: حيث يكون في إغفاء ساعة أو في إفطار يوم ترويح للنفس من الكدّ، وتقوية على الجهد فيما يستقبل من الأمر- فذلك مطلوب حسبما يحصل به الاستصواب من شيخ المريد، أو فتوى لسان الوقت، أو فراسة صاحب المجاهدة «٢».
قوله جل ذكره: وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ إذا قتل أحد في سبيل الحقّ توّلى ورثة المقتول بأحسن من تولية المقتول.
وكذلك يرفع درجاته فيعظم ثوابه، ويكرم مآبه.
قوله جل ذكره:
[سورة محمد (٤٧) : آية ٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (٧)
نصرة الله من العبد نصرة دينه بإيضاح الدليل وتبيينه.
ونصرة الله للعبد بإعلاء كلمته، وقمع أعداء الدين ببركات سعيه وهمّته.
«وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ» بإدامة التوفيق لئلا ينهزم من صولة أعداء الدين.
قوله جل ذكره:
[سورة محمد (٤٧) : آية ٨]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨).
(١) للإمام الحق في أن يقبل أو يمن أو يفادى أو يسترق. والرسول نفسه. قتل عقبة بن معيط والنضر ابن الحارث يوم بدر، وفادى سائر أسارى بدر، ومنّ على ثمامة الحنفي وهو أسير، ومن على سبى هوازن، وأخذ من سلمة بن الأكوع جارية ففدى بها أناسا من المسلمين.. هذه كلها ثابتة في الصحيح- وهذه الأربعة إليها مذهب الشافعي.
(٢) تهمنا هذه الفقرة إذا تذكرنا أن القشيري متشدد في الرخص، وقياس الرخصة هنا على آية القتال وعلى حرب المشركين وعل تصرف الإمام... فيها دقة تحتاج إلى تدبر. ثم تهمنا في معرفة من الذي يمنح الرخصة للمريد؟
تعسا لهم: لعنا وطردا، وقمعا وبعدا! «أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ» : هتك أستارهم، وأظهر للمؤمنين أسرارهم، وأخمد نارهم.
قوله جل ذكره:
[سورة محمد (٤٧) : آية ١٠]
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (١٠)
وكيف أهلكهم وأبادهم وأقماهم؟
قوله جل ذكره:
[سورة محمد (٤٧) : آية ١١]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (١١)
المولى «١» هنا بمعنى الناصر «٢» فالله ناصر للذين آمنوا، وأمّا الكافرون فلا ناصر لهم.
أو المولى من الموالاة وهي ضد المعاداة، فيكون بمعنى المحب فهو مولى الذين آمنوا أي محبّهم، وأما الكافرون فلا يحبهم الله.
ويقول تعالى في آية أخرى: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ» «٣».
ويصح أن يقال إنّ هذه أرجى «٤» آية في القرآن ذلك بأنه سبحانه يقول: «بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا» ولم يقل: مولى الزهّاد والعبّاد وأصحاب الأوراد والاجتهاد فالمؤمن- وإن كان عاصيا- من جملة الذين آمنوا، (لا سيما و «آمَنُوا» فعل، والفعل لا عموم له) «٥».
قوله جل ذكره:
[سورة محمد (٤٧) : آية ١٢]
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (١٢)
(١) تضاف أقوال القشيري هنا فى (المولى) إلى حديثه عن ذلك الاسم في كتاب «التحبير في التذكير» وإلى حديثه في (الولاية والولي) في مواضع متفرقة من مصنفاته.
(٢) جاءت (الناظر) في ص وهي خطأنى النسخ.
(٣) آية ٢٥٧ سورة البقرة.
(٤) جاءت (أوحى) فى ص وهي خصأ في النسخ.
(٥) سقطت العبارة بين القوسين من ص وجاءت في م. والقشيري مستفيد من السياق القرآنى إذ عبّر عن الإيمان بالفعل وهو «آمَنُوا» وعبر عن الكفر بالاسم فقال: «وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ».
مضى الكلام في هذه الآية.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ الأنعام تأكل من أي موضع بلا تمييز، وكذلك الكافر لا تمييز له بين الحلال والحرام.
[كذلك الأنعام ليس لها وقت لأكلها بل في كل وقت تقتات وتأكل، وكذلك الكافر، وفي الخبر: «إنه يأكل في سبعة أمعاء». أمّا المؤمن فيكتفى بالقليل كما في الخبر: «إن كان ولا بد فثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس» و «ما ملأ ابن آدم وعاء شرّا من بطنه» ] «١».
ويقال: الأنعام تأكل على الغفلة فمن كان في حال أكله ناسيا ربّه فأكله كأكل الأنعام.
قوله جل ذكره:
[سورة محمد (٤٧) : آية ١٣]
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (١٣)
«٢».
«أَهْلَكْناهُمْ» : يعنى بها من أهلكهم من القرون الماضية في الأعصر الخالية.
قوله جل ذكره:
[سورة محمد (٤٧) : آية ١٤]
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٤)
«البينة» : الضياء والحجّة، والاستبصار بواضح المحجة: فالعلماء في ضياء برهانهم، والعارفون في ضياء بيانهم «٣» فهؤلاء بأحكام أدلة الأصول يبصرون، وهؤلاء بحكم الإلهام والوصول يستبصرون.
(١) ما بين القوسين الكبيرين ساقط بتمامه من ص وثابت في م، وهذه الأخبار موجودة في الجامع الصغير ح ٢ ص ١٥٣ وفي كتاب «الأطعمة» بالجزء الثالث من صحيح البخاري، «والأذكار» للنووى. وتكملة الخبر الأول:
عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله (ص) : يأكل المسلم في معى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء، وروى كذلك عن ابن عمر.
(٢) عن ابن عباس قال: لما خرج النبي (ص) من مكة إلى الغار التفت إلى مكة وقال: «اللهم أنت أحب البلاد إلى الله وأنت احب البلاد إليّ ولولا المشركون أهلك أخرجونى لما خرجت منك» فنزلت الآية- ذكره الثعلبي، وهو حديث صحيح.
(٣) هكذا في ص وهي في م (ثباتهم) ولكن ما في ص هو الأصوب لأننا نعرف من مذهب القشيري أن (البيان) للمعارفين والبرهان لأرباب العلم.
قوله جل ذكره:
[سورة محمد (٤٧) : آية ١٥]
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (١٥)
كذلك اليوم شأن الأولياء، فلهم شراب الوفاء، ثم شراب الصفاء، ثم شراب الولاء، ثم شراب حال اللقاء.
ولكلّ من هذه الأشربة عمل، ولصاحبه سكر وصحو فمن تحسّى شراب الوفاء لم ينظر إلى أحد في أيام غيبته عن أحبابه:
(٣) ذلك لأن نفسك التي بين حنبيك هي أعدى أعدائك، وجهادها هو الجهاد الأكبر لأنها تقودك إلى دواعى الهوى، وفي ذلك عند الصوفية شرك خفى.
وما سرّ صدرى منذ شطّ بك النوى أنيس ولا كأس ولا متصرف
ومن شرب كأس الصفاء خلص له عن كل شوب، فلا كدورة في عهده، وهو في كلّ وقت صاف عن نفسه، خال من مطالباته «١»، قائم بلا شغل- فى الدنيا والآخرة- ولا أرب.
ومن شرب كأس الولاء عدم فيه القرار، ولم يغب بسرّه لحظة في ليل أو نهار.
ومن شرب في حال اللقاء أنس على الدوام ببقائه فلم يطلب- مع بقائه- شيئا آخر من عطائه لاستهلاكه في علائه عند سطوات كبريائه «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ١٦ الى ١٧]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧)
(١) أي مطالبات الحظوظ حظوظ النفس.
(٢) تنبه إلى أهمية هذه الفقرة التي أطال فيها القشيري حديثه عن الأشربة حيث لم يتاولها بفصيل في رسالته عند بحث مصطلح السّكر.
هم المنافقون الذين كرهوا ما أنزل الله لما فيه من افتضاحهم.
«وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ» «اهْتَدَوْا» : بأنواع المجاهدات، ف «زادَهُمْ هُدىً» : بأنوار المشاهدات.
«اهْتَدَوْا» : بتأمل البرهان، ف «زادَهُمْ هُدىً» بروح البيان.
«اهْتَدَوْا» : بعلم اليقين، ف «زادَهُمْ هُدىً» : بحقّ اليقين.
[ «اهْتَدَوْا» : بآداب المناجاة، ف «زادَهُمْ هُدىً» : بالنجاة ورفع الدرجات.
«اهْتَدَوْا» : إلى ما فيه من الحقّ ولم يختلفوا في أنه الحق، ف «زادَهُمْ هُدىً» بالاستقامة على طريق الحق] «١».
قوله جل ذكره:
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ١٨ الى ١٩]
فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (١٨) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (١٩)
كان عالما بأنه: «لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ» فأمره بالثبات عليها قال (ص) :«أنا أعلمكم بالله، وأخشاكم له «٢» ».
ويقال: كيف قيل له: «فَاعْلَمْ... » ولم يقل: علمت، وإبراهيم قيل له: «أَسْلَمَ «٣»..»
فقال: «أَسْلَمْتُ... » ؟ فيجاب بأنّ إبراهيم لمّا قال: «أَسْلَمْتُ» ابتلى، ونبيّنا ﷺ لم يقل: علمت فعوفى.
(١) ما بين القوسين الكبيرين ساقط في ص وموجود في م. [.....]
(٢) البخاري عن أنس: (والله إنى لأخشاكم لله وأتقاكم له) والشيخان عن عائشة: (والله إنى لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية).
(٣) آية ١٣١ سورة البقرة: «قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ».
409
وإبراهيم عليه السلام أتى بعده شرع كشف سرّه، ونبيّنا ﷺ لم يأت بعده شرع.
ويقال: نبيّنا ﷺ أخبر الحقّ عنه بقوله: «آمَنَ الرَّسُولُ «١»... » والإيمان هو العلم- وإخبار الحقّ سبحانه عنه أتمّ من إخباره بنفسه عن نفسه: «عَلِمْتَ».
ويقال: فرق بين موسى عليه السلام لمّا احتاج إلى زيادة العلم فأحيل على الخضر، ونبيّنا ﷺ قال له: «وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً «٢» »... فكم بين من أحيل في استزادة العلم على عبد وبين من أمر باستزادة العلم من الحق!!.
ويقال لمّا قال له «فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ «٣» » كان يأمره بالانقطاع إليه عن الخلق، ثم بالانقطاع منه- أي من الرسول- إليه.. أي إلى الحق سبحانه. والعبد إذا قال هذه الكلمة على سبيل العادة والغفلة عن الحقيقة- أي كان بصفة النسيان- فليس لقوله كثير قيمة كأن تقال عند التعجب من شىء.. فليس لهذا قدر. أمّا إذا قالها مخلصا فيها، ذاكرا لمعناها، متحققا بحقيقتها.. فإن كان بنفسه فهو في وطن التفرقة.. وعندهم «٤» هذا من الشّرك الخفيّ، وإن قالها بحقّ فهو الإخلاص. فالعبد يعلم أولا ربّه بدليل وحجّة فعلمه بنفسه كسبيّ.. وهو أصل الأصول، وعليه ينبنى كل علم استدلالى «٥» ! ثم تزداد قوة علمه بزيادة البيان وزيادة الحجج، ويتناقص علمه بنفسه لغلبات ذكر الله على القلب. فإذا انتهى إلى حال المشاهدة، واستيلاء سلطان الحقيقة عليه صار علمه في تلك الحالة ضروريا. ويقلّ إحساسه بنفسه حتى يصير علمه بنفسه كالاستدلاليّ وكأنه غافل «٦» عن نفسه أو ناس لنفسه.
(١) آية ٢٨٥ سورة البقرة: «آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ».
(٢) آية ١١٤ سورة طه.
(٣) هنا يفرق القشيري بين التوحيد المنطوق باللسان، والتوحيد عند أرباب الحقيقة.
(٤) أي عند أرباب الحقائق، لأن أي شعور بالغيرية نتيجة عدم الإخلاص نقص في التوحيد.
(٥) من هذا يتضح أن الصوفية لا يهملون العقل تماما بل يحترمونه في مرحلة البداية من أجل تصحيح الإيمان، ولكنهم لا يعولون عليه تماما في بقية معراجهم الروحي. وهذا رد حاسم على من ينكرون على الصوفية علاقتهم بالعقل والعلوم العقلية.
(٦) في ص (وكأنه قال) وهي خطأ من الناسخ كما هو واضح من السياق بعده.
410
ويقال: الذي على البحر يغلب عليه ما يأخذه من رؤية البحر، فإذا ركب البحر قويت هذه الحالة، حتى إذا غرق في البحر فلا إحساس له بشىء سوى ما هو مستغرق فيه ومستهلك «١».
«وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ» : اى إذا علمت أنك علمت فاستغفر لذنبك من هذا فإن الحقّ- على جلال قدره- لا يعلمه غيره «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة محمد (٤٧) : آية ٢٠]
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠)
كان المسلمون تضيق قلوبهم بتباطؤ الوحى، وكانوا يتمنون أن ينزل الوحى بسرعة فقال تعالى: «فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ «٣» وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ» رأيت المنافقين يكرهون ذلك لما كان يشق عليهم من القتال، فكانوا يفتضحون عندئذ، وكانوا ينظرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم- بغاية الكراهة.
... فَأَوْلى لَهُمْ».
(١) القشيري هنا مستفيد من شيخه أبى على الدقاق حين أوضح مراحل التواجد فالوجد فالوجود قائلا:
«التواجد يوجب استيعاب العبد، والوجد يوجب استغراق العبد، والوجود يوجب استهلاك العبد، فهو كن شهد البحر ثم ركب البحر ثم غرق في البحر» الرسالة ص ٣٧.
(٢) يذكرنا هذا بقول رابعة بعد ليال قضتها في الصلاة والاستغفار: «إن صلاتنا في حاجة إلى صلاة، واستغفارنا في حاجة إلى استغفار» كما يذكرنا بقول القشيري في موضع مماثل: «... جلت الصمدية عن أن يستشرف من إدراكها بشر»، وفي ذلك يقول أبو عبد الله الجلاء (ت ٣٠٦ هـ) :
كيفية المرء ليس المرء يدركها فكيف كيفية الجبار في القدم؟
هو الذي أحدث الأشياء مبتدعا فكيف يدركه مستحدث النسم؟
(شذرات الذهب ح ٢ ص ٢٤٩).
(٣) قال قتادة: كل سورة ذكر فيها الجهاد فهى محكمة. وقيل معناها مبينة غير متشابهة، لا نحتمل وجها إلا وجوب القتال.
تهديد «١».
قوله جل ذكره:
[سورة محمد (٤٧) : آية ٢١]
طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (٢١)
وهو قولهم: «لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ... ».
ويقال: فأولى لهم طاعة منهم لله ولرسوله. «وقول معروف» بالإجابة لما أمروا به من الجهاد.
ويقال: طاعة وقول معروف أمثل بهم.
قوله جل ذكره «فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ».
إذا عزم الأمر- أي جدّ وفرض القتال- فالصدق والإجابة خير لهم من كذبهم ونفاقهم وتقاعدهم عن الجهاد.
قوله جل ذكره:
[سورة محمد (٤٧) : آية ٢٢]
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢٢)
أي فلعلكم إن أعرضتم عن الإيمان- بمحمد صلى الله عليه وسلم- ورجعتم إلى ما كنتم عليه أن تفسدوا في الأرض، وتسفكوا الدماء الحرام، وتقطعوا أرحامكم، وتعودوا إلى جاهليتكم.
قوله جل ذكره:
[سورة محمد (٤٧) : آية ٢٣]
أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣)
أصمّهم عن سماع الحقّ وقبوله بقلوبهم، وأعمى بصائرهم.
(١) يقول الشاعر:
فأولى ثم أولى ثم أولى... وهل الدّرّ يحلب من مردّ
وقال الأصمعى معناها: قاربه ما يهلكه وأقشد:
فعادى بين هاديتين منها... وأولى أن يزيد على الثلاث
وقال المبرد: يقال لمن همّ بالعطب: أولى لك! أي: قاربت العطب.
قوله جل ذكره:
[سورة محمد (٤٧) : آية ٢٤]
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤)
أي إن تدّبروا القرآن أفضى بهم إلى العرفان، وأراحهم من ظلمة التحيّر.
«أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها» :
أقفل الحقّ عل قلوب الكفار فلا يداخلها زاجر التنبيه، ولا ينبسط عليها شعاع العلم، فلا يحصل لهم فهم الخطاب فالباب إذا كان مقفلا فكما لا ينخل فيه شىء لا يخرج منه شىء كذلك قلوب الكفار مقفلة، فلا الكفر الذي فيها يخرج، ولا الإيمان الذي هم يدعون إليه يدخل في قلوبهم.
وأهل الشّرك والكفر قد سدّت بصائرهم وغطّيت أسرارهم، ولبّس عليهم وجه التحقيق.
قوله جل ذكره:
[سورة محمد (٤٧) : آية ٢٥]
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥)
الذي يطلع فجر قلبه، ويتلألأ نور التوحيد فيه، ثم قبل متوع نهار إيمانه انكسفت شمس يومه، وأظلم نهار عرفانه، ودجا ليل شكّه، وغابت هجوم عقله... فحدّث عن ظلماته... ! ولاحرج! «١» [ذلك جزاؤهم على مما لأئهم مع المنافقين، وتظاهرهم... فإذا توّفتهم الملائكة تتصل آلامهم، ولا تنقطع بعد ذلك عقوباتهم.] «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة محمد (٤٧) : آية ٢٩]
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩)
. ليس الأمر كما توهّمموه، بل الله يفضحهم ويكشف تلبيسهم، ولقد أخبر الرسول عنهم، وعرّفه أعيانهم.
(١) القشيري هنا يغمز بمن ينتمون إلى طريقة الصوفية ثم يفسخون عقدهم مع الله، ويتخلون عن طريق الإرادة بعد قطعهم مسافة قصيرة.
(٢) ما بين القوسين الكبيرين ساقط في م وثابت في ص. [.....]
قوله جل ذكره:
[سورة محمد (٤٧) : آية ٣٠]
وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠)
أي في معنى الخطاب، فالأسرّة تدلّ على السريرة، وما يخامر القلوب فعلى الوجوه يلوح أثره:
لست ممن ليس يدرى... ما هوان من كرامة
إنّ للحبّ... وللبغض على الوجه علامة
والمؤمن ينظر بنور الفراسة «١»، والعارف ينظر بنور التحقيق، والموحّد ينظر بالله فلا يستتر عليه شىء «٢».
ويقال: بصائر الصديقين غير مغطّاة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سدوا كل خوخة غير خوخة أبى بكر» «٣».
قوله جل ذكره:
[سورة محمد (٤٧) : آية ٣١]
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (٣١)
بالابتلاء والامتحان تتبين جواهر الرجال، فيظهر المخلص، ويفتضح المماذق، وينكشف المنافق، فالذين آمنوا وأخلصوا نجوا وتخلصوا، والذين كفروا ونافقوا وقعوا «٤» فى الهوان وأذلّوا، ووسموا بالشقاوة وقطعوا.
قوله جل ذكره:
[سورة محمد (٤٧) : آية ٣٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (٣٣)
(١) هكذا في م وهي في ص (بعين الفراسة). روى الترمذي والطبراني من حديث أبى أمامة، والترمذي من حديث أبى سعد، والطبراني وأبو نعيم والبزاز بسند صحيح عن أنس «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله».
(٢) يفيد هذا الكلام في ترتيب القوم: مؤمن ثم عارف ثم موحد فالموحدون أعلى درجات السائرين.
(٣) يقول القشيري في كتابه «المعراج» ص ٧٢: (كان الصديق مخصوصا من البصيرة بما لم يخص به غيره قال (ص) :«سدوا كل خوخة غير خوخه أبى بكر». وذلك لما فتحوا في المسجد من كل دار خوخة، والإشارة فيه أن الصديق ليس بممنوع من الإبصار بحال)
. (٤) سقطت (وقعوا) فى ص، وموجودة في م.
«لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ» : بالرياء والإعجاب والملاحظة.
«لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ» : بالمساكنة إليها. «وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ» بطلب الأعواض عليها.
«لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ» : بتوهمكم أنه يجب بها شىء دون فضل الله «١».
قوله جل ذكره:
[سورة محمد (٤٧) : آية ٣٥]
فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٣٥)
أي لا تميلوا إلى الصلح مع الكفار وأنتم الأعلون بالحجة «٢».
أنتم الأعلون بالنصرة. قوله «وَاللَّهُ مَعَكُمْ». أي بالنصرة ويقال: لا تضعفوا بقلوبكم، وقوموا بالله لأنكم- والله معكم- لا يخفى عليه شىء منكم، فهو على الدوام يراكم.
ومن علم أنّ سيّده يراه يتحمل كلّ مشقة مشتغلا برؤيته:
«وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ» أي لا ينقصكم أجر أعمالكم.
قوله جل ذكره:
[سورة محمد (٤٧) : آية ٣٦]
إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦)
تجنبوا الشّرك والمعاصي حتى يفيكم أجوركم.
والله لا يسألكم من أموالكم إلا اليسير منها وهو مقدار الزكاة «٣».
[سورة محمد (٤٧) : آية ٣٧]
إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧)
(١) هذه الإشارة موجهة إلى الذين يزعمون أن الطاعة توجب على الله الثواب. ويرى القشيري أنه لا وجوب على الله فكل شىء من فضله لأن طاعة العبد لا توجب لله زينا، ومعصيته لا تلحق به سبحانه شينا. والله «يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ».
(٢) عند هذا الحد انتهت النسخة م، ولذا فإننا نعتمد على النسخة ص في بقية السورة، وهي مساحة كبيرة.
(٣) وهي على حد تعبير سفيان بن عيينه: غيض من فيض.
«الإحفاء» الإلحاح في المسألة... وهذا إنما يقوله لمن لم يوق شحّ نفسه، فأمّا الإخوان ومن علت رتبتهم في باب حرية القلب فلا يسامحون في استيفاء ذرّة، ويطالبون ببذل الرّوح، والتزام الغرامات.
قوله جل ذكره:
[سورة محمد (٤٧) : آية ٣٨]
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (٣٨)
البخل منع الواجب، وإذا بخل فإنما يبخل عن نفسه لأنه لو لم يفعل ذلك لحصل له الثراء- هكذا يظن.
قوله جل ذكره: «وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ».
«غنى» بنفسه على قول، وغنيّ بوصفه على القول الثاني «١». وغناه كونه لا تتقيد مراداته. أمّا العبد فهو فقير بنفسه لأنه لا يستغنى عن مولاه فى الابتداء منذ خلقه إلى الانتهاء، وهو في دوام الأوقات مفتقر إلى مولاه.
والفقير الصادق من يشهد افتقاره إلى الله. وصدق الفقير في شهود فقره إلى الله. ومن افتقر إلى الله استغنى بالله، ومن افتقر إلى غير الله وقع في الذّلّ والهوان.
ويقال: الله غنيّ عن طاعتكم، وأنتم الفقراء إلى رحمته.
ويقال: الله غنيّ لا يحتاج إليكم، وأنتم الفقراء لأنكم لا بديل لكم عنه.
قوله جل ذكره: «وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ».
يستبدل قوما غيركم يكونون أشدّ منكم طاعة، وأصدق منكم وفاء فهو قادر على خلق أمثالكم ثم لا يكونون أمثالكم في العصيان والإعراض وترك الشكر والوفاء...
بل سيكونون خيرا منكم.
(١) أي يمكن أن تكون من صفات الذات أو من صفات الفعل انظر «الغني» فى كتاب «التحبير في التذكير» للإمام القشيري تحقيق د. بسيونى.
Icon