تفسير سورة المجادلة

تفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة
تفسير سورة سورة المجادلة من كتاب تفسير ابن عرفة المعروف بـتفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة .
لمؤلفه ابن عرفة . المتوفي سنة 803 هـ

سُورَةُ الْمُجَادَلَةِ
تكرر فيها اسم الجلالة أربعين مرة.
قوله تعالى: ﴿قَدْ... (١)﴾
الزمخشري: (قَدْ) معناها التوقع، قال هو والفخر، لأن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم والمرأة المجادلة كانا يتوقعان أن قد سمع الله بمجادلتهما وشكواهما، وينزل في ذلك ما يفرج عنهما، انتهى، هذا لَا يتم على قواعدنا، ولا على قواعد المعتزلة؛ لأنه إن أريد به السماع في نفس الأمر، فلا يصح فيه التوقع بل هو ثابت، وإن أريد به النسبة إلى المخاطب، فالنبي ﷺ وعلى آله والمسلمون، ما كانوا يتوقعون السماع، بل يحققونه، وأما على قواعد المعتزلة، فلأن الله تعالى عالم بذلك في نفس الأمر، وكذلك في اعتقاد النبي ﷺ من غير توقع، فلا بد من التجوز في الآية إما بأن يراد بـ (سَمِعَ) استمع إشارة إلى أنه سماع إجابته، أو يضمر في الآية فعل، أي سمع هو قولها وأجابها، والتوقع في هذا ممكن لكن يلزم على الأول المجاز، وعلى الثاني الإضمار فيتعارضان، وإن قلت: القول أعم من الكلام لصدقه على المفرد، وعلى المركب الغير مقيد، وسماع المركب مستلزم سماع المفرد، بخلاف العكس فهلا [عبَّر*] بالأخص؟ فالجواب: أنه عبر باللفظ الأعم، ليفيد عموم السماع في [المقيد*] وغيره، وذكر الخونجي أن الطلب من خصائص المركب، لأنه قسم المركب إلى الطلب، ونص الإبياري على كونه في المفرد.
قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ).
الزمخشري: يصح أن يسمع كل مسموع، ويبصر كل مبصر، انتهى، هذه العبارة لا تجوز عندنا ولا عندهم، بل سماعه وإبصاره عندنا واجب غير ممكن، وعندهم راجع لصفة العلم، وعلمه بالأشياء واجب غير ممكن؛ إلا أن يجيبوا لهم عن مذهبهم، بأن بعض المعتزلة زعم أن العلم بالشيء مقارن لوجود ذلك النفي، فتعلق العلم بالحوادث مقارن لوجودها، وهي ممكنة، فيكون العلم بها ممكنا فتصح عبادته.
قوله تعالى: ﴿مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ... (٢)﴾
هذه الجملة خبر عن الأولى، وهي موجبة [معْدولة*]، وليست سالبة؛ لأن الموضوع ليس هو الموضوع في الأولى فهي كقولك: زيد بصير، أي هن غير أمهاتهم، وهي من معنى قولك: زيد ما ضربته، ونفي الولادة والأمومة حكم شرعي لَا سلبي، لأنهم معلوم أنهم ليسوا بأولادهم، أي لَا يحكم لهم في الشرع بحكم الأمهات.
173
قوله تعالى: (إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ).
إن قلت: هذا الحصر تخرج عنه الأم من الرضاعة، وزوجات النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لأنهن أمهات المؤمنين شرعا، لأنكم قلتم: المراد بالأمهات في الآية حكما لَا نسبا، فالجواب: أن تقول أن هذا الحصر عام مخصوص بما ذكروا أكثر عمومات القرآن مخصوصة، أو تقول إنه عام خرج على سبب، فيقصر عليه؛ لكن المشهور أن العلم الدال على سبب لَا يجب قصره عليه، وأجيب أيضا: بأن يكون هذا قبل نزول آية الرضاع، وقيل: نزول قوله (وَأزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ)، ورد بأن آية الرضاع مكية، وأيضا فهذا خبر، والخبر لَا ينسخ، وأجيب: بأنه خبر تضمن حكما شرعيا فيصح نسخه، ورد بأنه لَا ينسخ الخبر مطلقا، فإن قلت: الظاهر شبه الزوجة بالأم، ولم يجعلها أمًّا حقيقة، فهلا قيل: (مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ)، قلت: التشبيه في اللفظ، والمقصود في المعنى؛ لتسوية الزوجة بالأم في التحريم وتنزيلها منزلتها، فأتت الآية ردا على اعتقادهم.
قوله تعالى: (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا).
الزمخشري: (وَزُورًا)، أي كذبا باطلا منحرفا عن الحق، الفخر: الظاهر شبه زوجته بأمه، ولم يجعلها هي، فكيف قيل: (مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ)، وكذب في قوله، ثم أجاب: بأن لفظة إن كان خبرا فالكذب في تشبيه المتحللة بالمحرمة في الخطيئة والحرمة، وإن كان إنشاء، فمعناه أن الشرع جعل الظهار سببا في حصول الحرمة، فلما لم يرد الشرع بهذا التشبيه، كان جعله إنشاء في وقوع هذا الحكم كذبا، انتهى، الظهار إنشاء لأنه لَا يثبت معناه إلا به، والتكذيب من عارض الخبر، لَا من عوارض الإنشاء، فحينئذٍ تقول: الظهار إنشاء ولا شيء من الإنشاء بكذب، فلا شيء من الكذب بظهار، ثم يضم له مقدمة أخرى، فتقول: الظهار زور بمقتضى هذه الآية، ولا شيء من الزور بظهار بمقتضى المقدمة الأولى، فينتج لَا شيء من الظهار، والجواب: بأن الظهار له اعتباران فهو باعتبار التشبيه، خبر يعرض له التصديق، والتكذيب باعتبار التزام مقتضى التشبيه هو إنشاء لَا يقبل تصديقا ولا تكذيبا، يرد بأنه يلزم عليه الجمع بين الضدين، فإما أن يجعله إنشاء مجردا أو خبرا، والجواب: بأن الظهار كان في الجاهلية قبل نزول هذه الآية موجبا للتحريم، فتركت الآية ردا على اعتقاد ذلك، وإن وضع الظهار أو التحريم ليس بحكم شرعي، فلا يلزمه الشرع فيه ما التزمه من التحريم، وإذا لم يلزمه ذلك فيه خرج عما وصفه له، فبطل فيه حكم الإنشاء فيصح تعلق التكذيب به، وإما تعهد نزولها فالظهار لازم لمن التزمه فهو إنشاء لَا خبر يرد بأنه يلزم ذلك في هذه القصة
174
التي نزلت الآية لأجلها، فإن كان إنشاء فقد سماه في القرآن زورا مع أنه ظهار على مقتضى فعل الجاهلية، ويجاب: بأنه يفهم تعلق التكذيب به بوجهين واعتبارين، فالمراد بالظهار في اللغة التحريم المؤبد، وهذا ما يطلقه الأمر بداية التحريم، وفي الشرع التحريم المعلق على إخراج الكفارة، فإِذا قال: أنت عليَّ كظهر أمي، فقصد به التحريم المؤبد، وهو كاذب شرعا، كمن قال في ثوب غيره: بعتك يا فلان هذا الثوب فهو صادق باعتبار اللفظ، والقصد كاذب من جهة المعنى مع إنشاء بلا خلاف، وهذا [محرم*]، قال ابن التلمساني في شرح المعالم: لما قال الفخر: [الأكثرون*] عرفوا الخبر بأنه ما احتمل الصدق والكذب، وأبطله الفخر بأن التصديق والتكذيب هو الإخبار عن كونه صدقا وكذبا فيلزم [الدور*]، وأجاب ابن التلمساني: بأنا لَا نسلم أن الصدق هو الخبر المطابق، بل مطلق المطابقة، وكذلك الكذب فلا يتوقف فيهما عليه، وقال القرافي في [فروقه*]: مما يتوهم أنه إنشاء، وهو خبر قول القائل: أنت عليَّ كظهر أمي، يعتقد الفقهاء أَنَّهُ إنْشَاءٌ لِلظِّهَارِ، [كَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ*] إنْشَاءٌ لِلطَّلَاقِ [فَإِنَّ الْبَابَيْنِ فِي الْإِنْشَاءِ سَوَاءٌ*] وليسا سواء، والفرق بينهما [مِنْ وُجُوهٍ*]
أحدهما: أن الخبر محتمل للصدق والكذب، والظهار موصوف بالكذب بالقرآن، بقوله تعالى: (وَزُورًا)، وبقوله تعالى: (مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ)، [فَكَذَّبَهُمْ اللَّهُ*]، وبقوله تعالى: (مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ)، والإنشاء للتحريم لَا يكون منكرا بدليل الطلاق.
الثاني: أجمعنا أن الظهار يحرم، وليس للتحريم مُدْرَكٌ إلَّا أَنَّهُ كَذِبٌ، ورد عليه مختصره بأن مدركه تشبيه من يحل وطئه، بمن يحرم، فأتى بحكم يخالف حكم الله تعالى.
الثالث: أن فيه الكفارة التي هي زاجرة ماحية للذنوب، [فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ إذَا كَانَ كَذِبًا، ورده مختصره بما تقدم.
الرابع: قوله تعالى: (ذَلِكُم تُوعَظُونَ بِهِ)، وَالْوَعْظُ إنَّمَا يَكُونُ [عَنْ*] الْمُحَرَّمَاتِ، وما ذاك إلا [لِكَوْنِهِ كَذِبًا*]، ورده أيضا المختصر بما سبق، وقال القرافي في الذخيرة: صيغ العقود، والطلاق والعتاق نحو بعت، وأنت طالق، وأنت عليَّ كظهر أمي، أصلها إخبارات ثم نقلت للإنشاء، انتهى، وقوله تعالى: (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ)، في [لفظه*] رد على ما قال الزمخشري: إن في التصريح بلفظ (منكم) [توبيخ*] لما عدل عنه في الآية إلى لفظ الغيبة، وإيجاب على البعد من ذكره، وعدم الاتصاف به إذ لو كان في الخطاب [توبيخ*] لما عدل عنه في الآية إلى لفظ الغيبة
175
وله أن يجيب: بأن هنا يغني عنه، وهو التصريح بكونه منكرا، أو زورا فهو إغناء عن التعبير عن ذلك بلفظ الخطاب.
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ... (٣)﴾
عطف هذا بالواو دون الأول، لأن الأول: جواب عن سؤال، لأن خولة سألت عن ذلك، وشكت أمرها إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، الثاني: معطوف عليه وهو كالمبتدأ، لأن الأولى اقتضت تحليل المظاهر، وأن الظهار لَا يوجب تحريمها، فالتحليل سبب في الكفارة فعطف بالواو، والآية حجة لمن يقول: إن الظهار لَا يكون في الأَمَة، لأن الإضافة في قوله تعالى: (مِنْ نِسَائِهِم)، ليست للملك، وإنما هي للتشريف [فيقتضي*] الحرائر دون الإماء، والاستحقاق كذلك، لأن الحر إنما يستحق [النكاح*]، وبدليل قول مالك: إن الحرة تكون فراشا بنفس العقد عليها، بخلاف الأمة فإنها فراش للسيد بعد عقد الزوج عليها حتى يطأها الزوح، فقال ابن العربي: أجمعنا على أن العبد ليس من رجالنا، في قوله تعالى: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ)، فكذلك الأمة لَا تكون من نسائنا، ولذا قال: من النساء لضم الحرائر والإماء.
قوله تعالى: (ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا).
قال ابن رشد في المقدمات: اختلفوا في العود الموجب للكفارة على ستة أقسام أقوال أحدهما:
إذا أراد الوطء واجتمع عليه لزمته الكفارة، وإن مات أو طلقها، قاله مالك في الموطأ.
الثاني: إرادته الوطء وإجماعه عليه مع استدامة العصمة، فمتى انفرد أحدهما لم تجب الكفارة إن اجتمع على الوطء ثم قطع العصمة بطلاق، أو موت سقطت الكفارة، وإن كان قد عمل بعضها سقط سائرها، وكذلك إن استدامة العصمة، ولم يرد الوطء ولا اجتمع عليه لم تجب عليه الكفارة بل لَا تجز به إن فعلها وهو غير عازم على الوطء وغير مجمع عليه، قاله مالك في المدونة، وعليه جماعة أصحابه، قال ابن رشد: وهو أصح الأقاويل، وأجراها على القياس وأبينها لظاهرِ القرآن، لأنه إذا أراد الوطء وجب عليه تقديم الكفارة قبله لقوله تعالى: (مِنْ قَبْلِ أنْ يَتَمَاسَّا)، ما لم تنقطع العصمة ويرجع بنيته عن إرادة الوطء.
176
والثالث: [أنه*] عودة الوطء نفسه روى عن مالك حكى الثلاثة أقاويل عنه عبد الوهاب، فقيل: هذا القول [لَا تجزئ*] به الكفارة قبل الوطء، وإن أراد الوطء وأجمع عليه واستدام العصمة، وله أن يطأ قبل الكفارة مرة، فإذا وطء وجبت عليه الكفارة إن أراد الوطء ثانية، فاستدام العصمة، فإن رجعت نيته عن الوطء وانقطعت العصمة بموت أو فراق، سقطت الكفارة ما لم يطأ ثانية، وحكى هذا القول أصبغ في العتبية عن أهل المشرق، ومن يرتضي من أهل المذهب.
والرابع: استدامة العصمة، وترك الفراق قاله الشافعي رحمه الله قال: وأما من ظاهر ثم لم يطلق زوجته طلاقا متصلا بالظهار، فقد وجبت عليه الكفارة.
قال الخامس: [أنه*] العود فيعود فيتكلم بالظهار مرة أخرى، وهو مذهب داود، وأهل الظاهر وبكير بن الأشج.
السادس: قول ابن قتيبة: أنها العودة في الإسلام، أي نفس القول بالظهار الذي كانوا يظاهرون به في الجاهلية، ويعدونه طلاقا، ولما ذكر ابن رشد القول الرابع عن الشافعي رحمه الله قال: وهو فاسد يدل على فساده القرآن واللغة، على أن [أصحابه*] يدعون له علم اللغة، لأن الله تعالى قال (ثُمَّ يَعُودُونَ)، ثم للتراخي بلا خلاف، والعصمة لم تنقض بالظهار فمحال أن يقال: ثم يكون كذا لم يزل كائنا، وهو خطأ من وجه آخر؛ لأنه إنما أوجب عليه الكفارة لتركه الطلاق، فيكون معنى (ثُمَّ يَعُودُونَ) عنده، ثم لم يطلقوا، وقوله (ثُمَّ يَعُودُونَ)، إيجاب ولم يطلقوا نفي، ولو صح ذلك لكان الإيجاب نفيا، والنفي إيجابا، وهو محال، انتهى، قوله: إن أصحاب الشافعي رحمه الله يدعون له علم اللغة نحو ما قال ابن التلمساني في باب الأوامر في المسألة السابعة اعتمد بعض الأئمة في إثبات دلالة المفهوم على أنه قال به كثير من أئمة العربية، كأبي عبيدة، قال: رحمة منهم، وقد احتج الأصمعي، وصحح ديوان الهذليين، انتهى، وهذا خلاف في تقييده في باب العطف، لما حكى أن الواو للترتيب، وقول ابن رشد، أن ثم للتراخي، بلا خلاف غير صحيح، قال ابن عاصم وغيره: وقيل: إنها بمعنى الواو ولا مهلة فيها، وقوله: لَا يكون الإيجاب نفيا، إن أراد حقيقة النفي والإثبات فمسلم، وإن أراد باعتبار المعنى فممنوع إذ لَا يكون الإيجاب نفيا؛ إن أراد حقيقة النفي والإثبات فمسلم لَا يجوز أن يقال: هذا متحرك لأنه لم يسكن، هذا ساكن لأنه لم يتحرك، فيصح تفسير الإثبات بالنفي، وإنما الممنوع توارد النفي والإثبات على شيء واحد، لأنه تناقض، فإِن قلت: قد قال الفخر: في الآيات البينات أن الفصل لَا يكون عدميا، لأنه لَا يفسر الإثبات بالنفي، قلت: ما قاله غير
177
صحيح، لأن الفصل أمر ذاتي للماهية، مقدم لها والماهية لَا تتقدم بالعدم، بخلاف الخاصة، فإِنها يصح أن تكون عربية لأنها خارجة عن الماهية لَا تتقدم بها، فحقه إن كان يقول الفصل لَا يكون عدميا، لأن الماهية لَا تتقدم بالعدم، ولا نتعلل بالإثبات والنفي، لأنه في الخاصة يفسر الإثبات بالنفي، وهذا ليس من ذلك القبيل. لأن ذلك في التصورات، وهذا من الرسم لَا من الحد. لأن معرفات الفقه كلها رسوم بالجنس، وخاصة [... ] بحدود.
قوله تعالى: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ).
العطف بالفاء دليل على أنها للترتيب؛ لأن الكفارة إنما تجب بالعودة، وإذا فعلت قبل العود، وكانت [نفلا*] يسد مسد الفرض، وقال في كفارة القتل (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ)، فهل يرد المطلق على المقيد أو لَا؟ فيه خلاف في أصول الفقه في المطلق والمقيد إذا اختلفا في السبب واتحدا في الموجب، هل يرد المطلق إلى المقيد أو لَا؟، قالوا: والصحيح أنه لَا يرد إليه، لأن المطلق أعم فيتناول صورة المقيد وغيرها، والأعم لَا إشعار له بالأخص، ومالك اشترط فيها الإيمان، وحجته إما [برد*] المطلق للمقيد، وإما بقاعدة الاحتياط في الخروج من العهدة.
قوله تعالى: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا).
فائدة إدخال (مِنْ) لتدل على ابتداء أزمنة الصلة، فيكون الأمر بالكفارة على الفور، أي بنفس الفرد تجب الكفارة، ولذلك دخلت الفاء لتفيد أيضا التعقيب، وفي الآية سؤالان:
الأول: لم قيل: (يَتَمَاسَّا)، ولم يقل: يتماسوا كما قال: يظاهرون؟ وجوابه: أن التماس صفة لَا تعقل إلا من اثنين [ماس وممسوس*]، والظهار من فعل الرجال فقط، وفعل الجماعة لَا يدل على [المشاركة*] بين اثنين، وإنما يدل على وقوع ذلك عن كل واحد على حدته، ولأن المظاهر منها يجب عليها أن تمنع زوجها من نفسها حتى يكفِّر، والمماسة من [فعلهما*] معا بخلاف الظهار.
السؤال الثاني: قال ابن رشد في مقدماته في كتاب الطهارة في قوله تعالى: (أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ)، الملامسة لَا تكون إلا عن قصد، والمماسة أعم، تكون عن قصد وغير قصد، فيقال: تماس الحجران، وكفارة الظهارة إنما تجب بالملامسة لَا بالمماسة، فهلا عبر باللفظ الأخص فهو أخص في بيان ما يقع به الوجوب، لأنهم قالوا: إذا مسها ناسيا فلا كفارة عليه، وجوابه من وجهين:
178
الأول: مادة التماس تقتضي أنه من اثنين لأنها مفاعلة، والغالب في فعل الاثنين أن يكون مقصودا.
الثاني: أنه إشارة إلى أن الكفارة على الفور، وأنها تجب قبل القرب من المرأة بقصد، أو غيره، ويجاب أيضا: أنه من باب النفي، وهو المنع من الوطء حتى يكفِّر، والقاعدة استعمال الأعم في النفي، والأخص في الثبوت، قال شيخنا ابن عرفة: ولو قالت المرأة لزوجها أنت عليَّ كظهر أمي، فلا خلاف أنها لَا يلزمها شيء إلا أن ابن السيد حكى في شرح الموطأ عن الحسن: أنه يلزمها الكفارة.
قوله تعالى: (ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ).
الزمخشري: لأن الحكم بالكفارة دليل على ارتكاب [الجناية*] يعني الإثم، والكفارة راجعة للإثم، ويرد بالكفارة اليمين بالله تعالى، وبأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، حلف وكفَّر، وكذلك أبو بكر، ولا إثم هناك، وإنما الإثم الذي ترفعه الكفارة في الظهار فقط فحقه أن لَا يقول ذلك مطلقا بل مقيدا بهذا.
قول (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)، أطلق هذا القول لأن العمل أعم يصدق على القول، والعمل.
قوله (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ... (٤).. ، المراد بنفي الوجدان نفي الملك، فإِذا أعتق عنه الغير لا يجزئه، [لأنه لَا يكون له ولاء*]، بل للمعتق، والولاء تابع للملك ومستلزم له، لقوله: إذا اعتق أجنبي عن امرأة زوجها في كفارة عليها أن النكاح لَا ينفسخ على المشهور، بخلاف ما لو أعتقه عنها على مال دفعته فإنه ينفسخ النكاح، لأن الولاء لها حينئذ.
قوله (مُتَتَابِعَيْنِ)، اللفظ يقتضي تتابع الشهرين أنفسهما فيما بينهما، وتابع أيامهما وتقييد الشهرين بالتتابع دليل على أن كل ما اختلف فيه من الصوم المطلق فإنه غير متتابع، كقوله لله عليَّ صوم شهر، إذ لو كان التتابع مفهوما من لفظ الشهر، لما احتيج إلى تقييده بالتتابع، ولكان وصفه بذلك تأكيد مع أن الأصل التأسيس، و (لم) هنا لنفي الماضي المتصل بالحال، لأنه إذا كان عديما حين اليمين ثم أيسر بعد ذلك، فعليه العتق، وإنما يعتبر يسره وعسره حين الحكم عليه، واختلفوا في الإطعام، وفيه طريقان فمن الشيوخ من يقول: يطعم مُدًّا بمد هشام، ثم يحكي الخلاف في قدر مُدِّ هشام، فقيل: هو مدان إلا ثلث بمده صلى الله عليه وسلم، وقيل: مد وثلث بمد هشام، ثم يقول: وفي قدر مد هشام قولان: قيل: مدان إلا ثلث، وقيل: مد وثلث، وأكثر الكفارات متفقة، وكفارة فدية الأذى مدان بمده صلى الله عليه وسلم، وجزاء صيد مد واحد بمده صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وبمعنى ذلك أن
الحكمين يحكمان عليه بمثل ما قتل من النَّعَم أو قيمته طعاما فيطعم مدا واحدا لكل مسكين.
قوله تعالى: (ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا).
أي أنزل حكم الظهار [لتعملوا*] به فتؤمنوا بالله ورسوله، إذ لَا يعمل به إلا من صدق الرسول فيما أخبر به عن الله، [**ولا يصدقه الأمر من الفخر، أي ترتيب الكفارة أول، ثم ثان، ثم ثالث، لتؤمنوا].
قوله (وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ)، ذكر هذا دليل على أن حدود الله لَا يتعداها إلا من قارب الدخول في الكفر، والرجوع عن الإيمان، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "المعاصي تزيد الكفر".
قوله تعالى: ﴿آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ... (٥)﴾
احتجوا بها على أنه لَا يجوز أن يرد في القرآن ما لَا يفهم، وأجيب: بأن قوله تعالى: (آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ)، مطلق يتناول بعض الآيات لَا كلها، ولا شك أن بعضها بين بلا خلاف.
قوله تعالى: (مُهِينٌ).
وقال تعالى قبله (عَذَابٌ أَلِيمٌ)، والجواب: [أما*] الأول فعلى الأصل، لأن كل عذاب أليم، وأما هذه فوجه مناسبتها أن المجادلة هي المشاقة، ومن لوازمها الظهور والارتفاع، والإهانة من لوازمها الذل والانخضاع.
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ... (٧)﴾
الخطاب إما للنبي صلى الله عليه وسلم، أو لخواص المؤمنين أو لعمومهم، ونزل الجاهل منزلة العالم؛ لظهور الدلائل الدالة على ذلك، بحيث لَا يخفى على أحد.
قوله (يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ)، الزمخشري: لأن من علم بعض الأسباب بغير سبب فقد علمها كلها، ابن سلامة: هذا اعتزال لأنه ينفي الصفة، فيقول: إن الله عالم بلا علم، قال شيخنا: ليس باعتزال إذ لَا يصح أن يقول الحق إنه عالم بسبب، وإنَّمَا ذلك في العلم الحادث، وأما العلم القديم، فهو عالم لذاته، لَا بسبب، وقولنا عالم بعلم ليس بسبب بل الباء للمصاحبة.
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ... (٨)﴾
المعنى [ألم تنظر*]، فلذلك عدى بإلى، والنظر سبب في الرؤية، وقد ينظر فيرى وقد لا يرى، والآية دليل على أن النهي للتكرار، وهو المشهور، ولذلك ذموا على عدم الانتهاء.
قوله تعالى: (وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ).
قال شيخنا: الذي يظهر أن الإثم هو تناجيهم في حالة نصرة المؤمنين وأمنهم، والعدوان هو تناجيهم حالة خوف المؤمنين وقتالهم؛ لكن في غيبة النبي صلى الله عليه وسلم، ومعصيته تناجيهم بحضرة النبي ﷺ في حالة خوف المؤمنين وقتالهم.
قوله (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ)، دليل على أن ما في النفس يسمى قولا، إما بطريق الحقيقة، أو بطريق الاعتزال.
قوله (لَولا)، تخصيص على معنى التهكم والاستهزاء.
قوله (فَبِئْسَ الْمَصِيرُ)، إذا علق الذم على الوصف الأعم، فأحرى الأخص، لأن المصير أعم من قوله: مصيرهم.
قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا... (٩).. ، يحتمل أن يريد المؤمنين حقيقة، أو المنافقين، فالمعنى: يا أيها الذين آمنوا في الظاهر؛ لأن وصف الإيمان صادق عليهم مقيدا، وإذا صدق مقيدا صدق مطلقا، فإن قلت: لو أريد المنافقون للزم عليه التكرار، لتقدم نهيهم في قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى)، قلت: ذلك نهي عن النجوى المستلزمة للوقوع في الإثم والقبح، وهذا أمر بالنجوى المستلزمة للبر والتقوى.
قوله تعالى: (إِذَا تَنَاجَيْتُمْ).
أي إذا أردتم التناجي.
قوله تعالى: (وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى).
إن قلت: يدل على أن النهي عن الشيء ليس بضده، والإيمان تأكيد، والأصل التأسيس، قلت: إنما ذلك حيث يكون له ضد واحد، وهنا له أضداد منها الإباحة فأفاد الأمر تعيين المراد من تلك الأضداد، ووقع النهي عن ثلاثة أشياء والأمر بشيئين، والواو في [وَتَنَاجَوْا*] بمعنى (أو) إذ لو كانت للجمع على حقيقتها للزم عليه أن يكونوا نهوا عن الجمع في التناجي بين الأمر، فيبقي التناجي الملزوم لأحدهما فقط، غير منهي عنه، لأنها قبل النهي كانت للجمع بينهما، فدخل النهي عليها فأفاد [التحذير*] منهما
عن أحدهما، فإن قلت: وقع في الحديث النهي عن التناجي مطلقا، بقوله: "لا يتناجى اثنان دون واحد"، وظاهر الآية خصوص النهي [بالتناجي بالإثم*] والعدوان، وجواز التناجي بغير ذلك؟ قلت: معنى الحديث النهي عن التناجي الملزوم للإثم، فإِن قلت: كيف يفهم هذا الترتيب بين المعطوفات على ما فسرته في الآية لأنك جعلت معصية الرسول أخصها، ثم العدوان ثم الإثم، والقاعدة في النهي والنفي البداية [بالأخص*]، والجواب: أن قصد المبالغة في الآية بذكر العدوان والمعصية مدلولا عليها بأمرين: بالمطابقة واللزوم، والشرط ما قلناه راجع للإثم، والتقوى راجعة للعدوان، لأنه إذا اتقى الله لم يعتد.
قوله تعالى: ﴿إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ... (١٠)﴾
قال الإمام: إلا بخلقه وقدرته، (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)، راجع لمعصية الرسول؛ لأن اعتقاد الحشر والنشر لَا يستفاد إلا من جهة الرسول، وليس للعقل مدخل فمن صدق الرسول، فقد اتقى، ومن كذبه فقد عصى الله ورسوله.
قوله تعالى: (إِلَّا بِإِذنِ اللَّهِ).
قال الإمام: إلا بخلقه وقدرته، الزمخشري: إلا بمشيئته وإرادته، السكوني: اعتزل هنا، لأنه ينفي الكلام، فالمراد بالإذن، قوله تعالى: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)، قال شيخنا: عندنا أن الحوادث إنما هي متوقفة على العلم والقدرة والإرادة لَا على الكلام، هذا من جهة العقل، وأما
من جهة الشرع فيتوقف على الكلام لقوله تعالى: (نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)، فإنما اعتزل الزمخشري من جهة ناحية أنه يقول إن العبد يخلق أفعاله فلذلك قال: إلا بإرادته، ولم يقل: إلا بقدرته.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا... (١١)﴾
الخطاب للمؤمنين أو للمنافقين، فإِن قلت: قوله تعالى: (يَفْسَحِ)، يدل على أن الخطاب للمؤمنين، قلت: [هو*] وعد على تقدير امتثالهم ذلك، ومن المنافقين من أسلم وحسن إسلامه، وامتثل ذلك وفعله حقيقة، فإِن قلت: يبقى من يفسح في المجلس ظاهرا، وهو في الباطن منافق، قلت: لَا يفعله إلا المؤمن حقيقة.
قوله تعالى: (فِي الْمَجَالِسِ).
صرح بالمجرور في هذا ولم يصرح به في قوله (انْشُزُوا)، والقول يتناول لسان الحال، فيجب على من أمكنه التفسح من الجالسين، أن يفسح للداخل عليه، ولم يصرح بطلب ذلك، [لكن الحال يقتضي طلبه*].
قوله تعالى: (فَافْسَحُوا).
يؤخذ منه أن الأمر للفور، لأن الفاء للتعقيب، فإِن قلت: جواب الشرط في الآية يقتضي أنه غير مطابق لفعل الشرط، [لأن*] [(تَفَعَّل) يقتضي [تكلف*] الفعل، و [(افْعَلْ)] يقتضي الإتيان به من غير كلفة، فالجواب من وجهين:
الأول: أن تعليق الثواب على الأعم أبلغ من تعليقه على الأخص، لأنه إذا رتب الثواب على الفعل الذي لَا كلفة فيه، أفاد ترتيب الثواب على ما فيه كلفة من باب أحرى.
الثاني: أن (تفسحوا) يقتضي اتساعهم فيما بينهم، فيكون الداخل طلبوا أن يتسعوا فيما بينهم، ولم يطلب أن يوسعوا له، فيكون الأمر اقتضى أنهم إذا طلب منهم الاتساع في ما بينهم فليستحضروا في توسعهم اتساعهم لغيرهم، لأن [... ] غير متعدد فصح وجه مناسبة هذه الآية لما قبلها، أن التناجي مظنة [للاجتماع*] في المجلس، والازدحام، فيناسب الأمر بالإفساح في المجلس.
قوله تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا).
ابن العربي: الإيمان في الدنيا نظري، لأن الدلائل الدالة عليه نظرية، [إذ لو*] أظهرها الله تعالى الظهورَ البَيِّنَ لصارت ضرورية، فكان يكون الإيمان [إلجَائِيّاً*] ضروريا،
انتهى، هذا هو مذهب المعتزلة، بل [لو*] أظهر الدلائل كلها؛ لجاز ألا يؤمنوا، ويدوموا على كفرهم، وإنما الأشياء [عندها لَا بها*].
قوله تعالى: ﴿فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً... (١٢)﴾
الإضافة للتشريف، أي نجواكم الشرعية اللائقة بكم، وأخر الصدقة عن النجوى، وإن كانت هي المقصود، لأن المعلول متأخر عن علته، والصدقة معللة بالنجوى، وتنكير الصدقة تيسير رحمة، ولذا قال عليه السلام لعليٍّ - رضي الله عنه - ما قال، والأمر بتقديم الصدقة دليل على المراد تقليل المناجاة، لأن فعل ما ليس متوقفا على سبب للبشر من فعل ما هو متوقف على سبب، كما أن البسيط أجلى من المركب وأقرب، والمناجاة دون صدقة أهون على النفوس منها مع الصدقة، وعبر القاضي هنا: بأن عدم الصدقة [للشح*]، وهذا لَا يليق بالصحابة، بل عدم صدقتهم، إنما هو لكونهم رأوا أن إبقاء المال ليستعينوا به في الجهاد أولى من الصدقة، فيتركون المناجاة لأجل ذلك، وإن قلت: إذا كان الأمر بالصدقة إشارة إلى أن المطلوب تقليل المناجاة كما تقدم، فهلا عبر بـ (إن) دون (إذا) لدلالتها على أن ما دخلت عليه مطلوب عدمه، فالجواب من وجهين:
الأول: أن المناجاة محققة لأن الصحابة - رضي الله عنهم - لمحبتهم في النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لابد لهم من مناجاته.
الثاني: الجزاء مطلوب وجوده، وهو الصدقة، فإذا كان الجزاء مطلوبا كان الشرط كذلك.
قوله تعالى: (فَإِنْ لَم تَجِدُوا).
والمراد وجدان المطلق كما قال علي - رضي الله عنه - فيمن وجد حبة من شعير: أنه واجد بخلاف من يستحق الزكاة، لأن المطلوب فيها وصف التفرقة، فإذا وجد من يبلغه فهو واجد.
قوله تعالى: (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
فهل معناه: إن تركتم المناجاة لفقركم؟ أو معناه إن ناجيتم بغير صدقة لفقركم، وهو الظاهر.
قوله تعالى: ﴿صَدَقَاتٍ... (١٣)﴾
فإن قلت: لم أفردت الصدقة، أولا وجمعت ثانيا؟ قلت: الأول تكليف فأفردت فيه الصدقة، إذ لو جمعت لتوهم أن المراد تقديم صدقات، لَا صدقة واحدة.
قوله تعالى: (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ).
دليل على أن هذه الآية ناسخة للأمر بالصدقة، [وليس نسخًا إلى بدل*]، وهي الصلاة لأنهم كانوا مكلفين بها والمراد دوموا إقامة الصلاة.
قوله تعالى: ﴿وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤)﴾
الآية رد على الجاحظ القائل: بأن الكذب إنما هو في العمد لقوله (وَهُمْ يَعْلَمُونَ)، فإن أجاب بأنه تأكيد، قلت: الأصل التأسيس، وقال الشريف الحسني في شرح الآيات البينات، [بأن*] الخطيب لما ذكر تعريفه للخبر بأنه ما احتمل الصدق أو الكذب، وحكى ما أورد عليه من أنه يلزم عليه الدور، لأن الصدق والكذب لَا يعرفان إلا بعد معرفة الخبر، أجاب: بأنهما معلومان بالضرورة، فلا دور فيه، انتهى، ويرد بأن الصدق والكذب أخص من الخبر، فإذا كان الأخص معلوما بالضرورة، كان الأعم معلوما بالضرورة، فما يحتاج إلى تعريف الخبر بوجه.
قوله تعالى: ﴿فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ... (١٦)﴾
يحتج بها من يقول: إن الفاء كالواو، [لا تفيد ترتيبا*]؛ لتقدم صدهم على حلفهم، وهذا إن أريد أنهم صدوا في أنفسهم، ويجيب الآخرون: بأن المراد صدهم غيرهم، وهذا أحد التأويلين الذَين ذكر ابن عطية: أي حلفهم صدوا المسلمين عن قتالهم، والانتصاف منهم.
قوله تعالى: ﴿لَنْ تُغْنِيَ... (١٧)﴾
حجة الزمخشري: في أن لن أبلغ في النفي من لا؛ لأن [الصدَّ سابق على*] الإغناء مطلقا نفيا عاما، فإن قلت: العموم مستفاد من [قولهم]: الأصل [الدلالة*] بالوضع لَا بالقرينة، فإن قلت: لو كانت أبلغ احتيج (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)، قلت: الخلود مثبت والإغناء منفي، فإن قلت: نفي الإغناء يستلزم الخلود، قلت: دلالة المطابقة أولى من دلالة الالتزام، فإن قلت: في سورة الكهف (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، فجاء المال في الإثبات، وجاء هنا في النفي مجموعا، وتقرر أن الجمع أخص من الإفراد فكان المناسب العكس، وهو استعمال الأعم في النفي، والأخص في الثبوت، فالجواب: أنه نفي لاستلزام الأخص [لَا نفيا*] للأخص، أي إذا ما أغنت عنهم أموالهم فأحرى [أولادهم*].
قوله تعالى: (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
الضمير هنا لمطلق الربط، كقول الزمخشري: في سورة البقرة في (وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ)، لأن الخلود في النار ليس خاصا بالمنافقين.
قوله تعالى: ﴿جَمِيعًا... (١٨)﴾
احتراس، لأنه تقرر أن الكذب فيما يبعد تواطؤ الجماعة عليه، وكذا أكد الإخبار عن كذبهم بـ (إنَّ) والبناء على المضمر، وتعريف الخبر واللام في (له) إما للتعدية، وإما للتعليل، وهو أصوب لأن لام التعدية تقتضي مباشرتهم إياه للحلف، وهو أحقر من ذلك، فإِن قلت: [الكاف*] في قوله (كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ)، [والتسوية*]، وهو مشبه به، قلت: التشبيه لَا يلزم أن يكون من كل الوجوه.
قوله تعالى: ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ... (١٩)﴾
الزمخشري: استولى عليهم، وهو مِنْ حَاذَ الْحِمَارُ الْعَانَةَ، إذا جمعها [وسَاقَهَا غالبا*] لها، وهو حمار الوحش، والعانة جماعة [الحمر*]، أبو حيان: قياسه استحاذ مثل استقام، وهي قراءة أبي عمرو، واستحوذ [شاذ*] في القياس فصح الاستعمال، انتهى، هذا مما روعي فيه أصله وفرعه، لأن [حروف العلة إذا تحركت*] وانفتح ما قبلها تقلب ألفا، وهذا أصله استحوذ، فنقلت حركة حرف العلة إلى الحاء، وروعي في الحاء حركتها الآن المنقولة إليها، وفي الواو حركتها المنقولة عنها، الطيبي: روعي فيه ما روعي [في*] استفعل بمعنى فعل، [وجود*] حرف العلة فيها متحرك، الفخر: احتج بها القاضي عبد الجبار من المعتزلة، على أن أعمال الخلق مخلوقة، من وجهين:
أحدهما: أن ذلك النيسان لو حصل بخلق الله لكانت إضافته إلى الشيطان كذبا.
والثاني: أنه لو حصل بخلق لكان هؤلاء المذكورون كالمؤمنين في أنهم حزب الله، انتهى، وجه الاحتجاج أن المعتزلة اتفقوا على أن العبد يخلق أفعاله الراجعة إلى نفسه، واختلفوا فيما يتعلق منها بغيره، فمنهم من قال: بالتولد وأنه من فعل الفاعل الأول [فما*] يتم له الاستدلال بها إلا على القول بالتولد، وفي الآية دليل على الترك [في الفعل*]، لأن النسيان ترك، وقد قال قبلها (إِنهُم سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، فسمى الصادر [عنهم*] عملا؛ إلا أن يجاب بأنهم ذموا بأمرين سواء فعلهم وبتركهم ذكر الله، والمصدر في ذكر الله تعالى مضاف للمفعول، ويحتمل أن يكون مضافا للفاعل، والمعنى [فإنساؤهم أنساهم*] أن الله يذكرهم، وأنه ليس بغافل عنهم، ويعلم سرائرهم وخفيات أمورهم.
قوله تعالى: ﴿فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠)﴾
أخص من قولك أولئك أذلاء، ووصف الذلة مقابل لوصف محادتهم، فإن قلت: ظاهرها يوهم كون الشيء ظرفا لنفسه، لأن الأذلين هم المحادون لله، قلت: المعنى على التجوز في جملة الأذلين في العذاب.
قوله تعالى: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ... (٢١)﴾
ابن عطية: أي قدر ذلك وأراده في الأزل، الزمخشري: كتبه في اللوح المحفوظ، انتهى، هذا جار على مذهبه، لأنه ينفي الإرادة في الأزل لكنه أقرب إلى ظاهر اللفظ، وعلى تفسير ابن عطية يكون الكتب مجازا، ودخلت اللام في (لأَغْلِبَنَّ) لتضمن الفعل معنى الإرادة، وهي لَا تقع جوابا إلا بعد أفعال القلوب، فإن قلت: لم أتى هذا الفعل بهمزة المتكلم وحده؟ وهلا كان بالنون لأنها للمتكلم، ومعه [غيره*]، أو للمعظم نفسه، ولا أعظم من الله عز وجل؟ فالجواب: أنه عدل عنها خشية إيهام الاشتراك في الغلبة؛ لقصد التنبيه عليه باستقلال الله تعالى واختصاصه بالغلبة دون وزير ولا معين.
قوله تعالى: (قَوِيٌّ عَزِيزٌ).
القوة راجعة للقدرة، [والعزة*] بمعنى أنه مستغن بإرادته وعلمه وممتنع عن [الاحتياج*] إلى غيره.
قوله تعالى: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا... (٢٢)﴾
قيل: إنها نزلت في المنافقين، وقيل: في حاطب بن أبي بلتعة من المؤمنين ومخاطبته أهل مكة، وحديثه في مسلم، في كتاب فضائل الصحابة، وذكره الزمخشري في أول سورة الممتحنة، وجعله هنا من التخيل، وقال ابن عطية: المراد يؤمنون الإيمان الكامل، انتهى، وتحقيقه [أنَّا*] إن قلنا: أنها نزلت في المنافقين فينفي وجدان الموادة حقيقة، معناه لَا تجد مؤمنا يواد من حاد الله ورسوله من حيث كونه يحادد إليها مكافأة عن يد سلفت، أو نحو ذلك، فحينئذ لَا يكون المراد نفي الوجدان حقيقة؛ لأن ذلك قد وجد في المؤمنين، كحاطب ونحوه، فيحتاج إلى أحد أمرين: إما أن يجعله تخيلا، فالمراد نفي المراد الإيمان الكامل، ويؤخذ من الآية عدم تزويج الكتابية، لأن التزويج ملزوم للمودة، لقوله تعالى: (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً)، وتقديره أن الكتابية محادة لله ورسوله، وكل من حاد الله ورسوله لَا يواد، فالكتابية لَا تواد، ثم تقول الزوجة تواد، وكل من يواد لَا يكون كافرا [فالزوجة*] لَا تكون
187
كافرة، وقال مالك في [العتبية*] في كتاب النكاح الثاني: سماع أشهب، وابن نافع رسم الطلاق، وسئل عن النصراني يصنع صنيعا، فيختن ابنا له فيدعوا في دعوته مسلمين أو مسلما، أترى له أن يجيبه، فقال: إن ما جاء ليس عليه في ذلك ضيق، إن جاء فلا بأس به، قال ابن رشد: معناه لَا إثم عليه في ذلك ولا حرج إن فعله، وذلك إن كان له وجه من جوار أو قرابة، أو ما أشبه ذلك، والأحسن أن لَا يفعل لاسيما إذا كان ممن يقتدى به؛ لما في ذلك من التودد إلى الكفار، وقد قال تعالى (لَا تَجِدُ قَوْمًا)، الآية وفي العتبية أيضا في النكاح الأول، قال ابن القاسم: كره مالك الوصية إلى اليهودي والنصراني، وكان قد أجازها قبل ذلك، قال ابن القاسم: إذا كان على صلة رحم يكون أبوه وأخوه، أو أخواله نصارى فيصل بذلك رحمهم وهو أحسن، وأما لغير هذا فلا. قاله عنه عيسى: وأما الأباعد، فلا يعجبني، نقله ابن يونس في الوصايا، وفي النكاح الثالث من العتبية في رسم باع شاة من سماع عيسى ابن دينار، قال ابن القاسم: لَا أرى أن تجوز وصية المسلم إلى النصراني، إلا أن يرى السلطان لذلك وجها، فإن أجازها استخلف النصراني مسلما يزوج بنات الموصي بالمسلمات، ابن رشد، قوله: يرى لذلك وجها، مثل أن يكون قريبه أو مولاه، أو زوجته، فيزوجوا [حسب*] نظرهم لما في الحيلة من المودة والإشفاق على ذوي الرحم، وهو خلاف ظاهر المدونة إنه لَا تجوز الوصية إلى الْمَسْخُوطِ، ولا إلى الذمي، وقال أصبغ: إذا كان قريبا فلا ينزل، ويجعل معه من عدول المسلمين من ينظر معه، ويكون المال بيده وهو أحسن الأقوال وأولاها بالإتباع، وإليه ذهب ابن حبيب وحكاه عن مطرف وابن الماجشون [وابن شاش*]، وتصح الوصية بالمال للذمي، قال القاضي أبو الحسن القصار: ويكون للحربي عندي انتهى، وجوز وصية المسلم للكافر بالمال عللوه بأنه مكافأة عن يد [سلفت*]، فإن قلت: يعارضه قوله (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ) الآية، قلت: إنما المراد بذلك المسالمة وترك القتال لا المواصلة والمودة، وفي جامع العتبية في رسم القضاء من سماع أشهب وابن نافع، قيل لمالك: أترى بأسا أن يهدي المسلم لجاره النصراني مكافأة؟ فقال: ما يعجبني ذلك، قال: قال تعالى (لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ) الآية، ابن رشد: أي مكافأة على ما يجب عليه أن يكافئه لَا مكافأة على هدية أهداها إليه، أو لا ينبغي قبول هديته، لأن المقصود [من*] الهدايا التودد بها لحديث: "تَهَادَوْا تَحَابُّوا" فإن أخطأ، وقبل هديته، وكانت عنده، فالأحسن أن [ينبه عليها*]، ولما عرف القاضي في مداركه بأبي عبد الله محمد بن عبد العزيز بن علي المعروف بابن الحصار القرطبي، وكان من حفاظ الفقه ورواة الحديث، قال: كان له جار من النصارى [يقضي*] حوائجه، ومتى مر بدار
188
الشيخ وقف به فيهش إليه الشيخ ويدعوا له، بأن يقول له: أبقاك الله وتولاك، أقر الله عينك، سرني ما يسرك، جعل الله يومي قبل يومك، والنصراني يفرح لذلك، فعوتب الشيخ في ذلك، فقال: إنما هي [معاريض*] علم الله [نبأني بها*]، فأما قولي أبقاك الله وتولاك، فأريد بقاؤه لعدم الجزية، وأن يتولاه بعذابه، وقولي أقر الله عينك، فإني أريد [قرار*] حركتها بشيء [يعرض*] لها، فلا تتحرك جفونها، وقولي يسرني ما يسرك، فالقافية تسرني وتسره، وأتى لي الله يومي قبل يومك، فيوم دخول الجنة قبل يوم دخوله النار، وقول الزمخشري: نزلت فيمن يصحب السلطان، غير صحيح؛ لأن مالكا [كان*] يصحب الملوك ويجلس معهم، وذكروا في سبب نزولها أمرين:
أحدهما: يقتضي أنه ذم من واصل الكفار، وأظهر توددهم وعليه يدل أول الآية.
والآخر: يقتضي أنها في مدح من عاداهم وعليه يدل آخر الآية، ونزلت الآية على منع المودة بلفظ المفاعلة فتتمتع مودة المسلم لمن لم يقدر له شبه.
قوله تعالى: [(وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ) *] هذا من باب نفي ما يتوهم ثبوته أو من باب نفي المانع، كقولك: أكرم السائل ولو جاءك على فرس، والعطف [تدلي*] لا ترقي باعتبار رقة القلب على الأب أقوى منها على الابن، أو هو ترق باعتبار أن التعاضد بالآباء أقوى منه بالأبناء، لكثرة الأبناء وتعددهم؛ بخلاف الأب فإنه واحد، وكان القاضي أبو علي عمر بن عبد [الرفيع*] رحمه الله تعالى يقول: في الآية سؤال، كان الفقيه أبو عبد الله محمد بن علي بن يحيى ابن الفؤاد اللخمي يرده، وهو أن من حكم بحكم نفي أو إثبات ثم أخذ يذكر الموانع التي يستعيد معها وجود ذلك الحكم، فإنه يبتدئ بالأضعف منها ثم يترقى إلى ما هو أعلى منه وأبعد، أن يوجد معه الحكم ثم إلى ما هو أقوى في المنع من وجود ذلك الحكم، كقولك: أكرم السائل وإن أتاك على حمار، وإن أتاك على فرس، وإن علمت أن له دارا، ولَا شك أن رتبة الآباء أعلى من رتبة الأخوة وأشرف، بدليل الميراث ولأن ميل النفس إلى الابن أكثر، بدليل جواز شهادة الأخ لأخيه، ولا يجوز شهادة الأب لابنه، وجاءت هذه الآية على عكس هذا؛ لأنه سلك فيها مسلك التدلي، وقال: كنت أنا أجبته عن هذا السؤال، بأن الأب مفرد لا [يمكن*] فيه التعداد، والإنسان يركن إليه فبدئ به، والبنون يمكن أن يتعددوا ويكثروا
189
فيحصل همٌّ لأبيهم كحال [التعاون*] والنصرة على هذا فيكون [ميل*] النفس إليهم أشد بهذا المعنى، وأما الآخرة فيتناولون آخرة النسب وآخرة الإسلام، أعني الأصحاب؛ لأن البنين يتفرعون منه وحده، والآخرة يتفرعون من أبيه وابنه ومن أبيه خاصة ومن أمه خاصة وما يتفرع من أصل [... ] أقل مما يتفرع من ذلك، والعشيرة أكثر من ذلك كله، فسلك في الآية على هذا مسلك الترقي، وانظر ما يأتي بعد هذا في سورة الممتحنة ويقرر كون العطف ترقيا من وجه آخر أيضا، وهو أنه إذا كان الإيمان مانعا من موادة الأب الذي لَا يمكن خلقه عقلا، [فأحرى*] أن يمنع مِن موادة من يمكن خلقه وهو الابن، وفي سورة عبس (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) فقدم الأخ على الأب.
قوله (أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ).
قول النقاش: كتبه في [اللوح المحفوظ*]، اعتزال مع كونه سببا، وكذلك قول الطبري: قضى لقولهم الإيمان وكله بمعنى اللام، وكتب مشرب معنى قضى اعتزال أيضا، بل المراد خلق في قلوبهم الإيمان، وعبر عنه بالكتب؛ [ليفيد*] تحقيق ذلك وثبِوته، وكلام الزمخشري هنا أوله يوهم الصواب، وآخره اعتزال، في قوله في تفسير (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ)، أي بلطف من عنده، والمراد بالروح الهداية وسماها روحا؛ لأنها بها تحصل حياة النفوس حقيقة.
قوله تعالى: (وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ).
عطف المضارع على الماضي، إما لأن هذه جملة أخرى ابتدائية، فالمراد وهو يدخلهم، أي والله يدخلهم أو أن يدخلهم في معنى أدخلهم بإدخالهم لَا أنه أدخلهم بالفعل، لأن بعضهم [... ] حكى شيخنا أبو الحسن محمد ابن الشيخ أبي العباس أحمد البوني عن الشيخ الصالح أبي الحسن علي بن منتصر الصدفي: أنه حكى عن الشيخ الواعظ [أبي*] الحسن علي البوني كان ساكنا بحارة اليهود من تونس، وكان يقضي حوائجهم ويملأ لهم الماء من عنده ويسعفهم بمرادهم [ولا يكلهم إلى*] ما ينوبهم في رمي الزبل الذي هنالك، فلما مات تركوا ذلك كله، فطلبهم أهله بالرجوع إلى عادتهم، وقالوا لهم: إنه أوصانا عليكم فسألوهم عن موجب ذلك، فقالوا: موجبه من نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم أوصى على الجار، وأكد حقه فأسلموا كلهم ببركة الشيخ رحمة الله عليه.
* * *
190
Icon