تفسير سورة الممتحنة

أحكام القرآن
تفسير سورة سورة الممتحنة من كتاب أحكام القرآن .
لمؤلفه ابن العربي . المتوفي سنة 543 هـ
سورة الممتحنة فيها سبع آيات

الْآيَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ﴾.
فِيهَا ثَمَانِ مَسَائِلَ :
المسألة الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا :
رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ وَاللَّفْظُ فِي الْبُخَارِيِّ «أَنَّ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيَّ وَكَانَ عُثْمَانِيًّا قَالَ لِابْنِ عَطِيَّةَ وَكَانَ عَلَوِيًّا : قَدْ عَلِمْت مَا جَرَّأَ صَاحِبَك عَلَى الدِّمَاءِ، سَمِعْته يَقُولُ : بَعَثَنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالزُّبَيْرَ فَقَالَ : ائْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ وَتَجِدُونَ بِهَا امْرَأَةً أَعْطَاهَا حَاطِبٌ كِتَابًا، فَأَتَيْنَا الرَّوْضَةَ، فَقُلْنَا : الْكِتَابَ ؟ فَقَالَتْ : لَمْ يُعْطِنِي شَيْئًا، فَقُلْنَا : لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُجَرِّدَنَّكِ. فَأَخْرَجَتْهُ من حُجْزَتِهَا، أَوْ قَالَ : من عِقَاصِهَا.
فَأَرْسَلَ [ رَسُولُ اللَّهِ ] إلَى حَاطِبٍ فَقَالَ : لَا تَعْجَلْ، فَوَاَللَّهِ مَا كَفَرْت وَمَا ازْدَدْت لِلْإِسْلَامِ إلَّا حُبًّا، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ من أَصْحَابِك إلَّا وَلَهُ بِمَكَّةَ مَنْ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِي أَحَدٌ، فَأَحْبَبْت أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا، فَصَدَّقَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ عُمَرُ : دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَهُ فَإِنَّهُ قَدْ نَافَقَ. فَقَالَ لَهُ : مَا يُدْرِيك ! لَعَلَّ اللَّهَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ : اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ ». فَهَذَا الَّذِي جَرَّأَهُ وَنَزَلَتْ :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ. . . ﴾ الْآيَةَ، إلَى :﴿ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾.
المسألة الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ ﴾ : قَدْ بَيَّنَّا الْعَدَاوَةَ وَالْوِلَايَةَ وَأَنَّ مَآلَهُمَا إلَى الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فِي كِتَابِ الْأَمَدِ الْأَقْصَى.
المسألة الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ﴾ يَعْنِي فِي الظَّاهِرِ ؛ لِأَنَّ قَلْبَ حَاطِبٍ كَانَ سَلِيمًا بِالتَّوْحِيدِ، بِدَلِيلِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُمْ : أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ صَدَقَ ». وَهَذَا نَصٌّ فِي سَلَامَةِ فُؤَادِهِ وَخُلُوصِ اعْتِقَادِهِ.
المسألة الرَّابِعَةُ : مَنْ كَثُرَ تَطَلُّعُهُ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُنَبِّهُ عَلَيْهِمْ، وَيُعَرِّفُ عَدُوَّهُمْ بِأَخْبَارِهِمْ لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ كَافِرًا إذَا كَانَ فِعْلُهُ لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ، وَاعْتِقَادُهُ عَلَى ذَلِكَ سَلِيمٌ، كَمَا فَعَلَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ حِينَ قَصَدَ بِذَلِكَ اتِّخَاذَ الْيَدِ وَلَمْ يَنْوِ الرِّدَّةَ عَنْ الدِّينِ.
المسألة الْخَامِسَةُ : إذَا قُلْنَا : إنَّهُ لَا يَكُونُ بِهِ كَافِرًا [ فَاخْتَلَفَ النَّاسُ ] فَهَلْ يُقْتَلُ بِهِ حَدًّا أَمْ لَا ؟ فَقَالَ مَالِكٌ، وَابْنُ الْقَاسِمِ، وَأَشْهَبُ : يَجْتَهِدُ فِيهِ الْإِمَامُ. وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ : إذَا كَانَتْ تِلْكَ عَادَتَهُ قُتِلَ لِأَنَّهُ جَاسُوسٌ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ : يُقْتَلُ الْجَاسُوسُ، وَهُوَ صَحِيحٌ لِإِضْرَارِهِ بِالْمُسْلِمِينَ وَسَعْيِهِ بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ.
فَإِنْ قِيلَ وَهِيَ :
المسألة السَّادِسَةُ : هَلْ يُقْتَلُ كَمَا قَالَ عُمَرُ من غَيْرِ تَفْصِيلٍ، وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا بِأَنَّهُ من أَهْلِ بَدْرٍ ؛ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ وَحْدَهُ، وَيَبْقَى قَتْلُ غَيْرِهِ حُكْمًا شَرْعِيًّا، فَهَمَّ عُمَرُ بِهِ بِعِلْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ [ السَّلَامُ ] إلَّا بِالْعِلَّةِ الَّتِي خَصَّصَهَا بِحَاطِبٍ.
قُلْنَا : إنَّمَا قَالَ عُمَرُ : إنَّهُ يُقْتَلُ لِعِلَّةِ أَنَّهُ مُنَافِقٌ، فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَيْسَ بِمُنَافِقٍ فَإِنَّمَا يُوجِبُ عُمَرُ قَتْلَ مَنْ نَافَقَ، وَنَحْنُ لَا نَتَحَقَّقُ نِفَاقَ فَاعِلِ مِثْلِ هَذَا، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ نَافَقَ، وَاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ قَصَدَ بِذَلِكَ مَنْفَعَةَ نَفْسِهِ مَعَ بَقَاءِ إيمَانِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ مَا رُوِيَ فِي الْقِصَّةِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ : يَا حَاطِبُ ؛ أَنْتَ كَتَبْت الْكِتَابَ ؟ قَالَ : نَعَمْ، فَأَقَرَّ بِهِ وَلَمْ يُنْكِرْ، وَبَيَّنَ الْعُذْرَ فَلَمْ يَكْذِبْ »، وَصَارَ ذَلِكَ كَمَا لَوْ أَقَرَّ رَجُلٌ بِالطَّلَاقِ ابْتِدَاءً، وَقَالَ : أَرَدْت بِهِ كَذَا وَكَذَا لِلنِّيَّةِ الْبَعِيدَةِ الصِّدْقِ، وَلَوْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ وَادَّعَى فِيهِ النِّيَّةَ الْبَعِيدَةَ لَمْ يُقْبَلْ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ الْجَارُودِ سَيِّدَ رَبِيعَةَ أَخَذَ دِرْبَاسًا وَقَدْ بَلَغَهُ أَنَّهُ يُخَاطِبُ الْمُشْرِكِينَ بِعَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَمَّ بِالْخُرُوجِ إلَيْهِمْ، فَصَلَبَهُ فَصَاحَ يَا عُمَرَاهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَأَرْسَلَ عُمَرُ إلَيْهِ، فَلَمَّا جَاءَ أَخَذَ الْحَرْبَةَ فَعَلَا بِهَا لِحْيَتَهُ، وَقَالَ : لَبَّيْكَ يَا دِرْبَاسُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَقَالَ : لَا تَعْجَلْ ؛ إنَّهُ كَاتَبَ الْعَدُوَّ، وَهَمَّ بِالْخُرُوجِ إلَيْهِمْ، فَقَالَ : قَتَلْته عَلَى الْهَمِّ ! وَأَيُّنَا لَا يَهُمُّ.
فَلَمْ يَرَهُ عُمَرُ مُوجِبًا لِلْقَتْلِ، وَلَكِنَّهُ أَنْفَذَ اجْتِهَادَ ابْنِ الْجَارُودِ فِيهِ، لِمَا رَأَى من خُرُوجِ حَاطِبٍ عَنْ هَذَا الطَّرِيقِ كُلِّهِ. وَلَعَلَّ ابْنَ الْجَارُودِ إنَّمَا أَخَذَ بِالتَّكْرَارِ فِي هَذَا ؛ لِأَنَّ حَاطِبًا أُخِذَ فِي أَوَّلِ فِعْلِهِ.
المسألة السَّابِعَةُ : فَإِنْ كَانَ الْجَاسُوسُ كَافِرًا فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : يَكُونُ نَقْضًا لِعَهْدِهِ.
وَقَالَ أَصْبَغُ : الْجَاسُوسُ الْحَرْبِيُّ يُقْتَلُ، وَالْجَاسُوسُ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ يُعَاقَبَانِ إلَّا أَنْ يَتَعَاهَدَا عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَيُقْتَلَانِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «أَتَى بِعَيْنٍ لِلْمُشْرِكِينَ اسْمُهُ فُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ، فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُقْتَلَ، فَصَاحَ : يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ ؛ أُقْتَلُ وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخَلّي سَبِيلُهُ. ثُمَّ قَالَ : إنَّ مِنْكُمْ مَنْ أَكِلُهُ إلَى إيمَانِهِ، وَمِنْهُمْ فُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ ».
المسألة الثَّامِنَةُ : تَوَدَّدَ حَاطِبٌ إلَى الْكُفَّارِ لِيَجْلُبَ مَنْفَعَةً لِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَعْقِدْ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ.
وَقَدْ رَوَى جَابِرٌ «أَنَّ عَبْدًا لِحَاطِبٍ جَاءَ يَشْكُو حَاطِبًا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْك، لَيَدْخُلَنَّ حَاطِبٌ النَّارَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : كَذَبْت ؛ لَا يَدْخُلُهَا فَإِنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ ».
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَاَلَّذِينَ مَعَهُ ﴾.
وَهَذَا نَصٌّ فِي الِاقْتِدَاءِ بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي فِعْلِهِ، وَهَذَا يُصَحِّحُ أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا فِيمَا أَخْبَرَ اللَّهُ أَوْ رَسُولُهُ عَنْهُمْ.
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾، يَعْنِي فِي بَرَاءَتِهِمْ من قَوْمِهِمْ، وَمُبَاعَدَتِهِمْ لَهُمْ، وَمُنَابَذَتِهِمْ عَنْهُمْ، وَأَنْتُمْ بِمُحَمَّدٍ أَحَقُّ بِهَذَا الْفِعْلِ من قَوْمِ إبْرَاهِيمَ بِإِبْرَاهِيمَ «إلَّا قَوْلَ إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَك » فَلَيْسَ فِيهِ أُسْوَةٌ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ حُكْمَهُ فِي سُورَةِ " بَرَاءَةٍ ".
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ من دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
المسألة الْأُولَى : فِي بَقَاءِ حُكْمِهَا أَوْ نَسْخِهِ : فِيهِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ عِنْدَ الْمُوَادَعَةِ وَتَرْكِ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ ؛ ثُمَّ نُسِخَ ؛ قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ.
الثَّانِي : أَنَّهُ بَاقٍ، وَذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ خُزَاعَةُ وَمَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ.
الثَّانِي : مَا رَوَاهُ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ قُتَيْلَةَ أُمَّ أَسْمَاءَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَدِمَتْ عَلَيْهِمْ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَادَنَ فِيهَا كُفَّارَ قُرَيْشٍ، وَأَهْدَتْ إلَى أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قُرْطًا، فَكَرِهَتْ أَنْ تَقْبَلَ مِنْهَا، حَتَّى أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ ».
وَاَلَّذِي صَحَّ فِي رِوَايَةِ أَسْمَاءَ مَا بَيَّنَّاهُ من رِوَايَةِ الصَّحِيحِ فِيهِ من قَبْلُ.
المسألة الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ ﴾ أَيْ تُعْطُوهُمْ قِسْطًا من أَمْوَالِكُمْ [ عَلَى وَجْهِ الصِّلَةِ ]، وَلَيْسَ يُرِيدُ بِهِ من الْعَدْلِ ؛ فَإِنَّ الْعَدْلَ وَاجِبٌ فِيمَنْ قَاتَلَ وَفِيمَنْ لَمْ يُقَاتِلْ.
المسألة الثَّالِثَةُ : اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ مَنْ تُعْقَدُ عَلَيْهِ الْخَنَاصِرُ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الِابْنِ الْمُسْلِمِ عَلَى أَبِيهِ الْكَافِرِ، وَهَذِهِ وَهْلَةٌ عَظِيمَةٌ ؛ فَإِنَّ الْإِذْنَ فِي الشَّيْءِ أَوْ تَرْكِ النَّهْيِ عَنْهُ لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهِ، إنَّمَا يُعْطِيك الْإِبَاحَةَ خَاصَّةً. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ إسْمَاعِيلَ بْنَ إِسْحَاقَ الْقَاضِيَ دَخَلَ عَلَيْهِ ذِمِّيٌّ فَأَكْرَمَهُ، فَوَجَدَ عَلَيْهِ الْحَاضِرُونَ، فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَيْهِمْ.
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾.
فِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ مَسْأَلَةً :
المسألة الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا :
ثَبَتَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا صَالَحَ أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ كَانَ فِيهِ أَنَّ مَنْ جَاءَ من الْمُشْرِكِينَ إلَى الْمُسْلِمِينَ رُدَّ إلَيْهِمْ، وَمَنْ ذَهَبَ من الْمُسْلِمِينَ إلَى الْمُشْرِكِينَ لَمْ يُرَدَّ ؛ وَتَمَّ الْعَهْدُ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَدَّ أَبَا بَصِيرٍ عُتْبَةَ بْنَ أُسَيْدِ بْنَ حَارِثَةَ الثَّقَفِيَّ حِينَ قَدِمَ، وَقَدِمَ أَيْضًا نِسَاءٌ مُسْلِمَاتٌ مِنْهُنَّ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَسُبَيْعَةُ الْأَسْلَمِيَّةُ، وَغَيْرُهُمَا، فَجَاءَ الْأَوْلِيَاءُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلُوهُ رَدَّهُنَّ عَلَى الشَّرْطِ، وَاسْتَدْعَوْا مِنْهُ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إنَّمَا الشَّرْطُ فِي الرِّجَالِ لَا فِي النِّسَاءِ »، وَكَانَ ذَلِكَ من الْمُعْجِزَاتِ إلَّا أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَبَضَ أَلْسِنَتَهُمْ عَنْ أَنْ يَقُولُوا : غَدَرَ مُحَمَّدٌ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي النِّسَاءِ، وَذَلِكَ إحْدَى مُعْجِزَاتِهِ.
المسألة الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ :﴿ فَامْتَحِنُوهُنَّ ﴾ :
اخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ الِامْتِحَانِ عَلَى قَوْلَيْنِ :
أَحَدُهُمَا الْيَمِينُ رَوَاهُ أَبُو نَصْرٍ الْأَسَدِيُّ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَاهُ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِسُبَيْعَةَ وَكَانَ زَوْجُهَا صَيْفِيَّ بْنَ السَّائِبِ : بِاَللَّهِ مَا أَخْرَجَك من قَوْمِك ضَرْبٌ وَلَا كَرَاهِيَةٌ لِزَوْجِك، وَلَا أَخْرَجَك إلَّا حِرْصٌ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَرَغْبَةٌ فِيهِ، لَا تُرِيدِينَ غَيْرَهُ ».
الثَّانِي : وَهُوَ مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَمْتَحِنُ النِّسَاءَ بِهَذِهِ الْآيَةِ ».
المسألة الثَّالِثَةُ : فِي الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ لَمْ تُرِدْ النِّسَاءُ وَإِنْ دَخَلْنَ فِي عُمُومِ الشَّرْطِ، وَفِي ذَلِكَ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا لِرِقَّتِهِنَّ وَضَعْفِهِنَّ.
الثَّانِي : لِحُرْمَةِ الْإِسْلَامِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ :﴿ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ﴾ وَالْمَعْنَيَانِ صَحِيحَانِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُعَلَّلَ الْحُكْمُ بِعِلَّتَيْنِ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ.
المسألة الرَّابِعَةُ : خُرُوجُ النِّسَاءِ من عَهْدِ الرَّدِّ كَانَ تَخْصِيصًا لِلْعُمُومِ لَا نَاسِخًا لِلْعَهْدِ كَمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ الْغَافِلِينَ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي.
المسألة الْخَامِسَةُ : الَّذِي أَوْجَبَ فُرْقَةَ الْمُسْلِمَةِ من زَوْجِهَا [ هُوَ إسْلَامُهَا لَا ] هِجْرَتُهَا كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَهُوَ التَّلْخِيصُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الَّذِي فَرَّقَ بَيْنَهُمَا هُوَ اخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ، وَإِلَيْهِ إشَارَةٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، بَلْ عِبَارَةٌ قَدْ أَوْضَحْنَاهَا فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ. وَالْعُمْدَةُ فِيهِ هَاهُنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ قَالَ :﴿ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ﴾ فَبَيَّنَ أَنَّ الْعِلَّةَ عَدَمُ الْحِلِّ بِالْإِسْلَامِ، وَلَيْسَ اخْتِلَافَ الدَّارَيْنِ.
المسألة السَّادِسَةُ : أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى إذَا أُمْسِكَتْ الْمَرْأَةُ الْمُسْلِمَةُ أَنْ تَرُدَّ عَلَى زَوْجِهَا مَا أَنْفَقَ، وَذَلِكَ من الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مُنِعَ من أَهْلِهِ لِحُرْمَةِ الْإِسْلَامِ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُرَدَّ إلَيْهِ الْمَالُ، حَتَّى لَا يَقَعَ عَلَيْهِمْ خُسْرَانٌ من الْوَجْهَيْنِ : الزَّوْجَةِ، وَالْمَالِ.
المسألة السَّابِعَةُ : لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِرَدِّ مَا أَنْفَقُوا إلَى الْأَزْوَاجِ وَكَانَ الْمُخَاطَبُ بِهَذَا الْإِمَامَ يُنَفِّذُ ذَلِكَ مِمَّا بَيْنَ يَدَيْهِ من بَيْتِ الْمَالِ الَّذِي لَا يَتَعَيَّنُ لَهُ مَصْرِفٌ.
المسألة الثَّامِنَةُ : رَفَعَ اللَّهُ الْحَرَجَ فِي نِكَاحِهَا بِشَرْطِ الصَّدَاقِ، وَسَمَّى ذَلِكَ أَجْرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَبَيَانُ شَرْطٍ آخَرَ وَهُوَ الِاسْتِبْرَاءُ من مَاءِ الْكَافِرِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :«لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تَحِيضَ ؛ وَالِاسْتِبْرَاءُ هَا هُنَا بِثَلَاثِ حِيَضٍ وَهِيَ الْعِدَّةُ ». وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. ثُمَّ قَالَ وَهِيَ :
المسألة التَّاسِعَةُ :﴿ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ﴾ يَعْنِي إذْ أَسْلَمْنَ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ، لِمَا ثَبَتَ من تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُشْرِكَةِ وَالْمُعْتَدَّةِ ؛ فَعَادَ جَوَازُ النِّكَاحِ إلَى حَالَةِ الْإِيمَانِ ضَرُورَةً.
المسألة الْعَاشِرَةُ : قَوْلُهُ :﴿ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ﴾ : هَذَا بَيَانٌ لِامْتِنَاعِ نِكَاحِ الْمُشْرِكَةِ من جُمْلَةِ الْكَوَافِرِ، وَهُوَ تَفْسِيرُهُ وَالْمُرَادُ بِهِ.
قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ : أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ كَانَ لَهُ زَوْجَةٌ مُشْرِكَةٌ أَنْ يُطَلِّقَهَا. وَقَدْ كَانَ الْكُفَّارُ يَتَزَوَّجُونَ الْمُسْلِمَاتِ، وَالْمُسْلِمُونَ يَتَزَوَّجُونَ الْمُشْرِكَاتِ، ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا. وَكَانَ ذَلِكَ نَسْخَ الْإِقْرَارِ عَلَى الْأَفْعَالِ بِالْأَقْوَالِ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، فَطَلَّقَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حِينَئِذٍ قُرَيْبَةَ بِنْتَ أُمَيَّةَ، وَابْنَةَ جَرْوَلٍ الْخُزَامِيِّ ؛ فَتَزَوَّجَ قُرَيْبَةَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَتَزَوَّجَ ابْنَةَ جَرْوَلٍ أَبُو جَهْمٍ. فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ لِمُعَاوِيَةَ : طَلِّقْ قُرَيْبَةَ لِئَلَّا يَرَى عُمَرُ سَلَبَهُ فِي بَيْتِك، فَأَبَى مُعَاوِيَةُ ذَلِكَ.
المسألة الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ :﴿ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ﴾ :
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : كُلُّ مَنْ ذَهَبَ من الْمُسْلِمَاتِ مُرْتَدَّاتٍ [ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ ] إلَى الْكُفَّارِ يُقَالُ لِلْكُفَّارِ : هَاتُوا مَهْرَهَا وَيُقَالُ لِلْمُسْلِمِينَ إذَا جَاءَ أَحَدٌ من الْكَافِرَاتِ مُسْلِمَةً مُهَاجِرَةً : رُدُّوا إلَى الْكُفَّارِ مَهْرَهَا وَكَانَ ذَلِكَ نَصْفًا وَعَدْلًا بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ، وَكَانَ هَذَا حُكْمَ اللَّهِ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ الزَّمَانِ فِي تِلْكَ النَّازِلَةِ خَاصَّةً بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ.
المسألة الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : أَمَّا عَقْدُ الْهُدْنَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ فَجَائِزٌ عَلَى مَا مَضَى من سُورَةِ الْأَنْفَالِ لِمُدَّةٍ وَمُطْلَقًا إلَيْهِمْ لِغَيْرِ مُدَّةٍ.
فَأَمَّا عَقْدُهُ عَلَى أَنْ يَرُدَّ مَنْ أَسْلَمَ إلَيْهِمْ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا جَوَّزَهُ اللَّهُ لَهُ لِمَا عَلِمَ فِي ذَلِكَ من الْحِكْمَةِ، وَقَضَى فِيهِ من الْمَصْلَحَةِ، وَأَظْهَرَ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ من حُسْنِ الْعَاقِبَةِ وَحَمِيدِ الْأَثَرِ فِي الْإِسْلَامِ مَا حَمَلَ الْكُفَّارَ عَلَى الرِّضَا بِإِسْقَاطِهِ، وَالشَّفَاعَةِ فِي حَطِّهِ ؛ فَفِي الصَّحِيحِ :{ لَمَّا كَاتَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى قَصْرِ الْمُدَّةِ، فَجَاءَهُ أَبُو بَصِيرٍ رَجُلٌ من قُرَيْشٍ وَهُوَ مُسْلِمٌ، فَأَرْسَلُوا فِي طَلَبِهِ رَجُلَيْنِ، فَدَفَعَهُ إلَى الرَّجُلَيْنِ، فَخَرَجَا بِهِ حَتَّى بَلَغَا بِهِ ذَا الْحُلَيْفَةِ فَنَزَلُوا يَأْكُلُونَ، فَقَتَلَ أَبُو بَصِيرٍ أَحَدَهُمَا، وَمرَّ الْآخَرُ، حَتَّى أَتَى الْمَدِينَةَ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ يَعْدُو. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَقَدْ رَأَى هَذَا ذُعْرًا، فَجَاءَ أَبُو بَصِيرٍ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَقَدْ أَوْفَى اللَّهُ ذِمَّتَك، ثُمَّ أَنْجَانِي مِنْهُمْ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ لَوْ كَانَ مَعَهُ رِجَالٌ، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إلَيْهِمْ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى سِيفَ الْبَحْرِ قَالَ : وَتَفَلَّتَ مِنْهُمْ أَبُو جُنْدُبِ بْنُ سُهَيْلٍ، فَلَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ، وَجَعَلَ لَا يَخْرُجُ رَجُلٌ من قُرَيْشٍ أَسْلَمَ إلَّا لَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ، حَتَّى اجْتَمَعَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ، فَوَاَللَّهِ مَا يَسْمَعُونَ بِعِيرٍ خَرَجَتْ لِقُرَيْشٍ إلَى الشَّامِ إلَّا اعْتَرَضُوهُمْ فَقَتَلُوهُمْ، وَأَخَذُوا بِأَمْوَالِهِمْ. فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَنْشُدُهُ اللَّهَ وَالرَّحِمَ إلَّا أَرْسَلَ إلَيْهِمْ، فَمَنْ أَتَاهُ فَهُوَ آمِنٌ. فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ :{ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْد
الْآيَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ من أَزْوَاجِكُمْ إلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ﴾.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
المسألة الْأُولَى : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : الْمَعْنَى إنْ ارْتَدَّتْ امْرَأَةٌ وَلَمْ يَرُدَّ الْكُفَّارُ صَدَاقَهَا إلَى زَوْجِهَا كَمَا أُمِرُوا فَرُدُّوا أَنْتُمْ إلَى زَوْجِهَا مِثْلَ مَا أَنْفَقَ.
المسألة الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَعَاقَبْتُمْ ﴾ :
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : الْمُعَاقَبَةُ الْمُنَاقَلَةُ عَلَى تَصْيِيرِ كُلِّ وَاحِدٍ من الشَّيْئَيْنِ مَكَانَ الْآخَرِ عَقِيبَ ذَهَابِ عَيْنِهِ، فَأَرَادَ : فَعَوَّضْتُمْ مَكَانَ الذَّاهِبِ لَهُمْ عِوَضًا، أَوْ عَوَّضُوكُمْ مَكَانَ الذَّاهِبِ لَكُمْ عِوَضًا، فَلْيَكُنْ من مِثْلِ الَّذِي خَرَجَ عَنْكُمْ أَوْ عَنْهُمْ عِوَضًا من الْفَائِتِ لَكُمْ أَوْ لَهُمْ.
المسألة الثَّالِثَةُ : فِي مَحَلِّ الْعَاقِبَةِ :
وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
أَحَدُهَا من الْفَيْءِ ؛ قَالَهُ الزُّهْرِيُّ.
الثَّانِي : من مَهْرٍ إنْ وَجَبَ لِلْكُفَّارِ فِي زَوْجِ أَحَدٍ مِنْهُمْ عَلَى مَذْهَبِ اقْتِصَاصِ الرَّجُلِ من مَالِ خَصْمِهِ إذَا قَدَرَ عَلَيْهِ دُونَ أَذِيَّةٍ.
الثَّالِثُ : أَنَّهُ يُرَدُّ من الْغَنِيمَةِ.
وَفِي كَيْفِيَّةِ رَدِّهِ من الْغَنِيمَةِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يُخْرَجُ الْمَهْرُ وَالْخُمُسُ ثُمَّ تَقَعُ الْقِسْمَةُ، وَهَذَا مَنْسُوخٌ إنْ صَحَّ.
الثَّانِي : أَنَّهُ يُخْرَجُ من الْخُمُسِ، وَهُوَ أَيْضًا مَنْسُوخٌ، وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْآيَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا جَاءَك الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَك عَلَى أَلَّا يُشْرِكْنَ بِاَللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَك فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾. فِيهَا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً :
المسألة الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :﴿ إذَا جَاءَك الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَك عَلَى أَلَّا يُشْرِكْنَ بِاَللَّهِ شَيْئًا. . . ﴾ الْآيَةَ.
عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ :«مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْتَحِنُ إلَّا بِهَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ :﴿ إذَا جَاءَك الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَك. . . ﴾ الْآيَةَ.
قَالَ مَعْمَرٌ : فَأَخْبَرَنِي ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : مَا مَسَّتْ يَدُهُ يَدَ امْرَأَةٍ إلَّا امْرَأَةٍ يَمْلِكُهَا. وَعَنْ عَائِشَةَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ :«مَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَ امْرَأَةٍ وَقَالَ : إنِّي لَا أُصَافِحُ النِّسَاءَ، إنَّمَا قَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ كَقَوْلِي لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ ». وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ صَافَحَهُنَّ عَلَى ثَوْبِهِ.
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ صَافَحَهُنَّ عَنْهُ، وَأَنَّهُ كَلَّفَ امْرَأَةً وَقَفَتْ عَلَى الصَّفَا فَبَايَعَتْهُنَّ.
وَذَلِكَ ضَعِيفٌ ؛ وَإِنَّمَا يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَى مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ.
المسألة الثَّانِيَةُ : رُوِيَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّهُ قَالَ :«كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : تُبَايِعُونِي عَلَى أَلَّا تُشْرِكُوا بِاَللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَسْرِقُوا وَلَا تَزْنُوا أَيُّهَا النِّسَاءُ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُنَّ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ من ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فَهُوَ لَهُ كَفَّارَةٌ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْهَا شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إلَى اللَّهِ إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ » ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَيْعَةَ الرَّجُلِ فِي الدِّينِ كَبَيْعَةِ النِّسَاءِ إلَّا فِي الْمَسِيسِ بِالْيَدِ خَاصَّةً.
المسألة الثَّالِثَةُ : ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ :«شَهِدْت الصَّلَاةَ يَوْمَ الْفِطْرِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، فَكُلُّهُمْ يُصَلِّيهَا قَبْلَ الْخُطْبَةِ، ثُمَّ يَخْطُبُ بَعْدُ فَنَزَلَ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إلَيْهِ حِينَ يُجَلِّسُ الرِّجَالَ بِيَدِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ يَشُقُّهُمْ حَتَّى أَتَى النِّسَاءَ وَمَعَهُ بِلَالٌ، فَقَرَأَ :﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا جَاءَك الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَك عَلَى أَلَّا يُشْرِكْنَ بِاَللَّهِ شَيْئًا ﴾ الْآيَةَ كُلَّهَا، ثُمَّ قَالَ حِينَ فَرَغَ : أَنْتُنَّ عَلَى ذَلِكَ ؟ قَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ وَاحِدَةٌ لَمْ يُجِبْهُ غَيْرُهَا : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. لَا يَدْرِي الْحَسَنُ مَنْ هِيَ. قَالَ : فَتَصَدَّقْنَ وَبَسَطَ بِلَالٌ ثَوْبَهُ فَجَعَلْنَ يُلْقِينَ الْفَتَخَ وَالْخَوَاتِمَ فِي ثَوْبِ بِلَالٍ ».
المسألة الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ :﴿ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ ﴾ يَعْنِي بِالْوَأْدِ وَالِاسْتِتَارِ عَنْ الْعَمْدِ إذَا كَانَ عَنْ غَيْرِ رِشْدَةٍ ؛ فَإِنَّ رَمْيَهُ كَقَتْلِهِ، وَلَكِنَّهُ إنْ عَاشَ كَانَ إثْمُهَا أَخَفَّ.
المسألة الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ :﴿ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ ﴾ :
قِيلَ فِي أَيْدِيهِنَّ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : المسألة.
الثَّانِي : أَكْلُ الْحَرَامِ
المسألة السَّادِسَةُ : قَوْلُهُ :﴿ وَأَرْجُلِهِنَّ ﴾ :
فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ الْكَذِبُ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ
الثَّانِي : هُوَ إلْحَاقُ وَلَدٍ بِمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ.
الثَّالِثُ : أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَمَّا بَيْنَ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ.
المسألة السَّابِعَةُ :﴿ وَلَا يَعْصِينَك فِي مَعْرُوفٍ ﴾ :
فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ النِّيَاحَةُ.
الثَّانِي : أَلَّا يُحَدِّثْنَ الرِّجَالَ.
الثَّالِثُ : أَلَّا يَخْمُشْنَ وَجْهًا، وَلَا يَشْقُقْنَ جَيْبًا، وَلَا يَرْفَعْنَ صَوْتًا، وَلَا يَرْمِينَ عَلَى أَنْفُسِهِنَّ نَقْعًا
المسألة الثَّامِنَةُ : فِي تَنْخِيلِ هَذِهِ الْمَعَانِي :
أَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ قَوْلَهُ ﴿ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ ﴾ يَعْنِي المسألة فَهُوَ تَجَاوُزٌ كَبِيرٌ ؛ فَإِنَّ أَصْلَهَا اللِّسَانُ وَآخِرَهَا أَنْ أُعْطِيَ شَيْئًا فِي الْيَدِ.
وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّهُ أَكْلُ الْحَرَامِ أَقْرَبُ، وَكَأَنَّهُ عَكْسُ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الْحَرَامَ يَتَنَاوَلُهُ بِيَدِهِ فَيَحْمِلُهُ إلَى لِسَانِهِ، وَالمسألة يَبْدَؤُهَا بِلِسَانِهِ وَيَحْمِلُهَا إلَى يَدِهِ، وَيَرُدُّهَا إلَى لِسَانِهِ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ كِنَايَةٌ عَمَّا بَيْنَ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ، فَهُوَ أَصْلٌ فِي الْمَجَازِ حَسَنٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ :﴿ وَلَا يَعْصِينَك فِي مَعْرُوفٍ ﴾ فَهُوَ نَصٌّ فِي إيجَابِ الطَّاعَةِ ؛ فَإِنَّ النَّهْيَ عَنْ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ، إمَّا لَفْظًا أَوْ مَعْنًى عَلَى اخْتِلَافِ الْأُصُولِيِّينَ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا [ مَعْنَى ] تَخْصِيصِ قَوْلِهِ :﴿ فِي مَعْرُوفٍ ﴾ وَقُوَّةُ قَوْلِهِ :﴿ لَا يَعْصِينَك ﴾ يُعْطِيهِ ؛ لِأَنَّهُ عَامٌّ فِي وَظَائِفِ الشَّرِيعَةِ، وَهِيَ :
المسألة التَّاسِعَةُ : فَفِيهِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِلْمَعْنَى عَلَى التَّأْكِيدِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :﴿ قَالَ رَبِّ اُحْكُمْ بِالْحَقِّ ﴾ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ " اُحْكُمْ " لَكَفَى.
الثَّانِي أَنَّهُ إنَّمَا شَرَطَ الْمَعْرُوفَ فِي بَيْعَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى يَكُونَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ أَوْلَى بِذَلِكَ، وَأَلْزَمُ لَهُ، وَأَنْفَى لِلْإِشْكَالِ فِيهِ.
وَفِي الْآثَارِ :«لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ ».
المسألة الْعَاشِرَةُ : رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا بَايَعَ النِّسَاءَ عَلَى هَذَا قَالَ لَهُنَّ :«فِيمَا أَطَقْتُنَّ » فَيَقُلْنَ : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَرْحَمُ بِنَا من أَنْفُسِنَا ».
وَهَذَا بَيَانٌ من النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِحَقِيقَةِ الْحَالِ ؛ فَإِنَّ الطَّاقَةَ مَشْرُوطَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ، مَرْفُوعٌ عَنْ الْمُكَلَّفِينَ مَا نَافَ عَلَيْهَا، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.
المسألة الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : رَوَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ فِي الصَّحِيحِ قَالَتْ :«بَايَعَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَرَأَ عَلَيْنَا : أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاَللَّهِ شَيْئًا، وَنَهَانَا عَنْ النِّيَاحَةِ، فَقَبَضَتْ امْرَأَةٌ عَلَى يَدِهَا وَقَالَتْ : أَسْعَدَتْنِي فُلَانَةُ أُرِيدُ أَنْ أَجْزِيَهَا. فَمَا قَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا، فَانْطَلَقَتْ فَرَجَعَتْ فَبَايَعَهَا »، فَيَكُونُ هَذَا تَفْسِيرَ قَوْلِهِ :﴿ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ ﴾ ؛ وَذَلِكَ تَخْمِيشُ وُجُوهٍ، وَشَقُّ جُيُوبٍ.
وَفِي الصَّحِيحِ :«لَيْسَ مِنَّا مَنْ خَمَشَ الْوُجُوهَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ ». فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ جَازَ أَنْ تُسْتَثْنَى مَعْصِيَةٌ، وَتَبْقَى عَلَى الْوَفَاءِ بِهَا، وَيُقِرُّهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ذَلِكَ ؟
قُلْنَا : وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْكَافِي، مِنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْهَلَهَا حَتَّى تَسِيرَ إلَى صَاحِبَتِهَا لِعِلْمِهِ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَبْقَى فِي نَفْسِهَا، وَإِنَّمَا تَرْجِعُ سَرِيعًا عَنْهُ، كَمَا رُوِيَ أَنَّ بَعْضَهُمْ شَرَطَ أَلَّا يَخِرَّ إلَّا قَائِمًا، فَقِيلَ فِي أَحَدِ تَأْوِيلَيْهِ : إنَّهُ لَا يَرْكَعُ، فَأَمْهَلَهُ حَتَّى آمَنَ، فَرَضِيَ بِالرُّكُوعِ.
وَقِيلَ : أَرَادَتْ أَنْ تَبْكِيَ مَعَهَا بِالْمُقَابَلَةِ الَّتِي هِيَ حَقِيقَةُ النَّوْحِ خَاصَّةً.
المسألة الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : فِي صِفَةِ أَرْكَانِ الْبَيْعَةِ عَلَى أَلَّا يُشْرِكْنَ بِاَللَّهِ شَيْئًا. . . إلَى آخِرِ الْخِصَالِ السِّتِّ.
صَرَّحَ فِيهِنَّ بِأَرْكَانِ النَّهْيِ فِي الدِّينِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَرْكَانَ الْأَمْرِ ؛ وَهِيَ الشَّهَادَةُ، وَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ، وَالصِّيَامُ، وَالْحَجُّ، وَالِاغْتِسَالُ من الْجَنَابَةِ ؛ وَهِيَ سِتَّةٌ فِي الْأَمْرِ فِي الدِّينِ وَكِيدَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي قِصَّةِ جِبْرِيلَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَفِي اعْتِمَادِهِ الْإِعْلَامَ بِالْمَنْهِيَّاتِ دُونَ الْمَأْمُورَاتِ حُكْمَانِ اثْنَانِ :
أَحَدُهُمَا أَنَّ النَّهْيَ دَائِمٌ، وَالْأَمْرُ يَأْتِي فِي الْفَتَرَاتِ ؛ فَكَانَ التَّنْبِيهُ عَلَى اشْتِرَاطِ الدَّائِمِ أَوْكَدَ.
الثَّانِي : أَنَّ هَذِهِ الْمَنَاهِيَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ كَثِيرٌ مَنْ يَرْتَكِبُهَا، وَلَا يَحْجِزُهُنَّ عَنْهَا شَرَفُ الْحَسَبِ، وَلِذَلِكَ رُوِيَ «أَنَّ الْمَخْزُومِيَّةَ سَرَقَتْ، فَأَهَمَّ قُرَيْشًا أَمْرُهَا، وَقَالُوا : مَنْ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا أُسَامَةُ، فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ من حُدُودِ اللَّهِ »، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
فَخَصَّ اللَّهُ ذَلِكَ بِالذِّكْرِ لِهَذَا، كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ :«آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ ؛ آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاَ
Icon