تفسير سورة الطارق

نظم الدرر
تفسير سورة سورة الطارق من كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور المعروف بـنظم الدرر .
لمؤلفه برهان الدين البقاعي . المتوفي سنة 885 هـ
سورة الطارق١
مقصودها/بيان مجد القرآن في صدقه في الإخبار بتنعيم أهل الإيمان، وتعذيب أهل الكفران، في يوم القيامة حين تبلى السرائر وتكشف المخبآت [ الضمائر-٢ ] عن مثقال٣ الذر وما دون المثقال، ٤مما دونته٥الحفظة الكرام في صحائف الأعمال، بعد استيفاء الآجال، كما قدر في أزل الآزال٦، من غير استعجال، ولا تأخير عن الوقت المضروب ولا إهمال، واسمها الطارق أدل ما فيها على هذا الموعود الصادق بتأمل القسم والمقسم عليه حسب ما اتسق٧ الكلام إليه ﴿ بسم الله ﴾ الذي له٨ الكمال كله ﴿ الرحمن ﴾ الذي وسع الخلائق ٩ فضله و١٠ عدله ﴿ الرحيم* ﴾ الذي خص أولياءه بتوفيقه فظهر عليهم جوده ١١وإحسانه وكرمه١٢ وفضله.
١ السادسة والثمانون من سور القرآن الكريم، مكية، وعدد آيها ١٧..
٢ زيد من ظ..
٣ من م، وفي الأصل و ظ: مثاقيل..
٤ من ظ و م، وفي الأصل: ما تدونته..
٥ من ظ و م، وفي الأصل: ما تدونته..
٦ من ظ وم، وفي الأصل: الأزل..
٧ من م، وفي الأصل: اتساق، وفي ظ: إنساق..
٨ زيد في الأصل: الجمال و، ولم تكن الزيادة في ظ و م فحذفناها..
٩ سقط ما بين الرقمين من م..
١٠ سقط ما بين الرقمين من م..
١١ سقط ما بين الرقمين من م..
١٢ سقط ما بين الرقمين من م..

لما تقدم في آخر البروج أن القرآن في لوح محفوظ لأن منزله محيط بالجنود من المعاندين وبكل شيء، أخبر أن من إحاطته حفظ كل فرد من جميع الخلائق المخالفين والموافقين والمؤالفين،
370
ليجازى على أعماله يوم إحقاق الحقائق وقطع العلائق، فقال مقسماً على ذلك لإنكارهم له: ﴿والسماء﴾ أي ذات الأنجم الموضوعة لحفظها من المردة لأجل حفظ القرآن المجيد الحافظ لطريق الحق، قال الملوي: والمراد بها هنا ذات الأفلاك الدائرة لا السماوات العلى بما جعل فيها من ليل ونهار ودورتهما ثلاثمائة وستين درجة لا تتغير أبداً في هذه الدار بنقص ولا زيادة بنصف درجة ولا دقيقة ولا ثانية ولا ما دون ذلك، بل كلما زاد أحدهما شيئاً نقص من الآخر بحسابه عرف ذلك من العقل والنقل والتجربة فعرف أنه يحفظ حفيظ حي لا يموت، قيوم لا يغفل ولا ينام - انتهى.
ولما أقسم بالسماء لما لها من الشرف والمجد تنبيهاً على ما فيها من بدائع الصنع الدالة على القدرة الباهرة. أقسم بأعجب ما فيها وهو جنس النجوم ثم بأعربه وهو المعد للحراسة تنبيهاً على ما في ذلك من غرائب القدرة فقال: ﴿والطارق﴾ أي جنس الكواكب الذي يبدو ليلاً ويخفى نهاراً، ويطرق مسترقي السمع فيبدد شملهم ويهلك من أراد الله منهم لأجل هداية الناس بالقرآن في الطرق المعنوية وظهوره وإشراقه في السماء لهدايتهم في الطرق الحسية وهو في الأصل
371
لسالك الطريق، واختص عرفاً بالآتي ليلاً لأنه يجد الأبواب مغلقة فيحتاج إلى طرقها، ثم استعمل للبادي فيه كالنجم.
ولما كان الطارق يطلق على غير النجم أبهمه أولاً ثم عظم المقسم به بقوله: ﴿وما أدراك﴾ أي عرفك يا أشرف خلقنا عليه الصلاة والسلام وإن حاولت معرفة ذلك وبالغت في الفحص عنه ﴿ما الطارق *﴾ ثم زاده تهويلاً بتفسيره بعد إبهامه مرة أخرى بقوله تعالى: ﴿النجم الثاقب *﴾ أي المتوهج العالي المضيء كأنه يثقب الظلام بنوره فينفذ فيه، يقال: أثقب نارك للموقد، أو يثقب بضوئه الأفلاك فتشف عنه، أو يثقب الشيطان بناره إذا استرق السمع، والمراد الجنس أو معهود بالثقب وهو زحل، عبر عنه أولاً بوصف عام ثم فسره بما يخصه تفخيماً لشأنه لعلو مكانه.
ولما ذكر الذي دل به على حفظ القرآن عن التلبيس وعلى حفظ الإنسان، ذكر جوابه في حفظ النفوس التي جعل فيها قابلية لحفظ القرآن في الصدور، ودل على حفظ ما خلق لأجلها من هذه الأشياء المقسم بها على حفظ الإنسان لأنها إذا كانت محفوظة عن أدنى زيغ وهي مخلوقة لتدبير مصالحه فما الظن به؟ فقال مؤكداً غاية التأكيد لما للكفرة من إنكار ذلك والطعن فيه
372
﴿إن﴾ بالتخفيف من الثقيلة في قراءة الجمهور أي أن الشأن ﴿كل نفس﴾ أي من الأنفس مطلقاً لا سيما نفوس الناس ﴿لما عليها﴾ أي بخصوصها لا مشارك لها في ذاتها ﴿حافظ *﴾ أي رقيب عتيد لا يفارقها، والمراد به الجنس من الملائكة، فبعضهم لحفظها من الآفات، وبعضهم لحفظها من الوساوس، وبعضهم لحفظ أعمالها وإحصائها بالكتابة، وبعضهم لحفظ ما كتب لها من رزق وأجل وشقاوة أو سعادة ومشي؟ ونكاح وسفر وإقامة، فلا يتعدى شيئاً من ذلك نحن قسمنا نحن قدرنا، فإن قلت: إن الحافظ الملائكة، صدقت، وإن قلت: إنه الله، صدقت، لأنه الآمر لهم والمقدر على الحفظ، والحافظ لهم من الوهن والزيغ، فهو الحافظ الحقيقي، واللام في هذه القراءة هي الفارقة بين المخففة والنافية «وما» مؤكدة بنفي صدر ما أثبتته الجملة، «وحافظ» خبر «إن» ويجوز أن يكون الظرف الخبر، و «حافظ» مرتفع به، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بتشديد «لما» على أنها بمعنى «إلا» و «إن» نافية بمعنى «ما»، والمستثنى منه «كل نفس» وخبر النافية محذوف تقديره: كائنة أو موجودة أو نحوهما، والمستثنى «نفس» موصوفة ب «عليها حافظ» ويحتمل أن يكون حالاً فمحله يحتمل
373
الرفع بأنه خبر النافي في هذا الاستثناء المفرغ عند بني نميم، والنصب بأنه خبر عند غيرهم، أو حال من «نفس»، لأنها عامة، والتقدير: ما كل نفس موجودة إلا نفس كائناً أو كائن عليها حافظ، والنسبة بين مفهومي القراءتين أن المشدد أخص لأنها دائمة مطلقة، والمخففة مطلقة عامة، ولا يظن أن المشددة غير مساوية للمخففة، فضلاً عن أن تكون أخص لأن حرف النفي دخل على «كل» وهو من أسوار السلب الجزئي كما تقرر في موضعه فينحل إلى أن بعض النفوس ليس إلا عليها حافظ وإنما كان لا يظن ذلك لأنها تنحل لما فيها من الحصر المتضمن للنفي والإثبات إلى جملتين، إحداهما إثبات الحفظ للنفس الموصوفة والأخرى سلب نقيضه عنها، لأنه من قصر الموصوف على الصفة.
ونقيض الكلية الموجبة الجزئية السالبة أي ليس كل نفس عليها حافظ والسالبة الجزئية أعم من السالبة الكلية، فإذا نفيتها قلت: ليس ليس كل نفس عليها حافظ فهو سلب السلب الجزئي، وإذا سلب السلب الجزئي سلب الكلي لما تبين أنه أخف. وإذا انتفى الأعم انتفى الأخص فلا شيء من الأنفس ليس عليها حافظ، فانحل الكلام إلى: لا نفس
374
كائنة إلا نفس عليها حافظ، وإن كان لفظ «ليس كل» من أسوار الجزئية لما مضى، فصارت الآية على قراءة التشديد مركبة من مطلقة عامة هي «كل نفس عليها حافظ» بالفعل.
ومن سلب نقيضها وهو الدائمة المطلقة الذي هو «دائماً ليس كل نفس عليها حافظ» ورفعه بأن يقال: ليس دائماً ليس كل نفس ليس عليها حافظ، أي ليس دائماً كل نفس ليس عليها حافظ، وذلك على سبيل الحصر وقصر الموصوف على الصفة، معناه أن الموصوف لا يتعدى صفته التي قصر عليها، فأقل الأمور أن لا يتجاوزها إلى عدم الحفظ، وذلك معنى الدائمة المطلقة وهو الحكم بثبوت المحمول للموضوع ما دام ذات الموضوع موجودة، وهي على قراءة التخفيف مطلقة عامة أي حكم فيها بثبوت المحمول للموضوع بالفعل وهو الجزء الأول مما انحلت إليه قراءة التشديد، فمفهوم الآية في قراءة التشديد أخص منه في قراءة التخفيف، لأن كل دائم كائن بالفعل، ولا ينعكس - هذا إذا نظرنا إلى نفس المفهوم من اللفظ مع قطع النظر عن الدلالة الخارجية، وأما بالنظر إلى نفس الأمر فالجهة الدوام فلا فرق، غير أنه دل عليها باللفظ في قراءة التشديد دون قراءة التخفيف والله تعالى أعلم.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير رحمه الله تعالى: لما قال الله
375
سبحانه وتعالى في سورة البروج ﴿والله على كل شيء شهيد﴾ [البروج: ٩] ﴿والله من ورائهم محيط﴾ [البروج: ٢٠] وكان في ذلك تعريف العباد بأنه سبحانه وتعالى لا يغيب عنه شيء ولا يفوته شيء ولا ينجو منه هارب، أردف ذلك بتفصيل يزيد إيضاح ذلك التعريف الجملي من شهادته سبحانه وتعالى على كل شيء وإحاطته به فقال تعالى ﴿إن كل نفس لما عليها حافظ﴾ [الطارق: ٤] فأعلم الله سبحانه وتعالى بخصوص كل نفس ممن يحفظ أنفاسها «ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد» ليعلم العبد أنه ليس بمهمل ولا مضيع، وهو سبحانه وتعالى الغني عن كتب الحفظة وإحصائهم وشهادة الشهود من الأعضاء وغيرهم، وإنما كان ذلك لإظهار عدله سبحانه وتعالى ﴿إن الله لا يظلم مثقال ذرة﴾ [النساء: ٤٠] ولا أقل من المثقال، ولكن هي سنته حتى لا يبقى لأحد حجة ولا تعلق، وأقسم سبحانه وتعالى على ذلك تحقيقاً وتأكيداً يناسب القصد المذكور - انتهى.
ولما كان التقدير: لأنه لا بد له من العرض على الخالق سبحانه وتعالى لأن التوكيل بالإنسان لا يكون إلا لعرضه على الملك الديان صاحب الأمر والبرهان ومحاسبته له على ما كان، كان التقدير: يحفظ أعمالها
376
ويكتبها ليحاسبها الملك على ذلك، فتسبب عنه قوله تعالى: ﴿فلينظر﴾ أي بالبصيرة ﴿الإنسان﴾ أي الآنس بنفسه الناظر في عطفه إن كان يسلك في ذلك ﴿مم﴾ أي من أي شيء، وبنى للمفعول العامل في من أمر بالنظر وهو قوله: ﴿خلق *﴾ إعلاماً بأن الدال هو مطلق الخلق، وتنبيهاً على تعظيم الفاعل بأن العلم به غير محتاج إلى ذكره باللفظ لأنه لا يقدر على صنعة من صنائعه غيره، وأمر الإنسان بهذا النظر ليعلم بأمر مبدئه أمر معاده، فإن من قدر على الابتداء قدر على الإعادة قطعاً، فإذا صح عنده ذلك اجتهد في أن لا يملي على حافظيه إلا ما يرضي الله تعالى يوم عرضه على الملك الديان ليسره وقت حسابه.
ولما نبه بالاستفهام على أن هذا أمر جداً ينبغي لكل أحد أن يترك جميع مهماته ويتفرغ للنظر فيه فإنه يكسبه السعادة الأبدية الدائمة، وكان الإنسان - مع كونه ضعيفاً عاجزاً - لا ينفك عن شاغل ومفتر، فلا يكاد يصح له نظر، تولى سبحانه وتعالى شرح ذلك عنه فأجاب الاستفهام بقوله: ﴿خلق﴾ أي الإنسان على أيسر وجه وأسهله بعد خلق أبيه آدم عليه الصلاة والسلام من تراب، وأمه حواء عليها السلام من ضلعه ﴿من ماء دافق *﴾ أي هو - لقوة دفق الطبيعة له -
377
كأنه يدفق بنفسه فهو إسناد مجازي، والدفق لصاحبه، أو هو مثل «لابن» أي ذي دفق، والدفق صب فيه دفع، ولم يقل: ماءين - إشارة إلى أنهما يجتمعان في الرحم ويمتزجان أشد امتزاج بحيث يصيران ماءً واحداً.
ولما كان المراد به ماء الرجل وماء المرأة قال: ﴿يخرج﴾ وبعض بإثبات الجار فأفهم الخروج عن مقره بقوله: ﴿من بين الصلب﴾ أي صلب الرجل وهو عظم مجتمع من عظام مفلكة أحكم ربطها غاية الإحكام من لدن الكاهل إلى عجب الذنب ﴿والترائب *﴾ أي ترائب المرأة وهي عظام الصدر حيث تكون القلادة، وصوبه ابن جرير، أو ما ولي الترقوتين منه، أو ما بين الثديين والترقوتين أو أربعة أضلاع من يمنة الصدر، وأربعة من يسرته، أو اليدان والرجلان والعينان، وعلى كل تقدير شهوتها من أمامها وشهوة الرجل فيما غاب عنه من ورائه، ولو نزع الخافض لأفهم أن الماء يملأ البين المذكور ولم يفهم أنه يخرج عن صاحبي البين، قال البيضاوي: ولو صح أن النطفة تتولد
378
من فضل الهضم الرابع وتنفصل عن جميع الأعضاء حتى تستعد لأن يتولد منها مثل تلك الأعضاء، ومقرها عروق ملتف بعضها بالبعض عند الأنثيين، فلا شك أن الدماغ أعظم الأعضاء معونة في توليدها، ولذلك تشبهه ويسرع الإفراط في الجماع بالضعف فيه وله خليفة وهو النخاع وهو في الصلب، وشعب كثيرة نازلة إلى الترائب وهما أقرب إلى أوعية المني فلذلك خصا بالذكر. وقال الملوي: فالذي أخرجه من ظروف عظام الصلب والترائب إلى أن صيره في محله من الأنثيين إلى أن دفق واعتنى بعد ذلك بنقله من خلق إلى خلق بعد كل أربعين يوماً إلى أن صيره إنساناً يعقل ويتكلم ويبني القصور، ويهدم الصخور، قادر على بعثه.
ولما علم بالحفظ والخلق في الأطوار المشار إليها أنه خلق لأمر عظيم وهو الحساب، وثبت بالقدرة على ابتدائه من هذا الماء وبتطويره في الحالات المشار إليها بذكر الماء، المعلومة لكل أحد القدرة على الإعادة بلا فرق إلا كون الإعادة على ما نعرف أسهل، وكان العرب ينكرونها، قال مؤكداً استئنافاً لمن يقول: قد نظرت في ذلك فمه: ﴿إنه﴾
379
أي خالقه القادر على ما ذكر من شؤونه المدلول على عظمه ببناء «خلق» للمفعول ﴿على رجعه﴾ أي رجع الإنسان بالعبث ورده إلى حالته الأولى وخلقه الأول كما كان قبل الموت وعلى رد هذا الماء الدافق إلى مجاريه التي خرج منها وحله إلى المائية بعد انعقاده عظماً ولحماً ودماً ﴿لقادر *﴾ أي لثابتة قدرته على ذلك أتم ثبات، فمن أيسر ما يكون عنده سبحانه وتعالى رده بعد شيخوخته على عقبه بأن يجعله كهلاً ثم شاباً ثم طفلاً ثم مضغة ثم علقة ثم نطفة ثم يدفعه إلى ذكر الرجل ورحم المرأة ثم إلى صلبه وترائبها وهو أهون عليه، وذلك كقدرته على رده بالبعث، وعبر ب «أنه» ولم يقل: إن الله - مثلاً لأنه أقعد لأنه يقال لكل إنسان: من أخرجك على هذه الهيئة فصيرك على هذه الصفة؟ فإذا قال: القادر على كل شيء بقدرته الكاملة، قيل له: وبتلك القدرة بعينها يعيدك، ولو سمى له اسم غير الضمير لكان ربما قال: ليس هو خالقي.
380
ولما كان هذا يحرك السامع غاية التحريك لأن يقول: معتى تكون رجعه له؟ قال مجيباً له: ﴿يوم تبلى﴾ وبناه للمفعول إشارة مع التنبيه على السهولة إلى أن من الأمر البين غاية البيان أن الذي يبلوها
380
هو الذي يرجعها، وهو الله سبحانه وتعالى من غير احتياج إلى ذكره ﴿السرائر *﴾ أي كل ما انطوت عليه الصدور من العقائد والنيات، وأخفته الجوارح من الإخلال بالوضوء والغسل ونحو ذلك من جميع الجنايات، بأن تخالط السرائر في ذلك اليوم، وهو يوم القيامة، من الأمور الهائلة ما يميلها فيحيلها عما هي عليه فتعود جهراً بعد أن كانت سراً، فيميز طيبها من خبيثها ويجازى عليه صاحبه.
ولما كان المانع من جزائه عند إظهار سرائره إما هو نفسه أو أحد ينصره، قال مسبباً عن إظهار ما يجتهد في إخفائه: ﴿فما له﴾ أي الإنسان الذي أخرجت سرائره، وأعرق في التعميم والنفي فقال: ﴿من قوة﴾ أي يمنع بها نفسه من الجزاء ﴿ولا ناصر *﴾ أي ينصره فيمنعه من نفوذ الحكم فيه. وليس الدفع إلا بهذين الأمرين: قوة قائمة به أو قوة خارجة عنه.
ولما اشتملت هذه الجمل على وجازتها على الذروة العليا من البلاغة في إثبات البعث والجزاء والوحدانية له سبحانه وتعالى إلى غير ذلك من بحور العلوم، فثبت أن القرآن كلام الله سبحانه وتعالى، فثبت أن
381
كل ما فيه حق مع منازعتهم في ذلك كله، اقتضى الحال الإقسام على حقيته فقال: ﴿والسماء﴾ أي التي كان المطلع الإقسام بها ووصفها بما يؤكد العلم بالعبث الذي الذي هو منبع العلوم والتقوى فعليه مدار السعادة فقال: ﴿ذات الرجع *﴾ التي ترجع بالدوران إلى الموضع الذي ابتدأت الدوران منه فترجع الأحوال التي كانت وتصرمت من الليل والنهار والشمس والقمر والكواكب والفصول من الشتاء وما فيه من برد ومطر، والصيف وما فيه من حر وصفاء وسكون وغير ذلك والنبات بعد تهشمه وصيرورته تراباً مختلطاً بتراب الأرض وترجع الماء على قول من يقول: إن السحاب يأخذه من البحر ويعلو به فيعصره في الهواء ثم يرده إلى الأرض - وغير ذلك من الأمور الدال كل منها قطعاً على أن فاعل ذلك قادر على إعادة كل ما فني كما كان من غير فرق أصلاً.
ولما ذكر الأمر العلوي بادئاً به لشرفه، أتبعه السفلي فقال تعالى: ﴿والأرض﴾ أي مسكنكم الذي أنتم ملابسوه ومعانوه كل وقت وملامسوه ﴿ذات الصدع *﴾ أي التي تتصدع وتنشق فيخرج منها النبات
382
والعيون بدءاً وإعادة دلالة ظاهرة على البعث، فجمع بالقسم العالم العلوي الذي هو كالرجل والسفلي الذي هو كالمرأة، فكما أن الرجل يسقيها من مائه فتصدع عن الولد، فكذلك السماء تسقي الأرض فتتصدع عن النبات وكما أنها تتصدع عن النبات بعد فنائه وصيرورته رفاتاً فيعود كما كان فكذلك تتصدع عن الناس بعد فنائهم فيعودون كما كانوا بإذن ربها من غير فرق أصلاً.
ولما كانت هذه كلها براهين قاطعة ودلائل باهرة ساطعة على حقية القرآن وإتيانه بأعلى البيان، فكان من المستبعد جداً طعنهم في القرآن بعد هذا البيان، قال تعالى منبهاً على ذلك بالتأكيد معبراً بالضمير إشارة لما مضى إلى أنه المحدث عنه الآن، فهو الثابت في جميع الأذهان لا غيبة له عن شيء منها أصلاً ﴿إنه﴾ أي القرآن الذي أخبر بهذه الإخبارات التي هي في غاية الوضوح وتقدم أنه مجيد وفي لوح محفوظ، وأن الكفرة في تكذيب به ولا سيما ما تضمن منه الإخبار بالبعث: ﴿لقول فصل *﴾ أي جداً يراد به فصل الأمور، وله من العراقة في الفرق بين الحق والباطل ما صار به يطلق عليه نفس الفصل، ثم أكد الأمر لشدة إنكارهم وجحدهم وتغطيتهم الحق بالباطل فقال: ﴿وما هو﴾
383
أي القرآن في باطنه ولا ظاهره ﴿بالهزل *﴾ أي بالضعيف المرذول الذي لا طائل تحته، فمن حقه ما هو عليه الآن من كونه مهيباً في القلوب معظماً في الصدور يرتفع به قارئه وسامعه عن أن يلم بهزل ويعلم به في أعين العامة والخاصة.
ولما كان ثبات هذا على هذا الوجه مقتضياً ولا بد رجوعهم عن العناد، فكان ذلك محركاً للسامع إلى تعرف ما كان من أمرهم، استأنف قوله دلالة على بقائهم على الإنكار وأكده تنبيهاً على أن بقاءهم على العناد - مع هذا مستبعد جداً ﴿إنهم﴾ أي الكفار ﴿يكيدون﴾ أي بما يعملون في أمره من الحيل ﴿كيداً *﴾ في إبطاله وإطفاء نوره بإثباتك أو إخراجك أو قتلك أو تنفير الناس عنك والحال أنه لا قوة لهم أصلاً على ذلك ولا ناصر لهم بوجه من الوجوه وسمي جزاؤه لهم سبحانه كيداً مشاكلة، ولأنه خفي عنهم ومكروه إليهم فهو على صورة الكيد فقال: ﴿وأكيد﴾ أي أنا بإتمام اقتداري ﴿كيداً *﴾ باستدراجي
384
لهم إلى توغلهم فيما يغضبني ليكمل ما يوجب أخذي لهم من حيث لا يشعرون.
ولما كان هذا معلماً بأنهم عدم لا اعتبار بهم، قال مسبباً عنه تهديداً لهم يا له من تهديد ما أصعبه: ﴿فمهل﴾ أي تمهيلاً عظيماً بالتدريج. ولما كان في المكذبين في علم الله من يؤمن فليس مستحقاً لإيقاع مثل هذا التهديد، عبر بالوصف المقتضي للرسوخ فقال: ﴿الكافرين﴾ أي فلا تدع عليهم ولا تستعجل لهم بالإهلاك، فإنا لا نعجل لأنه لا يعجل بالعقوبة إلا من يخاف الفوت، حكي أن الحجاج كان سجنه من رخام وأرضه من رصاص، فكان يتلون بتلون الأوقات، فوقت الحر جهنم، ووقت البرد زمهرير، فمر به يوماً فاستغاثوا فطأطأ رأسه لهم وقال: اخسؤوا فيها ولا تكلمون، فأخذت الأرض قوائم جواده فرفع طرفه إلى السماء وقال: سبحانك لا يعجل بالعقوبة إلا من يخاف الفوت، وانطلق من وقته، فإن العجلة - وهي - إيقاع الشيء في غير وقته الأليق به - نقص فإنه لا يعجل إلا من يكون ما يفعل المستعجل عليه خارجاً عن قبضته.
ولما كانت صيغة التفعيل ربما أفهمت التطويل، أكد ذلك مجرداً للفعل دلالة على أن المراد بالأول إيقاع الإمهال مع أن زمنه قصير بالتدريج ليطمئن الممهل بذلك وتصير له به قوة عظيمة ودرته؟ وعزيمة
385
صادقة لأن ما يقولونه مما تشتد كراهة النفوس له، فلا يقدر أحد على الإعراض عنه إلا بمعونة عظيمة: ﴿أمهلهم﴾ أي بالإعراض عنهم مرة واحدة بعد التدريج لما صار لك على حمله من القوة بالتدريج - الذي أمرت به سابقاً ﴿رويداً *﴾ أي إمهالاً يسيراً فستكون عن قريب لهم أمور، وأي أمور تشفي الصدور، وهو تصغير «اروادا» تصغير ترخيم، قال ابن برجان: وهي كلمة تعطي الرفق، وهذا الآخر هو المراد بما في أولها من أن كلاًّ منهم ومن غيرهم محفوظ بحفظه مضبوطة أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته وأحواله، فإن ذلك مستلزم لأنه في القبضة، فقد التقى الطرفان على أعظم شأن بأبين برهان، ووقع أول هذا الوعيد يوم بدر ثم تولى نكالهم وتحقيرهم وإسفالهم إلى أن ذهب كثير منهم بالسيف وكثير منهم بالموت حتف الأنف إلى النار، وبقي الباقون في الصغار إلى أن أعزهم الله بعز الإسلام، وصاروا من الأكابر الأعلام، تشريفاً وتكريماً وتعظيماً لهذا النبي الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام، والله تعالى هو أعلم بالصواب.
386
سورة الأعلى
وتسمى سبح
قال الملوي: وكان النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يحبها لكثرة ما اشتملت عليه من العلوم والخيرات - مقصودهات إيجاب التنزيه للأعلى سبحانه وتعالى عن أن يلحق ساحة عظمته شيء من شوائب النقص كاستعجال في أمر من إهلاك اللكافرين أو غيره أو العجز عن البعث أو إهمال الخلق سدى يبغي بعضهم على بعض بغير حساب، أو أن يتكلم بما لا يطابق الواقع أو بما يقدر أحد أن يتكلم بمثله كما أذنت بذلك الطارق مجملا وشرحته هذه مفصلا، وعلى ذلك دل كل من اسمها سبح والأعلى) بسم الله (الذي له العلي كله فلا نقص يلحقه) الرحمن (الذي عم جوده، فكل موجود هو الذي أوجده وكل حيوان هو الذي يربيه ويرزقه) الرحيم (الذي من كان من حزبه فإنه يلزمه الطاعة وييسرها له ويوفقه.
387
Icon