تفسير سورة الفجر

تفسير ابن عطية
تفسير سورة سورة الفجر من كتاب المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز المعروف بـتفسير ابن عطية .
لمؤلفه ابن عطية . المتوفي سنة 542 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم سورة الفجر وهي مكية عند جمهور المفسرين وحكى أبو عمرو الداني في كتابه المؤلف في تنزيل القرآن عن بعض العلماء أنه قال : هي مدنية، والأول أشهر وأصح.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الفجر
وهي مكية عند جمهور المفسرين، وحكى أبو عمرو الداني في كتابه المؤلف في تنزيل القرآن عن بعض العلماء أنه قال: هي مدنية، والأول أشهر وأصح.
قوله عز وجل:
[سورة الفجر (٨٩) : الآيات ١ الى ١٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (٤)
هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (٦) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (٨) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩)
وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (١٠) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (١٤)
قال جمهور من المتأولين: الْفَجْرِ هنا المشهور الطالع كل يوم، قال ابن عباس: «الفجر» النهار كله، وقال ابن عباس أيضا وزيد بن أسلم: «الفجر» الذي أقسم الله به، صلاة الصبح، وقراءتها هو قرآن الفجر، وقال مجاهد: إنما أراد فجر يوم النحر، وقال الضحاك: المراد فجر ذي الحجة، وقال مقاتل:
المراد فجر ليلة جمع، وقال ابن عباس: أيضا: المراد فجر أول يوم من المحرم، لأنه فجر السنة، وقيل المراد فجر العيون من الصخور وغيرها. وقال عكرمة: المراد فجر يوم الجمعة. واختلف الناس في «الليالي العشر» فقال بعض الرواة: هي العشر الأولى من رمضان، وقال الضحاك وابن عباس: هي العشر الأواخر من رمضان، وقال بنان وجماعة من المتأولين: هي العشر الأولى من المحرم، وفيه يوم عاشوراء، وقال مجاهد وقتادة والضحاك والسدي وعطية العوفي وابن الزبير رضي الله عنه: هي عشر ذي الحجة، وقال مجاهد: هي عشر موسى التي أتمها الله له، وقرأ الجمهور «وليال»، وقرأ بعض القراء «وليالي عشر» بالإضافة وكأن هذا على أن العشر مشار إليه معين بالعلم به، ثم وقع القسم بلياليه فكأن العشر اسم لزمه حتى عومل معاملة الفرد، ثم وصف ومن راعى فيه الليالي قال العشر الوسط، واختلف الناس في الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ فقال جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: الشَّفْعِ يوم النحر وَالْوَتْرِ يوم عرفة وروى أيوب عنه ﷺ قال: «الشفع يوم عرفة ويوم الأضحى، والوتر ليلة النحر»، وروى عمران بن حصين عنه عليه السلام أنه قال: «هي الصلوات منها الشفع ومنها الوتر»، وقال ابن الزبير وغيره:
الشَّفْعِ اليومان من أيام التشريق، وَالْوَتْرِ، اليوم الثالث، وقال آخرون: الشَّفْعِ، العالم
476
وَالْوَتْرِ، الله إذ هو الواحد محضا وسواه ليس كذلك، وقال بعض المتأولين: الشَّفْعِ آدم وحواء، والْوَتْرِ الله، وقال ابن سيرين ومسروق وأبو صالح: الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ شائعان الخلق كله، الإيمان والكفر والإنس والجن وما اطرد على نحو هذا فهي أضداد أو كالأضداد، وترها الله تعالى فرد أحد. وقيل الشَّفْعِ: الصفا والمروة، وَالْوَتْرِ البيت، وقال الحسن بن الفضل: الشَّفْعِ أبواب الجنة لأنها ثمانية أبواب، وَالْوَتْرِ أبواب النار لأنها سبعة أبواب، وقال مقاتل: الشَّفْعِ الأيام والليالي، وَالْوَتْرِ يوم القيامة لأنه لا ليل بعده، وَالْوَتْرِ اتحاد صفات الله تعالى، عز محض وكرم محض ونحوه، وقيل:
الشَّفْعِ، قرآن الحج والعمرة، وَالْوَتْرِ الإفراد في الحج، وقال الحسن: أقسم الله تعالى بالعدد لأنه إما شفع وإما وتر، وقال بعض المفسرين: الشَّفْعِ حواء وَالْوَتْرِ آدم عليه السلام. وقال ابن عباس ومجاهد: الْوَتْرِ صلاة المغرب والشَّفْعِ صلاة الصبح، وقال أبو العالية: الشَّفْعِ الركعتان من المغرب وَالْوَتْرِ الركعة الأخيرة. وقال بعض العلماء: الشَّفْعِ تنفل الليل مثنى مثنى وَالْوَتْرِ الركعة الأخيرة المعروفة. وقرأ جمهور القراء والناس «والوتر» بفتح الواو، وهي لغة قريش وأهل الحجاز، وقرأ حمزة والكسائي والحسن بخلاف وأبو رجاء وابن وثاب وطلحة والأعمش وقتادة: «والوتر» بكسر الواو، وهي لغة تميم وبكر بن وائل، وذكر الزهراوي أن الأغر رواها عن ابن عباس وهما لغتان في الفرد، وأما الدخل فإنما هو وتر بالكسر لا غير، وقد ذكر الزهراوي أن الأصمعي حكى فيه اللغتين الفتح والكسر، وسرى الليل ذهابه وانقراضه، هذا قول الجمهور، وقال ابن قتيبة والأخفش وغيره: المعنى إذا يسري فيه فيخرج هذا الكلام مخرج ليل نائم ونهار بطال. وقال مجاهد وعكرمة والكلبي: أراد بهذا ليلة جمع لأنه يسرى فيها، وقرأ الجمهور: «يسر» دون ياء في وصل ووقف، وقرأ ابن كثير: «يسري» بالياء في وصل ووقف، وقرأ نافع وأبو عمرو بخلاف عنه «يسري» بياء في الوصل ودونها في الوقف وحذفها تخفيف لاعتدال رؤوس الآي إذ هي فواصل كالقوافي، قال اليزيدي: الوصل في هذا وما أشبهه بالياء، والوقف بغير ياء على خط المصحف. ووقف تعالى على هذه الأقسام العظام هل فيها مقنع وحسب لذي عقل. و «الحجر» العقل والنهية، والمعنى فيزدجر ذو الحجر وينظر في آيات الله تعالى، ثم وقف تعالى على مصانع الأمم الخالية الكافرة وما فعل ربك من التعذيب والإهلاك، والمراد بذلك توعد قريش ونصب المثل لها. و «عاد» قبيلة لا خلاف في ذلك، واختلف الناس في إِرَمَ فقال مجاهد وقتادة: هي القبيلة بعينها، وهذا على قول ابن الرقيات: [المنسرح]
مجدا تليدا بناه أوله أدرك عادا وقبله إرما
وقال زهير: [البسيط]
وآخرين ترى الماذي عدتهم من نسج داود أو ما أورثت إرم
قال ابن إسحاق: إِرَمَ هو أبو عاد كلها، وهو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح، وقال: هو أحد أجدادها، وقال جمهور المفسرين: إِرَمَ مدينة لهم عظيمة كانت على وجه الدهر باليمن، وقال محمد بن كعب: هي «الإسكندرية»، وقال سعيد بن المسيب والمقري: هي دمشق، وهذان القولان
477
ضعيفان، وقال مجاهد إِرَمَ معناه القديمة، وقرأ الجمهور «بعاد وإرم» فصرفوا «عادا» على إرادة الحي ونعت ب إِرَمَ بكسر الهمزة على أنها القبيلة بعينها، ويؤيد هذا قول اليهود للعرب: سيخرج فينا نبي نتبعه نقتلكم معه قتل عاد وإرم، فهذا يقتضي أنها قبيلة، وعلى هذه القراءة يتجه أن يكون إِرَمَ أبا لعاد أو جدا غلب اسمه على القبيل، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «بعاد إرم» بترك الصرف في «عاد» وإضافتها إلى إِرَمَ، وهذا يتجه على أن يكون إِرَمَ أبا أو جدا وعلى أن تكون مدينة، وقرأ الضحاك «بعاد أرم» بفتح الدال والهمزة من «أرم» وفتح الراء والميم على ترك الصرف في «عاد» والإضافة، وقرأ ابن عباس والضحاك «بعاد إرم» بشد الميم على الفعل الماضي بمعنى بلي وصار رميما، يقال ارم العظم وأرم وأرمه الله تعدية رم بالهمزة، وقرأ ابن عباس أيضا: «ارم ذات» بالنصب في التاء على إيقاع الإرمام عليها، أي أبلاها ربك وجعلها رميما، وقرأ ابن الزبير: «أرم ذات العماد» بفتح الهمزة وكسر الراء، وهي لغة في المدينة، وقرأ الضحاك بن مزاحم «أرم» بسكون الراء وفتح الهمزة وهو تخفيف في «ارم» كفخذة وفخذ، واختلف الناس في قوله تعالى: ذاتِ الْعِمادِ فمن قال إِرَمَ مدينة، قال العماد أعمدة الحجارة التي بنيت بها، وقيل القصور العالية والأبراج يقال لها عماد، ومن قال إِرَمَ قبيلة قال الْعِمادِ إما أعمدة بنيانهم وإما أعمدة بيوتهم التي يرحلون بها لأنهم كانوا أهل عمود ينتجعون البلاد، قاله مقاتل وجماعة.
وقال ابن عباس: هي كناية عن طول أبدانهم، وقرأ الجمهور: «يخلق» بضم الياء وفتح اللام «مثلها» رفعا، وقرأ ابن الزبير «يخلق» بفتح الياء وضم اللام «ومثلها» نصبا، وذكر أبو عمرو الداني عنه أنه قرأ «نخلق» بالنون وضم اللام «مثلها» نصبا، وذكر التي قبل هذه عن عكرمة، والضمير في مِثْلُها يعود إما على المدينة وإما على القبيلة، وقرأ يحيى بن وثاب «وثمودا» بتنوين الدال، وجابُوا الصَّخْرَ معناه خرقوه ونحتوه، وكانوا في أوديتهم قد نحتوا بيوتهم في حجارة، و «الوادي» ما بين الجبلين وإن لم يكن فيه ماء، هذا قول كثير من المفسرين في معنى جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ. وقال الثعلبي: يريد بوادي القرى، وقال قوم:
المعنى جابوا واديهم وجلبوا ماءهم في صخر شقوه، وهذا فعل ذوي القوة والآمال، وقرأ ابن كثير «بالوادي» بياء، وقرأ أكثر السبعة «بالواد» دون ياء واختلف في ذلك نافع، وقد تقدم هذا، وَفِرْعَوْنَ هو فرعون موسى، واختلف الناس في أوتاده فقيل أبنيته العالية العظيمة، قاله محمد بن كعب، وقيل جنوده الذين بهم يثبت ملكه وقيل المراد أوتاد أخبية عساكره وذكرت لكثرتها ودلالتها على غزواته وطوفه في البلاد، قاله ابن عباس ومنه قول الأسود بن يعفر:
في ظل ملك ثابت الأوتاد وقال قتادة: كان له أوتاد يلعب عليها الرجال بين يديه وهو مشرف عليهم، وقال مجاهد: كان يوتد الناس بأوتاد الحديد يقتلهم بذلك يضربها في أبدانهم حتى تنفذ إلى الأرض، وقيل إنما فعل ذلك بزوجته آسية، وقيل إنما فعل بماشطة ابنته لأنها كانت آمنت بموسى، والطغيان تجاوز الحدود، والصب يستعمل في السوط لأنه يقتضي سرعة في النزول، ومنه قول الشاعر في المحدودين في الإفك:
فصبت عليهم محصرات كأنها شآبيب ليست من سحاب ولا قطر
ومن ذلك قول المتأخر في صفة الخيل:
478
صببنا عليها ظالمين سياطنا فطارت بها أيد سراع وأرجل
وإنما خص «السوط» بأن يستعار للعذاب لأنه يقتضي من التكرار والترداد ما لا يقتضيه السيف ولا غيره، وقال بعض اللغويين: «السوط» هنا مصدر من ساط يسوط إذا اختلط فكأنه قال خلط عذاب، و «المرصاد» موضع الرصد، قاله اللغويون، أي أنه عند لسان كل قائل، ومرصد لكل فاعل، وعلى هذا التأويل في المرصاد جواب عامر بن عبد قيس لعثمان حين قال له: أين ربك يا أعرابي؟ قال بالمرصاد، ويحتمل أن يكون «المرصاد» في الآية اسم فاعل كأنه قال لبالراصد فعبر بالمبالغة، وروي في بعض الحديث أن على جسر جهنم ثلاث قناطر على إحداهما الأمانة وعلى إحداهما [الرحم] وعلى الأخيرة الرب تبارك وتعالى، فذلك قوله لَبِالْمِرْصادِ.
قوله عز وجل:
[سورة الفجر (٨٩) : الآيات ١٥ الى ٢٢]
فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (١٦) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (١٨) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (١٩)
وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (٢٠) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (٢١) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢)
ذكر الله تعالى في هذه الآية: ما كانت قريش تقوله تستدل به على إكرام الله تعالى وإهانته لعبده، وذلك أنهم كانوا يرون أن من عنده الغنى والثروة والأولاد فهو المكرم، وبضده المهان، ومن حيث كان هذا المقطع غالبا على كثيرين من الكفار، جاء التوبيخ في هذه الآية لاسم الجنس، إذ يقع بعض المؤمنين في شيء من هذا المنزع، ومن ذلك حديث الأعراب الذين كانوا يقدمون المدينة على النبي صلى الله عليه وسلم، فمن نال خيرا قال هذا دين حسن، ومن ناله شر قال هذا دين سوء، وابْتَلاهُ معناه: اختبره، ونَعَّمَهُ معناه: جعله ذا نعمة، وقرأ ابن كثير «أكرمني» بالياء في وصل ووقف وحذفها عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي في الوجهين، وقرأ نافع بالياء في الوصل وحذفها في الوقف، وكذلك «أهانني»، وخير في الوجهين أبو عمرو، وقرأ جمهور الناس: «فقدر» بتخفيف الدال، بمعنى ضيق، وقرأ الحسن بخلاف وأبو جعفر وعيسى «قدر» بمعنى: جعله على قدر، وهما بمعنى واحد في معنى التضييق لأنه ضعف قدر مبالغة لا تعدية، ويقتضي ذلك قول الإنسان أَهانَنِ، لأن «قدر» معدى إنما معناه أعطاه ما يكفيه ولا إهانة مع ذلك. ثم قال تعالى: كَلَّا ردّا على قولهم ومعتقدهم، أي ليس إكرام الله تعالى وإهانته، في ذلك، وإنما ذلك ابتلاء فحق من ابتلي بالغنى أن يشكر ويطيع، ومن ابتلي بالفقر أن يشكر ويصبر، وأما إكرام الله تعالى فهو بالتقوى، وإهانته فبالمعصية، ثم أخبرهم بأعمالهم من أنهم لا يكرمون اليتيم وهو من بني آدم الذي فقد أباه وكان غير بالغ. ومن البهائم ما فقد أمه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أحبّ البيوت إلى الله، بيت فيه يتيم مكرم»، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر «يحضون» بمعنى: يحض بعضهم بعضا أو
تحضون أنفسكم، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «تحاضون» بفتح التاء بمعنى تتحاضون، أي يحض قوم قوما، وقرأ أبو عمرو و «يحضون» بياء من تحت مفتوحة وبغير ألف، وقرأ عبد الله بن المبارك «تحاضون» بضم التاء على وزن تقاتلون، أي أنفسكم، أي بعضكم بعضا ورواها الشيرزي عن الكسائي، وقد يجيء فاعلت بمعنى فعلت وهذا منه، وإلى هذا ذهب أبو علي وأنشد:
تحاسنت به الوشي... قرات الرياح وخوزها
أي حسنت وأنشد أيضا: [لرجز] إذا تخازرت وما بي من خزر ويحتمل أن تكون مفاعلة، ويتجه ذلك على زحف ما فتأمله، وقرأ الأعمش «تتحاضون» بتاءين، وطَعامِ في هذه الآية بمعنى إطعام، وقال قوم: أراد نفس طعامه الذي يأكل، ففي الكلام حذف تقديره على بدل طَعامِ الْمِسْكِينِ، وقد تقدم القول في (سورة براءة) في المسكين والفقير بمعنى يغني عن إعادته، وعدد عليهم جدهم في أكل التراث لأنهم لا يورثون النساء ولا صغار الأولاد إنما كان يأخذ المال من يقاتل ويحمي الحوزة. و «اللّم» : الجمع واللف. قال الحسن: هو أن يأخذ في الميراث حظه وحظ غيره، وقال أبو عبيدة: لممت ما على الخوان إذا أكلت جميع ما عليه بأسره، ومنه لم الشعث، ومنه قول النابغة: [الطويل]
ولست بمستبق أخا لا تلمّه... على شعث أي الرجال المهذب
والجم: الكثير الشديد، ومنه قول الشاعر [أبو خراش الهذلي] :[الرجز]
إن تغفر اللهم تغفر جمّا... وأي عبد لك لا ألمّا
ومنه «الجم» من الناس، ثم قال تعالى: كَلَّا ردا على أفعالهم هذه وتوطئة للوعيد، أي سيرون أفعالهم ليس على قوم إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ، ودك الأرض تسويتها بذهاب جبالها، والناقة الدكاء التي لا سمن لها، وقوله تعالى: وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ معناه: وجاء قدره وسلطانه وقضاؤه، قال منذر بن سعيد:
معناه: ظهوره للخلق هنالك ليس مجيء نقلة وكذلك مجيء الصاخة ومجيء الطامة، والْمَلَكُ اسم جنس: يريد جميع الملائكة، وروي أن ملائكة كل سماء تكون صَفًّا حول الأرض في يوم القيامة، وذكر الطبري في ذلك حديثا طويلا اختصرته، وبهذا المعنى يتفسر قوله تعالى: يَوْمَ التَّنادِ [غافر: ٣٢] على قراءة من شد الدال. وقوله تعالى في سورة الرحمن: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا [الرحمن: ٣٣] الآية. وقرأ ابن كثير وعاصم ونافع وابن عامر وحمزة والكسائي في هذه الآية «تكرمون» بالتاء، وكذلك سائر الأفعال بعدها على الخطاب، وقرأ أبو عمرو والحسن ومجاهد وأبو رجاء وقتادة والجحدري «يكرمون» في جميعها على ذكر الغائب إذ قد تقدم اسم جنس الإنسان.
قوله عز وجل:
[سورة الفجر (٨٩) : الآيات ٢٣ الى ٣٠]
وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (٢٣) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (٢٤) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (٢٦) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧)
ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي (٣٠)
480
روي في قوله تعالى: وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ أنها تساق إلى الحشر بسبعين ألف زمام، يمسك كل زمام سبعون ألف ملك فيخرج منها عنق فينتقي الجبابرة من الكفار في حديث طويل مختلف الألفاظ، و «جهنم» هنا: هي النار بجملتها، وروي أنه لما نزلت وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ تغير لون النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى: يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ معناه: يتذكر عصيانه وطغيانه، وينظر ما فاته من العمل الصالح. ثم قال تعالى: وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى ثم ذكر عنه أنه يقول: يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي، واختلف في معنى قوله: لِحَياتِي فقال جمهور المتأولين معناه: لِحَياتِي الباقية يريد في الآخرة، وقال قوم من المتأولين: المعنى لِحَياتِي في قبري عند بعثي الذي كنت أكذب به وأعتقد أني لن أعود حيا. وقال آخرون: لِحَياتِي هنا مجاز، أي لَيْتَنِي قَدَّمْتُ عملا صالحا لأنعم به اليوم وأحيا حياة طيبة، فهذا كما يقول الإنسان أحييتني في هذا الأمر، وقال بعض المتأولين لوقت أو لمدة حياتي الماضية في الدنيا، وهذا كما تقول جئت لطلوع الشمس ولتاريخ كذا ونحوه. وقرأ جمهور القراء وعلي بن أبي طالب وابن عباس وأبو عبد الرحمن: «يعذّب» و «يوثق» بكسر الذال الثاء، وعلى هذه القراءة، فالضمير عائد في عذابه ووثاقه لله تعالى، والمصدر مضاف إلى الفاعل ولذلك معنيان: أحدهما أن الله تعالى لا يكل عذاب الكفار يومئذ إلى أحد، والآخر أن عذابه من الشدة في حيز لم يعذب قط أحد بمثله، ويحتمل أن يكون الضمير للكافر والمصدر مضاف إلى المفعول، وقرأ الكسائي وابن سيرين وابن أبي إسحاق وسوار القاضي «يعذّب» و «يوثق» بفتح الذال والثاء ورويت كثيرا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالضميران على هذا للكافر الذي هو بمنزلة جنسه كله والمصدر مضاف إلى المفعول ووضع عذاب موضع تعذيب كما قال [القرطبي] :
[الوافر] وبعض عطائك المائة الرتاعا ويحتمل أن يكون الضميران في هذه القراءة لله تعالى، كأنه قال: لا يعذب أحد قط في الدنيا عذاب الله للكفار، فالمصدر مضاف إلى الفاعل، وفي هذا التأويل تحامل، وقرأ الخليل بن أحمد «وثاقه» بكسر الواو. ولما فرغ ذكر هؤلاء المعذبين عقب تعالى بذكر نفوس المؤمنين وحالهم فقال: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ الآية، والْمُطْمَئِنَّةُ معناه: الموقنة غاية اليقين، ألا ترى أن إبراهيم عليه السلام قال: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: ٢٦٠]، فهي درجة زائدة على الإيمان، وهي أن لا يبقى على النفس في يقينها مطلب يحركها إلى تحصيله، واختلف الناس في هذا النداء متى يقع فقال ابن زيد وغيره: هو عند خروج نفس المؤمن من جسده في الدنيا. وروي أن أبا بكر الصديق سأل عن ذلك رسول الله ﷺ فقال له: «إن الملك سيقولها لك يا أبا بكر عند موتك»، ومعنى ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ على هذا التأويل، ارْجِعِي بالموت، وقال: وقوله فِي عِبادِي أي في أعداد عبادي الصالحين، وهذه قراءة الجمهور
481
بجمع «عبادي»، وقال قوم: النداء عند قيام الأجساد من القبور، فقوله: ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ معناه بالبعث من موتك ارجعي إلى الله. وقيل الرب هنا الإنسان ذو النفس، أي ادْخُلِي في الأجساد، والنَّفْسُ اسم جنس، وقال بعض العلماء: هذا النداء هو الآن للمؤمنين لما ذكر حال الكفار قال يا مؤمنون دوموا وجدوا حتى ترجعوا راضين مرضيين، ف النَّفْسُ على هذا اسم الجنس، وقرأ ابن عباس وعكرمة وأبو شيخ والضحاك واليماني ومجاهد وأبو جعفر: «فادخلي في عبدي»، والنَّفْسُ على هذا ليست باسم الجنس، وإنما خاطب مفردة. قال أبو شيخ: الروح يدخل في البدن، وفي مصحف أبي بن كعب: «يا أيتها النفس الآمنة المطمئنة إيتي ربك راضية مرضية فارجعي في عبدي»، وقرأ سالم بن عبد الله «فادخلي في عبادي ولجي جنتي»، وتحتمل قراءة «عبدي» أن يكون العبد اسم جنس جعل عباده كالشيء الواحد دلالة على الالتحام كما قال عليه السلام وهم يد على من سواهم وقال آخرون: إنما هو في الموقف عند ما ينطلق بأهل النار إلى النار، فنداء النفوس على هذا إنما هو نداء أرباب النفوس، ومعنى ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ على هذا إلى رحمة ربك، والعباد هنا الصالحون المنعمون.
482
Icon