﴿ بسم الله ﴾ الحق الذي كل ما عداه باطل ﴿ الرحمن ﴾ الذي عمّ الرغبة والرهبة بعموم الرحمة ﴿ الرحيم ﴾ الذي خص من شاء بما يرضاه عظيم الرهبة.
ﰡ
قال مقاتل : نزلت في مشركي مكة حين قالوا : إنّ محمداً يقوله من تلقاء نفسه فرد الله تعالى عليهم بذلك.
تنبيه : الله مبتدأ، والذي رفع السماوات خبره، ويجوز أن يكون الموصول صفة، والخبر يدبر الأمر.
ثانيها : قوله تعالى :﴿ ثم استوى على العرش ﴾ بالحفظ والتدبير والقهر والقدرة، أي : أنّ من فوق العرش إلى ما تحت الثرى في حفظه وتدبيره وفي الاحتياج إليه وتقدّم الكلام على ذلك في سورة الأعراف بما فيه كفاية.
وثالثها : قوله تعالى :﴿ وسخر ﴾، أي : ذلل ﴿ الشمس والقمر ﴾ لمنافع خلقه مقهوران يجريان على ما يريد ﴿ كل ﴾ منهما ﴿ يجري ﴾ في فلكه ﴿ لأجل مسمى ﴾، أي : إلى وقت معلوم وهو وقت فناء الدنيا وزوالها وعند مجيء ذلك الوقت تنقطع هذه الحركات وتبطل تلك التسييرات، كما وصف الله تعالى ذلك في قوله ﴿ إذا الشمس كورت ﴾ [ التكوير، ١ ]، ﴿ وإذا النجوم انكدرت ﴾ [ التكوير، ٢ ]، ﴿ وإذا السماء انشقت ﴾ [ الانشقاق، ١ ]، ﴿ إذا السماء انفطرت ﴾ [ الانفطار، ١ ] وعن ابن عباس للشمس وثمانون منزلاً كل يوم لها منزل وذلك يتمّ في ستة أشهر ثم أنها تعودمرّة أخرى إلى واحد واحد منها في ستة أشهر مرّة أخرى، وكذلك القمر له ثمانية وعشرون منزلاً، فالمراد بقوله تعالى :﴿ كل يجري لأجلٍ مسمى ﴾ هذا، وتحقيقه أنه تعالى قدّر لكل واحد من تلك الكواكب سيراً إلى جهة خاصة بمقدار خاص من السرعة والبطء، وحينئذ يلزم أن يكون لها بحسب كل لحظة ولمحة حالة أخرى ما كانت حاصلة قبل ذلك. ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الدلائل قال :﴿ يدبر الأمر ﴾، أي : يقضي أمر ملكه من الإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة والإغناء والإفقار، ويدخل فيه إنزال الوحي وبعثة الرسل، وتكليف العباد، وفي ذلك دليل عجيب على كمال القدرة والرحمة وذلك ؛ لأنّ هذا العالم المعلوم من إعلاء العرش إلى ما تحت الثرى أنواع وأجناس لا يحيط بها إلا الله عز وجل، والدليل المذكور على أنّ اختصاص كل واحد منها بوضعه وموضعه وصفته وطبيعته وحليته ليس إلا من الله تعالى، ومن المعلوم أنّ من اشتغل بتدبير شيء آخر فإنه يشغله شأن، عن شأن فالعاقل إذا تأمّل في هذه الآية علم أنه تعالى يدبر عالم الأجساد وعالم الأرواح ويدبر الكبير كما يدبر الصغير، فلا يشغله شأن عن شأن، ولا يمنعه تدبير عن تدبير، وذلك يدل على أنه تعالى متعال في ذاته وصفاته وعلمه وقدرته عن مشابهة المحدثات والممكنات.
ولما كان هذا بياناً شافياً لا لبس فيه قال تعالى :﴿ يفصل ﴾، أي : يبين ﴿ الآيات ﴾ التي برزت إلى الوجود وتدبيرها الدالة على وحدانيته وكمال حكمته المشتملة عليها مبتدعاته فيفرقها ويباين بينها مباينة لا لبس فيها تقريباً لعقولكم وتدريباً لفهومكم لتعلموا أنها فعل الواحد المختار.
ولما كان هذا التدبير وهذا التفصيل دالاً على تمام القدرة وغاية الحكمة وكان البعث لفصل القضاء والحكم بالعدل وإظهار العظمة هو محط الحكمة علل ذلك بقوله ﴿ لعلكم ﴾ يا أهل مكة ﴿ بلقاء ربكم ﴾ بالبعث ﴿ توقنون ﴾ فتعلموا أنّ من قدر على خلق هذه الأشياء وتدبيرها على عظمتها وكثرتها قادر على إيجاد الإنسان وإحيائه بعد موته، يروى أنّ واحداً قال لعليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه : أنه تعالى كيف يحاسب الخلق دفعة واحدة، فقال : كما يرزقهم الآن دفعة واحدة، وكما يسمع نداءهم ويجيب دعاءهم الآن دفعة واحدة، وحاصل الكلام أنه تعالى كما قدر على إبقاء الأجرام الفلكية والنيرات الكوكبية في الجوّ العالي لا يبعد أن يرد الأرواح إلى الأجساد، وإن كان الخلق عاجزين عنه، وكما يمكنه أن يدبر من فوق العرش إلى ما تحت الثرى لا يشغله شأن، عن شأن فكذلك يحاسب الخلق بحيث لا يشغله شأن عن شأن.
تنبيه : اليقين صفة من صفات العلم، وهي فوق المعرفة والدراية وهي سكون الفهم مع ثبات الحكم وزوال الشك.
الثاني منها قوله :﴿ وجعل ﴾، أي : وخلق ﴿ فيها ﴾، أي : الأرض ﴿ رواسي ﴾، أي : جبالاً ثوابت واحدها راسية، أي : ثابتة باقية في حيزها غير منتقلة عن مكانها لا تتحرّك ولا يتحرك ما هي راسية فيه وهذا لا بدّ وأن يكون بتخليق القادر الحكيم قال ابن عباس : أوّل جبل وضع على وجه الأرض جبل أبي قبيس ولما غلب على الجبال وصفها بالرواسي صارت الصفة تغني عن الموصوف، فجمعت جمع الاسم كحائط وكاهل قاله أبو حيان.
الثالث منها قوله تعالى :﴿ وأنهاراً ﴾، أي : وجعل في الأرض أنهاراً جارية لمنافع الخلق، والنهر المجرى الواسع من مجاري الماء، وأصله الاتساع، ومنه النهار لاتساع ضيائه.
الرابع منها : قوله تعالى :﴿ ومن كل الثمرات ﴾ وهو متعلق بقوله تعالى :﴿ جعل فيها ﴾، أي : الأرض ﴿ زوجين اثنين ﴾، أي : وجعل فيها من جميع أنواع الثمار صنفين اثنين، والاختلاف إمّا من حيث الطعم كالحلو والحامض أو اللون كالأسود والأبيض، أو الحجم كالصغير والكبير، أو الطبيعة كالحارّ والبارد.
فإن قيل : الزوجان لا بدّ وأن يكونا اثنين فما الفائدة في اثنين ؟ أجيب : بأنه قيل : إنه تعالى أوّل ما خلق العالم وخلق فيه الأشجار خلق من كل نوع من الأنواع اثنين فقط فلو قال : خلق زوجين لم يعلم أنّ المراد النوع أو الشخص، فلما قال : اثنين علم أنه تعالى أوّل ما خلق من كل زوجين اثنين لا أقل ولا أزيد، فكما أنّ الناس وإن كان فيهم الآن كثرة فابتداؤهم من زوجين اثنين بالشخص آدم وحوّاء، فكذا القول في جميع الأشجار والزروع.
الخامس منها : قوله تعالى :﴿ يغشي ﴾، أي : يغطي ﴿ الليل ﴾ بظلمته ﴿ النهار ﴾، أي : والنهار الليل بضوئه فيعتدل فعلهما على ما قدّره الله تعالى لهما في السير من الزيادة والنقصان، وذلك من الحكم النافعة في الدين والدنيا الظاهرة لكل ذي عقل أنها تدبيره بفعله واختياره وقهره واقتداره. وقرأ شعبة وحمزة والكسائي بفتح الغين وتشديد الشين، والباقون بسكون الغين وتخفيف الشين. ولما ذكر تعالى هذه الدلائل النيرة والقواطع القاهرة جمعها وناطها بالفكر فقال تعالى :﴿ إن في ذلك ﴾، أي : الذي وقع التحدّث عنه من الآيات ﴿ لآيات ﴾، أي : دلالات ﴿ لقوم يتفكرون ﴾، أي : يجتهدون في الفكر فيستدلون بالصنعة على الصانع، وبالسبب على المسبب. والتفكر والتدبر تصرف القلب في طلب معاني الأشياء.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص برفع العين واللام والنون الثانية من صنوان والراء من غير مع التنوين في العين واللام والنون، وعدم التنوين في الراء، والباقون بالخفض في الأربعة وعدم التنوين في الراء. ولما كان الماء بمنزلة الأب والأرض بمنزلة الأم وكان الاختلاف مع اتحاد الأب والأم أعجب وأدل على الإسناد إلى الواحد المسبب لا إلى شيء من الأسباب قال :﴿ تسقى ﴾ قراءة ابن عامر وعاصم بالياء على التذكير، أي : المذكور، وقراءة الباقين بالتاء على التأنيث، أي : الجنات وما فيها ﴿ بماء واحد ﴾ فتخرج أغصانها وثمراتها في وقت معلوم لا تتأخر عنه، ولا تتقدّم، والماء جسم رقيق مائع به حياة كل نام، وقيل في حدّه : جوهر سيال به قوام الأرواح ﴿ ونفضل بعضها على بعض في الأكل ﴾، أي : في الطعم ما بين حلو وحامض وغير ذلك. وفي الشكل والرائحة والمنفعة وغير ذلك، وذلك أيضاً مما يدل على القادر الحكيم، فإنّ اختلافها مع اتحاد الأصول والأسباب لا يكون إلا بتخصيص قادر مختار، قال مجاهد : وذلك كمثل بني آدم صالحهم وخبيثهم وأبوهم واحد. وقال الحسن : هذا مثل ضربه الله تعالى لقلوب بني آدم وكانت الأرض طينة واحدة في يد، أي : في قدرة الرحمن فسطحها فصارت قطعاً متجاورات، فينزل عليها الماء من السماء، فتخرج هذه زهرتها وشجرها وثمرها ونباتها، وتخرج هذه سبخها وملحها وخبيثها وكل يسقى بماء واحد، وكذلك الناس خلقوا من آدم، فينزل عليهم من السماء تذكرة فترق قلوب قوم فتخشع وتخضع، وتقسو قلوب قوم فتلهو ولا تسمع.
وقال الحسن : والله ما جالس القرآن أحد إلا قام من عنده بزيادة أو نقصان قال تعالى :﴿ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً ﴾ [ الإسراء، ٨٢ ] وقرأ حمزة والكسائي بالياء ليطابق قوله تعالى :﴿ يدبر الأمر ﴾ والباقون بالنون وقرأ نافع وابن كثير بسكون الكاف، والباقون بالرفع ﴿ إن في ذلك ﴾، أي : الأمر العظيم الذي ذكرناه ﴿ لآيات ﴾، أي : دلالات ﴿ لقوم يعقلون ﴾، أي : يستعملون عقولهم بالتدبر والتفكر في الآيات الدالة على وحدانيته تعالى.
تنبيه : هنا آيتان في كل منهما همزتان، فقرأ قالون بتحقيق الهمزة الأولى وتسهيل الهمزة الثانية، ويدخل بينهما ألفاً على الاستفهام، وفي الآية الثانية بهمزة مكسورة وبعدها نون مشددة على الخبر، وورش كذلك إلا أنه لا يدخل بين الهمزتين في أئذا ألفاً وينقل في الثاني على أصله، وابن كثير يقرأ بالاستفهام فيهما من غير إدخال ألف بين الهمزتين مع تحقيق الأولى وتسهيل الثانية فيهما، وأبو عمرو كذلك مع إدخال ألف بينهما، وابن عامر في الأول بهمزة مكسورة بعدها ذال مفتوحة على الخبر، وفي الثاني بهمزة مفتوحة محققة وهمزة مكسورة محققة على الاستفهام، وأدخل هشام بينهما ألفاً بخلاف عنه، والباقون بهمزتين محققتين الأولى مفتوحة، والثانية مكسورة ولا ألف بينهما في الموضعين.
فائدة : جميع ما في القرآن من ذلك أحد عشر موضعاً في تسع سور، والأحد عشر مكرّرة فتصير اثنين وعشرين، في هذه السورة موضع، والثاني والثالث في سورة الإسراء، والرابع في المؤمنون، والخامس في النمل، والسادس في العنكبوت، والسابع في السجدة، والثامن والتاسع في الصافات، والعاشر في الواقعة، والحادي عشر في النازعات. وأذكر إن شاء الله تعالى في كل سورة من السور المذكورة مذهبهم في محله.
﴿ أولئك ﴾، أي : الذين جمعوا أنواعاً من البعد من كل خير ﴿ الذين كفروا بربهم ﴾، أي : غطوا ما يجب إظهاره بسبب الاستهانة بالذي بدأ خلقهم، ثم رباهم بأنواع اللطف، فإذا أنكروا معادهم فقد أنكروا بدأهم ﴿ وأولئك ﴾ البعداء البغضاء ﴿ الأغلال ﴾ يوم القيامة ﴿ في أعناقهم ﴾ بسبب كفرهم، والغل : طوق من حديد تقيد به اليد في العنق، وقيل : المراد بالأغلال ذلهم وانقيادهم يوم القيامة كما يقاد الأسير الذليل بالغل، وقيل : إنهم مقيدون بالضلال لا يرجى فلاحهم. ﴿ وأولئك ﴾، أي : الذين لا خسارة أعظم من خسارتهم ﴿ أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾، أي : ثابت خلودهم دائماً لا يخرجون منها ولا يموتون. ولما كان صلى الله عليه وسلم يهدّدهم تارة بعذاب يوم القيامة وتارة بعذاب الدنيا، والقوم كلما هدّدهم بعذاب يوم القيامة أنكروا القيامة والبعث والحشر والنشر، وهو الذي تقدّم ذكره في الآية الأولى.
تنبيه : قوله ﴿ قبل الحسنة ﴾ فيه وجهان : أحدهما : متعلق بالاستعجال ظرفاً له والثاني : أنه متعلق بمحذوف على أنه حال مقدرة من السيئة قاله أبو البقاء. ﴿ وقد ﴾، أي : والحال أنه قد ﴿ خلت من قبلهم المثلات ﴾ جمع مثلة بفتح الميم وضم المثلثة كصدقة وصدقات، أي : عقوبات أمثالهم من المكذبين أفلا يعتبرون بها. ﴿ وإنّ ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم ﴾ وإلا لم يترك على ظهرها دابة كما قال تعالى :﴿ ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ﴾ [ فاطر، ٤٥ ]. وقال ابن عباس : معناه لذو تجاوز عن المشركين إذا آمنوا. ﴿ وإنّ ربك لشديد العقاب ﴾ للمصرين على الشرك الذين ماتوا عليه. وقال مقاتل : إنه لذو تجاوز عن شركهم في تأخير العذاب عنهم، وشديد العقاب إذا عاقب. ولما بين سبحانه وتعالى أنّ الكفار طعنوا في نبوة النبيّ صلى الله عليه وسلم بسبب طعنهم في الحشر والنشر أوّلاً، ثم طعنوا في نبوّته بسبب طعنهم في صحة ما ينذرهم به من نزول عذاب الاستئصال ثانياً،
وقيل : إنّ الضحاك ولد لسنتين وهرم بن حيان بقي في بطن أمّه أربع سنين، ولذلك سمي هرماً. وقيل : ما تنقصه الرحم من الأولاد وتزيده منهم. يروى أنّ شريكاً كان رابع أربعة في بطن أمّه. وقيل : من نقصان الولد فيخرج ناقصاً والزيادة تمام خلقه. وقيل : ما تنقص بالسقط عن أن يتم وما يزداد بالتمام. وقيل : ما تنقص بظهور دم الحيض، وذلك أنه إذا سال الدم في وقت الحمل ضعف الولد ونقص بمقدار حصول ذلك. قال ابن عباس : كلما سال الحيض في وقت الحمل يوماً زاد في مدّة الحمل يوماً ليحصل الجبر ويعتدل الأمر والآية تحتمل جميع ذلك إذ لا تنافي في هذه الأقوال. ويدل لذلك قوله تعالى :﴿ وكل شيء ﴾ من هذا وغيره من الآيات المقترحات وغيرها ﴿ عنده ﴾، أي : في علمه وقدرته ﴿ بمقدار ﴾ في كيفيته وكميته لا يجاوزه ولا يقصر عنه لأنه تعالى عالم بكيفية كل شيء وكميته على الوجه المفصل المبين.
تنبيه : قوله تعالى :﴿ عنده ﴾ يجوز أن يكون مجرور المحل صفة لشيء أو مرفوعه صفة لكل أو منصوبه ظرفاً لقوله :﴿ بمقدار ﴾ أو ظرفاً للاستقرار الذي تعلق به الجار لوقوعه خبراً.
وعن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال :«يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم الله تعالى وهو أعلم بكم : كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون : تركناهم وهم يصلون ». وقال مجاهد : ما من عبد إلا وله ملك موكل يحفظه من الجن والأنس والهوام في نومه ويقظته، فإن قيل : الملائكة ذكور فلم ذكروا في جمع الإناث وهو المعقبات ؟ أجيب : بجوابين : الأول : قال الفراء : المعقبات ملائكة معقبة واحدها معقب ثم جمعت معقبة بمعقبات كما قيل أبناآت ورجالات جمع أبناء ورجال والذي على التذكير قوله تعالى :﴿ يحفظونه ﴾ والثاني : وهو قول الأخفش إنما أنث لكثرة ذلك منها نحو نسابة وعلامة وهو ذكر، واختلف في المراد من قوله تعالى :﴿ من أمر اللّه ﴾ على أقوال :
أحدها : إنه على التقديم والتأخير، والتقدير له معقبات من أمر اللّه يحفظونه.
ثانيها : أنّ فيه إضماراً، أي : ذلك الحفظ من أمر اللّه، أي : مما أمر الله تعالى به فحذف الاسم وأبقى خبره.
وثالثها : أنّ كلمة من معناها الباء والتقدير يحفظونه بأمر اللّه وبإعانته، وقال كعب الأحبار : لولا أنّ الله تعالى وكّل بكم ملائكة يذبون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم لتخطفتكم الجنّ، وقال ابن جريج : معنى يحفظونه، أي : يحفظون عليه الحسنات والسيئات، فإن قيل : ما الفائدة في تخصيص هؤلاء الملائكة مع بني آدم وتسليطهم عليهم ؟ أجيب : بأن الإنسان إذا علم أنَّ الملائكة تحصي عليه أعماله كان إلى الحذر من المعاصي أقرب ؛ لأنّ من اعتقد جلالة الملائكة وعلو مراتبهم، فإذا حاول الإقدام على معصية واعتقد أنهم يشاهدونها زجره الحياء منهم عن الإقدام إليها كما يزجره إذا حضر من يعظمه من البشر، وإذا علم أنّ الملائكة تحصي عليه تلك الأعمال، كان ذلك أيضاً ردعاً له عنها، وإذا علم أنّ الملائكة يكتبونها كان الردع أكمل.
ولما دل ذلك على غاية القدرة والعظمة قال تعالى :﴿ إنّ الله ﴾ مع قدرته ﴿ لا يغير ما بقوم ﴾، أي : لا يسلبهم نعمته ﴿ حتى يغيروا ما ﴾، أي : الذي ﴿ بأنفسهم ﴾ من الأحوال الجميلة إلى الأحوال القبيحة ﴿ وإذا أراد الله بقوم سوءاً ﴾، أي : هلاكاً وعذاباً ﴿ فلا مردّ له ﴾أي لا يقدر أحد لا من المعقبات ولا من غيرها أن يرد ما نزل بهم من قضائه وقدره ﴿ ومالهم ﴾، أي : إن أراد اللّه بهم سواءً ﴿ من دونه ﴾، أي : غير اللّه ﴿ من وال ﴾ يلي أمرهم وينصرهم ويمنع العذاب عنهم، وقرأ ابن كثير في الوقف بإثبات الياء بعد اللام دون الوصل، والباقون بغير ياء بعد اللام وقفاً ووصلاً.
تنبيه خوفاً وطمعاً مصدران ناصبهما محذوف، أي : تخافون خوفاً وتطمعون طمعاً، ويجوز غير ذلك، والسحاب قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه : غربال الماء وهو غيم ينسحب في السماء، وهو اسم جنس جمعي واحده سحابة.
روي «أنّ عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أخا لبيد وفدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قاصدين لقتله فأخذه عامر بالمجادلة ودار أربد من خلفه ليضربه بالسيف فتنبه له رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال :" اللهمّ اكفنيهما بما شئت ". فأرسل الله تعالى على أربد صاعقة فقتلته، ورمى عامر بغدة فمات في بيت سلولية فكان يقول : غدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية فنزلت ». «وعن الحسن أنه قال : كان رجل من طواغيت العرب بعث إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم نفراً يدعونه إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فقال لهم : أخبروني عن رب محمد الذي تدعونني إليه مم هو ؟ أمن ذهب أو فضة أو حديد أو نحاس ؟ فاستعظم القوم مقالته فانصرفوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله، ما رأينا رجلاً أكفر قلباً ولا أعتى على الله منه. فقال صلى الله عليه وسلم :" ارجعوا، إليه " فرجعوا إليه فجعل لا يزيدهم على مقالته الأولى وقال : أجيب محمد إلى رب لا أراه ولا أعرفه فانصرفوا وقالوا : يا رسول الله، ما زادنا على مقالته الأولى وأخبث فقال : ارجعوا إليه فرجعوا فبينما هم عنده ينازعونه ويدعونه وهو يقول هذه المقالة إذ ارتفعت سحابة فكانت فوق رؤوسهم فرعدت وبرقت ورمت بصاعقة فأحرقت الكافر وهم جلوس فجاؤوا يسعون ليخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقبلهم قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : احترق صاحبكم فقالوا : من أين علمتم ؟ فقالوا : أوحى الله تعالى إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم :﴿ ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله ﴾ ». ﴿ وهو شديد المحال ﴾ واختلف المفسرون في قوله تعالى :﴿ وهو شديد المحال ﴾ فقال عليّ رضي الله عنه : شديد الأخذ. وقال ابن عباس : شديد الحول. وقال مجاهد : شديد القوة. وقال أبو عبيدة : شديد القوة والمغالبة.
تنبيه : قوله تعالى :﴿ طوعاً وكرهاً ﴾ إمّا مفعول من أجله وإمّا حال، أي : طائعين وكارهين. واختلف في تفسير قوله تعالى :﴿ وظلالهم بالغدوّ ﴾، أي : البكر ﴿ والآصال ﴾، أي : العشايا، أي : تسجد فقال أكثر المفسرين : كل شخص سواء كان مؤمناً أو كافراً، فإن ظله يسجد لله. قال مجاهد : ظل المؤمن يسجد لله تعالى وهو طائع، وظل الكافر يسجد لله تعالى وهو كاره. وقال الزجاج : جاء في التفسير أن الكافر يسجد لغير الله وظله يسجد لله. قال ابن الأنباريّ : ولا يبعد أن يخلق الله تعالى في الظلال عقولاً وأفهاماً تسجد بها لله وتخشع. وقيل : المراد من سجود الظلال ميلها من جانب إلى جانب وطولها بسبب انحطاط الشمس وقصرها بسبب ارتفاع الشمس وهي منقادة مسلسلة في طولها وقصرها وميلها من جانب إلى جانب. وإنما خص الغدوّ والآصال بالذكر ؛ لأنّ الظلال إنما تعظم وتكثر في هذين الوقتين.
تنبيه : الغدوّ جمع غداة كقنى وقناة، والآصال جمع الأصل، والأصل جمع أصيل، وهو ما بين العصر إلى غروب الشمس.
قال أبو حيان : مضمحلاً، أي : متلاشياً لا منفعة فيه ولا بقاء له. وقال ابن الأنباري : متفرّقاً، وانتصابه على الحال. ﴿ وأما ما ينفع الناس ﴾ من الماء ومن الجواهر الذي هو مثل الحق. ﴿ فيمكث في الأرض ﴾، أي : يثبت ويبقى لينتفع به أهلها ﴿ كذلك ﴾، أي : مثل ذلك الضرب ﴿ يضرب ﴾، أي : يبين ﴿ الله ﴾ الذي له الإحاطة الكاملة علماً وقدرة ﴿ الأمثال ﴾ فيجعلها في غاية الوضوح، وإن كانت في غاية الغموض. قال أهل المعاني : هذا مثل ضربه الله تعالى للحق والباطل، فالباطل وإن علا على الحق في بعض الأوقات والأحوال، فإن الله يمحقه ويبطله، ويجعل العاقبة للحق وأهله كالزبد الذي يعلو على الماء، فيذهب الزبد فيبقى الماء الصافي الذي ينفع، وكذلك الصفو من هذه الجواهر يبقى، ويذهب العلو الذي هو الكدر وهو ما ينفيه الكير مما يذاب من جواهر الأرض كذلك الحق والباطل. وقيل : هذا مثل للمؤمن واعتقاده وانتفاعه بالإيمان كمثل الماء الصافي الذي ينتفع به الناس، ومثل الكافر وخبث اعتقاده كمثل الزبد الذي لا ينتفع به البتة.
والنوع الثاني من أنواع العذاب الذي أعده الله تعالى لهم ما ذكره بقوله تعالى :﴿ أولئك لهم سوء الحساب ﴾ وهو المناقشة فيه، وعن النخعي بأن يحاسب العبد بذنبه كله لا يغفر منه شيء، وإنما نوقشوا ؛ لأنهم أحبوا الدنيا وأعرضوا عن المولى، فلما ماتوا بقوا محرومين عن معشوقهم الذي هو الدنيا وبقوا محرومين من الفوز بسعادة خدمة المولى.
والنوع الثالث من عقوباتهم ما ذكره بقوله تعالى :﴿ ومأواهم ﴾، أي : مرجعهم ﴿ جهنم ﴾ وذلك لأنهم كانوا غافلين عن الاشتغال بخدمة المولى عاشقين للذات الدنيا، فإذا ماتوا فارقوا معشوقهم، فيحترقون على مفارقتها، وليس عندهم شيء آخر يجبر هذه المصيبة، فلذلك كان مأواهم جهنم. ثم إنه تعالى وصف هذا المأوى بقوله عز من قائل :﴿ وبئس المهاد ﴾، أي : الفراش، والمخصوص بالذم محذوف، أي : جهنم. ونزل في حمزة وأبي جهل، وقيل : في عمار وأبي جهل.
أحدهما وهو المشهور : أنه يزاد في عمره زيادة حقيقية.
والثاني : يبارك له في عمره فكأنه قد زيد فيه. وعن ابن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي إذا انقطعت رحمه وصلها ». وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :«تأتي يوم القيامة لها ألسنة ذلقة الرحم فتقول : أي : رب قطعت والأمانة تقول : أي رب تركت والنعمة تقول : أي : رب كفرت ». وعن الفضيل بن عياض أنّ جماعة دخلوا عليه بمكة فقال : من أين أنتم ؟ فقالوا : من خراسان. قال : اتقوا الله وكونوا من حيث شئتم، واعلموا أنّ العبد لو أحسن كل الإحسان وكان له دجاجة فأساء إليها لم يكن من المحسنين.
﴿ ويخشون ربهم ﴾، أي : وعيده عموماً، والخشية خوف يشوبه تعظيم ﴿ ويخافون سوء الحساب ﴾ خصوصاً فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا.
﴿ وأنفقوا مما رزقناهم سرًّا وعلانية ﴾ قال الحسن : المراد به الزكاة، فإن لم يتهم بترك الزكاة فالأولى أن يؤدّيها سرًّا، وإن كان يتهم بترك أدائها، فالأولى أن يؤدّيها علانية، وقيل : المراد بالسر صدقة التطوّع، وبالعلانية الزكاة. وقيل : المراد بالسر ما يؤدّيه من الزكاة بنفسه وبالعلانية ما يدفعه إلى الإمام. ﴿ ويدرؤون ﴾، أي : يدفعون ﴿ بالحسنة السيئة ﴾ كالجهل بالحلم والأذى بالصبر. روي عن ابن عباس قال : يدفعون بالصالح من العمل السيئ من العمل، وهو معنى قوله تعالى :﴿ إنّ الحسنات يذهبن السيئات ﴾ [ هود، ١١٤ ] وقوله صلى الله عليه وسلم :«إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة تمحها السر بالسر والعلانية بالعلانية ». وعن عقبة بن عامر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«إنّ مثل الذي يعمل السيئات ثم يعمل الحسنات كمثل رجل عليه درع ضيق قد خنقه ثم عمل حسنة فانفكت حلقة ثم عمل حسنة أخرى فانفكت أخرى حتى يخرج إلى الأرض ». وقال ابن عباس : يدفعون بالحسن من الكلام ما يرد عليهم من سوء غيرهم. وعن الحسن إذا حرموا أعطوا، وإذا ظلموا عفوا، وإذا قطعوا وصلوا. وعن ابن عمر : ليس الواصل من وصل، ثم وصل تلك مجازاة، لكن من قطع ثم وصل وعطف من لم يصله، وليس الحليم من ظلم، ثم حلم حتى إذا هيجه قوم اهتاج، لكن الحليم من قدر ثم عفا. وعن ابن كيسان إذا أذنبوا تابوا، وقيل : إذا رأوا منكراً أمروا بتغييره، وروي أنّ شقيقاً البلخي دخل على ابن المبارك متنكراً فقال له : من أين أنت ؟ فقال : من بلخ. فقال : وهل تعرف شقيقاً ؟ قال : نعم. فقال : وكيف طريقة أصحابه ؟ قال : إذا منعوا صبروا وإذا أعطوا شكروا. فقال ابن المبارك : طريقة كلابنا هكذا. فقال شقيق : فكيف ينبغي أن يكون الأمر ؟ فقال : الكاملون هم الذين إذا منعوا شكروا وإذا أعطوا آثروا. ﴿ أولئك ﴾، أي : العالو الرتبة ﴿ لهم عقبى الدار ﴾.
وفسر ابن عباس الصلاح بالتصديق فقال : يريد من صدّق بما صدّقوا وإن لم يعمل مثل أعمالهم، قال الرازي : قوله ﴿ وأزواجهم ﴾ ليس فيه ما يدل على التمييز بين زوجة وزوجة، ولعل الأولى من مات عنها أو ماتت عنه، وما روي عن سودة أنها لما همّ الرسول صلى الله عليه وسلم بطلاقها قالت : دعني يا رسول الله أحشر في جملة نسائك. كالدليل على ما ذكرنا اه. وعلى هذا من تزوجت بغيره قيل : إنها تتخير بينهما.
ثم زاد تعالى في ترغيبهم بقوله تعالى :﴿ والملائكة يدخلون عليهم ﴾ لأنّ الإكثار من ترداد رسل الملك أعظم في الفخر وأكثر في السرور والعز.
ولما تم ذلك تسبب عنه قوله تعالى :﴿ فنعم عقبى الدار ﴾ وهي المسكن في قرار المهيأ بالأبنية التي يحتاج إليها، والمرافق التي ينتفع بها، والعقبى الانتهاء الذي يؤدي إليه الابتداء من خير أو شر، والمخصوص بالمدح محذوف، أي : عقباكم.
﴿ والذين ينقضون عهد الله ﴾، أي : فيعملون بخلاف موجبه، والنقض التفريق الذي ينفي تأليف البناء ﴿ من بعد ميثاقه ﴾، أي : الذي أوثقه عليهم من الإقرار والقبول ﴿ ويقطعون ما ﴾، أي : الذي ﴿ أمر الله به أن يوصل ﴾ وذلك في مقابلة قوله من قبل ﴿ والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ﴾ [ الرعد، ٢١ ] فجعل من صفات هؤلاء القطع بالضد من ذلك الوصل، والمراد به قطع ما يوجب الله تعالى وصله، أي : لما له من المحاسن الجلية والخفية التي هي عين الصلاح، ويدخل في ذلك وصل الرسول صلى الله عليه وسلم بالموالاة والمعاونة، ووصل المؤمنين ووصل الأرحام، ووصل سائر من له حق ﴿ ويفسدون ﴾، أي : يوقعون الفساد ﴿ في الأرض ﴾، أي : في أي جزء كان منها بالظلم وتهييج الفتن، والدعاء إلى غير دين الله تعالى ﴿ أولئك ﴾أي البعداء البغضاء ﴿ لهم اللعنة ﴾، أي : الطرد والبعد ﴿ ولهم سوء الدار ﴾ والدار لهم هي جهنم، وليس لهم فيها إلا ما يسوء الصائر إليها.
وقال قتادة : هذه الآية مدنية نزلت في صلح الحديبية، وذلك أن سهل بن عمرو لما جاء للصلح واتفقوا على أن يكتبوا كتاب الصلح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي :«أكتب بسم الله الرحمن الرحيم ». فقال سهل بن عمرو : لا نعرف الرحمن إلا صاحب اليمامة يعني مسيلمة الكذاب أكتب كما كنت تكتب باسمك اللهمّ » فهذا معنى قوله :﴿ وهم يكفرون بالرحمن ﴾، أي : أنهم يكفرونه ويجحدونه. قال البغويّ : والمعروف أنّ الآية مكية، وسبب نزولها أنّ أبا جهل سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو في الحجر يدعو يا الله يا رحمن، فرجع إلى المشركين فقال : إنّ محمداً يدعو الله ويدعو إلهاً آخر يسمى الرحمن ولا نعرف الرحمن، إلا رحمن اليمامة فنزلت هذه الآية، ونزل قوله تعالى :﴿ قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياً ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ﴾ [ الإسراء، ١١٠ ]. وروى الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم :«اسجدوا للرحمن » قالوا : وما الرحمن ؟ قال الله تعالى :﴿ قل ﴾ لهم يا محمد إنّ الرحمن الذي أنكرتم معرفته ﴿ هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت ﴾، أي : اعتمدت عليه في أموري كلها ﴿ وإليه متاب ﴾، أي : مرجعي ومرجعكم.
﴿ ولو أن قرآناً سيرت به الجبال ﴾، أي : نقلت عن أماكنها ﴿ أو قطعت ﴾، أي : شققت ﴿ به الأرض ﴾ من خشية الله تعالى عند قراءته، فجعلت أنهاراً وعيوناً. ﴿ أو كلم به الموتى ﴾، أي : بأن يحيوا، وجواب لو محذوف، أي : لكان هذا القرآن في غاية ما يكون من الصحة، واكتفى بمعرفة السامعين مراده، وهذا معنى قول قتادة قال : لو فعل هذا بقرآن قبل قرآنكم لفعل بقرآنكم. وقيل : تقديره لما آمنوا، ونقل عن الفراء أنّ جواب لو هي الجملة من قوله :﴿ وهم يكفرون ﴾ ففي الكلام تقديم وتأخير وما بينهما اعتراض، وتقدير الكلام وهم يكفرون بالرحمن لو أنّ قرآناً سيرت به الجبال، أو قطعت به الأرض، أو كلم به الموتى لكفروا بالرحمن، ولم يؤمنوا لما سبق من علمنا فيهم.
فإن قيل : لم حذفت التاء في قوله تعالى :﴿ وكلم به الموتى ﴾ وثبتت في الفعلين قبله ؟ أجيب : بأنه من باب التغليب ؛ لأنّ الموتى يشمل المذكر والمؤنث. ﴿ بل لله الأمر ﴾، أي : القدرة على كل شيء ﴿ جميعاً ﴾ وهذا إضراب عما تضمنته لو من معنى النفي، أي : بل الله قادر على الإتيان بما اقترحوه من الآيات، لكن الإرادة لم تتعلق بذلك لعلمه تعالى بأنه لا يلين قلوبهم ويؤيد ذلك قوله تعالى :﴿ أفلم ييأس الذين آمنوا ﴾ عن إيمانهم مع ما رأوا من أحوالهم وذهب أكثرهم إلى أنّ معناه : أفلم يعلم الذين آمنوا ﴿ أن ﴾، أي : بأنه ﴿ لو يشاء الله ﴾، أي : الذي له صفات الكمال ﴿ لهدى الناس جميعاً ﴾، أي : إلى الإيمان من غير آية، ولكنه تعالى لم يشأ هداية جميع الخلائق ﴿ ولا يزال الذين كفروا ﴾، أي : جميع الكفار ﴿ تصيبهم بما ﴾، أي : بسبب ما ﴿ صنعوا قارعة ﴾، أي : نازلة وداهية تقرعهم بأنواع البلايا تارة بالجدب، وتارة بالسلب وتارة بالقتل، وتارة بالأسر وغيرذلك. واختلف في الكفار على قولين.
قيل : أراد بهم جميع الكفار، لأنّ الوقائع الشديدة التي وقعت لبعض الكفار من ذلك أوجبت حصول الغم في قلب الكل.
وقيل : المراد الكفار من أهل مكة والألف واللام للمعهود السابق ويدل لهذا قول ابن عباس : أراد بالقارعة السرايا التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعثها إليهم ﴿ أو تحل ﴾، أي : تنزل نزولاً ثابتاً تلك القارعة ﴿ قريباً من دارهم ﴾، أي : فتوهن أمرهم، وقيل : معناه أو تحل أنت يا محمد بجيشك قريباً من دارهم مكة كما حل بالحديبية ﴿ حتى يأتي وعد الله ﴾، أي : بالنصر وظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه بفتح مكة، أو بالنصر على جميع الكفرة في زمن عيسى عليه السلام فينقطع ذلك ؛ لأنه لا يبقى على الأرض كافر.
وقيل : أراد بوعد الله يوم القيامة ؛ لأنّ الله يجمعهم فيه فيجازيهم بأعمالهم ﴿ إنّ الله لا يخلف الميعاد ﴾ لامتناع الكذب في كلامه تعالى.
ولما كان التقدير ليس لهم على شيء من هذا برهان قاطع، ولا قول ظاهر بنى عليه قوله تعالى :﴿ بل زين ﴾، أي : وقع التزيين بأمر من لا يرد أمره على يد من كان من شياطين الإنس أو شياطين الجنّ. ﴿ للذين كفروا مكرهم ﴾، أي : أمرهم الذي أرادوا به ما يراد بالمكر من إظهار شيء وإبطان غيره، وذلك أنهم أظهروا أنّ شركاءهم آلهة حقاً وهم يعلمون بطلان ذلك، وليس بهم في الباطن إلا تقليد الآباء، وأظهروا أنهم يعبدونها لتقرّبهم إلى الله زلفى، ولتشفع لهم، وهم لا يعتقدون بعثاً ولا نشوراً، فصار كل ذلك من فعلهم فعل الماكر ﴿ وصدّوا ﴾ غيرهم ﴿ عن السبيل ﴾، أي : طريق الهدى الذي لا يقال لغيره سبيل، فإنّ غيره عدم بل العدم خير منه، فهم لم يسلكوا السبيل، ولا تركوا غيرهم يسلكه، فضلوا وأضلوا، وليس ذلك بعجيب فإنّ الله أضلهم ﴿ ومن يضلل الله ﴾، أي : الذي له الأمر كله بإرادة إضلاله ﴿ فما له من هاد ﴾ وقرأ ابن كثير بإثبات الياء بعد الدال في الوقف دون الوصل، والباقون بغير ياء وقفاً ووصلاً. وكذلك من واق وكذا ولا واق.
﴿ لهم عذاب في الحياة الدنيا ﴾ بالقتل والأسر والذم والإهانة واغتنام الأموال واللعن، ونحو ذلك مما فيه غيظهم ﴿ ولعذاب الآخرة أشق ﴾، أي : أشدّ في المشقة بسبب القوّة والشدّة وكثرة الأنواع والدوام، وعدم الانقطاع، ثم بين تعالى أنّ أحداً لا يقيهم من عذابه بقوله تعالى :﴿ وما لهم من الله من واق ﴾، أي : مانع يمنعهم إذا أراد بهم سوءاً لا في الدنيا ولا في الآخرة، والواقي فاعل من الوقاية، وهي الحجز بما يدفع الأذية.
فإن قيل : الأحزاب منكرون كل القرآن ؟ أجيب : بأنهم لا ينكرون كل ما في القرآن، لأنه ورد فيه إثبات الله تعالى وإثبات علمه وقدرته وحكمته وأقاصيص الأنبياء، والأحزاب لا ينكرون كل هذه الأشياء.
والقول الثاني : أنّ المراد بالكتاب التوراة، وبأهله الذين أسلموا من اليهود والنصارى كعبد الله بن سلام وأصحابه، ومن أسلم من النصارى، وهم ثمانون رجلاً أربعون من نجران وثمانية من اليمن واثنان وثلاثون من أرض الحبشة، وفرحوا بالقرآن ؛ لأنهم آمنوا به وصدّقوه، والأحزاب بقية أهل الكتاب، وسائر المشركين، وقيل : كان ذكر الرحمن قليلاً في القرآن في الابتداء فلما اسلم عبد الله بن سلام ومن تبعه من أهل الكتاب ساءهم قلة ذكر الرحمن مع كثرة ذكره في التوراة، فلما كرّر الله تعالى ذكره في القرآن فرحوا به فأنزل الله تعالى :﴿ والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه ﴾ يعني مشركي مكة حين كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتاب الصلح بسم الله الرحمن الرحيم قالوا : ما نعرف إلا رحمن اليمامة ؟ يعني مسيلمة فأنزل الله تعالى :﴿ وهم بذكر الرحمن هم كافرون ﴾ [ الأنبياء، ٣٦ ]. ثم إنه تعالى لما بين هذا جمع كل ما يحتاج المرء إليه في معرفة المبدأ والمعاد وبينه بألفاظ قليلة فقال :﴿ قل ﴾، أي : يا أكرم الخلق على الله تعالى ﴿ إنما أمرت ﴾، أي : وقع إليّ الأمر الجازم الذي لا شك فيه ولا تغيير ممن له الأمر كله ﴿ أن أعبد الله ﴾، أي : وحده، ولذلك قال :﴿ ولا أشرك به ﴾ شيئاً ﴿ إليه ﴾ وحده ﴿ أدعو وإليه مآب ﴾، أي : مرجعي للجزاء لا إلى غيره.
تنبيه : في هذه الآية قولان :
أحدهما أنها عامة في كل شيء كما يقتضيه ظاهر اللفظ، وهذا مذهب عمر وابن مسعود وغيرهما قالوا : إنّ الله يمحو من الرزق ويزيد فيه، وكذا القول في الأجل والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر. وروي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كان يطوف بالبيت وهو يبكي ويقول : اللهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة، فأثبتني فيها، وإن كنت كتبت عليّ الشقاوة فامحني وأثبتني في أهل السعادة والمغفرة، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أمّ الكتاب، ومثله عن ابن مسعود وهذا التأويل رواه جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي بعض الآثار : أنّ الرجل يكون قد بقي من عمره ثلاثون سنة فيقطع رحمه فيردّ إلى ثلاثة أيام، والرجل يكون قد بقي من عمره ثلاثة أيام فيصل رحمه فيرد إلى ثلاثين سنة. وروي أنّ الله تعالى ينزل، أي : أمره في آخر ثلاث ساعات تبقى من الليل فينظر في الساعة منهنّ في أمّ الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره، فيمحو ما يشاء ويثبت.
والقول الثاني أنّ هذه الآية خاصة في بعض الأشياء دون بعض، واختلفوا على هذا القول فقال سعيد بن جبير وقتادة : يمحو الله ما يشاء من الشرائع والفرائض، فينسخه ويبدله ويثبت ما يشاء منها فلا ينسخه. وقال ابن عباس : يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا الرزق والأجل والسعادة والشقاوة، واستدل لهذا بما رواه حذيفة بن أسيد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله ملكاً فصوّرها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظمها ثم قال : يا رب أذكر أم أنثى ؟ فيقضي ربك ما يشاء ويكتب الملك ثم يقول الملك : يا رب رزقه فيقضي ربك ما يشاء، ويكتب الملك ثم يقول : يا رب أشقي أم سعيد ؟ فيكتبان فيكتب عمله وأثره وأجله ورزقه ثم تطوى الصحف فلا يزاد ولا ينقص ".
وقال ابن عطية عن ابن عباس : هو الرجل يعمل بطاعة الله تعالى، ثم يرجع لمعصية الله تعالى، فيموت على ضلاله فهو الذي يمحو الذي يثبت يعمل الرجل بطاعة الله، فيموت وهو في طاعته فهو الذي يثبت. وقال الحسن : يمحو ما يشاء، أي : من جاء أجله يذهب به ويثبت من لم يجيء أجله إلى أجله. وعن سعيد بن جبير قال : يمحو ما يشاء من ذنوب العباد فيغفرها، ويثبت ما يشاء فلا يغفرها. وقال عكرمة : يمحو الله ما يشاء من الذنوب بالتوبة، ويثبت بدل الذنوب حسنات كما قال تعالى :﴿ فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ﴾. [ الفرقان، ٧٠ ] وقال السدي : يمحو الله ما يشاء يعني القمر ويثبت ما يشاء يعني الشمس بيانه قوله تعالى :﴿ فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة ﴾ [ الإسراء، ١٢ ]. وقال الربيع : هذا في الأرواح يقبضها الله تعالى عند النوم، فمن أراد موته أمسكه، ومن أراد بقاءه أثبته وردّه إلى صاحبه بيانه قوله تعالى :﴿ الله يتوفى الأنفس حين موتها ﴾ [ الزمر، ٤٢ ] الآية. وقيل إنّ الله تعالى يثبت في أوّل كل سنة حكمها، فإذا مضت السنة محاه، وأثبت حكماً آخر للسنة المستقبلة. وقيل : يمحو الله الدنيا ويثبت الآخرة.
وقيل : إنّ الحفظة يكتبون جميع أعمال بني آدم وأقوالهم فيمحو الله من ديوان الحفظة ما ليس فيه ثواب ولا عقاب.
وقيل : هذا في المحن والمصائب فهي مثبتة في الكتاب، ثم يمحوها بالدعاء والصدقة ﴿ وعنده ﴾ تعالى ﴿ أمّ الكتاب ﴾ أصل الكتب، والعرب تسمى كل ما يجري مجرى الأصل للشيء أمّا، ومنه أمّ الرأس للدماغ، وأمّ القرى، وكل مدينة فهي أمّ لما حولها من القرى فكذلك أمّ الكتاب هو الذي يكون أصلاً لجميع الكتب، وفيه قولان : الأوّل : أنه اللوح المحفوظ الذي لا يغير ولا يبدّل وجميع حوادث العالم العلوي والسفلي يثبت فيه. روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال :" كان الله ولا شيء ثم خلق اللوح وأثبت فيه أحوال جميع الخلق إلى قيام الساعة ".
والقول الثاني : أنّ أمّ الكتاب أصله الذي لا يغير منه شيء وهو الذي كتب في الأزل. وقال ابن عباس في رواية عكرمة : هما كتابان كتاب سوى أمّ الكتاب يمحو ما يشاء منه ويثبت وعنده أمّ الكتاب لا يغير منه شيء، وعلى هذا فالكتاب الذي يمحو منه ويثبت هو الكتاب الذي تكتبه الملائكة على الخلق. وعن ابن عباس قال : إنّ لله لوحاً محفوظاً مسيرته خمسمائة عام من درّة بيضاء له دفتان من ياقوتة لله فيه في كل يوم ثلاثمائة وستون لحظة يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أمّ الكتاب. وسأل ابن عباس كعباً عن أمّ الكتاب فقال : علم الله ما هو خالق وما خلقه.
تنبيه : قال أبو حيان : هنا شرطان ؛ لأنّ المعطوف على الشرط شرط، فيقدّر لكل شرط، ما يناسب أن يكون جزاء مرتباً عليه والتقدير : وإمّا نرينك بعض الذي نعدهم، فذلك شافيك من أعدائك، وإمّا نتوفينك قبل حلوله بهم فلا لوم عليك ولا عتب، وقد مرّت الإشارة إلى ذلك.
وقال مجاهد : هو خراب الأرض وقبض أهلها. وعن عكرمة قال : هو قبض الناس. وعن الشعبي مثله، وعطاء وجماعة نقصانها موت العلماء وذهاب الفقهاء، ويؤيد هذا ما رواه عمرو بن العاص أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«إنّ الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ». وقال الحسن : قال عبد الله بن مسعود : عليكم بالعلم قبل أن يقبض وقبضه ذهاب أهله. وقال عليّ : إنما مثل الفقهاء كمثل الأنف إذا قطعت لم تعد. وقال سليمان : لا يزال الناس بخير ما بقي الأوّل حتى يتعلم الآخر، وإذا هلك الأوّل قبل أن يتعلم الآخر هلك الناس.
وقيل لسعيد بن جبير : ما علامة هلاك الناس ؟ قال : هلاك علمائهم، ثم أثبت تعالى لنفسه أمراً كلياً فقال :﴿ والله ﴾، أي : الملك الأعلى. ﴿ يحكم ﴾ في خلقه بما يريد ؛ لأنه ﴿ لا معقب ﴾، أي : راد ؛ لأنّ التعقيب ردّ الشيء بعد فصله ﴿ لحكمه ﴾ وقد حكم للإسلام بالإقبال وعلى الكفر بالإدبار، وذلك كائن لا يمكن تغييره.
تنبيه : محل جملة لا معقب لحكمه النصب على الحال كأنه قيل : والله يحكم نافذاً حكمه كما تقول : جاءني زيد لا عمامة على رأسه ولا قلنسوة تريد حاسراً ﴿ وهو ﴾ عز وجل مع تمام القدرة ﴿ سريع الحساب ﴾ فيحاسبهم عما قليل في الآخرة بعدما عذبهم بالقتل والإجلاء في الدنيا. وقال ابن عباس : يريد سريع الانتقام يعني : حسابه للمجازاة بالخير والشرّ، فمجازاة الكفار بالانتقام منهم، ومجازاة المؤمنين بإيصال الثواب إليهم، وقد تقدّم الكلام في معنى سريع الحساب قبل هذا.
قال الواحدي : والأوّل أظهر القولين بدليل قوله تعالى :﴿ يعلم ما تكسب كل نفس ﴾، أي : أنّ أكساب العباد معلومة لله تعالى، وخلاف المعلوم ممتنع الوقوع، وإذا كان كذلك، فلا قدرة لعبد على الفعل والترك، فكان الكل من الله فيجازيهم على أعمالهم، وفي ذلك وعيد وتهديد للكفار الماكرين.
ثم إنه تعالى أكد ذلك التهديد بقوله تعالى :﴿ وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار ﴾، أي : العاقبة المحمودة في الدار الآخرة ألهم أم للنبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه ؟ وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بالألف بعد الكاف على الإفراد والكاف مفتوحة والفاء مكسورة مخففة، والباقون بالألف بعد الفاء على الجمع، فالكاف مضمومة والفاء مفتوحة مشدّدة، فمن قرأ بالإفراد أراد الجنس كقوله تعالى :﴿ إنّ الإنسان لفي خسر ﴾ [ العصر، ٢ ] ليوافق قراءة الجمع. وقال عطاء : المستهزؤون وهم خمسة والمقتسمون وهم ثمانية وعشرون. وقال ابن عباس : يريد أبا جهل. قال الرازي : والأوّل هو الصواب، أي : ليوافق قراءة الجمع كما مرّ.
﴿ شهيداً ﴾، أي : بليغ العلم في شهادته بالإطلاع على ما ظهر وما بطن ﴿ بيني وبينكم ﴾ يشهد بتأييد رسالتي، وتصحيح مقالتي بما أظهر لي من الآية، وأوضح من الدلالة بهذا الكتاب ويشهد بتكذيبهم بادعائكم القدرة على المعارضة، وترككم لها عجزاً، وهذا أعلى مراتب الشهادة ؛ لأن الشهادة قول يفيد غلبة الظنّ بأن الأمر كما شهد به، والمعجزة فعل مخصوص يوجب القطع بكونه رسولاً من عند الله، واختلف في قوله تعالى :﴿ ومن عنده علم الكتاب ﴾ فروى العوفي عن ابن عباس أنهم علماء اليهود والنصارى، أي : أنّ كل من كان عالماً من اليهود بالتوراة، ومن النصارى بالإنجيل علم أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم مرسل من عند الله لما يجد من الدلائل الدالة على نبوّته فيها، شهد بذلك من شهد به وأنكره من أنكره منهم.
والثاني : أنّ المراد شهادة أهل الكتاب من الذين آمنوا، وهم عبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وتميم الداري. وقال الحسن ومجاهد والزجاج وسعيد بن جبير :﴿ ومن عنده علم الكتاب ﴾ هو الله تعالى. قال الحسن : لا والله لا يعني إلا الله، والمعنى كفى بالله الذي يستحق العبادة، وبالذي لا يعلم علم ما في اللوح إلا هو شهيداً بيني وبينكم، وهذا أظهر كما استظهره البقاعي، وإن كان عطف الصفة على الموصوف خلاف الأصل إذ يقال : شهد بهذا زيد الفقيه، لا زيد والفقيه ؛ لأنه جائز في الجملة، وقيل : معناه : أن علم أنّ القرآن الذي جئتكم به معجز ظاهر وبرهان باهر لما فيه من الفصاحة والبلاغة والإخبار عن الغيوب وعن الأمم الماضية فمن علمه بهذه الصفة كان شهيداً بيني وبينكم والله أعلم بمراده.