ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ الرَّعْدِ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ وَجَابِرٍ، وَمَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ الْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: مَدَنِيَّةٌ إِلَّا آيَتَيْنِ مِنْهَا نَزَلَتَا بِمَكَّةَ، وَهُمَا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:" وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ" [الرعد: ٣١] [إلى آخرهما] «١».
[سورة الرعد (١٣): آية ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (١)قَوْلُهُ تَعَالَى: المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (١) قَوْلُهُ تَعَالَى: (المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهَا. (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ) يَعْنِي وَهَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ. (مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ) لَا كَمَا يَقُولُ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّكَ تَأْتِي بِهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِكَ، فَاعْتَصِمْ بِهِ، وَاعْمَلْ بِمَا فِيهِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ حِينَ قَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا أَتَى بِالْقُرْآنِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ." وَالَّذِي" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَطْفًا عَلَى" آياتُ" أَوْ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَ" الْحَقُّ" خَبَرُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُهُ جَرًّا عَلَى تَقْدِيرِ: وَآيَاتُ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ، وَارْتِفَاعُ" الْحَقُّ" عَلَى هَذَا عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، تَقْدِيرُهُ: ذَلِكَ الْحَقُّ، كقوله تعالى:" وَهُمْ يَعْلَمُونَ. الْحَقُّ" «٢» [البقرة: ١٤٧ - ١٤٦] يَعْنِي ذَلِكَ الْحَقَّ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ" الَّذِي" خَفْضًا نَعْتًا لِلْكِتَابِ، وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ الْوَاوُ كَمَا يُقَالُ: أَتَانَا هَذَا الْكِتَابُ عَنْ أَبِي حَفْصٍ وَالْفَارُوقِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرُ:
إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهُمَامِ | وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحَمِ «٣» |
(٢). راجع ج ٢ ص ١٦٢ فما بعد.
(٣). القرم (بفتح القاف): السيد، والكتيبة: الجيش، المزدحم: محل الازدحام.
[سورة الرعد (١٣): آية ٢]
اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢)قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢) قَوْلُهُ تَعَالَى: (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) الْآيَةَ. لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ، بَيَّنَ أَنَّ مَنْ أَنْزَلَهُ قَادِرٌ عَلَى الْكَمَالِ، فَانْظُرُوا فِي مَصْنُوعَاتِهِ لِتَعْرِفُوا كَمَالَ قُدْرَتِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى. وَفِي قَوْلِهِ:" بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها" قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّهَا مَرْفُوعَةٌ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا، قَالَهُ قَتَادَةُ وَإِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ وَغَيْرُهُمَا. الثَّانِي- لَهَا عَمَدٌ، وَلَكِنَّا لَا نَرَاهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَهَا عَمَدٌ عَلَى جَبَلِ قَافٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: الْعَمَدُ قُدْرَتُهُ الَّتِي يُمْسِكُ بِهَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَهِيَ غَيْرُ مَرْئِيَّةٍ لَنَا، ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: هِيَ تَوْحِيدُ الْمُؤْمِنِ. أَعَمَدَتِ السَّمَاءُ حِينَ كَادَتْ تَنْفَطِرُ مِنْ كُفْرِ الْكَافِرِ، ذَكَرَهُ الْغَزْنَوِيُّ. وَالْعَمَدُ جَمْعُ عَمُودٍ، قَالَ النَّابِغَةُ:
وَخَيِّسِ الْجِنَّ إِنِّي قَدْ أَذِنْتُ لَهُمْ | يَبْنُونَ تَدْمُرَ بِالصُّفَّاحِ وَالْعَمَدِ «١» |
أَيْ إِلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ، وَهُوَ فَنَاءُ الدُّنْيَا، وَقِيَامُ السَّاعَةِ الَّتِي عِنْدَهَا تُكَوَّرُ الشَّمْسُ، وَيُخْسَفُ الْقَمَرُ، وَتَنْكَدِرُ النُّجُومُ، وَتَنْتَثِرُ الْكَوَاكِبُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرَادَ بالأجل المسمى درجاتهما ومنازلها التي ينتهيان إليها لا يجاوز انها. وَقِيلَ: مَعْنَى الْأَجَلِ الْمُسَمَّى أَنَّ الْقَمَرَ يَقْطَعُ فَلَكَهُ فِي شَهْرٍ، وَالشَّمْسُ فِي سَنَةٍ. (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أَيْ يُصَرِّفُهُ عَلَى مَا يُرِيدُ. (يُفَصِّلُ الْآياتِ) أَيْ يُبَيِّنُهَا أَيْ مَنْ قَدَرَ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَقْدِرُ عَلَى الْإِعَادَةِ، وَلِهَذَا قَالَ: (لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ).
(٢). راجع ج ٧ ص ٢١٩.
[سورة الرعد (١٣): آية ٣]
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣)قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ) لَمَّا بَيَّنَ آيَاتِ السَّمَاوَاتِ بَيَّنَ آيَاتِ الْأَرْضِ، أَيْ بَسَطَ الْأَرْضَ طُولًا وَعَرْضًا. (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) أَيْ جِبَالًا ثَوَابِتَ، وَاحِدُهَا رَاسِيَةٌ، لِأَنَّ الْأَرْضَ تَرْسُو بِهَا، أَيْ تَثْبُتُ، وَالْإِرْسَاءُ الثُّبُوتُ، قَالَ عَنْتَرَةُ:
فَصَبَرْتُ عَارِفَةً لِذَلِكَ حرة | ترسوا إِذَا نَفْسُ الْجَبَانِ تَطَلَّعُ «١» |
أُحِبُّهَا وَالَّذِي أَرْسَى قَوَاعِدَهُ | حُبًّا إِذَا ظَهَرَتْ آيَاتُهُ بَطَنَا |
وعرفت أن منيتي إن تأتني | لا ينجني منها الفرار الأسرع |
[سورة الرعد (١٣): آية ٤]
وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤)
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، الْمَعْنَى: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَغَيْرُ مُتَجَاوِرَاتٍ، كَمَا قَالَ:" سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ" «١» وَالْمَعْنَى: وَتَقِيكُمُ الْبَرْدَ، ثُمَّ حَذَفَ لِعِلْمِ السَّامِعِ. وَالْمُتَجَاوِرَاتُ الْمُدُنُ وَمَا كَانَ عَامِرًا، وَغَيْرُ مُتَجَاوِرَاتٍ الصَّحَارِي وَمَا كَانَ غَيْرَ عَامِرٍ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" مُتَجاوِراتٌ" أَيْ قُرًى مُتَدَانِيَاتٌ، تُرَابُهَا وَاحِدٌ، وَمَاؤُهَا وَاحِدٌ، وَفِيهَا زُرُوعٌ وَجَنَّاتٌ، ثُمَّ تَتَفَاوَتُ فِي الثِّمَارِ وَالتَّمْرِ، فَيَكُونُ الْبَعْضُ حُلْوًا، وَالْبَعْضُ حَامِضًا، وَالْغُصْنُ الْوَاحِدُ مِنَ الشَّجَرَةِ قَدْ يَخْتَلِفُ الثَّمَرُ فِيهِ مِنَ الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ وَاللَّوْنِ وَالْمَطْعَمِ، وَإِنِ انْبَسَطَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ عَلَى الْجَمِيعِ عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ، وَفِي هَذَا أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَعِظَمِ صَمَدِيَّتِهِ، وَالْإِرْشَادُ لِمَنْ ضَلَّ عَنْ مَعْرِفَتِهِ، فَإِنَّهُ نَبَّهَ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ:" يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ" عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لَيْسَ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَأَنَّهُ مَقْدُورٌ بِقُدْرَتِهِ، وَهَذَا أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى بُطْلَانِ الْقَوْلِ بِالطَّبْعِ، إِذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ بِالْمَاءِ وَالتُّرَابِ وَالْفَاعِلُ لَهُ الطَّبِيعَةُ لَمَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ. وَقِيلَ: وَجْهُ الِاحْتِجَاجِ أَنَّهُ أَثْبَتَ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْبِقَاعِ، فَمِنْ تُرْبَةٍ عَذْبَةٍ، وَمِنْ تُرْبَةٍ سَبِخَةٍ مَعَ تَجَاوُرِهِمَا، وَهَذَا أَيْضًا مِنْ دَلَالَاتِ كَمَالِ قُدْرَتِهِ، جَلَّ وَعَزَّ تَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ وَالْجَاحِدُونَ علوا كبيرا.
الْعِلْمُ وَالْحِلْمُ خُلَّتَا كَرَمٍ | لِلْمَرْءِ زَيْنٌ إِذَا هُمَا اجْتَمَعَا |
صِنْوَانِ لَا يُسْتَتَمُّ حُسْنُهُمَا | إِلَّا بِجَمْعِ ذَا وَذَاكَ مَعَا |
النَّاسُ كَالنَّبْتِ وَالنَّبْتُ أَلْوَانْ | مِنْهَا شَجَرُ الصندل والكافور والبان |
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أَيْ لَعَلَامَاتٍ لِمَنْ كَانَ لَهُ قلب يفهم عن الله تعالى.
[سورة الرعد (١٣): آية ٥]
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٥)
(٢). الدقل: ردئ التمر.
[سورة الرعد (١٣): الآيات ٦ الى ٧]
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) أَيْ لِفَرْطِ إِنْكَارِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ يَطْلُبُونَ الْعَذَابَ، قِيلَ هُوَ قَوْلُهُمْ:" اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ
" «٣» [الأنفال: ٣٢]. قَالَ قَتَادَةُ: طَلَبُوا الْعُقُوبَةَ قَبْلَ الْعَافِيَةِ، وَقَدْ حَكَمَ سُبْحَانَهُ بِتَأْخِيرِ الْعُقُوبَةِ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ:" قَبْلَ الْحَسَنَةِ" أَيْ قَبْلَ الْإِيمَانِ الَّذِي يُرْجَى بِهِ الْأَمَانُ وَالْحَسَنَاتُ. و (الْمَثُلاتُ) العقوبات، الواحدة مثلة. ورى عَنِ الْأَعْمَشِ أَنَّهُ قَرَأَ" الْمُثْلَاتُ" بِضَمِّ الْمِيمِ وإسكان الثاء، وهذا جمع مثلة، ويجوز
(٢). راجع ج ١٥ ص ٣٣٢.
(٣). راجع ج ٧ ص ٣٩٨.
[سورة الرعد (١٣): الآيات ٨ الى ٩]
اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (٨) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (٩)
فِيهِ ثَمَانُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) أَيْ مِنْ ذِكْرِ وَأُنْثَى، صَبِيحٍ وَقَبِيحٍ، صَالِحٍ وَطَالِحٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ" الْأَنْعَامِ" «٢» أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مُنْفَرِدٌ بِعِلْمِ الْغَيْبِ وحده
(٢). راجع ج ٧ ص ١ فما بعد.
(٢). من ا. وفى و: ابن المبارك.
(٢). سرر الصبى: ما تقطعه القابلة.
(٣). قال محققه: ورد في الحديث أقل الحيض وأكثره، روى الطبراني عن أبى أمامة عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" أقل الحيض ثلاث وأكثره عشرة" ورواه بن الربيع بن حبيب في مسنده عن أنس.
[سورة الرعد (١٣): آية ١٠]
سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (١٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ) إِسْرَارُ الْقَوْلِ: مَا حَدَّثَ بِهِ الْمَرْءُ نَفْسَهُ، وَالْجَهْرُ مَا حَدَّثَ بِهِ غَيْرَهُ، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ مَا أَسَرَّهُ الْإِنْسَانُ مِنْ
خَفَاهُنَّ مِنْ أَنْفَاقِهِنَّ «١» كَأَنَّمَا | خَفَاهُنَّ وَدْقٌ مِنْ عَشِيٍّ مُجَلَّبِ |
وَكُلُّ أُنَاسٍ قَارَبُوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ | وَنَحْنُ خَلَعْنَا قَيْدَهُ فَهْوَ سَارِبُ |
أَنَّى سَرَبْتِ وَكُنْتِ غَيْرَ سَرُوبٍ
وَقَالَ الْقُتَبِيُّ:" سارِبٌ بِالنَّهارِ" أَيْ مُنْصَرِفٌ فِي حَوَائِجِهِ بِسُرْعَةٍ، مِنْ قَوْلِهِمُ: انْسَرَبَ الْمَاءُ. وقال الأصمعي: خل سربه أي طريقه.
(٢). من اوح وو
(٣). هو الأخنس ابن شهاب التغلبي ويريد أن الناس أقاموا في موضع واحد لا يجترءون على النقلة، وحبسوا فحلهم عن أن يتقدم فتبعه إبلهم خوفا أن يغار عليها، ونحن أعزاء خلعنا قيد فحلنا ليذهب حيث شاء.
(٤). هو قيس بن الحطيم، وتمام البيت:
وتقرب الأحلام غير قريب
. [..... ]
[سورة الرعد (١٣): آية ١١]
لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (١١)قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَهُ مُعَقِّباتٌ) أَيْ لِلَّهِ مَلَائِكَةٌ يَتَعَاقَبُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَإِذَا صَعِدَتْ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ أَعْقَبَتْهَا مَلَائِكَةُ النَّهَارِ. وَقَالَ:" مُعَقِّباتٌ" وَالْمَلَائِكَةُ ذُكْرَانٌ لِأَنَّهُ جَمْعُ مُعَقِّبَةٍ، يُقَالُ: مَلَكٌ مُعَقِّبٌ، وَمَلَائِكَةٌ مُعَقِّبَةٌ، ثُمَّ مُعَقِّبَاتٌ جَمْعُ الْجَمْعِ. وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ" لَهُ مَعَاقِيبُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ". وَمَعَاقِيبُ جَمْعُ مُعْقِبٍ «١»، وَقِيلَ لِلْمَلَائِكَةِ مُعَقِّبَةٌ عَلَى لَفْظِ الْمَلَائِكَةِ. وَقِيلَ: أُنِّثَ لِكَثْرَةِ ذَلِكَ مِنْهُمْ، نحو نسابة وعلامة وراوية، قال الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ. وَالتَّعَقُّبُ الْعَوْدُ بَعْدَ الْبَدْءِ، قَالَ الله تعالى:" وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ" «٢» [النمل: ١٠] أَيْ لَمْ يَرْجِعْ، وَفِي الْحَدِيثِ «٣»:" مُعَقِّبَاتٌ لَا يخيب قائلهن- أوفاعلهن" فَذَكَرَ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ وَالتَّكْبِيرَ. قَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ: سُمِّينَ" مُعَقِّباتٌ" لِأَنَّهُنَّ عَادَتْ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، فِعْلُ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ فَقَدْ عَقَّبَ. وَالْمُعَقِّبَاتُ مِنَ الْإِبِلِ اللَّوَاتِي يَقُمْنَ عِنْدَ أَعْجَازِ الْإِبِلِ الْمُعْتَرِكَاتِ عَلَى الْحَوْضِ، فَإِذَا انْصَرَفَتْ نَاقَةٌ دَخَلَتْ مَكَانَهَا أُخْرَى. وَقَوْلُهُ: (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) أَيِ الْمُسْتَخْفِي بِاللَّيْلِ وَالسَّارِبِ بِالنَّهَارِ. (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) اخْتُلِفَ فِي [هَذَا]»
الْحِفْظِ، فَقِيلَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَوْكِيلُ الْمَلَائِكَةِ بِهِمْ لِحِفْظِهِمْ مِنَ الْوُحُوشِ وَالْهَوَامِّ وَالْأَشْيَاءِ الْمُضِرَّةِ، لُطْفًا مِنْهُ بِهِ، فَإِذَا جَاءَ الْقَدَرُ. خَلَّوْا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. قَالَ أَبُو مِجْلَزٍ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ مُرَادٍ «٥» إِلَى عَلِيِّ فَقَالَ: احْتَرِسْ فَإِنَّ نَاسًا مِنْ مُرَادٍ يُرِيدُونَ قتلك، فقال: إن مع كل
(٢). راجع ج ١٣ ص ١٦٠.
(٣). الحديث في الدعاء وهو بتمامه في" صحيح مسلم" معقبات لا يخيب قائلهن دبر كل صلاة مكتوبة ثلاث وثلاثون تسبيحة وثلاث وثلاثون تحميدة وأربع وثلاثون تكبيرة". سميت معقبات لأنها عادت مرة بعد مرة، أو لأنها تقال عقب كل صلات.
(٤). من اوح وو.
(٥). مراد (بالضم وآخره دال مهملة): قبيلة من قبائل العرب سميت باسم أبيها.
(٢). راجع ج ١٠ ص ٣٢٣.
(٢). الزيادة من تفسير الطبري.
(٢). الزيادة من تفسير الطبري وغيره.
(٣). المراد بالخبث الفسق والفجور.
مَا فِي السَّمَاءِ سِوَى الرَّحْمَنُ مِنْ وَالٍ
ووال وولي كقادر وقدير.
[سورة الرعد (١٣): الآيات ١٢ الى ١٣]
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (١٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ) أي بالمطر." وَالسَّحابِ" جَمْعٌ، وَالْوَاحِدَةُ سَحَابَةٌ، وَسُحُبٌ وَسَحَائِبُ فِي الْجَمْعِ أَيْضًا. (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ) قَدْ مَضَى فِي" الْبَقَرَةِ" «١» الْقَوْلُ فِي الرَّعْدِ وَالْبَرْقِ وَالصَّوَاعِقِ فَلَا مَعْنَى لِلْإِعَادَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ بَيَانُ كَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَأَنَّ تَأْخِيرَ الْعُقُوبَةِ لَيْسَ عَنْ عَجْزٍ، أَيْ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ فِي السَّمَاءِ خَوْفًا لِلْمُسَافِرِ، فَإِنَّهُ يَخَافُ أَذَاهُ لما ينال مِنَ الْمَطَرِ وَالْهَوْلِ وَالصَّوَاعِقِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" أَذىً مِنْ مَطَرٍ" «٢» [النساء: ١٠٢] وَطَمَعًا لِلْحَاضِرِ أَنْ يَكُونَ عَقِبَهُ مَطَرٌ وَخِصْبٌ، قَالَ مَعْنَاهُ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: خَوْفًا مِنْ صَوَاعِقِ الْبَرْقِ، وَطَمَعًا فِي غَيْثِهِ الْمُزِيلِ لِلْقَحْطِ." وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ" قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ بِالْمَاءِ." وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ" مَنْ قَالَ إِنَّ الرَّعْدَ صَوْتُ السَّحَابِ فَيُجَوِّزُ أَنْ يُسَبِّحَ الرَّعْدُ بِدَلِيلِ خَلْقِ الْحَيَاةِ فِيهِ، وَدَلِيلُ صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ:" وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ" فَلَوْ كَانَ الرَّعْدُ مَلَكًا لَدَخَلَ فِي جُمْلَةِ الْمَلَائِكَةِ. وَمَنْ قَالَ إِنَّهُ مَلَكٌ قَالَ: مَعْنَى." مِنْ خِيفَتِهِ" مِنْ خِيفَةِ اللَّهِ، قَالَهُ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ. قال ابن عباس: إن الملائكة
(٢). راجع ج ٥ ص ٣٧٢. [..... ]
ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَمُجَاهِدٍ: نَزَلَتْ فِي يَهُودِيٍّ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَخْبِرْنِي! من أي شي رَبُّكَ، أَمِنْ لُؤْلُؤٍ أَمْ مِنْ يَاقُوتٍ؟ فَجَاءَتْ صَاعِقَةٌ فَأَحْرَقَتْهُ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي بَعْضِ كُفَّارِ الْعَرَبِ، قَالَ الْحَسَنُ: كَانَ رَجُلٌ مِنْ طَوَاغِيتَ الْعَرَبِ بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَرًا يَدْعُونَهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْإِسْلَامِ فَقَالَ لَهُمْ: أَخْبِرُونِي عَنْ رَبِّ مُحَمَّدٍ مَا هُوَ، وَمِمَّ هُوَ، أَمِنْ فِضَّةٍ أَمْ مِنْ حَدِيدٍ أَمْ نُحَاسٍ؟ فَاسْتَعْظَمَ الْقَوْمُ مَقَالَتَهُ، فَقَالَ: أُجِيبُ مُحَمَّدًا إِلَى رَبٍّ لَا يَعْرِفُهُ! فَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ مِرَارًا وَهُوَ يَقُولُ مِثْلَ هَذَا، فَبَيْنَا النَّفَرُ يُنَازِعُونَهُ وَيَدْعُونَهُ إذ ارتفعت سحابة فكانت فوق رؤوسهم، فَرَعَدَتْ وَأَبْرَقَتْ وَرَمَتْ بِصَاعِقَةٍ، فَأَحْرَقَتِ الْكَافِرَ وَهُمْ جُلُوسٌ، فَرَجَعُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَقْبَلَهُمْ بَعْضُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: احْتَرَقَ صَاحِبُكُمْ، فَقَالُوا: مِنْ أَيْنَ عَلِمْتُمْ؟ قَالُوا: أَوْحَى اللَّهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ." وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ". ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ عَنِ الْحَسَنِ، وَالْقُشَيْرِيِّ بِمَعْنَاهُ عَنْ أَنَسٍ، وَسَيَأْتِي. وَقِيلَ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي أَرْبَدَ بْنِ رَبِيعَةَ أَخِي لَبِيَدِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَفِي عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَقْبَلَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ وَأَرْبَدُ بْنُ رَبِيعَةَ
يَا عَيْنُ هَلَّا بَكَيْتِ أَرْبَدَ إِذْ قُمْ | نَا وَقَامَ الْخُصُومُ فِي كَبَدِ «٣» |
أَخْشَى عَلَى أَرْبَدَ الْحُتُوفِ وَلَا | أَرْهَبُ نَوْءَ السِّمَاكِ وَالْأَسَدِ |
فَجَعَنِي الرَّعْدُ وَالصَّوَاعِقُ بِالْفَا | رِسِ يَوْمَ الْكَرِيهَةِ النَّجِدِ «٤» |
(٢). أذراه: قلعه ورمى به.
(٣). كبد: شدة وعناء.
(٤). النجد: السريع الإجابة.
إِنَّ الرَّزِيَّةَ لَا رَزِيَّةَ مِثْلُهَا | فِقْدَانُ كُلِّ أَخٍ كَضَوْءِ الْكَوْكَبِ |
يَا أَرْبَدَ الْخَيْرِ الْكَرِيمِ جُدُودُهُ | أَفْرَدْتَنِي أَمْشِي بِقَرْنٍ أَعْضَبِ «١» |
(٢). في العبارة سقط والذي في تفسير البغوي: عن ابن عباس: من سمع صوت الرعد فقال. الحديث ثم قال: فإن أصابته صاعقة فعلى ديته. محققه.
(٣). البرد (بالتحريك): حب الغمام.
(٤). راجع ج ١ ص ٢١٦ فما بعد.
فَرْعُ نَبْعٍ يَهْتَزُّ فِي غُصْنِ الْمَجْ | دِ كَثِيرُ الندى شديد المحال |
(٢). أي الأزهري كما في اللسان مادة" محل".
وَلَبَّسَ بَيْنَ أَقْوَامٍ فَكُلٌّ | أَعَدَّ لَهُ الشَّغَازِبَ وَالْمِحَالَا |
لَاهُمَّ إِنَّ الْمَرْءَ يَمْ | نَعُ رَحْلَهُ فَامْنَعْ حِلَالَكَ «٢» |
لَا يَغْلِبَنَّ صَلِيبُهُمْ وَمِحَا | لُهُمْ عَدْوًا مِحَالَكَ |
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (١٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ) أَيْ لِلَّهِ دَعْوَةُ الصِّدْقِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ، فَدُعَاؤُهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ. وَقِيلَ: إِنَّ الْإِخْلَاصَ فِي الدُّعَاءِ هُوَ دعوة الحق، قاله بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَقِيلَ: دَعْوَةُ الْحَقِّ دُعَاؤُهُ عِنْدَ الْخَوْفِ، فَإِنَّهُ لَا يُدْعَى فِيهِ إِلَّا إِيَّاهُ. كَمَا قَالَ:" ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ" «٣» [الإسراء: ٦٧]، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ أَشْبَهُ بِسِيَاقِ الْآيَةِ، لِأَنَّهُ قال: (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) يَعْنِي الْأَصْنَامَ وَالْأَوْثَانَ. (لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ) أَيْ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ دُعَاءً، وَلَا يَسْمَعُونَ لَهُمْ نِدَاءً. (إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ) ضَرَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمَاءَ مَثَلًا لِيَأْسِهِمْ مِنَ الْإِجَابَةِ لِدُعَائِهِمْ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تَضْرِبُ لِمَنْ سَعَى فِيمَا لَا يُدْرِكُهُ مَثَلًا بِالْقَابِضِ الْمَاءَ بِالْيَدِ، قَالَ:
فَأَصْبَحْتُ فِيمَا كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا | مِنَ الْوُدِّ مثل القابض الماء باليد |
(٢). الحلال (بالكسر): القوم المقيمون المتجاورون، يريد بهم سكان الحرم. ويروى: غدوا: الغدو أصل الغدو وهو اليوم الذي يأتي بعد يومك فحذفت لامه. اللسان. ويروى: أبدأ محالك. البحر.
(٣). راجع ج ١٠ ص ٢٩١.
فَإِنَّ الْمَاءَ مَاءُ أَبِي وَجَدِّي | وَبِئْرِي ذُو حَفَرْتُ وَذُو طَوَيْتُ |
[سورة الرعد (١٣): آية ١٥]
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (١٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا: الْمُؤْمِنُ يَسْجُدُ طَوْعًا، وَالْكَافِرُ يَسْجُدُ كَرْهًا بِالسَّيْفِ. وَعَنْ قَتَادَةَ أَيْضًا: يَسْجُدُ الْكَافِرُ كَارِهًا حِينَ لَا يَنْفَعُهُ الْإِيمَانُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: سُجُودُ الْكَافِرِ كَرْهًا مَا فِيهِ من الخضوع وأثر الصنعة.
لَعَمْرِي لَأَنْتَ الْبَيْتُ أُكْرِمُ أَهْلَهُ | وَأَقْعُدُ فِي أَفْيَائِهِ بِالْأَصَائِلِ |
[سورة الرعد (١٣): آية ١٦]
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (١٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لِلْمُشْرِكِينَ:" قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ" ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ [لَهُمْ] «١»: هُوَ اللَّهُ إِلْزَامًا لِلْحُجَّةِ إِنْ لَمْ يَقُولُوا ذَلِكَ، وَجَهِلُوا مَنْ هُوَ. (قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) هَذَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْخَالِقُ [وَإِلَّا] لَمْ يَكُنْ لِلِاحْتِجَاجِ بِقَوْلِهِ:" قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ" مَعْنًى، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ:" وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ" «٢» [الزمر: ٣٨] أَيْ فَإِذَا اعْتَرَفْتُمْ فَلِمَ تَعْبُدُونَ غَيْرَهُ؟! وَذَلِكَ الْغَيْرُ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ، وَهُوَ إِلْزَامٌ صحيح. ثُمَّ ضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا فَقَالَ: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) فَكَذَلِكَ لَا يَسْتَوِي الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُبْصِرُ الْحَقَّ، وَالْمُشْرِكُ الَّذِي لَا يُبْصِرُ الْحَقَّ. وَقِيلَ: الْأَعْمَى مَثَلٌ لِمَا عَبَدُوهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَالْبَصِيرُ مَثَلُ اللَّهِ تَعَالَى: (أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ) أَيِ الشِّرْكُ وَالْإِيمَانُ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَأَبُو بَكْرٍ وَالْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ والكسائي" يسوي" بِالْيَاءِ لِتَقَدُّمِ الْفِعْلِ، وَلِأَنَّ تَأْنِيثَ" الظُّلُماتُ" لَيْسَ بِحَقِيقِيٍّ. الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، قَالَ: لِأَنَّهُ لَمْ يَحُلْ بَيْنَ الْمُؤَنَّثِ وَالْفِعْلِ حَائِلٌ. وَ" الظُّلُماتُ وَالنُّورُ" مَثَلُ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَنَحْنُ لَا نَقِفُ عَلَى كَيْفِيَّةِ ذَلِكَ. (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ) هَذَا مِنْ تَمَامِ الِاحْتِجَاجِ، أَيْ خَلَقَ غَيْرُ الله مثل
(٢). راجع ج ١٥ ص ٣٥٨.
[سورة الرعد (١٣): الآيات ١٧ الى ١٩]
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (١٧) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٨) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً) ضَرَبَ مَثَلًا لِلْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، فَشَبَّهَ الْكُفْرَ بِالزَّبَدِ الَّذِي يَعْلُو الْمَاءَ، فَإِنَّهُ يَضْمَحِلُّ وَيَعْلَقُ بِجَنَبَاتِ الْأَوْدِيَةِ، وَتَدْفَعُهُ الرِّيَاحُ، فَكَذَلِكَ يَذْهَبُ الْكُفْرُ وَيَضْمَحِلُّ، عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ:
فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبٌ
وَقَدْ تَقَدَّمَ، أَيْ أَجَابَ إِلَى مَا دَعَاهُ اللَّهُ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّاتِ. (الْحُسْنى) لِأَنَّهَا فِي نِهَايَةِ الْحُسْنِ. وَقِيلَ: مِنَ الْحُسْنَى النَّصْرُ فِي الدُّنْيَا، وَالنَّعِيمُ الْمُقِيمُ غدا. (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ)
(٢). هو كعب بن سعد الغنوي يرثى أخاه أبا المغوار، وصدر البيت:
وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إِلَى النِّدَى
.
[سورة الرعد (١٣): آية ٢٠]
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ) هَذَا مِنْ صِفَةِ ذَوِي الْأَلْبَابِ، أَيْ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ الْمُوفُونَ بِعَهْدِ الله. والعهد اسم الجنس، أَيْ بِجَمِيعِ عُهُودِ اللَّهِ، وَهِيَ أَوَامِرُهُ وَنَوَاهِيهِ الَّتِي وَصَّى بِهَا عَبِيدَهُ، وَيَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْتِزَامُ جَمِيعِ الْفُرُوضِ، وَتَجَنُّبُ جَمِيعِ الْمَعَاصِي. وَقَوْلُهُ: (وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ جِنْسَ الْمَوَاثِيقِ، أَيْ إِذَا عَقَدُوا فِي طَاعَةِ اللَّهِ عَهْدًا لَمْ يَنْقُضُوهُ. قَالَ قَتَادَةُ: تَقَدَّمَ اللَّهُ إِلَى عِبَادِهِ فِي نَقْضِ الْمِيثَاقِ وَنَهَى عَنْهُ فِي بِضْعٍ وَعِشْرِينَ آيَةً، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُشِيرَ إِلَى مِيثَاقٍ بِعَيْنِهِ، هُوَ الَّذِي أخذه
(٢). السبخي: (بفتحتين) نسبة إلى السبخة موضع بالبصرة.
(٣). من ى.
(٢). الزيادة من كتب الحديث.
نَهَانِي حَيَائِي مِنْكَ أَنْ أَكْشِفَ الْهَوَى | فَأَغْنَيْتَنِي بِالْعِلْمِ مِنْكَ عَنِ الْكَشْفِ |
تَلَطَّفْتَ فِي أَمْرِي فَأَبْدَيْتَ شَاهِدِي | إِلَى غَائِبِي وَاللُّطْفُ يُدْرَكُ بِاللُّطْفِ |
تَرَاءَيْتَ لِي بِالْعِلْمِ حَتَّى كَأَنَّمَا | تُخَبِّرُنِي بِالْغَيْبِ أَنَّكَ فِي كَفِّ |
أَرَانِي وَبِي مِنْ هَيْبَتِي لَكَ وَحْشَةٌ | فَتُؤْنِسُنِي بِاللُّطْفِ مِنْكَ وَبِالْعَطْفِ |
وَتُحْيِي مُحِبًّا أَنْتَ فِي الْحُبِّ حَتْفُهُ | وَذَا عَجَبٌ كَيْفَ الْحَيَاةُ مَعَ الْحَتْفِ |
[سورة الرعد (١٣): الآيات ٢١ الى ٢٤]
وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤)
(٢). في ى: خير. [..... ]
(٣). الحبرة (بكسر الحاء المهملة وفتحها): ضروب من البرود اليمنية المخطط.
(٤). راجع ج ١٠ ص ٣٩٥ فما بعد.
" وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ، وَذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِي الشُّهَدَاءَ، فإذا أتى فرضة الشعب «١» يقول:" سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ". ثُمَّ كَانَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ، وَكَانَ عُمَرُ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ يَفْعَلُهُ، وَكَانَ عُثْمَانُ بَعْدَ عُمَرَ يَفْعَلُهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ:" بِما صَبَرْتُمْ" عَنْ فُضُولِ الدُّنْيَا. وَقِيلَ:" بِما صَبَرْتُمْ" عَلَى مُلَازَمَةِ الطَّاعَةِ، وَمُفَارَقَةِ الْمَعْصِيَةِ، قَالَ مَعْنَاهُ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ. ابْنُ زَيْدٍ:" بِما صَبَرْتُمْ" عَمَّا تُحِبُّونَهُ إِذَا فَقَدْتُمُوهُ. وَيَحْتَمِلُ سَابِعًا-" بِما صَبَرْتُمْ" عَنِ اتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ [أَنَّهُمَا قَالَا] «٢»: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يُنَادِي مُنَادٍ لِيَقُمْ أَهْلُ الصَّبْرِ، فَيَقُومُ نَاسٌ مِنَ النَّاسِ فَيُقَالُ لَهُمُ: انْطَلِقُوا إِلَى الْجَنَّةِ فَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ فَيَقُولُونَ: إِلَى أَيْنَ؟ فَيَقُولُونَ: إِلَى الْجَنَّةِ، قَالُوا: قَبْلَ الْحِسَابِ؟ قَالُوا نَعَمْ! فَيَقُولُونَ: مَنْ أَنْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: نَحْنُ أَهْلُ الصَّبْرِ، قَالُوا: وَمَا كَانَ صَبْرُكُمْ؟ قَالُوا: صَبَرْنَا أَنْفُسَنَا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَصَبَرْنَاهَا عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ وَصَبَرْنَاهَا عَلَى الْبَلَاءِ وَالْمِحَنِ فِي الدُّنْيَا. قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: فَتَقُولُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ. وَقَالَ ابْنُ سَلَامٍ: فَتَقُولُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ:" سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ" أَيْ نِعْمَ عَاقِبَةُ الدَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ فِيهَا، عَمِلْتُمْ فِيهَا مَا أَعْقَبَكُمْ هَذَا الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ، فَالْعُقْبَى عَلَى هَذَا اسْمٌ، و" الدَّارِ" هِيَ الدُّنْيَا. وَقَالَ أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ:" فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ" الْجَنَّةُ عَنِ النَّارِ. وَعَنْهُ:" فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ" الجنة عن الدنيا.
[سورة الرعد (١٣): الآيات ٢٥ الى ٢٦]
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (٢٦)
(٢). في الأصل:" أنه قال".
[سورة الرعد (١٣): الآيات ٢٧ الى ٢٨]
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨)
(٢). السكرجة: إناء صغير يؤكل فيه الشيء القليل من الأدم، وهى فارسية.
[سورة الرعد (١٣): آية ٢٩]
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ) ابْتِدَاءٌ وَخَبَرُهُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَهُمْ طُوبَى، فَ" طُوبى " رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُهُ نَصْبًا عَلَى تَقْدِيرِ: جَعَلَ
[سورة الرعد (١٣): آية ٣٠]
كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (٣٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ) أَيْ أَرْسَلْنَاكَ كَمَا أَرْسَلْنَا الْأَنْبِيَاءَ مِنْ قَبْلِكَ، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقِيلَ: شَبَّهَ الْإِنْعَامَ عَلَى مَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْإِنْعَامِ على من أرسل إليه الأنبياء قبله. (لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) يَعْنِي الْقُرْآنَ. (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) قَالَ مُقَاتِلٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ: نَزَلَتْ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ حِينَ أَرَادُوا
[سورة الرعد (١٣): آية ٣١]
وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٣١)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) هذا متصل بقول:" لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ" [يونس: ٢٠]. وَذَلِكَ أَنَّ نَفَرًا مِنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ فِيهِمْ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ المخزوميان
(٢). راجع ج ١٣ ص ٦٤.
فَلَوْ أَنَّهَا نَفْسٌ تَمُوتُ جَمِيعَةً | وَلَكِنَّهَا نَفْسٌ تَسَاقَطُ أَنْفُسَا |
(٢). راجع ج ٧ ص ٦٦.
أَقُولُ لَهُمْ بِالشِّعْبِ إِذْ يَيْسِرُونَنِي | أَلَمْ تَيْأَسُوا أَنِّي ابْنُ فَارِسِ زَهْدَمِ |
ألم ييأس الْأَقْوَامُ أَنِّي [أَنَا] «٣» ابْنُهُ | وَإِنْ كُنْتُ عَنْ أَرْضِ الْعَشِيرَةِ نَائِيَا |
(٢). راجع ج ٣ ص ٥٣.
(٣). من البحر لأبى حيان، وكتاب الرد.
أَفْنَى تِلَادِي وَمَا جَمَّعْتُ مِنْ نَشَبٍ | قَرْعُ الْقَوَاقِيزِ أَفْوَاهَ الْأَبَارِيقِ |
[سورة الرعد (١٣): الآيات ٣٢ الى ٣٤]
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٣٢) أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (٣٤)
فَلَوْلَا رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَعِزَّةٌ | سَرَقْتُمْ ثِيَابَ الْبَيْتِ وَاللَّهُ قَائِمُ |
(٢). راجع ج ٤ ص ٢٨٦ فما بعد.
أَعَيَّرْتَنَا أَلْبَانَهَا وَلُحُومَهَا | وَذَلِكَ عَارٌ يَا ابْنَ رَيْطَةَ ظَاهِرُ |
(٢). راجع ج ٨ ص ٢٥.
(٣). راجع ج ١٦ ص ٢٨٣.
(٤). راجع ص ٢٢٣ من هذا الجزء.
"، لِأَنَّكَ تَقُولُ فِي الرَّجُلِ: هَذَا قَاضٍ وَوَالٍ وَهَادٍ، فَتُحْذَفُ الْيَاءُ لِسُكُونِهَا وَالْتِقَائِهَا مع التنوين. وقرى" فما له من هادي"،" وَالِي" وَ" وَاقِي" بِالْيَاءِ، وَهُوَ عَلَى لُغَةِ من يقول: هذا داعي ووالى وَوَاقِي بِالْيَاءِ، لِأَنَّ حَذْفَ الْيَاءِ فِي حَالَةِ الْوَصْلِ لِالْتِقَائِهَا مَعَ التَّنْوِينِ، وَقَدْ أَمِنَّا هَذَا فِي الْوَقْفِ، فَرُدَّتِ الْيَاءُ فَصَارَ هَادِي وَوَالِي وَوَاقِي. وَقَالَ الْخَلِيلُ فِي نِدَاءِ قَاضٍ: يَا قَاضِي بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ، إِذْ لَا تَنْوِينَ مَعَ النِّدَاءِ، كَمَا لَا تَنْوِينَ فِي نَحْوِ الدَّاعِي وَالْمُتَعَالِي. قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا)
أَيْ لِلْمُشْرِكِينَ الصَّادِّينَ، بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَالْإِسَارِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْقَامِ وَالْمَصَائِبِ. (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ)
أَيْ أَشَدُّ، مِنْ قَوْلِكَ: شَقَّ عَلَيَّ كَذَا يَشُقُّ. (وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ)
أَيْ مَانِعٍ يَمْنَعُهُمْ مِنْ عَذَابِهِ وَلَا دافع. و" مِنَ
" زائدة.
[سورة الرعد (١٣): آية ٣٥]
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (٣٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) اخْتَلَفَ النُّحَاةُ فِي رَفْعِ" مَثَلُ" فَقَالَ سِيبَوَيْهِ: ارْتَفَعَ بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَفِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ مَثَلُ الْجَنَّةِ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: ارْتَفَعَ بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ" تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ" أَيْ صِفَةُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، كَقَوْلِكَ: قَوْلِي يَقُومُ زَيْدٌ، فَقَوْلِي مُبْتَدَأٌ، وَيَقُومُ زَيْدٌ خَبَرُهُ، وَالْمَثَلُ بِمَعْنَى الصِّفَةِ مَوْجُودٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ" «١» [الفتح: ٢٩] وقال:" وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى " «٢» [النحل: ٦٠] أَيِ الصِّفَةُ الْعُلْيَا، وَأَنْكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ وَقَالَ: لَمْ يُسْمَعْ مَثَلُ بِمَعْنَى الصِّفَةِ، إِنَّمَا مَعْنَاهُ الشَّبَهُ، أَلَا تَرَاهُ يَجْرِي مَجْرَاهُ فِي مَوَاضِعِهِ وَمُتَصَرِّفَاتِهِ، كَقَوْلِهِمْ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ مَثَلِكَ، كَمَا تَقُولُ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ شَبَهِكَ، قَالَ: وَيَفْسُدُ أَيْضًا مِنْ جهة المعنى، لأن مثلا
(٢). راجع ج ١٠ ص ١١٩.
[سورة الرعد (١٣): آية ٣٦]
وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) أَيْ بَعْضُ مَنْ أُوتِيَ الْكِتَابَ يَفْرَحُ بِالْقُرْآنِ، كَابْنِ سَلَامٍ وَسَلْمَانَ، وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنَ الْحَبَشَةِ، فَاللَّفْظُ عَامٌّ، وَالْمُرَادُ الْخُصُوصُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْرَحُونَ بِنُورِ الْقُرْآنِ، وَقَالَهُ مجاهد
(٢). في ى: ليس كهو سيئ.
[سورة الرعد (١٣): آية ٣٧]
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا) أَيْ وَكَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ فَأَنْكَرَهُ بَعْضُ الْأَحْزَابِ كَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عربيا، وإنما وَصَفَهُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ أَنْزَلَهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ عَرَبِيٌّ، فَكَذَّبَ الْأَحْزَابُ بِهَذَا الْحُكْمِ أَيْضًا. وَقِيلَ نَظْمُ الْآيَةِ: وَكَمَا أَنْزَلْنَا الْكُتُبَ عَلَى الرُّسُلِ بِلُغَاتِهِمْ كَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْقُرْآنَ حُكْمًا عَرَبِيًّا، أَيْ بِلِسَانِ الْعَرَبِ، ويريد بالحكم ما فيه
(٢). راجع ج ١١ ص ٢٨٧.
(٣). في ح وا وى: أبو خليد: وهو عتبة بن حماد الحكمي وروى عن نافع. غاية النهاية.
[سورة الرعد (١٣): آية ٣٨]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قِيلَ: إِنَّ الْيَهُودَ عَابُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَزْوَاجَ، وَعَيَّرَتْهُ بِذَلِكَ وَقَالُوا: مَا نَرَى لِهَذَا الرَّجُلِ هِمَّةً إِلَّا النِّسَاءَ وَالنِّكَاحَ، وَلَوْ كَانَ نَبِيًّا لَشَغَلَهُ أَمْرُ النُّبُوَّةِ عَنِ النِّسَاءِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هذه والآية، وَذَكَّرَهُمْ أَمْرَ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ فَقَالَ: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً) أي جعلناهم بشرا يقضون مَا أَحَلَّ اللَّهُ مِنْ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا التَّخْصِيصُ فِي الْوَحْيِ. الثَّانِيَةُ- هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى التَّرْغِيبِ فِي النِّكَاحِ وَالْحَضِّ عَلَيْهِ، وَتَنْهَى عَنِ التَّبَتُّلِ، وَهُوَ تَرْكُ النِّكَاحِ، وَهَذِهِ سُنَّةُ الْمُرْسَلِينَ كَمَا نَصَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ، وَالسُّنَّةُ وَارِدَةٌ بِمَعْنَاهَا، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تَزَوَّجُوا فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ) الْحَدِيثَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي" آلِ عِمْرَانَ" «١» وَقَالَ: (مَنْ تَزَوَّجَ فَقَدِ اسْتَكْمَلَ نِصْفَ الدِّينِ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ فِي النِّصْفِ الثَّانِي) «٢». وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ النِّكَاحَ يُعِفُّ عن الزني، وَالْعَفَافُ أَحَدُ الْخَصْلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ضَمِنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمَا الْجَنَّةَ فَقَالَ:" مَنْ وَقَاهُ اللَّهُ شَرَّ اثْنَتَيْنِ وَلَجَ الْجَنَّةَ مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ" خَرَّجَهُ الْمُوَطَّأُ وَغَيْرُهُ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: (جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النبي
(٢). روى ابن الجوزي في العلل" ومن تزوج فقد أحرز نصف دينه فليتق الله في النصف الباقي" وراجع الحديث بطرقه في ج ٢ كشف الخفا ص ٢٣٩ ففيه بحث.
(٢). راجع ج ٤ ص ٧٢، وج ٦ ص ٢٦٠ فما بعد.
(٣). من ع.
[سورة الرعد (١٣): آية ٣٩]
يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩)
قوله تعالى: (يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ وَيُثْبِتُ) أَيْ يَمْحُو مِنْ ذَلِكَ الْكِتَابِ مَا يَشَاءُ أَنْ يُوقِعَهُ بِأَهْلِهِ وَيَأْتِيَ بِهِ." وَيُثْبِتُ" مَا يَشَاءُ، أَيْ يُؤَخِّرُهُ إِلَى وَقْتِهِ، يُقَالُ: مَحَوْتُ الْكِتَابَ مَحْوًا، أَيْ أَذْهَبْتُ أَثَرَهُ." وَيُثْبِتُ" أَيْ وَيُثْبِتُهُ، كَقَوْلِهِ:" وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ" «٢» [الأحزاب: ٣٥] أَيْ وَالذَّاكِرَاتِ اللَّهَ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ" وَيُثْبِتُ" بِالتَّخْفِيفِ، وَشَدَّدَ الْبَاقُونَ، وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاخْتِيَارِ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبِي عبيد لكثرة من قرأ بها، لقول:" يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا" «٣» [إبراهيم: ٢٧]. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:" يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ وَيُثْبِتُ إِلَّا السَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ وَالْمَوْتَ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ إِلَّا أَشْيَاءَ «٤»، الْخَلْقَ وَالْخُلُقَ وَالْأَجَلَ وَالرِّزْقَ وَالسَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ، وَعَنْهُ: هُمَا كِتَابَانِ سِوَى أُمِّ الْكِتَابِ، يَمْحُو اللَّهُ مِنْهُمَا مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ. (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) الَّذِي لَا يَتَغَيَّرُ منه شي. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَقِيلَ السَّعَادَةُ وَالشَّقَاوَةُ وَالْخَلْقُ وَالْخُلُقُ وَالرِّزْقُ لَا تَتَغَيَّرُ، فَالْآيَةُ فِيمَا عَدَا هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَفِي هَذَا الْقَوْلِ نَوْعُ تَحَكُّمٍ. قُلْتُ: مِثْلُ هَذَا لَا يُدْرَكُ بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ تَوْقِيفًا، فَإِنْ صَحَّ فَالْقَوْلُ بِهِ يَجِبُ وَيُوقَفُ عِنْدَهُ، وَإِلَّا فَتَكُونُ الْآيَةُ عَامَّةً فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَهَذَا
(٢). راجع ج ١٤ ص ١٨٥.
(٣). راجع ص ٣٦٢ من هذا الجزء.
(٤). في اوو: إلا ستا.
(٢). راجع ج ٦ ص ٣٨٧.
(٢). الزيادة من" البحر المحيط".
(٣). راجع ج ١٣ ص ٧٧.
(٢). راجع ج ١٥ ص ٢٦٥ وص ٢٢.
(٣). راجع ج ١٥ ص ٢٦٥ وص ٢٢.
(٤). راجع ج ١٢ ص ١٢٠ فما بعد.
(٥). من ى.
[سورة الرعد (١٣): الآيات ٤٠ الى ٤١]
وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤١)
قوله تعالى: (وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) " مَا" زَائِدَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَإِنْ نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ، أَيْ مِنَ الْعَذَابِ لِقَوْلِهِ:" لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
" [الرعد: ٣٤] وَقَوْلُهُ:" وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ" [الرعد: ٣١] أَيْ إِنْ أَرَيْنَاكَ بَعْضَ مَا وَعَدْنَاهُمْ (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) فَلَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ، أَيِ التَّبْلِيغُ، (وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) أَيِ الْجَزَاءُ وَالْعُقُوبَةُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوَلَمْ يَرَوْا) يَعْنِي، أَهْلَ مَكَّةَ، (أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ) أَيْ نَقْصِدُهَا. (نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) اخْتُلِفَ فِيهِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ:" نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها" مَوْتُ عُلَمَائِهَا وَصُلَحَائِهَا قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَعَلَى هَذَا فَالْأَطْرَافُ الْأَشْرَافُ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الطَّرَفُ وَالطَّرْفُ الرَّجُلُ الْكَرِيمُ، وَلَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ بَعِيدٌ، لِأَنَّ مَقْصُودَ الْآيَةِ: أَنَّا أَرَيْنَاهُمُ النُّقْصَانَ فِي أُمُورِهِمْ، لِيَعْلَمُوا أَنَّ تَأْخِيرَ الْعِقَابِ عَنْهُمْ لَيْسَ عَنْ عَجْزٍ، إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى مَوْتِ أحبار اليهود والنصارى. وقال مجاهد أيضا
" قَالَ: ذَهَابُ فُقَهَائِهَا وَخِيَارِ أَهْلِهَا. قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَوْلُ عَطَاءٍ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ حَسَنٌ جِدًّا، تَلَقَّاهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْقَبُولِ. قُلْتُ: وَحَكَاهُ الْمَهْدَوِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ وَابْنِ عُمَرَ، وَهَذَا نَصُّ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ نَفْسُهُ، رَوَى سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ،" نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها" قَالَ: مَوْتُ الْفُقَهَاءِ وَالْعُلَمَاءِ، وَمَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ أَنَّ الطَّرَفَ الْكَرِيمُ مِنْ كل شي، وَهَذَا خِلَافُ مَا ارْتَضَاهُ أَبُو نَصْرٍ عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالشَّعْبِيُّ: هُوَ النُّقْصَانُ وَقَبْضُ الْأَنْفُسِ. قَالَ أَحَدُهُمَا: وَلَوْ كَانَتِ الْأَرْضُ تَنْقُصُ لَضَاقَ عَلَيْكَ حَشُّكَ «١». وَقَالَ الْآخَرُ: لَضَاقَ عَلَيْكَ حَشٌّ تَتَبَرَّزُ فِيهِ. قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ هَلَاكُ مَنْ هَلَكَ مِنَ الْأُمَمِ قَبْلَ قُرَيْشٍ وَهَلَاكُ أرضهم بعدهم، والمعنى: أو لم تَرَ قُرَيْشٌ هَلَاكَ مَنْ قَبْلَهُمْ، وَخَرَابَ أَرْضِهِمْ بَعْدَهُمْ؟! أَفَلَا يَخَافُونَ أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مِثْلُ ذَلِكَ، وَرُوِيَ ذَلِكَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَابْنِ جُرَيْجٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أنه بَرَكَاتِ الْأَرْضِ وَثِمَارِهَا وَأَهْلِهَا. وَقِيلَ: [نَقْصُهَا] «٢» بِجَوْرِ وُلَاتِهَا. قُلْتُ: وَهَذَا صَحِيحٌ مَعْنًى، فَإِنَّ الْجَوْرَ وَالظُّلْمَ يُخَرِّبُ الْبِلَادَ، بِقَتْلِ أَهْلِهَا وَانْجِلَائِهِمْ عَنْهَا، وَتُرْفَعُ مِنَ الْأَرْضِ الْبَرَكَةُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) أَيْ لَيْسَ يَتَعَقَّبُ حُكْمَهُ أَحَدٌ بِنَقْصٍ وَلَا تَغْيِيرٍ. (وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) أَيِ الِانْتِقَامِ مِنَ الْكَافِرِينَ، سَرِيعُ الثَّوَابِ لِلْمُؤْمِنِ. وَقِيلَ: لَا يَحْتَاجُ فِي حِسَابِهِ إِلَى رَوِيَّةِ قَلْبٍ، وَلَا عَقْدِ بَنَانٍ، حسب ما تقدم في" البقرة" «٣» بيانه.
(٢). من ى.
(٣). راجع ج ٢ ص ٤٣٤ فما بعد.
[سورة الرعد (١٣): الآيات ٤٢ الى ٤٣]
وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (٤٣)قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أَيْ مِنْ قَبْلِ مُشْرِكِي مَكَّةَ، مَكَرُوا بِالرُّسُلِ وَكَادُوا لَهُمْ وَكَفَرُوا بِهِمْ. (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) أَيْ هُوَ مَخْلُوقٌ لَهُ مَكْرُ الْمَاكِرِينَ، فَلَا يَضُرُّ إِلَّا بِإِذْنِهِ. وَقِيلَ: فَلِلَّهِ خَيْرُ الْمَكْرِ، أَيْ يُجَازِيهِمْ بِهِ. (يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) مِنْ خير وشر، فيجازي عليه. (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ) كَذَا قِرَاءَةُ نَافِعٍ وَابْنِ كَثِيرٍ وَأَبِي عَمْرٍو. الْبَاقُونَ" الْكُفَّارُ" عَلَى الْجَمْعِ. وَقِيلَ: عُنِيَ [بِهِ «١»] أَبُو جَهْلٍ. (لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) أَيْ عَاقِبَةُ دَارِ الدُّنْيَا ثَوَابًا وَعِقَابًا، أَوْ لِمَنِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَهَذَا تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا) قَالَ قَتَادَةُ: هُمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ، أَيْ لَسْتَ بِنَبِيٍّ وَلَا رَسُولٍ، وَإِنَّمَا أَنْتَ مُتَقَوِّلٌ، أَيْ لَمَّا لَمْ يَأْتِهِمْ بِمَا اقْتَرَحُوا قَالُوا ذَلِكَ. (قُلْ كَفى بِاللَّهِ) أَيْ قُلْ لَهُمْ يَا محمد:" كَفى بِاللَّهِ" أي كفى الله (شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) بِصِدْقِي وَكَذِبِكُمْ. (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) وَهَذَا احْتِجَاجٌ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرْجِعُونَ إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ- مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ- فِي التَّفَاسِيرِ. وَقِيلَ: كَانَتْ شَهَادَتُهُمْ قَاطِعَةً لِقَوْلِ الْخُصُومِ، وَهُمْ مُؤْمِنُو أَهْلِ الْكِتَابِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَتَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَالنَّجَاشِيِّ وَأَصْحَابِهِ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ أَخِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ: لَمَّا أُرِيدَ [قَتْلُ] عُثْمَانَ جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: مَا جَاءَ بِكَ؟ قَالَ: جِئْتُ فِي نُصْرَتِكَ، قَالَ: اخْرُجْ إِلَى النَّاسِ فَاطْرُدْهُمْ عني، فإنك خارج خَيْرٌ لِي مِنْ دَاخِلٍ، [قَالَ] «٢» فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ إِلَى النَّاسِ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّهُ كَانَ اسْمِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ فُلَانٌ «٣»، فسماني
(٢). من ى.
(٣). في ى: ولعله تحريف عن حصين.
(٢). قيل: السورة مدنية إلا" وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً" الآيتين. قاله قتادة. وفيها مدني كثير كقصة بن الطفيل وأربد. ابن عطية.
(٣). في كشف الخفا بحث، قيم في هذا الحديث ج ١ ص ٢٠٣ فما بعد. وجزم ابن تيمية بأنه من وضع الشيعة. [..... ]