تفسير سورة طه

المنتخب في تفسير القرآن الكريم
تفسير سورة سورة طه من كتاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم .
لمؤلفه المنتخب . المتوفي سنة 2008 هـ
هذه السورة سورة مكية إلا آيتين : هما الآية رقم ١٣٠، ١٣١، وعدد آياتها ١٣٥، وقد ابتدأت السورة بحرفين صوتيين للتنبيه علي إعجاز القرآن، ولحمل السامعين علي الإنصات. وقد ذكرت منزلة القرآن بعد هذين الحرفين، وشرفه بشرف منزله، وهو الله سبحانه وتعالي مالك السماوات والأرض، والذي يعلم السر، وما هو أخفي من السر، ثم ذكرت قصة موسى عليه السلام مع فرعون، وكيف ابتدأ بعث موسى عليه السلام وطلبه أن يكون أخوه هارون عليهما السلام عونا له ومؤازرا، ثم كيف التقيا بفرعون بعد الهيبة من لقائه لعظم طغيانه. وفي هذه الأثناء بين الله تعالي نشأة موسى عليه السلام.
وفيها المجاوبة بين موسى وفرعون، ثم بين موسى عليه السلام والسحرة، وحال موسى من خوف الهزيمة أمام السحرة، والتقاف عصاه لما ألقوا من حبال، ثم فيها كيف انتهي أمر السحرة، وإيمانهم، وتعذيب فرعون لهم، ثم نجاة موسى مع بني إسرائيل من فرعون، وكيف غرق فرعون، وقد تبعهم بعد انفلاق البحر، وكيف اتجه موسى إلي الطور، وقد ترك قومه ليذهب لمناجاة ربه، ففتنهم السامري، ووسوس لهم أن يعبدوا هيكل عجل عمل من الذهب، وكان مرور الهواء في جوفه يحدث خوارا، وقد غضب موسى لما حدث، وأخذ برأس أخيه يجره إليه.
ثم جاء في السورة الكريمة ما أصاب السامري، وقد أشار الله سبحانه وتعالي إلي العبر في قصص موسى وغيره، وجاء في آخر السورة بوصايا كريمة بالصبر والعفة والصلاة، ثم بيان تهافت المشركين في طلبهم معجزة غير القرآن، وأشار سبحانه إلي حكمة إرسال الرسل، ثم ختمت السورة الكريمة بالإشارة إلي ما يكون للكافرين من عذاب، وما يكون للمؤمنين من ثواب.

١- بدأ الله تعالي السورة بهذه الحروف لتحدى المنكرين، والإشارة إلي أن القرآن مُكَوَّن من هذه الحروف التي تتكلمون بها، ومع ذلك عجزتم عن الإتيان بسورة قصيرة أو آيات من مثله.
٢- إنا ما أوحينا إليك - أيها الرسول - هذا القرآن ليكون سبباً في إرهاق نفسك أسفاً علي إعراض المعرضين عنك.
٣- لكن أنزلناه تذكرة لمن يخاف الله فيطيعه.
٤- قد نزل عليك هذا القرآن من عند الله القادر خالق الأرض والسماوات الرفيعة العالية.
٥- عظيم الرحمة علي ملكه استوى.
٦- له - وحده - سبحانه ملك السماوات وما فيها والأرض وما عليها، وملك ما بينهما، وما اختبأ في الأرض من معادن وخيرات.
٧- وكما شملت قدرة الله - عز وجل - كل شيء قد أحاط علمه بكل شيء، وإن ترفع صوتك - أيها الإنسان - بالقول، فإن الله يعلمه، لأنه يعلم حديثك مع غيرك ويعلم حديث نفسك.
٨- هو الله الإله الواحد المستحق للعبادة دون سواه ؛ إذ هو المتصف بصفات الكمال، وله الصفات الحسنى.
٩- هل علمت - أيها النبي - خبر موسى مع فرعون ؟
١٠- حين أبصر ناراً في مسيره ليلا من مدين إلي مصر، فقال عند ذلك لزوجه ومن معها : انتظروا في مكانكم، إني أبصرت ناراً، أرجو أن أحمل لكم منها جمرة تدفئكم، أو أجد حول النار من يهديني إلي الطريق.
١١- فلما بلغ مكانها، سمع صوتاً عُلْوِيا يناديه : يا موسى.
١٢- إني أنا الله ربك، فاخلع نعليك تكريماً للموقف، فإنك بالوادي المطهر المبارك وهو «طوى ».
١٣- وأنا الله أصطفيك بالرسالة، فاصغ لما أوحيه إليك لتعلمه وتبلغه قومك.
١٤- إنني أنا الله الإله الواحد، لا معبود بحق سواي، فآمن بي واعبدني، وداوم علي إقامة الصلاة لتظل في ذكر دائم بي.
١٥- إن الساعة - التي هي موْعد لقائي، وقد أخفيت موعدها عن عبادي، وأظهرت لهم دلالتها - آتية لا محالة، لتحاسب كل نفس علي ما عملت وتُجزى به.
١٦- فلا يصرفنك يا موسى عن الإيمان بالساعة والاستعداد لها من لا يصدق بها، ومال مع هواه فتهلك.
١٧- وما تلك التي تمسكها بيدك اليمنى ؟
١٨- وأجاب موسى : إنها عصاي أعتمد عليها في مسيري، وأسوق بها غنمي، ولي فيها منافع أخرى، كدفع أذى الحيوان.
١٩- قال الله سبحانه لموسى : ارم بها علي الأرض.
٢٠- فرمى بها موسى، ففوجئ بها تنقلب حية تمشى.
٢١- فارتاع منها، فطمأنه الله قائلا : تَناوْلها دون خوف، فإننا سنعيدها عصا كما كانت.
٢٢- وأَدْخِل يدك في جيب ثوبك مضمومة إلي جنبك تخرج بيضاء ناصعة من غير داء، وقد جعلناها لك معجزة ثانية علي رسالتك.
٢٣- لِنُرِيك بعض معجزاتنا الكبرى لتكون دليلا علي صدقك في الرسالة.
٢٤- اذهب إلي فرعون وادعه إلي الإيمان بالله الواحد الأحد، فإنه قد تجاوز الحد في كفره وطغيانه.
٢٥- فتضرَّع موسى إلي ربه أن يشرح له صدره، ليذهب عنه الغضب، وليؤدى رسالة ربه.
٢٦- وسهِّل لي أمر الرسالة لأؤدي حقها.
٢٧- وفك عُقْدة لساني لأبين.
٢٨- ليفهم الناس فهماً دقيقاً ما أقول لهم.
٢٩- واجعل لي مؤازراً من أهلي.
٣٠- هو أخي هارون.
٣١- اشدد به قوتي.
٣٢- وأشركه معي في تحمل أعباء الرسالة وتبليغها.
٣٣- كي نُنَزِّهك كثيراً عما لا يليق بك.
٣٤- ونردد أسماءك الحسنى كثيراً.
٣٥- يا ربنا : إنك دائماً بصير بنا، ومتكفل بأمرنا.
٣٦- نادى الله رسوله موسى قائلا : قد أعطيتك ما سألت، وهذه منة عليك.
٣٧- ولقد سبق أن تفضلنا عليك بمنة أخرى دون سؤال منك.
٣٨- حين ألهمنا أمك إلهاماً كريماً كانت فيه حياتك.
٣٩- ألْهمناها أن تضعك - طفلا رضيعاً - في الصندوق، وأن تلقى به في النيل، لننجيك من قتل فرعون، إذ كان يقتل من يولد في بني إسرائيل من الذكور، وسخرنا الماء لِيُلْقى الصندوق بالشاطئ، وشاءت إرادتنا أن يأخذ الصندوق فرعون عدوى وعدوك، وأحببتك حب رحمة وولاية، ليحبك كل من يراك، ولتربى تربية كريمة ملحوظاً برعايتي.
٤٠- واعلم يا موسى سابق عنايتنا بك حين مشت أختك ترقب أمرك، فلما صرت في قصر فرعون، ورأتهم يبحثون لك عن مُرْضِع دلَّتهم علي أمك، فرددناك إليها لتفرح بحياتك وعودتك، ولتكف عن الحزن والبكاء، ولما كبرت وقتلت خطأ رجلا من قوم فرعون نجيناك من الغم الذي لحق بك، وخلَّصناك من شرهم، فذهبت إلي مدين ومكثت فيها سنين عدة، ثم عدت من مدين في الموعد الذي قدرناه لإرسالك.
٤١- واصطفيتك لوحيي وحمل رسالتي.
٤٢- اذهب مع أخيك مُؤَيَّدين بمعجزاتي الدالة علي النبوة والرسالة، ولا تضْعُفا في تبليغ رسالتي، ولا تغفلا عن ذكرى والاستعانة بي.
٤٣- اذهب مع أخيك هارون إلي فرعون، إنه كافر تجاوز الحد في كفره وطغيانه.
٤٤- فادعواه إلي الإيمان بي في رفق ولين، راجين أن يتذكر ما غفل عنه من الإيمان، ويخشى عاقبة كفره وطغيانه.
٤٥- فتضرع موسى وهارون إلي الله قائلين : يا ربنا إننا نخشى أن يُبادرنا فرعون بالأذى، ويتجاوز الحد في الإساءة.
٤٦- فطمأنهما الله بقوله : لا تخافا فرعون، إنني معكما بالرعاية والحفظ، سميع لما يقول، مبصر لما يفعل، فلا أمكِّنه من إيذائكما.
٤٧- فاذهبا إلي فرعون فقولا له : إننا رسولان إليك من ربك، جئنا ندعوك إلي الإيمان به، وأن تطلق بني إسرائيل من الأسر والعذاب، قد أتيناك بمعجزة من الله تشهد لنا بصدق ما دعوناك إليه، وبالأمان من عذاب الله وغضبه لمن اتبع هداه.
٤٨- وإن الله قد أوحى إلينا أن عذابه الشديد واقع علي من كذبنا وأعرض عن دعوتنا.
٤٩- قال فرعون في طغيانه وجبروته : فَمَنْ ربكما يا موسى ؟.
٥٠- فأجابه موسى : ربنا الذي منح نعمة الوجود لكل موجود، وخلقه علي الصورة التي اختارها سبحانه له، ووجَّهه لما خلق١.
١ أودع الله سبحانه وتعالي في كل شيء صفاته الخاصة التي تؤهله لأداء وظيفته التي خلق لها في هذه الحياة كما أنها سبيل هداية الإنسان..
٥١- قال لفرعون : فما شأن القرون الماضية وما جرى لها ؟.
٥٢- قال موسى : عِلْمُ هذه القرون عند ربى - وحده - وهي مسجلة في صحائف أعمالهم، لا يغيب عن علمه شيء منها ولا ينساه.
٥٣- هو الإله المتفضل علي عباده بالوجود والحفظ، مهَّد لكم الأرض فبسطها بقدرته، وشق لكم فيها طرقاً تسلكونها، وأنزل المطر عليها تجرى به الأنهار فيها، فأخرج سبحانه أنواع النبات المختلفة المتقابلة في ألوانها وطعومها ومنافعها، فمنها الأبيض، ومنها الأسود، ومنها الحلو، ومنها المر.
٥٤- ووجَّه - سبحانه - عباده إلي الانتفاع بما أخرج من النبات بالأكل ورعى الأنعام، ونحو ذلك. فذكر أن في هذا الخلق وإبداعه والإنْعام به دلائل واضحة، يهتدي بها ذوو العقول إلي الإيمان بالله ورسالاته.
٥٥- ومن تراب هذه الأرض خلق الله آدم وذريته، وإليها يردّهم بعد الموت لمواراة أجسامهم، ومنها يخرجهم أحياء مرة أخرى للبعث والجزاء.
٥٦- ولقد أرينا فرعون علي يد موسى المعجزات البيِّنة المؤيدة لرسالته وصدقه في كل ما أخبره به عن الله وعن آثار قدرته، ومع هذا فقد تمادى فرعون في كفره، فكذّب بكل ذلك، وأَبَى أن يؤمن به.
٥٧- قال فرعون لموسى : أجئتنا لتخرجنا من أرضنا، وتجعلها في يد قومك بسحرك الذي فَتَنْت الناس به ؟.
٥٨- وإنا سنبطل سحرك من عندنا، فاجعل بيننا وبينك موعداً نلتقي فيه، ولا يتخلف منا أحد.
٥٩- فأجابه موسى : موعدنا يوم عيدكم الذي تتزينون فيه مبتهجين به، فيجتمع الناس في ضحى ذلك اليوم، ليشهدوا ما يكون بيننا وبينكم.
٦٠- فانصرف فرعون وتولي الأمر بنفسه، فجمع وسائل تدبيره، وعِلْيَة من السحرة، وأدوات السحر، ثم حضر في الموعد بكل ذلك.
٦١- قال لهم موسى يحذرهم هلاك الله وعذابه، وينهاهم عن اختلاق الكذب، بزعمهم ألوهية فرْعون وتكذيبهم رسل الله، وإنكارهم المعجزات، وهددهم بأن الله يستأصلهم بالعذاب إن استمروا علي هذا، ويؤكد خسران من افترى الكذب علي الله.
٦٢- فذعروا من تحذير موسى، وتفاوضوا سرا فيما بينهم متجاذبين وكلٌّ يشير برأي فيما يلْقَون به موسى.
٦٣- وأجمعوا فيما بينهم علي أن موسى وهارون ساحران، يعملان علي إخراجهم من بلادهم، بإخراج السلطان من أيديهم، وذلك بالسحر ليتمكن بنو إسرائيل فيها، وليبطلا عقيدتهم الطيبة في زعمهم.
٦٤- فاجعلوا ما تكيدون به موسى أمراً متفقاً عليه، ثم احضروا مُصْطَفِّين، لتكون لكم في نفوس الرائين الهيبة والغلبة، وقد فاز اليوم من غلب.
٦٥- واجه السحرة موسى برأي واحد، وخيَّروه في شموخ واعتزاز، بَيْن أن يبدأ فيلقى عصاه، أو أن يكونوا هم البادئين.
٦٦- قال موسى : بل ابتدئوا، فألقوا حبالهم وعصيهم، فتخيَّل موسى من السحر أنها انقلبت ثعابين تتحرك وتسير.
٦٧- فأحس موسى بالخوف لِما رآه من أثر السحر، ومن احتمال أن يلتبس السحر علي الناس بالمعجزة.
٦٨- فأدركه الله بلطفه قائلا : لا تخش شيئاً، إنك الغالب المنتصر علي باطلهم.
٦٩- وأَلْق العصا التي بيمينك لتبتلع ما زوَّروا من السحر، إن صنيعهم لا يجاوز تمويه السحرة، وإن الساحر لا يفوز أينما كان.
٧٠- فألقى موسى عصاه، فإذا بها تنقلب حقاً بقدرة الله حية كبيرة مخيفة، وابتلعت كل ما أعدّوه، فلما رأي السحرة تلك المعجزة بادروا إلي السجود موقنين بصدق موسى قائلين : آمنا بالله - وحده - رب هارون وموسى، ورب كل شيء.
٧١- قال فرعون : كيف تؤمنون به دون إذن منى ؟ إنه لرئيسكم الذي علَّمكم السحر، وليس عمله معجزة كما توهمتم، وهددهم : لأُقَطعَنّ أيديكم وأرجلكم مختلفات بِقَطْع اليمنى من واحدة واليسرى من الأخرى، ولأصلبنكم في جذوع النخل، وستعلمون أي الإلهين أشد عذاباً وأدوم زمنا : أنا أم إله موسى.
٧٢- ثبت السحرة علي إيمانهم، ودفعوا تهديد فرعون بقولهم : لن نبقى علي الكفر معك بعدما تبيَّن لنا الحق في معجزة موسى، ولن نختارك علي إله موسى الذي خلقنا، فافعل ما تريد أن تفعله، إن سلطانك لا يتجاوز هذه الحياة القصيرة.
٧٣- فإننا مقيمون علي الإيمان بربنا الحق، ليتجاوز لنا عمَّا سلف من السيئات، وليغفر لنا ممارسة السحر الذي أكرهتنا علي تعلمه والعمل به، وربنا خير منك ثواباً، إذا أُطيع، وأبقى منك سلطاناً وقدرة علي الجزاء.
٧٤- إن من يموت علي الكفر ويلقى الله مجرماً فجزاؤه جهنم لا يموت فيها فيستريح من العذاب، ولا يحيا حياة يتمتع فيها بنعيم.
٧٥- ومن يلاقى ربه علي الإيمان وصالح العمل فله المنازل السامية.
٧٦- تلك المنازل هي الإقامة في جنات النعيم تجرى بين أشجارها الأنهار خالدين فيها، وذلك جزاء لمن طهر نفسه بالإيمان والطاعة بعد الكفر والمعصية.
٧٧- ثم تتابعت الأحداث بين موسى وفرعون، وأوحى الله إلي رسوله موسى أن يخرج ببنى إسرائيل من مصر ليلا، وأن يضرب البحر بعصاه فتحدث معجزة أخرى، إذ يفتح له الطريق يبساً في الماء، وطمأنه ألا يخاف من إدراك فرعون لهم، ولا أن يغرقهم الماء.
٧٨- فنفَّذ موسى ما أمر الله به، فخرج فرعون بجنوده وراءه، فأدركهم عند البحر، وسار وراءهم في الطريق التي تفتحت في البحر لموسى وقومه، وهنا تحققت المعجزة الأخرى، وهي انطباق مياه البحر علي فرعون وقومه، فأغرقتهم جميعاً.
٧٩- وهكذا انحرف بقومه عن طريق الحق، وغرر بهم، فهلكوا جميعاً.
٨٠- يا بني إسرائيل، قد أنجيناكم من عدوكم فرعون، وواعدناكم بالنجاة من عدوكم علي لسان موسى أن تصلوا آمنين إلي جانب الطور، ونزّلنا عليكم المن والسلوى رزقاً طيباً من الحلو ولحم الطير الشهي.
٨١- كلوا من هذه الطيبات التي رزقتم بها دون مجهود، ولا تظلموا، ولا ترتكبوا معصية الله في هذا العيش الرغيد، حتى لا ينزل بكم غضبي، فإن من ينزل عليه غضبي ينحدر إلي أسفل الطبقات من عذاب الله.
٨٢- وإني عظيم الغفران لمن رجع عن كفره، وأحسن الإيمان، وأصلح العمل، واستمر علي ذلك حتى يلقى الله.
٨٣- سبق موسى قومه إلي الطور، ليظفر بمناجاة ربه، فسأله الله عن السبب الذي أعجله بالحضور دون قومه.
٨٤- قال موسى : إن قومي قريبون منى، لاحقون بي، وإنما سبقتهم إليك يا رب رغبة في رضاك.
٨٥- قال الله له : إنَّا قد امتحنا قومك من بعد مغادرتك لهم، فوقعوا في فتنة، إذْ أضلّهم السامري.
٨٦- فعاد موسى إلي قومه في غضب شديد وحزن مؤلم، وخاطب قومه - منكراً عليهم - بقوله : لقد وعدكم ربكم النجاة والهداية بنزول التوراة، والنصر بدخول الأرض المقدسة، ولم يطل عليكم العهد حتى تنسوا وعد الله لكم، أردتم بسوء صنيعكم أن ينزل بكم غضب الله بطغيانكم الذي حذركم منه، فأخلفتم عهدكم لي بالسير علي سنتي والمجيء علي أثرى.
٨٧- قال قوم موسى معتذرين : لم نتخلف عن موعدك باختيارنا، ولكننا حُمِّلنا حين خرجنا من مصر أثقالا من حِلي القوم، ثم رأينا - لشؤمها علينا - أن نتخلص منها، فأشعل السامري النار في حفرة ورمينا فيها هذه الأثقال، فكذلك رمى السامري ما معه من الحلي.
٨٨- فصنع السامري لهم عجلا مجسماً من الذهب، يمر الريح في جوفه فيكون له صوت يسمع كخوار البقر، لتتم الخديعة به، ودعاهم إلي عبادته فاستجابوا، وقال هو وأتباعه : هذا معبودكم ومعبود موسى. فنسى أنه يسهل بالتأمل والاستدلال علي أن العجل لا يكون إلهاً.
٨٩- لقد عميت بصائرهم حين يعتبرون هذا العجل إلهاً ! أفلا يرون أنه لا يرد علي أقوالهم، ولا يستطيع أن يدفع عنهم ضراً، ولا أن يجلب لهم نفعاً ! ؟
٩٠- وكان هارون مقيماً فيهم - حين قيام هذه الفتنة - ولقد قال لهم قبل رجوع موسى - عليه السلام - : يا قوم، لقد وقعتم في فتنة السامري بهذا الباطل، وإن إلهكم الحق هو الله الرحمن دون سواه، فاتبعوني فيما أنصحكم به، وامتثلوا رأيي بالامتناع عن هذه الضلالة.
٩١- قالوا : سنظل مستمرين علي عبادة هذا العجل إلي أن يعود موسى إلينا !.
٩٢- قال موسى متأثراً بما علمه ورآه من قومه : يا هارون، أي سبب منعك أن تكفهم عن الضلالة إذ رأيتهم وقعوا فيها ؟
٩٣- ولم تقم مقامي بنصحهم كما عهدت إليك، أفلا تتبعني فيما عهدت به إليك أم هل عصيت أمري ؟.
٩٤- قال هارون لموسى : يا ابن أمي : لا تعاجلني بغضبك، ولا تمسك بلحيتي ولا برأسي. لقد خفت إن شددت عليهم فتفرقوا شيعاً وأحزاباً أن تقول لي : فرقت بين بني إسرائيل، ولم تخلفني فيهم كما عهدت إليك.
٩٥- قال موسى - عليه السلام - للسامري : ما هذا الأمر الخطير الذي يُعد خَطْباً ووقعت فيه ؟ !.
٩٦- قال السامري لموسى : عرفت من حذق الصناعة وحِيَلِها ما لم يعلمه بنو إسرائيل، وصنعت لهم صورة عجل له هذا الصوت، وقبضت قبضة من أثر الرسول فألقيتها في جوف العجل، تمويهاً علي الناس، وكذلك زَيَّنت لي نفسي أن أفعل ما فعلت.
٩٧- قال موسى للسامري : اخرج من جماعتنا، وابعد عنا، وإن جزاءك في الدنيا أن تهيم علي وجهك، وينفر الناس منك، حتى لا تكون بينك وبينهم صلة، فلا يقربك أحد، ولا تقترب أنت من أحد، وإن لعذابك في الآخرة موعداً محدداً لا تستطيع الفرار منه، وندد موسى به وبإلهه قائلا : انظر الآن ماذا نصنع بإلهك الذي عكفت علي عبادته، وفتنت الناس به، لنحرقنه ثم لنذروه في البحر ذروا.
٩٨- وقام موسى بإنجاز ما قال، ثم اتجه إلي بني إسرائيل بعد هذه العبرة قائلا لهم : إن إلهكم الواحد، هو الذي لا يُعبد بحق سواه، وقد أحاط علمه بكل شيء مما كان ومما سيكون.
٩٩- كما قصصنا عليك - أيها الرسول - نبأ موسى، نخبرك بالحق عن الأمم السابقة، وقد أنزلنا عليك من عندنا كتاباً فيه تذكير لك ولأمتك، بما فيه صلاح دينكم ودنياكم.
١٠٠- من انصرف عن تصديقه والاهتداء به فإنه يضل في حياته، ويأتي يوم القيامة حاملا إثم ما صنع، ويجازى بالعذاب الشديد.
١٠١- ويخْلد في هذا العذاب، وبئس هذا الحمل السيئ يوم القيامة.
١٠٢- اذكر - أيها الرسول - لأمتك اليوم الذي نأمر فيه المَلَك أن ينفخ في الصور ( البوق ) نفخة الإحياء والبعث من القبور، وندعوهم إلي المحشر، ونسوق المجرمين إلي الموقف زرق الوجوه رعباً وفزعاً.
١٠٣- يتهامسون فيما بينهم في ذلة واضطراب عن قِصَر الحياة الدنيا، حتى كأنهم لم ينعموا بها، ولم يلبثوا فيها إلا عشرة أيام.
١٠٤- وليس تهامسهم خافياً، فنحن أعلم بما يتهامسون به، وبما يقول أقربهم إلي تصوير شعورهم نحو الدنيا بأنها لم تكن إلا كيوم واحد.
١٠٥- ويسألك المنكرون للبعث - أيها الرسول - عن مصير الجبال يوم القيامة الذي تتحدث عنه، فأجِبْهم بأن الله يفتِّتها كالرمل، ثم يطيِّرها بالرياح فتكون هباء.
١٠٦- فيدع أماكنها من الأرض بعد نسفها ملساء مستوية.
١٠٧- لا تبصر في الأرض انخفاضاً ولا ارتفاعاً، كأنها لم تكن معمورة من قبل.
١٠٨- يوم القيامة يتبع الناس بعد قيامهم من قبورهم دعوة الداعي إلي المحشر مستسلمين، لا يستطيع أحد منهم أن يعدل عنه يميناً ولا شمالاً، وتخشع الأصوات بالسكون والرهبة لعظمة الرحمن، فلا يُسمَع إلا صوت خفي.
١٠٩- يومئذ لا تنفع الشفاعة من أحد إلا من أكرمه الله فأذن له بالشفاعة ورضي قوله فيها، ولا تنفع الشفاعة في أحد إلا من أذن الرحمن في أن يُشفع له وكان مؤمناً، ورضي الله قوله بالتوحيد والإيمان.
١١٠- والله - جل شأنه - يعلم ما تقدم من أمورهم في دنياهم، وما يستقبلونه منها في أُخراهم، فهو سبحانه يُدبِّر الأمر فيهم بمقتضى علمه، وهم لا يحيطون علماً بتدبيره وحكمته.
١١١- وذَلّت وجوه في هذا اليوم، وخضعت للحى الذي لا يموت، القائم بتدبير أمور خلقه، وقد خسر النجاة والثواب في اليوم الآخر من ظلم نفسه في الدنيا فأشرك بربه.
١١٢- ومن يعمل من الطاعات وهو مصدق بما جاء به - محمد صلي الله عليه وسلم - فهو لا يخاف أن يزاد في سيئاته، أو ينقص من حسناته.
١١٣- ومثل هذا البيان الحق الذي سلف في هذه السورة - في تمجيد الله وقصة موسى، وأخبار القيامة - أنزل الله هذا الكتاب قرآناً عربي البيان، وصرف القول في أساليب الوعيد ووجوهه، لينتهوا عما هم فيه من العصيان، وليجدد القرآن لهم عظة واعتبارا.
١١٤- فارتفع عن الظنون، وتنزَّه عن مشابهة الخلق، المَلِكُ الذي يحتاج إليه الحاكمون والمحكومون، المحق في ألوهيته وعظمته، ولا تعجل يا محمد بقراءة القرآن من قبل أن يفرغ المَلَك من إلقائه إليك، وقل : رب زدني علما بالقرآن ومعانيه.
١١٥- ولقد وصينا آدم - أيها الرسول - من أول أمره، ألا يخالف لنا أمراً، فنسى العهد وخالف، ولم نجد له أول أمره عزماً وثيقاً، وتصميماً قوياً يمنع من أن يتسلل الشيطان إلي نفسه بوسوسته.
١١٦- واذكر - أيها الرسول - حين أمر الله الملائكة بتعظيم آدم علي وجه أراده سبحانه، فامتثلوا، لكن إبليس - وهو معهم وكان من الجن - خالف وامتنع، فأخرج وطُرِد !
١١٧- فخاطب الله آدم قائلا : إن هذا الشيطان الذي خالف أمرنا في تعظيمك عدو لك ولحواء - زوجتك - فاحذروا وسوسته بالمعصية، فيكون سبباً في خروجكما من الجنة، فتشقى يا آدم في الحياة بعد الخروج من الجنة.
١١٨- إن علينا أن نكفل لك مطالب حياتك في الجنة، فلن يُصيبك فيها جوع ولا عِرْى.
١١٩- وأنه لن يصيبك فيها عطش، ولن تتعرض فيها لحر الشمس، كما هو شأن الكادحين في خارج الجنة.
١٢٠- فاحتال عليه الشيطان يهمس في نفسه، مُرَغِّباً له ولزوجه في الأكل من الشجرة المنهي عنها، قائلا : أنا أدلك يا آدم علي شجرة، من أكل منها رزق الخلود، ورزق مُلكاً لا يَفنى.
١٢١- ودلَّه علي الشجرة المحرَّمة، فخُدع آدم وزوجه بإغراء إبليس، ونسيا نهي الله، وأكلا منها، فظهرت لهما عوراتهما، جزاء طمعهما، حتى نسيا ووقعا في مخالفته، وصارا يقطعان من ورق شجر الجنة ويستران ما بدا منهما، وخالف آدم ربه، وكان ذلك قبل النبوة، فَحُرِم الخلود الذي تمناه وفسد عيشه.
١٢٢- ثم اصطفاه الله للرسالة، فقبل توبته، وهداه إلي الاعتذار والاستغفار.
١٢٣- أمر الله آدم وزوجه أن يخرجا من الجنة ويهبطا إلي الأرض، وأخبرهما سبحانه بأن العداوة ستكون في الأرض بين ذريتهما، وأنه سبحانه سيمدهم بالهدى والرشاد، فمن اتَّبع منهم هدى الله فلا يقع في المآثم في الدنيا، ولا يشقى بالعذاب.
١٢٤- ومن أعرض عن هدى الله وطاعته فإنه يحيا حياة لا سعادة فيها، فلا يقنع بما قسم الله، ولا يستسلم إلي قضاء الله وقدره، حتى إذا كان يوم القيامة جاء إلي موقف الحساب مأخوذاً بذنبه، عاجزاً عن الحجة التي يعتذر بها، كما كان في دنياه أعمى البصيرة عن النظر في آيات الله.
١٢٥- وفي هذا الموقف يسأل ربه في فزع : يا رب كيف أنسيتني الحُجة، وأعجزتني عن المعذرة، ووقفتني كالأعمى ؟ ! وقد كنت في الدنيا أُبصر ما حولي وأجادل وأدافع.
١٢٦- الأمر في شأنك كما وقع : جاءتك دلائلنا ورسلنا في الدنيا فنسيتها، وتعاميت عنها، ولم تؤمن بها، وكذلك اليوم تترك منسيا في العذاب والهوان.
١٢٧- ومثل هذا الجزاء السيئ نجزى في الدنيا من أقبل علي المعصية، وكذب بالله وآياته، وإن عذاب الآخرة لأشد ألماً، وأدْوَم مما كان في الدنيا.
١٢٨- كيف يتعامون عن آيات الله، وقد تبين لهم إهلاكنا لكثير من الأمم السالفة بسبب كفرهم، ولم يتعظوا بهم مع أنهم يمشون في ديارهم ومساكنهم، ويشهدون آثار ما حل بهم من العذاب ؟ ! وإن في تلك المشاهد لعظات لأصحاب العقول الراجحة.
١٢٩- ولولا حكم سبق من ربك بتأخير العذاب عنهم إلي أجل مسمى - هو القيامة - لكان العذاب لازماً لهم في الدنيا كما لزم كفار القرون الماضية.
١٣٠- فاصبر - أيها الرسول - علي ما يقولونه في رسالتك من تكذيب واستهزاء، ونَزِّه ربك عما لا يليق به بالثناء عليه، وعبادته - وحده - دائماً، وخاصة قبل أن تشرق الشمس وقبل أن تغرب، ونزِّهه واعبده في ساعات الليل، وفي أطراف النهار بالصلاة، حتى تدوم صلتك بالله، فلتطمئن إلي ما أنت عليه، وترضى بما قدر لك.
١٣١- ولا تتعَدَّ بنظرك إلي ما متَّعنا به أصنافاً من الكافرين، لأن هذا المتاع زينة الحياة الدنيا وزخرفها، يمتحن الله به عباده في الدنيا، ويدِّخر الله لك في الآخرة ما هو خير وأبقى من هذا المتاع.
١٣٢- ووجِّه أهلك إلي أن يؤدُّوا الصلاة في أوقاتها، فالصلاة أقوى ما يصلهم بالله، وداوم علي إقامتها كاملة، لا نكلفك رزق نفسك فنحن متكفلون برزقك، وإن العاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة مكفولة لأهل الصلاح والتقوى.
١٣٣- وقال الكافرون في عنادهم : لماذا لا يأتينا محمد بدليل من ربه يَلزمُنا الإيمان به ؟ ! فكيف يجحدون القرآن - وقد جاءهم به مشتملا علي ما في الكتب السابقة من أنباء الأمم الماضية، وإهلاكهم بسبب تكذيب الرسل - وليس محمد بِدْعاً في ذلك !
١٣٤- ولو عاجل الله هؤلاء الكافرين بالإهلاك قبل أن يرسل إليهم محمداً لاعتذروا يوم القيامة قائلين : يا ربنا لم ترسل إلينا رسولا في الدنيا مؤيداً بالآيات لنتبعه قبل أن ينزل بنا العذاب والخزي في الآخرة. ولكن لا عذر لهم الآن بعد إرسال الرسول.
١٣٥- قل - أيها الرسول - لهؤلاء المعاندين : إننا جميعاً منتظرون لما يؤول إليه أمرنا وأمركم، وستعلمون حقاً أي الفريقين صاحب الدين الحق والمهتدى بهدى الله ؟.
Icon