تفسير سورة الأنبياء

تفسير القرآن الكريم
تفسير سورة سورة الأنبياء من كتاب تفسير القرآن الكريم .
لمؤلفه شحاته . المتوفي سنة 1423 هـ
أهداف سورة الأنبياء :
سورة الأنبياء سورة مكية بالاتفاق وآياتها ( ١١٢ ) آية وقد نزلت قبيل الهجرة إلى المدينة أي : حوالي السنة الثانية عشرة من البعثة وسميت بسورة الأنبياء ؛ لأنه اجتمع فيها على قصرها كثير من قصص الأنبياء ؛ فسميت السورة باسمهم.
والغرض منها وترتيبها :
هي سورة مكية نزلت في آخر العهد المكي أي : في ذروة تجبر أهل مكة وعنتهم وانصرافهم عن الإسلام فنزلت تنذر هؤلاء الكفار باقتراب العذاب ففي بدايتها : اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَُّعْرِضُونَ. ( الأنبياء : ١ ).
ثم ساقت السورة الأدلة على الألوهية والتوحيد والرسالة والبعث. وهي الموضوعات التي عنيت بها السور المكية ؛ من أجل تقرير العقيدة والدفاع عنها.
ونلحظ هنا أن السورة قد عالجت هذه الموضوعات بعرض النواميس الكونية الكبرى، وربط العقيدة بها.
فالعقيدة في سورة الأنبياء جزء من بناء هذا الكون يسير على نواميسها الكبرى.
وهذه العقيدة تقوم على الحق الذي قامت عليه السماوات والأرض، وليست لعبا ولا باطلا، كما أن هذا الكون لم يخلق عبثا، ولن يترك سدى : وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ. ( الأنبياء : ١٦ ).
ويلفت السياق أنظار الناس إلى مظاهر الكون الكبرى في السماء والأرض، والرواسي والفجاج، والليل والنهار، والشمس والقمر، موجها الأنظار إلى وحدة النواميس التي تحكمها وتصرفها، وإلى دلالة هذه الوحدة على وحدة الخالق المدبر والمالك الذي لا شريك له في الملك، كما أنه لا شريك له في الخلق. لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا... ( الأنبياء : ٢٢ ).
ثم تتحدث السورة عن وحدة النواميس التي تحكم الحياة في هذه الأرض، وعن وحدة مصدر الحياة :
وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ... ( الأنبياء : ٣٠ ).
وعن وحدة النهاية التي ينتهي إليها الأحياء : كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ... ( الأنبياء : ٣٥ ).
والعقيدة وثيقة الارتباط بتلك النواميس الكونية، فهي واحدة كذلك وإن تعدد الرسل على مدار الزمان. وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ. ( الأنبياء : ٢٥ ).
وكما أن العقيدة وثيقة الارتباط بنواميس الكون الكبرى، فذلك ملابسات هذه العقيدة في الأرض.
فالسنة التي لا تتخلف أن يغلب الحق في النهاية وأن يزهق الباطل ؛ لأن الحق قاعدة كونية وغلبته سنة إلهية. بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِق... ( الأنبياء : ١٨ ).
وأن يحل الهلاك بالظالمين المكذبين وينجي الله الرسل والمؤمنين : ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَاء وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ. ( الأنبياء : ٩ ).
وأن يرث الأرض عباد الله الصالحون : وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ. ( الأنبياء : ١٠٥ ).
ومن ثم يستعرض السياق أمة الرسل الواحدة في سلسلة طويلة استعراضا سريعا، يطول بعض الشيء عند عرض حلقة من قصة إبراهيم عليه السلام وعند الإشارة إلى داود وسليمان عليهما السلام.
ويقصر عند الإشارة إلى قصص : نوح، وموسى، وهارون، ولوط، وإسماعيل، وإدريس، وذى الكفل، وذى النون، وزكريا، ويحيى، وعيسى عليهم السلام.
وفي هذا الاستعراض تتجلى المعاني التي سبقت في سياق السورة – تتجلى في صورة وقائع في حياة الرسل والدعوات، بعد ما تجلت في صورة قواعد عامة ونواميس.
كذلك يتضمن سياق السورة بعض مشاهد القيامة، وتتمثل فيها تلك المعاني نفسها في صورة واقع يوم القيامة.
وهكذا تتجمع الأساليب المنوعة في السورة على هدف واحد هو استجاشة القلب البشري لإدراك الحق الأصيل في العقيدة التي جاء بها خاتم الرسل صلى الله عليه وآله وسلم فلا يتلقاها الناس غافلين معرضين لاهين. كما تصفهم السورة في مطلعها.
إن هذه الرسالة حق كما أن هذا الكون حق وجد. فلا مجال للهو في استقبال الرسالة، ولا مجال لطلب الآيات الخارقة، وإن آيات الله في الكون وسنن الكون كله توحي بأنه الخالق القادر الواحد، والرسالة من لدن ذلك الخالق القادر الواحد.
نظم السورة :
النظم في سورة الأنبياء يختلف عن النظم في سورة مريم وسورة طه. هناك كان النظم سهلا والختام رخيا يختم في الغالب بالألف اللينة.
أما في سورة الأنبياء فالنظم هنا نظم التقرير الذي يتناسق مع موضوعها، ومع جو السياق في عرض هذا الموضوع، ولذلك ختمت آياتها بالميم أو بالنون.
وإذا نظرنا إلى الجانب الذي عرض من قصة إبراهيم في سورة مريم، وجدنا أن الحلقة التي عرضت هناك حلقة الحوار الرخي بين إبراهيم وأبيه. وقد ختمت آيات الحوار هناك بالألف اللينة مثل : نبيا، صفيا، عليا.
وأما هنا فجاءت حلقة تحطيم الأصنام، وإلقاء إبراهيم في النار، وليتم التناسق في الموضوع والجو والنظم والإيقاع فقد ختمت قصة إبراهيم هنا بالنون أو الميم التي تفيد : التقرير والتأكيد، أو ما يشبه أحكام القضاء بعد تفكر وتأمل وترتيب.
أشواط أربعة :
يمكن أن تقسم سورة الأنبياء إلى أربعة أقسام، يمضي السياق خلالها من قسم إلى آخر، ويمهد كل شوط للذي يليه.
الشوط الأول :
يبدأ الشوط الأول : بمطلع قوى الضربات، يهز القلوب هزا وهو يلفتها إلى الخطر القريب المحدق، وهي عنه غافلة لاهية : اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَُّعْرِضُونَ. ( الأنبياء : ١ ).
ثم يهزها هزة أخرى بمشهد من مصارع الغابرين الذين كانوا عن آيات ربهم غافلين : وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ. ( الأنبياء : ١١ ).
ثم يربط بين الحق والجد في الدعوة والحق والجد في نظام الكون، وبين عقيدة التوحيد ونواميس الوجود، وبين وحدة الخالق المدبر ووحدة الرسالة والعقيدة، ووحدة مصدر الحياة ونهايتها ومصيرها على النحو الذي أسلفناه، ويستغرق هذا الشوط من أول السورة إلى الآية : ٣٥.
الشوط الثاني :
أما الشوط الثاني : فيرجع بالحديث إلى الكفار الذين يواجهون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالسخرية والاستهزاء، بينما الأمر جد وحق، وكل ما حولهم يوحي باليقظة والاهتمام. وهم يستعجلون العذاب، والعذاب منهم قريب.. وهنا يعرض مشهدا من مشاهد القيامة، ويلفتهم إلى ما أصاب المستهزئين بالرسل قبلهم، ويقرر :
أن ليس لهم من الله من عاصم ويوجه قلوبهم إلى تأمل يد القدرة وهي تنقص الأرض من أطرافها، وتزوى رقعتها وتطويها فلعل هذا أن يوقظهم من غفلتهم التي جاءتهم من طول النعمة وامتداد الرخاء.
وينتهي هذا الشوط بتوجيه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيان : وظيفته : قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ. وإلى الخطر الذي يتهددهم في غفلتهم : وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ. ( الأنبياء : ٤٥ ). حتى تنصب الموازين القسط وهم في غفلتهم سادرون. ويستغرق هذا الشوط من الآية : ٣٦ إلى الآية : ٤٧.
الشوط الثالث :
ويتضمن الشوط الثالث : استعراض أمة النبيين وجهاد الرسل وبلائهم في سبيل الحق ويبدأ الشوط بموسى وهارون وقد أنعم الله عليهما بالفرقان وهو التوراة ؛ لأنها تفرق بين الحق والباطل، ثم ذكر : إبراهيم وقد أعطاه الله الرشد والهداية فأنكر على قومه عبادة الأصنام ثم حطمها، فألقي في النار فجعلها الله بردا وسلاما عليه. ثم نجاة لوط من قومه المعتدين، ونجاة نوح وأتباعه من الطوفان، ثم ذكر : حكم داود وفهم سليمان، وتسخير الشياطين والجن ؛ لتعمل بين يديه بإذن ربه، ثم تضرع أيوب، ودعاء يونس، وسؤال زكريا، وصلاح مريم، ويعقب الشوط بأن هناك وحدة بين هذه الرسالات في العقيدة والإيمان والهدف والقيم والسلوك : إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ. ( الأنباء : ٩٢ ).
وتتجلى في رسالة الأنبياء عناية الله بهم، ورعايته لأهل رسالته وتوليهم بالعناية والرعاية وأخذ المكذبين والظالمين أخذ عزيز مقتدر، ويستغرق هذا الشوط من الآية ٤٨ إلى الآية ٩٥.
الشوط الرابع :
أما الشوط الرابع والأخير : فيعرض النهاية والمصير، في مشهد من مشاهد القيامة المثيرة. حين يفتح سد يأجوج ومأجوج ويعرض ذل الكفار في عذاب جهنم ونعيم المؤمنين في الجنة ثم طي السماوات في ساعة القيامة، ثم توجه السياق إلى الرسول بالخطاب فذكر : أن الله أرسله بالرحمة والإحسان لتبليغ رسالة الله إلى الناس. ثم ختمت السورة بمثل ما بدأت : إيقاعا قويا، وإنذارا صريحا، وتخلية بينهم وبين مصيرهم المحتوم ويستغرق هذا الشوط من الآية ٩٦ إلى ١١٢.
وفي آخر آية للسورة رنين يتحدى الكفار ويتوعدهم بحكم الله العادل : قَلَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ. ( الأنبياء : ١١٢ ).

اقتراب الساعة

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ ( ١ ) مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ( ٢ ) لَاهِيَةًً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ ( ٣ ) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ٤ ) بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ ( ٥ ) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ ( ٦ ) ﴾.
التفسير :
١- اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ.
اقترب : اقترب وقرب بمعنى واحد، والمراد من اقتراب الحساب : اقتراب زمانه، وهو مجيء الساعة.
الناس : هم المكلفون.
معرضون : عن التأهب لهذا اليوم
مطلع قوى يهز القلوب هزا، ويثير الفزع عند كل غافل أو مستهتر، أو معرض عن البعث والحساب والجزاء، فالدنيا قصيرة الأمد، واليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل، والموت يأتي بغتة، فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَآخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ. ( النحل : ٦١ ).
وخلاصة معنى الآية :
دنا وقت الحساب والجزاء، والناس غافلون عن حسابهم، ساهون لا يفكرون في عاقبتهم، مع أن قضية العقل تقضي بجزاء المحسن والمسيء، ومن شأن كفار مكة أنهم إذا تلى عليهم الوحي، ونبهوا من غفلتهم، بما يتلى عليهم من الآيات والنذر، أعرضوا، وسدوا آذانهم عن سماع الوحي، وعن التنبيه لأمور الآخرة.
٢- مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ.
من ذكر : قرآن.
محدث : جديد إنزاله.
يلعبون : يسخرون ويستهزءون.
كان الوحي ينزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوقظ القلوب والنفوس، ويطهر الأفئدة، ويدعو إلى التأمل في الكون وخالقه، ويذكر الناس بالموت والبعث والحساب والجزاء وأهوال القيامة، وكلما نزلت سورة جديدة قابلوها باللهو والإعراض، والعبث والجحود، مع أن الأمر جد وليس بالهزل، والحديث في الآية عن المشركين.
وخلاصة المعنى :
ما جدد لهم الذكر وقتا فوقتا، وكرر على أسماعهم للتنبيه والموعظة لعلهم يتعظون ؛ إلا زادهم ذلك سخرية واستهزاء.
٣ - لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُون
لاهية قلوبهم : غافلة قلوبهم عن ذكر الله.
النجوى : التناجي، والمراد : أنهم أخفوا تناجيهم ولم يتناجوا بمرأى من غيرهم.
لقد أعرضوا عن القرآن وشغلهم اللهو والمجون، فقلوبهم لاهية عن الآخرة والمعاد والقرآن، مشغولة بالفساد والضلال، وترى أهل الباطل يتناجون سرًّا في تدبير الكيد لأصحاب الحق.
وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ.
أي : تفاوضوا سرًّا، وأسروا التناجي، وتدبير المكر السيء، قائلين في تناجيهم :
هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ.
إن محمدًا ليس ملكا، وإنما هو إنسان كسائر الناس، لا فضل له ولا مزية، وما يقدمه هو سحر.
أَفَََتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ.
أي : أفتتبعونه فتكونون كمن يأتي السحر، وهو يعلم أنه سحر.
وخلاصة ذلك : أنهم طعنوا في نبوته بأمرين :
١ – أن الرسول لا يكون إلا ملكا.
٢ – أن الذي يظهر على يديه من قبيل السحر.
وقد رد القرآن الكريم عليهم في أكثر من موضع، مبينا : أن الرسول إلى البشر يجب أن يكون بشرا مثلهم، وأن محمدا ليس ساحرا، وإنما عدم الإيمان بالله تعالى هو الذي يحملهم على تقوّل الأقاويل.
قال تعالى : وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ. ( الأنعام : ٩ ).
وقال عز شأنه : وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى.... ( يوسف : ١٠٩ ).
وقال تعالى : وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَّسْحُورًا * انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً. ( الفرقان : ٨، ٩ ).
٤ - قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
لقد أطلع الله ورسوله على ما تناجوا به، حيث بيتوا المكر والكيد للرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته، وفي قراءة سبعية قُلْ ربي يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع العليم. أي : قل لهم يا محمد : إن الله مطلع على سركم وجهركم، وهو عليم بكل قول في السماء والأرض، شاهد على السر والجهر فما أسمع الله وما أبصره ! فهو سبحانه يسمع دبيب النمل في الليلة الظلماء تحت الصخرة الملساء، وهو عليم بكل أمر، تنكشف أمامه جميع الموجودات انكشافا تاما دون سبق خفاء، وفي الآية تهديد ووعيد للمخالفين.
٥ - بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ.
أضغاث أحلام : تخاليط أحلام رآها في النوم.
افتراه : اختلقه من تلقاء نفسه.
بل : تذكر للانتقال من غرض إلى آخر، ولا تذكر في القرآن إلا على هذا الوجه كما قال ابن مالك.
تردد الكفار في اتهامهم للرسول صلى الله عليه وآله وسلم بصنوف الفرى، فلم يثبتوا على تهمة معينة، وفي الآية تعبير مصور لجماعة من الحائرين يقولون : إن ما يأتي به محمد من الوحي أضغاث أحلام، أي : أخلاط من الرؤيا المنامية تهيأ له في النوم ثم يجسدها في اليقظة.
والضِّغث : حزمة من الحشيش، يختلط فيها الرطب باليابس، ومنه قول القرآن الكريم : وخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ. ( ص : ٤٤ ).
أي : خذ حزمة من الحشيش يختلط فيها الرطب باليابس فاضرب به زوجتك، برًّا في يمينك، فالكفار يدَّعون : أن محمدا يرى عددا من الأحلام المختلفة، ثم يعبر عنها في الصباح بهذا القرآن.
بَلِ افْتَرَاهُ. ثم أضربوا عن القول السابق وقالوا : إن محمدا يتقوّل هذا الوحي من عند نفسه، فهو كذاب أو مبتكر أو عبقري يؤلف الكلام وينسبه إلى الله.
بَلْ هُوَ شَاعِرٌ. تأتيه شياطين الشعر بهذه الأفكار فيصوغها، ويدعي أنها وحي. قال تعالى : وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ. ( الشعراء : ٢١٠، ٢١١ ).
وقال عز شأنه : إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَريمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ * وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ. ( الحاقة : ٤٠، ٤٢ ).
فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ.
أي : على محمد أن يأتينا بمعجزة مادية ملموسة مثل : زحزحة الجبال عن مكة، وتحويل أرضها إلى أرض سهلة تجري فيها الأنهار مثل سهول الشام، أو ليحول جبل الصفا إلى ذهب، كما أعطى صالح الناقة تحلب لبنا يكفي جميع قومه، وكما أعطى موسى اليد والعصا، وكما أعطى عيسى شفاء المرضى ؛ فليظهر لنا محمد معجزات مادية ملموسة، كما فعلت الرسل السابقة، لكن الله سبحانه لم يجبهم إلى مطلبهم ؛ لأن لله سننا لا تتخلف، ومن هذه السنن : أن الأمة التي تعطى آية ملموسة ثم تكذِّب ؛ تستحق العذاب العاجل، والحق سبحانه لا يريد أن يعجل بالعذاب لأمة بينها محمد صلى الله
عليه وآله وسلم حيث قال : وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ... ( الأنفال : ٣٣ ).
٦ - مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ.
أرسل الله رسلا وأنبياء كثيرين، لهداية الناس، وأنزل عليهم كتبه وصحفه، وأيدهم بالمعجزات، لكن قومهم كذبوا بعد هذه المعجزات، فاستحقوا الهلاك، وكان أهل مكة أشد نكرانا وجحودا، ذلك أن الله أمد رسوله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم، وأيده بالقرآن، وبعدد من المعجزات المادية الملموسة، مثل : النصر في بدر، ونزول الملائكة، وشفاء المرضى على يديه، وتكثير الطعام، ونبع الماء في بعض الغزوات، وعلم الله أن أهل مكة لن يؤمنوا، إذا جاءتهم المعجزات المادية، ولذلك قال سبحانه في هذه الآية ما معناه : أرسلنا رسلا وأيدناهم بالمعجزات، فلم يؤمن أهلهم بذلك، فاستحقوا الهلاك، أفيؤمن هؤلاء الكفار برسالتك ؟
إن هذا بعيد، وقد جاء هذا المعنى في قوله تعالى : وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا. ( الإسراء : ٥٩ ).
قال قتادة : قال أهل مكة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : إذا كان ما تقوله حقا ويسرُّك أن نؤمن ؛ فحوِّل لنا الصفا ذهبا، فأتاه جبريل فقال : إن شئت كان الذي سألك قومك، ولكنه إن كان، ثم لم يؤمنوا ؛ لم ينظروا، وإن شئت استأنيت بقومك، قال : بل أستأني بقومي، فأنزل الله.
مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ( ٧ ) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ( ٨ ) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَاء وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ ( ٩ ) لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ( ١٠ ) ﴾.
تمهيد :
تناقش هذه الآيات المشركين، فتبين : أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بشر رسول، وليس بدعا من الرسل، فقد كان الرسل السابقون رجالا، ينزل عليهم الوحي، وبينهم أهل الكتاب فليسألوا اليهود والنصارى عن رسل الله السابقين، ومحمد بشر يأكل الطعام، ويدركه الموت كسائر البشر وكسائر الرسل، وهؤلاء الرسل وعدهم الله بالنصر والنجاة وبإهلاك المكذبين، وقد صدقهم الله وعده، والقرآن فيه شرف وحياة ورقي لهذه الأمة، ولو استخدموا عقولهم ؛ لكان في هذا الكتاب ما ينفعهم في أمور دينهم ودنياهم وآخرتهم.
التفسير :
٧ - وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ.
أهل الذكر : هم أهل الكتاب.
لم يكن محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدعا من الرسل، بل كان مثل الأنبياء السابقين، رجل أو بشر ينزل عليه وحي السماء، وشاء الله أن يكون الرسول بشرا ؛ ليكون قدوة عملية، أمام الناس في سلوكه وزواجه، وأكله وشربه ونومه، لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة... ( الأحزاب : ٢١ ). ولو كان الرسول ملكا ( بفتح اللام ) لامتنعت القدوة العملية، فالملك لا يأكل ولا يشرب ولا ينسل، ولا يتأثر بالحزن والفرح وسائر الانفعالات، والملائكة معصومون من الخطيئة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. ( التحريم : ٦ ).
لقد كان موسى وعيسى وإبراهيم وغيرهم رجالا، أنزل الله عليهم الوحي من السماء.
فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ.
أي : اسألوا أهل التوراة والإنجيل، عن ذلك، إن لم يكن عندكم علم به.
وقد ورد مثل هذا المعنى في القرآن الكريم كثيرا ؛ للدفاع عن بشرية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال تعالى : وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ. ( الأنعام : ٩ ).
وقال عز شأنه : وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى... ( يوسف : ١٠٩ ).
وقال تعالى : قل ما كنت بدعا من الرسل... ( الأحقاف : ٩ ).
وقال تعالى حكاية عمن تقدم من الأمم : أبشر يهدوننا... ( التغابن : ٦ ).
قال ابن كثير :
فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ.
أي : اسألوا أهل العلم كاليهود والنصارى وسائر الطوائف، هل كان الرسل الذين أتوهم بشرا أو ملائكة وإنما كانوا بشرا، وذلك من تمام نعمة الله على خلقه، إذ بعث فيهم رسلا منهم، يتمكنون من تناول البلاغ، منهم، والأخذ عنهم. ١ه.
تمهيد :
تناقش هذه الآيات المشركين، فتبين : أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بشر رسول، وليس بدعا من الرسل، فقد كان الرسل السابقون رجالا، ينزل عليهم الوحي، وبينهم أهل الكتاب فليسألوا اليهود والنصارى عن رسل الله السابقين، ومحمد بشر يأكل الطعام، ويدركه الموت كسائر البشر وكسائر الرسل، وهؤلاء الرسل وعدهم الله بالنصر والنجاة وبإهلاك المكذبين، وقد صدقهم الله وعده، والقرآن فيه شرف وحياة ورقي لهذه الأمة، ولو استخدموا عقولهم ؛ لكان في هذا الكتاب ما ينفعهم في أمور دينهم ودنياهم وآخرتهم.
٨ - وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ.
الجسد : كالجسم إلا أنه لا يقال لغير الإنسان.
خالدين : باقين.
لم نجعل الرسل أجسادا كالملائكة، لا تأكل الطعام، بل جعلناهم بشرا يحتاجون إلى الأكل والإخراج والنسل، ويعتريهم المرض والموت والفناء، فقد كان كذلك رسل الله السابقون.
قال ابن كثير :
وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ.
أي : بل قد كانوا أجسادا يأكلون الطعام، كما قال تعالى : وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأََسْوَاقِ. ( الفرقان : ٢٠ ). أي : قد كانوا بشرا من البشر، يأكلون ويشربون مثل الناس، ويدخلون الأسواق للتكسب والتجارة، وليس ذلك بضار لهم ولا ناقص منهم شيئا كما توهم المشركون في قولهم : مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلاَ أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَّسْحُورًا. ( الفرقان : ٧، ٨ ).
وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ.
أي : في الدنيا لا يموتون ولا يفنون، ولكنهم قضوا حينا من الدهر وهم أحياء، ثم طواهم الثرى وضمتهم القبور، قال تعالى : وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ. ( الأنبياء : ٣٤ ).
وخلاصة ذلك : إنا جعلنا الرسل أجساما تتغذى حين الحياة، ثم يصير أمرها إلى الفناء، بعد استيفاء آجالها، ولم نجعلهم ملائكة لا يتغذون، وما كانوا مخلدين بأجسادهم، بل يموتون كما مات الناس قبلهم وبعدهم، وإنما امتازوا عن غيرهم من سائر الناس، بما يأتيهم عن الله من الوحي والزلفى عنده.
تمهيد :
تناقش هذه الآيات المشركين، فتبين : أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بشر رسول، وليس بدعا من الرسل، فقد كان الرسل السابقون رجالا، ينزل عليهم الوحي، وبينهم أهل الكتاب فليسألوا اليهود والنصارى عن رسل الله السابقين، ومحمد بشر يأكل الطعام، ويدركه الموت كسائر البشر وكسائر الرسل، وهؤلاء الرسل وعدهم الله بالنصر والنجاة وبإهلاك المكذبين، وقد صدقهم الله وعده، والقرآن فيه شرف وحياة ورقي لهذه الأمة، ولو استخدموا عقولهم ؛ لكان في هذا الكتاب ما ينفعهم في أمور دينهم ودنياهم وآخرتهم.
٩ - ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَاء وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ.
الوعد : هو نصرهم وإهلاك أعدائهم.
المسرفين : الكافرين.
لقد وعد الله رسله بالنصر، قال تعالى : إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأََشْهَادُ. ( غافر : ٥١ ). وقد صدق الله ما وعد به رسله، فنجاهم من أذى المشركين، ونجى من يشاء من المؤمنين، وأهلك الذين أسرفوا على أنفسهم بالكفر والعصيان، فقد نجى نوحا ومن آمن به، وأغرق الكافرين، ونجى إبراهيم من النار وجعلها بردا وسلاما عليه، ونجى موسى ومن آمن معه من الغرق، وأغرق فرعون ومن معه من الجنود، ونجى عيسى ورفعه إلى السماء، ونصر محمدا صلى الله عليه وآله وسلم ومن آمن معه من المهاجرين والأنصار، حتى فتح مكة وجاء نصر الله والفتح.
تمهيد :
تناقش هذه الآيات المشركين، فتبين : أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بشر رسول، وليس بدعا من الرسل، فقد كان الرسل السابقون رجالا، ينزل عليهم الوحي، وبينهم أهل الكتاب فليسألوا اليهود والنصارى عن رسل الله السابقين، ومحمد بشر يأكل الطعام، ويدركه الموت كسائر البشر وكسائر الرسل، وهؤلاء الرسل وعدهم الله بالنصر والنجاة وبإهلاك المكذبين، وقد صدقهم الله وعده، والقرآن فيه شرف وحياة ورقي لهذه الأمة، ولو استخدموا عقولهم ؛ لكان في هذا الكتاب ما ينفعهم في أمور دينهم ودنياهم وآخرتهم.
١٠ - لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ.
ذكركم : شرفكم، أو دينكم وعظتكم.
تعقلون : تتدبرون ما في تضاعيفه من العبر والمواعظ.
لقد أنزلنا إليكم أيها العرب، قرآنا فيه شرفكم ومجدكم وعزتكم، ودينكم وتقويم أخلاقكم، بما اشتمل عليه من الإيمان والتشريع والآداب، والقصص وأسباب السعادة والتربية المثلى، فمن اتبعه ؛ نال السعادة في الدنيا والآخرة.
أفلا تعقلون.
ذلك فتقبلون على القرآن إقبال المصدق به، المتبع لما جاء فيه.
لقد نزل القرآن عربيا مبينا، وكان شرفا لهذه الأمة، وبقدر اتباعها للقرآن، بقدر ما جاء إليها من نصر وعز، وبهذا القرآن تقدم العرب المسلمون، فافتتحوا بلاد الفرس والروم ومصر، وتقدموا شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، وحين ضعفت صلة المسلمين بهذا الكتاب، وضعف الاقتداء به ؛ عمّهم ظلام التخلف والتأخر، ولا يزال الوحي نضيرا، والسنة المطهرة قدوة حسنة، وكلما عاد المسلمون إلى أصول دينهم ؛ كلما عاد إليهم مجدهم، وصاروا خير أمة أخرجت للناس، والبشرية في حاجة إلى هدى هذا القرآن، ولم يكن للعرب كبير شأن في الجاهلية، وإنما عرف فضلهم بهذا القرآن الذي عم نوره المشارق والمغارب، فالعرب بالإسلام كل شيء، وبدون الإسلام لا شيء، قال تعالى : وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ. ( الزخرف : ٤٤ ).
إن القرآن شرف للرسول صلى الله عليه وآله وسلم وللعرب ؛ بما حوى من تشريع وآداب وأخلاق وقيم، وهذه نعم سوف نسأل عنها : هل تمسكنا بها وحملناها إلى غيرنا في صورة كريمة تدعو إلى الاقتداء بها أم لا ؟
وفي هذا المعنى يقول الله تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا... ( البقرة : ١٤٣ ).
فالأمة الإسلامية أمة وسط، وهذه الوسطية تميز هذه الرسالة، فهي رسالة وسط بين المادية والروحية، وهي في منطقة وسط بين ما حولها من الشرق والغرب والشمال والجنوب، وهي دعوة وسط بمعنى : مثالية الرسالة وصلاحيتها للدنيا والآخرة، وهي لذلك تجعل للمسلمين القوامة على البشرية، يتمسكون بالقيم، ويدعون الناس إليها، وحضارة القرن العشرين حضارة مادية، تقدمت في اختراع القنبلة الذرية، ثم ألقيت قنبلة في هيروشيما، وقنبلة في نجازاكي سنة ١٩٤٥ فكان مع ذلك الوباء والبلاء، وآلاف القتلى وأصحاب العاهات، وامتد الأثر إلى الأرض والزراعة والإنسان والحيوان، وديننا هو دين الرحمة بالإنسانية وصدق الله العظيم. وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ. ( الأنبياء : ١٠٧ ).
﴿ وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ ( ١١ ) فَلَمَّا أَحَسُّواْ بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ ( ١٢ ) لاَ تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ ( ١٣ ) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ( ١٤ ) فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ ( ١٥ ) ﴾.
تمهيد :
تأتي هذه الآيات بمثابة التهديد والوعيد لأهل مكة وتفيد : أن الله أهلك كثيرا من القرى الظالمة وأنشأ بعدها قوما آخرين.
التفسير :
١١ - وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ.
كم : لفظ يفيد : تكثير وقوع ما بعدها.
القصم : هو الكسر بتفريق الأجزاء، وإذهاب التئامها.
لقد أهلكنا كثيرا من القرى الظالمة، التي كذبت الرسل واستهزأت بهم، فدمر الله قرى الكافرين، مثل : عاد وثمود وفرعون وأشباههم، والتدمير يعم الناس والمنازل وسائر المكان، وتصوِّر الآية شدة بطش الله بالظالمين، فالتعبير بكلمة قصمنا تفيد : الفناء الكامل، حيث إن القصم ( بالقاف ) يفيد : تفكيك الأجزاء وامتناع التئامها.
بخلاف الفصم ( بالفاء ) لأنه يفيد : التصدع، وإمكانية الالتئام.
وحين تحدثت الآية عن الإهلاك جعلته للقرية، كأن الإهلاك أصاب الأشخاص والأماكن وسائر الممتلكات والمنشآت، أما عند الحديث عن الإنشاء والتعويض بالآخرين، نسبه الله للأشخاص، فيبدأ الله بهم، ثم يعمرون المكان.
وفي معنى هذه الآية وردت آيات كثيرة، تفيد : هلاك الظالمين المفسدين، فذلك ناموس الله في إزهاق الباطل وإحقاق الحق، قال تعالى : وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًَا بَصِيرًا. ( الإسراء : ١٧ ).
وقال تعالى : فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا... ( الحج : ٤٥ ).
وقال عز شأنه : وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ. ( النحل : ١١٢ ).
وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ.
أي : أمة أخرى بعدهم، فالله قد خلق الإنسان لعمارة الأرض، فإذا أفسد وكذّب وأترف ؛ أهلكه الله، وأنشأ أمة أخرى مكان الهالكين، وفي هذا المعنى يقول الله تعالى : وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ. ( محمد : ٣٨ ). ويقول عز شأنه متحدثا عن هلاك فرعون وقومه : كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ *وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ. ( الدخان : ٢٥ – ٢٨ ).
أي : عندما هلك فرعون ؛ انتقلت ملكية النعيم إلى قوم آخرين، كأنه ميراث ملكوه، كما يملك الابن الميراث عن أبيه.
تمهيد :
تأتي هذه الآيات بمثابة التهديد والوعيد لأهل مكة وتفيد : أن الله أهلك كثيرا من القرى الظالمة وأنشأ بعدها قوما آخرين.
١٢ - فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ.
الإحساس : الإدراك بالحاسة، أي : أدركوا بحاسة البصر عذابنا الشديد.
البأس : الشدّة.
الركض : الفرار والهرب.
تصور الآية ما نزل بهؤلاء المكذبين من الزعر والخوف، فهم أشبه بالفأر في المصيدة، يجري من هول ما أصابه ؛ لعل ذلك ينجيه، كذلك هؤلاء الأشرار، عندما شاهدوا عذاب الله، وأيقنوا بوقوع الهلاك عليهم ؛ إذا بهم يفرون من القرية مسرعين ؛ ظنا منهم أن ذلك الفرار والجري السريع، ربما ينجيهم من العذاب.
تمهيد :
تأتي هذه الآيات بمثابة التهديد والوعيد لأهل مكة وتفيد : أن الله أهلك كثيرا من القرى الظالمة وأنشأ بعدها قوما آخرين.
١٣ - لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ.
الإتراف : إبطار النعمة، يقال : أترف فلان أي : وسع عليه في معاشه وقل فيه همّه.
أي : يقال لهم عند الفرار من قريتهم : لا تفروا وعودوا إلى النعيم والمال والترف والأبهة، واسكنوا في مساكنكم، واستريحوا على الأرائك، وناموا على السرر المريحة، لعل الخدم والأتباع يسألونكم : ماذا تطلبون، حتى نقوم بخدمتكم، أو لعل الناس تسألكم : عن سبب هلاككم، أو لعل المساكين والمحتاجين يطلبون منكم شيئا من مالكم، والأمر كله تهكم بهؤلاء الأشرار، الذين أنعم الله عليهم بالنعم، فلم يقوموا بشكرها، بل قابلوها بالبطر والأشر.
تمهيد :
تأتي هذه الآيات بمثابة التهديد والوعيد لأهل مكة وتفيد : أن الله أهلك كثيرا من القرى الظالمة وأنشأ بعدها قوما آخرين.
١٤ - قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ.
يا ويلنا : يا هلاكنا.
لقد استبانوا هذه الحقيقة، بعد فوات الأوان، وأحسوا بمقدار الخيبة والخسران، فتنادوا ؛ بالويل والثبور، وقالوا : يا هلاكنا إنا كنا ظالمين لأنفسنا، مستوجبين للعذاب، بسبب إعراضنا عن الحق، وتكذيبنا لمن جاء به.
تمهيد :
تأتي هذه الآيات بمثابة التهديد والوعيد لأهل مكة وتفيد : أن الله أهلك كثيرا من القرى الظالمة وأنشأ بعدها قوما آخرين.
١٥ - فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ.
دعواهم : دعوتهم التي يرددونها.
حصيدا : كالزرع المحصود بالمناجل.
خامدين : كالنار التي خمدت وانطفأت.
تصور الآية مصرع هؤلاء المشركين، وهم يولولون على أنفسهم، ويدعون عليها بالثبور، ويعترفون بعد فوات الأوان، بأنهم كانوا ظالمين، ويظل هؤلاء كالفأر في المصيدة، في ذهاب وإياب، واعتراف بالذنب، وتحسر وولولة ونحيب، حتى تنتهي حياتهم، ويتم إهلاكهم، كما يحصد الزرع بالمنجل، وكما تخمد الجثة وتنتهي حياتها وتنقطع أنفاسها.
وخلاصة هذا : إنهم صاروا يكررون الاعتراف بظلمهم أنفسهم، ولكن لم ينفعهم ذلك.
قال تعالى : فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا... ( غافر : ٨٥ ).
حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ.
حتى لم يبق لهم حس ولا حركة، وأبيدوا كما يباد الحصيد، وخمدوا كما تخمد النار.
﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ( ١٦ ) لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ ( ١٧ ) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ( ١٨ ) وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأََرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ ( ١٩ ) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ ( ٢٠ ) ﴾.
تمهيد :
ترد الآيات على الطاعنين في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فالكون كله خلقه الله بالحق، ومن هذا الحق : إرسال الرسل، وإنزال الكتب، ولو أراد الله أن يتخذ ولدا ؛ لاصطفاه من الملائكة، لكنه منزه عن الصاحبة والولد، ثم بين : أن الغلبة للحق دائما مهما طال أمد الباطل، وأن جميع من في السماوات ومن في الأرض كلهم عبيده وفي طاعته.
التفسير :
١٦ - وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأََرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ.
اللعب : الفعل لا يقصد به مقصد صحيح.
إن الله لم يخلق الكون عبثا، بل خلقه بالحق، وأرسل رسله بالحق، وأنزل كتبه بالحق، وبالحق قامت السماوات والأرض، ومن هذا الحق : الإيمان بالرسل، والكتب، والبعث، والجزاء. وإثابة الطائع، وعقوبة العاصي، وقد كان أهل مكة لاهين لاعبين، ووقفوا من دعوة الإسلام موقف اللاعب المستهتر.
فقال القرآن : إن خلق الكون، وخلق الإنسان، ثم بالعدل والجد، ومن تأمل في خلق الكون وخلق الإنسان ؛ استدل بهذه المخلوقات على قدرة الخالق سبحانه وتعالى.
وقريب من هذه الآية قوله تعالى : وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ. ( ص : ٢٧ ).
إن هذا الكون البديع المنظم، يحتاج إلى قدرة عليا، تمسك بنظامه، وترفع سماءه، وتبسط أرضه، وترسي جباله، وتظلم ليله وتضيء نهاره، وتسخر شمسه وقمره ونجومه، وتنظم الهواء والماء، وتحافظ على التكامل والتنسيق بين هذا الكون، فكل شيء فيه لحكمة عليا أرادها الله، فالإنسان مثلا يستنشق الأكسجين، ويخرج ثاني أكسيد الكربون، والنبات عكس ذلك، فلو وجد الإنسان وحده ؛ لمات، ولو وجد النبات وحده ؛ لذبل واضمحل، وهكذا تركيب الهواء بنسب معينة، تساعد على الحياة والتعلم والتحضر، فلو زادت نسبة الأكسجين في الهواء ؛ لزادت الحرائق، بحيث تكفي شرارة واحدة للغابة لتحترق، ولو قل الأكسجين ؛ لتعطل التحضر الإنساني، فالكون كله بيد الله يدبر نظامه، ويرسل رسله وينزل كتبه.
ومن هذا الناموس الإلهي : إحقاق الحق، ونصرة الرسل، وإهلاك المفسدين.
تمهيد :
ترد الآيات على الطاعنين في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فالكون كله خلقه الله بالحق، ومن هذا الحق : إرسال الرسل، وإنزال الكتب، ولو أراد الله أن يتخذ ولدا ؛ لاصطفاه من الملائكة، لكنه منزه عن الصاحبة والولد، ثم بين : أن الغلبة للحق دائما مهما طال أمد الباطل، وأن جميع من في السماوات ومن في الأرض كلهم عبيده وفي طاعته.
١٧ - لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ.
اللهو : الفعل يعمل ترويحا عن النفس، ومن ثم تسمى المرأة والولد : لهوا ؛ لأنه يتروح بكل منهما، ويقال لامرأة الرجل وولده : ريحانتاه.
من لدنا : من عندنا.
أي : لو أردنا – على سبيل الفرض والتقدير – أن نتخذ ما نتلهى به ؛ لاتخذناه من عندنا ومن جهتنا، دون أن يمنعنا أحد مما نريده، ولكنا لم نرد ذلك ؛ لأنه مستحيل علينا استحالة ذاتية، فيستحيل علينا أن نريده، فالآية الكريمة من باب تعليق المحال على المحال ؛ لأن كلا الأمرين يتنافى مع حكمة الله ومع ذاته الجليلة.
إِن كُنَّا فَاعِلِينَ.
إن هنا بمعنى ( ما ) أي : ما كنا فاعلين، والفقرة هذه تذييل لتأكيد امتناع إرادة اللهو عليه سبحانه ؛ لأن اتخاذ اللهو يستحيل عليه.
ونقل ابن كثير في معنى الآية ما يأتي :
قال الحسن وقتادة وغيرهما : لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا. اللهو : المرأة بلسان أهل اليمن.
وقال إبراهيم النخعي : لاتخذناه من الحور العين.
وقال عكرمة والسدي : المراد باللهو هنا : الولد وهذا والذي قبله متلازمان، وهو كقوله تعالى : لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار. ( الزمر : ٤ ). فنزه نفسه عن اتخاذ الولد مطلقا، ولا سيما عما يقولون من الإفك والباطل، من اتخاذ عيسى أو العزير١ أو الملائكة ؛ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. ( الإسراء : ٤٣ ).
وخلاصة المعنى :
لو أراد الله أن يتخذ لهوا كما يتخذ العباد ؛ لاتخذه من العوالم المجردة كالملائكة، لكنه سبحانه منزه عن اللهو، فقد خلق الكون لحكمة عليا، وخلق الإنسان وزوده بالسمع والبصر، وأرسل له الرسل وأخبره بالحساب والجزاء، فالجد ظاهر في خلق الكون، واللهو واللعب من شأن العبيد المخلوقين، لا من شأن رب العالمين.
وقريب من ذلك قوله تعالى : قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَانِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ * سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ. ( الزخرف : ٨١، ٨٢ ).
تمهيد :
ترد الآيات على الطاعنين في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فالكون كله خلقه الله بالحق، ومن هذا الحق : إرسال الرسل، وإنزال الكتب، ولو أراد الله أن يتخذ ولدا ؛ لاصطفاه من الملائكة، لكنه منزه عن الصاحبة والولد، ثم بين : أن الغلبة للحق دائما مهما طال أمد الباطل، وأن جميع من في السماوات ومن في الأرض كلهم عبيده وفي طاعته.
١٨ - بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ.
القذف : الرمي البعيد.
الدمغ : أصل الدمغ : كسر الشيء الرخو، ويراد به هنا : القهر والإهلاك.
زاهق : زائل ذاهب.
الويل : الهلاك.
بل هنا للإضراب، أي : ليس من شأننا أن نتخذ لهوا، ولكن من شأننا إحقاق الحق، وإزهاق الباطل، ومن هذا الحق : إرسال الرسل، وإنزال الكتب، وتكليف الرسل بالبلاغ والدعوة إلى الهداية، والصراع بين الحق والباطل أزلي، ولحكمة إلهية عليا أن يوجد في هذا الكون وسائل الهداية، ووسائل الغواية، وأن يكون مع الإنسان العقل والرسالات السماوية، وأمامه وسائل الإغراء، وهنا للاختبار والابتلاء، إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً. ( الكهف : ٧ ).
ومفردات الآية تصور الحق قذيفة موجهة إلى أم رأس الباطل، فتشق دماغه، فتنتهي حياته وتزهق روحه، والقذف الرمي بسرعة.
فيدمغه، يمحقه ويزيله.
قال القرطبي : وأصل الدمغ شج الرأس حتى يبلغ الدماغ.
قال صاحب الظلال :
والتعبير يرسم هذه السنة في صورة حسية متحركة، فكأنما الحق قذيفة في يد القدرة، تقذف به على الباطل، فيشق دماغه ؛ فإذا هو زاهق هالك ذاهب٢.
وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ.
ولكم أيها الكافرون الضالون العذاب الشديد، مما تصفون الله به، بأن له صاحبة أو ولدا، أو أنه لا بعث ولا حساب، أو التكذيب بالرسل وبرسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبالقرآن المجيد.
تمهيد :
ترد الآيات على الطاعنين في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فالكون كله خلقه الله بالحق، ومن هذا الحق : إرسال الرسل، وإنزال الكتب، ولو أراد الله أن يتخذ ولدا ؛ لاصطفاه من الملائكة، لكنه منزه عن الصاحبة والولد، ثم بين : أن الغلبة للحق دائما مهما طال أمد الباطل، وأن جميع من في السماوات ومن في الأرض كلهم عبيده وفي طاعته.
١٩ - وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ.
من عنده : الملائكة.
لا يستكبرون : لا يتعظمون.
يستحسرون : يكلون ويتعبون، يقال : حسر البعير ؛ إذا أعيا وكل.
ولله ملك السماوات والأرض وما فيهما، من إنسان وحيوان وطير وفضاء وهواء، فهو سبحانه يملك جميع من في السماوات والأرض، وله وحده جميع من في السماوات والأرض، خلقا، وملكا، وتدبيرا، وتصرفا، وإحياء وإماتة، لا يخرج أحد عن علمه وقدرته، ولا يبعد أن يكون في السماوات والأرض كائنات حية تعيش في هذه المجرات والبروج على طريقة خلقها الله عليها، وجعلها تتكيف في حياتها مع طبيعة ما حولها.
وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ.
ومن عنده من مخلوقاته التي لا يعلمها إلا هو، ومن عنده الملائكة المقربون، الذين فطروا على العبادة والطاعة، فلا يستكبرون عبادة الله، ولا يستحسرون أي : ولا يمتنعون ولا يكلون ولا يتعبون، فقد فطروا على عبادة الله وطاعته، عن راحة وطواعية، فليس في طبيعتهم التكبر عن العبادة، أو الامتناع عنها أو الكلال أو الملل منها.
تمهيد :
ترد الآيات على الطاعنين في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فالكون كله خلقه الله بالحق، ومن هذا الحق : إرسال الرسل، وإنزال الكتب، ولو أراد الله أن يتخذ ولدا ؛ لاصطفاه من الملائكة، لكنه منزه عن الصاحبة والولد، ثم بين : أن الغلبة للحق دائما مهما طال أمد الباطل، وأن جميع من في السماوات ومن في الأرض كلهم عبيده وفي طاعته.
٢٠ - يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ.
لا يفترون : لا يضعفون ولا يتراخون.
التسبيح : تنزيه الله تعالى عما لا يليق به، والفتور : الاسترخاء والراحة والإبطاء، فالملائكة في تسبيح دائم، وطاعة مستمرة لله، بالليل والنهار في جميع الأوقات، بدون فتور أو تقصير أو إهمال أو إبطاء، كما قال سبحانه وتعالى : لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. ( التحريم : ٦ ).
وقال سبحانه : فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسئمون. ( فصلت : ٣٨ ).
قال في حاشية الجمل على الجلالين :
وتسبيح الملائكة لله تعالى، يجري منهم مجرى التنفس منا، فهو سجيه وطبيعة، وكما أن اشتغالنا لا يمنعنا من الكلام، فكذلك اشتغال الملائكة بالتسبيح لا يمنعهم من سائر الأعمال. ١ ه.
والمؤمن يستطيع أن يحول كل أعماله إلى عبادة، فتكون دراسته أو تعلمه، أو زراعته، أو صناعته عبادة ؛ إذا قصد بها الامتثال لأمر الله، أو نفع عباد الله، فتكون الأعمال العادية عبادة، كعبادة الصلاة والصيام ؛ إذا حسنت فيها النية، وفي الحديث الصحيح : إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى... )٣.
﴿ أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الأََرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ ( ٢١ ) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ( ٢٢ ) لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ( ٢٣ ) أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ ( ٢٤ ) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ ( ٢٥ ) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ( ٢٦ ) لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ( ٢٧ ) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ( ٢٨ ) وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ( ٢٩ ) ﴾.
تمهيد :
ما تقدم من أول السورة إلى هنا كان في النبوات وما يتعلق بها سؤالا وجوابا، وأما هذه الآيات فإنها في بيان التوحيد ونفي الشريك.
التفسير :
٢١ - أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الأََرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ.
ينشرون : من أنشره أي : أحياه.
أي : بل اتخذوا أصناما تعبد من دون الله، خلقت من الأرض كالأصنام والأحجار، وهذه الأصنام على حقارتها وضعتها هل تقدر على إحياء الموتى، وبعث من في القبور ؟ ! والاستفهام هنا للتوبيخ والتقريع ؛ لأن الكفار أثبتوا لهذه الأصنام الألوهية وعبدوها على أنها وسيلة للتقرب إلى الله. وهو هنا يسألهم : من له الألوهية والعبادة يستطيع البعث والنشر، فهل آلهتكم تملك هذه القدرة ؟ ! والجواب : لا طبعا ؛ لأن الكفار يعرفون ذلك، وهم وإن لم يقووا ذلك صريحا، فما ادعوه لها من الألوهية، يستدعي لها ثبوت إحياء الموتى ؛ لأنه من خصائصها، وكأن الآية تشير ضمنا إلى أن الخالق الحق هو الله، فهو الذي أنشأ الخلق من العدم، وهو القادر على إعادة الخلق كما بدأهم، قال تعالى : كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ. ( الأنبياء : ١٠٤ ).
تمهيد :
ما تقدم من أول السورة إلى هنا كان في النبوات وما يتعلق بها سؤالا وجوابا، وأما هذه الآيات فإنها في بيان التوحيد ونفي الشريك.
٢٢ - لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ.
لفسدتا : خرجتا عن نظامهما وخربتا.
فسبحان الله : تنزيها له عما وصفوه به.
إننا نلاحظ اتساق السماء واتساعها ونظامها، وإحكام خلقها، بلا خلل ولا تشقق ولا عيوب، ونشاهد امتداد الأرض واتساعها وتماسكها وإحكام خلقها، وتثبيتها بالجبال، ولو كان في الكون آلهة متعددة ؛ لكثر بينهما التغالب والتنازع وأدى ذلك إلى فساد الكون. واضطرابه، والشاهد أمامنا نظام الكون وإبداعه، فدل ذلك على أن خالقه إله واحد، وأن خالقه هو الله وحده لا شريك له، فلا يقدر على هذا الخلق البديع إلا الله، والمنطق يقول ذلك، والعقل يقول ذلك. فنظام الكون واحد. وهذا الكون يسير على نسق واحد، في خلقه واستمراره ونهايته وإعادته، وهذا النسق الواحد، يشير إلى أن وراءه يدا واحدة، هي يد القدرة الإلهية، وقد تعددت آيات القرآن التي تشير إلى خلق الله للكون، وبأن الكون البديع له ناموس بديع واحد، يشير إلى خالق واحد مثل قوله تعالى : الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور... ( الأنعام : ١ ).
وقوله عز شأنه : مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ. ( المؤمنون : ٩١ ).
وقال تعالى : وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأََعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
وخلاصة معنى الآية :
لو كان في السماوات والأرض آلهة غير الله لفسدتا، لكنهما لم تفسدا، بل هما على غاية النظام والإبداع ؛ فدل ذلك على أن خالقهما الإله الواحد سبحانه وتعالى.
فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ.
أي : فتنزيها لله رب العرش العظيم، الخالق المبدع، المحيط بهذا الكون، المدبر لهذا العالم، عما يقول هؤلاء المشركون من أن له ولدا أو شريكا.
تمهيد :
ما تقدم من أول السورة إلى هنا كان في النبوات وما يتعلق بها سؤالا وجوابا، وأما هذه الآيات فإنها في بيان التوحيد ونفي الشريك.
٢٣ - لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ.
ليس فوقه أحد حتى يسأله، إنه هو القاهر فوق عباده، وهو القائم على كل نفس بما كسبت، وهو الذي يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ. ( المؤمنون : ٨٨ ) وهو سبحانه : الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، عظم سلطانه، وامتد ملكه، وعظمت قدرته، وعظمت حكمته ؛ فكل أعماله حكيمة، ولذلك ؛ لا يتطاول إنسان فيقول : لم خلق الله كذا، ولم عمل كذا ؟ لأننا قد ندرك سر الحكمة في شيء. وقد تغيب عنا أشياء، وهذا معنى : لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ؛ لأنه سبحانه حكيم في خلقه ونظامه وأوامره وتشريعاته، والخلق جميعا يسألون يوم القيامة عما قدموه في دنياهم، ويجازون على الإحسان إحسانا وعلى السوء سوءا، قال تعالى : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره. ( الزلزلة : ٧، ٨ ).
وجاء في التفسير الوسيط للدكتور / محمد سيد طنطاوي :
لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ. تأكيد لوحدانيته وقدرته سبحانه. أي : لا يسأله سائل عما يفعله بعباده، من إعزاز وإذلال، وهداية وإضلال، وغنى وفقر، وصحة ومرض، وإسعاد وإشقاء ؛ لأنه هو الرب المالك المتصرف في شئون خلقه.
وَهُمْ يُسْأَلُونَ. يوم القيامة عن أعمالهم وأقوالهم ؛ لأنهم عبيده، وقد أرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين، فمنهم من اتبع الرسل فسعد وفاز، ومنهم من استحب العمى على الهدى فشقى وهلك٤
تمهيد :
ما تقدم من أول السورة إلى هنا كان في النبوات وما يتعلق بها سؤالا وجوابا، وأما هذه الآيات فإنها في بيان التوحيد ونفي الشريك.
٢٤ - أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ.
هذا ذكر من معي : هذا الوحي المتضمن للتوحيد عظة أمتي.
وذكر من قبلي : وموعظتهم وإرشادهم.
أيصح بعد تقديم الأدلة السابقة، أن يتخذ المشركون آلهة يعبدونها من دون الله، قل لهم يا محمد : قدموا الأدلة والبراهين على ذلك، هذا القرآن الكريم تذكير لمن معي من المؤمنين، مشتمل على أدلة التوحيد، حافل بلفت الأنظار إلى جمال الكون، وبديع نظامه، وأنه في قبضة إله واحد.
قال تعالى : أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. ( النمل : ٦١ ).
وهذه التوراة والأناجيل والصحف السماوية، كلها حافلة بالدعوة إلى التوحيد، وقد نزلت هذه الكتب على الأنبياء من قبلي، لأمم الأنبياء السابقين. وبذلك اتفق القرآن وجميع الكتب السماوية السابقة على الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك، أي : أن العقل والنقل يؤكدان التوحيد وينبذان الشرك.
بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ.
أكثر هؤلاء المشركين لا يعرفون الحق. ولا يميزون بين الحق والباطل، فلا تنفع معهم الأدلة والبراهين، لقد اتبعوا آباءهم في عبادة الأصنام، ولم يستخدموا عقولهم، ولم يفتحوا قلوبهم لسماع دعوة الإسلام، وصادروا الاستماع إليها، وأعرضوا عنها وصموا آذانهم عن الهدى، وأغلقوا عيونهم عن النظر.
فَهُم مُّعْرِضُونَ.
لذلك أعرضوا عن الدخول في الإسلام. والجهل بالحق داء دوى، ومرض يفسد الفطرة، ويصرف الإنسان عن السير في طريق الهدى والإيمان.
تمهيد :
ما تقدم من أول السورة إلى هنا كان في النبوات وما يتعلق بها سؤالا وجوابا، وأما هذه الآيات فإنها في بيان التوحيد ونفي الشريك.
٢٥ - وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ.
لقد أرسلنا رسلنا يدعون أقوامهم إلى التوحيد، فآدم، ونوح، وهود، وصالح، وشعيب، ، وموسى، وعيسى، وسائر الرسل، كانوا يدعون أقوامهم إلى توحيد الله، والإخلاص له في العبادة، وامتثال أمره واجتناب نواهيه.
وقد أوحى الله إلى كل رسول : أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ ؛ فلا معبود بحق غير الله.
وفي سورة طه : فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي. ( طه : ١١ – ١٤ ).
وفي معنى هذه الآية يقول الله تعالى : وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ... ( النحل : ٣٦ ).
والخلاصة : أن الفطرة والعقل والنقل تؤيد التوحيد، ورسالات جميع الأنبياء متحدة في دفع الشرك وإقرار التوحيد.
تمهيد :
ما تقدم من أول السورة إلى هنا كان في النبوات وما يتعلق بها سؤالا وجوابا، وأما هذه الآيات فإنها في بيان التوحيد ونفي الشريك.
٢٦ - وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ.
مكرمون : مقربون عنده.
وقال فريق من هؤلاء المشركين : إن الملائكة بنات الله، وقد ناقش القرآن هذه الفكرة في آيات كثيرة، وأثبت ضلالها وبين ضعف الأنثى، وعدم استطاعتها إقامة الحجة أو النجاح في الخصومة، فكيف يجعلون لأنفسهم الذكور ولله الأنثى ؟ !
قال تعالى : ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذا قسمة ضيزى. ٥ ( النجم : ٢١، ٢٢ ).
وقال سبحنه وتعالى : وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ * أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ * وَجَعَلُوا الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ * وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ. ( الزخرف : ١٥ – ٢٠ ).
وتفيد كتب التفسير : أن اليهود ادعوا لله ولدا هو العزير، وأن النصارى ادعوا لله ولدا وهو المسيح عيسى ابن مريم، وأن جموعا من مشركي العرب ادعوا أن الملائكة بنات الله، وهم بطون من خزاعة وجهينة وبني سلمة، وقد ناقشتهم آيات القرآن وفندت حججهم، فكيف يتخذ الخالق مما يخلق البنات ويترك للمخلوقين البنين ؟ ! مع أن العربي كان إذا بشر بالأنثى ؛ اسود وجهه، وملأ الغيظ قلبه، وسيكتب الله قولهم ويحاسبهم عليه ويسألهم عنه.
ومعنى الآية :
وقال المشركون : اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا تنزه الله وتقدس الله تعالى عن ذلك، جل وعلا عما يقولونه علوا كبيرا.
بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ.
لقد كذب المشركون في قولهم : الملائكة بنات الله، والحق أن الملائكة هم عباد مخلوقون له تعالى، ومقربون إليه ومكرمون عنده ؛ لأنهم في منتهى الطاعة والعبادة والامتثال لأمره، والتسابق في مرضاته، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
تمهيد :
ما تقدم من أول السورة إلى هنا كان في النبوات وما يتعلق بها سؤالا وجوابا، وأما هذه الآيات فإنها في بيان التوحيد ونفي الشريك.
٢٧ - لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ.
لا يسبقونه بالقول : لا يتكلمون حتى يأمرهم.
إنهم في غاية الامتثال والطاعة لربهم، ولا يتكلمون إلا بما يأمرهم به، ولا يخالفونه فيما أمرهم به، بل يبادرون إلى فعله، فهم نموذج للطاعة في القول والعمل.
تمهيد :
ما تقدم من أول السورة إلى هنا كان في النبوات وما يتعلق بها سؤالا وجوابا، وأما هذه الآيات فإنها في بيان التوحيد ونفي الشريك.
٢٨ - يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ.
من خشيته : بسبب خوف عذابه.
مشفقون : حذرون.
شتان بين المخلوق والخالق ؛ فالله العلي العظيم، يعلم أحوال الملائكة كلها، صغيرها وكبيرها، متقدمها ومتأخرها.
وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى.
ولا تشفع الملائكة إلا لمن رضي عنه الرحمان، وهم أهل التوحيد، وقد ثبت في الصحيح : أن للملائكة شفاعة، لكنها مرتبطة بمن رضي الله عنه، وأذن لهم بالشفاعة له، والملائكة لخوفهم من عقاب الله وعذابه ؛ حذرون وجلون، يتسابقون في طاعته وذكره، وامتثال أمره، واجتناب نهيه، ولا يملكون إلا هذه الطاعة، ولا يخالفون لله سبحانه أمرا، فمن جعلهم بنات لله، فقد افترى على الله الكذب ؛ لأن الابن يكون من جنس الأب، وشتان بين الإله الخالق وبين الملائكة المخلوقة.
تمهيد :
ما تقدم من أول السورة إلى هنا كان في النبوات وما يتعلق بها سؤالا وجوابا، وأما هذه الآيات فإنها في بيان التوحيد ونفي الشريك.
٢٩ - وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ.
ومع طاعتهم لله تعالى وامتثالهم لأمره، إذا فرضنا جدلا أن واحدا منهم، ادعى : أنه إله من دون الله، فسوف يكون جزاؤه عذاب جهنم، ومثل هذا الجزاء لكل مدع للألوهية، ولكل ظالم عات على أمر الله، مثل إبليس الذي أقام مع الملائكة فنسب إليهم، وعندما خالف أمر الله تعالى، ولم يسجد لآدم ؛ طرده الله من جنته ورضوانه، وكتب عليه اللعنة والطرد من رحمته، ووعده في الآخرة عذاب السعير.
قال تعالى : قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ. ( ص : ٧٧ – ٨٥ ).
الخلق
﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ( ٣٠ ) وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ( ٣١ ) وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ ( ٣٢ ) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ( ٣٣ ) ﴾.
تقدم الآيات دلائل القدرة الإلهية في : خلق الكون، ورفع السماء، وبسط الأرض، وإرساء الجبال، وتسخير الليل والنهار، والشمس والقمر، وكل شيء له مجال يسبح فيه مرتبطا بنظام هذا الكون المحفوظ بيد القدرة الإلهية.
التفسير :
٣٠ - أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ.
الرتق : الضم والالتحام ؛ خلقة كان أو صنعة.
الفتق : الفصل بين الشيئين الملتصقين.
جعلنا من الماء كل شيء حي : أحيينا بالماء الذي ننزله من السماء كل شيء، والنبات والشجر.
يمن الله على عباده بخلق هذا الكون وإيجاده من العدم.
والمعنى : ألم يعلموا أن السماوات والأرض كانتا مادة واحدة متصلة، لا فتق فيها ولا انفصال وهو ما يسمى في عرف علماء الفلك : بالسديم، وبلغة القرآن : بالدخان ففتقناهما، بفصل بعضهما عن بعض، فكان منها ما هو سماء ومنها ما هو أرض٦.
وقد نقل ابن كثير عن ابن عباس وغيره عن أعلام التفسير قولهم : كانت السماوات رتقا لا تمطر، وكانت الأرض رتقا لا تنبت، وكانتا ملتصقتين ففصل الله بينهما بالهواء فكان في ذلك فتق السماء بالمطر، وفتق الأرض بالنبات.
وقيل : الرتق : مجاز عن العدم، والفتق : مجاز عن الإيجاد والإظهار كقوله تعالى : فاطر السماوات والأرض٧.
وقال بعض علماء الفلك :
معنى : كانتا رتقا، أي شيئا واحدا، ومعنى : ففتقناهما : فصلنا بعضهما عن بعض.
قال : فتدل الآية : على أن الأرض خلقت كباقي الكواكب السيارة من كل وجه، أي : أنها إحدى هذه السيارات، وهي مثلها في المادة وكيفية الخلق وكونها تسير حول الشمس، وتستمد النور والحرارة منها، وكونها مسكونة بحيوانات كالكواكب الأخرى، وكونها كروية الشكل، فالسيارات أو السماوات هي متماثلة من جميع الوجوه، وكلها مخلوقة من مادة واحدة وهي مادة الشمس، وعلى طريقة واحدة – ١ ه. كلامه٨.
ومعنى قوله تعالى : وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ. صيرنا كل شيء حي بسبب الماء لا يحيا دونه، فيدخل فيه النبات والشجر ؛ لأنه من الماء صار ناميا، وصار فيه الرطوبة والخضرة والنور والثمر، وإسناد الحياة إلى ظهور النبات معروف في آيات شتى كقوله تعالى : ويحي الأرض بعد موتها٩. وخص بعضهم الشيء بالحيوان، لما ورد في الآية ٤٥ من سورة النور والله خلق كل دابة من ماء ولا ضرورة إليه، بل العموم أدل على القدرة، وأعظم في العبرة وأبلغ في الخطاب وألطف في المعنى١٠.
تقدم الآيات دلائل القدرة الإلهية في : خلق الكون، ورفع السماء، وبسط الأرض، وإرساء الجبال، وتسخير الليل والنهار، والشمس والقمر، وكل شيء له مجال يسبح فيه مرتبطا بنظام هذا الكون المحفوظ بيد القدرة الإلهية.
٣١ - وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِم.
الرواسي : الثوابت واحدها : راسية.
تميد : تتحرك وتضطرب.
الفجاج : واحدها : فج وهو طريق يكتنفه جبلان.
سبلا : طرقا واسعة.
أي : ألقينا في الأرض جبالا راسية حتى تحفظ توازنها فلا تضطرب ولا تختل، ولولا الجبال لكانت الأرض دائمة الاضطراب ؛ مما في جوفها من المواد الدائمة الجيشان.
وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ.
أي : جعلنا في الأرض طرقا ؛ ليهتدوا أثناء السير فيها.
وقال ابن كثير :
جعلنا ثغرا في الجبال يسلكون فيها طرقا من قطر إلى قطر، ومن إقليم إلى إقليم، كما هو المشاهد في الأرض يكون الجبل حائلا بين هذه البلاد وهذه البلاد، فيجعل الله فيه فجوة ثغرة ؛ ليسلك الناس فيها من هنا إلى هنا ولهذا قال : لعلهم يهتدون.
تقدم الآيات دلائل القدرة الإلهية في : خلق الكون، ورفع السماء، وبسط الأرض، وإرساء الجبال، وتسخير الليل والنهار، والشمس والقمر، وكل شيء له مجال يسبح فيه مرتبطا بنظام هذا الكون المحفوظ بيد القدرة الإلهية.
٣٢ - وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ.
سقفا محفوظا : السماء كالسقف للأرض، محفوظة من الخلل والاضطراب، ومن استراق السمع.
بارك الله في الأرض، وحفظ توازنها بالجبال، وقدر فيها أرزاقا بالماء والفضاء والهواء، وجعل السماء سقفا وغطاء لحفظ الأرض، وحفظ الله السماء من الخلل والفطور والتشقق، كما حفظها من الشياطين بالشهب، قال تعالى : وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ. ( الحجر : ١٧ ).
وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ.
أي : لا يتفكرون فيما خلق الله في السماء من الارتفاع الباهر، والاتساع العظيم، وما زينت به من الكواكب الثوابت والسيارات في ليلها ونهارها، من هذه الشمس التي تقطع الفلك بكماله في يوم وليلة فتسير غاية لا يعلم قدرها إلا الله الذي قدرها وسخرها وسيرها.
وفي معنى الآية قوله تعالى : وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون. ( يوسف : ١٠٥ ).
تقدم الآيات دلائل القدرة الإلهية في : خلق الكون، ورفع السماء، وبسط الأرض، وإرساء الجبال، وتسخير الليل والنهار، والشمس والقمر، وكل شيء له مجال يسبح فيه مرتبطا بنظام هذا الكون المحفوظ بيد القدرة الإلهية.
٣٣ - وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ.
كل في فلك : في مدار خاص به.
يسبحون : ينطلقون ويتحركون ويعومون، مرتبطين بنظام هذا الكون.
تمهيد :
الله خلق الليل : ليسكن الإنسان في ظلامه ويهدأ، وخلق النهار مبصرا ؛ ليسعى فيه على رزقه وينشط لعمله.
وخلق الله الشمس : لتكون سراجا للنهار، ولتمد الناس والكون بالدفء والحرارة.
وخلق الله القمر نورالليل، ويرتبط بالقمر المد والجزر، وقد سخر الله هذه الكائنات، وأبدع نظامها، ويسر لها حركتها.
كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ. كل واحد منهما يجري في الفلك كالسابح في الماء.
قال في ظلال القرآن :
والليل والنهار ظاهرتان كونيتان. والشمس والقمر جرمان هائلان لهما علاقة وثيقة بحياة الإنسان في الأرض، وبالحياة كلها.. والتأمل في توالي الليل والنهار، وفي حركة الشمس والقمر بهذه الدقة التي لا تختل مرة، وبهذا الاضطراد الذي لا يكف لحظة.. جدير بأن يهدي القلب إلى وحدة الناموس، ووحدة الإرادة، ووحدة الخالق المدبر القدير١١.
﴿ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ( ٣٤ ) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ( ٣٥ ) وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُم بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ ( ٣٦ ) ﴾.
تمهيد :
في آيات سابقة ربط الله بين نواميس الكون، ولفت الأنظار إلى خلق الكون، والحياة والماء، والأرض والسماء، والشمس والقمر.
وهنا يتحدث عن نواميس الحياة البشرية في طبيعتها ونهايتها ومصيرها.
التفسير :
٣٤ - وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ.
الخلد : الخلود والبقاء في الدنيا.
فهم الخالدون : الباقون في الدنيا ؟ لا، وهذه الجملة محل الاستفهام الإنكاري.
كان الكافرون يتربصون بالنبي الموت، ويقولون : سيموت محمد كما مات شاعر بني فلان ؛ فبين القرآن : أن الموت سنة الأحياء ؛ فكل حي سيدركه الموت، وكذلك كفار مكة سيموتون، وإذا كانوا سيموتون فلماذا لا يعملون عملا صالحا ينفعهم بعد الموت ؟.
وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ.
لم يخلد نبي ولا رسول ولا بشر ؛ كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام. ( الرحمان : ٢٦، ٢٧ ).
وإذا كان كل بشر فان ؛ فأنت ستموت يا محمد كما مات غيرك، وسنتكفل نحن بأمر الرسالة ونحافظ عليها.
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ. ( الحجر : ٩ ).
أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ.
وأنت إذا مت يا محمد، فإن الكفار سيموتون أيضا في الوقت الذي حدده الله تعالى لانقضاء عمرك، وأعمارهم.
وما دام الأمر كذلك، فلا تلتفت إليهم، ولا تنزعج من شماتتهم في موتك، فإنك ميت وإنهم ميتون، وكل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون.
يقول الإمام الشافعي :
تمنى أناس أن أموت، وإن أمت فتلك سبيل لست فيها بأوحد
فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى تهيأ لأخرى مثلها، وكأن قد
ويقول شاعر آخر :
إذا ما الدهر جر على أناس كلا كله أناخ بآخرينا
فقل للشامتين بنا أفيقوا سيلقى الشامتون كما لقينا
تمهيد :
في آيات سابقة ربط الله بين نواميس الكون، ولفت الأنظار إلى خلق الكون، والحياة والماء، والأرض والسماء، والشمس والقمر.
وهنا يتحدث عن نواميس الحياة البشرية في طبيعتها ونهايتها ومصيرها.
٣٥ - كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ.
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ.
ذائقة الموت : كل نفس ستدرك الموت عند نهاية الحياة، والمراد من الموت : مقدماته من الآلام الشديدة، والمدرك هي النفس المفارقة للبدن.
نبلوكم : نختبركم، أي : نعاملكم معاملة المختبر.
بالشر والخير : بالبلايا والنعم، أو المحبوب والمكروه، كفقر وغنى، وسقم وصحة، وذل وعز.
فتنة : ابتلاء وامتحانا ؛ لننظر أتصبرون وتشكرون أم لا.
وإلينا ترجعون : فنجازيكم حسبما يوجد منكم من الصبر والشكر، وفيه إيماء بأن المقصود من هذه الحياة : الابتلاء.
فهي قضية عامة تشمل الإنسان والحيوان والنبات، هذا هو الناموس الذي يحكم هذه الحياة، إنه الموت نهاية كل حي، وعاقبة المطاف للرحلة القصيرة على الأرض، فما أجدر الإنسان بأن يعد الزاد للحياة الحقيقية في الدار الآخرة.
وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ. ( العنكبوت : ٦٤ ).
والمقصود من هذه الحياة الدنيا : الاختبار، والابتلاء، والامتحان.
وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ.
نختبركم بالفقر والغنى، والمرض والصحة، والشقاء والسعادة، والبلاء والعافية ؛ امتحانا لكم، واختبارا لأنفسكم، ولنشاهد نحن وملائكتنا ماذا كان وقع الابتلاء بأنفسكم ؛ هل صبرتم على البلاء ؟ هل شكرتم على النعماء ؟ جزعتم من البلاء ؟ وأترفتم بالنعماء ؟ هل أديتم حق الله في أنفسكم وأموالكم وسائر نعم الله عليكم ؟ هل صبرتم على المصائب ؟ هل شكرتم على النعم ؟
قال تعالى : الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا. ( الملك : ٢ ).
وقال سبحانه : إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً. ( الكهف : ٧ ).
فالحياة اختبار، والمال والجاه والسلطان وسائر النعم، هي مادة ذلك الاختبار، وكثيرون ينجحون في الصبر والاحتمال ويتحملون الشدائد، وقليلون هم الذين ينجحون في الرخاء والنعم والدعة والراحة والمال والغنى.
يقول الأستاذ سيد قطب :
إن الابتلاء بالخير أشد وطأة، وإن خيل للناس أنه دون الابتلاء بالشر.
إن كثيرين يصمدون للابتلاء بالشر، ولكن القلة القليلة هي التي تصمد للابتلاء بالخير.
كثيرون يصبرون على الابتلاء بالمرض والضعف، ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الابتلاء بالصحة والقدرة، ويكبحون جماح القوة الهائجة في كيانهم، الجامحة في أوصالهم.
كثيرون يصبرون على الفقر والحرمان فلا تتهاوى نفوسهم ولا تذل، ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الثراء والمقدرة، وما يغريان به من متاع، وما يثيرانه من شهوات وأطماع !
كثيرون يصبرون على التعذيب والإيذاء فلا يخفيهم، ويصبرون على التهديد والوعيد فلا يرهبهم، ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الإغراء بالرغائب والمناصب والمتاع والثراء !
كثيرون يصبرون على الكفاح والجراح ؛ ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الدعة والمراح، ثم لا يصابون بالحرص الذي يذل أعناق الرجال ؛ وبالاسترخاء الذي يقعد الهمم.
إن الابتلاء بالشدة قد يثير الكبرياء، ويستحث المقاومة ويجند الأعصاب، فتكون القوى كلها معبأة ؛ لاستقبال الشدة والصمود لها، أما الرخاء فيرخي الأعصاب وينميها، ويفقدها القدرة على اليقظة والمقاومة.
لذلك يجتاز الكثيرون مرحلة الشدة بنجاح، حتى إذا جاء الرخاء سقطوا في الابتلاء ! وذلك شأن البشر... إلا من عصم الله فكانوا ممن قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له )١٢.
فاليقظة للنفس في الابتلاء بالخير أولى من اليقظة لها في الابتلاء بالشر، والصلة بالله في الحالين، هي وحدها الضمان١٣.
وإذا تأملت أيها المسلم وجدت أن المال والجاه والسلطان وسائر النعم هي خيرات يتفضل الله بها على عباده، والقلب الموصول بالله، يرى أن كل نعمة من الله، وأنه مستخلف عن الله في إدارتها وإنفاقها قال تعالى : وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه... ( الحديد : ٧ ).
وقد ورد في هدى القرآن الكريم والسنة المطهرة : دعوة متكررة تحث على الصبر على البأساء وعلى الشكر على النعماء، وتحذر من الجزع والهلع واليأس، كما تحذر من البطر والترف والغرور.
والمؤمن حقا متوازن ؛ إذا جاءت النعم، سخرها في طاعة الله، وأنفق من ماله في جهات الخير والبر، وسخر أنعم الله عليه في مصالح العباد، ومرضاة الله رب العالمين، وإذا ابتلاه الله بالشدة أو المرض أو الفقر لم يهلع ولم يجزع وصبر واحتسب.
قال تعالى : وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ. ( البقرة : ١٥٥ – ١٥٧ ).
وقال عز شأنه :
إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إلآَّ الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ. ( المعارج : ١٩ – ٢٦ ).
وفي الحديث الصحيح يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم :( ما يصيب المؤمن من هم ولا حزن، ولا تعب ولا وصب، حتى الشوكة يشاكها ؛ إلا كفر الله بها من خطاياه، ولا يزال البلاء يصيب المؤمن حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة )١٤.
ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم :( لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس )١٥.
وختاما : إن لله حكمة عليا في هذا الكون ؛ فهو يمتحن عباده بالخير حينا وبالشر حينا كما قال سبحانه : وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون. ( الأعراف : ١٦٨ ).
وقال عز شأنه : ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون. ( الأنعام : ٤٢ ).
وقال تعالى : ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير. ( الشورى : ٢٧ ).
تمهيد :
في آيات سابقة ربط الله بين نواميس الكون، ولفت الأنظار إلى خلق الكون، والحياة والماء، والأرض والسماء، والشمس والقمر.
وهنا يتحدث عن نواميس الحياة البشرية في طبيعتها ونهايتها ومصيرها.
٣٦ - وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُم بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ.
إن يتخذونك إلا هزوا : ما يتخذونك إلا مهزوءا به مسخورا منه.
أهذا الذي يذكر آلهتكم : أهذا الذي يعيب آلهتكم.
وهم بذكر الرحمان : إذا ذكر الإله الرحمان الواحد.
هم كافرون : بما أنزل عليك من القرآن والرسالة كافرون جاحدون ؛ فهم أولى بالرثاء والسخرية ؛ لكفرهم بالله الحق.
كان الكفار يسخرون من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويستكثرون على الفقير اليتيم أن ينزل عليه وحي السماء وأن يكون رسولا نبيا.
ومعنى الآية :
إذا شاهدك المشركون تهكموا بك هازئين، قائلين : أهذا الذي يتجرأ على ذكر آلهتكم ؛ بأنها لا تسمع ولا تنفع ولا تضر، ولا تفيد من عبدها. وهم كافرون بالله، الإله الحق، الخالق لهذا الكون، أي : إنهم يستكثرون على محمد أن يذكر آلهتهم وأصنامهم بسوء، ولا يستكثرون على أنفسهم، أن يجحدوا حق الله عليهم في الإيمان به وبرسوله الصادق المصدوق ؛ فسبحان من جعلهم يخضعون للأصنام الباطلة، ويجحدون رسالة الرسول، والإيمان بالرحمان مع أن هذا الإيمان هو الحق المبين، لقد وضعوا الشيء في غير موضعه، فهم أحق بالاستهزاء والسخرية.
وقد سجل القرآن الكريم أن الله حفظ نبيه من المستهزئين فقال : إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْمَلُونَ. ( الحجر : ٩٥، ٩٦ ).
وقال تعالى : وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إلاَّ هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً * إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً. ( الفرقان : ٤١، ٤٢ ).
﴿ خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ ( ٣٧ ) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( ٣٨ ) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ( ٣٩ ) بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ ( ٤٠ ) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزئُون ( ٤١ ) ﴾.
تمهيد :
أقام القرآن فيما سبق أدلة عقلية ونقلية على وجود الله. وأبان : أن مصير الدنيا إلى فناء وزوال، وأنها خلقت للابتلاء والامتحان، ولتكون جسرا إلى الآخرة دار الخلود، وأن مصير الخلائق كلها إلى الله تعالى للحساب والجزاء.
وفي الآيات ٣٧ – ٤١ يذكر : أن العجلة خلقت في طبيعة الإنسان، وقد أمرنا الله بالصبر والاحتمال، وقد كان كفار مكة يتعجلون وقوع العذاب بهم ؛ سخرية بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ؛ فبينت الآيات : أن العذاب آت لا ريب فيه ؛ فلا يغترن أحد بطول البقاء في الدنيا، ولا يسخرن برسول من عند الله، فإنه سيلقى جزاء سخريته واستهزائه، وهذا زجر واضح شديد التأثير.
التفسير :
٣٧ - خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ.
خلق الإنسان من عجل : العجل والعجلة : طلب الشيء قبل أوانه.
والمراد بالإنسان : هذا النوع، وقد جعل لفرط استعجاله وقلة صبره كأنه مخلوق من العجل مبالغة، كما يقال للرجل الذكي : هو نار تشتعل، ويقال لمن يكثر منه الكرم : فلان خلق من الكرم، قال المبرد : خلق الإنسان من عجل، أي : إن من شأنه العجلة، كقوله : خلقكم من ضعف... ( الروم : ٥٤ ) أي : خلقكم ضعفاء.
الآيات : هي آيات النقم التي هددهم بوقوعها.
سأريكم آياتي : سأصيبكم بنقمتي.
خلق آدم عليه السلام وفي طبيعته العجلة، وعندما دخلت الروح وجهه ورأسه وأعلاه ؛ استعجل القعود والقيام قبل أن تصل الروح إلى نصفه الأسفل.
وقد ورد في تفسير ابن كثير :
وقال ابن أبي حاتم عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :( خير يوم طلعت فيه الشمس : يوم الجمعة ؛ فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أهبط منها، وفيه تقوم الساعة، وفيه ساعة إجابة )١٦.
قال أبو سلمة : فقال عبد الله بن سلام : قد عرفت تلك الساعة، هي آخر ساعات النهار من يوم الجمعة، وهي التي خلق الله فيها آدم.
أي : أن في طبيعة الإنسان العجلة ؛ فهو يتعجل حصول الأشياء قبل وقتها، إلا إذا دخل الإيمان في القلب ؛ فتحل معه الطمأنينة، والإيمان بالقضاء والقدر، خيره وشره، حلوه ومره.
خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ.
أي : أنه تعالى فطر هذا النوع على العجلة، وجعلها من سجيته وجبلته، كما تقول للكريم : خلق فلان من الكرم، أو للجميل : خلق فلان من الجمال ؛ ولذلك كان المشركون يتعجلون وقوع العذاب في الدنيا.
وروى : أن الآية نزلت في النضر بن الحارث، وهو القائل : اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. ( الأنفال : ٣٢ ).
سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ.
سأنزل بكم نقمتي، ومن ذلك ما أصابهم يوم بدر من الهزيمة، وتوالى تأييد الله لنبيه حتى فتح مكة. ودخل الناس في دين الله أفواجا ؛ وصدق الله العظيم : ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا... ( الأنعام : ٣٤ ).
وقد نهى الإنسان عن العجلة فقال تعالى : فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ، مع أن العجلة مركبة في طبيعته، والمراد أن يستحث نفسه على الصبر والاطمئنان، وعدم استعجال الأمور قبل أوانها.
فالمؤمن يعلم أن لكل أجل كتاب، وأن الله سبحانه هو النافع وهو الضار، وأن أحدا لا ينفع أو يضر إلا بإذن الله، وهذا من شأنه أن يمنح الإنسان الصبر والرضا، والاطمئنان وحسن التوكل، واليقين بأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك.
قال الآلوسي في تفسير الآية :
والنهي عن استعجالهم إياه – تعالى – مع أن نفوسهم جبلت على العجلة ؛ ليمنعوها عما تريده، وليس هذا من التكليف بما لا يطاق ؛ لأنه – سبحانه – أعطاهم من الأسباب، ما يستطيعون به كف النفس عن مقتضاها، ويرجع هذا النهي إلى الأمر بالصبر. ١ه.
وفي الحديث النبوي الشريف :( من يستغن يغنه الله ومن يتصبر يصبره الله )١٧.
تمهيد :
أقام القرآن فيما سبق أدلة عقلية ونقلية على وجود الله. وأبان : أن مصير الدنيا إلى فناء وزوال، وأنها خلقت للابتلاء والامتحان، ولتكون جسرا إلى الآخرة دار الخلود، وأن مصير الخلائق كلها إلى الله تعالى للحساب والجزاء.
وفي الآيات ٣٧ – ٤١ يذكر : أن العجلة خلقت في طبيعة الإنسان، وقد أمرنا الله بالصبر والاحتمال، وقد كان كفار مكة يتعجلون وقوع العذاب بهم ؛ سخرية بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ؛ فبينت الآيات : أن العذاب آت لا ريب فيه ؛ فلا يغترن أحد بطول البقاء في الدنيا، ولا يسخرن برسول من عند الله، فإنه سيلقى جزاء سخريته واستهزائه، وهذا زجر واضح شديد التأثير.
٣٨ - وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ.
الوعد : قيام الساعة.
كان القرآن يتوعد المشركين بالعذاب، ويضرب الأمثلة بما أصاب الأمم السابقة المكذبة، مثل : طوفان نوح، وهلاك عاد وثمود، ولكن هؤلاء الكافرين لم يصيخوا السمع ولم يتأملوا كلام الله ؛ بل قالوا ذلك بالسخرية، واستعجال العذاب، استخفافا وتهكما. وبلغ من عدم مبالاتهم أنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين : متى يأتي هذا الموعد بنزول العذاب إن كنتم صادقين في وعدكم ؟ وهذا منهم استبطاء للموعود به، وإنكار لوقوعه وأنه لن يكون البتة.
تمهيد :
أقام القرآن فيما سبق أدلة عقلية ونقلية على وجود الله. وأبان : أن مصير الدنيا إلى فناء وزوال، وأنها خلقت للابتلاء والامتحان، ولتكون جسرا إلى الآخرة دار الخلود، وأن مصير الخلائق كلها إلى الله تعالى للحساب والجزاء.
وفي الآيات ٣٧ – ٤١ يذكر : أن العجلة خلقت في طبيعة الإنسان، وقد أمرنا الله بالصبر والاحتمال، وقد كان كفار مكة يتعجلون وقوع العذاب بهم ؛ سخرية بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ؛ فبينت الآيات : أن العذاب آت لا ريب فيه ؛ فلا يغترن أحد بطول البقاء في الدنيا، ولا يسخرن برسول من عند الله، فإنه سيلقى جزاء سخريته واستهزائه، وهذا زجر واضح شديد التأثير.
٣٩ - لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ.
لا يكفون : لا يمنعون.
جواب لو محذوف، والتقدير : لو يعلم الذين كفروا ما ينتظرهم من العذاب، الذي يغشاهم من فوقهم ومن تحتهم ويشملهم من الأمام والخلف، ويغشى وجوههم وظهورهم فلا يستطيعون دفعه، ولا يجدون من ينصرهم ؛ لما تعجلوا العذاب، ولما استهزءوا بالنبي والمؤمنين.
وخص القرآن الوجوه والظهور بالذكر ؛ لكونهما أظهر الجوانب، ولبيان : أن العذاب سيغشاهم من أمامهم ومن خلفهم دون أن يملكوا له دفعا، ولأن مس العذاب للوجه أشد وقعا وألما، والإنسان منا حريص على المحافظة على وجهه، وإذا تعرض وجهه للخطر دافع عنه بيديه، فإذا اشتد الخطر اتقى العذاب بوجهه، وتلك أخطر المراحل، قال تعالى : أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة... ( الزمر : ٢٤ ).
وقال صاحب الظلال :
لو يعلمون ما سيكون ؛ لكان لهم شأن غير شأنهم، ولكفوا عن استهزائهم واستعجالهم ؛ فلينظروا ماذا سيكون ؛ ها هم أولاء تنوشهم النار من كل جانب، فيحاولون في حركة مخبلة – يرسمها التعبير من وراء السطور – أن يكفوا النار عن وجوههم، وعن ظهورهم ؛ ولكنهم لا يستطيعون، وكأنما تلقفتهم النار من كل جانب. ١ ه.
فلا يستطيعون ردها، ولا يجدون ناصرا ينصرهم في ذاك اليوم.
تمهيد :
أقام القرآن فيما سبق أدلة عقلية ونقلية على وجود الله. وأبان : أن مصير الدنيا إلى فناء وزوال، وأنها خلقت للابتلاء والامتحان، ولتكون جسرا إلى الآخرة دار الخلود، وأن مصير الخلائق كلها إلى الله تعالى للحساب والجزاء.
وفي الآيات ٣٧ – ٤١ يذكر : أن العجلة خلقت في طبيعة الإنسان، وقد أمرنا الله بالصبر والاحتمال، وقد كان كفار مكة يتعجلون وقوع العذاب بهم ؛ سخرية بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ؛ فبينت الآيات : أن العذاب آت لا ريب فيه ؛ فلا يغترن أحد بطول البقاء في الدنيا، ولا يسخرن برسول من عند الله، فإنه سيلقى جزاء سخريته واستهزائه، وهذا زجر واضح شديد التأثير.
٤٠ - بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ.
بغتة : فجأة.
تبهتهم : تدهشهم وتحيرهم.
ينظرون : يمهلون ويؤخرون.
بل تأتيهم النار بغتة فجأة ؛ فتحيرهم وتشل تفكيرهم ؛ لأنهم تعجلوا عذاب الله ؛ فكان الجزاء أن تأتيهم النار فجأة، دون استعداد فتحيرهم بأهوالها ؛ فليس لديهم قدرة على رد عذاب النار ؛ ولا يعطون مهلة ؛ ينظرون ويمهلون فيها، إنه عذاب مفاجئ مباغت شديد قوى لا يملكون دفعه ولا تأجيله.
وقد قرأ الأعمش :
بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتََبْهَتُهُمْ... على التذكير والضمير للوعد أو للحين.
قال الزمخشري في الآية :
فإن قلت : فإلام يرجع الضمير المؤنث في هذه القراءة ؟ قلت : إلى النار أو الساعة، أو إلى البغتة. ١ ه.
والخلاصة : أن بعض المفسرين أرجع الضمير إلى النار ؛ وبعضهم أرجعه إلى الساعة، ويكون معنى الآية : بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ.
أي : بل تأتيهم الساعة الموعود بها وبعذابهم، مفاجأة فتدهشهم وتحيرهم ؛ فلا يستطيعون دفع الساعة أو ردها عنهم ؛ ولا هم ينظرون، ولا هم يمهلون لتوبة أو معذرة.
تمهيد :
أقام القرآن فيما سبق أدلة عقلية ونقلية على وجود الله. وأبان : أن مصير الدنيا إلى فناء وزوال، وأنها خلقت للابتلاء والامتحان، ولتكون جسرا إلى الآخرة دار الخلود، وأن مصير الخلائق كلها إلى الله تعالى للحساب والجزاء.
وفي الآيات ٣٧ – ٤١ يذكر : أن العجلة خلقت في طبيعة الإنسان، وقد أمرنا الله بالصبر والاحتمال، وقد كان كفار مكة يتعجلون وقوع العذاب بهم ؛ سخرية بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ؛ فبينت الآيات : أن العذاب آت لا ريب فيه ؛ فلا يغترن أحد بطول البقاء في الدنيا، ولا يسخرن برسول من عند الله، فإنه سيلقى جزاء سخريته واستهزائه، وهذا زجر واضح شديد التأثير.
٤١ - وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يستهزئون.
حاق : حل ونزل.
تبين الآية : جانبا من سنن الله الإلهية ؛ ذلك أن بعض الرسل الكرام سخر منهم قومهم ؛ واستهزءوا بهم، فأنزل الله بالمستهزئين العذاب الماحق، والعقاب الرادع، الذي كانت الرسل تخوفهم نزوله.
قال تعالى متحدثا عن نوح عليه السلام : وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ. ( هود : ٣٨، ٣٩ ).
ومن لوازم مدلول الآية، ما يأتي :
إذا كان العذاب قد نزل بالمستهزئين بالرسل فيما سبق ؛ فلن يعدو أن يكون أمر هؤلاء الكفار كأمر أسلافهم، من الأمم المكذبة لرسلها، فينزل بهم من عذاب الله وسخطه مثل ما نزل بمن قبلهم.
﴿ قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِم مُّعْرِضُونَ ( ٤٢ ) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلاَ هُم مِّنَّا يُصْحَبُونَ ( ٤٣ ) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاَء وَآبَاءهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ ( ٤٤ ) قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلاَ يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاء إِذَا مَا يُنذَرُونَ ( ٤٥ ) وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ( ٤٦ ) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ( ٤٧ ) ﴾.
تمهيد :
تنتقل الآيات من التقرير بأن الله سبحانه هو الحافظ للناس بالليل والنهار، إلى الاستفهام عن الآلهة المدعاة وهل تستطيع أن تمنعهم من عذاب الله، إلى الإخبار بأن النعم قد كثرت عليهم فلم يتنبهوا إلى قدرة الله وعظمته.
وتبين : أن وظيفة النبي هي الإنذار، وأن العذاب إذا نزل بالكفار فسيعضعون بنان الندم ؛ وأن القيامة فيها الحساب والميزان العادل، فالله أعدل الحاسبين.
التفسير :
٤٢ - قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِم مُّعْرِضُونَ.
يكلؤكم : يحرسكم ويحفظكم، والفعل الماضي كلأ : حفظ.
من الرحمان : من بأسه وعقابه الذي تستحقونه. وفي لفظ ( الرحمان ) تنبيه على أن لا كالئ غير رحمته العامة.
ذكر ربهم : القرآن الكريم.
معرضون : لا يتفكرون فيه.
قل لهم يا محمد : من الذي يحفظكم بالليل في نومكم وبالنهار في عملكم من بطش الرحمان بكم ؛ جزاء إعراضكم عن هدايته، وتكذيبكم رسوله، وفي تعبير الرحمن إشارة إلى أن تأخير العذاب عنهم، واستمرار حفظ الله لهم، إنما هو بمقتضى رحمته العامة، وفضله الواسع ؛ كي يعود الإنسان إلى ربه من تلقاء نفسه.
بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِم مُّعْرِضُونَ.
أي : بل إن هؤلاء المشركين مع وجود الأدلة العقلية على وجود الله، ووجود الحجج والبراهين على صدق رسوله التي قدمها لهم القرآن الكريم، فإنهم معرضون عن هذا القرآن، لا يسمعونه سماع تدبر أو تأمل.
تمهيد :
تنتقل الآيات من التقرير بأن الله سبحانه هو الحافظ للناس بالليل والنهار، إلى الاستفهام عن الآلهة المدعاة وهل تستطيع أن تمنعهم من عذاب الله، إلى الإخبار بأن النعم قد كثرت عليهم فلم يتنبهوا إلى قدرة الله وعظمته.
وتبين : أن وظيفة النبي هي الإنذار، وأن العذاب إذا نزل بالكفار فسيعضعون بنان الندم ؛ وأن القيامة فيها الحساب والميزان العادل، فالله أعدل الحاسبين.
٤٣ - أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلاَ هُم مِّنَّا يُصْحَبُونَ.
من دوننا : من عذابنا.
يصحبون : يجارون من عذابنا، يقال : صحبك الله، أي : حفظك.
هذه الآية استفهام إنكاري، مكمل للآية السابقة، على سبيل السخرية من هؤلاء المشركين، الذين يعبدون أصناما لا تنفع ولا تضر، ولا تدفع الضر عن نفسها، ولا ترد عذاب الله إن جاء لمن عبدها.
ومعنى الآية الكريمة :
سلهم يا محمد – مرة أخرى – ألهؤلاء الجاحدين آلهة أخرى تستطيع أن تحرسهم وترعاهم سوانا ؟
كلا ليس لهم آلهة تمنعهم من عذابنا ؛ إن أردنا إنزاله بهم.
فالأصنام التي يعبدونها لا يستطيعون نصر أنفسهم ؛ فضلا عن نصر غيرهم.
ولا هم من يصحبون. يجارون ويمنعون من نزول الضر بهم.
تقول العرب : أنا لك جار وصاحب من فلان ؛ بمعنى : أجيرك وأمنعك منه.
تمهيد :
تنتقل الآيات من التقرير بأن الله سبحانه هو الحافظ للناس بالليل والنهار، إلى الاستفهام عن الآلهة المدعاة وهل تستطيع أن تمنعهم من عذاب الله، إلى الإخبار بأن النعم قد كثرت عليهم فلم يتنبهوا إلى قدرة الله وعظمته.
وتبين : أن وظيفة النبي هي الإنذار، وأن العذاب إذا نزل بالكفار فسيعضعون بنان الندم ؛ وأن القيامة فيها الحساب والميزان العادل، فالله أعدل الحاسبين.
٤٤ - بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاَء وَآبَاءهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ.
ننقصها من أطرافها : يستولي المسلمون على أطراف مكة، ويقيمون معاهدات مع القبائل التي حولها.
إن الذي غر هؤلاء وآباءهم، وحملهم على ما هم فيه من الضلال : أن الله تعالى من عليهم بالنعمة والمال والرخاء، واستمروا طويلا يتمتعون بهذه النعم، حتى طالت أعمارهم وهم في رخاء ونعمة، فحملهم ذلك على الطغيان والبطر وظنوا أن هذه النعم لا تزول أبدا، ولا يحرمون منها مطلقا.
أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا.
والأطراف هم الأشراف، أي : أن الله أهلك قبلهم فرعون وهامان، وعادا وثمودا ؛ وقرونا قبل ذلك كثيرا كانوا يتمتعون بالنعم ويكذبون الرسل فحق عليهم وعد الله، وطواهم الزمان وأصبحوا أثرا بعد عين.
وذهب بعض المفسرين إلى أن المراد بالأرض : أرض مكة.
وكان المسلمون قد حصنوا المدينة وما حولها، وكانوا يرسلون السرايا والغزوات لعقد محالفات مع القبائل، وفي كل عام من أعوام إقامته صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة ؛ يتقدم المسلمون خطوات، وينكمش كفار مكة خطوات ؛ فقال القرآن : أفلا يشاهد هؤلاء المشركون، أن المسلمين يتقدمون وينتصرون ويغلبون ؛ وأن الكفار ينهزمون وتنتقص أطرافهم حول مكة لحساب المسلمين.
أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ.
وهذا استفهام إنكاري مؤداه، أنكم في هزيمة مستمرة أمام الزحف الإسلامي، بسبب كفركم وإيمانهم فتدبروا ؛ لأن الغلبة للمؤمنين، كما قال تعالى : وإن جندنا لهم الغالبون. ( الصافات : ١٧٣ ).
ويمكن أن يكون في الآية إشارة إلى اتساع دائرة الأرض عند خط الاستواء، ونقصان دائرتها عند القطبين، فالأرض دائرة كروية لكنها منبعجة عند خط الاستواء، مفرطحة عند القطبين، وهذا دليل قدرة الله وعظمته، وأن حركة الكون تحت سلطانه وقدرته وغلبته.
وقد ثبت علميا الإعجاز العلمي في هذه الآية، وأن محيط الكرة الأرضية عند خط الاستواء أطول منه عند القطبين.
وقد نزلت هذه الآية على نبي أمي، وأظهرت الأيام إعجاز هذا القرآن.
وصدق الله العظيم : سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق... ( فصلت : ٥٣ ).
تمهيد :
تنتقل الآيات من التقرير بأن الله سبحانه هو الحافظ للناس بالليل والنهار، إلى الاستفهام عن الآلهة المدعاة وهل تستطيع أن تمنعهم من عذاب الله، إلى الإخبار بأن النعم قد كثرت عليهم فلم يتنبهوا إلى قدرة الله وعظمته.
وتبين : أن وظيفة النبي هي الإنذار، وأن العذاب إذا نزل بالكفار فسيعضعون بنان الندم ؛ وأن القيامة فيها الحساب والميزان العادل، فالله أعدل الحاسبين.
٤٥ - قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلاَ يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاء إِذَا مَا يُنذَرُونَ.
أنذركم بالوحي : من الله، لا من قبل نفسي.
الصم : التاركون للعمل بما سمعوه، فكأنهم صم.
لقد أثبتت الآية السابقة أن يد القدرة الإلهية تقبض وتبسط، وتعطي وتمنع، وأنها قادرة أن تطوي الأرض من تحتهم، فإذا هم هالكون مغلوبون.
وفي الآية التي معنا يقول القرآن ما معناه :
أخبرهم يا محمد : أنك رسول الله تنذرهم بالوحي، المنزل من عند الله، وليس عليك إلا البلاغ ؛ ولا تملك لهم الهداية، فإذا أصموا أسماعهم فلا أمل في هدايتهم، ولا نفع في إنذارهم، فكما أن الأصم لا يسمع النداء، ولا يجيب الدعاء. فكذلك الكافرون لما أصموا أسماعهم، وأغلقوا قلوبهم، فلم يسمعوا القرآن سماع تأمل، ولم يتدبروا آياته ؛ أشبهوا المريض بالصمم، فلا فائدة من توجيه النداء إليه.
تمهيد :
تنتقل الآيات من التقرير بأن الله سبحانه هو الحافظ للناس بالليل والنهار، إلى الاستفهام عن الآلهة المدعاة وهل تستطيع أن تمنعهم من عذاب الله، إلى الإخبار بأن النعم قد كثرت عليهم فلم يتنبهوا إلى قدرة الله وعظمته.
وتبين : أن وظيفة النبي هي الإنذار، وأن العذاب إذا نزل بالكفار فسيعضعون بنان الندم ؛ وأن القيامة فيها الحساب والميزان العادل، فالله أعدل الحاسبين.
٤٦ - وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ.
نفحة : نصيب قليل أو أدنى شيء، وأصل النفح : هبوب رائحة الشيء.
يا ويلنا : يا هلاكنا، و( يا ) للتنبيه.
إنا كنا ظالمين : بالإشراك وتكذيب محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ولئن أصابتهم لمسة قليلة من العذاب يوم القيامة، ليصيبهم الهلع والجزع والندم ؛ ويصيحون قائلين : يا ويلنا، ويا هلاكنا إنا كنا ظالمين في الدنيا حين كفرنا بالرسل وأنكرنا وحي السماء إليهم.
والمس : اللمس الخفيف، والنفحة : تقال في الخير، وهي اسم مرة، وذكرت في جانب الشر ؛ للدلالة على القلة ؛ أي : إذا أصابهم عذاب خفيف في الدنيا، أو في الآخرة ؛ ليظهرن الندم والتفجع حيث لا ينفع الندم، فخير لهم أن يؤمنوا الآن، وهم في السعة قبل أن يندموا ولات ساعة مندم.
تمهيد :
تنتقل الآيات من التقرير بأن الله سبحانه هو الحافظ للناس بالليل والنهار، إلى الاستفهام عن الآلهة المدعاة وهل تستطيع أن تمنعهم من عذاب الله، إلى الإخبار بأن النعم قد كثرت عليهم فلم يتنبهوا إلى قدرة الله وعظمته.
وتبين : أن وظيفة النبي هي الإنذار، وأن العذاب إذا نزل بالكفار فسيعضعون بنان الندم ؛ وأن القيامة فيها الحساب والميزان العادل، فالله أعدل الحاسبين.
٤٧ - وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ.
ونضع الموازين القسط : ذوات العدل، توزن بها صحائف الأعمال.
ليوم القيامة : لجزاء يوم القيامة.
فلا تظلم نفس شيئا : من نقص حسنة أو زيادة سيئة.
حبة الخردل : مثل في الصغر.
أتينا بها : أحضرنا، وأتينا بموزونها.
حاسبين : محصين كل شيء، إذ لا مزيد على علمنا وعدلنا.
أي : ونضع الموازين العادلة للحساب يوم القيامة فتوزن الحسنات والسيئات ؛ فمن رجحت حسناته ؛ فهو من الناجين، ومن رجحت سيئاته ؛ فهو من الخاسرين.
وذهب بعض المفسرين : إلى الإيمان بالميزان، وهو جهاز دقيق توزن عليه الحسنات والسيئات.
وقال آخرون : هذا تصوير لدقة الجزاء والحساب ؛ فليس هناك جسم يسمى : الميزان، بل المقصود : بيان : العدل المطلق في الحساب يوم القيامة ؛ لأنه بيد أعدل الحاسبين.
وأكثر المفسرين على الإيمان بالميزان، وأنه جسم توزن به الأعمال يوم القيامة، وهو جسم حقيقي حسي، كما ذهب إلى ذلك ابن كثير في تفسيره.
وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا.
حبة الخردل : مثل في الصغر ؛ أي : إن كان العمل الذي عمله الإنسان صغيرا مقدار حبة الخردل ؛ جازينا عليه جزاء وفاقا سيئا كان أم حسنا.
قال تعالى : فمن يعمل مثال ذرة خيرا يره* ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره. الزلزلة : ٧، ٨ ).
وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ.
تصور هذه الجملة إحاطة علم الله بكل شيء فهو مطلع على الكبير والصغير ويجازي على الفتيل والقطمير، كما تصور الآية سرعة الحساب، فالله عالم بكل شيء وهو سبحانه سريع الحساب لا يشغله شيء عن شيء، فأعظم به عالما محاسبا عادلا حكيما !
قال تعالى : إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. ( آل عمران : ٥ ).
وإذا كان المحاسب عالما دقيقا عادلا ؛ فمن الواجب على الجميع أن يخلصوا أعمالهم، وأن يتقنوا العمل وأن يضاعفوا أعمالهم الطيبة ؛ لأن الجزاء من جنس العمل.
قال تعالى : إن الله لا يظم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما. ( النساء : ٤٠ ).
وقال سبحانه وتعالى : يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ. ( لقمان : ١٦ ).
من تفسير ابن كثير :
أورد ابن كثير في تفسيره : طائفة من الأحاديث النبوية الشريفة، من بينها حديث البطاقة، وهو يفيد ؛ ( أن الله تعالى يعرض على رجل أعماله في سجلات السيئات كل سجل مد البصر ؛ فيعترف العبد بذنوبه حتى إذا يئس العبد ؛ قال له الله تعالى : إن لك عندنا حسنة واحدة، لا ظلم عليك اليوم، فيخرج له بطاقة فيها :
أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، فتوضع في كفة وسجلات السيئات في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة، ولا يثقل مع اسم الله شيء )١٨.
وفي الصحيحين : عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم )١٩. وقد ختم البخاري. صحيحه بها الحديث الشريف.
﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاء وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ ( ٤٨ ) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ ( ٤٩ ) وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ( ٥٠ ) ﴾.
تمهيد :
تحكي الآيات السابقة جانبا من جهاد الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع قومه، فهو ينذرهم بالوحي. وتبين الآيات التالية : أن هذه سنة الله في أنبيائه، فكلهم قد آتاهم الله الوحي، وبلغهم الله من الشرائع والأحكام ما فيه هداية البشر وسعادة لهم في دنياهم وآخرتهم، وقد بدأ هنا بموسى في إشارة موجزة ؛ وسيأتي جهاد إبراهيم في جانب بارز من قصته، ويأتي بعد إبراهيم إشارات إلى أنبياء الله : لوط، ونوح، وداود، وسليمان، وأيوب، وإسماعيل، وإدريس، وذي الكفل، وذي النون، وزكريا. ويعقب القرآن على ذكر هؤلاء الرسل، بما يؤكد الوحدة الإيمانية بين المؤمنين جميعا، فإلههم، واحد والوحي الإلهي واحد، والأسس العامة للشرائع واحدة، وهي : الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والدعوة إلى عمل الصالحات، وترك المنكرات قال تعالى : إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ. ( الأنبياء : ٩٢ ).
التفسير :
٤٨ - وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاء وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ.
الفرقان : التوراة، وهي الضياء والموعظة، وسميت : فرقانا ؛ لأنها تفرق بين الحق والباطل وكانت ضياء ؛ لأنها تنير طريق الهدى للمتقين.
في سورة الأنبياء ذكر لطائفة كثيرة من الأنبياء ؛ وكأن السورة ترد على المشركين الذين استكثروا على محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يكون بشرا ؛ فتقول لهم : إن محمدا ليس بدعا من الرسل، فقد أعطينا الرسالة لعدد من الرسل السابقين كانوا جميعا من البشر.
ومعنى الآية :
ولقد أعطينا موسى وهارون التوراة، وهي فرقان يفرق بين الحق والباطل، والكفر والإيمان، والتوراة ضياء ينير طريق الهدى، وفي التوراة تذكير يستفيد به المتقون.
تمهيد :
تحكي الآيات السابقة جانبا من جهاد الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع قومه، فهو ينذرهم بالوحي. وتبين الآيات التالية : أن هذه سنة الله في أنبيائه، فكلهم قد آتاهم الله الوحي، وبلغهم الله من الشرائع والأحكام ما فيه هداية البشر وسعادة لهم في دنياهم وآخرتهم، وقد بدأ هنا بموسى في إشارة موجزة ؛ وسيأتي جهاد إبراهيم في جانب بارز من قصته، ويأتي بعد إبراهيم إشارات إلى أنبياء الله : لوط، ونوح، وداود، وسليمان، وأيوب، وإسماعيل، وإدريس، وذي الكفل، وذي النون، وزكريا. ويعقب القرآن على ذكر هؤلاء الرسل، بما يؤكد الوحدة الإيمانية بين المؤمنين جميعا، فإلههم، واحد والوحي الإلهي واحد، والأسس العامة للشرائع واحدة، وهي : الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والدعوة إلى عمل الصالحات، وترك المنكرات قال تعالى : إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ. ( الأنبياء : ٩٢ ).
٤٩ - الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ.
يخشون ربهم : يخافون عذابه.
مشفقون : خائفون.
تلك صفات المتقين، فهم على صلة حسنة بالله ؛ يخافون عقابه، ويحذرون معصيته ويخشون غضبه.
يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ مع كونه غير مرئي لهم ؛ لا تشاهده عيونهم، ولكن تؤمن بوجوده قلوبهم.
وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ.
هم وجلون حذرون من القيامة، وما يقع فيها من حساب وجزاء، وليسوا كالكافرين مكذبين بها جاحدين لها، يستعجلون حدوثها.
تمهيد :
تحكي الآيات السابقة جانبا من جهاد الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع قومه، فهو ينذرهم بالوحي. وتبين الآيات التالية : أن هذه سنة الله في أنبيائه، فكلهم قد آتاهم الله الوحي، وبلغهم الله من الشرائع والأحكام ما فيه هداية البشر وسعادة لهم في دنياهم وآخرتهم، وقد بدأ هنا بموسى في إشارة موجزة ؛ وسيأتي جهاد إبراهيم في جانب بارز من قصته، ويأتي بعد إبراهيم إشارات إلى أنبياء الله : لوط، ونوح، وداود، وسليمان، وأيوب، وإسماعيل، وإدريس، وذي الكفل، وذي النون، وزكريا. ويعقب القرآن على ذكر هؤلاء الرسل، بما يؤكد الوحدة الإيمانية بين المؤمنين جميعا، فإلههم، واحد والوحي الإلهي واحد، والأسس العامة للشرائع واحدة، وهي : الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والدعوة إلى عمل الصالحات، وترك المنكرات قال تعالى : إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ. ( الأنبياء : ٩٢ ).
٥٠ - وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ.
مبارك : كثير الخير، غزير النفع.
وهذا القرآن الذي أنزلناه على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ذكر لمن تذكربه، وشرف لمن آمن به، وموعظة لمن اتعظ به، وهو مبارك كثير النفع والخيرات ؛ لمن اتبع أوامره وانتهى بنواهيه.
أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ.
أي : ماذا تنكرون من القرآن ؛ وقد سبقته الرسالات ونزلت الكتب قبله، وكان العرب يسألون اليهود عن محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورسالته ؟ فكأن القرآن يقول لهم : إن رسلا سابقين عليه تعرفونهم، ومنهم : موسى وهارون، وقد نزلت عليهما التوراة، مشتملة على أصول التشريع والهدى والضياء والتوحيد والرسالات كلها من عند رب واحد، فكيف تصدقون بالتوراة، وتنكرون القرآن ؟ مع أن القرآن مشتمل على أرقى أساليب البيان، والإعجاز العلمي والبياني والغيبي، ولا يمكن لبشر أن يأتي بمثله.
وخلاصة ذلك : إذا علمتم أن شأن القرآن كشأن التوراة، فكيف تنكرون أن يكون القرآن من عند الله ؟ !
حجاج إبراهيم لأبيه وقومه ودعوتهم إلى التوحيد
﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ ( ٥١ ) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ( ٥٢ ) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ ( ٥٣ ) قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( ٥٤ ) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللاعبين ( ٥٥ ) قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ ( ٥٦ ) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ( ٥٧ ) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ( ٥٨ ) قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ ( ٥٩ ) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ( ٦٠ ) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ ( ٦١ ) قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ ( ٦٢ ) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ ( ٦٣ ) فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ ( ٦٤ ) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ ( ٦٥ ) ﴾.
التفسير :
٥١ - وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ.
الرشد : الاهتداء إلى وجوه الصلاح في الدين والدنيا، والاسترشاد بالنواميس الإلهية.
أي : ولقد آتينا إبراهيم ما فيه صلاحه وهداه، من قبل موسى وهارون، ووفقناه للحق وأضأنا له سبيل الرشاد، وأنقذناه من عبادة الأصنام.
وكنا به عالمين.
وكنا عارفين أنه على يقين بالله، جامع لأحسن الفضائل، ومكارم الأخلاق، وجميل الصفات.
وقال الفراء : أعطيناه هداه ورشده من قبل النبوة والبلوغ، أي : وفقناه للنظر والاستدلال على وحدانية الله ؛ لما جن عليه الليل فرأى النجم والقمر ثم رأى الشمس، وعلى هذا جرى كثير من المفسرين.
ويجوز أن تتسع الآية لتشمل المعنيين ؛ فإبراهيم أبو الأنبياء وقد وجد في الزمن قبل موسى وهارون ؛ وقد آتاه الله الرشد والتوفيق، وحسن التأني للأمور قبل الرسالة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
٥٢ - إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ.
التماثيل : جمع تمثال ؛ وهو الصورة المصنوعة على شبه مخلوق من صنع الله ؛ كطير أو شجر أو إنسان، والمراد بها هنا : الأصنام ؛ سماها بذلك ؛ تحقيرا لشأنها.
العكوف : الملازمة والإقبال.
لقد كان إبراهيم راشدا جادا موفقا ؛ حين سأل قومه عن الأصنام التي يعبدونها، ويعكفون على عبادتها، معتقدين في أنها تنفع أو تضر ؛ مع أنها حجارة صماء، لا تسمع ولا تجيب، ولا تملك النفع لذاتها فضلا عن غيرها.
وخلاصة معنى الآية :
ما هذه الأصنام التي عكفتم على عبادتها، وملازمتها والتعلق بها، والوثوق فيها ؟
٥٣ - قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ.
لم يجدوا شيئا يدافعون به عن عبادتهم للأصنام، سوى تقليد الآباء والأجداد، في عبادتهم لها.
والمعنى : وجدنا آباءنا يعبدون هذه الأصنام، فعبدناها تبعا لهم.
٥٤ - قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ.
أراد أن يستحثهم إلى استخدام عقولهم، والتفكير السليم في خالق هذا الكون، الذي سخر الشمس والقمر، ورفع السماء وبسط الأرض، إن هذا الإله هو الذي يستحق أن يعبد، أما عبادة الأصنام – وهي حجارة صماء، لا تنفع ولا تسمع ولا تجيب – فهو ضلال واضح ظاهر.
٥٥ - قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللاعِبِينَ.
بالحق : بالشيء الثابت في الواقع.
اللاعبين : الهازلين.
لقد فوجئوا بمن يسخر منهم ومن آلهتهم، ويخبرهم أنهم في ضلال واضح ؛ حين يعبدون حجارة من دون الله.
والمعنى : أهذا القول الذي تخبرنا به حق جاد، أم أنت هازل مازح في قولك ؛ وهذا يدل على أنهم كانوا في شك من شأن آلهتهم ؛ فمن استخدم عقله وفكر ؛ وجد أن الحجر الأصم لا يمكن أن يكون إلها.
ويجوز أن يكون قولهم هذا، من شدة التصاقهم بالأصنام وتعلقهم بها، فاستكثروا هذا القول عليها، واستبعدوا أن يكون آباؤهم على باطل، فقالوا لإبراهيم : هذا الذي جئتنا به، أهو جد وحق، أم لعب وهزل ؟
وقد أيد الرأي الثاني الإمام الزمخشري في تفسير الكشاف.
٥٦ - قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ.
فطرهن : أنشأهن.
من الشاهدين : المتحققين صحته، المثبتة بالبرهان.
إن كل ما في الكون لينطق بوحدة الخالق المدبر، ووحدة الناموس، ووحدة الإله.
ومعنى الآية : قال إبراهيم : لست مازحا ولا لاعبا، بل أنا جاد كل الجد وربكم الحق هو الذي خلق السماوات والأرض، على غير مثال سابق، وأنا شاهد على ذلك ومعي من الحجج والأدلة ما يؤيدني.
فمن تأمل في هذا الكون وهو بهذا النظام والإبداع ؛ سيهتدي إلى أن خالقه ومبدعه، إله واحد عليم قدير ؛ وهو الله رب العالمين.
٥٧ - وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ.
الكيد : الاحتيال في إيجاد ما يضر مع إظهار خلافه، والمراد : المبالغة في إلحاق الأذى بها.
أي : أقسم بالله، الإله الحق لأدبرن كيدا لتحطيم أصنامكم، بعد أن تذهبوا عنها إلى عيدكم ؛ وكان لهم عيد يخرجون إليه كل سنة، ثم يعودون فيسجدون للأصنام.
فقال آزر لإبراهيم : لو خرجت معنا إلى عيدنا ؛ أعجبك ديننا ! ! فخرج معهم إبراهيم فلما كان ببعض الطريق، ألقى نفسه إلى الأرض وقال : إني سقيم، فتركوه ومضوا.
٥٨ - فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ.
جذاذا : قطعا، من الجذ، وهو القطع.
أي : كسر الأصنام ؛ حتى جعلها فتاتا وحطاما وكانوا سبعين صنما.
إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ.
لم يكسر الصنم الأكبر بل تركه بدون تكسير، وعلق الفأس في رقبته، لعل القوم يرجعون إليه. ويسألونه عمن كسر الأصنام ؟ فيتبين لهم مدى عجز الصنم عن الإجابة عليهم.
٥٩ - قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ.
لما عاد القوم من عيدهم وجدوا الأصنام قد كسرت ؛ وتقطعت قطعا قطعا ؛ فآلمهم ذلك ؛ ولم يحرك تكسير الأصنام تفكيرهم ؛ فإن الإله ينبغي أن يحمي نفسه وأن يدافع عنها ؛ لكنهم لم يستخدموا عقولهم في هذه الناحية، بل قالوا : من كسر آلهتنا إنه ظالم معتد.
٦٠ - قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ.
يذكرهم : يعيبهم ويسبهم.
تفيد الآية : صغر سن إبراهيم، وتؤيد أن إبراهيم قد أعطاه الله الرشد والحكمة قبل النبوة، وهذه الآية تؤيد رأي من ذهب إلى أن الله أعطاه الرشد والحكمة قبل النبوة.
ومعنى الآية : قال فريق من القوم : سمعنا فتى حدثا، يذكر الأصنام بسوء، ويقسم على الكيد لها، وينعى على من يعبدها.
٦١ - قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ.
على أعين الناس : على رءوس الأشهاد في الملأ.
يشهدون : بفعله أو قوله، أو ليشاهدوا العقاب الرادع له.
رغب القوم في التشهير وإظهار سوء فعله أمام الملأ، ومضمون الآية : أحضروا إبراهيم أمام جمع حاشد من الناس ؛ ليكونوا شهودا على سوء فعله، وحتى يشهر بإبراهيم على رءوس الأشهاد.
٦٢ - قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ.
فهم ما زالوا يصرون على أنها آلهة، وهي جذاذ مهشمة.
والمعنى : هل أنت الذي كسرت الأصنام، وجعلتها جذاذا ؟ والسؤال أشبه باستجواب ومحاكمة ؛ فإذا اعترف فقد استحق عقوبة صارمة، تكون عظة وعبرة، لكل من يجرؤ على مثل هذا الفعل.
٦٣ - قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ.
رغب إبراهيم في تحريك عقولهم لعلهم يتعظون ويتدبرون ؛ فقال لهم ساخرا من عبادتهم للأصنام : إن الذي كسر الأصنام هو الصنم الأكبر، ربما لأنكم تركتم عبادته، وعبدتم الأصنام الصغيرة، وأمامكم فرصة للتأكد ممن كسر الأصنام.
فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ.
أي : اسألوا الأصنام : من كسرها ؟ واسألوا الصنم الأكبر وقولوا له : نحن نراك سالما من التكسير، والفأس في رقبتك، ونرى الأصنام الأخرى مكسرة، فمن الذي كسرها ؟ !
قال القرطبي :
والكلام خرج مخرج التعريض وذلك أنهم كانوا يعبدونهم، ويتخذونهم آلهة من دون الله ؛ كما قال إبراهيم لأبيه : لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا. ( مريم : ٤٢ ).
فقال إبراهيم : بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا... ؛ ليقولوا : إنهم لا ينطقون، فيقول لهم : فلم تعبدونهم ؟ ! فتقوم عليهم الحجة منهم.
كما يجوز فرض الباطل مع الخصم حتى يرجع إلى الحق من نفسه، فإنه أقرب في الحجة وأقطع للشبهة٢٠.
٦٤ - فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ.
فرجعوا إلى أنفسهم : ففكروا وتدبروا.
الظالمون : الظالمون لأنفسهم بعبادة ما لا يستطيع الدفاع عن نفسه.
كانت ومضة تحركت فيها مشاعرهم، واستفاقت ضمائرهم، كيف يعبدون أصناما لا تنطق ولا تنفع ولا تضر ولا تملك الدفاع عن نفسها، فضلا عن غيرها ؟
٦٥ - ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ.
نكسوا على رءوسهم : يقال : نكسته، أي : قلبته فجعلت أعلاه أسفله، والمراد : أنهم انقلبوا من الاعتراف بالحق إلى المكابرة والجدال بالباطل.
لقد قاوموا ضمائرهم، وركبوا رءوسهم بلا عقل، ولا تفكير، وانقلبوا من الإذعان إلى المكابرة والطغيان، فما أجمل تعبير القرآن بقوله : ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِم. وهو تعبير مصور ؛ يصور سلوك إنسان استبان له الهدى والنور ؛ فسار على قدميه وفكر بعقله ؛ واهتدى بفطرته لحظة ؛ ثم قاوم الهدى، ورفض التفكير العقلي، ورفض الهداية والنور، وسار على رأسه وعقله منتكسا.
ثم قالوا لإبراهيم : ْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ.
إن الأصنام لا تنطق، ولا تسمع ولا تعقل، فاكتفوا بكلمة واحدة منها ؛ لأنها تدل عليها، فليس لدى الأصنام نطق ولا عقل ولا تفكير.
والانتكاس : أن يسير الإنسان على رأسه بدلا من أن يسير على قدميه، وقد صور القرآن هذا المعنى في سورة تبارك الملك حيث قال تعالى : أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم. ( الملك : ٢٢ ).
ومعناها : أتنعكس الحال، فمن يمشي متعثرا ساقطا على وجهه أهدى في سيره، أم من يمشي مستوي القامة على طريق لا اعوجاج فيه ؟
﴿ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ ( ٦٦ ) أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ( ٦٧ ) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ ( ٦٨ ) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ( ٦٩ ) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ ( ٧٠ ) ﴾.
تمهيد :
وبخ إبراهيم قومه على عبادة أصنام لا تنفع ولا تضر ؛ وقد ظهر عجزهم، فانقلبوا إلى العناد، واستعمال القوة الحسية ؛ فأضرموا نارا عظيمة جدا، وألقوا إبراهيم في النار بواسطة المنجنيق، فجعل الله النار بردا وسلاما عليه.
التفسير :
٦٦ - قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ.
أي : قال إبراهيم لقومه : كيف تعبدون – من دون الله – أصناما لا تسمع ولا تجيب ولا تنفع ولا تضر ولا تملك لنفسها ولا لغيرها شيئا من ذلك.
تمهيد :
وبخ إبراهيم قومه على عبادة أصنام لا تنفع ولا تضر ؛ وقد ظهر عجزهم، فانقلبوا إلى العناد، واستعمال القوة الحسية ؛ فأضرموا نارا عظيمة جدا، وألقوا إبراهيم في النار بواسطة المنجنيق، فجعل الله النار بردا وسلاما عليه.
٦٧ - أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ.
أف : كلمة تدل على أن قائلها متضجر متألم من أمر.
أي : تبا لكم، وقبحا لمعبوداتكم، التي تعبدونها وتتذللون لها، وتلتصقون بها، وهي صماء بكماء.
أفلا تعقلون.
أفلا تستخدمون عقولكم وتفكيركم، وتتجهون بعبادتكم إلى الإله الحق الواحد الأحد، الذي بيده الخلق والأمر وهو على كل شيء قدير ؟ ! فأقام عليهم الحجة وأوضح لهم أنهم في ضلال وكفر غليظ لا يروج إلا على جاهل ظالم فاجر، قال تعالى : وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ. ( الأنعام : ٨٣ ).
تمهيد :
وبخ إبراهيم قومه على عبادة أصنام لا تنفع ولا تضر ؛ وقد ظهر عجزهم، فانقلبوا إلى العناد، واستعمال القوة الحسية ؛ فأضرموا نارا عظيمة جدا، وألقوا إبراهيم في النار بواسطة المنجنيق، فجعل الله النار بردا وسلاما عليه.
٦٨ - قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ.
عندما غلبهم إبراهيم بالمنطق والحجة، وبين لهم : سفههم وعاب عبادتهم للأصنام، وانهزموا أمام حجته وقدرته في الحق ؛ لجئوا إلى القوة الغاشمة فأمر نمروذ ملك العراق، أن يجمع حطب كبير في حظيرة كبيرة واستمر جمع الحطب مدة طويلة، رغبة في النكاية والكيد به.
والمعنى : ألقوه في نار متأججة لتحرقه، وانصروا الآلهة التي حطمها وكسرها.
إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ.
أي : إن كنتم بحق تريدون أن تنصروا آلهتكم نصرا يرضيها فاحرقوه بالنار.
قال الزمخشري في تفسير الكشاف :
أجمعوا رأيهم – لما غلبوا – بإهلاكه ؛ وهكذا المبطل إذا قرعت شبهته بالحجة وافتضح، لم يكن أحد أبغض إليه من المحق، ولم يبق له مفزع إلا مناصبته العداء، كما فعلت قريش برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين عجزوا عن المعارضة، والذي أشار بإحراقه هو نمروذ.
واختاروا المعاقبة بالنار ؛ لأنها أهول ما يعاقب به وأفظعه، ولذلك جاء :( لا يعذب بالنار إلا خالقها ). ١ه.
تمهيد :
وبخ إبراهيم قومه على عبادة أصنام لا تنفع ولا تضر ؛ وقد ظهر عجزهم، فانقلبوا إلى العناد، واستعمال القوة الحسية ؛ فأضرموا نارا عظيمة جدا، وألقوا إبراهيم في النار بواسطة المنجنيق، فجعل الله النار بردا وسلاما عليه.
٦٩ - قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ.
أي : إن الكافرين أضرموا النار، واستخدموا المنجنيق، ليوضع إبراهيم في وسط النار ؛ حتى تحرقه إحراقا شديدا ؛ فأمر الله سبحانه وتعالى النار ؛ أن تكون بردا وسلاما على إبراهيم.
إن القدرة بيد الله والأمر بيده، وهو سبحانه على كل شيء قدير قال تعالى : بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون. البقرة : ١١٧ ).
إن يد القدرة الإلهية إذا أرادت أمرا كان، فهو سبحانه خالق النار، والنار تحرق الأجساد، لكن الله سبحانه أراد أن يحفظ خليله، الذي حطم الأصنام، متجردا لله. روى : أن إبراهيم عندما أخذ وأوثق بالحبال ؛ قال : حسبي الله ونعم الوكيل.
كما رواه البخاري، عن ابن عباس أنه قال : حسبي الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد عليه السلام حين قالوا : إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. ٢١ ( آل عمران : ١٧٣ ).
إن فضل الله يظهر في كثير من حياة الأفراد، والأمم والجماعات ؛ فكم من كربة فرجها، وكم من شدة صرفها، وكم من محنة تحولت إلى منحة ؛ لأن الله العلي القدير هو المحيط بكل شيء ؛ لا راد لقضائه، ولا معقب لأمره.
وفي كتب التفسير : أن جبريل تعرض للخليل إبراهيم ؛ فقال : يا إبراهيم، ألك حاجة ؟ قال إبراهيم : أما إليك فلا، قال جبريل : ألك حاجة إلى الله ؟ فقال إبراهيم :( علمه بحالي يغنيني عن سؤالي ) فقال الله تعالى : يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ.
فأحرقت النار الحبال التي أوثقوه بها، وكان إبراهيم في أسعد حال، وأهنأ بال، حيث نجاه الله من كيد الظالمين، ولو كانت النار بردا فقط ؛ لمات من البرد، لكنها كانت بردا وسلاما٢٢.
وفي الصباح تقدم النمروذ ؛ ليشاهد آثار النار من الحريق والهلاك، فوجد العناية والحفظ والسلامة على إبراهيم.
تمهيد :
وبخ إبراهيم قومه على عبادة أصنام لا تنفع ولا تضر ؛ وقد ظهر عجزهم، فانقلبوا إلى العناد، واستعمال القوة الحسية ؛ فأضرموا نارا عظيمة جدا، وألقوا إبراهيم في النار بواسطة المنجنيق، فجعل الله النار بردا وسلاما عليه.
وقد ورد : أن الله عاقب النمروذ عقوبة شديدة، وأهلكه هلاكا تاما قال تعالى :
٧٠ - وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ.
الكيد : المكر والخديعة.
وأراد الكافرون بإبراهيم كيدا أي : مكرا وهلاكا وإحراقا.
فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ.
فجعلناهم من ذوي الخسران والوبال، فسبحان الله القادر.
روى : أن نمروذ جاء ليشاهد إبراهيم في النار ؛ فانطلقت شرارة أصابت أصبعه، وتسببت في هلاكه، وفي هذا القصص من العبرة أن الجهاد لنصرة الحق والفضيلة، فيه الخير كل الخير، وأنه مهما صادف المرء فيه من آلام وأهوال ؛ فهي هينة لينة ؛ فلنجاهد إذا، مثل ما جاهد إبراهيم ؛ وإن بركة الله مع المجاهدين، ونصره ثابت للمؤمنين.
وفي هذا القصص : تخليد لجهاد المرسلين وإحياء ذكراهم وبيان : كفاحهم.
وفيه : رعاية الله للمؤمنين، فهذا الخليل مقيد بالأغلال، يلقى في أعظم نار أوقدت من أجله، ويتبتل إلى الله ويتضرع إليه، فتتدخل القدرة الإلهية، وتحفظه من النار بقدرة الله، ويخرج إبراهيم من النار سليما معافى، في أبهى حلة يتمتع بالمعجزة، ويؤيده الله، ويهلك أعداءه ؛ فسبحان الله رب العالمين !.
﴿ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ( ٧١ ) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ ( ٧٢ ) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ( ٧٣ ) وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ ( ٧٤ ) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ( ٧٥ ) ﴾.
تمهيد :
في أعقاب المنة على إبراهيم بالنجاة من النار، ذكر الله المنة على لوط ابن أخيه ؛ حيث نجاهما من أرض العراق إلى أرض الشام ؛ حيث البركة في الزروع والثمار، ووجود المسجد الأقصى.
وامتن الله على إبراهيم بإسحاق ويعقوب، وجعل إبراهيم وذريته ولوطا أئمة يقتدى بهم، في إنزال الوحي عليهم، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة.
التفسير :
٧١ - وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ.
لوط : هو ابن أخي إبراهيم.
الأرض : أرض الشام، وفيها بيت المقدس، وفيها الأشجار والأنهار والثمار.
أي : نجينا إبراهيم ولوطا من أرض العراق إلى أرض الشام، حيث الأنهار والأشجار، وميلاد الرسل والأنبياء ؛ فهي أرض الشرائع، وبها بيت المقدس، وبها بركات مادية ومعنوية.
وكانت هذه الهجرة فرارا من أرض الشرك والوثنية ؛ انتصارا لدين الله، قال تعالى : فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. ( العنكبوت : ٢٦ ).
تمهيد :
في أعقاب المنة على إبراهيم بالنجاة من النار، ذكر الله المنة على لوط ابن أخيه ؛ حيث نجاهما من أرض العراق إلى أرض الشام ؛ حيث البركة في الزروع والثمار، ووجود المسجد الأقصى.
وامتن الله على إبراهيم بإسحاق ويعقوب، وجعل إبراهيم وذريته ولوطا أئمة يقتدى بهم، في إنزال الوحي عليهم، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة.
٧٢ - وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ.
نافلة : عطية ومنحة.
أعطينا لإبراهيم إسحاق، ورزقنا إسحاق بيعقوب نافلة وزيادة.
وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ. أي : إبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب ؛ هؤلاء الأربعة جعلناهم أهل خير وصلاح، يطيعون ربهم ويتجنبون محارمه.
تمهيد :
في أعقاب المنة على إبراهيم بالنجاة من النار، ذكر الله المنة على لوط ابن أخيه ؛ حيث نجاهما من أرض العراق إلى أرض الشام ؛ حيث البركة في الزروع والثمار، ووجود المسجد الأقصى.
وامتن الله على إبراهيم بإسحاق ويعقوب، وجعل إبراهيم وذريته ولوطا أئمة يقتدى بهم، في إنزال الوحي عليهم، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة.
٧٣ - وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ.
أي : جعلنا إبراهيم ولوطا وإسحاق ويعقوب أئمة في الهدى والإصلاح ؛ يهدون الناس بأمر الله ورسالاته ؛ وقد أوحى الله إليهم : فعل الخيرات وعمل الصالحات، وعلى رأسها : إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وخصهما بالذكر ؛ لأنهما من أهم العبادات.
وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ.
أي : كانوا عابدين الله مطيعين له ؛ حيث صبروا على البأساء ؛ فعوضهم الله التقى والهدى، وخير الدنيا والآخرة.
تمهيد :
في أعقاب المنة على إبراهيم بالنجاة من النار، ذكر الله المنة على لوط ابن أخيه ؛ حيث نجاهما من أرض العراق إلى أرض الشام ؛ حيث البركة في الزروع والثمار، ووجود المسجد الأقصى.
وامتن الله على إبراهيم بإسحاق ويعقوب، وجعل إبراهيم وذريته ولوطا أئمة يقتدى بهم، في إنزال الوحي عليهم، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة.
٧٤ - وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ.
حكما : نبوة.
القرية : هي سدوم التي بعث إليها لوط.
الخبائث : الأعمال الخبيثة التي يستقذرها أرباب الفطر السليمة.
ذكر القرآن : قصة لوط في مواضع كثيرة ؛ للعظة والاعتبار، وللتحذير من تكرار هذه الفعلة الشنعاء.
فقد تخصص قوم لوط في أفعال منكرة منها : الشرك بالله، وقطع الطريق، وسلب المارة أموالهم، واللواط وهو أشنع عمل حيث كانوا يفعلونه جهارا في مجتمعهم، فهم يتعاونون على المنكر، ولا يتناهون عن منكر فعلوه ؛ فاستحقوا الهلاك ؛ حيث أمطرتهم السماء بالعذاب، وجعلت أعلى القرية أسفلها ؛ فأصابهم زلزال مدمر.
ومعنى الآية هنا :
لقد آتينا لوطا : الحكمة، والنبوة، والعلم ونجيناه من قرية سدوم، وكان لوط قد آمن بإبراهيم، وهاج معه من العراق إلى الشام، وأرسله الله إلى قرية سدوم وتوابعها، فدعاهم إلى التوحيد، وحذرهم من اللواط والعدوان، فلم يؤمنوا ولم يلتزموا وهددوا لوطا ومن آمن به بالطرد من القرية، وقالوا : أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ. ( النمل : ٥٦ ).
فأمر الله لوطا أن يسير بمن آمن معه ليلا، وألا يلتفت خلفه ؛ حتى لا تأخذه شفقة عليهم، فقد قضى الله أمره بهلاكهم ؛ حيث قال تعالى : إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ * فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ * مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ. ( هود : ٨١ – ٨٣ ).
والخلاصة :
اختار الله لوطا للرسالة، ونجاه من هذه القرية الفاسقة التي كانت تعمل الأعمال الخبيثة، وأشنعها اللواط.
إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ.
أي : كانوا أهل سوء وغدر ومنكر، خارجين عن طاعة الله تعالى.
تمهيد :
في أعقاب المنة على إبراهيم بالنجاة من النار، ذكر الله المنة على لوط ابن أخيه ؛ حيث نجاهما من أرض العراق إلى أرض الشام ؛ حيث البركة في الزروع والثمار، ووجود المسجد الأقصى.
وامتن الله على إبراهيم بإسحاق ويعقوب، وجعل إبراهيم وذريته ولوطا أئمة يقتدى بهم، في إنزال الوحي عليهم، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة.
٧٥ - وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ.
أدخلنا لوطا في رحمتنا، أي : في عنايتنا وحفظنا ورعايتنا ؛ لأنه من الصالحين الطائعين لربهم، والرجل الصالح قدر الله في الأرض ينفذ أمر الله ؛ فيعطيه الله رحمته وعنايته.
وقد حفظ الله لوطا والمؤمنين، ونجاهم من هذه القرية، التي كانت تعمل الخبائث، وينتشر فيها اللواط ؛ واستغناء الرجال بالرجال، والنساء بالنساء، وكانوا يأتون المنكر جهرة في نواديهم ومجتمعاتهم ؛ فأمر الله لوطا بالخروج من القرية ليلا، ومعه المؤمنون، ثم أهلك القرية ؛ عقوبة عادلة لهؤلاء الفاسقين.
واكتفى القرآن هنا بهذه الإشارة ؛ تخليدا لذكرى لوط، وتذكيرا بما يصيب مرتكب اللواط من الأمراض، لأنه خروج على الفطرة، وتدمير لما أودعه الله في الإنسان من تعاون الذكر والأنثى في الحياة والإنجاب، والمتعة المشتركة المتكاملة بين الطرفين.
﴿ وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ( ٧٦ ) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ( ٧٧ ) ﴾.
تمهيد :
هذه إشارة إلى قصة نوح عليه السلام وهو الأب الثاني للبشرية، على المشهور من أن جميع الباقين بعد الطوفان، من ذريته عليه السلام.
التفسير :
٧٦ - وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ.
الكرب : الغم الشديد، والمراد هنا : العذاب النازل بقومه وهو الغرق.
تقدمت قصة نوح بالتفصيل في سورة هود، وجاءت في سورة خاصة هي سورة نوح لكنها هنا إشارة موجزة، تركز على دعاء نوح لربه، واستجابة الله لدعائه، وهلاك المكذبين، ونجاة المؤمنين.
وقد أرسل الله نوحا إلى قومه، وقدم لقومه أدلة متعددة على دعوته، ولفت أنظارهم إلى هذا الكون، وما فيه من ليل ونهار وشمس وقمر، ونبات وأمطار، وحياة وعمران، لكنهم كذبوا وتواصوا بالكفر جيلا بعد جيل.
وقد جاءت الرسالة إلى نوح وعمره : أربعون عاما، ومكث مع قومه رسولا ألف سنة إلا خمسين عاما، يدعوهم ويقدم لهم الأدلة ويتفنن في دعوتهم إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، لكنهم كذبوا، وصموا آذانهم عن دعوته، فدعا عليهم بالهلاك ؛ فاستجاب الله دعاءه، وأهلكهم بالطوفان، وأمره الله أن يصنع السفينة ؛ وأن يحمل فيها من كل زوجين اثنين، ومن اتبعه من المؤمنين.
وما آمن معه إلا قليل. ( هود : ٤٠ ). قيل : كانوا ستة أو عشرين من أهل بيته، وأغرق الله الكافرين، ونجى المؤمنين وعاش نوح بعد الطوفان ستين عاما، أي : أنه عاش ألفا وخمسين عاما.
ومعنى الآية :
واذكر يا محمد لقومك : قصة نوح – عليه السلام – حين دعا ربه من قبل حيث قال : أنى مغلوب فانتصر. ( القمر : ١٠ ). وقال : رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا. ( نوح : ٢٦ ). أي : دعا ربه من قبل إبراهيم، أو من قبل رسالتك يا محمد، فاستجاب الله دعاءه، ونجاه ومن معه من المؤمنين من الغرق، أو من سوء معاملة الكافرين واضطهادهم للمؤمنين.
تمهيد :
هذه إشارة إلى قصة نوح عليه السلام وهو الأب الثاني للبشرية، على المشهور من أن جميع الباقين بعد الطوفان، من ذريته عليه السلام.
٧٧ - وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ.
قوم سوء : منهمكين في شرورهم وآثامهم.
أي : أيدناه وأنقذناه من قومه، الذين كفروا بالوحي وكذبوا بالرسول، وصموا آذانهم عن سماع الحق وتواصوا بهذا الكفر جيلا بعد جيل.
إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ.
أي : لأنهم كانوا فئات من الأشرار، الفجار الكفار، الذين صموا آذانهم عن سماع الحق، وأصروا على الباطل، واستكبروا استكبارا عن الدخول في الإيمان.
فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ.
حيث شمل الطوفان جميع الكافرين، ومنهم : ابن نوح وزوجته، وتوسل نوح إلى الله أن يرحم ولده، وينقذه من ذلك المصير ؛ فأخبره الله بأن هذا الابن قد عمل عملا غير صالح ؛ فليس من أهلك ولا من فصيلتك ؛ إنما أهلك حقا، هم المؤمنون، الذين آمنوا بالله وصدقوا بالرسالة.
قال تعالى : وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ. ( هود ٤٥ – ٤٧ ).
وتفيد هذه الآيات : العدالة الإلهية المطلقة ؛ فلا محاباة ولا وساطة ولا شفاعة، إلا بإذن الله وأمره، وهي الشفاعة لأهل التوحيد والإيمان. والله أعلم.
﴿ وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ( ٧٨ ) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ ( ٧٩ ) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ ( ٨٠ ) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ ( ٨١ ) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ ( ٨٢ ) ﴾.
تمهيد :
تتحدث الآيات عن نعم الله على داود وسليمان، ومن هذه النعم : الفهم، والعلم، والحكمة.

( أ‌ ) وخص الله داود بما يأتي :

تسخير الجبال والطير للتسبيح معه، تعليمه صناعة الدروع للوقاية من أذى الحرب.

( ب‌ ) وخص الله سليمان بما يأتي :

تسخير الريح العاصفة التي تجري بأمره، وتسخير الشياطين تغوص في البحر ؛ لتخرج له اللؤلؤ والمرجان، وتعمل له أعمالا أخرى غير ذلك.
التفسير :
٧٨ - وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ.
الحرث : الزرع.
النفش : رعي الماشية بالليل بلا راع.
شاهدين : حاضرين.
تشير كتب التفسير والحديث إلى مضمون هذه الآية.
ذلك أن رجلين أحدهما صاحب زرع والثاني صاحب غنم، انطلقت أغنام صاحب الغنم ليلا فأكلت الزرع عن آخره، فاشتكى الفلاح إلى داود عليه السلام ؛ وسأل داود عن قيمة الزرع، وقيمة الغنم ؛ فلما علم أن قيمتهما متقاربة ؛ قضى بالغنم لصاحب الزرع ؛ عوضا عن الخسارة التي أصابته.
وسار صاحب الزرع وصاحب الغنم ؛ فمرا على نبي الله سليمان ؛ فسألهما : بم حكم الملك ؟ فأخبراه به.
فقال سليمان : عدل الملك، وغير ذلك كان أحكم : أن يعطى للفلاح الغنم فينتفع بألبانها وأصوافها ونتاجها، ويعطي لصاحب الغنم الأرض فيحرثها ويزرعها ويسقيها ؛ حتى يعود الزرع كما كان ؛ فيستلم صاحب الأرض أرضه، وصاحب الغنم غنمه، فقال داود لما بلغه هذا القول : القضاء كما قضى سليمان.
وقد ناقش المفسرون : هل كان قضاء داود بوحي أم باجتهاد ؟ والراجح أن قضاء كل منهما كان باجتهاد لا بوحي ؛ فداود نظر إلى العدل المطلق، حيث إن صاحب الزرع ؛ قد خسر زراعة تعادل قيمة الغنم، أما سليمان فنظر إلى العدل الإيجابي ؛ المشتمل على البناء والتكوين والنظرة العامة.
فصاحب الغنم : يعمل في إصلاح الأرض وزراعتها ؛ حتى يعود الزرع كما كان، وصاحب الأرض : يستفيد بنتاج الأغنام وألبانها ؛ ثم يستلم الأرض كما كانت، ويستلم صاحب الأغنام أغنامه كما كانت ؛ وكل منهما حكم باجتهاده بيد أن الله فهم سليمان هذه الطريقة المثلى ؛ وفيها الرأفة والبناء ؛ والإبقاء على صاحب الغنم ؛ بأن يجتهد في إصلاح الأرض وزراعتها ؛ ثم يسترد غنمه.
ولو كان حكم سليمان بوحي لما قال القرآن ففهمناها سليمان ؛ لأن القرآن أفاد : أنهما حكما في الموضوع ؛ واحدا بعد الآخر، وأن الله فهم سليمان الأولى والأرفق.
وكنا لحكمهم شاهدين.
أي : كنا ناظرين مطلعين على حكمهم واجتهادهم ؛ لذلك ورد في صحيح البخاري :( المجتهد إذا أصاب له أجران : أجر الاجتهاد وأجر الصواب، وإذا أخطأ فله أجر واحد هو أجر الاجتهاد )٢٣.
ومعنى الآية : واذكر أيها الرسول الكريم : قصة داود وسليمان ؛ وقت أن كانا يحكمان في الزرع، الذي نفشت فيه غنم القوم. أي : انطلقت وتفرقت فيه وانتشرت ليلا ؛ دون أن يكون معها راع ؛ فرعته وأفسدته ؛ وكنا لما حكم به داود وسليمان عالمين وحاضرين ؛ بحيث لا يغيب عنا شيء مما قالاه.
وقد ورد في صحيح البخاري ومسلم وأحمد والنسائي قصة أخرى تدل على مهارة سليمان في القضاء ؛ والحكمة في استخلاص الحقيقة من بين المتخاصمين.
ومعنى ما ورد في الحديث الصحيح :
أن امرأتين إحداهما صغرى والثانية كبرى ؛ انطلقتا في طريق إلى السوق، ومع كل منهما طفل رضيع، وفي الطريق استراحتا ووضعتا طفليهما على الأرض، فجاء ذئب فالتقم ابن إحداهما.
فاشتكتا إلى نبي الله داود ؛ كل منهما تقول : إن الطفل الموجود ابنها ؛ وأن الذئب التقم ابن الأخرى ؛ فقضى نبي الله داود بالولد للكبرى ؛ حيث كان الولد معها تحمله وتحتضنه وتحافظ عليه، ولم تقدم الصغرى دليلا لينقله إليها.
ثم عرض الأمر بعد ذلك على سليمان فقال : عدل الملك وغير ذلك كان أحكم ؛ وبلغ الأمر إلى نبي الله داود ؛ فأحضر سليمان وسأله عن حكمه في الموضوع فقال : أرى أن نقسم الصبي قسمين متناصفين، ونعطي كل امرأة نصفا ؛ فليست إحداهما أحق به من الأخرى ؛ فلما وضعت السكين الحادة على رأس الصبي ؛ صرخت الصغرى وقالت : هو ولدها فلتأخذه كله، فقضى به للصغرى٢٤.
وتوجد في ذكاء القضاة، وأساليبهم في استخلاص الحقوق، والاهتداء إلى الحقيقة ؛ وقد خص الله سليمان بهذا الفهم، وهداه إلى الحكمة في القضاء ؛ وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
تمهيد :
تتحدث الآيات عن نعم الله على داود وسليمان، ومن هذه النعم : الفهم، والعلم، والحكمة.

( أ‌ ) وخص الله داود بما يأتي :

تسخير الجبال والطير للتسبيح معه، تعليمه صناعة الدروع للوقاية من أذى الحرب.

( ب‌ ) وخص الله سليمان بما يأتي :

تسخير الريح العاصفة التي تجري بأمره، وتسخير الشياطين تغوص في البحر ؛ لتخرج له اللؤلؤ والمرجان، وتعمل له أعمالا أخرى غير ذلك.
٧٩ - فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ.
أعطى الله سليمان الحكمة والفهم، وألهمه حكما يجمع بين العدل من جهة ؛ وبين الرحمة والعطف والبناء الهادف ؛ الذي يرعى الأطراف كلها من جهة أخرى.
وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا.
إن داود وسليمان كليهما أعطاه الله الحكم والعلم، أي : حكمة ومعرفة بالقضاء والحكم، لكنه اختص سليمان بسعة الفهم ؛ والتصور الأوسع، وهذا لا يطعن في داود وحكمه ؛ لأن الفهم منة من الله، قال تعالى : يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب. ( البقرة : ٢٦٩ ).
وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ.
كان داود ذا صوت حنون، جميل الصوت، حاضر القلب ؛ فكان إذا قرأ الزبور أو سبح الله ؛ تجاوب معه كل ما حوله ؛ فالجبال تسبح بتسبيحه ؛ والطير تسبح بتسبيحه.
وكنا فاعلين. وكان هذا بفعلنا وقدرتنا ؛ حيث جعلنا ذلك معجزة لداود عليه السلام ؛ أن تسبح الجبال معه ؛ وأن يردد الطير تسبيحه ؛ قال تعالى : وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ. ( سبأ : ١٠ ).
وكان هذا من فضل الله عليه ؛ أن ترجع وتردد الجبال معه التسبيح ؛ وكذلك الطير ينطق بمثل ما ينطق به ؛ قال تعالى : اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ. ( ص : ١٧ – ١٩ ).
قال ابن كثير :
وذلك لطيب صوته بتلاوة الزبور ؛ وكان إذا ترنم به تقف الطير في الهواء فتجاوبه، وترد عليه الجبال تأويبا ؛ ولهذا لما مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أبي موسى الأشعري، وهو يتلو القرآن من الليل، وكان له صوت طيب ؛ فوقف واستمع إليه ؛ وقال : لقد أوتي أبو موسى مزمارا من مزامير آل داود )٢٥.
ونظير الآية قوله تعالى : وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ... ( الإسراء : ٤٤ ).
تمهيد :
تتحدث الآيات عن نعم الله على داود وسليمان، ومن هذه النعم : الفهم، والعلم، والحكمة.

( أ‌ ) وخص الله داود بما يأتي :

تسخير الجبال والطير للتسبيح معه، تعليمه صناعة الدروع للوقاية من أذى الحرب.

( ب‌ ) وخص الله سليمان بما يأتي :

تسخير الريح العاصفة التي تجري بأمره، وتسخير الشياطين تغوص في البحر ؛ لتخرج له اللؤلؤ والمرجان، وتعمل له أعمالا أخرى غير ذلك.
٨٠ - وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ.
اللبوس : الدروع.
البأس : الحرب.
ألان الله الحديد لداود عليه السلام، وكان الحديد يلبس صفائح كما يلبس القميص ؛ فعلمه الله صناعة الزرد ؛ وهي حلقات تتشابك مع بعضها ويلبسها المحارب فتحمي صدره من السيوف والرماح.
ومعنى الآية : ألهمنا داود وعلمناه صناعة حلقات الحديد ؛ التي تتشابك مع بعضها فتكون درعا حصينة ؛ يلبسها المحارب ؛ فيتقي بها ضربات الأعداء في الحرب ؛ وقد تعلم داود عليه السلام صناعة الدروع بتعليم الله له ؛ حيث قال تعالى له : وقدر في السرد أي : اصنع الحلقة بتقدير محكم ؛ مناسب للمسمار الذي يربطها بالحلقة الأخرى.
لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ. لتحميكم وتحفظكم من حروبكم، حيث تحفظ المقاتل من ضربة السيف ؛ وطعنة الرمح.
فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ.
على تيسير الله لكم نعمة الدروع ؛ والمراد : اشكروا الله على ما يسر لكم من هذه الصنعة ؛ التي ألانها الله لداود ؛ وجعله بارعا في صناعتها، وتعلمها الناس منه جيلا بعد جيل ؛ وفيه دليل على أهمية الصناعة، وفضل العمل والحرفة وأن الأديان السماوية تحث على العمل والإنتاج ؛ وتحارب البطالة والكسل ؛ فهذه سنة من سنن الله يترتب عليها اعمار الكون.
لقد أخبرنا نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم : أن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده ؛ فقد كان يصنع الدروع وكان أيضا يصنع الخوص ؛ ليأكل من كد يمينه، فما أكل أحد طعاما خيرا من أن يأكل من عمل يده.
وكان آدم حراثا يحرث الأرض ؛ وكان نوح نجارا يصنع السفن، وكان إدريس ولقمان خياطين ؛ وطالوت دباغا، أو سقاء، وكل ذلك يدل على أن العمل منهج الأنبياء والصالحين، وطريق المؤمنين الأقوياء.
وقد جاء في الحديث الصحيح الذي رواه الشيخان والنسائي عن أبي هريرة : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( لأن يأخذ أحدكم حبله، ثم يغدو إلى الجبل، فيحتطب، فيبيع، فيأكل، ويتصدق، خير له من أن يسأل الناس )٢٦.
قال القرطبي في تفسيره ما ملخصه :
وهذه الآية أصل في اتخاذ الصنائع والأسباب، وهو قول أهل العقول والألباب، لا قول الجهلة الأغبياء ؛ القائلين بأن ذلك إنما شرع للضعفاء، فالسبب سنة الله في خلقه ؛ فمن طعن في ذلك ؛ فقد طعن في الكتاب والسنة، وقد أخبر الله عن نبيه داود ؛ أنه كان يصنع الدروع ؛ وكان أيضا يصنع الخوص وكان يأكل من عمل يده... ؛ فالصنعة يكف بها الإنسان نفسه عن الناس، ويدفع بها عن نفسه الضرر والبأس.
تمهيد :
تتحدث الآيات عن نعم الله على داود وسليمان، ومن هذه النعم : الفهم، والعلم، والحكمة.

( أ‌ ) وخص الله داود بما يأتي :

تسخير الجبال والطير للتسبيح معه، تعليمه صناعة الدروع للوقاية من أذى الحرب.

( ب‌ ) وخص الله سليمان بما يأتي :

تسخير الريح العاصفة التي تجري بأمره، وتسخير الشياطين تغوص في البحر ؛ لتخرج له اللؤلؤ والمرجان، وتعمل له أعمالا أخرى غير ذلك.
٨١ - وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ.
الريح العاصف : الشديدة الهبوب.
إلى الأرض التي باركنا فيها : هي أرض الشام.
أي : وسخرنا لسليمان الريح عاصفة، وهذه من نعم الله على سليمان أن ذلل له الريح العاصفة أي : المدمرة، التي تعصف بما تمر عليه وتدمره.
وقد وصف الله تعالى هذه الريح بأنها سهلة هينة مريحة ؛ في موضع آخر فقال : فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ. ( ص : ٣٦ ).
قال المفسرون :
فهذه الريح قوية وعاصفة في حد ذاتها ؛ لكن إذا أمرها سليمان بأمر تحولت إلى طائعة سهلة منقادة لينة ورخاء، أو أنها حينا عاصفة، وحينا رخاء وهي مطيعة لسليمان ؛ وكان سليمان قد دعا الله قائلا :
قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ * فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ. ( ص : ٣٥ – ٣٩ ).
والخلاصة :
أن الله ذلل الريح لسليمان عليه السلام، فكان يتحرك مع جنوده وجيوشه وأتباعه، ويأمر الريح أن تنقلهم إلى أي مكان يريد الذهاب إليه، ثم يطلب من الريح أن تعيده إلى المكان الذي يريد أن يرجع إليه ؛ فتطيعه الريح وتجري بأمره.
وكان ملك سليمان في بلاد الشام ؛ فقد حكم داود عليه السلام فلسطين ٧٠ سنة، وحكمها سليمان ٧٠ سنة، وبعد ذلك دب الخلاف بين أبناء سليمان وتقسموا الملك ثم دالت دولتهم.
أما العرب المسلمون فقد فتحوا فلسطين وبيت المقدس سنة ١٥ ه ومكثوا فيها أكثر من ألف عام ؛ ولم يخرجوا من بيت المقدس إلا أيام الحروب الصليبية ؛ ثم عادوا إليه بقيادة صلاح الدين الأيوبي، وظلوا هناك إلى أن كانت حرب سنة ١٩٦٧م فأخرجوا من ديارهم بغير حق.
وأملنا في الله أن يعودوا إلى بيت المقدس بفضل الله.
ونعود إلى تقرير معنى الآية فنقول :
سخرنا لسليمان الريح قوية ؛ تسير بأمره وتنقله هو وأتباعه في الصباح وتعود بهم في المساء ؛ حيث ترجع بهم إلى أرض الشام التي بارك الله فيها ؛ بوجود الأنبياء والزروع والثمار ؛ ووجود بيت المقدس أولى القبلتين وثالث الحرمين.
وكنا بكل شيء عالمين.
أي : أن علمنا ممتد إلى كل كبيرة وصغيرة، ونعرف الحكمة فيما نفعل، ونعرف أن سليمان أهل لهذه النعمة ؛ فنحن لنا حكمة في ابتلاء الناس بالخير أو بالشر ؛ كما قال سبحانه : ونبلوكم بالشر والخير فتنة... ( الأنبياء : ٣٥ ).
تمهيد :
تتحدث الآيات عن نعم الله على داود وسليمان، ومن هذه النعم : الفهم، والعلم، والحكمة.

( أ‌ ) وخص الله داود بما يأتي :

تسخير الجبال والطير للتسبيح معه، تعليمه صناعة الدروع للوقاية من أذى الحرب.

( ب‌ ) وخص الله سليمان بما يأتي :

تسخير الريح العاصفة التي تجري بأمره، وتسخير الشياطين تغوص في البحر ؛ لتخرج له اللؤلؤ والمرجان، وتعمل له أعمالا أخرى غير ذلك.
٨٢ - وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ.
الغوص : النزول إلى قاع البحار لإخراج شيء منها.
دون ذلك : غير ذلك كبناء المدن والقصور واختراع الصناعات الغريبة.
كذلك سخرنا لسليمان الشياطين والجن يأتمرون بأمره، ويعملون تحت حكمه، لا يخرجون عن طاعته، ومن أعمال الشياطين : الغوص في البحار، واستخراج اللؤلؤ والمرجان والجواهر ونحوها.
وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ.
أي : ويعملون أعمالا غير ذلك ؛ كبناء المدن والقصور، والمحاريب والتماثيل، والقدور الراسيات ونحوها، وأما الصناعات فهي مثل الطواحين والقوارير والصابون.
وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ.
أي : حافظين لأعمالهم، نحرسه من أن يناله أحدهم بسوء، وقد جعلنا له سلطة مطلقة عليهم ؛ إن شاء أطلق وإن شاء حبس منهم من يشاء. ذللهم الله له، وجعلهم طوع أمره، ورهن إشارته ؛ لا يجرؤ أحد منهم على الاقتراب منه، ولا يستطيعون أن يفسدوا أعمالهم، وأن يهيجوا أحدا من بني آدم في زمان سليمان أو أن يهربوا أو يمتنعوا عن أمره.
فلله جنود السماوات والأرض، وما يعلم جنود ربك إلا هو، فهو سبحانه مالك الملك ؛ وواضع الناموس وفاعل المعجزة ؛ وإذا شاء وهب ما شاء لمن يشاء ؛ ولا يبعد أن تكون لهذه الأفعال نواميس أخرى نحن لا نعلمها ؛ وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً. ( الإسراء : ٨٥ ).
﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ( ٨٣ ) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ( ٨٤ ) ﴾.
تمهيد :
سبق ذكر داود وسليمان، حيث امتحنهما الله بالنعمة فكان منهما الشكر لله، واستخدام النعمة في طاعة الله وأردف ذلك بقصة أيوب ؛ في إشارة سريعة إلى صبره على البلاء ؛ ليكون تذكرة وعظة لكل إنسان ؛ في الصبر على البلاء، وفي الشكر على النعماء.
التفسير :
٨٣ - وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
أيوب : هو أيوب بن أموص، اصطفاه الله، وبسط له الدنيا وكثر أهله وماله، ثم ابتلاه بموت أولاده ؛ بسقوط البيت، وبذهاب أمواله، وبالمرض في بدنه ثماني عشرة سنة، وسنه إذ ذاك سبعون سنة، ثم شفاه الله، وآتاه من الأولاد ضعف ما كان له، وسيأتي تفصيل قصصه في سورة ص.
الضر : الضرر ( بالفتح ) شائع في كل ضرر وأذى ؛ والضر ( بالضم ) خاص بما في النفس من مرض وهزال ونحوهما.
واذكر : نبأ أيوب ؛ حين دعا ربه متضرعا متعطفا ؛ قائلا : أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ. أي : أصابني المرض والبلاء والهزال، في نفسي وفي مالي وأولادي ؛ والضر ( بالفتح ) كل ضرر، والضر ( بالضم ) خاص بما في النفس من مرض وهزال ونحوهما.
فأيوب عليه السلام يصف حاله أمام الله، ويستحي أن يسأل الشفاء ؛ لأن الله أعلم بحاله، كما قال إبراهيم في الشدة :( علمه بحالي يغنيني عن سؤالي ).
وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
أي : أنت واسع الرحمة، كثير العطاء والشفقة أرحم الراحمين، وأفضل المعطين فالرحمة الواسعة صفتك، والفضل العميم هو فضلك ؛ فاشملني برحمتك وأسبغ علي من فضلك.
وقد توسعت بعض كتب التفسير، في أنواع البلاء والأمراض التي أصابت أيوب، حتى اعتزل الناس، وابتعدت عنه الناس، وهي مبالغات أو إسرائيليات ؛ ليس لها سند ثابت، فلنكتف بما ورد في القرآن الكريم ؛ فقد أفاد : أن الله ابتلى أيوب ؛ وامتحنه بالشدة في نفسه وفي أولاده وفي زوجته وفي ماله ؛ ونحن نكتفي بما أجمله القرآن، ولا نتزيد عليه ؛ وروح القرآن تفيد : أن الله تعالى جعل أيوب نموذجا يقتدى به، في الصبر على البأساء وتحمل الشدائد واللجوء إلى الله تعالى في البلاء.
تمهيد :
سبق ذكر داود وسليمان، حيث امتحنهما الله بالنعمة فكان منهما الشكر لله، واستخدام النعمة في طاعة الله وأردف ذلك بقصة أيوب ؛ في إشارة سريعة إلى صبره على البلاء ؛ ليكون تذكرة وعظة لكل إنسان ؛ في الصبر على البلاء، وفي الشكر على النعماء.
٨٤ - فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ.
ذكرى : تذكرة.
كان أيوب قد ابتلي في نفسه بالمرض، وفي أولاده بالموت، وفي ماله بالضياع ؛ امتحانا من الله تعالى، وكانت له الأموال والأولاد والزوجة والعافية، وكان دائم الصبر، حيث قالت له زوجته مرة : لو دعوت الله حتى يذهب عنك البلاء ؟ ! فقال لزوجته : كم مكثنا في الصحة والعافية والنعمة ؟ قالت : ثمانين سنة ؛ قال أيوب : كم مكثنا في البلاء ؟ قالت : ثلاثا أو سبعا أو ثماني عشرة سنة، فقال أيوب : أستحي أن أدعو الله ليرفع البلاء ؛ ولم أمكث في البأساء مثل ما مكثت في النعماء.
فلما كثر إلحاح زوجته عليه ؛ مد يديه إلى الله متضرعا، طالبا أن يشمله الله برحمته ؛ فاستجاب الله دعاءه ؛ فكشف عنه الضر الذي نزل به اختبارا وابتلاء.
وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ.
استرد زوجته وولدت له من الأولاد بعدد من مات من أولاده ؛ ثم ضاعف الله له عدد أولاده.
رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ.
أي : تلطفا وتكرما وترحما من الله عليه، حيث أكرمه في نفسه وأولاده وماله.
وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ.
وتذكيرا للعباد الصالحين ؛ ألا ييئسوا من فضل الله، وأن يتوقعوا من الامتحان بالبلاء، والكشف بالرحمة والنعماء ؛ وقد ذكرت قصة أيوب في مواضع أخرى في القرآن الكريم ومن ذلك قوله تعالى : وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ * وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ. ( ص : ٤١ – ٤٤ ).
لقد جعل الله من أيوب نموذجا للصبر ؛ فقد امتحن في نفسه، وفي أولاده وزوجته وأمواله ؛ ثم عوضه الله بالشفاء والعافية، حيث اغتسل بالماء فبرئ ظاهره، وشرب من الماء فبرئ باطنه، ورزقه الله من الأولاد بعدد من مات منهم، ثم ضاعف له عددا من الأولاد والأحفاد ؛ فقد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت، ويختبر بعض الناس بالنعماء قال تعالى : ليبلوني أأشكر أم أكفر... ( النمل : ٤٠ ).
وأمره الله أن يأخذ حزمة من الحشيش الأخضر، الذي يختلط فيها الرطب باليابس، وبها أكثر من ١٠٠ عود، فيضرب بها زوجته مرة واحدة، حتى لا يحنث في يمينه ؛ وكان قد أقسم إذا شفاه الله ليضربن زوجته ١٠٠ ضربة، ثم وضع الحق سبحانه وساما يؤيد الصبر، وصدق العبودية، والرجوع إلى الله وعبادته، والتبتل إليه واستمرار ذكره ؛ فقال تعالى : إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب.
وفي الحديث الشريف :( أشدكم بلاء الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل )٢٧.
﴿ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ ( ٨٥ ) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَ ( ٨٦ ) ﴾.
تمهيد :
بعد أن ذكر الله أيوب، وجعله المثل الأعلى في الصبر ؛ أتبعه بذكر ثلاثة من الصابرين وهم :
إسماعيل : الذي صبر في بناء البيت الحرام، وصبر على الانقياد للذبح، وصبر على الإقامة في بلد لا زرع فيه ولا ضرع ولا بناء ؛ فأكرمه الله بأن جعل خاتم النبيين من صلبه.
وإدريس : فهو أول من خاط الثياب، وكانوا قبله يلبسون الجلود، وأول من اتخذ السلاح عدة للحرب.

وأما ذو الكفل : فقد تكفل بثلاث صفات :

١ – قيام الليل.
٢ – صيام النهار.
٣ – عدم الغضب حين يقضي بين الناس.
ووفى بذلك وبما ضمن على نفسه، قيل : إنه كان عبدا صالحا، وقيل : كان نبيا بدليل اقترانه مع الأنبياء.
التفسير :
٨٥ - وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ.
وإسماعيل : أي : واذكر : إسماعيل، والصابر على الذبح ؛ امتثالا لأمر الله.
ذا الكفل : اختلف فيه، هل هو نبي أو عبد صالح، قيل : هو إلياس ؛ قيل : خمسة من الأنبياء ذوو اسمين : إسرائيل ويعقوب، إلياس وذو الكفل، عيسى والمسيح ؛ يونس وذو النون، محمد وأحمد، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
كل من الصابرين : أي : كل هؤلاء من الصابرين ؛ على مشاق التكاليف وشدائد النوائب.
أي : واذكر أيها النبي نبأ إسماعيل بن إبراهيم الخليل، وقد مدحه الله فيما سبق بصدق الوعد، ورعايته لأسرته، وأمرهم بالصلاة والزكاة ؛ وقد رضى الله عنه جزاء صدقه وجميل أعماله قال تعالى :
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا. ( مريم : ٥٤، ٥٥ ).
وكذلك نبي الله إدريس، يقال : إنه جاء بعد آدم وقبل نوح عليه السلام، ويقال : إن زمانه مجهول وكذلك مكانه، وهناك قول بأنه أزوريس، الذي عبده المصريون بعد موته، وصاغوا حوله الأساطير ؛ بوصفه المعلم الأول للبشر، الذي علمهم الزراعة والصناعة ولكنا لا نكملك على هذا دليلا، فلنعلم أنه كان من الصابرين في أداء رسالته، وفي شؤون حياته وقد قيل : إن الله كافأه بصبره على أذى قومه ؛ بأن رفعه إلى السماء الرابعة.
وقد قال تعالى في شأنه : وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا * وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا. ( مريم : ٥٦، ٥٧ ).
وذا الكفل، أي : صاحب النصيب أو الحظ الكثير، الذي هو إلياس وهو من بني إسرائيل، وقد عاش في بلاد الشام.
كل من الصابرين.
أي : كل واحد من هؤلاء من الصابرين المحتسبين الذين صبروا على البلاء والمحن.
تمهيد :
بعد أن ذكر الله أيوب، وجعله المثل الأعلى في الصبر ؛ أتبعه بذكر ثلاثة من الصابرين وهم :
إسماعيل : الذي صبر في بناء البيت الحرام، وصبر على الانقياد للذبح، وصبر على الإقامة في بلد لا زرع فيه ولا ضرع ولا بناء ؛ فأكرمه الله بأن جعل خاتم النبيين من صلبه.
وإدريس : فهو أول من خاط الثياب، وكانوا قبله يلبسون الجلود، وأول من اتخذ السلاح عدة للحرب.

وأما ذو الكفل : فقد تكفل بثلاث صفات :

١ – قيام الليل.
٢ – صيام النهار.
٣ – عدم الغضب حين يقضي بين الناس.
ووفى بذلك وبما ضمن على نفسه، قيل : إنه كان عبدا صالحا، وقيل : كان نبيا بدليل اقترانه مع الأنبياء.
٨٦ - وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَ.
إنهم من الصالحين : أي : الكاملين في الصلاح، وهم الأنبياء، فإن صلاحهم معصوم عن كدر الفساد.
شملناهم برحمتنا وعطفنا وبركتنا في الدنيا، وأدخلناهم الجنة في الآخرة.
إِنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَ.
أي : الكاملين في الصلاح ؛ لأنهم أنبياء معصومون، وصلاحهم لا يعكره فساد.
﴿ وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ( ٨٧ ) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ ( ٨٨ ) ﴾.
تمهيد :
هذا نموذج آخر للقدوة والتعليم، نبي كريم يغضب من قومه في نينوى بالعراق، ويركب سفينة، وتوشك السفينة على الغرق، فيقترع القوم لإلقاء أحد الركاب في البحر، وتصيب القرعة يونس، فيلقي بنفسه في البحر، فيلتقمه الحوت، ويتضرع إلى الله تعالى وهو محبوس في بطن الحوت، وفي ظلمات الليل والبحر وجوف الحوت، فيستجيب الله دعاءه وينجيه، وهكذا ينجي المؤمنين.
التفسير :
٨٧ - وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ.
النون : الحوت وجمعه نينان ؛ وذا النون. أي : صاحب الحوت وهو يونس بن متى.
مغاضبا : غضبان من قومه ؛ لتماديهم في العناد والطغيان.
نقدر عليه : نضيق عليه في أمره بحبس ونحوه.
الظلمات : ظلمة بطن الحوت، وظلمة البحر، وظلمة الليل.
أي : واذكر أيها الرسول قصة يونس بن متى عليه السلام، حين بعثه الله إلى أهل قرية نينوى ( من أرض الموصل )، وكان اسم ملكها ( حزقيا ) فدعاهم إلى توحيد الله وطاعته، فأبوا عليه، فضاق صدره بهم، فخرج من بلده، مغاضبا لقومه، ومغاضبته لقومه كانت غضبة لله، وأنفة لدينه.
فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ.
أي : ظن يونس أن لن نضيق عليه بالعقوبة، على خروجه من القرية بدون إذن من ربه، فهي من باب قوله تعالى : ومن قدر عليه رزقه... ( الطلاق : ٧ ). أي ضيق، فهو من القدر لا من القدرة.
سأل معاوية ابن عباس عن هذه الآية : كيف يظن يونس أن الله لن يقدر عليه ؟ ! فقال ابن عباس : هذا من القدر لا من القدرة. ١ه.
وعندما خرج يونس – عليه السلام – من عند قومه، سار حتى وصل إلى شاطئ البحر، فركب سفينة، وفي وسط البحر، أوشكت على الغرق، فقالوا : لا بد من إلقاء شخص في البحر ؛ لتنجو السفينة، فأجريت القرعة فخرجت على يونس، فألقى بنفسه في البحر، فالتقمه الحوت، وفي ظلام الحوت والحبس بداخله، وظلام البحر، وظلام الليل والنفس، نادى يونس ربه، واستغاث بالله فأغاثه.
فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ.
لقد استجاب الله له، عندما لجأ إلى الله، وفزع إليه، وهو في ظلام الليل والبحر والحوت والكرب، قائلا : لا إله سواك، أنت القادر المهيمن، القائم على كل نفس بما كسبت.
سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ.
أي : تنزهت يا رب عن النقص والظلم، وقد كنت من الظالمين لنفسي، وأنا الآن من التائبين النادمين، فاكشف عني المحنة ونجني مما أنا فيه.
تمهيد :
هذا نموذج آخر للقدوة والتعليم، نبي كريم يغضب من قومه في نينوى بالعراق، ويركب سفينة، وتوشك السفينة على الغرق، فيقترع القوم لإلقاء أحد الركاب في البحر، وتصيب القرعة يونس، فيلقي بنفسه في البحر، فيلتقمه الحوت، ويتضرع إلى الله تعالى وهو محبوس في بطن الحوت، وفي ظلمات الليل والبحر وجوف الحوت، فيستجيب الله دعاءه وينجيه، وهكذا ينجي المؤمنين.
٨٨ - فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ.
فاستجاب الله دعاء يونس، وفرج عنه الكرب، وأمر الحوت أن يحافظ عليه وأن يطرحه في العراء، وحافظ الله عليه، وأرسله مرة أخرى إلى قومه، فآمنوا ؛ فأنقذهم الله من العذاب.
قال تعالى : فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ. ( يونس : ٩٨ ).
وقد ورد في سنن أبي داود : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : دعوة أخي ذي النون في بطن الحوت : لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له )٢٨.
وقد ورد في القرآن الكريم : قصة يونس في عدد من السور قال تعالى : فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ * فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ. ( القلم : ٤٨ – ٥٠ ).
وقال تعالى : وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ * وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى ماِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ. ( الصافات : ١٣٩ – ١٤٨ ).
وروى البخاري ومسلم وأبو داود. عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :( لا تفضلوني على يونس ابن متى ؛ فإني لم أكن وأنا في سدرة المنتهى بأقرب إلى الله منه، وهو في قعر البحر في بطن الحوت )٢٩.
وهذا دليل على أن الباري سبحانه وتعالى ليس في جهة معينة، وأن المؤمن إذا لجأ إلى الله ودعاه ؛ استجاب الله دعاءه، وأن على المسلم إذا وقع في كرب أو عسر، أو شدة أو هم، أن يردد دعاء يونس عليه السلام : لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ.
لأن الله وعد بإجابة دعاء المؤمن، إذا قال هذا الدعاء صادقا متضرعا، قال تعالى :
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ.
أي : استجبنا دعاء يونس، ونجيناه من الغم، فقد فرجنا كربه، وأمرنا الحوت أن يلفظه على الشاطئ، وأنبت الله عليه شجرة القرع.
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحب القرع ويقول :( إنها شجرة أخي يونس، وإنها تشد قلب الحزين ).
وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ.
أي : كما نجينا يونس من الغم وهو الحزن، ننجي كل مؤمن إذا لجأ إلينا ودعانا مخلصا قانتا متبتلا.
﴿ وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ( ٨٩ ) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ( ٩٠ ) ﴾
تمهيد :
تتحدث الآيتان عن تضرع زكريا إلى ربه سبحانه وتعالى بأن يهبه ولدا صالحا، وقد استجاب الله دعاء زكريا، ووهب له يحيى وجعل زوجة زكريا صالحة للحمل والولادة والرعاية للمولود ؛ فقد كان زكريا وزوجته أخيارا، وأبرارا أطهارا صالحين.
التفسير :
٨٩ - وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ.
أي : واذكر خبر زكريا حين طلب من الله أن يهبه ولدا يؤنس وحدته، ويرث تدينه وصلاحه، وقيامه على شئون الدين، وقال : إنك يا رب، نعم الوارث لشئون العقيدة والراعي لها.
وقد سبقت القصة بتفصيل في سورة مريم، وقبلها في سورة آل عمران، وعلمنا أن زكريا نادى ربه نداء خفيا، واشتكى إلى الله ضعفه، وظهور الشيب في رأسه، ووهن عظامه، والحال أن زكريا كثير التضرع والدعاء لله، وهنا يختصر القرآن القصة، إلى إشارة سريعة، تفيد : أن زكريا شكا لله وحدته، وأظهر لله رغبته في ولد صالح، يكون وارثا لزكريا، مجتهدا في العبادة راعيا للعباد والأتقياء.
تمهيد :
تتحدث الآيتان عن تضرع زكريا إلى ربه سبحانه وتعالى بأن يهبه ولدا صالحا، وقد استجاب الله دعاء زكريا، ووهب له يحيى وجعل زوجة زكريا صالحة للحمل والولادة والرعاية للمولود ؛ فقد كان زكريا وزوجته أخيارا، وأبرارا أطهارا صالحين.
٩٠ - فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ...
استجاب الله دعاء زكريا، وبشره بغلام اسمه : يحيى، يتميز بطاعة الله وبر الوالدين، والزهد في الدنيا، والتبتل إلى الله، وكانت زوجة زكريا عجوزا عقيما فأعاد الله إليها صحتها وعافيتها، وجعلها صالحة للحمل والولادة، بقدرة الله، فهو سبحانه على كل شيء قدير.
إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ.
هذا تعليل لما سبق أي : لقد منحنا زكريا ولدا وأصلحنا له زوجه ؛ لأنهم كانوا
يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ.
أي : يسارعون إلى عمل الخير والمعروف، ومساعدة المحتاج، ويدعون الله ويعبدونه، راغبين في رحمته وثوابه ورضاه، راهبين بطشه وعذابه وغضبه.
وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ.
متواضعين متذللين، لا يستكبرون عن طاعتنا، والتضرع إلينا، وسؤالنا والالتجاء إلى حمانا.
﴿ وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ ( ٩١ ) ﴾.
التفسير :
٩١ - وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ.
الإحصان : المنع مطلقا.
الفرج : الفرج في الأصل : الشق بين الشيئين كالفرجة، ثم أطلق على السوءة، وكثر حتى صار كالصريح في ذلك.
الروح : هو المعنى المعروف، ونفخ الروح هو الإحياء.
آية : برهانا ودليلا على قدرة الله.
واذكر : مريم التي أحصنت فرجها، وحفظته من أن ينال، فلم يمسسها بشر بزواج ولم تك زانية، بل حفظت فرجها فلم يقترب منه أحد، وأرسل الله جبريل حيث نفخ في جيب درعها فحملت بعيسى، وجعلها الله هي وابنها آية، أي : معجزة ودليلا على قدرة الله، أمام الإنس والجن والملائكة، فالبشرية لم تشاهد آدم، حين خلق بقدرة الله من غير أبوين، ولم تشاهد حواء حين خلقت من آدم، وإنما شاهد الناس آية خلق عيسى من مريم بدون زوج وإنما بقدرة الله القادر، وقد جعل الله ميلاد عيسى، دليلا وآية أمام الناس، إن واضع الناموس هو الله، الذي خلق الزوجين الذكر والأنثى، ومع ذلك إذا أراد أمرا ؛ حصل ونفذ أمره.
قال تعالى : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له، كن فيكون. ( آل عمران : ٥٩ ).
وقد جعل الله حمل مريم بعيسى آية واحدة، لكن عندما تحدث عن الليل والنهار قال : وجعلنا الليل والنهار آيتين... ( الإسراء : ١٢ ). لأن حال مريم مع ابنها آية واحدة، وهي ولادتها من غير فحل، كما ذكر الزمخشري في تفسير الكشاف.
﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ( ٩٢ ) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ ( ٩٣ ) فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ ( ٩٤ ) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ( ٩٥ ) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ ( ٩٦ ) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ ( ٩٧ ) ﴾
التفسير :
٩٢ - إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ.
الأمة : القوم المجتمعون على أمر، ثم شاع استعمالها في الدين.
تأتي هذه الآية، في أعقاب حديث طويل عن عدد من الرسل والأنبياء، حيث ذكر قصة إبراهيم ولوط ونوح وداود وسليمان، وأيوب وإسماعيل وإدريس وذي الكفل، وذي النون وزكريا ويحيى وعيسى عليهم الصلاة والسلام، ثم عقب على ذلك بأن الأديان كلها من عند الله، والرسل جميعا هدفهم واحد، هو دعوة الناس إلى عبادة الله الواحد الأحد، والعناية بمكارم الأخلاق، والاستقامة على الصراط المستقيم، والبعد عن الرذائل والموبقات، فأهداف الرسالات جميعا، تتلخص في هدفين :
١ – إصلاح العقيدة والإيمان بالله وحده لا شريك له.
٢ – إصلاح السلوك بالاستقامة على الطريق السوي، وفعل الطاعات واجتناب المحرمات، فالأديان كلها متفقة على تحريم القتل والزنى وعقوق الوالدين والكذب، وأكل أموال الناس بالباطل، وعلى الأمر بصلة الرحم والتواضع والتعاون والتسامح، والأديان كلها متفقة على عبادة الله وحده لا شريك له، والإيمان بالكتب والرسل واليوم الآخر.
إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ.
إن هذه أمة الرسالات أمة واحدة، تلتقي على الإيمان بالله، والتحلي بمكارم الأخلاق، والسير على الطريق القويم، واجتناب الرذائل والمحرمات.
وقد روى البخاري في صحيحه : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :( الأنبياء إخوة لعلات ؛ أمهاتهم شتى ودينهم واحد )٣٠.
وإخوة العلات هم إخوة الضرائر، أبوهم واحد وأمهاتهم متعددة، فالرسل جميعا ديانتهم تقوم على توحيد الله، وقد اجتهد كل رسول في إصلاح الخلل الاجتماعي والأخلاقي، الذي ساد في قومه، فحارب لوط المثلية الجنسية، وحارب شعيب تطفيف الكيل والميزان، وحارب موسى طغيان الحاكم وتأليه الفرعون، وحارب عيسى مادية اليهود، وكانت رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للعالمين، فعنيت بتوحيد الله وتعميق عقيدة التوحيد، وعنيت بوسطية الرسالة، فهي رسالة وسط، تهتم بالروح والجسد، وإصلاح الدنيا والآخرة، وهي تؤمن بالرسل والكتب والملائكة واليوم الآخر.
وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ.
أي : اتجهوا إلى الله تعالى بالإخلاص في التقوى والعبادة، فلا نعبد إلا الله، ولا نستعين إلا بالله.
وفي سورة الفاتحة : إياك نعبد وإياك نستعين.
والمسلمون جميعا أمة واحدة، دينهم واحد، ونبيهم واحد، وكتابهم واحد، وقبلتهم واحدة، وأمتهم واحدة، يجمعهم وحدة الهدف، ويدعوهم القرآن إلى الوحدة قال تعالى : واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا... ( آل عمران : ١٠٣ ).
٩٣ - وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ.
تقطعوا أمرهم بينهم : أي : جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعا.
مع أن الإله واحد وقد شرع لنا الدين الواحد، وجعل أمة الأنبياء واحدة، فإن أتباع الديانات قد تفرقوا فرقا، وتقطعوا قطعا، كما تقطع أجزاء الشيء، فكل فريق يقتطع جماعة وينعزل عن القطع الأخرى، ثم يصير الخصام والنزاع والتهاوش، والحروب في بعض الأحيان، وجميع هؤلاء المختلفين المتنازعين، سيرجعون إلينا يوم القيامة.
وفي معنى الآية قوله تعالى : واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا.
وقوله سبحانه : شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ... ( الشورى : ١٣ ).
وقال عز شأنه : وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ. ( الأنفال : ٤٦ ).
وكأن القرآن يقول : مع دعوتنا إلى الأمة الواحدة، فإن الحاصل أن أتباع الديانات تقطعوا أمرهم، واختلفوا وتضاربوا وتحاربوا، وسيرجع الجميع إلينا للجزاء.
٩٤ - فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ.
نحتاج إلى أمرين هامين :
١ – الإيمان.
٢ – العمل الصالح.
فلا ينفع الإيمان العاطل العاجز، والعمل لا بد أن يستند إلى إيمان مقبول، فمن آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وضم إلى ذلك العمل الصالح النافع المفيد، فجزاؤه عند الله عظيم.
فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ.
فلا ضياع لشيء من سعيه، بل سيوفى على هذا العمل جزاءه كاملا.
وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ.
أي : إن عمله مسجل مكتوب ليجازى عليه.
قال تعالى : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره. ( الزلزلة : ٧، ٨ ).
٩٥ - وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ.
حرام : ممتنع.
قرية : أهلها.
أهلكناها : قدرنا هلاكها.
للمفسرين آراء في معنى هذه الآية :
الرأي الأول :
أن لا زائدة في الآية، وقريب من هذا المعنى قوله تعالى : حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. ( المؤمنون : ٩٩، ١٠٠ ).
أي : أن من هلك وعذب وعوقب بالخسف أو الزلازل، أو الموت بأي طريقة كانت، لا يسمح له بالعودة إلى الدنيا، فقد أعطى الفرصة كاملة في الدنيا فأضاعها.
قال تعالى : وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. ( الأنعام : ٢٨ ).
الرأي الثاني :
هو الرد على أن القرى التي عوقبت بالخسف أو الزلازل أو أي نوع من أنواع الهلاك، لا تقوم للحساب والجزاء يوم القيامة ؛ لأن الناس تهلك بسبب غضب الله عليهم، فهذه عقوبة عامة للجميع، ثم يحاسبون يوم القيامة بحسب أعمالهم، فالرؤساء والقادة لهم عقاب أشد من التابعين.
قال تعالى : وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم... ( العنكبوت : ١٣ ).
وقريب من هؤلاء المنافقون المتلونون قال تعالى : إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا. ( النساء : ١٤٥ ).
من تفسير ابن كثير :
وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ.
قال ابن عباس : قد قدر أن أهل كل قرية أهلكوا ؛ أنهم لا يرجعون إلى الدنيا قبل يوم القيامة. هكذا صرح ابن عباس وأبو جعفر الباقر وقتادة وغير واحد.
وفي رواية عن ابن عباس : أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ. أي : لا يتوبون، والقول الأول أظهر والله أعلم.
وقال الزمخشري في تفسير الكشاف :
استعير الحرام للممتنع وجوده، ومنه قوله عز وجل : إن الله حرمهما على الكافرين. ( الأعراف : ٥٠ ). أي : منعهما منهم، وأبى أن يكونا لهم، ومعنى : أهلكناها عزمنا على إهلاكها أو قدرنا إهلاكها.
ومعنى الرجوع : الرجوع من الكفر إلى الإسلام والإنابة.
ومجاز الآية : إن قوما عزم الله على إهلاكهم، غير متصور أن يرجعوا وينيبوا، إلى أن تقوم القيامة، فحينئذ يرجعون ويقولون : يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ. ( الأنبياء : ٩٧ ). يعني : أنهم مطبوع على قلوبهم فلا يزالون على كفرهم ويموتون عليه حتى يروا العذاب٣١.
وجاء في المنتخب في تفسير القرآن الكريم لوزارة الأوقاف المصرية :
وممتنع على أهل كل قرية أهلكناهم بسبب ظلمهم، أنهم لا يرجعون إلينا يوم القيامة، بل لا بد من رجوعهم وحسابهم على سوء أعمالهم.
٩٦ - حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ.
يأجوج ومأجوج : قبيلتان مفسدتان في الأرض، بنى ذو القرنين سدا ؛ حماية للناس من أذاهما.
حدب : مرتفع من الأرض.
ينسلون : يسرعون.
سبق الكلام عن يأجوج ومأجوج في سورة الكهف، وهذه الآية مرتبطة بالآية التي سبقتها.
وخلاصة المعنى :
ممتنع عن قرية أهلكها الله بسبب ظلمها، أن يرجع أهلها إلى الدنيا، بل تظل هالكة مدمرة إلى قرب قيام الساعة، حتى إذا انهدم سد يأجوج ومأجوج، فإذا هم يهبطون مسرعين ينزلون من فوق رءوس الجبال ينسلون، يسرعون الخطا.
والخلاصة : أنه لا تزال حياة من مات وهلك ممتنعة، ولا يمكن رجوعهم إلى الدنيا حتى تقوم الساعة، ويسرع الناس من كل حدب من الأرض، أو ويسرع قوم يأجوج ومأجوج من رءوس الجبال إلى المحشر، أو إلى الأماكن التي يوجههم الله تعالى إليها.
٩٧ - وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ.
اقترب : قرب.
الوعد الحق : يوم القيامة.
شاخصة : مرتفعة أجفانها لا تكاد تطرف من شدة الهول.
الويل : الهلاك.
اقترب مجيء القيامة، والساعة حق لا ريب فيها، وعند قيام القيامة، يذهل الكارفون من هول المشهد، وتفتح عيونهم وترتفع أجفانهم فلا تطرف، بل تظل شاخصة من هول ما تشاهد، قد أذهلها هول المفاجأة.
عندئذ يقولون : يا هلاكنا ! لقد كنا في غفلة وإعراض وتكذيب للقيامة والبعث، بل كنا ظالمين في كفرنا وتكذيبنا للرسل، والآية تعبير مصور عن مشاهد القيامة، وشخوص العيون مرتفعة أجفانها إلى أعلى، تعبيرا عن هول الموقف، ثم ندم الكافرين على كفرهم، وقت لا ينفع الندم :
ندم البغاة ولات ساعة مندم والبغى مرتع مبتغيه وخيم
وجاء معنى الآية في المنتخب من التفسير كالآتي :
واقترب الموعود به، الذي لا بد من تحققه، وهو يوم القيامة، فيفاجأ الذين كفروا، بأبصارهم لا تغمض أبدا من شدة الهول، فيصيحون قائلين : يا خوفنا من هلاكنا، قد كنا في غفلة من هذا اليوم، بل كنا ظالمين لأنفسنا بالكفر والعناد !
﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ( ٩٨ ) لَوْ كَانَ هَؤُلَاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ ( ٩٩ ) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ ( ١٠٠ ) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ( ١٠١ ) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ ( ١٠٢ ) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ( ١٠٣ ) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ( ١٠٤ ) ﴾.
تمهيد :
تستعرض الآيات مشاهد القيامة، حيث يكون المشركون ومعبوداتهم من الأصنام حطبا للنار حين يردونها، أما من كتب له السعادة والنجاة من النار، فهؤلاء مبعدون من النار، لا يسمعون أصواتها، وتتلقاهم الملائكة بالبشرى والتهنئة، قائلين : هذا يومكم الذي كنتم توعدون.
وفي هذا اليوم تطوى السماء طويا، كما يطوى الكاتب الطومار، الذي يكتب فيه، أو كما يجمع فهرس المكتبة محتوياتها، ولعل فيما استجد من وجود الأشرطة الممغنطة التي يجمع فيها محتويات مكتبة كبيرة، تفسيرا لهذه الآية.
التفسير :
٩٨ - إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ.
الحصب : ما يرمى به في النار لاشتعالها.
إنكم أيها الكفار وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ. من الأصنام والأوثان والشياطين، أنتم جميعا حطب جهنم، أي : وقودها، أنتم جميعا – العباد والمعبودون – داخلون في جهنم، وإنما جمع الله الكفار مع أصنامهم ؛ ليزدادوا حسرة وتألما، كلما شاهدوا أصنامهم تعذب أمامهم، ولأنهم ظنوا أن الأصنام تشفع لهم عند الله، فها هم يشاهدونها تتقلب في النار، نكاية فيمن عبدها.
ولا يدخل في هذه الآية ما عبده هؤلاء المشركون، من الأنبياء والصالحين كعيسى والعزير والملائكة، فإن هؤلاء الأخيار ما أمروهم بذلك، وإنما أمروهم بعبادة الله، وفي آخر سورة المائدة نجد آيات تفيد : براءة المسيح عيسى ممن عبده من دون الله حيث يقول : مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ... ( المائدة : ١١٧ ).
روى محمد بن إسحاق في سيرته : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل المسجد الحرام، وصناديد قريش في الحطيم، فجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليهم، فعرض له النضر بن الحارث فكلمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أفحمه، ثم تلا عليهم : إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ. فأقبل عبد الله بن الزبعرى فقال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم قد خصمتك ورب الكعبة، أليس اليهود عبدوا عزيرا، والنصارى عبدوا المسيح، وبنو مليح عبدوا الملائكة ؟ !
فقال صلى الله عليه وآله وسلم :( بل عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك ) فأنزل الله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ. ( الأنبياء : ١٠١ ). يعني : عزيرا والمسيح والملائكة عليهم السلام. ١ ه.
والخلاصة : أن أصنام الكفار ستكون معهم في جهنم، أما المسيح والملائكة وعزير فهؤلاء قد أدوا واجبهم، ولم يرضوا عن عبادة الناس لهم، وقد سبقت لهم الحسنى والسعادة، ودخول الجنة والبعد عن النار.
تمهيد :
تستعرض الآيات مشاهد القيامة، حيث يكون المشركون ومعبوداتهم من الأصنام حطبا للنار حين يردونها، أما من كتب له السعادة والنجاة من النار، فهؤلاء مبعدون من النار، لا يسمعون أصواتها، وتتلقاهم الملائكة بالبشرى والتهنئة، قائلين : هذا يومكم الذي كنتم توعدون.
وفي هذا اليوم تطوى السماء طويا، كما يطوى الكاتب الطومار، الذي يكتب فيه، أو كما يجمع فهرس المكتبة محتوياتها، ولعل فيما استجد من وجود الأشرطة الممغنطة التي يجمع فيها محتويات مكتبة كبيرة، تفسيرا لهذه الآية.
٩٩ - لَوْ كَانَ هَؤُلَاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ.
لو كان هؤلاء الأصنام آلهة ؛ لدفعت الضر عن نفسها، وما ألقى بها في النار، وما قذفوا فيها كما يقذف الحطب.
وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ.
أي : العابدون والمعبودون باقون في النار على سبيل الخلود الأبدي.
تمهيد :
تستعرض الآيات مشاهد القيامة، حيث يكون المشركون ومعبوداتهم من الأصنام حطبا للنار حين يردونها، أما من كتب له السعادة والنجاة من النار، فهؤلاء مبعدون من النار، لا يسمعون أصواتها، وتتلقاهم الملائكة بالبشرى والتهنئة، قائلين : هذا يومكم الذي كنتم توعدون.
وفي هذا اليوم تطوى السماء طويا، كما يطوى الكاتب الطومار، الذي يكتب فيه، أو كما يجمع فهرس المكتبة محتوياتها، ولعل فيما استجد من وجود الأشرطة الممغنطة التي يجمع فيها محتويات مكتبة كبيرة، تفسيرا لهذه الآية.
١٠٠ - لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ.
الزفير : صوت نفس المغموم يخرج من أقصى الجوف.
أي : ولهم في النار من شدة العذاب وشدة الكرب والغم، أنين وتنفس شديد، يخرج من أقصى الجوف بصعوبة وعسر، كما هو شأن المغموم المحزون، كما قال تعالى : لهم فيها زفير وشهيق. ( هود : ١٠٦ ).
وأصل الزفير : ترديد النفس حتى تنتفخ منه الضلوع.
وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ.
أي : لا يسمعون ما يسرهم أو ينفعهم، بل يسمعون صوت من يتولى تعذيبهم من الزبانية.
قال القرطبي :
وسماع الأشياء فيه روح وأنس. فمنع الله الكفار من ذلك في النار.
وقال ابن مسعود :
إذا بقى من يخلد في نار جهنم، جعلوا في توابيت من نار، فيها مسامير من نار فلا يسمعون شيئا، ولا يرى أحد منهم أنه يعذب في النار غيره، ثم تلا الآية : لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ.
تمهيد :
تستعرض الآيات مشاهد القيامة، حيث يكون المشركون ومعبوداتهم من الأصنام حطبا للنار حين يردونها، أما من كتب له السعادة والنجاة من النار، فهؤلاء مبعدون من النار، لا يسمعون أصواتها، وتتلقاهم الملائكة بالبشرى والتهنئة، قائلين : هذا يومكم الذي كنتم توعدون.
وفي هذا اليوم تطوى السماء طويا، كما يطوى الكاتب الطومار، الذي يكتب فيه، أو كما يجمع فهرس المكتبة محتوياتها، ولعل فيما استجد من وجود الأشرطة الممغنطة التي يجمع فيها محتويات مكتبة كبيرة، تفسيرا لهذه الآية.
١٠١ - إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ.
الحسنى : الكلمة الحسنى التي تتضمن البشارة بثوابهم، حين الجزاء على أعمالهم.
أي : سبقت لهم منا السعادة، أو التوفيق للخير والطاعة، كما قال تعالى : للذين أحسنوا الحسنى وزيادة... ( يونس : ٢٦ ).
روى : أن عليا رضي الله عنه قرأ هذه الآية ثم قال : أنا منهم، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد، وسعيد، وعبد الرحمن بن عوف. ١ ه.
أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ.
أي : مبعدون عن دخول النار إبعادا تاما بفضل الله ورحمته، لا يصلون حرها ولا يذوقون عذابها.
قال ابن عباس :
أولئك أولياء الله، يمرون على الصراط أسرع من البرق، ويبقى الكفار فيها جثيا.
وقال ابن كثير :
نزلت في عيسى وعزير والملائكة.
وقال الضحاك :
عيسى ومريم والملائكة والشمس والقمر.
تمهيد :
تستعرض الآيات مشاهد القيامة، حيث يكون المشركون ومعبوداتهم من الأصنام حطبا للنار حين يردونها، أما من كتب له السعادة والنجاة من النار، فهؤلاء مبعدون من النار، لا يسمعون أصواتها، وتتلقاهم الملائكة بالبشرى والتهنئة، قائلين : هذا يومكم الذي كنتم توعدون.
وفي هذا اليوم تطوى السماء طويا، كما يطوى الكاتب الطومار، الذي يكتب فيه، أو كما يجمع فهرس المكتبة محتوياتها، ولعل فيما استجد من وجود الأشرطة الممغنطة التي يجمع فيها محتويات مكتبة كبيرة، تفسيرا لهذه الآية.
١٠٢ - لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ.
الحسيس : الصوت الذي يحس من حركتها. لا يسمعون صوت النار وحريقها ولهيبها وهيجانها ؛ لأنهم قد استقروا في الجنة، وصاروا في أمان واطمئنان.
وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ.
وهم في ما تتمناه أنفسهم، وتشتهيه أفئدتهم، وتنشرح له صدورهم، خالدون خلودا أبديا، لا ينغصه حزن أو انقطاع.
قال تعالى : وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ. ( الزخرف : ٧١ ).
تمهيد :
تستعرض الآيات مشاهد القيامة، حيث يكون المشركون ومعبوداتهم من الأصنام حطبا للنار حين يردونها، أما من كتب له السعادة والنجاة من النار، فهؤلاء مبعدون من النار، لا يسمعون أصواتها، وتتلقاهم الملائكة بالبشرى والتهنئة، قائلين : هذا يومكم الذي كنتم توعدون.
وفي هذا اليوم تطوى السماء طويا، كما يطوى الكاتب الطومار، الذي يكتب فيه، أو كما يجمع فهرس المكتبة محتوياتها، ولعل فيما استجد من وجود الأشرطة الممغنطة التي يجمع فيها محتويات مكتبة كبيرة، تفسيرا لهذه الآية.
١٠٣ - لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ.
يقارن القرآن بين صنوف العذاب في النار، وصنوف النعيم لأهل الجنة، فأهل الجنة في أمان واطمئنان وانشراح صدر، ونعيم مقيم، وفي القيامة أهوال وفزع وهلع، بيد أن أهل الجنة قد منحوا الرضا وحفظهم الله من النار، ومن سماع أصواتها وهي تحرق الكافرين، ولا يسمعون صوتها الذي يحس من حركة حريقها ولهيبها.
لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ.
لا تخيفهم أهوال القيامة، والنفخ في الصور، والبعث من القبور، وأهوال البعث والحشر والحساب، بل تلقاهم الملائكة فتبشرهم بالجنة والمسرة والكرامة.
وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ.
أي : تتلقاهم الملائكة عند القيام من قبورهم، وقيل : على أبواب الجنة فتقول لهم : هذا هو يومكم، الذي كنتم توعدون به في الدنيا من خالقكم، جزاء إيمانكم وعملكم الصالح.
تمهيد :
تستعرض الآيات مشاهد القيامة، حيث يكون المشركون ومعبوداتهم من الأصنام حطبا للنار حين يردونها، أما من كتب له السعادة والنجاة من النار، فهؤلاء مبعدون من النار، لا يسمعون أصواتها، وتتلقاهم الملائكة بالبشرى والتهنئة، قائلين : هذا يومكم الذي كنتم توعدون.
وفي هذا اليوم تطوى السماء طويا، كما يطوى الكاتب الطومار، الذي يكتب فيه، أو كما يجمع فهرس المكتبة محتوياتها، ولعل فيما استجد من وجود الأشرطة الممغنطة التي يجمع فيها محتويات مكتبة كبيرة، تفسيرا لهذه الآية.
١٠٤ - يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ.
السجل : هو الصحيفة.
اذكر : يوم نطوي السماء كما يطوى خازن الصحائف صحائفه، وقد انتهت الدنيا، وبدلت الأرض غير الأرض والسماوات، وحشر الناس حفاة عراة غرلا، كما ولدتهم أمهاتهم.
روى الشيخان والإمام أحمد : عن ابن عباس قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بموعظة فقال : إنكم محشورون إلى الله عز وجل حفاة عراة غرلا، كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ. ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام، يقول الله : اكسوا خليلي لا أرى خليلي عريانا٣٢.
وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ.
أي : وعدا مؤكدا علينا، لا يخلف ولا يبدل، لازم علينا إنجازه والوفاء به.
إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ.
قادرين على ما نشاء، وقد جاء هذا المعنى في القرآن بما يفيد أن الأرض تطوى وتبدل، وكذلك السماوات، وأن الناس تحشر ويعاد خلقها كما خلقها الله تعالى أول مرة.
قال تعالى : وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ. ( الزمر : ٦٧ ).
وقال تعالى : وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ. ( يس : ٧٨، ٧٩ ).
ويرى بعض العلماء أن هذه الآية يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ. تشير إلى التقدم العلمي في حفظ وثائق المكتبات ومحتوياتها من الكتب داخل أشرطة ممغنطة يطوى في داخلها معلومات آلاف الكتب، فتكون هذه الأشرطة سجلا لكتب مكتبات كبيرة وكذلك تطوى السماوات يوم القيامة في قبضة الرحمان سبحانه وتعالى كطي السجل للكتب، وهذه الأشرطة في مجموعها مثل كرة كانت الأساس في خلق السماوات والأرض وسائر أجزاء الكون، والله أعلم.
﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ( ١٠٥ ) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ ( ١٠٦ ) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ( ١٠٧ ) ﴾.
تمهيد :
تفيد الآيات أن ما أوحي إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، كاف لمن يعتبر بسنن الله في الكون فيستفيد منها، ما ينفعه في دينه ودنياه، فجميع ما جاء به الوحي من المواعظ وأحكام الشرائع، هداية وذكرى لو تدبرها المتدبرون، وتأملها المنصفون.
التفسير :
١٠٥ - وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ.
الزبور : الكتب التي أنزلت على الأنبياء.
الذكر : اللوح المحفوظ.
يطلق الزبور على الكتاب الذي أعطى لسيدنا داود، قال تعالى : وآتينا داود زبورا. ( الإسراء : ٥٥ ).
ويطلق الذكر على التوراة. قال تعالى : وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاء وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ. ( الأنبياء : ٤٨ ).
ويكون المعنى :
ولقد كتبنا في زبور داود من بعد توراة موسى، أن ميراث الأرض والسيطرة عليها، والنجاح في الغلبة على أرض الدنيا، يكون لمن أخذ بأسباب الحضارة والقوة والتقدم والعمل والأمل، وودع الكسل والترف والتراخي والفتور، فهو صالح لعمارة الأرض واستغلال خيراتها، وأهل لميراثها.
وتحتمل الآية وجها آخر :
أن المراد بالزبور : المزبور أي : المكتوب، تقول : زبرت الكتاب، أي : كتبته، ويكون المراد بالزبور : جميع الكتب السماوية، التي كتبها الله إلى رسله، وأنزلها إلى خلقه، ويكون المراد بالذكر : اللوح المحفوظ، كأن الآية تشير إلى ناموس عام، وقاعدة إلهية، وسنة من سنن الله الكونية، أن من تكون له الغلبة والرياسة، والقدرة والقوة والسيطرة على أرض الدنيا، هم أهل الصلاح والعمل.
اتجاهان للمفسرين :
من المفسرين من رأى أن المراد بالأرض أرض الجنة، واستشهد بقوله تعالى في القرآن الكريم :
وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ. ( الزمر : ٧٤ ).
ومن المفسرين من رأى أن المراد بالأرض أرض الدنيا واستشهد بقوله تعالى : وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ. ( القصص : ٥، ٦ ).
وعند التأمل نرى أنه لا يمنع أن يكون من إعجاز الآية، صلاحها للإطلاقين معا في وقت واحد، فيراد من الأرض أرض الدنيا وعزها، وأرض الجنة ونعيمها، فعباد الله الصالحون، الذين يعملون ويجمعون بين العمل المادي، والصلاح والتقوى، أهل لميراث التفوق في أرض الدنيا، ودخول الجنة في الآخرة.
من تفسير ابن كثير :
يقول تعالى : مخبرا عما حتمه وقضاه لعباده الصالحين من السعادة، في الدنيا والآخرة، ووراثة الأرض في الدنيا والآخرة، كقوله تعالى : إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ. ( الأعراف : ١٢٨ ).
وقال : إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ. ( غافر : ٥١ ).
وقال تعالى : وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ... ( النور : ٥٥ ).
وأخبر تعالى أن هذا مسطور في الكتب الشرعية والقدرية وهو كائن لا محالة، ولهذا قال تعالى :
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ.
قال مجاهد : الزبور : الكتب، والذكر : أم الكتاب عند الله. واختار ذلك ابن جرير رحمه الله. ١ ه.
وجاء في تفسير المراغي ما خلاصته :
صلاح الأمة يقوم على أربعة عمد :
١ – أن يكون قادتها علماء مفكرين، وساستها حكماء عادلين بعيدين عن الجور والظلم، يعملون لخير الأمة ورقيها.
٢ – أن يكون لها جيش منظم متطور متقدم، فيه المهندسون والمخترعون والقادة البارعون، ولديه من الأسلحة ووسائل الدفاع، ما يكشف عنه العلم المتطور، من طائرات وغواصات وسفن حربية، وجند حذقوا فنون الحرب، وبلوا أساليبها المختلفة.
٣ – أن يقوم أبناء الحرف المختلفة من تجار وصناع وزراع بأداء أعمالهم على الوجه المرضي، وكل طائفة تظاهر الطوائف الأخرى، وتعاونها الجميع.
٤ – أن تنظم هذه الطوائف أعمالها، بحيث تتوزع هذه المهن بيد الأفراد بحسب حاجة الأمة، ويكون في كل طائفة جماعة مبرزون، يفكرون فيما يرقي شئون الطائفة، بحيث تنافس أمثالها في الأمم الأخرى أو تفوقها، وهذا حكم أيدته التجارب، في سائر العصور لدى جميع الدول.
تمهيد :
تفيد الآيات أن ما أوحي إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، كاف لمن يعتبر بسنن الله في الكون فيستفيد منها، ما ينفعه في دينه ودنياه، فجميع ما جاء به الوحي من المواعظ وأحكام الشرائع، هداية وذكرى لو تدبرها المتدبرون، وتأملها المنصفون.
١٠٦ - إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ.
البلاغ : الكافية.
العابد : من عمل بما يعلم من أحكام الشريعة وآدابها.
للعلماء رأيان في تفسير هذه الآية :
الأول : إن فيما ذكر في هذه السورة من أنظمة الدول وأسباب الرقي والترقي، لكفاية لقوم يجمعون بين العلم والعمل، فعلى المسلمين قاطبة، أن يقوموا قومة رجل واحد، متماسكين متعاونين، في سبيل رقي أمتهم، وتنظيم شئونها، وتربية أبنائها، تربية تؤهلهم أن يكونوا قادة العالم الإنساني.
الرأي الثاني : إن في هذا القرآن وما يكشفه من سنن في الكون والحياة، ومن مصائر الناس في الدنيا والآخرة، ومن قواعد العمل والجزاء، إن في هذا لبلاغا وكفاية للمستعدين لاستقبال هدى الله.
قال ابن كثير :
إن في هذا القرآن الذي أنزلناه على عبدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبلاغا ومنفعة وكفاية، لقوم عابدين. وهم الذين عبدوا الله بما شرعه، وأحبه ورضيه، وآثروا طاعة الله على طاعة الشيطان، وشهوات أنفسهم. ١ ه.
تمهيد :
تفيد الآيات أن ما أوحي إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، كاف لمن يعتبر بسنن الله في الكون فيستفيد منها، ما ينفعه في دينه ودنياه، فجميع ما جاء به الوحي من المواعظ وأحكام الشرائع، هداية وذكرى لو تدبرها المتدبرون، وتأملها المنصفون.
١٠٧ - وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ.
أرسل الله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم على حين فترة من الرسل، فكان رحمة مهداة، وكانت شريعته جامعة لمطالب الجسم والروح، مشتملة على أصول التشريع، ومكارم الأخلاق، وجوامع الآداب، وأصول الخير والبر، وتركت للعقل البشري أن يجتهد في شئون دينه ودنياه، في كل ما يجد أمام الإنسان، وقد اشتمل القرآن على أصول الرحمة والدعوة إلى التراحم والتعاطف، وكان صلى الله عليه وآله وسلم أرحم الناس، قال تعالى : لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ. ( التوبة : ١٢٨ ).
والرحمة سمة ملموسة في التشريع الإسلامي، لذلك خفف الله عن المريض والمسافر الصوم في رمضان، وأباح للحامل والمرضع والشيخ الكبير الإفطار في رمضان، وفتح الله باب التوبة لكل المذنبين، ونهى عن اليأس والقنوط، ودعا الناس جميعا إلى الدخول في رحابه واللجوء إلى كنفه قال تعالى : قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم. ( الزمر : ٥٤ ).
وقال تعالى : وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ. ( الأعراف : ١٥٦ ).
وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم مبلغ الرسالة، والرحمة المهداة، الذي تحمل المشاق في الدعوة إلى هذا الدين في مكة والمدينة، ولم يرسله الله سبابا ولا لعانا، بل أرسله ليتمم مكارم الأخلاق، وقد وضعت هذه الرسالة أسس الحق والخير، ومبادئ الكمال والبر، فكانت نعمة على الناس أجمعين.
عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى :
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ.
قال : من تبعه كان له رحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يتبعه عوفي مما كان يبتلى به سائر الأمم من الخسف والمسخ والقذف٣٣.
﴿ قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ( ١٠٨ ) فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاء وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ ( ١٠٩ ) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ ( ١١٠ ) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ( ١١١ ) قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ( ١١٢ ) ﴾.
تمهيد :
تأتي هذه الآيات في ختام السورة، بمثابة الإعذار والإنذار إلى الكافرين، فالله واحد لا شريك له، فهل أنتم مسلمون ومؤمنون به ؟
والموت يأتي بغتة، ولا أعلم هل عذابكم قريب أم بعيد ؟
فالله وحده العليم بكل شيء، الخبير بما تستحقون، فالله قاض عادل يحكم بيني وبينكم، وهو المستعان على أقوالكم وكفركم.
التفسير :
١٠٨ - قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ.
مسلمون : منقادون خاضعون.
هذه خلاصة لب الإسلام والأديان، أن للكون كله إلها واحدا هو الله سبحانه وتعالى، وهذا التوحيد يخلص البشرية من الخضوع للأوثان، ومن الخضوع للخرافة والأسطورة، ومن الخضوع للترف والنزوات، لأن الإيمان بإله واحد، يرفع هامة الإنسان، حيث يعتز بالإيمان، وبالاعتماد على الإله الواحد الأحد، الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.
وخلاصة معنى الآية :
قل يا محمد لقومك وللناس أجمعين، إن الوحي الذي ينزل على أساسه ولبه أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ. أي : إن معبودكم واحد هو الله، فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ. هلا أسلمتم وجوهكم له، وآمنتم به لتدخلوا في ساحة التوحيد، وتكسبوا سلامة الفطرة، وحلاوة الإيمان، وشرف الدنيا وسعادة الآخرة.
تمهيد :
تأتي هذه الآيات في ختام السورة، بمثابة الإعذار والإنذار إلى الكافرين، فالله واحد لا شريك له، فهل أنتم مسلمون ومؤمنون به ؟
والموت يأتي بغتة، ولا أعلم هل عذابكم قريب أم بعيد ؟
فالله وحده العليم بكل شيء، الخبير بما تستحقون، فالله قاض عادل يحكم بيني وبينكم، وهو المستعان على أقوالكم وكفركم.
١٠٩ - فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاء وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ.
تولوا : أعرضوا.
آذنتكم : أعلمتكم، وكثر استعماله في الإنذار، كما في قوله تعالى : فأذنوا بحرب من الله ورسوله. ( البقرة : ٢٧٩ ).
ما توعدون : من غلبة المسلمين عليكم.
فإن أعرضوا عنك يا محمد ولم يؤمنوا بك، فقل لهم : لقد أديت رسالتي، وأعلمتكم بوحي الله رب العالمين، فليس علي إلا البلاغ، أما عاقبة تكذيبكم لي، فلا أعلم تحديد الوقت، الذي تصيبكم فيه عاقبة التكذيب، فأنا بشر علي البلاغ، أما عذاب السماء فلا يعلم وقت نزوله إلا الله.
قال صاحب الظلال :
فالمقصود هو أن يعلنهم بأنه قد نفض يده منهم، وتركهم عالمين بمصيرهم، وأنذرهم عاقبة أمرهم، فلم يعد لهم بعد ذلك عذر، فليذوقوا وبال أمرهم وهم عالمون.
وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ.
قال ابن كثير : أي : هو واقع لا محالة، ولكن لا علم لي بقربه ولا ببعده.
وقال الزمخشري في تفسير الكشاف :
وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ.
أي : إن غلبة المسلمين عليكم أمر كائن لا محالة، ولا بد أن يلحقكم بذلك الذلة والصغار، وإن كنت لا أدري متى يكون ذلك، لأن الله لم يعلمني علمه، ولم يطلعني عليه. ١ه.
وقيل : المراد لا أدري متى تقوم الساعة، ويأتيكم ما توعدون من الجزاء العادل الذي ينتظركم.
تمهيد :
تأتي هذه الآيات في ختام السورة، بمثابة الإعذار والإنذار إلى الكافرين، فالله واحد لا شريك له، فهل أنتم مسلمون ومؤمنون به ؟
والموت يأتي بغتة، ولا أعلم هل عذابكم قريب أم بعيد ؟
فالله وحده العليم بكل شيء، الخبير بما تستحقون، فالله قاض عادل يحكم بيني وبينكم، وهو المستعان على أقوالكم وكفركم.
١١٠ - إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ.
إنه سبحانه مطلع على كل شيء، تنكشف أمامه جميع الموجودات انكشافا تاما دون سبق خفاء.
والله بكل شيء عليم. ( النور : ٦٤ ).
فهو سبحانه مطلع على قولكم الظاهر، وما تضمرونه في صدوركم، وحين يجازيكم على أعمالكم، يكون جزاؤه عادلا، لأنه خبير بأعمالكم الظاهرة والباطنة، ولا تخفى عليه خافية.
تمهيد :
تأتي هذه الآيات في ختام السورة، بمثابة الإعذار والإنذار إلى الكافرين، فالله واحد لا شريك له، فهل أنتم مسلمون ومؤمنون به ؟
والموت يأتي بغتة، ولا أعلم هل عذابكم قريب أم بعيد ؟
فالله وحده العليم بكل شيء، الخبير بما تستحقون، فالله قاض عادل يحكم بيني وبينكم، وهو المستعان على أقوالكم وكفركم.
١١١ - وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ.
فتنة : اختبار.
أي : ما أدري لعل تأخير العذاب لكم، امتحان أو استدراج لكم، تستمتعون بملاذ الحياة، وتنعمون بأفضال الله وقتا ما، لتكون الفرصة سانحة للتوبة، والمهلة كافية لأن يتزود الإنسان الكافر، بكل عرض الدنيا وشهواتها، حتى إذا أخذه الله، أخذه أخذ عزيز مقتدر، وهكذا يسير الحوار ويتركهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في جهالة من وقت نزول العذاب، ليستنفر فيهم الترقب وانتظار المجهول، والتذكر لمن كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد.
تمهيد :
تأتي هذه الآيات في ختام السورة، بمثابة الإعذار والإنذار إلى الكافرين، فالله واحد لا شريك له، فهل أنتم مسلمون ومؤمنون به ؟
والموت يأتي بغتة، ولا أعلم هل عذابكم قريب أم بعيد ؟
فالله وحده العليم بكل شيء، الخبير بما تستحقون، فالله قاض عادل يحكم بيني وبينكم، وهو المستعان على أقوالكم وكفركم.
١١٢ - قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ.
احكم : اقض.
بالحق : بالعدل، والمراد بذلك تعجيل العذاب لهم.
ما تصفون : ما تقولون وتفترون من الكذب كقولكم : بل افتراه بل هو شاعر. ( الأنبياء : ٥ ) وقولكم : إن للرحمان ولدا.
أي : قال محمد صلى الله عليه وآله وسلم مناجيا ربه : رب احكم بالحق والعدل بيني وبين قومي الذين كذبوني، وَرَبُّنَا الرَّحْمَانُ. رحمته واسعة وقد أرسلني رحمة مهداة، الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ. أي : أستعين بالله وأتحصن به، مما تصفون به الله من الشرك والكفر، وأنه له ولد، أو أنه ثالث ثلاثة، وما تصفون به القرآن، من أنه أساطير الأولين، أو سجع كهان، وما تصفون به محمدا من أنه كذاب أو ساحر أو شاعر.
وخلاصة ذلك : أنه طلب من ربه أن يحكم بما يظهر الحق للجميع، وأمره ربه أن يتوعد الكفار بقوله : وَرَبُّنَا الرَّحْمَانُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ.
وقرأ أكثر القراء السبعة : قَلْ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ... بصيغة الأمر، وهذه القراءة تدل على أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد أمره الله تعالى أن يقول ذلك.
من تفسير ابن كثير :
قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ.
أي : افصل بيننا وبين قومنا المكذبين بالحق، قال قتادة : كانت الأنبياء عليهم السلام يقولون : رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ. ( الأعراف : ٨٩ ). وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول ذلك، وعن مالك، عن زيد بن أسلم : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا شهد غزاة قال : رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ. وقوله :
وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ.
أي : على ما يقولون ويفترون من الكذب، ويتنوعون في مقامات التكذيب والإفك، والله المستعان عليكم في ذلك. ١ ه.
وقرئ تصفون. بالتاء والياء.
قال الزمخشري :
كانوا يصفون الحال على خلاف ما جرت عليه، وكانوا يطمعون أن تكون لهم الشوكة والغلبة، فكذب الله ظنونهم، وخيب آمالهم، ونصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، وخذل الكافرين.
Icon