تفسير سورة الأنبياء

أحكام القرآن للجصاص
تفسير سورة سورة الأنبياء من كتاب أحكام القرآن المعروف بـأحكام القرآن للجصاص .
لمؤلفه الجصَّاص . المتوفي سنة 370 هـ

سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق الْمَرْوَزِيِّ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ الجرجاني قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عن قتادة نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ قَالَ فِي حَرْثِ قَوْمٍ وَقَالَ مَعْمَرٌ قَالَ الزُّهْرِيُّ النَّفْشُ لَا يَكُونُ إلَّا بِاللَّيْلِ وَالْهَمْلُ بِالنَّهَارِ وَقَالَ قَتَادَةُ فَقَضَى أَنْ يَأْخُذُوا الْغَنَمَ فَفَهَّمَهَا اللَّهُ سُلَيْمَانَ فَلَمَّا أُخْبِرَ بِقَضَاءِ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَا وَلَكِنْ خُذُوا الْغَنَمَ فَلَكُمْ مَا خَرَجَ مِنْ رَسْلِهَا وَأَوْلَادِهَا وَأَصْوَافِهَا إلَى الْحَوْلِ وَرَوَى أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ مُرَّةَ عن مسروق وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ قَالَ كَانَ الْحَرْثُ كَرْمًا فَنَفَشَتْ فِيهِ لَيْلًا فَاجْتَمَعُوا إلَى دَاوُد فَقَضَى بِالْغَنَمِ لِأَصْحَابِ الْحَرْثِ فَمَرُّوا بِسُلَيْمَانَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ أَوَّلًا تدفع الغنم إلى هؤلاء فيصيبون منها قوم هؤلاء حَرْثِهِمْ حَتَّى إذَا عَادَ كَمَا كَانَ رَدُّوا عليهم فنزلت فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ الْأَحْنَفِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ فِي قِصَّةِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إذَا نَفَشَتْ لَيْلًا فِي زَرْعِ رِجْلٍ فَأَفْسَدَتْهُ أَنَّ عَلَى صَاحِبِ الْغَنَمِ ضَمَانَ مَا أَفْسَدَتْ وَإِنْ كَانَ نَهَارًا لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا وَأَصْحَابُنَا لَا يَرَوْنَ فِي ذَلِكَ ضَمَانًا لَا لَيْلًا وَلَا نهارا إذ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُ الْغَنَمِ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَهَا فِيهَا وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِقَضِيَّةِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَاجْتِمَاعِهِمَا عَلَى إيجَابِ الضَّمَانِ وَبِمَا
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابن مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ حرام ابن مُحَيِّصَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ نَاقَةً لِلْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ دَخَلَتْ حَائِطَ رِجْلٍ فَأَفْسَدَتْهُ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ الْأَمْوَالِ حِفْظَهَا بِالنَّهَارِ وَعَلَى أَهْلِ الْمَوَاشِي حِفْظَهَا بِاللَّيْلِ
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ حَدَّثَنَا الْفِرْيَابِيُّ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ حَرَامِ بْنِ مُحَيِّصَةَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ كَانَتْ لَهُ نَاقَةٌ ضَارِيَةٌ فَدَخَلَتْ حَائِطًا فَأَفْسَدَتْ فِيهِ فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا فَقَضَى أَنَّ حِفْظَ الْحَوَائِطِ بِالنَّهَارِ عَلَى أَهْلِهَا وَأَنَّ حِفْظَ الْمَاشِيَةِ بِاللَّيْلِ عَلَى أَهْلِهَا
وَأَنَّ عَلَى أَهْلِ الْمَاشِيَةِ مَا أَصَابَتْ مَاشِيَتُهُمْ بِاللَّيْلِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ ذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ حَرَامُ بْنُ مُحَيِّصَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ نَاقَةً لِلْبَرَاءِ وَذَكَرَ
53
فِي هَذَا الْحَدِيثِ حَرَامُ بْنُ مُحَيِّصَةَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ ضَمَانَ مَا أَصَابَتْ الْمَاشِيَةُ لَيْلًا وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْحِفْظَ فَقَطْ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اضْطِرَابِ الْحَدِيثِ بِمَتْنِهِ وَسَنَدِهِ
وَذَكَرَ سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ حَرَامِ بْنِ مُحَيِّصَةَ فَقَالَ وَلَمْ يَجْعَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ شَيْئًا ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ حُكْمَ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ بِمَا حَكَمَا بِهِ مِنْ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ حَكَمَ بِدَفْعِ الْغَنَمِ إلَى صَاحِبِ الْحَرْثِ وَحَكَمَ سُلَيْمَانُ لَهُ بِأَوْلَادِهَا وَأَصْوَافِهَا وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ مَنْ نَفَشَتْ غَنَمُهُ فِي حَرْثِ رِجْلٍ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ الْغَنَمِ وَلَا تَسْلِيمُ أَوْلَادِهَا وَأَلْبَانِهَا وَأَصْوَافِهَا إلَيْهِ فَثَبَتَ أَنَّ الْحُكْمَيْنِ جَمِيعًا مَنْسُوخَانِ بِشَرِيعَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ قِيلَ قَدْ تَضَمَّنَتْ الْقِصَّةُ معاني مِنْهَا وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى صَاحِبِ الْغَنَمِ وَمِنْهَا كَيْفِيَّةُ الضَّمَانِ وَإِنَّمَا الْمَنْسُوخُ مِنْهُ كَيْفِيَّةُ الضَّمَانِ وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ الضَّمَانَ نَفْسَهُ مَنْسُوخٌ قِيلَ لَهُ قَدْ ثَبَتَ نَسْخُ ذَلِكَ أَيْضًا عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَبَرٍ قَدْ تَلَقَّاهُ النَّاسُ بِالْقَبُولِ وَاسْتَعْمَلُوهُ
رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ وَهُزَيْلُ بْنُ شُرَحْبِيلَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ جُرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي اسْتِعْمَالِ هَذَا الْخَبَرِ فِي الْبَهِيمَةِ الْمُنْفَلِتَةِ إذَا أَصَابَتْ إنْسَانًا أَوْ مَالًا أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِهَا إذَا لَمْ يُرْسِلْهَا هُوَ عَلَيْهِ فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلًا عِنْدَ الْجَمِيعِ وَكَانَ عُمُومُهُ يَنْفِي ضَمَانَ مَا تُصِيبُهُ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا ثَبَتَ بِذَلِكَ نَسْخُ مَا ذُكِرَ فِي قِصَّةِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَنُسِخَ مَا ذُكِرَ فِي قِصَّةِ الْبَرَاءِ أَنَّ فِيهَا إيجَابَ الضَّمَانِ لَيْلًا وَأَيْضًا سَائِرُ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلضَّمَانِ لَا يَخْتَلِفُ فِيهَا الْحُكْمُ بِالنَّهَارِ وَاللَّيْلِ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ أَوْ نَفْيِهِ فَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى نَفْيِ ضَمَانِ مَا أَصَابَتْ الْمَاشِيَةُ نَهَارًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمَهَا لَيْلًا وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا أَوْجَبَ الضَّمَانَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ إذَا كَانَ صَاحِبُهَا هُوَ الَّذِي أَرْسَلَهَا فِيهِ وَيَكُونُ فَائِدَةُ الْخَبَرِ أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ السَّائِقَ لَهَا بِاللَّيْلِ بَيْنَ الزُّرُوعِ وَالْحَوَائِطِ لَا يَخْلُو مِنْ نَفْشِ بَعْضِ غَنَمِهِ فِي زُرُوعِ النَّاسِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ فَأَبَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ حكمهما إذَا أَصَابَتْ زَرْعًا وَيَكُونُ فَائِدَةُ الْخَبَرِ إيجَابَ الضَّمَانِ بِسَوْقِهِ وَإِرْسَالِهِ فِي الزُّرُوعِ وَإِنْ لَمْ يعلم بذلك وبين ما تَسَاوِي حُكْمِ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ فِيهِ وَجَائِزٌ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ قَضِيَّةُ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ كَانَتْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِأَنْ يَكُونَ صَاحِبُهَا أَرْسَلَهَا لَيْلًا وَسَاقَهَا وَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِنَفْشِهَا فِي حَرْثِ الْقَوْمِ فَأَوْجَبَا عَلَيْهِ الضَّمَانَ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مُحْتَمَلًا لَمْ تَثْبُتْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى مَوْضِعِ
54
الْخِلَافِ وَقَدْ تَنَازَعَ الْفَرِيقَانِ مِنْ الْمُخْتَلِفِينَ فِي حُكْمِ الْمُجْتَهِدِ فِي الْحَادِثَةِ الْقَائِلُونَ مِنْهُمْ بِأَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْحَقَّ فِي جَمِيعِ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ فَاسْتَدَلَّ كُلٌّ مِنْهُمْ بِالْآيَةِ عَلَى قَوْلِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِينَ قَالُوا بِأَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ زَعَمُوا أَنَّهُ لَمَّا قَالَ تَعَالَى فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ فَخَصَّ سُلَيْمَانَ بِالْفَهْمِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ الْمُصِيبُ لِلْحَقِّ عِنْدَ اللَّهِ دُونَ دَاوُد إذْ لَوْ كَانَ الْحَقُّ فِي قَوْلَيْهِمَا لَمَا كَانَ لِتَخْصِيصِ سُلَيْمَانَ بِالْفَهْمِ دُونَ دَاوُد مَعْنًى وَقَالَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ لَمَّا لَمْ يُعَنَّفْ دَاوُد عَلَى مَقَالَتِهِ وَلَمْ يُحْكَمْ بِتَخْطِئَتِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا جَمِيعًا كَانَا مُصِيبَيْنِ وَتَخْصِيصُهُ لِسُلَيْمَانَ بِالتَّفْهِيمِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ دَاوُد كَانَ مُخْطِئًا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ سُلَيْمَانُ أَصَابَ حَقِيقَةَ الْمَطْلُوبِ فَلِذَلِكَ خُصَّ بِالتَّفْهِيمِ وَلَمْ يُصِبْ دَاوُد عَيْنَ الْمَطْلُوبِ وَإِنْ كَانَ مُصِيبًا لِمَا كُلِّفَ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إنَّ حُكْمَ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ جَمِيعًا كَانَ مِنْ طَرِيقِ النَّصِّ لَا مِنْ جِهَةِ الِاجْتِهَادِ وَلَكِنَّ دَاوُد لَمْ يَكُنْ قَدْ أَبْرَمَ الْحُكْمَ وَلَا أَمْضَى الْقَضِيَّةَ بِمَا قَالَ أَوْ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْفُتْيَا لَا عَلَى جِهَةِ إنْفَاذِ الْقَضَاءِ بِمَا أَفْتَى بِهِ أَوْ كَانَتْ قَضِيَّةً مُعَلَّقَةً بِشَرِيطَةٍ لَمْ تُفَصَّلْ بَعْدُ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَى سُلَيْمَانَ بِالْحُكْمِ الَّذِي حَكَمَ بِهِ وَنُسِخَ بِهِ الْحُكْمُ الَّذِي كَانَ دَاوُد أَرَادَ أَنْ يُنْفِذَهُ قَالُوا وَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُمَا قَالَا ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الرَّأْيِ قَالُوا وَقَوْلُهُ فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ يَعْنِي بِهِ تَفْهِيمَهُ الْحُكْمَ النَّاسِخَ وَهَذَا قَوْلُ مَنْ لَا يُجِيزُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ والرأى وإنما يقوله مِنْ طَرِيقِ النَّصِّ آخِرَ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ.
سُورَةُ الْحَجِّ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ لَمْ يَخْتَلِفْ السَّلَفُ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي السَّجْدَةِ الْأُولَى مِنْ الْحَجِّ أَنَّهَا مَوْضِعُ سُجُودٍ وَاخْتَلَفُوا فِي الثَّانِيَةِ مِنْهَا وَفِي الْمُفَصَّلِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا سُجُودُ الْقُرْآنِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَجْدَةً مِنْهَا الأولى من الحج وسجود المفصل في ثلاث مَوَاضِعَ وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَقَالَ مَالِكٌ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ عَزَائِمَ سُجُودِ الْقُرْآنِ إحْدَى عَشْرَةَ سَجْدَةً لَيْسَ فِي الْمُفَصَّلِ مِنْهَا شَيْءٌ وَقَالَ اللَّيْثُ أَسْتَحِبُّ أَنْ يُسْجَدَ فِي سُجُودِ الْقُرْآنِ كُلِّهِ وَسُجُودِ الْمُفَصَّلِ وَمَوْضِعِ السُّجُودِ مِنْ حم إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ سُجُودُ الْقُرْآنِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَجْدَةً سِوَى سَجْدَةِ [ص] فَإِنَّهَا سَجْدَةُ شُكْرٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَاعْتُدَّ بِآخِرِ الْحَجِّ سُجُودًا
وَقَدْ روى
55
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَجَدَ فِي [ص]
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي سجدة حم أسجد بِآخِرِ الْآيَتَيْنِ كَمَا قَالَ أَصْحَابُنَا
وَرَوَى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْجُدْ فِي النَّجْمِ
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ سَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّجْمِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ لَيْسَ فِيمَا رَوَى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ مِنْ ترك النبي صلّى الله عليه وسلّم السجود فِي النَّجْمِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ فيه ذلك لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ لَا يَكُونَ سَجَدَ لِأَنَّهُ صَادَفَ عِنْدَ تِلَاوَتِهِ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْ السُّجُودِ فِيهَا فَأَخَّرَهُ إلَى وَقْتٍ يَجُوزُ فِعْلُهُ فِيهِ وَجَائِزٌ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ عِنْدَ التِّلَاوَةِ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ فَأَخَّرَهُ لِيَسْجُدَ وَهُوَ طَاهِرٌ
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ سَجَدْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ- واقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ
وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الثَّانِيَةِ مِنْ الْحَجِّ فَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَعَمَّارٍ وَأَبِي مُوسَى أَنَّهُمْ قَالُوا فِي الْحَجِّ سَجْدَتَانِ وَقَالُوا إنَّ هَذِهِ السُّورَةَ فُضِّلَتْ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ السُّوَرِ بِسَجْدَتَيْنِ وَرَوَى خَارِجَةُ بْنُ مُصْعَبٍ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِي الْحَجِّ سَجْدَةٌ وَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ الْأُولَى عَزْمَةٌ وَالْآخِرَةُ تَعْلِيمٌ وَرَوَى مَنْصُورٌ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِي الْحَجِّ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ فِي الْحَجِّ سَجْدَةً وَاحِدَةً وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ فِي الْحَجِّ سَجْدَتَيْنِ وَبَيَّنَ فِي حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ الْأُولَى عَزْمَةٌ وَالثَّانِيَةَ تَعْلِيمٌ وَالْمَعْنَى فِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الْأُولَى هِيَ السَّجْدَةُ الَّتِي يَجِبُ فِعْلُهَا عِنْدَ التِّلَاوَةِ وَأَنَّ الثَّانِيَةَ كَانَ فِيهَا ذِكْرُ السُّجُودِ فَإِنَّمَا هُوَ تَعْلِيمُ للصلاة الَّتِي فِيهَا الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ وَهُوَ مِثْلُ مَا رَوَى سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ السَّجْدَةُ الَّتِي فِي آخِرِ الْحَجِّ إنَّمَا هي موعظة وليس بسجدة قال الله تعالى ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا فَنَحْنُ نَرْكَعُ وَنَسْجُدُ فَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ هُوَ عَلَى مَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ السَّلَفِ أَنَّ فِي الْحَجِّ سَجْدَتَيْنِ إنَّمَا أَرَادُوا أَنَّ فِيهِ ذِكْرَ السُّجُودِ فِي مَوْضِعَيْنِ وَأَنَّ الْوَاجِبَةَ هِيَ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ عَلَى مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْضِعِ سُجُودٍ أَنَّهُ ذَكَرَ مَعَهُ الرُّكُوعَ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مَخْصُوصٌ بِهِ الصَّلَاةُ فَهُوَ إذًا أَمَرَ بِالصَّلَاةِ وَالْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ مَعَ انْتِظَامِهَا لِلسُّجُودِ لَيْسَ بِمَوْضِعِ سجود ألا ترى أن قوله أَقِيمُوا الصَّلاةَ لَيْسَ بِمَوْضِعٍ لِلسُّجُودِ وَقَالَ تَعَالَى يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ وَلَيْسَ ذَلِكَ سَجْدَةً وَقَالَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ
56
Icon