ﰡ
[سورة طه (٢٠) : آية ١٣٥]
قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (١٣٥)
كُلٌّ أى كل واحد منا ومنكم مُتَرَبِّصٌ للعاقبة ولما يؤول إليه أمرنا وأمركم.
وقرئ: السواء، بمعنى الوسط والجيد. أو المستوى والسوء والسوأى والسوي تصغير السوء.
وقرئ: فتمتعوا فسوف تعلمون. قال أبو رافع: حفظته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عن رسول الله ﷺ «من قرأ سورة طه أعطى يوم القيامة ثواب المهاجرين والأنصار «١» » وقال: «لا يقرأ أهل الجنة من القرآن إلا طه ويس «٢» »
سورة الأنبياء
مكية وآياتها ١١٢ [نزلت بعد سورة إبراهيم] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١)هذه اللام: لا تخلو من أن تكون صلة لاقترب، أو تأكيدا لإضافة الحساب إليهم، كقولك: «أزف للحىّ رحيلهم» الأصل: أزف رحيل الحىّ، ثم أزف للحىّ الرحيل، ثم أزف للحىّ رحيلهم. ونحوه ما أورده سيبويه في «باب ما يثنى فيه المستقرّ توكيدا» عليك زيد حريص عليك. وفيك زيد راغب فيك. ومنه قولهم: لا أبالك: لأنّ اللام مؤكدة لمعنى الإضافة. وهذا الوجه أغرب من الأوّل. والمراد اقتراب الساعة. وإذا اقتربت الساعة فقد اقترب ما يكون فيها من الحساب والثواب والعقاب وغير ذلك. ونحوه وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ.
(٢). أخرجه ابن مردويه من حديث أبى بن كعب.
قلت: هو مقترب عند الله والدليل عليه قوله عزّ وجلّ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ولأنّ كلّ آت- وإن طالت أوقات استقباله وترقبه- قريب، إنما البعيد هو الذي وجد وانقرض، ولأنّ ما بقي في الدنيا أقصر وأقل مما سلف منها، بدليل انبعاث خاتم النبيين الموعود مبعثه في آخر الزمان. وقال عليه السلام «١» «بعثت في نسم الساعة «٢» » وفي خطبة بعض المتقدّمين: ولت الدنيا حذاء، ولم تبق إلا صبابة كصبابة الإناء. وإذا كانت بقية الشيء وإن كثرت في نفسها قليلة بالإضافة إلى معظمه، كانت خليقة بأن توصف بالقلة وقصر الذرع. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: أنّ المراد بالناس: المشركون. وهذا من إطلاق اسم الجنس على بعضه للدليل القائم، وهو ما يتلوه من صفات المشركين. وصفهم بالغفلة مع الإعراض، على معنى: أنهم غافلون عن حسابهم ساهون، لا يتفكرون في عاقبتهم، ولا يتفطنون لما ترجع إليه خاتمة أمرهم، مع اقتضاء عقولهم أنه لا بدّ من جزاء للمحسن والمسيء، وإذا قرعت لهم العصا ونبهوا عن سنة الغفلة وفطنوا لذلك بما يتلى عليهم من الآيات والنذر، أعرضوا وسدوا أسماعهم ونفروا.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٢ الى ٣]
ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣)
قرّر إعراضهم عن تنبيه المنبه وإيقاظ الموقظ: بأنّ الله يجدّد لهم الذكر وقتا فوقتا، ويحدث لهم الآية بعد الآية والسورة بعد السورة، ليكرّر على أسماعهم التنبيه والموعظة لعلهم يتعظون، فما يزيدهم استماع الآي والسور وما فيها من فنون المواعظ والبصائر- التي هي أحق الحق وأجدّ الجدّ- إلا لعبا وتلهيا واستسخارا. والذكر: هو الطائفة النازلة من القرآن.
وقرأ ابن أبى عبلة مُحْدَثٍ بالرفع صفة على المحل. قوله وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ
ومن طريقه أبو نعيم في الحلية. وفي الباب عن المستورد بن شداد رفعه «بعثت في نفس الساعة- الحديث» أخرجه الترمذي. وقوله: وفي خطب بعض المتقدمين «ولت الدنيا حذاء لم يبق إلا صبابة كصبابة الإناء» هو عبد الله بن غزوان. أخرجه مسلم من حديثه مطولا.
(٢). قوله «بعثت في نسم الساعة» في الصحاح «نسم الريح» أو لها حين تقبل بلين قبل أن تشتد. ومنه الحديث «بعثت في نسم الساعة» أى حين ابتدأت وأقبلت أوائلها. والنسيم أيضا: جمع نسمة وهي النفس. (ع)
فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلا على فعلهم بأنه ظلم هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ هذا الكلام كله في محل النصب بدلا من النجوى، أى: وأسروا هذا الحديث. ويجوز أن يتعلق بقالوا مضمرا: اعتقدوا أنّ رسول الله ﷺ لا يكون إلا ملكا، وأن كل من ادّعى الرسالة من البشر وجاء بالمعجزة هو ساحر ومعجزته سحر، فلذلك قالوا على سبيل الإنكار: أفتحضرون السحر وأنتم تشاهدون وتعاينون أنه سحر. فإن قلت:
لم أسروا هذا الحديث وبالغوا في إخفائه؟ قلت: كان ذلك شبه التشاور فيما بينهم، والتحاور في طلب الطريق إلى هدم أمره، وعمل المنصوبة في التثبيط عنه «١». وعادة المتشاورين في خطب أن لا يشركوا أعداءهم في شوراهم، ويتجاهدوا في طىّ سرّهم عنهم ما أمكن وأستطيع. ومنه قول الناس «استعينوا على حوائجكم بالكتمان» ويرفع إلى رسول الله ﷺ «٢».
ويجوز أن يسرّوا نجواهم بذلك ثم يقولوا لرسول الله ﷺ والمؤمنين: إن كان ما تدعونه حقا فأخبرونا بما أسررنا.
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٤]
قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤)
(٢). روى موقوفا. قال: ويرفع إلى النبي ﷺ أخرجه الطبراني والبيهقي في الشعب الثالث والأربعين وابن عدى من رواية سعيد بن سلام العطار عن ثور بن زيد عن خالد بن معدان عن معاذ بن جبل. وسعيد. قال البخاري: يذكر بالوضع، وتابعه حسين بن علوان عن ثور. وكان أيضا يضع الحديث. قاله ابن عدى وابن حبان وقال هاهنا عن أحمد وابن معين: هو حديث موضوع. وقال ابن أبى حاتم عن أبيه: منكر لا يعرف له أصل. وفي الباب عن أبى هريرة أخرجه حمزة السهمي في تاريخ جرجان. وفيه شميل بن عبد الرحمن الجرجاني رواه محمد بن مطرف وعند الهيثم بن أيوب الطالقاني، وعن ابن عباس أخرجه ابن حبان في الضعفاء. وفيه طاهر بن الفضل الحلبي. وهو متهم بالوضع. وله طريق أخرى من رواية الخلفاء للحسن بن على صاحب السلعة عن إبراهيم بن على ابن مالونة البلخي عن الطالبي عن إبراهيم بن معقل بسنده. وليس فيه غير الطالبي.
إن ربى يعلم ما أسروه، فوضع القول موضع ذلك للمبالغة، وثم قصد وصف ذاته بأن أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض، فهو كقوله علام الغيوب عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ. وقرئ قالَ رَبِّي حكاية لقول رسول الله ﷺ لهم.
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٥]
بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥)
أضربوا عن قولهم هو سحر إلى أنه تخاليط أحلام، ثم إلى أنه كلام مفترى من عنده، ثم إلى أنه قول شاعر، وهكذا الباطل لجلج «٢»، والمبطل متحير رجاع غير ثابت على قول واحد.
ويجوز أن يكون تنزيلا من الله تعالى لأقوالهم في درج الفساد: وأن قولهم الثاني أفسد من الأول، والثالث أفسد من الثاني، وكذلك الرابع من الثالث. صحة التشبيه في قوله كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ
وهذا من إتباع القرآن للرأى، نعوذ بالله من ذلك لا سيما رأى ينفى صفات الكمال عن الله تعالى وما الذي دل عليه السَّمِيعُ الْعَلِيمُ من نفى صفتي السمع والعلم في تفسيرهما بذلك، مع أنه لا يفهم في اللغة سميع إلا بسمع، ولا عليم إلا بعلم، فإنها صفات مشتقات من مصادر لا بد من فهمها وثبوتها أولا، ثم ثبوت ما اشتقت منه. ومن أنكر السمع والعلم فقد سارع إلى إنكار السميع العليم وهو لا يشعر. وليس غرضنا في هذا المصنف سوى الإيقاظ لما الطوى عليه الكشاف من غوائل البدع ليتجنبها الناظر. وأما الأدلة الكلامية فمن فنها تتلقى. وحاله فيما يورده من أمثال هذه النزغات مختلف: فمرة يوردها عند كلام يتخيل في ظاهره إشعارا بغرضه، فوظيفتنا معه حينئذ أن ننازع في الظهور، ثم قد نترقى إلى بيان ظهوره في عكس مراده أو نصوصيته، حتى لا يحتمل ما يدعيه بوجه ما، وقد يلجئنا الانصاف إلى تسليم الظهور له فنذكر وجه التأويل الذي يرشد إليه دليل العقل. ومرة يورد نبذا من هذا الرأى عند كلام لا يحتمله ولا يشعر به بوجه، وغرضه التعف حتى لا يخلى شيئا من كلامه من تعصب وإصرار على باطل، فننبه على ذلك أيضا. وما ذكره عند هذه الآية من قبيل ما يدل النص على عكس مراده فيه، وقد أوضحناه.
(٢). قوله «الباطل لجلج» في الصحاح: الحق أبلج والباطل لجلج، أى: يردد من غير أن ينفد. (ع)
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٦]
ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦)
أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ فيه أنهم أعتى من الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات وعاهدوا أنهم يؤمنون عندها، فلما جاءتهم نكثوا أو خالفوا، فأهلكهم الله. فلو أعطيناهم ما يقترحون لكانوا أنكث وأنكث.
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٧]
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧)
أمرهم أن يستعلموا أهل الذكر وهم أهل الكتاب، حتى يعلموهم أن رسل الله الموحى إليهم كانوا بشرا ولم يكونوا ملائكة كما اعتقدوا، وإنما أحالهم على أولئك لأنهم كانوا يشايعون المشركين في معاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً فلا يكاذبونهم فيما هم فيه ردء لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٨]
وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨)
لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ صفة لجسدا، والمعنى: وما جعلنا الأنبياء عليهم السلام قبله ذوى جسد غير طاعمين. ووحد الجسد لإرادة الجنس، كأنه قال: ذوى ضرب من الأجساد. وهذا ردّ لقولهم مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ. فإن قلت: نعم قد ردّ إنكارهم أن يكون الرسول بشرا يأكل ويشرب بما ذكرت. فماذا ردّ من قولهم بقوله وَما كانُوا خالِدِينَ؟ قلت:
يحتمل أن يقولوا إنه بشر مثلنا يعيش كما نعيش ويموت كما نموت. أو يقولوا: هلا كان ملكا لا يطعم ويخلد: إما معتقدين أن الملائكة لا يموتون. أو مسمين حياتهم المتطاولة وبقاءهم الممتدّ خلودا.
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٩]
ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩)
صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ مثل واختار موسى قومه. والأصل في الوعد: ومن قومه. ومنه:
صدقوهم القتال. وصدقنى سنّ بكره وَمَنْ نَشاءُ هم المؤمنون ومن في بقائه مصلحة.
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ١٠]
لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠)
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١١ الى ١٥]
وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (١٥)
وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ واردة عن غضب شديد ومنادية على سخط عظيم، لأنّ القصم أفظع الكسر وهو الكسر الذي يبين تلاؤم الأجزاء، بخلاف الفصم. وأراد بالقرية: أهلها، ولذلك وصفها بالظلم. وقال قَوْماً آخَرِينَ لأن المعنى: أهلكنا قوما وأنشأنا قوما آخرين. وعن ابن عباس: أنها «حضور» وهي و «سحول» قريتان باليمن، تنسب إليهما الثياب. وفي الحديث «كفن رسول الله ﷺ في ثوبين سحوليين «٢» » وروى «حضوريين «٣» » بعث الله إليهم نبيا فقتلوه، فسلط الله عليهم بخت نصر كما سلطه على أهل بيت المقدس فاستأصلهم. وروى: أنهم لما أخذتهم السيوف ونادى مناد من السماء يا لثارات الأنبياء، ندموا واعترفوا بالخطإ، وذلك حين لم ينفعهم الندم. وظاهر الاية على الكثرة. ولعل ابن عباس ذكر «حضور» بأنها إحدى القرى التي أرادها الله بهذه الآية. فلما علموا شدّة عذابنا وبطشتنا علم حسّ ومشاهدة، لم يشكوا فيها، ركضوا من ديارهم. والركض: ضرب الدابة بالرجل. ومنه قوله تعالى ارْكُضْ بِرِجْلِكَ فيجوز أن يركبوا دوابهم يركضونها هاربين منهزمين من قريتهم لما أدركتهم مقدمة العذاب.
ويجوز أن يشبهوا في سرعة عدوهم على أرجلهم بالراكبين الراكضين لدوابهم، فقيل لهم.
لا تَرْكُضُوا والقول محذوف. فإن قلت: من القائل؟ قلت يحتمل أن يكون بعض الملائكة
(٢). متفق عليه عن عائشة بلفظ «كفن رسول الله ﷺ في ثلاثة أثواب سحولية».
(٣). أخرجه الدارقطني في العلل من حديث ابن عمر رضى الله عنهما، بلفظ «ثلاثة أثواب: ثوبين حضوريين وثوب حبرة» وقال: تفرد به محمد بن إسحاق الصاغاني عن ابن الحوأب عن الثوري عن عاصم بن عبد الله عن سالم عن أبيه بهذا.
«فائدة» «حضور» بفتح المهملة وضم المعجمة: قرية بصنعاء قريبة من قرية عبد الرزاق.
أو يسألكم الناس في أنديتكم المعاون في نوازل الخطوب، ويستشيرونكم في المهمات والعوارض ويستشفون بتدابيركم، ويستضيئون بآرائكم. أو يسألكم الوافدون عليكم والطماع ويستمطرون سحائب أكفكم، ويمترون أخلاف «١» معروفكم وأياديكم: إما لأنهم كانوا أسخياء ينفقون أموالهم رئاء الناس وطلب الثناء، أو كانوا بخلاء فقيل لهم ذلك تهكما إلى تهكم، وتوبيخا إلى توبيخ تِلْكَ إشارة إلى يا ويلنا، لأنها دعوى، كأنه قيل: فما زالت تلك الدعوى دَعْواهُمْ والدعوى بمعنى الدعوة. قال تعالى وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. فإن قلت: لم سميت دعوى؟ قلت:
لأن المولول كأنه يدعو الويل، فيقول تعالى: يا ويل فهذا وقتك. وتِلْكَ مرفوع أو منصوب اسما أو خبرا وكذلك دعواهم. الحصيد: الزرع المحصود، أى: جعلناهم مثل الحصيد، شبههم به في استنصالهم واصطلامهم «٢» كما تقول: جعلناهم رمادا، أى مثل الرماد. والضمير المنصوب هو الذي كان مبتدأ والمنصوبان بعده كانا خبرين له، فلما دخل عليها جعل نصبها جميعا على المفعولية. فإن قلت كيف ينصب «جعل» ثلاثة مفاعيل؟ قلت: حكم الاثنين الآخرين حكم الواحد، لأنّ معنى قولك «جعلته حلوا حامضا» جعلته جامعا للطعمين. وكذلك معنى ذلك: جعلناهم جامعين لمماثلة الحصيد والخمود.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١٦ الى ١٧]
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧)
أى: وما سوينا هذا السقف المرفوع وهذا المهاد الموضوع وما بينهما من أصناف الخلائق مشحونة بضروب البدائع والعجائب، كما تسوّى الجبابرة سقوفهم وفرشهم وسائر زخارفهم،
الخلف- بالكسر- حلية ضرع الناقة. (ع)
(٢). قوله «واصطلامهم» في الصحاح «الاصطلام» الاستئصال. (ع)
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ١٨]
بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨)
بَلْ إضراب عن اتخاذ اللهو واللعب، وتنزيه منه لذاته، كأنه قال: سبحاننا أن نتخذ اللهو واللعب «١»، بل من عادتنا وموجب حكمتنا واستغنائنا عن القبيح أن نغلب اللعب بالجد، وندحض الباطل بالحق. واستعار لذلك القذف «٢» والدمغ، تصويرا لإبطاله وإهداره ومحقه فجعله كأنه جرم صلب كالصخرة مثلا، قذف به على جرم رخو أجوف فدمغه «٣»، ثم قال وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ به مما لا يجوز عليه وعلى حكمته. وقرئ: فيدمغه بالنصب، وهو في ضعف قوله:
(٢). عاد كلامه. قال: «وفي قوله تعالى بل نقذف بالحق على الباطل استعارة حسنة: استعار القذف... الخ» قال أحمد: ومثل هذا التنبيه من حسناته، ولولا أن السيئة التي قبلها تتعلق بالعقيدة لتلوت: إن الحسنات يذهبن السيئات، والله أعلم. [.....]
(٣). قوله «فدمغه» في الصحاح: أى شجه حتى بلغت الشجة الدماغ. (ع)
سأترك منزلي لبنى تميم | وألحق بالحجاز فاستريحا «١» |
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١٩ الى ٢٠]
وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (٢٠)
وَمَنْ عِنْدَهُ هم الملائكة. والمراد أنهم مكرمون، منزلون- لكرامتهم عليه- منزلة المقرّبين عند الملوك على طريق التمثيل والبيان لشرفهم وفضلهم على جميع خلقه «٢». فإن قلت:
الاستحسار مبالغة في الحسور «٣»، فكان الأبلغ في وصفهم أن ينفى عنهم أدنى الحسور. قلت في الاستحسار بيان أنّ ما هم فيه يوجب غاية الحسور «٤» وأقصاه، وأنهم أحقاء لتلك العبادات الباهظة بأن يستحسروا فيما يفعلون. أى، تسبيحهم متصل دائم في جميع أوقاتهم، لا يتخلله فترة بفراغ أو شغل آخر.
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٢١]
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١)
هذه أم المنقطعة الكائنة بمعنى بل والهمزة، قد آذنت بالإضراب عما قبلها والإنكار لما بعدها، والمنكر: هو اتخاذهم آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ الموتى «٥»، ولعمري أن من أعظم المنكرات أن ينشر الموتى بعض الموات. فإن قلت: كيف أنكر عليهم اتخاذ آلهة تنشر «٦» وما كانوا يدعون ذلك لآلهتهم؟ وكيف وهم أبعد شيء عن هذه الدعوى وذلك أنهم كانوا- مع إقرارهم لله عزّ وجل بأنه خالق السماوات والأرض وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ وبأنه القادر على المقدورات كلها وعلى النشأة الأولى- منكرين البعث ويقولون: من يحيى العظام وهي رميم، وكان عندهم من قبيل المحال الخارج عن قدرة القادر كثانى القديم، فكيف يدعونه للجماد الذي لا يوصف بالقدرة رأسا؟ قلت: الأمر
(٢). قوله «لشرفهم وفضلهم على جميع خلقه» هذا عند المعتزلة. أما عند أهل السنة فبعض البشر أفضل. (ع)
(٣). قال محمود: «إن قلت لم استعمل الاستحسار هاهنا في النفي... الخ» قال أحمد: وبمثله أجيب عن قوله تعالى وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ فانظره.
(٤). قوله «يوجب غاية الحسور» أى الكلال. أفاده الصحاح. (ع)
(٥). قوله «هم ينشرون الموتى» الأبشار: الأحياء بعد الموت. أفاده الصحاح. (ع)
(٦). قال محمود: «إن قلت كيف أنكر عليهم اتخاذ آلهة... الخ» قال أحمد: فيكون المنكر عليهم صريح الدعوى ولازمها وهو أبلغ في الإنكار، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(٢). عاد كلامه. قال محمود: «إن قلت لا بد لقوله هُمْ من فائدة، وإلا فالكلام مستقل بدونها... الخ» قال أحمد: وفي هذه النكتة نظر، لأن آلات الحصر مفقودة، وليس ذلك من قبيل: صديقي زيد، فان المبتدأ في الآية أخص شيء لأنه ضمير. وأيضا فلا ينبغي على ذلك إلزامهم حصر الألوهية فيهم، وتخصيص الانشار بهم، ونفيه عن الله تعالى، إذ هذا لا يناسب السياق، فانه قال عقبها: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا. ومعناه: لو كان فيهما إله غير الله شريكا لله لفسدتا، وكان مقتضى ما قال الزمخشري أن يقال: لو لم يكن فيهما آلهة إلا الأصنام لفسدتا. وأما والمتلوّ على خلاف ذلك، فلا وجه لما قال الزمخشري. وعندي أنه يحتمل والله أعلم أن تكون فائدة قوله هُمْ الإيذان بأنهم لم يدعوا لها الانشار، وأن قوله هُمْ يُنْشِرُونَ استئناف إلزام لهم، وكأنه قال: اتخذوا آلهة مع الله عز وجل فهم إذن يحيون الموتى ضرورة كونهم آلهة، ثم لما انتظم من دعواهم الألوهية للأصنام وإلزامهم على ذلك أن يصفوهم بالقدرة الكاملة على إحياء الموتى، نظم في إبطال هذه الدعوى وما ألزمهم عليها دليل قوله تعالى لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا وأزيد هذا التقرير وضوحا فأقول: إن دليل التمانع المغترف من بحر هذه الآية، المقتبس من نورها، يورده المتكلمون على صورة التقسيم، فيقولون: لو وجد مع الله إله آخر، وربما قالوا: لو فرضنا وجود إلهين، فاما أن يكونا جميعا موصوفين بصفات الكمال اللاتي يندرج فيها القدرة على إحياء الموتى وإنشارهم وغير ذلك من الممكنات، أو لا يتصف بها واحد منهما أو أحدهما دون الآخر، ثم يحيلون جميع الأقسام وهو المسمى برهان الخلف. وأدق الأقسام إبطالا قسم اتصافهما جميعا بصفات الكمال، وما عداه فببادئ الرأى يبطل. فانظر كيف اختار له تعالى إبطال هذا القسم الخفي البطلان، فأوضح فساده في أخصر أسلوب وأوجزه، وأبلغ بديع الكلام ومعجزه. وإنما ينتظم هذا على أن يكون المقصد من قوله هُمْ يُنْشِرُونَ إلزامهم ادعاء صفات الألوهية لآلهتهم، حتى يتحرى أنهم اختاروا القسم الذي أبطله الله تعالى، ووكل إبطال ما عداه من الأقسام إلى ما ركبه في عباده من العقول، وكل خطب بعد بطلان هذا القسم جلل، والله الموفق. فتأمل هذا الفصل بعين الانصاف. تجده أنفس الانصاف، والله المستعان.
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٢٢]
لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢)فإن قلت: ما منعك من الرفع على البدل؟ قلت: لأنّ «لو» بمنزلة «إن» في أنّ الكلام معه موجب، والبدل لا يسوّغ إلا في الكلام غير الموجب، كقوله تعالى وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ وذلك لأنّ أعم العامّ يصح نفيه ولا يصح إيجابه. والمعنى: لو كان يتولاهما ويدبر أمرهما آلهة شتى غير الواحد الذي هو فاطرهما لفسدتا. وفيه دلالة على أمرين، أحدهما:
وجوب أن لا يكون مدبرهما إلا واحدا. والثاني: أن لا يكون ذلك الواحد إلا إياه وحده، لقوله إِلَّا اللَّهُ. فإن قلت: لم وجب الأمران؟ قلت: لعلمنا أنّ الرعية تفسد بتدبير الملكين لما يحدث بينهما من التغالب والتناكر والاختلاف. وعن عبد الملك بن مروان حين قتل عمرو ابن سعيد الأشدق: كان والله أعزّ علىّ من دم ناظري، ولكن لا يجتمع فحلان في شول «١» وهذا ظاهر. وأمّا طريقة التمانع فللمتكلمين فيها تجاول وطراد، ولأنّ هذه الأفعال محتاجة إلى تلك الذات المتميزة بتلك الصفات حتى تثبت وتستقرّ.
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٢٣]
لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣)
إذا كانت عادة الملوك والجبابرة أن لا يسألهم من في مملكتهم عن أفعالهم وعما يوردون ويصدرون من تدبير ملكهم، تهيبا وإجلالا، مع جواز الخطإ والزلل وأنواع الفساد عليهم- كان ملك الملوك وربّ الأرباب خالقهم ورازقهم أولى بأن لا يسئل عن أفعاله، مع ما علم واستقرّ في العقول من أن ما يفعله كله مفعول بدواعى الحكمة، ولا يجوز عليه الخطأ «٢» ولا فعل القبائح «٣»
(٢). قال محمود: «لما بين تعالى أنه رب الأرباب وخالقهم ومالكهم، ناسب هذا التنبيه على ما يجب له تعالى علي خلقه من الإجلال والإعظام، فان آحاد الملوك تمنع مهابته أن يسئل عن فعل فعله، فما ظنك بخالق الملوك وربهم. ثم إن آحاد الملوك يجوز عليهم الخطأ والزلل وقد استقر في العقول أن أفعال الله تعالى كلها مفعول بدواعى الحكمة، ولا يجوز عليه الخطأ ولا فعل القبائح» قال أحمد: سحقا لها من لفظة ما أسوأ أدبها مع الله تعالى، أعنى قوله:
دواعي الحكمة، فان الدواعي والصوارف إنما تستعمل في حق المحدثين، كقولك: هو مما توفر دواعي الناس إليه أو صوارفهم عنه. وقوله «لا يجوز عليه فعل القبائح» قلت: وهذا من الطراز الأول، ولو أنه في الذيل:
فقد نسيت وما بالعهد من قدم
وبعد ما انقضى دليل التوحيد وإبطال الشرك من سمعك أيها الزمخشري، وقلمك رطب بتقريره، فلم نكصت وانتكست؟ أتقول إن أحدا شريك لله في ملكه يفعل ما يشاء من الأفعال التي تسميها قبائح فتنفيها عن قدرة الله تعالى وإرادته. وما الفرق بين من يشرك لله ملكا من الملائكة، وبين من يشرك نفسه بربه حتى يقول: إنه يفعل ويخلق لنفسه شاء الله أو لم يشأ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. والقدرية ارتضوا لأنفسهم شر شرك، لأن غيرهم أشرك بالملائكة، وهم أشركوا بنفوسهم وبالشياطين والجن وجميع الحيوانات، نعوذ بمالك الملك من مسالك الهلك.
(٣). قوله «ولا يجوز عليه الخطأ ولا فعل القبائح» هذا عند المعتزلة. أما عند أهل السنة فهو الفاعل للخير والشر، كما بين في علم التوحيد. (ع)
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٢٤]
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤)
كرّر أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً استفظاعا لشأنهم واستعظاما لكفرهم، أى: وصفتم الله تعالى بأنّ له شريكا، فهاتوا برهانكم على ذلك: إمّا من جهة العقل، وإمّا من جهة الوحى، فإنكم لا تجدون كتابا من كتب الأوّلين إلا وتوحيد الله وتنزيهه عن الأنداد مدعوّ إليه، والإشراك به منهى عنه متوعد عليه. أى هذا الوحى الوارد في معنى توحيد الله ونفى الشركاء عنه، كما ورد علىّ فقد ورد على جميع الأنبياء، فهو ذكر: أى عظة للذين معى: يعنى أمّته، وذكر للذين من قبلي: يريد أمم الأنبياء عليهم السلام. وقرئ ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بالتنوين. ومن مفعول منصوب بالذكر كقوله أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً وهو الأصل والإضافة من إضافة المصدر إلى المفعول كقوله: غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ وقرئ مَنْ مَعِيَ ومَنْ قَبْلِي على من الإضافية في هذه القراءة.
وإدخال الجار على «مع» غريب، والعذر فيه أنه اسم هو ظرف، نحو: قبل، وبعد، وعند، ولدن، وما أشبه ذلك، فدخل عليه «من» كما يدخل على أخواته. وقرئ: ذكر معى وذكر قبلي. كأنه قيل: بل عندهم ما هو أصل الشرّ والفساد كله وهو الجهل وفقد العلم، وعدم التمييز بين الحق والباطل، فمن ثم جاء هذا الإعراض، ومن هناك ورد هذا الإنكار. وقرئ «الحق» بالرفع على توسيط التوكيد بين السبب والمسبب. والمعنى أن إعراضهم بسبب الجهل هو الحق لا الباطل.
ويجوز أن يكون المنصوب أيضا على هذا المعنى، كما تقول: هذا عبد الله الحق لا الباطل.
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٢٥]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥)
يوحى ونُوحِي: مشهورتان. وهذه الآية مقرّرة لما سبقها من آي التوحيد.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٢٦ الى ٢٩]
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٢٩)
بقولهم، فأنيب اللام مناب الإضافة، أى لا يتقدّمون قوله بقولهم، كما تقول: سبقت بفرسي فرسه، وكما أنّ قولهم تابع لقوله، فعملهم أيضا كذلك مبنى على أمره: لا يعملون عملا ما لم يؤمروا به. وجميع ما يأتون ويذرون مما قدّموا وأخروا بعين الله، وهو مجازيهم عليه، فلإحاطتهم بذلك يضبطون أنفسهم، ويراعون أحوالهم، ويعمرون أوقاتهم. ومن تحفظهم أنهم لا يجسرون أن يشفعوا إلا لمن ارتضاه الله وأهله للشفاعة في ازدياد الثواب والتعظيم، ثم أنهم مع هذا كله من خشية الله مُشْفِقُونَ أى متوقعون من أمارة ضعيفة، كائنون على حذر ورقبة «٣» لا يأمنون مكر الله. وعن رسول الله ﷺ أنه رأى جبريل عليه السلام ليلة المعراج ساقطا كالحلس «٤» من خشية «٥» الله، وبعد أن وصف كرامتهم عليه، وقرب منزلتهم عنده، وأثنى
(٢). قوله «مفضلون على سائر العباد» هذا عند المعتزلة، وبعض البشر أفضل منهم عند أهل السنة. (ع) [.....]
(٣). قوله «ورقبة» بالكسر، أى: انتظار. أفاده الصحاح. (ع)
(٤). قوله «كالحلس» بكسر فسكون. أو بفتحتين: كساء رقيق يكون تحت البرذعة أو تحت الرحل. أفاده الصحاح. (ع)
(٥). أخرجه ابن خزيمة من رواية مرة عن ابن مسعود «أن النبي ﷺ ذكر سدرة المنتهى- الحديث» قال فوقع جبريل فصار كالحلس الملقى» إسناده قوى. وغلط ابن الجوزي في تضعيفه لمحمد بن ميمون شيخ ابن خزيمة، فانه ثقة- وفي الطبراني الأوسط وتفسير ابن مردويه من رواية عبد الكريم الجزري عن عطاء عن جابر رفعه «مررت في السماء الرابعة بجبريل، وهو كالحلس البالي من خشية الله» إسناده قوى. وروى ابن خزيمة في التوحيد وابن سعد وسعيد بن منصور والبزار والبيهقي في الشعب والدلائل والطبراني في الأوسط، كلهم من رواية أبى قلابة الحارث بن أبى عمران الحوفى عن أنس رفعه «بينما أنا قاعد إذ جاء جبريل. فوكز بين كتفي فقمت إلى شجرة فيها كوكرى الطائر فقعد في أحدهما وقعدت في الآخر. فسمت بنا فارتفعت حتى سدت الخافقين وأنا أقلب طرفى. ولو شئت أن أمسس لمسست. فالتفت إلى جبريل كأنه حلس لاطئ. فعرفت فضل علمه بالله علىّ. وفتح لي باب من أبواب السماء فرأيت النور الأعظم- الحديث» قال البزار: لا نعلم رواه عن أبى عمران إلا الحرث بن عبيد وقال غيره: خالفه حماد بن سلمة عن أبى عمران إلا الحرث بن عبيد وقال غيره: خالفه حماد ابن سلمة عن أبى عمران. فقال: عن محمد بن عمير بن عطاء مرسلا كذلك أخرجه ابن المبارك في الزهد عن حماد.
وفي رواية «فعرفت فضل خشيته على خشيتي» وزاد فيه فأوحى الله إليه أنبيا عبدا أم نبيا ملكا. فاومأ إلى جبريل عليه السلام: بل نبيا عبدا.
فاجأ بالوعيد الشديد، وأنذر بعذاب جهنم من أشرك منهم إن كان «١» ذلك على سبيل الفرض والتمثيل، مع إحاطة علمه بأنه لا يكون، كما قال وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ قصد بذلك تفظيع أمر الشرك وتعظيم شأن التوحيد.
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٣٠]
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠)
قرئ «الم تر» بغير واو. ورَتْقاً بفتح التاء، وكلاهما في معنى المفعول، كالخلق والنقض، أى: كانتا مرتوقتين. فإن قلت: الرتق صالح أن يقع موقع مرتوقتين لأنه مصدر، ؟؟؟
بال الرتق؟ قلت: هو على تقرير موصوف، أى: كانتا شيئا رتقا. ومعنى ذلك: أن السماء كانت لاصقة بالأرض لا فضاء بينهما. أو كانت السماوات متلاصقات، وكذلك الأرضون لا فرج بينها ففتقها الله وفرّج بينها. وقيل: ففتقناهما بالمطر والنبات بعد ما كانت مصمتة، وإنما قيل: كانتا دون كنّ، لأنّ المراد جماعة السماوات وجماعة الأرض، ونحوه قولهم: لقاحان سوداوان، أى: جماعتان، فعل في المضمر نحو ما فعل في المظهر. فإن قلت: متى رأوهما رتقا حتى جاء تقريرهم بذلك؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أنه وارد في القرآن الذي هو معجزة في نفسه، فقام مقام المرئىّ المشاهد. والثاني: أن تلاصق الأرض والسماء وتباينهما كلاهما جائز في العقل، فلا بدّ للتباين دون التلاصق من مخصص وهو القديم سبحانه وَجَعَلْنا لا يخلو أن يتعدى إلى واحد أو اثنين، فإن تعدّى إلى واحد، فالمعنى: خلقنا من الماء كل حيوان، كقوله وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ أو كأنما خلقناه من الماء لفرط احتياجه إليه وحبه له وقلة صبره عنه، كقوله تعالى خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ وإن تعدى إلى اثنين فالمعنى: صيرنا كل شيء حىّ بسبب من الماء لا بدّ له منه. و «من» هذا «٢» نحو «من» في قوله عليه السلام «٣» «ما أنا من
(٢). قوله «ومن هذا» لعله «ومن هنا». (ع)
(٣). أخرجه البخاري في الأدب المفرد والبزار والطبراني من رواية يحيى بن محمد بن قيس عن عمرو بن أبى عمرو عن أنس. زاد البزار قال يحيى: يقول: «لست من الباطل ولا الباطل منى» قال: لا نعلمه إلا عن أنس من هذا الوجه. واستنكره ابن عدى ليحيى بن محمد بن قيس. وقال ابن أبى حاتم: رواه الدراوردي عن عمرو عن المطلب عن معاوية نحوه مرفوعا ونقل عن أبيه وأبى زرعة أن رواية الدراوردي أشبه بالصواب.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٣١ الى ٣٢]
وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢)
أى كراهة أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وتضطرب. أو لئلا تميد بهم، فحذف «لا» واللام. وإنما جاز حذف «لا» لعدم الالتباس «٢»، كما تزاد لذلك في نحو قوله لِئَلَّا يَعْلَمَ وهذا مذهب الكوفيين.
الفج: الطريق الواسع. فإن قلت: في الفجاج معنى الوصف، فما لها قدمت على السبل ولم تؤخر كما في قوله تعالى لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً؟ قلت: لم تقدّم وهي صفة، ولكن جعلت حالا كقوله:
لعزّة موحشا طلل قديم «٣»
إن قلت: ما الفرق بينهما من جهة المعنى؟ قلت: أحدهما: الإعلام بأنه جعل فيها طرقا واسعة.
والثاني: بأنه حين خلقها خلقها على تلك الصفة، فهو بيان لما أبهم ثمة، محفوظا حفظه بالإمساك
(٢). قال محمود: «معناه كراهة أن تميد بهم، أو تكون لا محذوفة لأمن الإلباس» قال أحمد: وأولى من هذين الوجهين أن يكون من قولهم: أعددت هذه الخشبة أن تميل الحائط فأدعمه. قال سيبويه: ومعناه أن أدعم الحائط إذا مال. وإنما قدم ذكر الميل اهتماما بشأنه، ولأنه أيضا هو السبب في الادعام، والادعام سبب في إعداد الخشبة، فعامل سبب السبب معاملة السبب. وعليه حمل قوله تعالى أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى كذلك ما نحن فيه يكون الأصل: وجعلنا في الأرض رواسى لأجل أن تثبتها إذا مادت بهم «فجعل الميد هو السبب» كما جعل الميل في المثل المذكور سببا، وصار الكلام: وجعلنا في الأرض رواسى أن تميد فنثبتها، ثم حذف قوله «فنثبتها» لأمن الإلباس إيجازا واختصارا، وهذا التقرير أقرب إلى الواقع مما أول الزمخشري الآية عليه، فان مقتضى تأويله أن لا تميد الأرض بأهلها، لأن الله كره ذلك، ومكروه الله تعالى محال أن يقع، كما أن مراده واجب أن يقع، والمشاهد خلاف ذلك، فكم من زلزلة مادت لها الأرض وكادت تقلب عاليها سافلها. وأما على تقريرنا فالمراد أن الله تعالى يثبت الأرض بالجبال إذا مادت، وهذا لا يأبى وقوع الميد، كما أن قوله أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى لا يأبى وقوع الضلال والنسيان من إحداهما، لكنه ميد يستعقبه التثبيت، وكذلك الواقع من الزلازل إنما هو كاللمحة ثم يثبتها الله تعالى.
(٣).
لعزة موحشا طلل قديم... عفاه كل أسحم مستديم
لكثير. والطلل: ما شخص من آثار الدار، والصفة إذا تقدمت على موصوفها كانت حالا منه كما هنا، لأن مذهب الكوفيين والأخفش أن «طلل» فاعل الظرف قبله وأن يعتمد. و «موحشا» حال منه مقدمة عليه. ويجوز أنه مبتدأ. وموحشا حال من الضمير المستتر في الظرف. وأجاز سيبويه أنه حال من المبتدإ المؤخر. وعاملها الاستقرار المحذوف، ولا يمتنع عنده اختلاف عامل الحال وعامل صاحبها، خلافا للجمهور. والموحش: الموقع في الوحشة، ضد المؤنس: الموقع في الأنس. ويجوز أن معناه كثير الوحوش. وعفاه: أهلكه. والاسم: صفة السحاب، أى: كل أسود دائم الأمطار. ويروى هكذا
لمية موحشا طلل... يلوح كأنه خلل
وهي بالكسر:
جمع خلة، وهي بطانة مخططة تغشى بها جفان السيوف، وسيور تلبس ظهور القسي.
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٣٣]
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣)
كُلٌّ التنوين فيه عوض من المضاف إليه، أى: كلهم فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ والضمير للشمس والقمر، والمراد بهما جنس الطوالع كل يوم وليلة، جعلوها متكاثرة لتكاثر مطالعها وهو السبب في جمعهما بالشموس والأقمار، وإلا فالشمس واحدة والقمر واحد، وإنما جعل الضمير واو العقلاء للوصف بفعلهم وهو السباحة. فإن قلت: الجملة ما محلها؟ قلت: محلها النصب على الحال من الشمس والقمر. فإن قلت: كيف استبدّ بهما دون الليل والنهار بنصب الحال عنهما؟ قلت: كما تقول: رأيت زيدا وهندا متبرجة ونحو ذلك، إذا جئت بصفة يختص بها بعض ما تعلق به العامل. ومنه قوله تعالى في هذه السورة وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً أو لا محل لها لاستئنافها. فإن قلت: لكل واحد من القمرين فلك على حدة، فكيف قيل:
جميعهم يسبحون في فلك؟ قلت: هذا كقولهم «كساهم الأمير حلة وقلدهم سيفا» أى كل واحد منهم، أو كساهم وقلدهم هذين الجنسين، فاكتفى بما يدل على الجنس اختصارا، ولأنّ الغرض الدلالة على الجنس.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٣٤ الى ٣٥]
وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٣٥)
كانوا يقدّرون أنه سيموت فيشمتون بموته، فنفى الله تعالى عنه الشماتة بهذا، أى: قضى الله
(٢). قوله «والعبر بالشمس» لعله «كالشمس | الخ» كعبارة النسفي. (ع) |
فقل للشّامتين بنا أفيقوا | سيلقى الشّامتون كما لقينا «١» |
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٣٦]
وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (٣٦)
الذكر يكون بخير وبخلافه، فإذا دلت الحال على أحدهما أطلق ولم يقيد، كقولك للرجل:
سمعت فلانا يذكرك، فإن كان الذاكر صديقا فهو ثناء، وإن كان عدوّا فذمّ «٢». ومنه قوله تعالى سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ وقوله أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ والمعنى أنهم عاكفون على ذكر آلهتهم بهممهم وما يجب أن لا تذكر به، من كونهم شفعاء وشهداء. ويسوءهم أن يذكرها ذاكر بخلاف ذلك. وأما ذكر الله وما يجب أن يذكر به من الوحدانية، فهم به كافرون لا يصدّقون به أصلا فهم
وما أن طبنا جبن ولكن | منايانا ودولة آخرينا |
فقل للشامتين بنا أفيقوا | سيلقى الشامتون كما لقينا |
وأن زائدة، ويمكن أنها لتوكيد النفي، أى: ليست عادتنا أو علتنا الجبن، ولكن تلك المصيبات منايانا المقدرة لنا أو لكن علتنا منايانا. والدولة: النوبة من النصر، لأنه يتداول بين الجيشين. والشامت: المتشفى من غيظه بما أصاب عدوه. وشبههم بالسكارى على سبيل المكنية لعدم تيقظهم للعواقب، وأمرهم بالافاقة تخبيل، وبين ذلك بقوله: سيلقون من الهزيمة مثل ما لقينا، وتكون الدولة لنا عليهم فليفيقوا من سكرتهم.
(٢). قال محمود: «الذكر يكون بخير وبخلافه فإذا دلت الحال على أحدهما أطلق ولم يقيد بقيد القرينة، فان كان الذاكر صديقا فهم منه الخير، وإن كان عدوا فهم منه الذم» قال أحمد: وكذلك القول. ومنه قول موسى عليه السلام:
أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ معناه أتعيبون الحق لما جاءكم، ثم ابتدأ فقال أَسِحْرٌ هذا وإنما لم يجعله معمولا للقول ومحكيا به، لأنهم قفوا القول بأنه سحر فقالوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ ولم يشككوا أنفسهم، ولا استفهموا، وقد مضى فيه غير هذا، وإنما أطلقوا في قولهم أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ ولم يقولوا: هذا الذي يذكر آلهتكم بكل سوء، لأنهم استفظعوا حكاية ما يقوله النبي من القدح في آلهتهم، رميا بأنها لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر، وحاشوها من نقل ذمها مفصلا، فأوموا إليه بالاشارة المذكورة، كما يتحاشى المؤمن من حكاية كلمة الكفر، فيومى إليها بلفظ يفهم المقصود بطريق التعريض. فسبحان من أضلهم حتى تأدبوا مع الأوثان، وأساؤا الأدب على الرحمن.
ما نعرف الرحمن إلا مسيلمة، وقولهم وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وقيل بِذِكْرِ الرَّحْمنِ بما أنزل عليك من القرآن. والجملة في موضع الحال، أى: يتخذونك هزؤا، وهم على حال هي أصل الهزء والسخرية وهي الكفر بالله.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٣٧ الى ٣٨]
خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨)
كانوا يستعجلون عذاب الله وآياته الملجئة إلى العلم والإقرار وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ فأراد نهيهم عن الاستعجال وزجرهم، فقدم أو لا ذم الإنسان على إفراط العجلة، وأنه مطبوع عليها، ثم نهاهم وزجرهم، كأنه قال: ليس ببدع منكم أن تستعجلوا فإنكم مجبولون على ذلك وهو طبعكم وسجيتكم. وعن ابن عباس رضى الله عنه: أنه أراد بالإنسان آدم عليه السلام، وأنه حين بلغ الروح صدره ولم يتبالغ فيه أراد أن يقوم. وروى أنه لما دخل الروح في عينه نظر إلى ثمار الجنة، ولما دخل جوفه اشتهى الطعام. وقيل خلقه الله تعالى في آخر النهار يوم الجمعة قبل غروب الشمس، فأسرع في خلقه قبل مغيبها. وعن ابن عباس رضى الله عنه أنه النضر بن الحرث. والظاهر أن المراد الجنس. وقيل «العجل» : الطين، بلغة حمير. وقال شاعرهم:
والنّخل ينبت بين الماء والعجل «١»
والله أعلم بصحته. فإن قلت: لم نهاهم عن الاستعجال مع قوله خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ وقوله وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا أليس هذا من تكليف ما لا يطاق؟ قلت: هذا كما ركب فيه الشهوة وأمره أن يغلبها، لأنه أعطاه القدرة التي يستطيع بها قمع الشهوة وترك العجلة. وقرئ: خلق الإنسان.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٣٩ الى ٤٠]
لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠)
النبع في الصخرة الصماء منبته | والنخل ينبت بين الماء والعجل |
وحين: منصوب بمضمر، أى حين لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ يعلمون أنهم كانوا على الباطل وينتفي عنهم هذا الجهل العظيم، أى: لا يكفونها، بل تفجؤهم فتغلبهم. يقال للمغلوب في المحاجة: مبهوت. ومنه: فبهت الذي كفر، أى: غلب إبراهيم عليه السلام الكافر. وقرأ الأعمش: يأتيهم. فيبهتهم، على التذكير. والضمير للوعد أو للحين. فإن قلت: فإلام يرجع الضمير المؤنث في هذه القراءة؟ قلت: إلى النار أو إلى الوعد، لأنه في معنى النار وهي التي وعدوها أو على تأويل العدة أو الموعدة. أو إلى الحين، لأنه في معنى الساعة. أو إلى البغتة. وقيل في القراءة الأولى: الضمير للساعة. وقرأ الأعمش: بغتة، بفتح الغين وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ تذكير بإنظاره إياهم وإمهاله، وتفسيح وقت التذكر عليهم، أى: لا يمهلون بعد طول الإمهال.
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٤١]
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤١)
سلى رسول الله ﷺ عن استهزائهم به بأن له في الأنبياء عليهم السلام أسوة وأن ما يفعلونه به يحيق بهم، كما حاق بالمستهزئين بالأنبياء عليهم السلام ما فعلوا.
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٤٢]
قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢)
مِنَ الرَّحْمنِ أى من بأسه وعذابه بَلْ هُمْ معرضون عن ذكره لا يخطرونه ببالهم، فضلا أن يخافوا بأسه، حتى إذا رزقوا الكلاءة منه عرفوا من الكالئ وصلحوا للسؤال عنه.
والمراد أنه أمر رسوله عليه الصلاة والسلام بسؤالهم عن الكالئ، ثم بين أنهم لا يصلحون لذلك لإعراضهم عن ذكر من يكلؤهم
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٤٣]
أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣)
ثم أضرب عن ذلك بما في «أم» من معنى «بل» وقال أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ من العذاب تتجاوز
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٤٤]
بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (٤٤)
ثم قال: بل ما هم فيه من الحفظ والكلاءة إنما هو منا، لا من مانع يمنعهم من إهلاكنا، وما كلأناهم وآباءهم الماضين إلا تمتيعا لهم بالحياة الدنيا وإمهالا، كما متعنا غيرهم من الكفار وأمهلناهم حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الأمد، وامتدت بهم أيام الروح والطمأنينة، فحسبوا أن لا يزالوا على ذلك لا يغلبون ولا ينزع عنهم ثوب أمنهم واستمتاعهم، وذلك طمع فارغ وأمد كاذب أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا ننقص أرض الكفر ودار الحرب، ونحذف أطرافها بتسليط المسلمين عليها وإظهارهم على أهلها وردّها دار إسلام. فإن قلت: أى فائدة في قوله نَأْتِي الْأَرْضَ؟ قلت فيه تصوير ما كان الله يجريه على أيدى المسلمين، وأن عساكرهم وسراياهم كانت تغزو أرض المشركين وتأتيها غالبة عليها، ناقصة من أطرافها.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٤٥ الى ٤٦]
قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (٤٥) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٤٦)
قرئ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ ولا تسمع الصم، بالتاء والياء، أى: لا تسمع أنت الصم، ولا يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا يسمع الصم، من أسمع. فإن قلت: الصم لا يسمعون دعاء المبشر كما لا يسمعون دعاء المنذر، فكيف قيل إِذا ما يُنْذَرُونَ؟ قلت: اللام في الصم إشارة إلى هؤلاء المنذرين، كائنة للعهد لا للجنس. والأصل: ولا يسمعون إذا ما ينذرون، فوضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على تصامهم وسدّهم أسماعهم إذا أنذروا. أى: هم على هذه الصفة من الجرأة والجسارة على التصامّ من آيات الإنذار وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ من هذا الذي ينذرون به أدنى شيء، لأذعنوا وذلوا، وأقروا بأنهم ظلموا أنفسهم حين تصاموا وأعرضوا.
وفي المس والنفحة ثلاث مبالغات، لأنّ النفح في معنى القلة والنزارة. يقال: نفحته الدابة وهو رمح يسير «١»، ونفحه بعطية: رضخه، ولبناء المرة.
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٤٧]
وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (٤٧)وصفت الْمَوازِينَ بالقسط وهو العدل، مبالغة، كأنها في أنفسها قسط. أو على حذف المضاف، أى: ذوات القسط. واللام في لِيَوْمِ الْقِيامَةِ مثلها في قولك: جئته لخمس ليال خلون من الشهر. ومنه بيت النابغة:
ترسّمت آيات لها فعرفتها | لسنّة أعوام وذا العام سابع «١» |
فإن قلت: كيف توزن الأعمال وإنما هي أعراض؟ قلت: فيه قولان، أحدهما: توزن صحائف الأعمال. والثاني: تجعل في كفة الحسنات جواهر بيض مشرقة، وفي كفة السيئات جواهر سود مظلمة. وقرئ مِثْقالَ حَبَّةٍ على «كان» التامة، كقوله تعالى وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ.
وقرأ ابن عباس ومجاهد: أَتَيْنا بِها وهي مفاعلة من الإتيان بمعنى المجازاة والمكافأة، لأنهم أتوه بالأعمال وأتاهم بالجزاء. وقرأ حميد: أثبنا بها، من الثواب. وفي حرف أبىّ: جئنا بها.
وأنث ضمير المثقال لإضافته إلى الحبة، كقولهم: ذهبت بعض أصابعه، أى: آتيناهما.
عفا قسم من فرتنا فالفوارع | فجنبا أريك فالتلاع الدواقع |
توسمت آيات لها فعرفتها | لستة أعوام وذا العام سابع |
وقوله «لستة أعوام» أى مستقبلا تمام ستة أعوام مضت من عهدها، وهذا العام الحاضر الذي نحن فيه هو السابع.
ولو قال: لسبعة أعوام، لأفاد أن السبعة كلها مضت وليس مرادا. فقول بعضهم: إنه كان يكفيه أن يقول:
لسبعة أعوام، فعجز عن إتمامه، وكمله بما لا معنى له، لا وجه له إلا عدم التبصر.
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٤٨]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (٤٨)الْفُرْقانَ وهو التوراة وَأتينا به ضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ والمعنى: أنه في نفسه ضياء وذكر. أو وآتيناهما بما فيه من الشرائع والمواعظ ضياء وذكرا. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: الفرقان: الفتح، كقوله يَوْمَ الْفُرْقانِ وعن الضحاك: فلق البحر. وعن محمد ابن كعب: المخرج من الشبهات. وقرأ ابن عباس: ضياء، بغير واو: وهو حال عن الفرقان.
والذكر: الموعظة، أو ذكر ما يحتاجون إليه في دينهم ومصالحهم. أو الشرف.
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٤٩]
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩)
محل الَّذِينَ جرّ على الوصفية. أو نصب على المدح. أو رفع عليه.
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٥٠]
وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٠)
وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ هو القرآن. وبركته: كثرة منافعه، وغزارة خيره.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٥١ الى ٥٤]
وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (٥٢) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (٥٣) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤)
الرشد: الاهتداء لوجوه الصلاح. قال الله تعالى فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وقرئ: رشده. والرشد والرشد، كالعدم والعدم. ومعنى إضافته إليه: أنه رشد مثله.
وأنه رشد له شأن مِنْ قَبْلُ أى من قبل موسى وهرون عليهما السلام. ومعنى علمه به: أنه علم منه أحوالا بديعة وأسرارا عجيبة وصفات قد رضيها وأحمدها، حتى أهله لمخالته ومخالصته، وهذا كقولك في خير من الناس: أنا عالم بفلان. فكلامك هذا من الاحتواء على محاسن الأوصاف بمنزل إِذْ إما أن يتعلق بآتينا، أو برشده، أو بمحذوف، أى: اذكر من أوقات رشده هذا الوقت. قوله ما هذِهِ التَّماثِيلُ تجاهل لهم وتغاب، ليحقر آلهتهم ويصغر شأنها، مع علمه بتعظيمهم وإجلالهم لها. لم ينو للعاكفين مفعولا، وأجراه مجرى ما لا يتعدى، كقولك: فاعلون العكوف لها. أو واقفون لها. فإن قلت: هلا قيل: عليها عاكفون، كقوله تعالى يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ؟ قلت: لو قصد التعدية لعدّاه بصلته التي هي «على».
ما أقبح التقليد والقول المتقبل بغير برهان، وما أعظم كيد الشيطان للمقلدين حين استدرجهم إلى أن
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٥٥]
قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (٥٥)
بقوا متعجبين من تضليله إياهم، وحسبوا أن ما قاله إنما قاله على وجه المزاح والمداعبة، لا على طريق الجدّ، فقالوا له: هذا الذي جئتنا به، أهو جدّ وحق، أم لعب وهزل؟
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٥٦]
قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦)
الضمير في فَطَرَهُنَّ للسماوات والأرض. أو للتماثيل، وكونه للتماثيل أدخل في تضليلهم، وأثبت للاحتجاج عليهم. وشهادته على ذلك: إدلاؤه بالحجة عليه، وتصحيحه بها كما تصحح الدعوى بالشهادة، كأنه قال: وأنا أبين ذلك وأبرهن عليه كما تبين الدعاوى بالبينات، لأنى لست مثلكم، فأقول ما لا أقدر على إثباته بالحجة. كما لم تقدروا على الاحتجاج لمذهبكم، ولم تزيدوا على أنكم وجدتم عليه آباءكم.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٥٧ الى ٥٨]
وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨)
قرأ معاذ بن جبل: بالله. وقرئ: تولوا، بمعنى تتولوا. ويقويها قوله فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ.
فإن قلت: ما الفرق بين الباء والتاء؟ قلت: أن الباء هي الأصل، والتاء بدل من الواو المبدلة منها، وأن التاء فيها زيادة معنى وهو التعجب، كأنه تعجب من تسهل الكيد على يده وتأتيه، لأن ذلك كان أمرا مقنوطا منه لصعوبته وتعذره، ولعمري إن مثله صعب متعذر في كل زمان، خصوصا في زمن نمروذ مع عتوّه واستكباره وقوة سلطانه وتهالكه على نصره دينه
إذا الله سنّى عقد شيء تيسّرا «١»
روى أن آزر خرج به في يوم عيد لهم، فبدؤا ببيت الأصنام فدخلوه وسجدوا لها ووضعوا بينها طعاما خرجوا به معهم وقالوا: إلى أن نرجع بركت الآلهة على طعامنا، فذهبوا وبقي إبراهيم فنظر إلى الأصنام وكانت سبعين صنما مصطفة، وثم صنم عظيم مستقبل الباب، وكان من ذهب وفي عينيه جوهرتان تضيئان بالليل، فكسرها كلها بفأس في يده، حتى إذا لم يبق إلا الكبير علق الفأس في عنقه. عن قتادة: قال ذلك سرا من قومه، وروى: سمعه رجل واحد جُذاذاً قطاعا، من الجذ وهو القطع. وقرئ بالكسر والفتح. وقرئ: جذذا. جمع جذيذ، وجذذا جمع جذة. وإنما استبقى الكبير لأنه غلب في ظنه أنهم لا يرجعون إلا إليه، لما تسامعوه من إنكاره لدينهم وسبه لآلهتهم، فيبكتهم بما أجاب به من قوله بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ وعن الكلبي إِلَيْهِ إلى كبيرهم. ومعنى هذا: لعلهم يرجعون إليه كما يرجع إلى العالم في حل المشكلات، فيقولون له: ما لهؤلاء مكسورة ومالك صحيحا والفأس على عاتقك؟ قال هذا بناء على ظنه بهم، لما جرب وذاق من مكابرتهم لعقولهم واعتقادهم في آلهتهم وتعظيمهم لها.
أو قاله مع علمه أنهم لا يرجعون إليه استهزاء بهم واستجهالا، وأن قياس حال من يسجد له ويؤهله للعبادة أن يرجع إليه في حل كل مشكل. فإن قلت: فإذا رجعوا إلى الصنم بمكابرتهم لعقولهم ورسوخ الإشراك في أعراقهم، فأى فائدة دينية في رجوعهم إليه حتى يجعله إبراهيم صلوات الله عليه غرضا؟ قلت: إذا رجعوا إليه تبين أنه عاجز لا ينفع ولا يضر، وظهر أنهم في عبادته على جهل عظيم.
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٥٩]
قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩)
أى أن من فعل هذا الكسر والحطم لشديد الظلم، معدود في الظلمة: إمّا لجرأته على الآلهة الحقيقة عندهم بالتوقير والإعظام، وإمّا لأنهم رأوا إفراطا في حطمها وتماديا في الاستهانة بها.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٦٠ الى ٦١]
قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (٦٠) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١)
وأعلم علما ليس بالظن أنه | إذا الله سنى عقد شيء تيسرا |
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٦٢ الى ٦٣]
قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣)
هذا من معاريض الكلام ولطائف هذا النوع لا يتغلغل فيها إلا أذهان الراضة من علماء المعاني. والقول فيه أنّ قصد إبراهيم صلوات الله عليه لم يكن إلى أن ينسب الفعل الصادر عنه إلى الصنم، وإنما قصد تقريره لنفسه وإثباته لها على أسلوب تعريضى يبلغ فيه غرضه من إلزامهم الحجة وتبكيتهم، وهذا كما لو قال لك صاحبك وقد كتبت كتابا بخط رشيق وأنت شهير بحسن الخط: أأنت كتبت هذا وصاحبك أمّىّ لا يحسن الخطّ ولا يقدر إلا على خرمشة «١» فاسدة، فقلت له: بل كتبته أنت، كان قصدك بهذا الجواب تقريره لك مع الاستهزاء به، لا نفيه عنك وإثباته للأمّىّ أو المخرمش، لأنّ إثباته- والأمر دائر بينكما للعاجز منكما- استهزاء به وإثبات للقادر، ولقائل أن يقول: غاظته تلك الأصنام حين أبصرها مصطفة مرتبة، وكان غيظ كبيرها أكبر وأشدّ لما رأى من زيادة تعظيمهم له، فأسند الفعل إليه لأنه هو الذي تسبب لاستهانته بها وحطمه لها، والفعل كما يسند إلى مباشره يسند إلى الحامل عليه. ويجوز أن يكون حكاية لما يقود إلى تجويزه مذهبهم، كأنه قال لهم: ما تنكرون أن يفعله كبيرهم. فإنّ من حق من يعبد ويدعى إلها أن يقدر على هذا وأشدّ منه، ويحكى أنه قال: فعله كبيرهم هذا غضب أن تعبد معه هذه الصغار وهو أكبر منها. وقرأ محمد بن السميقع: فعله كبيرهم، يعنى: فلعله، أى فلعلّ الفاعل كبيرهم.
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٦٤]
فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤)
خشبة يخط بها الخراز. ولم يوجد فيه «خرمشة» بزيادة الميم. (ع)
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٦٥]
ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥)
نكسته: قلبته فجعلت أسفله أعلاه، وانتكس: انقلب، أى: استقاموا حين رجعوا إلى أنفسهم وجاءوا بالفكرة الصالحة، ثم انتكسوا وانقلبوا عن تلك الحالة، فأخذوا في المجادلة بالباطل والمكابرة، وأنّ هؤلاء- مع تقاصر حالها عن حال الحيوان الناطق- آلهة معبودة، مضارّة منهم. أو انتكسوا عن كونهم مجادلين لإبراهيم عليه السلام مجادلين عنه، حين نفوا عنها القدرة على النطق. أو قلبوا على رؤسهم حقيقة، لفرط إطراقهم خجلا وانكسارا وانخزالا مما بهتهم به إبراهيم عليه السلام، فما أحاروا جوابا إلا ما هو حجة عليهم. وقرئ: نكسوا، بالتشديد.
ونكسوا، على لفظ ما سمى فاعله، أى: نكسوا أنفسهم على رؤسهم. قرأ به رضوان ابن عبد المعبود.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٦٦ الى ٦٧]
قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (٦٦) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٧)
أُفٍّ صوت إذا صوّت به علم أنّ صاحبه متضجر، أضجره ما رأى من ثباتهم على عبادتها بعد انقطاع عذرهم وبعد وضوح الحق وزهوق الباطل، فتأفف بهم. واللام لبيان المتأفف به.
أى: لكم ولآلهتكم هذا التأفف.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٦٨ الى ٧٠]
قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٦٨) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠)
أجمعوا رأيهم- لما غلبوا- بإهلاكه: وهكذا المبطل إذا قرعت شبهته بالحجة وافتضح، لم يكن أحد أبغض إليه من المحق، ولم يبق له مفزع إلا مناصبته، كما فعلت قريش برسول الله ﷺ حين عجزوا عن المعارضة، والذي أشار بإحراقه نمروذ. وعن ابن عمر رضى الله عنهما: رجل من أعراب العجم يريد الأكراد. وروى أنهم حين هموا بإحراقه، حبسوه ثم بنوا بيتا كالحظيرة بكوثى، وجمعوا شهرا أصناف الخشب الصلاب، حتى إن كانت المرأة لتمرض فتقول: إن عافاني الله لأجمعنّ حطبا لإبراهيم عليه السلام، ثم أشعلوا نارا عظيمة كادت الطير تحترق في الجوّ من وهجها، ثم وضعوه في المنجنيق مقيدا مغلولا فرموا به فيها، فناداها جبريل
أو ابردى بردا غير ضارّ. وعن ابن عباس رضى الله عنه: لو لم يقل ذلك لأهلكته ببردها. فإن قلت: كيف بردت النار وهي نار؟ قلت: نزع الله عنها طبعها الذي طبعها عليه من الحرّ والإحراق، وأبقاها على الإضاءة والاشتعال كما كانت، والله على كل شيء قدير. ويجوز أن يدفع بقدرته عن جسم إبراهيم عليه السلام أذى حرّها ويذيقه فيها عكس ذلك، كما يفعل بخزنة جهنم، ويدل عليه قوله عَلى إِبْراهِيمَ وأرادوا أن يكيدوه ويمكروا به، فما كانوا إلا مغلوبين مقهورين غالبوه بالجدال فغلبه الله ولقنه بالمبكت، وفزعوا إلى القوّة والجبروت، فنصره وقوّاه.
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٧١]
وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (٧١)
نجيا من العراق إلى الشام. وبركاته الواصلة إلى العالمين: أن أكثر الأنبياء عليهم السلام بعثوا فيه فانتشرت في العالمين شرائعهم وآثارهم الدينية وهي البركات الحقيقية. وقيل: بارك الله فيه بكثرة الماء والشجر والثمر والخصب وطيب عيش الغنىّ والفقير. وعن سفيان أنه خرج إلى الشام فقيل له: إلى أين؟ فقال: إلى بلد يملأ فيه الجراب بدرهم. وقيل: ما من ماء عذب إلا وينبع أصله من تحت الصخرة التي ببيت المقدس «٢». وروى أنه نزل بفلسطين، ولوط بالمؤتفكة
(٢). قلت: جاء مرفوعا عن أبى بن كعب. أخرجه الطبري عن الحسين عن الفضيل بن موسى عن الحسين بن واقد عن الربيع بن أنس عن أبى العالية عن أبى بن كعب في قوله «ونجيناه ولوطا- الآية» قال: الشام، وما من ماء عذب إلا يخرج من تلك الصخرة التي ببيت المقدس وأخرجه ابن أبى حاتم عن على بن الحسين بن الجنيد عن أبى عمار أخرجه أيضا من رواية محمد بن سعد بن سابق عن أبى جعفر الرازي عن الربيع عن أبى العالية مقطوعا لم يذكر أبى بن كعب، بلفظ «هي الأرض المقدسة بارك الله فيها للعالمين» ولم يذكر الصخرة. وأخرجه عبد بن حميد عن أبى النضر عن أبى جعفر كذلك. وزاد «لأن كل ماء عذب في الأرض منها يخرج من أصل صخرة بيت المقدس، يهبط من السماء إلى الصخرة ثم يتفرق في الأرض» وأخرجه أبو سعيد النقاش في فوائده من وجه آخر عن الربيع عن أبى العالية. وأخرجه أبو سعيد عبد بن حميد عن أبى النضر نحوه بتمامه وأخرجه الخطيب أبو بكر محمد بن أحمد ابن محمد المقدسي المعروف بابن الواسطي في كتاب فضل بيت المقدس من طريق آدم ابن أبى إياس عن أبى جعفر الرازي، بلفظ في قوله تعالى إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها قال: من بركتها أن كل ماء عذب يخرج من أصل صخرة بيت المقدس. وأخرج الخطيب المذكور من طريق غالب بن عبد الله عن أبى الزناد عن الأعرج عن أبى هريرة رفعه «الأنهار كلها والسحاب والبحار والرياح من تحت صخرة بيت المقدس» وغالب متروك.
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٧٢]
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (٧٢)
النافلة: ولد الولد. وقيل: سأل إسحاق فأعطيه، وأعطى يعقوب نافلة، أى: زيادة وفضلا من غير سؤال.
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٧٣]
وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (٧٣)
يَهْدُونَ بِأَمْرِنا فيه أن من صلح ليكون قدوة في دين الله فالهداية محتومة عليه مأمور هو بها من جهة الله، ليس له أن يخل بها ويتثاقل عنها، وأوّل ذلك أن يهتدى بنفسه، لأنّ الانتفاع بهداه أعم، والنفوس إلى الاقتداء بالمهدى أميل فِعْلَ الْخَيْراتِ أصله أن تفعل الخيرات، ثم فعلا الخيرات، ثم فعل الخيرات. وكذلك إقام الصلاة وإيتاء الزكاة.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٧٤ الى ٧٥]
وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (٧٤) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥)
حُكْماً حكمة وهو ما يجب فعله. أو فصلا بين الخصوم. وقيل: هو النبوّة. والقرية:
سذوم، أى: في أهل رحمتنا. أو في الجنة. ومنه الحديث «هذه رحمتي أرحم بها من أشاء «١» »
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٧٦ الى ٧٧]
وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٧٧)
هو «نصر» الذي مطاوعه «انتصر» وسمعت هذليا يدعو على سارق: اللهم انصرهم منه، أى: اجعلهم منتصرين منه. والكرب: الطوفان وما كان فيه من تكذيب قومه.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٧٨ الى ٨٠]
وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (٧٩) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (٨٠)
أى: واذكرهما. وإذ: بدل منهما. والنفش: الانتشار بالليل. وجمع الضمير لأنه أرادهما والمتحاكمين إليهما. وقرئ: لحكمهما. والضمير في فَفَهَّمْناها للحكومة أو الفتوى. وقرئ:
فأفهمناها. حكم داود بالغنم لصاحب الحرث. فقال سليمان عليه السلام وهو ابن إحدى عشرة سنة: غير هذا أرفق بالفريقين، فعزم عليه ليحكمنّ، فقال: أرى أن تدفع الغنم إلى أهل الحرث ينتفعون بألبانها وأولادها وأصوافها، والحرث إلى أرباب الشاء يقومون عليه حتى يعود كهيئته يوم أفسد، ثم يترادّان. فقال: القضاء ما قضيت، وأمضى الحكم بذلك. فإن قلت: أحكما بوحي أم باجتهاد؟ قلت: حكما جميعا بالوحي، إلا أن حكومة داود نسخت بحكومة سليمان. وقيل:
اجتهدا جميعا، فجاء اجتهاد سليمان عليه السلام أشبه بالصواب. فإن قلت: ما وجه كل واحدة من الحكومتين؟ قلت: أمّا وجه حكومة داود عليه السلام، فلأن الضرر لما وقع بالغنم سلمت بجنايتها إلى المجنى عليه، كما قال أبو حنيفة رضى الله عنه في العبد إذا جنى على النفس: يدفعه المولى بذلك أو يفديه. وعند الشافعي رضى الله عنه: يبيعه في ذلك أو يفديه. ولعل قيمة الغنم كانت على قدر النقصان في الحرث. ووجه حكومة سليمان عليه السلام أنه جعل الانتفاع بالغنم بإزاء ما فات من الانتفاع بالحرث، من غير أن يزول ملك المالك عن الغنم، وأوجب على صاحب الغنم أن يعمل في الحرث حتى يزول الضرر والنقصان، مثاله ما قال أصحاب الشافعي فيمن غصب عبدا فأبق من يده: أنه يضمن القيمة فينتفع بها المغصوب منه بإزاء ما فوّته الغاصب من منافع
فقال: يسبحن وَالطَّيْرَ إمّا معطوف على الجبال، أو مفعول معه. فإن قلت: لم قدمت الجبال على الطير؟ قلت: لأنّ تسخيرها وتسبيحها أعجب وأدلّ على القدرة وأدخل في الإعجاز، لأنها جماد والطير حيوان، إلا أنه غير ناطق. روى أنه كان يمرّ بالجبال مسبحا وهي تجاوبه. وقيل: كانت تسير معه حيث سار. فإن قلت: كيف تنطق الجبال وتسبح؟ قلت. بأن يخلق الله فيها الكلام كما خلقه في الشجرة حين كلم موسى «١». وجواب آخر: وهو أن يسبح من رآها تسير بتسيير الله، فلما حملت على التسبيح وصفت به وَكُنَّا فاعِلِينَ أى قادرين على أن نفعل هذا وإن كان عجبا عندكم وقيل: وكنا نفعل بالأنبياء مثل ذلك.
اللبوس: اللباس. قال:
البس لكلّ حالة لبوسها «٢»
والمراد الدرع. قال قتادة: كانت صفائح فأوّل من سردها وحلقها داود، فجمعت الخفة والتحصين لِتُحْصِنَكُمْ قرئ بالنون والياء والتاء، وتخفيف الصاد وتشديدها، فالنون لله عز وجل، والتاء للصنعة أو للبوس على تأويل الدرع، والياء لداود أو للبوس.
(٢).
البس لكل حالة لبوسها | إما نعيمها وإما بوسها |
هذا البيت، حتى إذا أخذت دماء السبعة. واللبوس- بالفتح-: اللباس. وقسمه في الابدال منه إلى النعيم والبؤس لعلاقة السببية. ويجوز أنه على حذف المضاف، أى: لبوس نعيمها أو لبوس بؤسها. ووسط إما للتنويع، ولكن القصة تدل على أن ذات اللباس لم تتغير، فيجوز أن اللبوس اسم مصدر وإن كان استعمال فعول بالفتح في المصدر قليلا. ويجوز أن يروى بالضم، فيكون بمعنى المصدر على الكثير، أى: البس لكل حالة ما يناسبها من اللبس.
إما اللبس المستقيم أو المنعكس. والمأمور باللبس ليس معنا. والبؤس بالهمز: الشدة، قلبت همزته هنا واوا لتناسب القافية. وبين لبوس وبوس: الجناس الناقص.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٨١ الى ٨٢]
وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (٨١) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (٨٢)قرئ: الريح. والرياح، بالرفع والنصب فيهما، فالرفع على الابتداء، والنصب على العطف على الجبال. فإن قلت: وصفت هذه الرياح بالعصف تارة وبالرخاوة أخرى، فما التوفيق بينهما؟ «١» قلت: كانت في نفسها رخية طيبة كالنسيم، فإذا مرت بكرسيه أبعدت به في مدة يسيرة، على ما قال غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ فكان جمعها بين الأمرين أن تكون رخاء في نفسها وعاصفة في عملها، مع طاعتها لسليمان وهبوبها على حسب ما يريد ويحتكم: آية إلى آية ومعجزة إلى معجزة. وقيل كانت في وقت رخاء، وفي وقت عاصفا، لهبوبها على حكم إرادته، وقد أحاط علمنا بكل شيء فنجري الأشياء كلها على ما يقتضيه علمنا وحكمتنا.
أى: يغوصون له في البحار فيستخرجون الجواهر، ويتجاوزون ذلك إلى الأعمال والمهن وبناء المدائن والقصور واختراع الصنائع العجيبة، كما قال يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ والله حافظهم أن يزيغوا عن أمره، أو يبدلوا أو يغيروا، أو يوجد منهم فساد في الجملة فيما هم مسخرون فيه.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٨٣ الى ٨٤]
وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (٨٤)
أى: ناداه بأنى مسنى الضر. وقرئ: إنى، بالكسر على إضمار القول أو لتضمن النداء معناه والضر- بالفتح-: الضرر في كل شيء، وبالضم: الضرر في النفس من مرض وهزال، فرق بين البناءين لافتراق المعنيين. ألطف في السؤال حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة، وذكر ربه بغاية الرحمة ولم يصرح بالمطلوب. ويحكى أنّ عجوزا تعرضت لسليمان بن عبد الملك فقالت:
يا أمير المؤمنين، مشت جرذان «٢» بيتي على العصىّ! فقال لها: ألطفت في السؤال، لا جرم
(٢). قوله «جرذان بيتي» في الصحاح «الجرذ» ضرب من الفأر. والجمع جرذان. (ع)
لو دعوت الله، فقال لها: كم كانت مدة الرخاء فقالت ثمانين سنة، فقال: أنا أستحى من الله أن أدعوه وما بلغت مدة بلائي مدة رخائي فلما كشف الله عنه أحيا ولده ورزقه مثلهم ونوافل منهم. وروى أن امرأته ولدت بعد ستة وعشرين ابنا. أى: لرحمتنا العابدين وأنا نذكرهم بالإحسان لا ننساهم أو رحمة منا لأيوب وتذكرة لغيره من العابدين، ليصبروا كما صبر حتى يثابوا كما أثيب في الدنيا والآخرة.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٨٥ الى ٨٦]
وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٦)
قيل في ذى الكفل: هو إلياس. وقيل: زكريا. وقيل: يوشع بن نون، وكأنه سمى بذلك لأنه ذو الحظ من الله والمجدود «٢» على الحقيقة. وقيل: كان له ضعف عمل الأنبياء في زمانه وضعف ثوابهم. وقيل: خمسة من الأنبياء ذوو اسمين: إسرائيل ويعقوب. إلياس وذو الكفل. عيسى والمسيح. يونس وذو النون. محمد وأحمد: صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٨٧]
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧)
النُّونِ الحوت، فأضيف إليه. برم «٣» بقومه لطول ما ذكرهم فلم يذكروا وأقاموا على كفرهم، فراغمهم وظنّ أنّ ذلك يسوغ حيث لم يفعله إلا غضبا لله وأنفة لدينه وبغضا للكفر وأهله، وكان عليه أن يصابر وينتظر الإذن من الله في المهاجرة عنهم، فابتلى ببطن الحوت.
ومعنى مغاضبته لقومه: أنه أغضبهم بمفارقته لخوفهم حلول العقاب عليهم عندها. وقرأ أبو شرف: مغضبا. قرئ: نقدر. ونقدّر، مخففا ومثقلا. ويقدر، بالياء بالتخفيف. ويقدر.
(٢). قوله «والمجدود» في الصحاح «الجد» الحظ والبخت. تقول: جددت يا فلان، أى: صرت ذا جد، فأنت جديد حظيظ، ومجدود محظوظ. (ع)
(٣). قوله «برم بقومه» سئمهم وتبرم بهم. أفاده الصحاح. (ع) [.....]
وعن ابن عباس: أنه دخل على معاوية فقال: لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة فغرقت فيها، فلم أجد لنفسي خلاصا إلا بك. قال: وما هي يا معاوية، فقرأ هذه الآية وقال: أو يظن نبىّ الله أن لا يقدر عليه؟ قال: هذا من القدر لا من القدرة. والمخفف يصح أن يفسر بالقدرة، على معنى: أن لن نعمل فيه قدرتنا، وأن يكون من باب التمثيل، بمعنى: فكانت حاله ممثلة بحال من ظنّ أن لن نقدر عليه في مراغمته قومه، من غير انتظار لأمر الله. ويجوز أن يسبق ذلك إلى وهمه بوسوسة الشيطان، ثم يردعه ويرده بالبرهان، كما يفعل المؤمن المحقق بنزغات الشيطان وما يوسوس إليه في كل وقت. ومنه قوله تعالى وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا والخطاب للمؤمنين فِي الظُّلُماتِ أى في الظلمة الشديدة المتكاثفة في بطن الحوت، كقوله ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ وقوله يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ وقيل: ظلمات بطن الحوت والبحر والليل. وقيل: ابتلع حوته حوت أكبر منه، فحصل في ظلمتى بطني الحوتين وظلمة البحر. أى بأنه لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أو بمعنى «أى». عن النبي ﷺ «ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا استجيب له «١» » وعن الحسن: ما نجاه والله إلا إقراره على نفسه بالظلم.
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٨٨]
فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨)
نُنْجِي وننجي. ونجى. والنون لا تدغم في الجيم، ومن تمحل لصحته فجعله فعل وقال نجى النجاء المؤمنين، فأرسل الياء وأسنده إلى مصدره ونصب المؤمنين بالنجاء- فمتعسف بارد التعسف
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٨٩ الى ٩٠]
وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (٩٠)
قال دعوة ذى النون لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ وأخرجه الحاكم أيضا من رواية معمر بن سليمان عن معمر عن الزهري عن أبى أمامة بن سهيل بن حنيف عن سعد.
الضمير للمذكورين من الأنبياء عليهم السلام يريد أنهم ما استحقوا الإجابة إلى طلباتهم إلا لمبادرتهم أبواب الخير ومسارعتهم في تحصيلها كما يفعل الراغبون في الأمور الجادون. وقرئ رَغَباً وَرَهَباً بالإسكان، وهو كقوله تعالى يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ. خاشِعِينَ قال الحسن: ذللا لأمر الله. وعن مجاهد: الخشوع الخوف الدائم في القلب. وقيل: متواضعين.
وسئل الأعمش فقال: أما إنى سألت إبراهيم فقال: ألا تدرى؟ قلت: أفدنى. قال: بينه وبين الله إذا أرخى ستره وأغلق بابه، فلير الله منه خيرا، لعلك ترى أنه أن يأكل خشنا ويلبس خشنا ويطأطئ رأسه.
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٩١]
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (٩١)
أَحْصَنَتْ فَرْجَها إحصانا كليا من الحلال والحرام جميعا كما قالت وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا. فإن قلت: نفخ الروح في الجسد عبارة عن إحيائه. قال الله تعالى فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي أى أحييته. وإذا ثبت ذلك كان قوله فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا ظاهر الإشكال، لأنه يدل على إحياء مريم. قلت: معناه نفخنا الروح في عيسى فيها، أى: أحييناه في جوفها «١». ونحو ذلك أن يقول الزمار: نفخت في بيت فلان، أى: نفخت في المزمار في بيته. ويجوز أن يراد: وفعلنا النفخ في مريم من جهة روحنا وهو جبريل عليه السلام، لأنه نفخ في جيب درعها فوصل النفخ إلى جوفها. فإن قلت: هلا قيل آيتين كما قال وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ؟ قلت: لأن حالهما بمجموعهما آية واحدة، وهي ولادتها إياه من غير فحل.
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٩٢]
إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢)
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٩٣]
وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (٩٣)
والأصل: وتقطعتم، إلا أن الكلام حرف إلى الغيبة على طريقة الالتفات، كأنه ينعى عليهم ما أفسدوه إلى آخرين ويقبح عندهم فعلهم، ويقول لهم: ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله. والمعنى: جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعا، كما يتوزع الجماعة الشيء ويتقسمونه، فيطير لهذا نصيب ولذاك نصيب، تمثيلا لاختلافهم فيه، وصيرورتهم فرقا وأحزابا شتى. ثم توعدهم بأنّ هؤلاء الفرق المختلفة إليه يرجعون، فهو محاسبهم ومجازيهم.
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٩٤]
فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (٩٤)
الكفران: مثل في حرمان الثواب، كما أن الشكر مثل في إعطائه إذا قيل لله: شكور.
وقد نفى نفى الجنس ليكون أبلغ من أن يقول: فلا نكفر سعيه وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ أى نحن كاتبو ذلك السعى ومثبتوه في صحيفة عمله، وما نحن مثبتوه فهو غير ضائع ومثاب عليه صاحبه.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٩٥ الى ٩٦]
وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (٩٥) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦)
استعير الحرام للممتنع وجوده. ومنه قوله عز وجلّ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ أى منعهما منهم، وأبى أن يكونا لهم. وقرئ: حرم وحرم، بالفتح والكسر. وحرّم وحرّم.
ومعنى أَهْلَكْناها عزمنا على إهلاكها. أو قدرنا إهلاكها. ومعنى الرجوع: الرجوع من الكفر إلى الإسلام والإنابة. ومجاز الآية: أن قوما عزم الله على إهلاكهم غير متصوّر أن يرجعوا وينيبوا، إلى أن تقوم القيامة فحينئذ يرجعون ويقولون: يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ يعنى: أنهم مطبوع على قلوبهم فلا يزالون على كفرهم ويموتون عليه حتى يروا العذاب. وقرئ: إنهم، بالكسر. وحق هذا أن يتمّ الكلام قبله، فلا بدّ من تقدير محذوف، كأنه قيل: وحرام على قرية أهلكناها ذاك. وهو المذكور في الآية المتقدمة من العمل الصالح والسعى المشكور غير المكفور، ثم علل فقيل: إنهم لا يرجعون عن الكفر، فكيف لا يمتنع ذلك. والقراءة بالفتح يصح حملها على هذا؟ أى: لأنهم لا يرجعون ولا صلة على
حذف المضاف إلى يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وهو سدّهما، كما حذف المضاف إلى القرية وهو أهلها.
وقيل: فتحت كما قيل أَهْلَكْناها وقرئ: آجوج. وهما قبيلتان من جنس الإنس، يقال:
الناس عشرة أجزاء، تسعة منها يأجوج ومأجوج وَهُمْ راجع إلى الناس المسوقين إلى المحشر وقيل: هم يأجوج ومأجوج يخرجون حين يفتح السدّ. الحدب: النشز «١» من الأرض. وقرأ ابن عباس رضى الله عنه: من كل جدث، وهو القبر، الثاء: حجازية، والفاء: تميمية. وقرئ يَنْسِلُونَ بضم السين. ونسل وعسل: أسرع.
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٩٧]
وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (٩٧)
وفَإِذا هي إذا المفاجأة، وهي تقع في المجازاة سادّة مسدّ الفاء، كقوله تعالى إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ فإذا جاءت الفاء معها تعاونتا على وصل الجزاء بالشرط فيتأكد. ولو قيل: إذا هي شاخصة.
أو فهي شاخصة، كان سديدا هِيَ ضمير مبهم «٢» توضحه الأبصار وتفسره، كما فسر الذين ظلموا وأسروا يا وَيْلَنا متعلق بمحذوف تقديره: يقولون يا ويلنا. ويقولون: في موضع الحال من الذين كفروا.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٩٨ الى ١٠٠]
إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (٩٨) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (٩٩) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (١٠٠)
ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يحتمل الأصنام وإبليس وأعوانه، لأنهم بطاعتهم لهم واتباعهم خطواتهم في حكم عبدتهم. ويصدّقه ما روى: أنّ رسول الله ﷺ دخل المسجد وصناديد قريش في الحطيم، وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما، فجلس إليهم فعرض له النضر بن الحرث فكلمه رسول الله ﷺ حتى أفحمه، ثم تلا عليهم
فقال صلى الله عليه وسلم: بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك «١». فأنزل الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى... الآية يعنى عزيرا والمسيح والملائكة عليهم السلام. فإن قلت:
لم قرنوا بآلهتهم؟ قلت: لأنهم لا يزالون لمقارنتهم في زيادة غمّ وحسرة، حيث أصابهم ما أصابهم بسببهم. والنظر إلى وجه العدوّ باب من العذاب، ولأنهم قدّروا، أنهم يستشفعون بهم في الآخرة ويستنفعون بشفاعتهم، فإذا صادفوا الأمر على عكس ما قدروا لم يكن شيء أبغض إليهم منهم.
فإن قلت: إذا عنيت بما تعبدون الأصنام، فما معنى لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ؟ قلت: إذا كانوا هم وأصنامهم في قرن «٢» واحد، جاز أن يقال: لهم زفير، وإن لم يكن الزافرين إلا هم دون الأصنام للتغليب ولعدم الإلباس. والحصب: المحصوب به، أى: يحصب بهم في النار. والحصب: الرمي.
وقرئ بسكون الصاد، وصفا بالمصدر. وقرئ حطب، وحضب، بالضاد متحركا وساكنا.
وعن ابن مسعود: يجعلون في توابيت من نار فلا يسمعون. ويجوز أن يصمهم الله كما يعميهم.
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ١٠١]
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١)
قال: لكل من عبد من دون الله. قال. خصمتك ورب الكعبة- فذكر نحوه.
«تنبيهان» أحدهما: اشتهر في ألسنة كثير من علماء العجم وفي كتبهم: أن النبي ﷺ قال في هذه القصة لابن الزبعرى «ما أجهلك بلغة قومك. فانى قلت: وما تعبدون. وهي لما لا يعقل. ولم أقل: ومن تعبدون اه.
وهو شيء لا أصل له. ولا يوجد لا مسندا ولا غير مسند. الثاني قال السهيلي اعتراض ابن الزبعرى غير لازم، لأن الخطاب مخصوص بقريش وما يعبدون من الأصنام. ولذلك أتى بما الواقعة على ما لا يعقل اه. وحديث ابن عباس الذي تقدم ينقض عليه هذا التأويل. فانه صرح بأن المراد كل ما يعبد من دون الله
(٢). قوله «في قرن هو حبل يقرن به البعيران. أفاده الصحاح. (ع)
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١٠١ الى ١٠٣]
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (١٠٢) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣)الْحُسْنى الخصلة المفضلة في الحسن تأنيث الأحسن: إمّا السعادة، وإما البشرى بالثواب وإما التوفيق للطاعة. يروى أنّ عليا رضى الله عنه قرأ هذه الآية ثم قال: أنا منهم، وأبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف، ثم أقيمت الصلاة فقام يجرّ رداءه وهو يقول لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها «١» والحسيس: الصوت يحس، والشهوة: طلب النفس اللذة. وقرئ لا يَحْزُنُهُمُ من أحزن. والْفَزَعُ الْأَكْبَرُ قيل: النفخة الأخيرة، لقوله تعالى يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وعن الحسن: الانصراف إلى النار.
وعن الضحاك: حين يطبق على النار. وقيل: حين يذبح الموت على صورة كبش أملح، أى تستقبلهم الْمَلائِكَةُ مهنئين على أبواب الجنة. ويقولون: هذا وقت ثوابكم الذي وعدكم ربكم قد حلّ.
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ١٠٤]
يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (١٠٤)
العامل في يَوْمَ نَطْوِي لا يحزنهم. أو الفزع. أو تتلقاهم. وقرئ: تطوى السماء، على البناء للمفعول السِّجِلِّ بوزن العتلّ «٢» والسجل بلفظ الدلو. وروى فيه الكسر: وهو الصحيفة، أى: كما يطوى الطومار للكتابة، أى: ليكتب فيه، أو: لما يكتب فيه، لأن الكتاب أصله المصدر كالبناء، ثم يوقع على المكتوب، ومن جمع فمعناه: للمكتوبات، أى: لما يكتب فيه من المعاني الكثيرة. وقيل السِّجِلِّ ملك يطوى كتب بنى آدم إذا رفعت إليه. وقيل: كاتب كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم. والكتاب- على هذا- اسم الصحيفة المكتوب فيها أَوَّلَ خَلْقٍ مفعول نعيد الذي يفسره نُعِيدُهُ والكاف مكفوفة بما. والمعنى: نعيد أوّل الخلق كما بدأناه، تشبيها للإعادة بالإبداء في تناول القدرة لهما على السواء، فإن قلت: وما أوّل الخلق حتى يعيده كما بدأه؟ قلت: أوّله إيجاده عن العدم، فكما أوجده أولا عن عدم، يعيده ثانيا عن عدم «٣». فإن قلت: ما بال خَلْقٍ
(٢). قوله «بوزن العتل» العتل: الغليظ الجافي. وقال تعالى عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ والعتل أيضا: الرمح الغليظ.
ورجل عتل- بالكسر-: بين العتل، كذا في الصحاح. (ع)
(٣). قال محمود: «إن قلت ما أول الخلق حتى يعيده كما بدأه؟ قلت: أول الخلق إيجاده عن العدم، فكما أوجده أولا عن عدم يعيده ثانيا عن عدم» قلت: هذا الذي ذكره هاهنا في المعاد قد عاد به إلى الحق ورجع عما قاله في سورة مريم، حيث فسر الاعادة بجمع المتفرق خاصة، إلا أنه كدر صفو اعترافه بالحق بتفسيره قوله إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ بالقدرة على الفعل، ولا يلزم على هذا من القدرة على الفعل حصوله، تحويما على أن الموعود به ليس إعادة الأجسام عن عدم وإن كانت القدرة صالحة لذلك، ولكن إعادة الأجزاء على صورها مجتمعة مؤتلفة على ما تقدم له في سورة مريم، إلا أن يكون الباعث له على تفسير الفعل بالقدرة: أن الله ذكر ماضيا والاعادة وقوعها مستقبل، فتعين عنده من ثم حمل الفعل على القدرة فقد قارب، ومع ذلك فالحق بقاء الفعل على ظاهره لأن الأفعال المستقبلة التي علم الله وقوعها، كالماضية في التحقيق، فمن ثم عبر عن المستقبل بالماضي في مواضع كثيرة من الكتاب العزيز.
والغرض الإيذان بتحقيق وقوعه، والله أعلم.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١٠١ الى ١٠٣]
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (١٠٢) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣)الْحُسْنى الخصلة المفضلة في الحسن تأنيث الأحسن: إمّا السعادة، وإما البشرى بالثواب وإما التوفيق للطاعة. يروى أنّ عليا رضى الله عنه قرأ هذه الآية ثم قال: أنا منهم، وأبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف، ثم أقيمت الصلاة فقام يجرّ رداءه وهو يقول لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها «١» والحسيس: الصوت يحس، والشهوة: طلب النفس اللذة. وقرئ لا يَحْزُنُهُمُ من أحزن. والْفَزَعُ الْأَكْبَرُ قيل: النفخة الأخيرة، لقوله تعالى يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وعن الحسن: الانصراف إلى النار.
وعن الضحاك: حين يطبق على النار. وقيل: حين يذبح الموت على صورة كبش أملح، أى تستقبلهم الْمَلائِكَةُ مهنئين على أبواب الجنة. ويقولون: هذا وقت ثوابكم الذي وعدكم ربكم قد حلّ.
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ١٠٤]
يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (١٠٤)
العامل في يَوْمَ نَطْوِي لا يحزنهم. أو الفزع. أو تتلقاهم. وقرئ: تطوى السماء، على البناء للمفعول السِّجِلِّ بوزن العتلّ «٢» والسجل بلفظ الدلو. وروى فيه الكسر: وهو الصحيفة، أى: كما يطوى الطومار للكتابة، أى: ليكتب فيه، أو: لما يكتب فيه، لأن الكتاب أصله المصدر كالبناء، ثم يوقع على المكتوب، ومن جمع فمعناه: للمكتوبات، أى: لما يكتب فيه من المعاني الكثيرة. وقيل السِّجِلِّ ملك يطوى كتب بنى آدم إذا رفعت إليه. وقيل: كاتب كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم. والكتاب- على هذا- اسم الصحيفة المكتوب فيها أَوَّلَ خَلْقٍ مفعول نعيد الذي يفسره نُعِيدُهُ والكاف مكفوفة بما. والمعنى: نعيد أوّل الخلق كما بدأناه، تشبيها للإعادة بالإبداء في تناول القدرة لهما على السواء، فإن قلت: وما أوّل الخلق حتى يعيده كما بدأه؟ قلت: أوّله إيجاده عن العدم، فكما أوجده أولا عن عدم، يعيده ثانيا عن عدم «٣». فإن قلت: ما بال خَلْقٍ
(٢). قوله «بوزن العتل» العتل: الغليظ الجافي. وقال تعالى عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ والعتل أيضا: الرمح الغليظ.
ورجل عتل- بالكسر-: بين العتل، كذا في الصحاح. (ع)
(٣). قال محمود: «إن قلت ما أول الخلق حتى يعيده كما بدأه؟ قلت: أول الخلق إيجاده عن العدم، فكما أوجده أولا عن عدم يعيده ثانيا عن عدم» قلت: هذا الذي ذكره هاهنا في المعاد قد عاد به إلى الحق ورجع عما قاله في سورة مريم، حيث فسر الاعادة بجمع المتفرق خاصة، إلا أنه كدر صفو اعترافه بالحق بتفسيره قوله إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ بالقدرة على الفعل، ولا يلزم على هذا من القدرة على الفعل حصوله، تحويما على أن الموعود به ليس إعادة الأجسام عن عدم وإن كانت القدرة صالحة لذلك، ولكن إعادة الأجزاء على صورها مجتمعة مؤتلفة على ما تقدم له في سورة مريم، إلا أن يكون الباعث له على تفسير الفعل بالقدرة: أن الله ذكر ماضيا والاعادة وقوعها مستقبل، فتعين عنده من ثم حمل الفعل على القدرة فقد قارب، ومع ذلك فالحق بقاء الفعل على ظاهره لأن الأفعال المستقبلة التي علم الله وقوعها، كالماضية في التحقيق، فمن ثم عبر عن المستقبل بالماضي في مواضع كثيرة من الكتاب العزيز.
والغرض الإيذان بتحقيق وقوعه، والله أعلم.
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ١٠٥]
وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥)
عن الشعبي رحمة الله عليه: زبور داود عليه السلام، والذكر: التوراة. وقيل اسم لجنس ما أنزل على الأنبياء من الكتب. والذكر: أم الكتاب، يعنى اللوح، أى: يرثها المؤمنون بعد إجلاء الكفار، كقوله تعالى وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا، قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ وعن ابن عباس رضى الله عنه: هي أرض الجنة. وقيل: الأرض المقدّسة، ترثها أمّة محمد صلى الله عليه وسلم.
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ١٠٦]
إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦)
الإشارة إلى المذكور في هذه السورة من الأخبار والوعد والوعيد والمواعظ البالغة. والبلاغ:
الكفاية وما تبلغ به البغية.
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ١٠٧]
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧)
أرسل ﷺ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ لأنه جاء بما يسعدهم إن اتبعوه. ومن خالف ولم يتبع. فإنما أتى من عند نفسه حيث ضيع نصيبه منها. ومثاله: أن يفجر الله عينا غديقة، فيسقى ناس زروعهم ومواشيهم بمائها فيفلحوا، ويبقى ناس مفرطون عن السقي فيضيعوا، فالعين
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ١٠٨]
قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨)
إنما لقصر الحكم على شيء، أو لقصر الشيء على حكم، كقولك: إنما زيد قائم، وإنما يقوم زيد. وقد اجتمع المثالان في هذه الآية، لأن إِنَّما يُوحى إِلَيَّ مع فاعله، بمنزلة: إنما يقوم زيد. وأَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ بمنزلة: إنما زيد قائم. وفائدة اجتماعهما: الدلالة على أن الوحى إلى رسول الله ﷺ مقصور على استئثار الله بالوحدانية: وفي قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أن الوحى الوارد على هذا السنن موجب أن تخلصوا التوحيد لله، وأن تخلعوا الأنداد. وفيه أن صفة الوحدانية يصح أن تكون طريقها السمع. ويجوز أن يكون المعنى:
أن الذي يوحى إلى، فتكون «ما» موصولة.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١٠٩ الى ١١١]
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (١٠٩) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (١١٠) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (١١١)
آذن: منقول من أذن إذا علم، ولكنه كثر استعماله في الجري مجرى الإنذار. ومنه قوله تعالى فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وقول ابن حلزة:
آذنتنا ببينها أسماء «١»
والمعنى: أنى بعد توليكم وإعراضكم عن قبول ما عرض عليكم من وجوب توحيد الله وتنزيهه عن الأنداد والشركاء، كرجل بينه وبين أعدائه هدنة فأحس منهم بغدرة، فنبذ اليهم العهد، وشهر النبذ وأشاعه وآذنهم جميعا بذلك عَلى سَواءٍ أى مستوين في الإعلام به، لم يطوه عن
(٢). قوله «هي ضمير مبهم | الخ» لعله ضمير وَأَسَرُّوا أو لعله واو وَأَسَرُّوا. (ع) |
آذنتنا ببينها أسماء | رب ثاو يمل منه الثواء |
والملل: السآمة. والثواء: الاقامة. يقول: أعلمتتا لفراقها. ورب سقيم يسأم الناس من إقامته، وهي ليست كذلك. وحذف هذا للعلم به من المقام.
وما أدرى لعلّ تأخير هذا الموعد امتحان لكم لينظر كيف تعملون. أو تمتيع لكم إِلى حِينٍ ليكون ذلك حجة عليكم، وليقع الموعد في وقت هو فيه حكمة.
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ١١٢]
قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١١٢)
قرئ قل وقالَ، على حكاية قول رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورَبِّ احْكُمْ على الاكتفاء بالكسرة. ورب احكم، على الضم. وربى أحكم، على أفعل التفضيل. وربى أحكم:
من الإحكام، أمر باستعجال العذاب لقومه فعذبوا ببدر. ومعنى بِالْحَقِّ لا تحابهم وشدد عليهم كما هو حقهم، كما قال «اشدد وطأتك على مضر» «٢» قرئ تَصِفُونَ بالتاء والياء.
كانوا يصفون الحال على خلاف ما جرت عليه، وكانوا يطمعون أن تكون لهم الشوكة والغلبة، فكذب الله ظنونهم وخيب آمالهم، ونصر رسول الله ﷺ والمؤمنين، وخذلهم.
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «من قرأ اقترب للناس حسابهم حاسبه الله حسابا يسيرا، وصافحه وسلم عليه كل نبىّ ذكر اسمه في القرآن» «٣».
(٢). متفق عليه من حديث أبى هريرة في قصة القنوت في صلاة الصبح.
(٣). أخرجه الثعلبي وابن مردويه من حديث أبى بن كعب