تفسير سورة الرّوم

تفسير السمرقندي
تفسير سورة سورة الروم من كتاب بحر العلوم المعروف بـتفسير السمرقندي .
لمؤلفه أبو الليث السمرقندي . المتوفي سنة 373 هـ
سورة الروم وهي ستون آية مكية.

[الجزء الثالث]

سورة الروم
وهي ستون آية مكية
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ١ الى ٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤)
بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥) وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (٦)
قول الله سبحانه وتعالى: الم غُلِبَتِ الرُّومُ يعني قهرت الروم فِي أَدْنَى الْأَرْضِ مما يلي فارس يعني أرض الأردن وفلسطين وَهُمْ يعني أهل الروم مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ أهلَ فارس، وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم كتب إلى قيصر، ملك الروم، يدعوه إلى الإسلام، فقرأ كتابه، وقبّله ووضعه على عينيه، وختمه بخاتمه، ثم أوثقه على صدره، ثم كتب جواب كتابه: إنا نشهد أنك نبي ولكنا لا نستطيع أن نترك الدين القديم الذي اصطفى الله لعيسى، فعجب النبيّ صلّى الله عليه وسلم وقال: «قَدْ ثَبَّتَ الله مُلْكَهُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إلَى أدْنَى الأَرْضِ مِنْهَا بِفَتْحِ الله عَزَّ وَجَلَّ عَلَى المُسْلِمِينَ».
وكتب إلى كسرى ملك فارس فمزَّق كتابه، ورجع الرسول بعد ما أراد قتله، فأخبر النبي صلّى الله عليه وسلم بذلك، فقال صلّى الله عليه وسلم: «قَد مَزَّقَ الله مُلُكهم فلا مُلكَ لَهُمْ أبَداً. إذا ماتَ كِسْرَى فلا كِسْرَى بَعْدَهُ» فلمّا ظهرت فارس على الروم اغتمَّ المسلمون لذلك، فنزل قوله تعالى: الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ.
وقال في رواية الكلبي: إن مشركي قريش شتموا حين غلب المشركون أهل الكتاب، فقال لهم أبو بكر- رضي الله عنه- لم تشتمون؟ فو الله ليظهرنَّ الروم عليهم. فقال أبيُّ بن خلف: والله لا يكون ذلك أبداً فتبايعا أبو بكر وأبيّ بن خلف لتظهرن الروم على أهل فارس
3
إلى ثلاث سنين على تسع ذود. فرجع أبو بكر إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم، وأخبره بالأمر، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم:
«انْطلِقْ فَزِدْهُ فِي الخَطَرِ، وَمُدَّهُ فِي الأجَلِ» فرجعَ أبو بكر إلى أبيّ بن خلف، فقال: أنا أبايعك إلى سبع سنين على عشرة ذَود، فبايعه فلما خشي أبيّ بن خلف أن يخرج أبو بكر من مكة إلى المدينة مهاجراً أتاه فلزمه، فكفل له عبد الرحمن بن أبي بكر. فلما أراد أبي بن خلف أن يخرج إلى أحدُ أتاه محمد بن أبي بكر، فلزمه، فأعطاه كفيلاً، ثم خرج إلى أحدُ فظهرت الرُّوم على فارس عام الحديبية، وذلك عند رأس سبع سنين، فذلك قوله: وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ.
وروى أسباط، عن السدي، عن أصحابه، قال: اقتتلت فارس والروم، فغلبتهم فارس، ففخر أبو سفيان بن حرب على المسلمين، وقال: الذين ليس لهم كتاب غلبوا على الذين لهم كتاب، فشقَّ ذلك على المسلمين، فلقي أبو بكر رضي الله عنه أبا سفيان، فقامره على ثلاثة أبكار على أنَّ الروم ستغلب فارس إلى ثلاث سنين، ثم أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلم فأخبره، فقال له:
«انْطَلِقْ فَزِدْ فِي الجَعْلِ، وَزِدْ في السِّنِينَ». فزايده إلى سبع سنين على سبعة أبكار. فالتقى الروم وفارس، فغلبتهم الروم، وظهر عليهم هرقل، فجاءه جبريل- عليه السلام- بهزيمة فارس، وظهور الرّوم عليهم، ووافق ذلك يوم بدر وظهور النبيّ صلّى الله عليه وسلم على المشركين، ففرح المؤمنون بظهورهم على المشركين، وظهور أهل الكتاب على أهل الشرك.
ويقال إن أهل الروم كانوا أهل كتاب، وكان المسلمون يرجون إسلامهم، وأهل فارس كانوا مجوساً، فكان المسلمون لا يرجون إسلامهم، وكانوا يحزنون لغلبة فارس عليهم فنزل الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ أي أقرب الأرض إلى أرض فارس وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ روي عن الفراء أنه قال: يعني من بعد غلبتهم، ولكن عند الإضافة سقطت الهاء، كما قال: وَأَقامَ الصَّلاةَ [الأنبياء: ٧٣] ولم يقل: وإقامة الصلاة.
وقال الزجاج: هذا غلط، وإنا يجوز ذلك في المعتلّ خاصة. والغلب والغلبة كلاهما مصدر. وسَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ يعني إلى خمس سنين، ويقال: إلى سبع سنين.
روي عن أبي عبيدة أنه قال: البضع من واحد إلى أربعة. وقال القتبي: البضع ما فوق الثلاثة إلى دون العشرة. وقال مجاهد: البضع ما بين الثلاث إلى التسع، ويقال مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ وهذا اللفظ يكون للغالبين وللمغلوبين كقولهم من بعد قتلهم.
ثم قال عز وجل: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ يعني لله الأمر حين غلبت الروم فارس وَمِنْ بَعْدُ يعني حين غلبت الروم فارس.
ولفظ القبل والبعد إذا كان في آخر الكلام يكون رفعاً على معنى الإضافة للغاية، ولو كان إضافة إلى شيء يكون خفضاً، كقولك: من بعدهم ومن قبلهم.
4
ثم قال: وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ لما يرجون من إسلامهم، ويقال: يفرح أبو بكر رضي الله عنه خاصة، ويقال: يفرح المؤمنون بتصديق وعد الله تعالى. وروي عن الشعبي أنه قال: كان ذلك عام الحديبية، فغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فبايعوه مبايعة الرضوان، ووعد لهم غنائم خيبر، وظهرت الروم على فارس، وكان تصديقاً لهذه الآية وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ وإنَّما جازت مخاطرة أبي بكر- رضي الله عنه- لأن المخاطرة كانت مباحة في ذلك الوقت، ثم حرمت بقوله: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ [المائدة: ٩٠] الآية، ثم قال بِنَصْرِ اللَّهِ يعني بفتح الله يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ يعني نصر الله محمداً صلّى الله عليه وسلم وأصحابه وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ بالمؤمنين حين نصرهم.
قوله عز وجل: وَعْدَ اللَّهِ نصب الوعد لأنه مصدر، ومعناه وعد الله وعداً يعني انتصروا وعد الله.
ثم قال: لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ حيث وعد لهم غلبة الروم وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ يعني الكفار لا يعلمون أن الله عَزَّ وَجَلَّ لاَ يخلف وعده، ويقال: لا يعلمون الآخرة.
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٧ الى ١١]
يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (٧) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١)
قوله عزَّ وجلَّ: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا يعني يعلمون حرفتهم، وأمر معايشهم، ومتى يدرك زرعهم. ويقال في أمر التجارة كانوا أكيس الناس. وقال الحسن: كان الرجل منهم يأخذ درهماً ويقول وزنه كذا ولا يخطئ. وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ أي لا يؤمنون بها. ويقال: عن أمر الآخرة، وما وعدوا فيها من الهول والعذاب هم غافلون.
ثم وعظهم فقال عز وجل: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ فيعتبروا في خلق السموات والأرض. وروي عن أبي الدرداء- رضي الله عنه- أنه قال: تَفَكُّرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ قيام ليلة.
ثم قال: مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ يعني للحق وَأَجَلٍ مُسَمًّى يعني السموات والأرض لهن أجل ووقت معلوم وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ يعني جاحدون للبعث.
ثم خوفهم، فقال عز وجل: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني الأمم الخالية كانت عاقبتهم الهلاك، ثم أخبر عنهم فقال: كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ قال مقاتل: يعني ملكوا الأرض. وقال الكلبي يعني حرثوها. ويقال:
أثاروا الأرض إذا قلبوها للزراعة. وَعَمَرُوها يعني عمروا الأرض أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها يعني أهل مكة. ويقال: عاشوا فيها أكثر مما عاش أهل مكة وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ يعني بالحجج الواضحات فكذبوهم، فأهلكهم الله عزَّ وجلَّ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ أي ليعذبهم بغير ذنب وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بالمعاصي.
قوله عز وجل: ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا يعني آخر أمر الذين أشركوا السُّواى يعني العذاب، فيجوز أن تكون ثم على معنى التأخير، ويجوز أن يكون معناه: ثم مع هذا كان عاقبة الذين. قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو عاقبة بالضّمّ، وقرأ الباقون بالنصب، فمن قرأ بالضم جعله اسم كان، وجعل السوء خبر كان، ومن قرأ الباقون بالنصب، فمن قرأ والسوء اسم كان، ومعنى القراءتين يرجع إلى شيء واحد، يعني ثم كان عاقبة الكافرين النار لتكذيبهم بآيات الله عزَّ وجلَّ. والسوء هاهنا جهنم، كما أن الحسنى الجنة.
ثم قال: أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ يعني: عاقبة جهنم، لأنهم كذبوا بآيات الله ما جاءت بها الرسل وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ يعني: بآيات الله اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ يعني يحييهم بعد الموت ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ في الآخرة. قرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر: يَرْجِعُونَ بالياء على معنى الإخبار عنهم، وقرأ الباقون بالتاء على معنى المخاطبة.
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ١٢ الى ١٦]
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (١٣) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (١٦)
ثم قال عز وجل: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يعني: واذكر يوم تقوم الساعة يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ يعني: ييأس المشركون من كل خير. ويقال: أيسوا من إقامة الحجة. ويقال:
يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ يعني: يندمون. قال الزجاج: المبلس الساكت. المنقطع الحجة، الآيس
من أن يهتدي إليها وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ يعني: من الملائكة، ومن الأصنام وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ يعني: تبرأت الملائكة- عليهم السلام- منهم، وتبرأت الأصنام عنهم.
ثم قال عز وجل: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ يعني: بعد الحساب يتفرقون.
فريق في الجنة، وفريق في النار.
ثم أخبر عن مرجع كل فريق فقال: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يعني: الذين صدقوا بالله ورسوله، وأدّوا الفرائض والسنن فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ قال مقاتل: يعني:
بستان يكرمون وينعمون. وقال السدي: يُحْبَرُونَ أي: يفرحون ويكرمون. وقال مجاهد:
يُحْبَرُونَ يعني: ينعمون. وقال القتبي: يُحْبَرُونَ يعني: يسرون وينعمون. والحبرة:
السرور. ومنه يقال مع كل حبرة عبرة. وقال الزجاج: يُحْبَرُونَ يعني: يحسنون إليهم. يقال للعالم: حبر، وللمداد حبر، لأنه يحسن به الكتابة. ويقال: يُحْبَرُونَ أي: يسمعون أصوات المغنيات.
قوله عز وجل: وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا يعني: بمحمد صلّى الله عليه وسلم والقرآن وَلِقاءِ الْآخِرَةِ يعني: البعث بعد الموت فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ يعني: مقرنين. ويقال: يجتمعون هم وآلهتهم.
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ١٧ الى ٢٦]
فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١٩) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١)
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (٢٢) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٢٣) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مَاء فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (٢٦)
7
قوله عز وجل: فَسُبْحانَ اللَّهِ يعني: صلوا لله حِينَ تُمْسُونَ يعني: صلاة المغرب والعشاء وَحِينَ تُصْبِحُونَ يعني: صلاة الفجر وعشياً. يعني: صلاة العصر وحين تظهرون. على معنى التقديم والتأخير أي: صلاة الظهر وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ يعني: يحمده أهل السموات، وأهل الأرض. ويقال: له الألوهية في السموات والأرض، كقوله عز وجل: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ [الزخرف: ٨٤] يقال: وَلَهُ الْحَمْدُ يعني:
الحمد على أهل السموات وأهل الأرض، لأنهم في نعمته، فالحمد واجب علينا.
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ يعني: الدجاجة من البيضة، والإنسان من النطفة، والمؤمن من الكافر. وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ يعني: البيضة من الدجاجة، والكافر من المؤمن.
وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها يعني: ينبت النبات من الأرض بعد يبسها، وقحطها بالمطر.
وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ يعني: يحييكم بالمطر الذي يمطر من البحر المسجور كالمني فتحيون به.
وقال مقاتل: يرسل الله عز وجل يوم القيامة ماء الحيوان من السماء السابعة من البحر المسجور على الأرض، بين النفختين، فينتشر عظام الموتى فذلك قوله: وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ: قرأ حمزة والكسائي: تُخْرَجُونَ بفتح التاء. والباقون برفع التاء. يعني: تخرجون من قبوركم يوم القيامة.
قوله عز وجل: وَمِنْ آياتِهِ قال مقاتل: يعني ومن علامات الرب، أنه واحد وإن لم يروه، وعرفوا توحيده بصنعه، أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ يعني: خلق آدم من تراب وأنتم ولده ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ ذريته من بعده بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ يعني: تبسطون. كقوله: وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ [الشورى: ٢٨] يعني: ويبسط. ويقال: وَمِنْ آياتِهِ يعني: من العلامات التي تدل على أن الله عز وجل واحد لا مثل له، ظهور القدرة التي يعجز عنها المخلوقون أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ يعني: آدم عليه السلام ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ منتشرون على وجه الأرض.
ثم قال عزّ وجلّ: وَمِنْ آياتِهِ يعني: من علامات وحدانيته أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ يعني: من جنسكم أَزْواجاً لأنه لو كان من غير جنسه، لكان لا يستأنس بها.
ويقال: مِنْ أَنْفُسِكُمْ يعني: خلقها من آدم. ويقال: من بعضكم بعضاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها يعني: لتستقر قلوبكم عندها. لأن الرجل إذا طاف البلدان، لا يستقر قلبه، فإذا رجع إلى أهله، اطمأن واستقر. ويقال: لِتَسْكُنُوا إِلَيْها يعني: لتوافقوها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً يعني:
الحب بين الزوج والمرأة، ولم يكن بينهما قرابة. ويحب كل واحد منهما صاحبه، ويقال:
وجعل منكم مودة للصغير على الكبير، ورحمة للكبير على الصغير. ويقال: وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ
8
مَوَدَّةً وَرَحْمَةً
يعني: الولدان إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ يعني: فيما ذكر لعلامات لوحدانيته لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أني خالق.
قوله عز وجل: وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وأنتم تعلمون ذلك، لأنهم مقرون أن الله عز وجل خالقهم، وهو خالق الأشياء وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ أي: عربي، وعجمي، ونبطي، وَأَلْوانِكُمْ أي: أحمر، وأبيض، وأسود، وأسمر.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ يعني: لعلامات في خلق السموات والأرض، واختلاف الألسن، والألوان لعلامات. لِلْعالِمِينَ فيعتبرون. قرأ عاصم في روية حفص: لِلْعالِمِينَ بكسر اللام. يعني: جميع العلماء، يعني: إن في ذلك علامة للعقلاء. وقرأ الباقون: بنصب اللام يعني: علامة لجميع خلق الإنس والجن.
قوله عز وجل: وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ منامكم نومكم، فهو مصدر. يقال:
نام نوماً، ومناماً بالليل والنهار، على معنى التقديم يعني: منامكم بالليل وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ بالنهار يعني: طلبكم الرزق بالنهار والمعيشة إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ يعني: لعلامات على وحدانيتي لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ المواعظ ويعتبرون.
قوله عز وجل: وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً من الصواعق إذا كنتم بأرض قفر، وَطَمَعاً للمطر. خَوْفاً وَطَمَعاً منصوبان على المفعول له المعنى يريكم للخوف والطمع، خوفاً للمسافر وطمعاً للمقيم.
وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماء يعني: المطر فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ أي: بالنبات بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أي: لعلامات لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ عن الله عز وجل فيوحدونه.
قوله عز وجل: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ يعني: فوق رؤوسكم بغير عمد لا يناله شيء، وتقوم الأرض على الماء تحت أقدامكم وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ أي: بقدرته ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ يعني: إسرافيل- عليه السلام- يدعوكم على صخرة بيت المقدس في الصور دعوة من الأرض إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ وقال بعضهم: في الآية تقديم. ومعناه: ثم إذا دعاكم دعوة من الارض يعني: من قبوركم فإذا أنتم تخرجون: قرأ حمزة والكسائي:
تَخْرُجُونَ بنصب التاء وضم الراء. وقرأ الباقون: بضم التاء ونصب الراء.
ثم قال عز وجل: وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من الخلق كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ يعني:
مقرّين بالعبودية. يعلمون أن الله عز وجل ربهم. ويقال: قانِتُونَ أي: خاضعون له، لا يقدرون أن يغيروا أنفسهم عما خلقهم. ويقال: معناه في كل شيء دليل ربوبيّته. وهذا أيضاً من آياته. ولكنه لم يذكر لأنه قد سبق ذكره مرات، فكأنه يقول ومن آياته أن له من في السموات والأرض له قانتون.
9

[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٢٧ الى ٢٩]

وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٩)
ثم قال عز وجل: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ أي: خلق آدم، فبدأ خلقهم ولم يكونوا شيئا ثُمَّ يُعِيدُهُ يعني: يبعثهم في الآخرة أحياء وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ يعني: في المثل عندكم، لأن إبداء الشيء أشدّ من إعادته. ويقال: إن ابتداءه كان نطفة، ثم جعله علقة، ثم جعله مضغة، ثم لحماً، ثم عظاماً. وفي الآخرة حال واحد وذلك هو أهون عليه من هذا.
وقال القتبي عن أبي عبيدة: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ يعني: هيّن عليه كما يقال الله أكبر أي:
الكبير. ويقال: الإعادة أهون عليه من البداية، والبداية عليه هين.
ثم قال: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني: الصفات العلى بأنه واحد لا شريك له وَهُوَ الْعَزِيزُ في ملكه الْحَكِيمُ في أمره.
ثم قال عز وجل: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا نزلت في كفار قريش، كانوا يعبدون الآلهة، ويقولون في إحرامهم: لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك.
قَالَ الله تعالى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا أي: وصف لكم شبهاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يعني: من العبد مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ من الأموال فَأَنْتُمْ وعبيدكم فِيهِ سَواءٌ في الرزق فيما أعطيناكم من الأموال والملك.
ثم قال: تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ قال مقاتل: يعني: أتخافون عبيدكم أن يرثوكم بعد الموت، كما تخافون أن يرثكم الأحرار. فقالوا: لا. فقال: أترضون لله الشركة في ملكه وتكرهون لأنفسكم. قال الكلبي: هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ من أموالكم، من عبيدكم وإمائكم، فَأَنْتُمْ وهم فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ يقول:
كما يخاف الرجل ابنه وعمه وأقاربه. قالوا: لا. قال: فأنتم لا ترضون هذا لأنفسكم أن يكونوا فيما تملكون يشاركونكم في أموالكم. فكيف ترضون لله ما لا ترضون به لأنفسكم.
وقال السدي: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا هذا مثل ضربه الله عز وجل في الميراث للآلهة.
يقول: هل لكم مماليك شركاء في الميراث الذي ترثونه من آبائكم، وأنتم تخافون أن يدخل معكم مملوككم في ذلك الميراث، كما تدخلون أنتم فيه. فكما لا يكون للملوك أن يدخل في مواريثكم، فكذلك لا يكون لهذا الوثن الذي تعبدونه من دون الله عز وجل، أن يدخل في ملكي. وإنما خلقي وعبيدي.
قال أبو الليث- رحمه الله عز وجل-: وفي الآية دليل أن العبد لا ملك له، لأنه أخبر أن لا مشاركة للعبيد فيما رزقنا الله عز وجل من الأموال.
ثم قال عز وجل: كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ يعني: نبيّن العلامات لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ الأمثال فيوحدونه.
ثم قال عز وجل: بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ يعني: اتبع الذين كفروا أهواءهم بعبادة الأوثان بِغَيْرِ عِلْمٍ يعني: بغير حجة فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ يعني: فمن يهدي إلى توحيد الله، من أضله الله وخذله وطرده. ويقال: فمن يرشد إلى الحق من خذله الله عز وجل وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ يعني: مانعين من عذاب الله.
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٣٠ الى ٣٥]
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (٣٠) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٣٢) وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤)
أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥)
قوله عز وجل: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً أي: أخلص دينك الإسلام للدين حنيفاً.
يعني: للتوحيد مخلصاً. ويقال: يذكر الوجه ويراد به هو، فكأنه يقول: فأقم الدين مخلصاً.
ويقال: معناه فأقبل بوجهك إلى الدين، وأقم عليه حنيفاً، أي: مخلصاً، مائلاً إليه. ويقال:
أخلص دينك وعملك لله تعالى، وكن مخلصا.
ثم قال: فِطْرَتَ اللَّهِ يعني: اتبع دين الله. ويقال: اتبع ملة الله. ويقال: الفطرة الخلقة يعني: خلقة الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها أي: خلق البشر عليها كما قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، وَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتِجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً هَلْ تُحِسُّونَ
11
فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ». وروي عن أبي هريرة أنه قال: اقرءوا إن شئتم فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها يعني: خلق الناس عليها. وفي الخبر أنه قال: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ» لأنه شهد يوم الميثاق.
ثم قال: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ يعني: لا تغيير لدين الله. ويقال: لا تبديل لخلق الله عند ما خلق الله الخلق، لم يكن لأحد أن يغير خلقته.
ثم قال: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ يعني: التوحيد هو الدين المستقيم وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ يعني: كفار مكة لاَ يعلمون بتوحيد الله.
قوله عز وجل: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ انصرف إلى قوله فَأَقِمْ وَجْهَكَ يعني: فأقبل بوجهك منيباً إليه. ويجوز أن يخاطب الرئيس بلفظ الجماعة، لأن له أتباعاً. وإنما يراد به هو وأتباعه كما قال: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [الطلاق: ١٠] مُنِيبِينَ إِلَيْهِ يعني: راجعين إليه من الكفر إلى التوحيد. وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ يعني: وأتموا الصلوات الخمس وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ على دينهم مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ يعني: تركوا دين الإسلام الذي أمروا به.
وَكانُوا شِيَعاً فجعلوه أدياناً يعني: تركوا دينهم وصاروا فرقاً اليهود والنصارى والمجوس، قرأ حمزة والكسائي: فارقوا بالألف. وقرأ الباقون فَرَّقُوا بغير ألف. فمن قرأ: فارقوا يعني: تركوا دينهم. ومن قرأ فَرَّقُوا دينهم يعني: افترقت اليهود إحدى وسبعين فرقة، والنصارى اثنتين وسبعين فرقة، والمسلمون ثلاثة وسبعين فرقة كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ يعني: كل أهل دين بما عندهم من الدين راضون.
قوله عز وجل: وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ يعني: إذا أصاب الكفار شدة دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ يعني: منقلبين إليه بالدعاء عند الشدة والقحط ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً يعني:
إذا أصابهم من الله نعمة، وهي السعة في الرزق والخصب إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ يعني: تركوا توحيد ربهم في الرخاء، وقد وحّدوه في الضراء.
قوله عز وجل: لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ قال مقاتل: تقول أذاقهم رحمة لئلا يكفروا بالذي أعطاهم من الخير. ويقال: كانت النعمة سبيلاً للكفر فكأنه أعطاهم لذلك، كما قال فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص: ٨] وقرئ في الشاذ يشركون ليكفروا، بجزم اللام فيكون أمراً على وجه الوعيد والتهديد.
ثم قال: فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ يعني: فتمتعوا قليلاً إلى آجالكم فسوف تعلمون ما يفعل بكم يوم القيامة.
ثم قال عز وجل: أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً يعني: كتاباً من السماء فَهُوَ يَتَكَلَّمُ يعني: ينطق بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ يعني: بما كانوا يقولون من الشرك. اللفظ لفظ الاستفهام
12
والمراد به النفي يعني: لم ينزل عليهم حجة بذلك. وقال القتبي: فهو يتكلم فهو من المجاز ومعناه: أنزلنا عليهم برهاناً يستدلون به، فهو يدلهم على الشرك. ويقال: أم أنزلنا عليهم عذراً بذلك.
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٣٦ الى ٤٠]
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧) فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠)
ثم قال عز وجل: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها يعني: المطر والسعة وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يعني: الجوع والشدة بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ يعني: جزاء لذنوبهم إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ يعني: آيسين من الرزق. قرأ أبو عمرو الكسائي: يَقْنَطُونَ بكسر النون. وقرأ الباقون بالنصب. وهما لغتان ومعناهما واحد.
ثم وعظهم ليعتبروا ويطمئنوا بالرزق فقال عز وجل: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ يعني: يوسع، وكان يرى صلاح العبد في ذلك. وَيَقْدِرُ يعني: يضيق العيش.
ويكون صلاحه في ذلك من البسط والتقتير إِنَّ فِي ذلِكَ يعني: في البسط والتقتير لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يعني يصدقون.
قوله عز وجل: فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ يعني: فأعط ذا القربى حقه، وحق القرابة هو الصلة وَالْمِسْكِينَ يعني: أعطي السائل حقه، وحقه أن يتصدق عليه بشيء وَابْنَ السَّبِيلِ يعني: الضيف النازل، وحقه أن تحسن إليه ذلِكَ خَيْرٌ يعني: الذي وصف من صلة القرابة، والمسكين، وابن السبيل، ذلك خير لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ يعني: أي يريدون بذلك رضاء الله، خير من الإمساك عندهم. وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ يعني: الناجون. ويقال: الباقون في النعمة. ويسمى السحور فلاحاً لأنه يبقي للصائم قوة وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً يعني: ما أعطيتم من عطية لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ يعني: ليزدادوا في أموال. ومعناه: ما أعطيتم من عطية
لتلتمسوا بها الزيادة فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ أي: فلا تضاعف تلك العطية عند الله عز وجل، ما أعطيتم عند الله ولا يأثم فيه. وروى معمر عن قتادة عن ابن عباس قال: هي هبة يريد أن يثاب أفضل منها. فذلك الذي لا يربو عند الله، ولا يؤجر فيه صاحبه، ولا إثم عليه. وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ قال: هي الصدقة تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله. وقال عكرمة: الربا ربوان: ربا حلال، وربا حرام. فأما الحلال فهو هبة الرجل يريد أن يثاب ما هو أفضل منها. وأما الحرام فزيادة خالية عن العوض في عقد المعاوضة. وهو نوعان: ربا الفضل، وربا النساء. عرف ذلك في كتب الفقه. قرأ ابن كثير وَما آتَيْتُمْ بغير مد يعني: ما جئتم. وقرأ الباقون: بالمد يعني: ما أعطيتم. واتفقوا في الثاني أنه بالمد. وقرأ نافع لتربو بالتاء والضم، والباقون بالياء والنصب. فمن قرأ بالنصب. فمعناه: لتستزيدوا أنتم زيادة في المال. يعني: لتكثروا أموالكم بما أعطيتم. ومن قرأ: لِيَرْبُوَا بالياء معناه: ليربو المعطي فيكثر حتى يرد ما هو أكثر منه.
ثم بيّن ما يربو فيه فقال: وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ يعني: ما أعطيتم من صدقة تريدون وجه الله يعني: رضا الله. ففيه الإضعاف. فأولئك هم المضعفون للواحد عشرة فصاعداً. ويقال:
الْمُضْعِفُونَ أي: الواجدين من الضعف. كما يقال: أكذبته إذا وجدته كاذباً.
ثم أخبر عن صنعه ليعرف توحيده فقال عز وجل: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ولم تكونوا شيئاً ثُمَّ رَزَقَكُمْ يعني: أطعمكم ما عشتم في الدنيا ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند انقضاء آجالكم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ للبعث بعد الموت، لينْبّئكم بما عملتم في الدنيا ويجازيكم هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ يعني: يفعل كفعله.
ثم نزّه نفسه فقال: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ وقد ذكرناه. ويقال: الله الذي خلقكم وطلب منكم العبادة، ثم رزقكم وطلب الطمأنينة، ثم يميتكم وطلب منكم الاستعداد للموت، ثم يحييكم وطلب منكم الحجة والبرهان.
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٤١ الى ٤٥]
ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٤٥)
14
ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ يعني: قحط المطر، ونقص الثمار للناس والدواب.
يعني: نقص النبات في البر للدواب والوحوش وفي البحر يعني: القرى والأرضين ينقصان الثمار والزرع. سمى القرى والمدائن بحراً لما يجري فيها من الأنهار. ويقال: البحر نفسه لأنه إذا لم يكن مطر، فإنه لا يخرج منه اللؤلؤ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ أي: بما عملوا من المعاصي. ويقال: من أذنب ذنباً فجميع الخلق من الإنس والجن، والدواب والوحوش، والطير والذر، خصماؤه يوم القيامة، لأنه يمنع المطر بالمعصية، فيضرّ بأهل البر والبحر.
وروي عن ثقيف الزاهد أنه قال: من أكل الحرام، فقد خان جميع الناس، حيث لا يستجاب دعاؤه. ويقال: ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ يعني: ظهرت المعاصي في البر والبحر بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ يعني: بكسب الناس. فأول فساد البر كان من قابيل حيث قتل أخاه هابيل، وأول فساد البحر كان من جلندا حيث كان يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً. وقال عطية العوفي: ظهور الفساد قحوط المطر. قيل له: هذا فساد البر فما فساد البحر؟ قال: إذا قلّ المطر قلّ الغوص. وقال قتادة ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ يعني: امتلأت الضلالة والظلم في الأرض.
وروي عن أبي العالية أنه قال البر: الأعضاء والبحر: القلوب يعني: ظهر الفساد في الناس في الأعضاء وفي القلوب.
ثم قال: لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا يعني: يعذبهم ببعض ذنوبهم في الدنيا، ويّدخر البعض في الآخرة. والذوق إنما هو كناية عن التعذيب. فكأنه يقول: يعذبهم بالجوع والقحط في الدنيا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي: لكي يرجعوا عن الكفر. قرأ ابن كثير: لِنُذِيقَهُمْ بالنون أي: لنذيقهم نحن. وقرأ الباقون: بالياء يعني: ليذيقهم الله عز وجل.
ثمّ خوّفهم فقال عز وجل: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي: سافروا فيها فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ يعني: كيف كان آخر أمر من كان قبلهم كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ فيعتبروا بذلك. والنظر على وجهين. يقال: نظر إليه إذا نظر بعينه، ونظر فيه إذا تفكر بقلبه.
وهاهنا قال: فَانْظُرُوا ولم يقل فيه، ولا إليه. فهو على الأمرين جميعا.
ثم قال عز وجل: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ يعني: أخلص دينك الإسلام القيم.
يعني: المستقيم. ويقال: أقبل بوجهك إليه. ويقال: اثبت عليه. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يعني: يوم القيامة لا يقدر أحد أن يرد ذلك اليوم من الله. ويقال: يعني: ذلك اليوم من الله. ويقال: لا خلف لذلك الوعد من الله يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ يعني: يتصدعون. فأدغم التاء في الصاد وشدد. يعني: يتفرقون فريق فى الجنة، وفريق في السعير.
ثم قال عز وجل: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ يعني: جزاء كفره وعقوبته وَمَنْ عَمِلَ
15
صالِحاً
يعني: وحّده وعمل بالطاعة بعد التوحيد فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ قال مقاتل: أي يقدمون. وقال مجاهد. يعني: لأنفسهم يفرشون في القبر. ويقال: في الجنة. ويقال:
فلأنفسهم يعملون ويستعدون.
قوله عز وجل: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا ينصرف إلى قوله يصدعون. يعني: يتفرقون لكي يجزي الذين آمنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ يعني: من رزقه. ويقال: من ثوابه. ويقال:
بفضله إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْكافِرِينَ بتوحيد الله عز وجل. ويقال: لا يرضى دين الكافرين.
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٤٦ الى ٥١]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠)
وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١)
ثم قال عز وجل: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ يعني: ومن علامات وحدانيته أن يعرفوا توحيده بصنعه، أَن يُرْسِلَ الرياح مُبَشِّراتٍ بالمطر. ويقال: يستبشر بها الناس. ويقال: فإذا كان الاستبشار به ينسب الفعل إليه وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ يعني: ليصيبكم من نعمته وهو المطر وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ يعني: السفن تجري في البحر بالرياح بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ يعني: لتطلبوا في البحر من رزقه كل هذا بالرياح وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ رب هذه النعم فتوحّدوه.
لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ
يا محمدسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ
بالأمر والنهي، فكذبوهم كما كذب قومك انْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا
بالعذاب يعني: من الذين كفروا كانَ حَقًّا عَلَيْنا
يعني: واجباً عليناصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
بالنجاة مع رسولهم. وإنما هو وجوب الكرم، لا وجوب اللزوم.
ثم أخبر عن صنعه ليعتبروا، فقال الله عزَّ وَجَلَّ: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً يعني: تدفعه وتهيجه. يقال: ثار الغبار إذا ارتفع فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ يعني: كيف
يشاء الله عز وجل. إن شاء بسطه مسيرة يوم أو أكثر وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً يعني: قطعاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ يعني: المطر يخرج من خلاله، من وسط السحاب فَإِذا أَصابَ بِهِ يعني: بالمطر مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ يعني: يفرحون بنزول المطر عليهم قرأ ابن عامر كِسَفاً بالجزم. وقرأ الباقون: بالنصب.
ثم قال عز وجل: وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ أي: من قبل نزول المطر عليهم. لَمُبْلِسِينَ يعني: آيسين من المطر. وقال الأخفش: تكرير قبل للتأكيد.
وقال قطرب: الأول للتنزيل، والثاني للمطر.
ثم قال: فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ يعني: ألوان النبات من أثر المطر منه الأخضر، والأحمر، والأصفر. قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص وابن عامر إلى آثار رحمة الله بلفظ الجماعة. قرأ الباقون بلفظ الوحدان، لأن الوحدان يغني عن الجمع.
ثم قال: كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها حين لم يكن فيها نبات إِنَّ ذلِكَ يعني:
هذا الذي فعل لَمُحْيِ الْمَوْتى في الآخرة وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا يعني: الزرع متغيّراً بعد خضرته لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ يعني: لصاروا، وأصله العمل بالنهار. ويستعمل في موضع صار كقوله أصبح وأمسى يوضع موضع صار مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ أي: من بعد اصفراره يكفرون النعم. يقول: لو فعلت ذلك لفعلوا هكذا. ويقال:
قوله: فَرَأَوْهُ إشارة إلى النبات، لأن الريح مؤنثة. وإنما أراد ما ينبت بالمطر. ويقال: معناه أنهم يستبشرون إذا رأوا الغيث، ويكفرون إذا انقطع عنهم النبات.
ثم ضرب لهم مثلاً آخر فقال:
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٥٢ الى ٦٠]
فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٥٣) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦)
فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (٦٠)
17
فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتى فشّبه الكفار بالموتى. فكما لا يسمع الموتى النداء، فكذلك لا يجيب، ولا يسمع الكفار الدعاء، إذا دعوا إلى الإيمان وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ يعني: أن الأصم إذا كان مقبلاً لا يسمع، فكيف إذا ولى مدبراً؟ فكذلك الكافر لا يسمع إذا كان يتصامم عند القراءة، والقراءة ذكرناها في سورة النمل.
ثم قال عز وجل: وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ إلى الإيمان عَنْ ضَلالَتِهِمْ يعني: لا تقدر أن توفقه وهو لا يرغب عن طاعتي في طلب الحق إِنْ تُسْمِعُ يعني: ما تسمع إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا يعني: بالقرآن فَهُمْ مُسْلِمُونَ يعني: مخلصون.
ثم أخبرهم عن خلق أنفسهم ليعتبروا ويتفكروا فيه فقال عز وجل: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ يعني: من نطفة. ويقال: صغيراً لا يعقل ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً يعني: شدة بتمام خلقه ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً يعني: بعد الشباب الهرم وَشَيْبَةً أي: شمطاً. قرأ عاصم في رواية حفص وحمزة: من ضعف بنصب الضاد. وقرأ الباقون: من ضعف بالضم.
وهما لغتان ومعناهما واحد.
يَخْلُقُ مَا يَشاءُ أي: يحول الخلق كما يشاء من الصورة وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ الْعَلِيمُ بتحويل الخلق، الْقَدِيرُ يعني: القادر على ذلك.
قوله عز وجل: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ يعني: يحلف المشركون مَا لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ في الدنيا.
يقول الله عز وجل: كذلك كانوا يكذبون بالبعث كما أنهم كذبوا حيث قالوا مَا لَبِثُوا يعني في القبور غير ساعة ويقال: كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ لأنهم يقولون مرة: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً [طه: ١٠٣] ومرة يقولون: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [الكهف: ١١٩] ومرة يقولون: مَا لَبِثْنَا غَيْرَ سَاعَةٍ فيقول الله تعالى: هكذا كانوا في الدنيا.
ثم قال عز وجل: وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ يعني: أكرموا بالعلم والإيمان لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ أي: في علم الله. ويقال: فيما كتب الله عز وجل. وقال مقاتل: في الآية تقديم. يعني: وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ في كتاب الله وَالْإِيمانَ وهو ملك الموت
18
لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ. ويقال: الذين أوتوا العلم بالكتاب وأوتوا الْإِيمانَ وهم العلماء.
ثم قال: فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ يعني: لا تصدقون بهذا اليوم في الدنيا. ثم قال عز وجل: فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا يعني: أشركوا مَعْذِرَتُهُمْ قرأ ابن كثير وأبو عمر: وَلاَ تَنفَعُ بالتاء بلفظ التأنيث، لأن لفظ المعذرة مؤنثة. وقرأ الباقون:
بالياء، فينصرف إلى المعنى يعني: عذرهم وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ يقال: عتب يعتب إذا غضب عليه، وأعْتَبَ يُعْتِبُ إذا رجع عن ذنبه، واستعتب إذا طلب منه الرجوع. يعني: أنه لا يطلب منهم الرجوع في ذلك اليوم ليرجعوا.
ثم قال عز وجل: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ يعني: وصفنا وبيّنّا فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي: شبه وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ كما سألوا لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني: المشركون من أهل مكة إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ يعني: يقولون ما أنت إلا كاذب، وليس هذا من الله عز وجل، كما كذبوا بانشقاق القمر. يقال: أبطل الرجل إذا جاء بالباطل. وأكذب إذا جاء بالكذب. فقال: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ يعني: كاذبون.
ثم قال: كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ يعني: يختم الله عَزَّ وَجَلَّ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ يعني: لا يصدقون بالقرآن وبمحمد صلّى الله عليه وسلم فَاصْبِرْ يا محمد إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فيما وعد لكم من النصر على عدوكم، وإظهار دين الإسلام حق. ويقال: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ يعني:
صدق في العذاب وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ يعني: يستنزلنك عن البعث الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ أي: لا يصدقون. ويقال: وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ يعني: لا يحملنك تكذيبهم على الخفة. يعني: كن حليماً، صبوراً، وقوراً. ويقال: لا يَسْتَخِفَّنَّكَ فتدعو عليهم بتعجيل العذاب، فيهلك الذين لا يوقنون بالعذاب، والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
19
Icon