تفسير سورة سورة غافر من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن
المعروف بـفتح البيان
.
لمؤلفه
صديق حسن خان
.
المتوفي سنة 1307 هـ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سورة غافر
وهي سورة المؤمن وتسمى سورة الطول
وهي خمس وثمانون آية
وقيل اثنتان وثمانون آية قاله القرطبي. وهي مكية في قول عطاء وجابر وعكرمة. قال الحسن إلا قوله :
﴿ وسبح بحمد ربك ﴾ لأن الصلوات نزلت بالمدينة وقال ابن عباس وقتادة إلا آيتين نزلتا بالمدينة وهما
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ ﴾ والتي بعدها. وكذا نص عليه السيوطي في الإتقان. وفي لب الأصول في أسباب النزول. قال ابن عباس أنزلت حم المؤمن بمكة. وعن سمرة بن جندب قال نزلت الحواميم جميعا بمكة.
وأخرج محمد بن نصر وابن مردويه عن أنس بن مالك سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله أعطاني السبع الحواميم مكان التوراة. وأعطاني الرآآت إلى الطواسين مكان الإنجيل. وأعطاني ما بين الطواسين إلى الحواميم مكان الزبور، وفضلني بالحواميم والمفصل. ما قرأهن نبي قبلي. وقال ابن عباس أن لكل شيء لبابا. وأن لباب القرآن حم " وقال ابن مسعود الحواميم ديباج القرآن. وعنه قال :( إذا وقعت في آل حم وقعت في روضات دمثات أتأنق فيهن ) .
وعن سعد بن إبراهيم الحواميم تسمى العرائس. رواه الدرامي في مسنده. وقال الجوهري آل حم سور في القرآن، فأما قول العامة الحواميم فليس من كلام العرب، وبه قال الحريري في درة الغواض وقال أبو عبيدة الحواميم على غير قياس، والأولى أن تجمع بذوات حم انتهى. فتلخص من مجموع هذه الأخبار أن هذه السور السبع تسمى الحواميم، وتسمى ال حم. وتسمى ذوات حم فلها جموع ثلاثة خلافا لمن أنكر الأول منها.
وأخرج البيهقي في الشعب عن خليل بن مرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الحواميم سبع وأبواب النار سبع يجيء كل حم منا يقف على باب من هذه الأبواب، يقول اللهم لا تدخل من هذا الباب من كان يؤمن بي ويقرؤني.
ﰡ
حم) قرأ الجمهور بفتح الحاء مشبعاً (١)، وقرىء بإمالته إمالة محضة، وبإمالته بين بين وقرأ الجمهور بسكون الميم كسائر الحروف المقطعة وقرأ الزهري بضمها على أنها خبر مبتدأ مضمر أو مبتدأ والخبر ما بعده وقرأ عيسى بن عمر الثقفي بفتحها، وهي تحتمل وجهين أحدهما أنها منصوبة بفعل مقدر، أي اقرأ حم، وإنما منعت من الصرف للعلمية والتأنيث، أو للعلمية وشبه العجمة وذلك إنه ليس في الأوزان العربية وزن فاعيل بخلاف الأعجمية، نحو قابيل وهابيل والثاني أنها حركة بناء تخفيفاً كأين وكيف، وقرأ ابن أبي إسحق وأبو السماك بكسرها لالتقاء الساكنين. أو بتقدير القسم وقرأ الجمهور بوصل الحاء بالميم، وقرأ أبو جعفر بقطعها.
وقد اختلف في معناه فقيل: هو اسم من أسماء الله قاله أبو أمامة، وقيل اسم من أسماء القرآن قاله قتادة، وقال الضحاك والكسائي: معناه قضى، وجعلاه بمعنى حم أي وقع وقضى، وقيل: مفاتيح خزائنه، وقيل: اسم الله الأعظم، وقيل بدء أسماء الله تعالى كحميد وحليم وحكيم وحنان، وكمالك ومجيد ومنان ومتكبر ومصور ومؤمن ومهيمن، وقيل معناه حم أمر الله أي قرب نصره لأوليائه، وانتقامه من أعدائه؛ وهذا كله تكلف لا موجب له؛ وتعسف لا ملجىء إليه، والحق أن هذه الفاتحة لهذه السورة وأمثالها من المتشابه الذي استأثر الله بعلم معناه، كما قدمنا تحقيقه في فاتحة سورة البقرة.
_________
(١) الحاء من حروف (حس طهر) وكلها تمد مداً طبيعياً.
157
وأخرج الترمذي والحاكم وصححه، وأبو داود وغيرهم، عن المهلب ابن أبي صفرة قال: حدثني من سمع النبي ﷺ يقول ليلة الخندق " إن أتيتم الليلة فقولوا حم لا ينصرون "، وعن البراء بن عازب أن رسول الله ﷺ قال: " إنكم تلقون عدوكم فليكن شعاركم حم لا ينصرون " أخرجه النسائي والحاكم وابن أبي شيبة.
158
(تنزيل الكتاب) هو خبر لحم على تقدير أنه مبتدأ أو خبر لمبتدأ مضمر أي هذا تنزيل أو هو مبتدأ وخبره (من الله) قال الرازي: المراد بالتنزيل المنزل، والمعنى أن القرآن منزل من عند الله ليس بكذب عليه (العزيز) المنيع بسلطانه الغالب، القاهر في ملكه (العليم) الكثير العلم بخلقه، وما يقولونه ويفعلونه، فهو تهديد للمشركين وبشارة للمؤمنين.
(غافر الذنب) أي ذنب المؤمنين، وعن ابن عمر قال: ساتر الذنب لمن يقول: لا إله إلا الله (وقابل التوب) أي توبة الراجعين أو عمن يقول: لا إله إلا الله. والتوب والثوب والأوب أخوات في معنى الرجوع مصادر، وقال الأخفش: التوب جمع توبة، كدوم ودومة، وإدخال الواو في هذا الوصف لإفادة الجمع للمذنب التائب بين قبول توبته ومحو حوبته قاله العمادي أو لتغاير الوصفين إذ ربما يتوهم الاتحاد قاله البيضاوي.
(شديد العقاب) أي مشدودة لمن لا يقول: لا إله إلا الله، أو على المخالفين والكافرين، وقيل: قابل التوب لأوليائه، وشديد العقاب لأعدائه وقيل قابل التوب من الشرك وشديد العقاب لمن لا يوحده (ذي الطول) أي ذي الفضل على العارفين، أو الغني عن كل العالمين وأصل الطول الإنعام والتفضل أي ذي الإنعام على عباده والتفضل عليهم، وقال مجاهد وابن عباس: ذي الغنى والسعة، ومنه قوله:
158
(ومن لم يستطع منكم طولاً) أي غنى وسعة، وقال عكرمة: ذي المن قال الجوهري والطول بالفتح لمن يقال: منه طال عليه ويطول عليه إذا امتن عليه. وقال محمد بن كعب: ذي التفضل قال الماوردي والفرق بين المن والتفضل أن المن عفو عن ذنب، والتفضل إحسان غير مستحق، والله سبحانه موصوف على الدوام بكل من هذه الصفات، فإضافة المشتق منها للتعريف كالأخيرة، وقال السمين: فيها ثلاثة أوجه أحدها أنها كلها صفات للجلالة، الثاني أن الكل أبدال، لأن اضافتها غير محضة الثالث أن غافر وقابل نعتان، وشديد العقاب بدل انتهى.
ثم ذكر ما يدل على توحيده، وأنه الحقيق بالعبادة فقال: (لا إله إلا هو) استئناف أو حال لازمة، وقال أبو البقاء: صفة قال ابن عادل: وهذا على ظاهره فاسد، لأن الجملة لا تكون صفة للمعارف، ويمكن أن يريد أنه صفة لشديد العقاب لأنه لم يتعرف عنده بالإضافة (إليه) لا إلى غير (المصير) أي مصير من يقول لا إله إلا الله فيدخل الجنة ومصير من لا يقول لا إله إلا الله فيدخل النار، وذلك في اليوم الآخر، قال الكرخي حال من الجملة قبله.
أخرج أبو عبيدة وابن سعد ومحمد بن نصر وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله ﷺ " من قرأ حم المؤمن إلى: إليه المصير وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي، ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح " (١)
ثم لما ذكر الله سبحانه أن القرآن كتاب الله أنزله ليهتدى به في الدين. ذكر أحوال من يجادل فيه لقصد إبطاله فقال:
_________
(١) ضعيف الجامع الصغير ٥٧٨١/مشكاة المصابيح ٢١٤٤.
159
مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (٤) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (٥) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (٦)
160
(مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) أي ما يخاصم في دفع آيات الله وتكذيبها بالطعن فيها إلا الكفار، والمراد الجدال بالباطل، القصد إلى دحض الحق، كما في قوله وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق، فأما الجدال لاستيضاح الحق وإيضاح الملتبس، وحل المشكل وتكذيبها، وكشف المعضل، واستنباط المعاني، ورد أهل الزيغ بها، ورفع اللبس، والبحث عن الراجح والمرجوح، وعن المحكم والمتشابه، ودفع ما يتعلق به المبطلون من متشابهات القرآن، وردهم بالجدال إلى المحكم، فهو من أعظم ما يتقرب به المتقربون، وأفضل ما يجاهد في سبيله المجاهدون، وبذلك أخذ الله الميثاق على الذين أوتوا الكتاب فقال:
(وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه) وقال: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) وقال: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن).
فتلخص أن الجدال نوعان، جدال في تقرير الحق؛ وجدال في تقرير الباطل؛ أما الأول فهو حرفة الأنبياء عليهم السلام، ومنه قوله تعالى حكاية عن قوم نوح (يا نوح قد جادلتنا) وأما الثاني فهو مذموم، وهو المراد بهذه الآية، فجدالهم في آيات الله هو قولهم مرة هذا سحر، ومرة شعر، ومرة هو قول الكهنة، ومرة (أساطير الأولين) ومرة (إنما يعلمه بشر) وأشباه هذا قاله الكرخي. وأخرج عبد بن حميد وأبو داود عن أبي
160
هريرة قال: قال رسول الله ﷺ " إن جدالاً في القرآن كفر "، وعنه قال قال رسول الله ﷺ " المراء في القرآن كفر " (١)، أخرجه أبو داود وغيره.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال " هاجرت إلى رسول الله ﷺ يوماً فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج يعرف في وجهه الغضب فقال إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب " (٢)، أخرجه مسلم، قال أبو العالية آيتان ما أشدهما على الذين يجادلون في القرآن هذه الآية، وقوله (وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد).
ولما حكم سبحانه على المجادلين في آيات الله بالكفر نهى رسوله ﷺ عن أن يغتر بشيء من حظوظهم الدنيوية فقال:
(فلا يغررك تقلبهم في البلاد) أي فلا يغررك ما يفعلونه من التجارة النافقة في البلاد، كالشام واليمن، وما يحصلونه من المكاسب والأرباح، وما يجمعونه من الأموال سالمين غانمين، فإنهم معاقبون عما قليل، وإن أمهلوا لا يهملون، قال الزجاج: لا يغررك سلامتهم بعد كفرهم، فإن عاقبتهم الهلاك وهذا تسلية له ﷺ ووعيد لهم، والفاء لترتيب النهي، أو وجوب الانتهاء على ما قبلها، من التسجيل عليهم بالكفر، الذي لا شيء أمقت منه عند الله، ولا أجلب لخسران الدنيا والآخرة قرأ الجمهور: لا يغررك بفك الإدغام وقرىء بالإدغام، وهو جواب لشرط مقدر، أي إذا تقرر عندك أن المجادلين في آيات الله كفار فلا يغررك الخ، ثم بين حال من كان قبلهم، وأن هؤلاء سلكوا سبيل أولئك في التكذيب فقال:
_________
(١) صحيح الجامع ٦٥٦٣ - المشكاة/٢٣٦.
(٢) صحيح الجامع ٢٣٧٠.
161
(كذبت قبلهم) أي قبل أهل مكة (قوم نوح والأحزاب من
161
بعدهم) أي وكذبت الأحزاب الذين تحزبوا على الرسل من بعد قوم نوح، كعاد وثمود وغيرهما (وهمت كل أمة) من تلك الأمم المكذبة (برسولهم) الذي أرسل إليهم (ليأخذوه) أي ليتمكنوا منه فيحبسوه ويعذبوه، ويصيبوا منه ما أرادوا. وقال قتادة والسدى ليقتلوه، والأخذ قد يرد بمعنى الإهلاك كقوله: (فأخذتهم فكيف كان نكير) والعرب تسمي الأسير الأخيذ والأخذ بمعنى الأسر.
(وجادلوا) أي خاصموا رسولهم (بالباطل) من القول (ليدحضوا) أي ليزيلوا (به الحق) ومنه مكان دحض أي مزلقة، ومزلة أقدام، والباطل داحض لأنه يزلق ويزول فلا يستقر، قال يحيى بن سلام: جادلوا الأنبياء بالشرك ليبطلوا به الإيمان (فأخذتهم) أي فأخذت هؤلاء المجادلين بالباطل (فكيف كان عقاب) الذي عاقبتهم به وحذف ياء المتكلم اجتزاء بالكسرة عنها وصلاً ووقفاً لأنها رأس آية.
162
(وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) أي وجبت وثبتت ولزمت، يقال: حق الشيء إذا لزم وثبت، والمعنى وكما حقت على الأمم المكذبة لرسلهم كلمة العذاب حقت كلمة ربك أي وعيده (على الذين كفروا) بك، وجادلوك بالباطل، وتحزبوا عليك، وهموا بما لم ينالوا، كما ينبىء عنه إضافة اسم الرب إلى ضميره ﷺ فإن ذلك للإشعار بأن وجوب كلمة العذاب عليهم من إحكام تربيته التي من جملتها نصرته على أعدائه وتعذيبهم، قاله أبو السعود، وقرأ الجمهور كلمة بالتوحيد، وقرىء كلمات بالجمع وجملة.
(أنهم أصحاب النار) للتعليل أي لأجل أنهم مستحقون للنار، قال الأخفش: أي لأنهم، أو بأنهم وقال المحلي بدل من كلمة أي بدل الكل أو الاشتمال على إرادة اللفظ أو المعنى ثم ذكر أحوال حملة العرش ومن حوله فقال:
162
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠)
163
(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ) الموصول مبتدأ وخبره قوله: (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) والجملة مستأنفة مسوقة لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ببيان أن هذا الجنس من الملائكة الذين هم أعلى طبقاتهم، وأولهم وجوداً يضمون إلى تسبيحهم لله، والإيمان به الاستغفار للذين آمنوا بالله ورسوله وصدقوا. وفيه دليل على أن الاشتراك في الإيمان يجب أن يكون أدعى شيء إلى النصيحة والشفقة، وإن تباعدت الأجناس وشطت الأماكن، والمراد بمن حول العرش هم الملائكة الذين يطوفون به مهللين مكبرين، وهم الكروبيون، وهو في محل رفع عطفاً على الذين الخ وهذا هو الظاهر، وقيل: يجوز أن يكون في محل نصب عطفاً على العرش والأول أولى.
والمعنى أن الملائكة الذين يحملون العرش وكذلك الملائكة الذين هم حول العرش ينزهون الله متلبسين بحمده على نعمه، ويؤمنون بالله ببصائرهم، ويستغفرون الله لعباده المؤمين به، وأخبر عنهم بالإيمان
163
إظهاراً لفضله، وتعظيماً لأهله، ومساق الآية لذلك وهم اليوم أربعة، فإذا كان يوم القيامة أردفهم الله تعالى بأربعة أخر، كما قال تعالى:
(ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) وهم أشرف الملائكة وأفضلهم، لقربهم من الله عز وجل، " وهم على صورة الأوعال، والعرش فوق ظهورهم "، ذكره القشيري وأخرجه الترمذي من حديث ابن عباس، واستفيد منه أن حمل الملائكة للعرش على ظهورها.
وقد وردت في بيان مسافة أظلافهم إلى ركبهم وأرجلهم وأقدامهم وما بين شحمة أذنهم إلى عاتقهم وألفاظ تسبيحهم أخبار وآثار، وكذا في صفة العرش وبعد ما بين السماء السابعة وبين العرش، والمعول عليه منها ما ورد في الصحيح ثم بين سبحانه كيفية استغفارهم للمؤمنين فقال حاكياً عنهم.
(ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً) أي وسع رحمتك كل شيء، وعلمك كل شيء، وتقديم الرحمة على العلم لأنها المقصودة بالذات ههنا، قاله البيضاوي وأبو السعود، لأن المقام مقام الاستغفار، وإلا فالعلم متقدم ذاتاً (فاغفر للذين تابوا) أي أوقعوا التوبة عن الذنوب، أو عن الشرك وإن كان عليهم ذنوب.
(واتبعوا سبيلك) وهو دين الإسلام (وقهم عذاب الجحيم) أي احفظهم منه واجعل بينهم وبينه وقاية بأن تلزمهم الاستقامة، وتتم نعمتك فإنك وعدت من كان كذلك بذلك، ولا يبدل القول لديك، وإن كان يجوز أن تفعل ما تشاء، وأن الخلق عبيدك.
164
(ربنا وأدخلهم جنات عدن) أي إقامة، معطوف على قوله قهم ووسط الجملة الندائية لقصد المبالغة بالتكرير، ووصف جنات عدن بأنها هي (التي وعدتهم) إياها (و) أدخل (من صلح من آبائهم
164
وأزواجهم وذرياتهم) المراد بالصلاح هنا الإيمان بالله والعمل بما شرعه الله، فمن فعل ذلك فقد صلح لدخول الجنة، ويجوز عطف ومن صلح على الضمير في وعدتهم، أي ووعدت من صلح والأولى عطفه على الضمير الأول في وأدخلهم، لأن الدعاء لهم بالإدخال عليه صريح وعلى الثاني ضمني.
والمعنى ساو بينهم ليتم سرورهم، قرأ الجمهور بفتح اللام من صلح، وذرياتهم على الجمع، وقرأ ابن أبي عبلة بضم اللام، وقرأ عيسى بن عمر على الافراد (إنك أنت العزيز الحكيم) أي الغالب القاهر الكثير الحكمة الباهرة.
165
(وقهم السيئات) يقال: وقاه يقيه وقاية أي حفظه والمعنى احفظهم عن العقوبات أو جزاء السيئات على تقدير مضاف محذوف، قال قتادة: وقهم ما يسوؤهم من العذاب، وهذا دعاء يتناول عذاب الجحيم، وعذاب موقف القيامة، والحساب والسؤال، وقوله (وقهم عذاب الجحيم) مقصور على إزالة عذاب النار فيكون تعميماً بعد تخصيص، أو الأول دعاء للأصول، والثاني للفروع، والضمير راجع للمعطوف وهو الآباء والأزواج والذرية، أفاده أبو السعود.
(وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ) أي يوم القيامة، والتنوين عوض عن جملة غير موجودة في الكلام، بل متصيدة من السياق، وتقديرها يوم إذ تدخل من تشاء الجنة ومن تشاء النار، والمسببة عن السيئات، وهو يوم القيامة، وقيل: التقدير يوم إذ تؤاخذ بها، وجواب من (فقد رحمته) من عذابك وأدخلته جنتك (وذلك) أي ما تقدم من إدخالهم الجنات، ووقايتهم السيئات.
(هو الفوز العظيم) أي الظفر الذي لا ظفر مثله، والنجاة التي لا
165
تساويها نجاة، حيث وجدوا بأعمال منقطعة نعيماً لا ينقطع، وبأفعال حقيرة ملكاً لا تصل العقول إلى كنه جلالته. قال مطرف أنصح عباد الله للمؤمنين الملائكة وأغش الخلق لهم هم الشياطين.
ثم لما ذكر سبحانه أصحاب النار وأنهم حقت عليهم كلمة العذاب، ذكر أحوالهم بعد دخول النار فقال:
166
(إن الذين كفروا ينادون) قال الواحدي. قال المفسرون إنهم لما رأوا أعمالهم ونظروا في كتابهم، وأدخلوا النار، ومقتوا أنفسهم بسوء صنيعهم، ناداهم حين عاينوا عذاب الله مناد: (لمقت الله) إياكم في الدنيا (أكبر من مقتكم أنفسكم) اليوم، أو من مقت بعضكم بعضاً اليوم قال الأخفش: هذه اللام هي لام الابتداء وقعت بعد ينادون، لأن معناه يقال لهم، والنداء قول، قال الكلبي: يقول كل إنسان من أهل النار لنفسه مقتك يا نفسي، فتقول الملائكة لهم وهم في النار: لمقت الله إياكم إذ أنتم في الدنيا أشد من مقتكم أنفسكم اليوم. وقال الحسن يعطون كتابهم فإذا نظروا إلى سيئاتهم مقتوا أنفسهم فينادون لمقت الله إياكم في الدنيا.
(إذ تدعون إلى الإيمان) فتكفرون أكبر من مقتكم إذ عاينتم النار والظرف منصوب بمقدر محذوف دل عليه المذكور، أي مقته تعالى إياكم وقت دعائكم، وقيل هو اذكروا، وقيل بالمقت المذكور أولاً، والمقت أشد البغض، والمراد به هنا لازمه وهو الغضب عليهم، وتعذيبهم، قاله أبو السعود وقال الكرخي المراد منه هنا أشد الإنكار والزجر (فتكفرون) أي فتصرون على الكفر اتباعاً لأنفكسم الأمارة، ومسارعة إلى هواها، واقتداء بأخلائكم المضلين، وتقليداً لأسلافكم المتقدمين، واستحباباً لآرائهم. ثم أخبر سبحانه عما يقولونه في النار فقال:
166
قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (١٤)
167
(قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) نعتان لمصدر محذوف، أي أمتنا إماتتين اثنتين، وأحيينا إحياءتين اثنتين، والمراد بالإماتتين أنهم كانوا نطفاً لا حياة لها في أصلاب آبائهم، ثم أماتهم بعد أن صاروا أحياء في الدنيا والمراد بالإحياءتين أنه أحياهم الحياة الأولى في الدنيا، ثم أحياهم عند البعث، ومثل هذه الآية قوله:
(وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) قاله ابن مسعود، أي كانوا أمواتاً في صلب آبائهم، ثم أخرجهم فأحياهم، ثم أماتهم، ثم يحييهم بعد الموت. وقيل: معنى الآية أنهم أميتوا في الدنيا عند انقضاء آجالهم ثم أحياهم الله في قبورهم للسؤال، ثم أميتوا ثم أحياهم الله في الآخرة.
ووجه هذا القول أن الموت سلب الحياة، ولا حياة للنطفة، ووجه القول الأول أن الموت قد يطلق على عادم الحياة من الأصل، وقد ذهب إلى التفسير الأول جمهور السلف، وقال ابن زيد: المراد بالآية أنه خلقهم في ظهر آدم واستخرجهم، وأحياهم، وأخذ عليهم الميثاق، ثم أماتهم، ثم أحياهم في الدنيا، ثم أماتهم.
وقال ابن عباس: قال كنتم تراباً قبل أن يخلقكم، فهذه ميتة، ثم
167
أحياكم فخلقكم فهذه حياة ثم يميتكم فترجعون إلى القبور فهذه ميتة أخرى ثم يبعثكم يوم القيامة فهذه حياة أخرى، فهما موتتان وحياتان، كقوله (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم) الآية.
ثم ذكر سبحانه اعترافهم بعد أن صاروا في النار بما كذبوا به في الدنيا فقال حاكياً عنهم: (فاعترفنا بذنوبنا) التي أسلفناها في الدنيا، من تكذيب الرسل، والإشراك بالله، وترك توحيده، فاعترفوا حيث لا ينفعهم الاعتراف وندموا حيث لا ينفعهم الندم، والمعنى لما رأوا الإماتة والإحياء قد تكررا عليهم، علموا أن الله قادر على الإعادة كما هو قادر على الإنشاء، فاعترفوا، وقد جعلوا اعترافهم هذا مقدمة لقولهم: (فهل إلى خروج) لنا عن النار ورجوع لنا إلى الدنيا لنطيع ربنا.
(من سبيل) أي من طريق لنتخلص منها أم اليأس واقع دون ذلك؟ فلا خروج ولا سبيل إليه وهذا كلام من غلب عليه اليأس، وإنما يقولون ذلك تحيراً، ولهذا جاء الجواب على حسب ذلك، ومثل هذا قولهم الذي حكاه الله عنهم (فهل إلى مرد من سبيل) وقوله (فأرجعنا نعمل صالحاً) وقوله (يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا) الآية؟ ثم أجاب الله سبحانه عن قولهم هذا بقوله:
168
(ذلكم) مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلكم، أو مبتدأ خبره محذوف، أي ذلكم العذاب الذي أنتم فيه (بأنه) أي بسبب أنه (إذا دعى الله) في الدنيا (وحده) دون غيره (كفرتم به) وتركتم توحيده (وإن يشرك به) غيره من الأصنام أو غيرها (تؤمنوا) بالإشراك وتصدقوا به، وتجيبوا الداعي إليه فبين سبحانه لهم السبب الباعث على عدم إجابتهم إلى الخروج من النار، وهو ما كانوا فيه من إشراك غيره به في العبادة التي رأسها الدعاء، وترك توحيد الله.
(فالحكم لله) وحده دون غيره وهو الذي حكم عليكم بالخلود في
168
النار، وعدم الخروج منها فتعذيبه لكم عدل نافذ (العلي) المتعالي سلطانه عن أن يكون له مماثل في ذاته وصفاته فلا يرد قضاؤه (الكبير) الذي كبر عن أن يكون له مثل أو صاحبة أو ولد أو شريك فلا يحد جزاؤه، وقيل: كأن الحرورية أخذوا قولهم: لا حكم إلا لله من هذا.
وقال قتادة: لما خرج أهل حروراء قال علي: من هؤلاء؟ قيل: المحكمون أي يقولون: لا حكم إلا لله، فقال علي كلمة حق أريد بها الباطل.
169
(وهو الذي يريكم آياته) أي دلائل توحيده، وعلامات قدرته، من الريح والسحاب والرعد والبرق ونحوها (وينزل لكم من السماء رزقاً) يعني مطراً فإنه سبب الأرزاق، جمع سبحانه بين إظهار الآيات، وإنزال الأرزاق لأن بإظهار الآيات قوام الأديان، وبالأرزاق قوام الأبدان، وهذه الآيات هي التكوينية التي جعلها الله سبحانه في سماواته وأرضه، وما فيهما وما بينهما قرأ الجمهور: ينزل بالتشديد، وقرىء بالتخفيف، وصيغة المضارعة في الفعلين للدلالة على تجدد الإرادة والتنزيل واستمرارهما.
(وما يتذكر إلا من ينيب) أي ما يتعظ بتلك الآيات الباهرة فيستدل بها على التوحيد وصدق الوعد والوعيد إلا من يرجع إلى طاعة الله بما يستفيده من النظر في آيات الله ويتوب من الشرك، ويرجع إليه في جميع أموره، فإن المعاند لا يتذكر ولا يتعظ، ثم لما ذكر سبحانه ما نصبه من الأدلة على التوحيد أمر عباده بدعائه وإخلاص الدين له فقال:
(فادعوا الله مخلصين له الدين) أي إذا كان الأمر كما ذكر من اختصاص التذكير بمن ينيب فادعوا الله وحده مخلصين له العبادة التي أمركم بها (ولو كره الكافرون) ذلك فلا تلتفتوا إلى كراهتهم، ودعوهم يموتوا بغيظهم، ويهلكوا بحسرتهم.
169
رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (١٥) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (١٧) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (١٨)
170
(رفيع الدرجات) مرفوع على أنه خبر آخر عن المبتدأ المقدم، أي هو الذي يريكم آياته وهو رفيع الدرجات، وكذلك (ذو العرش) خبر ثالث ويجوز أن يكون رفيع مبتدأ، وخبره ذو العرش، ويجوز أن يكونا خبرين لمبتدأ محذوف ورفيع صفة مشبهة، والمعنى رفيع الصفات عظيمها أو رفيع درجات ملائكته، أي معارجهم، أو رفيع درجات أنبيائه وأوليائه في الجنة، وقال الكلبي وسعيد بن جبير: رفيع السموات السبع، وعلى هذا الوجه يكون رفيع بمعنى رافع، وقيل: هو المرتفع بعظمته في صفات جلاله وكماله ووحدانيته، المستغني عن كل ما سواه وكل الخلق فقراء إليه ومعنى ذو العرش مالكه وخالقه، والمتصرف فيه، خلقه مطافاً للملائكة، وجعله فوق سمواته وذلك يقتضي علو شأنه وعظم سلطانه، ومن كان كذلك فهو الذي تحق له العبادة، ويجب له الإخلاص.
وجملة (يلقي الروح) في محل رفع على أنها خبر آخر للمبتدأ المتقدم أو للمقدر أي ينزل الوحي وسمي الوحي روحاً لأن الناس يحيون به من موت الكفر، كما تحيا الأبدان بالأرواح، ومثل هذه الآية قوله تعالى (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا) وقيل الروح جبريل كما في
170
قوله (نزل به الروح الأمين على قلبك) وقوله (نزله روح القدس من ربك بالحق)، وقوله (من أمره) متعلق بيلقي، ومن لابتداء الغاية ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه حال من الروح أو المعنى من أجل أمره، أو بأمره أو من قضائه.
(على من يشاء من عباده) وهم الأنبياء (لينذر يوم التلاق) قرأ الجمهور مبنياً للفاعل ونصب اليوم والفاعل هو الله سبحانه أو الرسول أو من يشاء والمنذر به محذوف أي لينذر العذاب يوم التلاق، وقرىء لتنذر بالفوقية على أن الفاعل ضمير المخاطب وهو الرسول، أو ضمير يرجع إلى الروح لأنه يجوز تأنيثها، وقرىء على البناء للمفعول، ورفع يوم على النيابة، والتلاق بحذف الياء وإثباتها وقفاً ووصلاً، وتوجيه ذلك ذكره الفاسي في شرح الشاطبية فليراجع.
والمعنى يوم يلتقي أهل السموات والأرض في المحشر، وبه قال قتادة، وقال أبو العالية ومقاتل: يوم يلتقي العابدون والمعبدون، وقيل الظالم والمظلوم، وقيل يلتقي الخلق والخالق، وقيل الأولون والآخرون، وقيل جزاء الأعمال والعاملون.
قال ابن عباس: يوم التلاق يوم القيامة يلتقي فيه آدم وآخر ولده، وعنه قال: هو يوم الآزفة ونحو هذا من أسماء يوم القيامة عظمه الله وحذر عباده منه.
171
(يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ) أي خارجون من قبورهم لا يسترهم شيء من جبل أو أكمة أو بناء، لكون الأرض يومئذ قاعاً صفصفا، ولا ثياب عليهم وإنما هم عراة مكشوفون، كما في الحديث: " يحشرون عراة حفاة غرلاً "، وهو بدل من يوم التلاق، بدل كل من كل، ويوم ظرف مستقبل كإذا مضاف إلى الجملة الاسمية على طريقة الأخفش، وحركة يوم حركة إعراب على المشهور وقيل حركة بناء كما ذهب إليه الكوفيون، ويكتب
171
هنا وفي الذاريات في قوله تعالى " يوم هم على النار يفتنون " منفصلاً وهو الأصل أفاده السمين، ونحوه في شرح الجزرية لشيخ الإسلام، لأن (هم) مرفوع بالابتداء فالمناسب القطع، وما عداهما نحو " من يومهم الذي يوعدون "، " حتى يلاقوا يومهم "، موصول لأن هم فيهما ضمير مبني في محل جر، فالمناسب الوصل.
وجملة: (لا يخفى على الله منهم شيء) مستأنفة مبينة لبروزهم، أي لا يخفى عليه سبحانه شيء من ذواتهم وأحوالهم وأعمالهم التي عملوها في الدنيا أو حال من ضمير بارزون، أو خبر ثان للمبتدأ وقوله (لمن) خبر مقدم، وقوله: (الملك اليوم) مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر، كأنه قيل فماذا يقال عند بروز الخلائق في ذلك اليوم؟ فقيل يقال لمن الملك اليوم.
قال المفسرون إذا هلك كل من في السموات والأرض، فيقول الرب تبارك وتعالى هذا القول، فلا يجيبه أحد فيجيب تعالى نفسه فيقول: (لله الواحد القهار) خبر مبتدأ محذوف قال الحسن: هو السائل وهو المجيب، حين لا أحد يجيبه فيجيب نفسه. وقيل: إنه سبحانه يأمر منادياً بذلك فيقول أهل المحشر مؤمنهم وكافرهم (لله الواحد القهار).
قال النحاس: وهذا أصح ما قيل فيه وقيل: الأول ظاهر جداً، وقيل إنه يجيب المنادي بهذا الجواب أهل الجنة دون أهل النار إفاده الزمخشري. وقيل: هو حكاية لما ينطق به لسان الحال في ذلك اليوم لانقطاع دعاوى المبطلين، كما في قوله: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) وقال القرطبي: وذلك عند فناء الخلق، وقيل: بقوله تعالى بين النفختين، ويجيب نفسه بعد أربعين سنة.
172
(اليوم تجزى كل نفس بما كسبت) هذا من تمام الجواب على
172
القول بأن المجيب هو الله سبحانه، وأما على القول بأن المجيب هم العباد كلهم، أو بعضهم، فهو مستأنف لبيان ما يقوله الله سبحانه بعد جوابهم، أي اليوم تجزى كل نفس بما عملت في الدنيا من خير وشر (لا ظلم اليوم) على أحد منهم بنقص من ثوابه، أو بزيادة في عقابه.
(إن الله سريع الحساب) أي سريع حسابه، لأنه سبحانه لا يحتاج إلى تفكر في ذلك كما يحتاجه غيره لإحاطة علمه بكل شيء (فلا يعزب عنه مثقال ذرة) قيل: يحاسب جميع الخلق في قدر نصف نهار من أيام الدنيا لأنه تعالى لا يشغله حساب عن حساب، يحاسب الخلق في وقت واحد، الحديث ورد بذلك.
وأخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود قال: " يجمع الله الخلق كلهم يوم القيامة بصعيد واحد بأرض بيضاء، كأنها سبيكة فضة لم يعص الله فيها قط، فأول ما يتكلم أن ينادي مناد: لمن الملك اليوم إلى قوله: " الحساب " أخرجه عبد بن حميد، قال: ما يبدأ به من الخصومات الدماء، وقال ابن عباس ينادي مناد بين يدي الساعة: يا أيها الناس أتتكم الساعة فيسمعها الأحياء والأموات وينزل الله إلى السماء الدنيا فيقول: لمن الملك اليوم لله الواحد القهار الآية.
وأخرج ابن أبي الدنيا في البعث والديلمي عن أبي سعيد عن النبي ﷺ مثله ثم أمر الله سبحانه رسول بإنذار عباده فقال:
173
(وأنذرهم يوم الآزفة) أي يوم القيامة، سميت بذلك لقربها، يقال: أزف فلان أو الرحيل أي قرب، يأزف أزفاً من باب تعب، وأزوفاً دنا وقرب، ومنه قوله تعالى (أزفت الآزفة) أي قربت الساعة ودنت القيامة، وقيل: إن يوم الآزفة هو يوم حضور الموت، والأول أولى. قال
173
الزجاج: وقيل لها آزفة لأنها قريبة، وإن استبعد الناس أمرها، وما هو كائن فهو قريب.
(إذ القلوب لدى الحناجر) وذلك أنها تزول عن مواضعها، وترتفع عن أماكنها من الخوف، حتى تصير إلى الحنجرة وتلصق بحلوقهم، فلا تعود فيستريحوا بالنفس ولا تخرج فيستريحوا بالموت كقوله (وبلغت القلوب الحناجر) وهي جمع حنجور كحلقوم وزناً ومعنى، أو جمع حنجرة وهي الحلقوم و (كاظمين) بمعنى مغمومين مكروبين ممتلئين غماً، قال الزجاج: المعنى إذ قلوب الناس لدى الحناجر في حال كظمهم، قال قتادة وقعت قلوبهم في الحناجر من المخافة فهي لا تخرج ولا تعود في أمكنتها.
وقيل: هو إخبار عن نهاية الجزع، وإنما قال: كاظمين باعتبار أهل القلوب، لأن المعنى إذ قلوب الناس لدى حناجرهم، فيكون حالاً منهم. وقيل: حالاً من القلوب، وجمع الحال منها جمع العقلاء، لأنه أسند إليها ما يسند إلى العقلاء، فجمعت جمعه.
ثم بين سبحانه أنه لا ينفع الكافرين في ذلك اليوم أحد فقال: (ما للظالمين من حميم) أي قريب ومحب ينفعهم وحميمك قريبك الذي تهتم لأمره (ولا شفيع يطاع) في شفاعته لهم، قال الكرخي: حقيقة الإطاعة لا تتأتى هنا لأن المطاع يكون فوق المطيع رتبة، فمقتضاه أن الشافع يكون فوق المشفوع عنده، وهذا محال هنا لأن الله تعالى لا شيء فوقه، فحينئذ هو مجاز، ومعناه ولا شفيع يشفع، أي يؤذن له في الشفاعة، أو تقبل شفاعته. وقال المحلي: لا مفهوم للوصف إذ لا شفيع لهم أصلاً، أي لا مطاع ولا غيره ثم وصف سبحانه شمول علمه بكل شيء وإن كان في غاية الخفاء فقال:
174
يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (٢١) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٢٢)
175
(يعلم خائنة الأعين) وهي مسارقة النظر إلى ما لا يحل له النظر إليه، والخائنة مصدر كالعافية والكاذبة، أي يعلم خيانة الأعين، والجملة خبر آخر لقوله: هو الذي يريكم، أو خبر رابع عن المبتدأ الذي أخبر برفيع وما بعده عنه، والأول هو الظاهر، وقيل غير ذلك، قال المؤرج: فيه تقديم وتأخير أي يعلم الأعين الخائنة. وقيل: الإضافة على معنى من، أي: الخائنة من الأعين، قال قتادة: خائنة الأعين الهمز بالعين فيما لا يحب الله، وقال الضحاك: هو قول الإنسان: ما رأيت، وقد رأى، ورأيت، وما رأى. وقال السدي: إنه الرمز بالعين، وقال سفيان: هي النظرة بعد النظرة، وبه قال الفراء والأول أولى، وبه قال مجاهد قال ابن عباس في الآية: " الرجل يكون في القوم فتمر بهم المرأة فيريهم أنه يغض بصره عنها، وإذا غضوا نظر إليها، وإذا نظروا غض بصره عنها، وقد اطلع الله من قلبه أنه ود أن ينظر إلى عورتها " أخرجه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
وأخرج الطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في الشعب عنه في الآية قال: " إذا نظر إليها يريد الخيانة أم لا؟ وما تخفي
175
الصدور، قال: إذا قدر عليها أيزني لها أم لا؟ ألا أخبركم بالتي تليها؟ والله يقضي بالحق، قادر على أن يجزي بالحسنة الحسنة، وبالسيئة السيئة.
وأخرج أبو داود والنسائي وابن مردويه عن سعد قال لما كان يوم فتح مكة أمن النبي ﷺ الناس إلا أربعة نفر وامرأتين وقال: اقتلوهم، وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة منهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فاختبأ عند عثمان بن عفان، فلما دعا رسول الله ﷺ الناس إلى البيعة جاء به فقال: " يا رسول الله بايع عبد الله، فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثاً كل ذلك يأبى بيعته ثم بايعه، ثم أقبل على أصحابه فقال أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله، فقالوا ما يدرينا يا رسول الله ما في نفسك؟ هلا أومأت إلينا بعينك فقال إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين ".
(وما تخفي الصدور) أي القلوب من الضمائر، وتستره وتكنه، وتضمره عن معاصي الله أو من أمانة وخيانة أو النظرة الأولى، أو هل يزني بها لو خلا بها أو لا؟
176
(والله يقضي بالحق) فيجازي كل أحد بما يستحقه من خير وشر.
(والذين يدعون من دونه) أي يعبدونهم من دون الله، قرأ الجمهور بالتحتية يعني الظالمين، وقرىء بالفوقية على الخطاب لهم، وهما سبعيتان (لا يقضون بشيء) لأنهم لا يعلمون شيئاًً ولا يقدرون على شيء. فكيف يكونون شركاء لله، وهذا تهكم بهم لأن ما لا يوصف بالقدرة كالجماد لا يقال فيه يقضي أو لا يقضي.
(إن الله هو السميع البصير) فلا يخفى عليه من المسموعات والمبصرات خافية؛ تقرير لقوله: (يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور) ولقضائه بالحق، ووعيد لهم بأنه يسمع ما يقولون، ويبصر ما يعملون، وأنه يعاقبهم عليه. وتعريض بما يدعون من دونه وأنها لا تسمع
176
ولا تبصر.
ولما خوفهم سبحانه بأحوال الآخرة أردفه ببيان تخويفهم بأحوال الدنيا فقال:
177
(أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم) لأن العاقل من اعتبر بحال غيره، أي اغفلوا ولم يسيروا في الأرض فيعتبروا بمن قبلهم من الأمم المكذبة لرسلهم، كعاد وثمود وأضرابهم، أو العاقبة بمعنى الصفة أو بمعنى المآل أرشدهم الله سبحانه إلى الاعتبار بغيرهم، فإن الذين مضوا من الكفار (كانوا هم أشد منهم قوة) أي من هؤلاء الحاضرين من الكفار، وهذا بيان للتفاوت بين حال هؤلاء وأولئك، وفي قراءة منكم أي التفاتاً من الغيبة إلى الخطاب، وقع ضمير الفصل هنا بين معرفة ونكرة، مع أنه لا يقع إلا بين معرفتين لكون النكرة هنا مشابهة للمعرفة من حيث امتناع دخول أل عليها، لأن افعل التفضيل المقرون بمن لا تدخل عليه أل.
(وآثاراً في الأرض) بما عمروا فيها من الحصون المتينة، والمصانع الحصينة، والقصور المشيدة وبما لهم من العدد والعدة (فأخذهم الله بذنوبهم) أي عاقبهم، وأهلكهم بسبب ذنوبهم، وتكذيبهم رسلهم (وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ) أي دافع يدفع عنهم العذاب ويقيهم، وقد مر تفسير هذه الآية في مواضع.
(ذلك) أي ما تقدم من الأخذ (بأنهم) أي بسبب أنهم (كانت تأتيهم رسلهم بالبينات) أي بالحجج الواضحة والمعجزات الظاهرة (فكفروا) بما جاؤوهم به (فأخذهم الله إنه قوي) يفعل كل ما يريده لا يعجزه شيء (شديد العقاب) لمن عصاه ولم يرجع إليه، ثم ذكر سبحانه قصة موسى ليعتبروا فقال:
177
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (٢٥) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (٢٦) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (٢٧)
178
(ولقد أرسلنا موسى بآياتنا) أي متلبساً بها وهي التسع التي تقدم ذكرها في غير موضع (وسلطان مبين) أي حجة بينة واضحة وهي التوراة، وقيل المراد به إما الآيات نفسها والعطف لتغاير العنوانين، وإما بعضها أي المشهورة منها كاليد والعصا. وأفردت بالذكر مع اندراجها تحت الآيات اعتناء بها.
(إلى فرعون وهامان وقارون) خصهم بالذكر لأن مدار التدبير في عداوة موسى كان عليهم لأنهم رؤساء المكذبين بموسى، ففرعون الملك وهامان الوزير، وقارون صاحب الأموال والكنوز (فقالوا ساحر كذاب) فيما جاءهم به، والقائل فرعون وقومه، وأما قارون فلم يقل ذلك ففي الكلام تغليب، وكذا يقال في قوله قالوا اقتلوا، وقال الخطيب كان هذا قول قارون وإن لم يقل بالفعل. فإنه طبع على الكفر ففعله آخراً.
(فلما جاءهم) موسى (بالحق من عندنا) وهي معجزاته الظاهرة
178
الواضحة (قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه) قال قتادة هذا قتل غير القتل الأول لأن فرعون قد كان أمسك وكف عن قتل الولدان وقت ولادة موسى فلما بعث الله موسى وأحس بأنه قد وقع ما وقع، أعاد القتل على بني إسرائيل غيظاً وحنقاً فكان يأمر بقتل المذكور وترك الإناث، ومثل هذا قول فرعون.
(سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم) والمعنى أعيدوا عليهم ما كنتم تفعلونه أولاً، زعماً منه أنه يصدهم بذلك عن مظاهرته، ظناً منهم أنه المولود الذي حكم المنجمون والكهنة بذهاب ملكهم على يده، فشغلهم الله عن ذلك بما أنزل عليهم من أنواع العذاب كالضفادع والقمل والدم والطوفان إلى أن خرجوا من مصر فأغرقهم الله تعالى.
(واستحيوا) أي استبقوا (نساءهم) للخدمة (وما كيد الكافرين إلا في ضلال) أي في خسران وضياع ووبال، لأنه يذهب باطلاً ولا يغني عنهم شيئاًً، ويحييق بهم ما يريده الله عز وجل وإن الناس لا يمتنعون من الإيمان وإن فعل بهم مثل هذا، بل ينفذ عليهم لا محالة القدر المقدور، والقضاء المحتم واللام إما للعهد والإظهار في موضع الإضمار لذمهم بالكفر والإشعار بعلة الحكم، أو للجنس وهم داخلون فيه دخولاً أولياً، والجملة اعتراض جيء بها في تضاعيف ما حكي عنهم من الأباطيل، للمسارعة إلى بيان بطلان ما أظهروه، واضمحلالاً بالمرة.
179
(وقال فرعون ذروني أقتل موسى) أي اتركوني أن أقتله، والظاهر من حال اللعين أنه قد استيقن أنه نبي وأن ما جاء به حق، ولكن كان يخاف إن هم بقتله أن يعاجل بالهلاك، وإنما قال ذلك تمويهاً وإيهاماً
179
أنهم هم المانعون له من قتله، ولولاهم لقتله، مع أنه ما منعه إلا ما في نفسه من الفزع الهائل.
وقوله (وليدع ربه) تجلد منه، وإظهار لعدم المبالاة ولكنه أخوف الناس منه، وفي منعه من قتله وجوه ذكرها الخطيب، أي ليدع الذي يزعم أنه أرسله إلينا، فليمنعه من القتل إن قدر على ذلك، أي لا يهولنكم ذلك فإنه لا رب له حقيقة، بل أنا ربكم الأعلى، ثم ذكر العلة التي لأجلها أراد أن يقتله فقال:
(إني أخاف) إن لم أقتله (أن يبدل دينكم) الذي أنتم عليه من عبادة غير الله ويدخلكم في دينه الذي هو عبادة الله وحده (أو أن يظهر في الأرض الفساد) أي يوقع بين الناس الخلاف والفتنة، جعل اللعين ظهور ما دعا إليه موسى وانتشاره في الأرض واهتداء الناس إليه فساد، وليس الفساد إلا ما هو عليه هو ومن تابعه، والمعنى أنه لا بد من وقوع أحد الأمرين أو وقوع الأمرين جميعاً.
180
(وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب) لما هدده فرعون بالقتل لم يأت في دفع شدة اللعين إلا بأن استعاذ بالله عز وجل من كل متعظم عن الإيمان بالله، غير مؤمن بالبعث والنشور، واعتمد عليه فلا جرم صانه الله من كل بلية ويدخل فرعون في هذا العموم دخولاً أولياً، ولم يسم فرعون بل ذكره بوصف يعمه وغيره من الجبابرة لتعميم الاستعاذة، والإشعار بعلة القساوة والجرأة على الله تعالى.
180
وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (٢٩) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (٣١)
181
(وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ) قال الحسن ومقاتل والسدي: كان قبطياً وهو ابن عم فرعون، وهو الذي نجا مع موسى، وهو المراد بقوله (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى) وقيل: كان من بني إسرائيل ولم يكن من آل فرعون وهو خلاف ما في الآية وقد تمحل لذلك بأن في الآية تقديماً وتأخيراً، والتقدير وقال رجل من بني إسرائيل يكتم إيمانه من آل فرعون، قال القشيري: ومن جعله إسرائيلياً ففيه بعد لأنه يقال: كتمه أمر كذا ولا يقال كتم منه كما قال سبحانه:
(ولا يكتمون الله حديثاً) وأيضاًً ما كان فرعون يحتمل من بني إسرائيل مثل هذا القول وقد اختلف في اسم هذا الرجل فقيل: حبيب، وقيل: شمعون، وهو الأصح كما في مبهمات القرآن وقيل: حزقيل وبه قال ابن عباس وأكثر العلماء، وقال وهب كان اسمه جبريل، وقيل غير ذلك قال ابن عباس: لم يكن في آل فرعون مؤمن غيره وغير امرأة فرعون، وغير المؤمن الذي أنذر موسى، الذي قال: (إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك) قال ابن المنذر: أخبرت أنه حزقيل، وعن أبي
181
إسحق قال: اسمه حبيب، قرأ الجمهور رجل بضم الجيم وقرىء بسكونها وهي لغة تميم ونجد، والأولى هي الفصيحة، وقرىء بكسر الجيم.
(أتقتلون رجلاً) الاستفهام للإنكار (أن يقول) أي لأن يقول أو كراهة أن يقول، وقال الزمخشري: أي وقت أن يقول، ورد ذلك لنص النحاة على خلافه، وقال الإمام تاج الدين ابن مكتوم: أجاز ابن جني ذلك والأول أولى (ربي الله) وهو ربكم أيضاًً لا ربه وحده، وهو إشارة إلى التوحيد، وهذا إنكار منه عظيم، كأنه قيل: أترتكبون الفعلة الشنعاء التي هي قتل نفس محرمة من غير روية وتأمل في أمره واطلاع على سبب يوجب قتله؟ وما لكم علة في ارتكابه إلا كلمة الحق وهو قوله ربي الله.
(وقد جاءكم بالبينات من ربكم) أي والحال أن قد جاءكم بالمعجزات الواضحات. والدلالات الظاهرات على نبوته، وصحة رسالته، والمعنى أنه لم يحضر لتصحيح قوله ببينة واحدة ولكن ببينات من عند من نسبت إليه الربوبية، وهو استدراج لهم إلى الاعتراف به.
أخرج البخاري وغيره من طريق عروة قال: قيل لعبد الله بن عمرو ابن العاص " أخبرنا بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله ﷺ قال: " بينا رسول الله ﷺ يصلي بفناء الكعبة، إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولوى ثوبه في عنقه، فخنقه خناقاً شديداً فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبيه ودفعه عن النبي ﷺ ثم قال (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ)؟
وأخرج البزار وأبو نعيم في فضائل الصحابة عن علي ابن أبي طالب أنه قال: يا أيها الناس أخبروني من أشجع الناس؟ قالوا: أنت، قال: أما إني ما بارزت أحداً إلا انتصفت منه ولكن أخبروني عن أشجع الناس؟ قالوا: لا نعلم فمن؟ قال: أبو بكر، رأيت رسول الله صلى الله عليه
182
وسلم وأخذته قريش فهذا يجنبه وهذا يتلتله وهم يقولون: أنت الذي جعلت الآلهة إلهاً واحداً قال فوالله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر يضرب هذا، يجىء هذا ويتلتل هذا، وهو يقول ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟ ثم دفع بردة كانت عليه فبكى حتى اخضلت لحيته، ثم قال أنشدكم أمؤمن آل فرعون خير؟ أم أبو بكر؟ فسكت القوم فقال ألا تجيبون؟ فوالله لساعة من أبي بكر خير من مثل مؤمن من آل فرعون ذاك رجل يكتم إيمانه وهذا رجل أعلن إيمانه ".
ثم تلطف الرجل المؤمن لهم في الدفع عن موسى واحتج عليهم بطريق التقسيم فقال:
(وإن يك كاذباً فعليه كذبه) أي ضرر كذبه (وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم) هذا كلام صادر عن غاية الإنصاف، وعدم التعصب ولذلك قدم من شقي الترديد كونه كاذباً، وإنما خوفهم به اقتصاراً على ما هو أظهر احتمالاً عندهم، ولم يكن قوله هذا لشك منه فإنه كان مؤمناً كما وصفه الله، ولا يشك المؤمن.
والمعنى إذا لم يصبكم كله فلا أقل من أن يصيبكم بعضه، لا سيما إن تعرضتم له بسوء. وقال أبو عبيدة وأبو الهيثم. بعض هنا بمعنى كل، أي يصيبكم كل الذي يعدكم، والبعض قد يستعمل في لغة العرب بمعنى الكل، قال النسفي: وتفسير البعض بالكل مزيف انتهى نعم ولا ضرورة تلجىء إلى حمل ما في الآية على ذلك لأنه أراد التنزل معهم وإيهامهم أنه لا يعتقد صحة نبوته كما يفيده قوله (يكتم إيمانه).
قال أهل المعاني وهذا على المظاهرة في الحجاج، كأنه قال لهم: أقل ما يكون في صدقه أن يصيبكم بعض الذي يعدكم، وفي بعض ذلك هلاككم، فكأن الحاصل بالبعض هو الحاصل بالكل. وقال الليث: بعض ههنا صلة يريد بصيبكم الذي يعدكم، وقيل يصيبكم هذا العذاب
183
الذي يقوله في الدنيا، وهو بعض ما يتوعدكم به من العذاب. وقيل إنه وعدهم بالثواب والعقاب فإذا كفروا أصابهم العذاب، وهو بعض ما وعدهم به وحذفت النون من يكن في الموضعين تخفيفاً لكثرة الاستعمال كما قال سيبويه.
(إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب) هذا من تمام كلام الرجل المؤمن، وهو احتجاج آخر ذو وجهين، أحدهما أنه لو كان موسى مسرفاً كذاباً لما هداه الله إلى البينات، ولا أيده بالمعجزات، وثانيهما أنه إذا كان كذلك خذله الله وأهلكه، فلا حاجة لكم إلى قتله، والمسرف المقيم على المعاصي المستكثر منها، والكذاب المفتري.
184
(يا قوم لكم الملك اليوم) ذكرهم ذلك الرجل المؤمن ما هم فيه من الملك ليشكروا الله ولا يتمادوا في كفرهم، ومعنى (ظاهرين) الظهور على الناس، والغلبة لهم، والاستعلاء عليهم (في الأرض) أي أرض مصر.
(فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا) أي من يمنعنا من عذابه ويحول بيننا وبينه عند مجيئه، وفي هذا تحذير منه لهم من نقمة الله بهم، وإنزال عذابه عليهم، وإنما نسب ما يسرهم من الملك والظهور في الأرض لهم خاصة، ونظم نفسه في سلكهم فيما يهمهم من مجيء بأس الله تطييباً لقلوبهم، وإيذاناً بأنه مناصح ساع في تحصيل ما يجديهم، ودفع ما يرديهم، ليتأثروا بنصحه؛ فلما سمع فرعون ما قاله هذا الرجل من النصح الصحيح جاء بمراوغة يوهم بها قومه أنه لهم من النصيحة والرعاية بمكان مكين، وأنه لا يسلك بهم إلا مسلكاً يكون فيه جلب النفع لهم، ودفع الضر عنهم ولهذا.
(قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى) أي ما أشير عليكم إلا بما أرى لنفسي، قاله ابن زيد، وهذا تفسير لمآل المعنى، والتفسير المطابق
184
لجوهر اللفظ ما قال الضحاك ما أعلمكم إلا ما أعلم من الصواب، وهو قتل موسى والرؤية هنا هي القلبية الاعتقادية، لا البصرية العينية، فتعدى لمفعولين ثانيهما إلا ما أرى.
(وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) أي ما أهديكم ولا أدعوكم بهذا الرأي إلا إلى طريق الحق والهدى، قرأ الجمهور بتخفيف الشين، وقرأ معاذ بن جبل - رضي الله تعالى عنه - بتشديدها على أنها صيغة مبالغة كضراب، قال النحاس: هي لحن ولا وجه لذلك. ثم كرر ذلك الرجل المؤمن تذكيرهم، وحذرهم أن ينزل بهم ما نزل بمن قبلهم فقال الله حاكياً عنه:
185
(وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب) أي مثل يوم عذاب الأمم الماضية الذين تحزبوا على أنبيائهم، وأفرد اليوم لأن جمع الأحزاب قد أغنى عن جمعه، والأحزاب لم ينزل بها العذاب في يوم واحد، بل نزل بها في الدنيا في أيام مختلفة مترتبة ثم فسر الأحزاب فقال:
(مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم) أي مثل حالهم في العذاب، أو مثل عادتهم في الإقامة على التكذيب، أو مثل جزاء ما كانوا عليه من الكفر والتكذيب.
(وما الله يريد ظلماً للعباد) أي لا يعذبهم ولا يعاقبهم بغير ذنب، ولا يترك الظالم منهم بغير انتقام، أو لا يزيد على قدر ما يستحقون من العذاب أو لا يهلكهم إلا بعد إقامة الحجة عليهم، ونفي الإرادة للظلم يستلزم نفي الظلم بفحوى الخطاب وتفسير المعتزلة بأنه لا يريد لهم أن يظلموا بعبد، لأن أهل اللغة قالوا إذا قال الرجل لآخر لا أريد ظلماً لك، معناه لا أريد أن أظلمك ثم زاد الرجل المؤمن في الوعظ والتذكير فقال:
185
وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (٣٣) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (٣٤) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (٣٥) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (٣٦)
186
(وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ) قرأ الجمهور بتخفيف الدال وحذف الياء، والأصل التنادي، وهو التفاعل من النداء، يقال تنادى القوم أي نادى بعضهم بعضاً وقرىء بإثبات الياء على الأصل وقرأ ابن عباس والضحاك وعكرمة بتشديد الدال، قال بعض أهل اللغة: هو لحن لأنه من ند يند إذا مر على وجهه هارباً، قال النحاس: وهذا غلط والقراءة حسنة على معنى التنافي قال الضحاك: في معناه أنهم إذا سمعوا بزفير جهنم ندوا هرباً فلا يأتون قطراً من أقطار الأرض إلا وجدوا صفوفاً من
الملائكة، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه، فذلك قوله يوم التناد وعلى قراءة الجمهور المعنى يوم ينادي بعضهم بعضاً، أو ينادي أهل النار أهل الجنة، وأهل الجنة أهل النار أو يوم ينادي فيه (كل أناس بإمامهم) ولا مانع من الحمل على جميع هذه المعاني، وهو ما حكى الله تعالى في سورة الأعراف:
(ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار)، (ونادى أصحاب النار
186
أصحاب الجنة) (ونادى أصحاب الأعراف) وقيل: ينادي مناد إلا إن فلاناً سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً، وألا إن فلاناً شقي شقاوة فلا يسعد بعدها أبداً وينادي حين يذبح الموت يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت. وقيل ينادي المؤمن (هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ) وينادي الكافر: (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ).
187
(يوم تولون مدبرين) أي منصرفين عن الموقف إلى النار أو فارين عنها غير معجزين، قال قتادة ومقاتل: المعنى إلى النار بعد الحساب (ما لكم من الله من عاصم)، يعصمكم من عذاب الله ويمنعكم منه (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) يهديه إلى طريق الرشاد، قرىء هاد بإثبات الياء وحذفها في الوقف، وبحذفها في الوصل مع حذفها خطاً.
(ولقد جاءكم يوسف) هذا من تمام وعظ مؤمن آل فرعون، ذكرهم قديم عتوهم على الأنبياء وقيل: إن هذا من قول موسى عليه السلام والأول أولى (من قبل) أي قبل موسى وهو يوسف بن يعقوب، في قول عمر إلى زمن موسى، قاله المحلي، أي عاش واستمر يوسف ابن يعقوب إلى زمن موسى الكليم، قال سليمان الجمل: وهذا القول لم يقله غيره من المفسرين وإنما غاية ما وجد بعد التفتيش ما نقله الشهاب بقوله وفي بعض التواريخ أن وفاة يوسف قبل مولد موسى بأربع وستين سنة، قال القاري: والصحيح أن المعمر هو فرعون موسى: أدرك يوسف وعاش إلى أن أرسل إليه موسى، وعمره أربعمائة سنة وأربعين سنة انتهى.
وقال السيوطي في التحبير: وعاش يوسف بن يعقوب مائة وعشرين سنة، وبين يوسف وموسى أربعمائة سنة انتهى وقيل: هو فرعون آخر.
(بالبينات) أي أنه جاءهم بالمعجرات الظاهرات، والآيات الواضحات من قبل مجيء موسى إليهم، أي جاء إلى آبائكم، فجعل
187
المجيء إلى الآباء مجيئاً إلى الأبناء، وقال ابن جريج: المراد بالبينات رؤيا يوسف، وقيل: المراد بها قوله: (أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار)؟ وقيل: المراد بيوسف يوسف بن إفرائيم بن يوسف بن يعقوب، وكان أقام فيهم أي في القبط نبياً عشرين سنة، وحكى النقاش عن الضحاك أن الله بعثه إليهم رسولاً من الجن يقال له: يوسف قال الشوكاني رحمه الله: والأول أولى (فما زلتم) أي ما زال أسلافكم (في شك مما جاءكم به) من البينات ولم تؤمنوا به.
(حتى إذا هلك) يوسف (قلتم) أي قال أسلافكم: (لن يبعث الله من بعده رسولاً) فكفروا به في حياته وكفروا بمن بعده من الرسل بعد موته، وظنوا أن الله لا يجدد عليهم الحجة، وإنما قالوا ذلك على سبيل التشهي والتمني من غير حجة ولا برهان، ليكون لهم أساس في تكذيب الرسل الذين يأتون بعده، وهذا ليس إقراراً منهم برسالته، بل هو ضم منهم إلى الشك في رسالته، والتكذيب برسالة من بعده، أفاده الخطيب والخازن.
(كذلك) الضلال الواضح (يضل الله من هو مسرف) في معاصي الله مستكثر منها أو مشرك (مرتاب) في دين الله شاك في وحدانيته ووعده ووعيده، وقوله:
188
(الذين يجادلون في آيات الله) بدل (مَنْ)، والجمع باعتبار معناها، وإفراد الضمير باعتبار اللفظ، أو بيان لها، أو صفة، أو في محل نصب بإضمار أعني، أو خبر مبتدأ محذوف، أي هم الذين، أو مبتدأ وخبره يطبع، والأول أولى. قال ابن جريج: الذين يجادلون يهود، قيل: هذا من كلام الرجل المؤمن أيضاًً، وقيل: إنه ابتداء كلام من الله سبحانه.
(بغير سلطان) أي بغير حجة واضحة، وبرهان ساطع (أتاهم) صفة لسلطان (كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا) يحتمل أن يراد به
188
التعجب والاستعظام وأن يراد به الذم كبئس، وفاعل كبر ضمير يعود إلى الجدال المفهوم من: يجادلون، قال المحلي: كبر خبر المبتدأ انتهى، وهذا أولى وأحسن الأعاريب العشرة التي ذكرها السمين. وإليه نحا أبو حيان.
(كَذَلِكَ) الطبع المحكم البليغ (يطبع الله على كل قلب متكبر جبار) مستأنف قرأ الجمهور بإضافة قلب إلى متكبر واختارها أبو حاتم وأبو عبيدة وفي الكلام حذف والتقدير كذلك يطبع الله على كل قلب كل متكبر، فحذف كل الثانية لدلالة الأولى عليها، والمعنى أنه سبحانه يطبع على قلوب جميع المتكبرين الجبارين.
وقرىء بتنوين قلب على أن متكبراً صفة له فيكون القلب مراداً به الجملة، لأن القلب هو محل التكبر، وسائر الأعضاء تبع له في ذلك، وهما سبعيتان، وقرأ ابن مسعود على قلب كل متكبر، وتقديره عند الزمخشري على كل ذي قلب متكبر، قال الشيخ ولا ضرورة تدعو إلى اعتبار الحذف، قلت بل ثم ضرورة إلى ذلك، وهي توافق القراءتين.
ثم لما سمع فرعون هذا رجع إلى تكبره وتجبره، معرضاً عن الموعظة نافراً عن قبولها.
189
(وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحاً) أي قصراً مشيداً كما تقدم بيان تفسيره في سورة القصص، وقيل صرحاً أي بناء ظاهراً لا يخفى على الناظرين وإن بعد، ومنه يقال صرح الشيء إذا ظهر، وفي المصباح الصرح بيت واحد يبنى مفرداً طولاً ضخماً، وفي السمين الصرح القصر، أو صحن الدار، أو بلاط يتخذ من زجاج، وأصله من التصريح وهو الكشف (لعلي أبلغ الأسباب) أي الطرق من السماء إلى السماء، قال قتادة والزهري والسدي والأخفش هي الأبواب أي أبوابها الموصلة إليها.
أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (٣٧)
(أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ) بيان للأسباب لأن الشيء إذا أبهم ثم فسر كان أوقع في النفوس، وأفخم للشأن، أو بدل منها، وأنشد الأخفش عند تفسير الآية بيت زهير:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه | ولو رام أسباب السماء بسلم |
وقيل أسباب السموات الأمور التي يستمسك بها وكل ما أواك إلى شيء فهو سبب إليه كالرشاء ونحوه (فأطلع إلى إله موسى) أي انظر إليه، وأطلع على حاله، قرأ الأعرج السلمي وعيسى بن عمر وحفص بالنصب على جواب الأمر في قوله ابن لي، وهذا رأى البصريين. أو على جواب الترجي كما قال أبو عبيدة وغيره وهذا رأى الكوفيين.
قال النحاس معنى النصب خلاف معنى الرفع لأن معنى النصب متى بلغت الأسباب اطلعت، وقرأ الجمهور بالرفع عطفاً على أبلغ فهو على هذا داخل في حيز الترجي، ومعناه لعلي أبلغ، ولعلي أطلع بعد ذلك، وقيل غير ذلك، وفي هذا دليل على أن فرعون كان بمكان من الجهل عظيم، وبمنزلة من فهم حقائق الأشياء سافلة جداً.
(وإني لأظنه) أي موسى (كاذباً) في ادعائه بأن له إلهاً غيري، مستوياً على العرش فوق السموات أو فيما يدعيه من الرسالة قيل: قال
190
فرعون ذلك تمويهاً وتلبيساً، وتخليطاً على قومه، وإلا فهو يعرف ويعتقد حقيقة الإله، وأنه ليس في جهة العلو، ولكنه أراد التلبيس على قومه توصلاً لبقائهم على الكفر، فكأنه يقول. لو كان إله موسى موجوداً لكان له محل، ومحله إما الأرض وإما السماء، ولم نره في الأرض فيبقى أن يكون في السماء، والسماء لا توصل إليها إلا بسلم قاله الحفناوي.
(وكذلك) التزيين (زين لفرعون سوء عمله) من الشرك والتكذيب فتمادى في الغي واستمر على الطغيان، والمزين هو الشيطان (وصد عن السبيل) أي سبيل الرشاد والهدى، قرأ الجمهور وصد بفتح الصاد والدال، أي صد فرعون الناس عن السبيل، وقرأ الكوفيون وصد بضم الصاد مبنياً للمفعول، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم.
ولعل وجه الاختيار لها منهما كونها مطابقة لما أجمعوا عليه في زين، من البناء للمفعول والقراءتان سبعيتان وقرأ يحيى بن وثاب وعلقمة.
صد بكسر الصاد وضم الدال منوناً وقرأ ابن أبي إسحق وعبد الرحمن بن أبي بكر بفتح الصاد وضم الدال منوناً، وكل من هاتين القراءتين على أنه مصدر معطوف على: (سوء عمله)، أي زين له الشيطان سوء العمل والصد.
(وما كيد فرعون) في إبطال آيات موسى (إلا في تباب) أي خسار وهلاك، قال ابن عباس: التباب الخسران، ومنه (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ) ثم إن ذلك الرجل المؤمن أعاد التذكير والتحذير كما حكى عنه بقوله:
191
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (٣٨) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (٤٠) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١)
192
(وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ) بإثبات الياء وحذفها في الوصل والوقف، والقراءتان سبعيتان، وهذا بالنظر للفظ وأما في الرسم فهي محذوفة لا غير لأنها من ياآت الزوائد، أي اقتدوا بي في الدين، واعملوا بنصيحتي (أهدكم سبيل الرشاد) أي طريق الهدى والصواب، وهو الجنة، وهو ضد الغي، وفيه تعريض شبيه بالتصريح، أن ما عليه فرعون وقومه سبيل الغي، وقيل: هذا من قول موسى والأول أولى.
(يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع) يتمتع بها أياماً ثم تنقطع وتزول، لأن التنوين للتقليل، فالإخلاد إليها أصل الشر ومنبع الفتن، ورأس كل بلاء وآفة (وإن الآخرة هي دار القرار) أي الاستقرار والثبات، فلا انتقال ولا تحول عنها، لكونها دائمة لا تنقطع ومستمرة لا تزول، والباقي خير من الفاني. قال بعض العارفين: لو كانت الدنيا ذهباً فانياً، والآخرة خزفاً باقياً لكانت الآخرة خيراً من الدنيا، فكيف والدنيا خزف فان، والآخرة ذهب باق!
قال ابن عباس: " الدنيا جمعة من جمع الآخرة سبعة آلاف سنة "، وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الحياة الدنيا متاع وليس من متاعها شيء أفضل من
192
المرأة الصالحة التي إذا نظرت إليها سرتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالها ".
193
(من عمل سيئة) من كلام الرجل المؤمن، والمعنى من عمل في دار الدنيا معصية من المعاصي كائنة ما كانت (فلا يجزى إلا مثلها) ولا يعذب إلا بقدرها والظاهر شمول الآية لكل ما يطلق عليه اسم السيئة، وقيل: هي خاصة بالشرك، ولا وجه لذلك.
(ومن عمل) عملاً (صالحاً) قيل: هو لا إله إلا الله (من ذكر أو أنثى وهو مؤمن) أي مع كونه مؤمناً بما جاءت به رسله (فأولئك) الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح (يدخلون الجنة) بفتح الياء وضم الخاء. وبالعكس سبعيتان (يرزقون فيها) رزقاً واسعاً (بغير حساب) أي بغير تقدير ومحاسبة قال مقاتل: يقول لا تبعة عليهم فيما يعطون في الجنة من الخير ثم كرر ذلك الرجل المؤمن دعاءهم إلى الله.
صرح بإيمانه ولم يسلك المسالك المتقدمة من إيهامه لهم أنه منهم، وأنه إنما تصدى لتذكيرهم كراهة أن يصيبهم بعض ما توعدهم به موسى، كما يقول الرجل المحب لقومه من التحذير عن الوقوع فيما يخاف عليهم الوقوع فيه، فقال:
(و) ترك العطف في النداء الثاني لأنه تفصيل لإجمال الأول، وهنا عطف لأنه ليس بتلك المثابة لأنه كلام مباين للأول والثاني، فحسن إيراد الواو العاطفة فيه ونحوه.
قال الزمخشري: (يا قوم ما لي) تكرير النداء لزيادة التنبيه لهم، والإيقاظ عن سنة الغفلة، وفيه أنهم قومه وأنه من آل فرعون. والمعنى: أخبروني عنكم كيف هذه الحال؟ (أدعوكم إلى النجاة) من النار ودخول الجنة بالإيمان بالله وإجابة رسله (وتدعونني إلى النار) بما تريدونه مني من الشرك، وقيل: المعنى ما لكم أدعوكم؟ كما تقول ما لي أراك حزيناً؟ أي مالك؟ ثم فسر الدعوتين فقال:
193
تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (٤٣) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (٤٤) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (٤٥)
194
(تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) أي ما لا علم لي بكونه شريكاً لله، والمراد بنفي العلم نفي المعلوم بدل من تدعونني الأولى على جهة البيان لها، وأتى بجملة فعلية لتدل على أن دعوتهم باطلة لا ثبوت لها، وفي قوله (وأنا أدعوكم) بجملة اسمية لتدل على ثبوت دعوته وتقويتها (إلى العزيز) الغالب على أمره، وفي انتقامه ممن كفر (الغفار) لذنب من آمن به وتاب.
(لا جرم) قد تقدم تفسير هذا في سورة هود وجرم فعل ماض بمعنى حق، ولا الداخلة عليه لنفي ما ادعوه، ورد ما زعموه، وفاعل هذا الفعل هو قوله: (أن ما تدعونني إليه) أي حق ووجب بطلان دعوته، وما بمعنى الذي؛ فكان حقها أن تكتب مفصولة من النون كما هو القاعدة، لكنها رسمت في المصحف الإمام موصولة بالنون كما أشار له ابن الجزري (ليس له دعوة) قال الزجاج: معناه ليس له استجابة دعوة تنفع؛ وقيل: ليس له دعوة توجب الألوهية (في الدنيا ولا في الآخرة) وقال الكلبي ليس له شفاعة (وأن مردنا إلى الله) أي مرجعنا ومصيرنا إليه بالموت أولاً وبالبعث آخراً فيجازي كل أحد بما يستحقه من خير
194
وشر.
(وأن المسرفين) أي المستكثرين من معاصي الله: قال قتادة وابن سيرين: يعني المشركين، وقال مجاهد والشعبي هم السفهاء السفاكون للدماء بغير حقها؛ وبه قال ابن مسعود، وقال عكرمة الجبارون المتكبرون، وقيل: هم الذين تعدوا حدود الله، والمعنى حق أن المسرفين (هم أصحاب النار) أي أهل جهنم ولما بلغ ذلك المؤمن في باب النصيحة إلى هذا الكلام ختم كلامه بخاتمة لطيفة فقال
195
(فستذكرون ما أقول لكم) إذا نزل بكم العذاب وتعلمون أني قد بالغت في نصحكم وتذكيركم، وهو كلام مجمل مبهم، وفي هذا الإبهام والإجمال من التخويف والتهديد ما لا يخفى.
(وأفوض أمري إلى الله) مستأنف، أي أتوكل عليه وأسلم أمري إليه قيل: إنه قال هذا لما أرادوا الإيقاع به، قال مقاتل: هرب هذا المؤمن إلى الجبل فطلبوه فلم يقدروا عليه وقيل: القائل هو موسى والأول أولى (إن الله بصير بالعباد) يعلم المحق من المبطل.
(فوقاه الله سيئات ما مكروا) أي ما أرادوا به من المكر السيء وما هموا به من إلحاق أنواع العذاب بمن خالفهم، قال قتادة نجاه الله مع بني إسرائيل من الغرق (وحاق بآل فرعون) أي أحاط بهم ونزل عليهم (سوء العذاب) قال الكسائي: يقال حاق يحيق حيقاً وحيوقاً إذا نزل ولزم قال الكلبي غرقوا في البحر ودخلوا النار، والمراد بآل فرعون فرعون وقومه، وترك التصريح به للاستغناء بذكرهم عن ذكره، لكونه أولى بذلك منهم، أو المراد بآل فرعون فرعون نفسه، والأول أولى لأنهم قد عذبوا في الدنيا جميعاً بالغرق وسيعذبون في الآخرة بالنار، ثم بين سبحانه ما أجمله من سوء العذاب فقال:
195
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (٤٦) وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (٤٧) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (٤٨) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (٤٩)
196
(النار يعرضون) أي تعرض أرواحهم من حين موتهم إلى قيام الساعة (عليها غدواً وعشياً) أي صباحاً ومساء، فارتفاع النار على أنها بدل من سوء العذاب وقيل: على أنها خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ وخبره يعرضون والأول أولى ورجحه الزجاج، وعلى الوجهين الأخيرين تكون الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر وقرىء بالنصب على تقدير فعل يفسره يعرضون من حيث المعنى، أي يصلون النار يعرضون عليها أو على الاختصاص وأجاز الفراء الخفض على البدل من العذاب.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال له: هذا مقعدك حين يبعثك الله إليه يوم القيامة " زاد ابن مردويه ثم قرأ (النار يعرضون عليها غدواً وعشياً)، وعرضهم عليها إحراقهم بها، يقال عرض الإمام الأساري على السيف إذا قتلهم به، أي في هذين الوقتين يعذبون بالنار، وفيما بين ذلك إما أن يعذبوا بجنس آخر أو ينفس عنهم، ويجوز أن يكون غدواً وعشياً عبارة عن الدوام (١).
_________
(١) البخاري ٣/ ١٩٣/مسلم ٤/ ٢١٩٩.
196
واحتج بعض أهل العلم على إثبات عذاب القبر بهذه الآية أعاذنا الله تعالى منه بمنه وكرمه، وبه قال مجاهد وعكرمة ومحمد بن كعب كلهم، قال القرطبي: إن أرواحهم في جوف طير سود تغدو على جهنم وتروح كل يوم مرتين، فذلك عرضها انتهى. وقد حققنا ذلك في كتابنا ثمار التنكيت في شرح أبيات التثبيت، بالفارسية فليعلم، ثم ذهب الجمهور إلى أن هذا العرض هو في البرزخ وقيل هو في الآخرة. قال الفراء: ويكون في الآية تقديم وتأخير، أي: أدخلوا آل فرعون أشد العذاب، النار يعرضون عليها غدواً وعشياً، ولا ملجىء إلى هذا التكلف فإن قوله: (ويوم تقوم الساعة) الخ يدل دلالة واضحة على أن ذلك العرض هو في البرزخ.
(أدخلوا) أي يقال للملائكة: أدخلوا (آل فرعون أشد العذاب) هو عذاب النار فإنه أشد مما كانوا فيه، وقيل: أنواع من العذاب بعضها أشد من بعض غير التي كانوا يعذبون بها منذ أغرقوا، قرأ حمزة والكسائي ونافع وحفص: أدخلوا بقطع الهمزة وكسر الخاء، وهو على تقدير القول كما ذكر وقرأ الباقون ادخلوا بهمزة وصل من دخل يدخل أمرآ لآل فرعون بالدخول بتقدير حرف النداء أي ادخلوا يا آل فرعون أشد العذاب، عن ابن مسعود عن النبي ﷺ قال: " ما أحسن محسن مسلم أو كافر إلا أثابه الله، قلنا يا رسول الله ما إثابة الكافر؟ قال المال والولد والصحة وأشباه ذلك، قلنا وما إثابته في الآخرة؟ قال عذاباً دون العذاب، وقرأ رسول الله ﷺ (أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) أخرجه البزار وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان.
197
(وإذ يتحاجون في النار) أي اذكر لقومك وقت تخاصمهم في النار، ثم بين سبحانه هذا التخاصم فقال: (فيقول الضعفاء للذين
197
استكبروا) عن الانقياد للأنبياء والأتباع لهم، وهم رؤساء الكفر (إنا كنا لكم تبعاً) فتكبرتم على الناس بنا، والتبع جمع تابع كخدم وخادم أو مصدر واقع موقع اسم الفاعل، أي تابعين أو ذوي تبع، قال البصريون التبع يكون واحداً ويكون جمعاً، وقال الكوفيون هو جمع لا واحد له.
(فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النار) أي هل تدفعون عنا نصيباً منها؟ أو تحملونه معنا، وجملة
198
(قال الذين استكبروا إنا كل فيها) مستأنفة جواب سؤال مقدر قرأ الجمهور (كل) بالرفع على الابتداء، وخبره (فيها) والجملة خبر إن قاله الأخفش، وقرأ ابن السميفع وعيسى ابن عمر (كُلاًّ) بالنصب، قال الكسائي والفراء على التأكيد لاسم إن بمعنى كلنا، وتنوينه عوض عن المضاف إليه؛ وقيل على الحال، ورجحه ابن مالك، والمعنى إنا نحن وأنتم جميعاً في جهنم، فكيف نغني عنكم؟ ولو قدرنا لأغنينا عن أنفسنا.
(إن الله قد حكم بين العباد) أي قضى بينهم بأن فريقاً في الجنة وفريقاً في السعير، فلا يغني أحد عن أحد شيئاً فعند ذلك يحصل اليأس للأتباع من المتبوعين، فيرجعون كلهم إلى خزنة جهنم يسألونهم، كما قال:
(وقال الذين في النار) من الأمم الكافرة، مستكبرهم وضعيفهم جميعاً (لخزنة جهنم) جمع خازن، وهم القوام بتعذيب أهل النار، وإنما لم يقل لخزنتها لأن في ذكر جهنم تهويلاً وتفظيعاً، أو لبيان محلهم فيها فإن جهنم هي أبعد النار قعراً من قولهم بئر جهنام، بعيدة القعر. وفيه أعتى الكفار وأطغاهم، فلعل الملائكة الموكلين لعذاب أولئك أجوب دعوة لزيادة قربهم من الله، فلهذا تعمدهم أهل النار بطلب الدعوة منهم.
(ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب) أي شيئاًً منه مقدار يوم من أيام الدنيا لأنه ليس في الآخرة ليل ولا نهار.
198
قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (٥٠) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (٥١) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (٥٣) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (٥٤) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (٥٥)
199
(قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) مستأنفة جواب سؤال مقدر والاستفهام للتقريع والتوبيخ (قالوا بلى) أي أتونا بها فكذبناهم، ولم نؤمن بهم، ولا بما جاءوا به من الحجج الواضحة، فلما اعترفوا (قالوا) أي قال لهم الملائكة الذين هم خزنة جهنم تهكماً بهم: (فادعوا) أي إذا كان الأمر كذلك، فادعوا أنتم فإنا لا ندعو لمن كفر بالله وكذب رسله بعد مجيئهم بالحجج الواضحة، ثم أخبروهم بأن دعاءهم لا يفيد شيئاًً فقالوا:
(وما دعاء الكافرين إلا في ضلال) أي في ضياع وبطلان، وخسار وتبار وانعدام، وفيه إقناط لهم عن الإجابة، وقيل: هو من قول الله تعالى إخباراً لنبيه وهو أنسب بما بعده وعليه جرى المحلي والشهاب:
(إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا) مستأنفة من جهة الله سبحانه، أي نجعلهم الغالبين لأعدائهم، القاهرين لهم، والموصول في محل نصب عطفاً على رسلنا أي لننصر رسلنا وننصر الذين آمنوا معهم (في الحياة الدنيا) بما عودهم الله من الانتقام لهم بالقتل والسلب والأسر، وقيل بالغلبة والقهر، وقيل بالحجة، وقيل بالانتقام لهم من الأعداء بالاستئصال، وإن غلبوا في الدنيا في بعض الأحايين امتحاناً من الله عز
199
وجل، والعاقبة لهم، كما نصر يحيى ابن زكريا لما قتل، فإنه قتل به سبعين ألفاً، وكما نصر الحسين بن علي الشهيد فإنه قتل به سبعين ألفاً أيضاًً.
أخرج أحمد والترمذي وحسنه، وابن أبي الدنيا والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي الدرداء عن النبي ﷺ قال " من ردّ | عن عرض أخيه رد الله عن وجهه نار جهنم يوم القيامة "، ثم تلا (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا) وأخرج ابن مردويه من حديث أبي هريرة مثله. |
(ويوم يقوم الأشهاد) هو يوم القيامة قال زيد بن أسلم الأشهاد هم الملائكة والنبيون والمؤمنون. وقال مجاهد والسدي الأشهاد الملائكة، يشهدون للأنبياء بالإبلاغ، وعلى الأمم بالتكذيب. وقيل الحفظة يشهدون على بني آدم بما عملوا من الأعمال، وكذا الجوارح تشهد عليهم بما فعلوا، قال الزجاج الأشهاد جمع شاهد مثل صاحب وأصحاب، قال النحاس ليس لباب فاعل أن يجمع على أفعال، ولا يقاس عليه ولكن ما جاء منه مسموعاً أدى على ما سمع فهو على هذا جمع شهيد، مثل شريف وأشراف، ومعنى نصرهم يوم القيامة أن الله يجازيهم بأعمالهم فيدخلهم الجنة، ويكرمهم بكراماته، ويجازي الكفار بأعمالهم، فيلعنهم ويدخلهم النار وهو معنى قوله:
200
(يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم) قرأ نافع والكوفيون بالتحتية وقرأ الجمهور تنفع بالفوقية، والكل جائز في اللغة، وإنما لم تنفعهم المعذرة لأنها معذرة باطلة، وعلة داحضة. وشبهة زائغة (ولهم اللعنة) أي البعد عن الرحمة (ولهم سوء الدار) أي النار.
(ولقد آتينا موسى الهدى) هذا من جملة ما قصه الله سبحانه قريباً من نصره لرسله، أي آتيناه التوراة والنبوة، كما في قوله سبحانه (إنا
200
أنزلنا التوراة فيها هدى ونور) قال مقاتل: الهدى من الضلالة يعني التوراة (وأورثنا بني إسرائيل) أي بعد ما كانوا فيه من الذل (الكتاب) أي التوراة والمعنى أن الله سبحانه لما أنزل التوراة على موسى بقيت بعده فيهم وتوارثوها خلفاً عن سلف وقيل المراد بالكتاب سائر الكتب المنزلة على أنبياء بني إسرائيل بعد موت موسى
201
(هدى وذكرى) أي لأجلهما أو هادياً ومذكراً ومرشداً (لأولي الألباب) أي لأهل العقول السليمة.
ثم أمر الله سبحانه رسوله ﷺ بالصبر على الأذى فقال:
(فاصبر) أي اصبر على أذى المشركين كما صبر من قبلك من الرسل، قال الكلبي: فنسخت آية القتال آية الصبر (إن وعد الله) الذي وعد رسله به (حق) لا خلف فيه، ولا شك في وقوعه، كما في قوله (إنا لننصر رسلنا) وقوله (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) ثم أمره الله سبحانه يالاستغفار لذنبه فقال:
(واستغفر لذنبك) قيل: المراد ذنب أمتك فهو على حذف مضاف وقيل المراد الصغائر عند من يجوزها على الأنبياء، وقيل: هو مجرد تعبد له ﷺ بالاستغفار لزيادة الثواب، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
(وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار) أي دم على تنزيه الله متلبساً بحمده وقيل المراد الصلوات الخمس، والعشي هو من بعد الزوال، وفيه أربع صلوات، والإبكار من الفجر إلى الزوال، وفيه صلاة واحدة.
وقيل: المراد صل في الوقتين صلاة العصر وصلاة الفجر، قاله الحسن وقتادة، وقيل هما صلاتان: ركعتان غدوة، وركعتان عشية، وذلك قبل أن تفرض الصلوات الخمس.
201
إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (٥٨)
202
(إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ) عام في كل مجادل وإن نزل في مشركي مكة، قاله أبو السعود (في آيات الله) أي القرآن (بغير سلطان أتاهم) أي بغير حجة ظاهرة واضحة جاءتهم من جهة الله سبحانه تقييداً لمجادلة بذلك مع استحالة إتيانه للإيذان بأن المتكلم في أمر الدين لا بد من استناده إلى سلطان مبين.
(إن في صدورهم إلا كبر) أي ما في قلوبهم إلا تكبر عن الحق يحملهم على تكذيبك (ما هم ببالغيه) صفة لكبر: قال الزجاج: بالغي إرادتهم فيه فجعله على حذف المضاف، وقال غيره بالغي كبرهم. وقال ابن قتيبة: كبر أي تكبر على محمد ﷺ وطمع أن يبلغوه وما هم ببالغي ذلك، وقيل: المراد بالكبر الأمر الكبير، أي يطلبون النبوة ويطلبون أمراً كبيراً يصلون به إليك من القتل ونحوه، ولا يبلغون ذلك. وقال مجاهد معناه في صدورهم عظمة ما هم ببالغيها، والمراد بهذه الآية المشركون، وقيل اليهود.
عن أبي العالية قال: " إن اليهود أتوا النبي ﷺ فقالوا إن الدجال يكون منا في آخر الزمان، ويكون من أمره فعظموا
202
أمره، وقالوا يصنع كذا ويصنع كذا، فأنزل الله هذه الآية. قال: لا يبلغ الذي يقول، فاستعذ بالله، فأمر نبيه أن يتعوذ من فتنة الدجال، لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الدجال، أخرجه عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، قال السيوطي: بسند صحيح، وعن كعب الأحبار قال: هم اليهود نزلت فيهم، فيما ينتظرونه من أمر الدجال. وقال مجاهد (إلا كبر) أي عظمة قريش، ثم أمره الله سبحانه بأن يستعيذ بالله من شرورهم فقال:
(فاستعذ بالله) أي فالتجىء إليه من شرهم، وكيدهم، وبغيهم عليك (إنه هو السميع) لأقوالهم (البصير) بأفعالهم لا تخفى عليه من ذلك خافية ثم بين سبحانه عظيم قدرته فقال
203
(لخلق السموات والأرض) ابتداء من غير سبق مادة (أكبر من خلق الناس) أي أعظم في النفوس، وأجل في الصدور، لعظم إجرامهما واستقرارهما من غير عمد، وجريان الأفلاك بالكواكب من غير سبب، وأشق بحسب عادة الناس في مزاولة الأفعال من أن علاج الشيء الكبير أشق من علاج الصغير، وإن كان بالنسبة إلى الله لا تفاوت بين الصغير والكبير، فكيف ينكرون البعث وإحياء ما هو دونهما من كل وجه؟ كما في قوله.
(أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) قال أبو العالية المعنى لخلق السموات والأرض أعظم من خلق الدجال حين عظمته اليهود، وقال يحيى بن سلام هو احتجاج على منكري البعث أي هما أكبر من إعادة خلق الناس.
(ولكن أكثر الناس) أي كفار مكة (لا يعلمون) بعظم قدرة الله، وأنه لا يعجزه شيء فهم كالأعمى، ومن يعلمه كالبصير وقد وردت أحاديث صحيحة كثيرة في ذكر الدجال وصفته، وإنذار الرسل منه لأمتهم وخروجه في آخر الزمان، وما يقع منه، ومن يتبعه من اليهود، كما
203
حققناه في حجج الكرامة في آثار القيامة، وليس هذا موضع ذكرها وبسطها، وإليه ذهب جميع أهل السنة والمحدثين والفقهاء خلافاً لمن أنكره، وأبطل أمره من الخوارج والجهمية وبعض المعتزلة، وخلافاً للجبائي وموافقيه في أنه صحيح الوجود: ولكن الأشياء التي يأتي بها زعموا أنها مخاريف وخيالات لا حقائق لها والأخبار الصحيحة المتواترة تدفعه وترده رداً مشبعاً.
ثم لما ذكر سبحانه الجدال بالباطل ذكر مثالاً للباطل والحق، وأنهما لا يستويان فقال:
204
(وما يستوي الأعمى والبصير) أي الذي يجادل بالباطل الذي يجادل بالحق، أو الغافل والمستبصر (والذين آمنوا وعملوا الصالحات) أي ولا يستوي المحسن بالإيمان والعمل الصالح.
(ولا المسيء) بالكفر والمعاصي، وزيادة (لا) للتأكيد، والتقابل يجيء على ثلاث طرق إحداها أن يجاور المناسب ما يناسبه كهذه الآية، والثانية أن يتأخر المتقابلان كقوله تعالى (مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع)، والثالثة أن يقدم مقابل الأول ويؤخر مقابل الآخر، كقوله تعالى (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ) وكل ذلك تفنن في البلاغة، وقدم الأعمى في نفي التساوي لمجيئه بعد صفة الذم في قوله (ولكن أكثر الناس لا يعلمون).
(قليلاً ما يتذكرون) بالتحتية على الغيبة لأن قبلها وبعدها على الغيبة لا على الخطاب، واختارها أبو عبيد وأبو حاتم، وبالفوقية على الخطاب بطريقة الالتفاف وفائدته في مقام التوبيخ هي إظهار العنف الشديد، والإنكار البليغ أفاده الكرخي.
204
إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (٥٩) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (٦٠) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (٦١)
205
(إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا) أي لا شك في مجيئها وحصولها وقيامها لوضوح شواهدها، وإجماع الرسل على الوعد بوقوعها، ولأنه لا بد من جزاء لئلا يكون خلق الخلق للفناء خاصة (ولكن أكثر الناس لا يؤمنون) بتلك ولا يصدقونه لقصور أفهامهم، وضعف عقولهم، عن إدراك الحجة، والمراد بأكثر الناس الكفار الذين ينكرون البعث، ثم لما بين سبحانه أن قيام الساعة حق وليس بمرتاب فيها. ولا شبهة في مجيئها، أرشد عباده إلى ما هو الوسيلة إلى السعادة في دار الخلود فأمر رسوله ﷺ أن يحكي عنه ما أمره بإبلاغه وهو:
(وقال ربكم ادعوني استجب لكم) قال أكثر المفسرين: المعنى وحدوني واعبدوني أتقبل عبادتكم، وأغفر لكم، وأجبكم وأثبكم. وقيل: هذا الوعد بالإجابة مقيد بالمشيئة، أي استجب لكم إن شئت، كقوله (فيكشف ما تدعون إليه إن شاء الله) وقيل: المراد بالدعاء السؤال بجلب النفع ودفع الضر، قيل: الأول أولى لأن الدعاء في أكثر استعمالات الكتاب العزيز هو العبادة.
قلت: بل الثاني أولى، لأن معنى الدعاء حقيقة وشرعاً هو الطلب، فإن استعمل في غير ذلك فهو مجاز، على أن الدعاء في نفسه باعتبار معناه الحقيقي هو عبادة، بل مخ العبادة، كما ورد بذلك الحديث الصحيح، فالله سبحانه قد أمر عباده بدعائه، ووعدهم بالإجابة، ووعده
205
الحق، وما يبدل القول لديه، ولا يخلف الميعاد.
وعن ابن عباس قال: وحدوني أغفر لكم، وقال جرير بن عبد الله اعبدوني، وعن عائشة قالت: قال رسول الله ﷺ " الدعاء الاستغفار " أخرجه ابن مردويه، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ من لم يدع الله يغضب عليه، أخرجه أحمد والحاكم وابن أبي شيبة. وعن معاذ بن جبل عن النبي ﷺ قال: " لا ينفع حذر من قدر، ولكن الدعاء ينفع مما نزل، ومما لم ينزل، فعليكم بالدعاء "، أخرجه أحمد وأبو يعلى والطبراني.
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ " الدعاء مخ العبادة " (١) أخرجه الترمذي والحكيم الترمذي في نوادر الأصول، وعن ابن عباس قال أفضل العبادة الدعاء، وقرأ هذه الآية، وأخرج البخاري في الأدب عن عائشة قالت: سئل النبي ﷺ " أي العبادة أفضل؟ فقال دعاء المرء لنفسه ". ثم صرح سبحانه بأن هذا الدعاء باعتبار معناه الحقيقي وهو الطلب هو من عبادته فقال:
(إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ) قرأ الجمهور بفتح الياء وضم الخاء وقرىء بالعكس مبينا للمفعول (دَاخِرِينَ) أي ذليلين صاغرين، وهذا وعيد شديد لمن استكبر عن دعاء الله، وفيه لطف بعباده عظيم، وإحسان إليهم جليل حيث توعد من ترك طلب الخير منه واستدفاع الشر به بهذا الوعيد البالغ، وعاقبه بهذه العقوبة العظيمة، فيا عباد الله وجهوا رغباتكم، وعولوا في كل طلباتكم على من أمركم بتوجيهها إليه، وأرشدكم إلى التعويل عليه، وكفل لكم الإجابة باعطاء الطلبة فهو الكريم المطلق، الذي يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، ويغضب على من لم يطلب من فضله العظيم، وملكه الواسع ما يحتاجه من أمور الدنيا
_________
(١) الدعاء وهو العبادة أخرجه أحمد ٤/ ٢٧١ وغيره.
206
والدين.
وعن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله ﷺ " الدعاء هو العبادة " ثم قرأ: وقال ربكم أدعوني إلى قوله داخرين، أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح، والبخاري في الأدب، وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن حبان والحاكم وصححه، وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في الشعب، وأحمد وابن أبي شيبه وعبد بن حميد وسعيد بن منصور والطبراني.
ثم ذكر سبحانه بعض ما أنعم به على عباده فقال:
207
(الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه) من الحركات في طلب الكسب لكونه جعله مظلماً بارداً تناسبه الراحة الظاهرية، بالسكون والنوم الذي هو الموت الأصغر، والراحة الحقيقية بالعبادة التي هي الحياة الدائمة (والنهار مبصراً) أي مضيئاً لتبصروا فيه حوائجكم، وتنصرفوا في طلب معايشكم، وهو من الإسناد المجازي، أي مبصراً فيه لأن الإبصار في الحقيقة لأهل النهار.
(إن الله لذو فضل على الناس) يتفضل عليهم بنعمه التي لا تحصى، ولِم يقل لمفضل أو لمتفضل لأن المراد تنكير الفضل، وأن يجعل فضلاً لا يوازيه فضل، وذلك إنما يكون بالإضافة (ولكن أكثر الناس لا يشكرون) النعم ولا يعترفون بها إما لجحودهم لها ولكفرهم بها، كما هو شأن الكفار، أو لإغفالهم للنظر وإهمالهم لما يجب من شكر المنعم وهم الجاهلون، ولم يقل: ولكن أكثرهم حتى لا يتكرر ذكر الناس، لأن في هذا التكرير تخصيصاً لكفران النعمة بهم، وأنهم هم الذين يكفرون فضل الله ولا يشكرونه كقوله (إن الإنسان لكفور) وقوله: (إن الإنسان لظلوم كفار).
207
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٦٣) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٦٤) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٦٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٦٦)
208
(ذلكم) أي الفاعل المخصوص بالأفعال المقتضبة للألوهية والربوبية (الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو) بيّن سبحانه في هذا كمال قدرته، المقتضية لوجوب توحيده (فأنى تؤفكون) أي فكيف تنقلبون عن عبادته وتنصرفون عن توحيده؟ وتصرفون عن الإيمان مع قيام البرهان.
(كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون) أي مثل ذلك الإفك يؤفك الجاحدون لآيات الله، المنكرون لتوحيده، ثم ذكر لهم سبحانه نوعاً آخر من نعمه التي أنعم بها عليهم، مع ما في ذلك من الدلالة على كمال قدرته، وتفرده بالإلهية فقال:
(الله الذي جعل لكم الأرض قراراً) أي موضع قرار مع كونها في غاية الثقل ولا ممسك لها سوى قدرة الله وفيها تحيون وفيها تموتون (والسماء بناء) أي سقفاً قائماً ثابتاً مع كونها أفلاكاً دائرة بنجوم طول الزمان سائرة ينشأ عنها الليل والنهار، والإظلام والإضاءة، ثم بين بعض نعمه المتعلقة بأنفس العباد فقال:
(وصوركم فأحسن صوركم) أي خلقكم في أحسن صورة لم
208
يخلق حيواناً أحسن منكم، وقيل: لم يخلقكم منكوسين كالبهائم قيل خلق ابن آدم قائماً معتدلاً يأكل ويتناول بيده، وغيره يتناول بفيه، وقال الزجاج خلقكم أحسن الحيوان كله، قرأ الجمهور صوركم بضم الصاد، وقرأ الأعمش وأبو رزين بكسرها قال الجوهري: والصور بكسر الصاد لغة في الصور بضمها (ورزقكم من الطيبات) أي المستلذات من المأكل والمشرب من غير رزق الدواب.
(ذلكم) المنعوت بهذه المنعوت الجليلة (الله ربكم فتبارك الله رب العالمين) أي كثر خيره وبركته
209
(هو الحي لا إله إلا هو) أي الباقي الذي لا يفنى، المتفرد بالألوهية، وهذا التركيب يفيد الحصر، وفيه إشارة إلى العلم التام والقدرة التامة الكاملة (فادعوه) أي اعبدوه (مخلصين له الدين) أي الطاعة والعبادة من الشرك.
(الحمد لله رب العالمين) قال الفراء هو خبر وفيه إضمار أمر، أي أحمدوه عن ابن عباس قال: من قال لا إله إلا الله فليقل إثرها الحمد لله رب العالمين وذلك قوله (فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين) وعلى هذا هو من كلام المأمورين بالعبادة، ويجوز أن يكون من كلامه تعالى على أنه استئناف لحمد ذاته بذاته.
ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يخبر المشركين بأن الله نهاه عن عبادة غيره، وأمره بالتوحيد فقال:
(قل) لهم رداً عليهم فيما طلبوه منك وهو عبادة آلهتهم: (إني نهيت) نهياً عاماً ببراهين العقول ونهياً خاصاً بأدلة النقول (أن أعبد الذين تدعون) أي تعبدون (من دون الله) وهي الأصنام ثم بين وجه النهي فقال (لما جاءني البينات من ربي) وهي الأدلة العقلية والنقلية فإنها توجب التوحيد (وأمرت أن أسلم لرب العالمين) أي استسلم له بالانقياد والخضوع، أو الإخلاص ثم أردف هذا بذكر دليل من الأدلة الدالة على التوحيد فقال:
209
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٦٨) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩)
210
(هو الذي خلقكم) أي خلق أباكم الأول وهو آدم، وخلقه (من تراب) يستلزم خلق ذريته منه (ثم من نطفة ثم من علقة) قد تقدم تفسير هذا في غير موضع (ثم يخرجكم طفلاً) أي أطفالاً، وأفرده لكونه اسم جنس، أو على معنى: ثم يخرج كل واحد منكم طفلاً.
(ثم لتبلغوا أشدكم) وهي الحالة التي تجتمع فيها القوة والعقل من الثلاثين سنة إلى الأربعين، وقد سبق بيان الأشد مستوفي في الأنعام والتقدير لتكبروا شيئاًً فشيئاًً ثم لتبلغوا غاية الكمال (ثم) يبقيكم.
(لتكونوا شيوخاً) بضم الشين وبكسرها سبعيتان وقرىء شيخاً على الإفراد كقوله طفلاً والشيخ من جاوز أربعين سنة، يعني أن مراتب الإنسان بعد خروجه من بطن أمه ثلاث: الطفولية، وهي حالة النمو والزيادة إلى أن يبلغ كمال الأشد من غير ضعف، ثم يتناقص بعد ذلك وهي الشيخوخة.
(ومنكم من يتوفى من قبل) أي من قبل الأشد، ومن قبل الشيخوخة (ولتبلغوا) جميعاً (أجلاً مسمى) أي وقت الموت أو يوم القيامة، واللام هي لام التعليل أو العاقبة (ولعلكم تعقلون) أي لكي تعقلوا توحيد ربكم وقدرته البالغة في خلقكم على هذه الأطوار المختلفة إلى الأجل المذكور.
(هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي يقدر على الإحياء والإماتة (فإذا قضى أمراً) من الأمور التي يريدها (فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) من غير توقف على شيء من الأشياء أصلاً وهذا تمثيل لتأثير قدرته في المقدورات عند تعلق إرادته بها، وتصوير لسرعة ترتب المكونات على تكوينه، من غير أن يكون هناك آمر ومأمور، والفاء الأولى للدلالة على أن ما بعدها من نتائج ما قبلها من اختصاص الإحياء والإماتة به سبحانه وتعالى، قاله أبو السعود وقد تقدم تحقيق معناه في البقرة وفيما بعدها.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ) تعجيب من أحوالهم الشنيعة وآرائهم الركيكة، وتمهيد لما يعقبه من بيان تكذيبهم بكل القرآن، وبسائر الكتب والشرائع، وترتيب الوعيد على ذلك، كما أن ما سبق من قوله تعالى (إن الذين يجادلون في آيات الله) إلخ بيان لابتناء جدالهم على مبنى فاسد لا يكاد يدخل تحت الوجود هو الأمنية الفارغة، فلا تكرار فيه أي انظر إلى هؤلاء المكابرين المجادلين في آياته تعالى الواضحة، الموجبة للإيمان بها الزاجرة عن الجدال فيها كيف يصرفون عنها مع تعاضد الدواعي إلى الإقبال عليها؟ وانتفاء الصوارف عنها بالكلية، وقيام الأدلة الدالة على صحتها، وأنها في أنفسها موجبة للتوحيد قاله أبو السعود.
وقال النسفي ذكر الجدال في هذه السورة في ثلاثة مواضع، فجاز أن يكون في ثلاثة أقوام، أو ثلاثة أصناف، وللتأكيد انتهى. قال ابن زيد هم المشركون بدليل قوله الآتي
(الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا) قال القرطبي، وقال أكثر المفسرين نزلت في القدرية، قال ابن سيرين إن لم تكن هذه الآية نزلت في القدرية فلا أدري فيمن نزلت، ويجاب عن هذا بأن الله سبحانه قد وصف هؤلاء بصفة تدل على غير ما قالوه فقال:
211
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (٧٤) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥)
(الذين كذبوا بالكتاب) وهذا وصف لا يصح أن يطلق على فرقة من فرق الإسلام، والمراد بالكتاب إما القرآن، أو جنس الكتب المنزلة من عند الله، والموصول إما في محل جر على أنه نعت للموصول الأول أو بدل منه، ويجوز أن يكون في محل نصب على الذم.
(وبما أرسلنا به رسلنا) معطوف على قوله (بالكتاب) ويراد به ما يوحى إلى الرسل من غير كتاب إن كانت اللام في الكتاب للجنس، أو سائر الكتب إن كان المراد بالكتاب القرآن.
(فسوف يعلمون) عاقبة أمرهم، ووبال كفرهم، وفي هذا وعيد شديد والظرف في قوله
212
(إذ الأغلال في أعناقهم) متعلق بـ (يعلمون) أي فسوف يعلمون. وقت كون الأغلال في أعناقهم، أو اذكر لهم وقت الأغلال ليخافوا وينزجروا (والسلاسل) جمع سلسلة معروفة قال الراغب تسلسل الشيء اضطرب، كأنه تصور منه تسلسل متردد فتردد لفظه، تنبيه على تردد معناه، وماء سلسل متردد في مقره، معطوف على الأغلال، والتقدير إذ الأغلال والسلاسل في أعناقهم.
212
ويجوز أن يرتفع السلاسل على أنه مبتدأ، وخبره محذوف لدلالة في أعناقهم عليه، ويجوز أن يكون خبره (يسحبون
213
في الحميم) بحذف العائد أي يسحبون بها في الحميم، وهذا على قراءة الجمهور برفع السلاسل، وقرىء بنصبها، وقرأوا يسحبون بفتح الياء مبنياً للفاعل، فتكون السلاسل مفعولاً مقدماً، وقرىء بجر السلاسل، قال الفراء وهذه القراءة محمولة على المعنى، إذ المعنى أعناقهم في الأغلال والسلاسل وقال الزجاج المعنى على هذه القراءة وفي السلاسل يسحبون، واعترضه ابن الأنباري بأن ذلك لا يجوز في العربية والسحب الجر بعنف، والسحاب من ذلك لأن الريح تجره أو لأنه يجر الماء، والحميم هو المتناهى في الحر، وقيل الصديد، وقيل جهنم. وقيل الماء الحار الذي يكسب الوجوه سواداً والأعراض عاراً، والأرواح عذاباً، والأجسام ناراً، وقد تقدم تفسيره قال ابن عباس يسحبون في الحميم فينسلخ كل شيء عليهم، من جلد ولحم وعرق، حتى يصير في عقبه، حتى إن لحمه قدر طوله، وطوله ستون ذراعاً، ثم يكسى جلداً آخر ثم يسجر في الحميم.
(ثم في النار يسجرون) يقال سجرت التنور، أي أوقدته، وسجرته ملأته بالوقود، ومنه (البحر المسجور) أي المملوء، فالمعنى توقد بهم النار أو تملأ بهم، والمراد أنهم يعذبون بألوان العذاب، وينقلون من باب إلى باب قال مجاهد ومقاتل: توقد بهم النار فصاروا وقودها، عن عبد الله بن عمرو قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذ الأغلال إلى قوله: يسجرون، فقال: لو أن رصاصة مثل هذه -وأشار إلى جمجمة- أرسلت من السماء إلى الأرض، وهي مسيرة خمسمائة سنة، لبلغت الأرض قبل الليل، ولو أنها أرسلت من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفاً الليل والنهار قبل أن يبلغ أصلها. أو قال:
213
قعرها "، أخرجه أحمد والترمذي وحسنه، والحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي في البعث والنشور.
214
(ثم قيل لهم) أي يقال لهم، وصيغة الماضي للدلالة على التحقق (أين ما كنتم تشركون) من دون الله هذا توبيخ وتقريع لهم، أي أين الشركاء الذين كنتم تعبدونهم من دون الله؟ وهي الأصنام وغيرها، وترسم أين مفصولة من ما كما أشار إليه ابن الجزري
(قالوا ضلوا عنا) أي يقولون: ذهبوا وغابوا، وفقدناهم فلا نراهم، ثم أضربوا عن ذلك وانتقلوا إلى الإخبار بعدمهم، وأنه لا وجود لهم فقالوا:
(بل لم نكن ندعو من قبل شيئاًً) أي لم نكن نعبد شيئاًً، قالوا هذا بعد ما تبين لهم ما كانوا فيه من الضلالة والجهالة، وأنهم كانوا يعبدون ما لا يبصر ولا يسمع ولا يضر ولا ينفع، وليس هذا إنكاراً منهم لوجود الأصنام التي كانوا يعبدونها، بل اعتراف منهم بأن عبادتهم إياها كانت باطلة، كقولك: حسبته شيئاًً فلم يكن كذلك، وقال المحلي: أنكروا عبادتهم إياها انتهى. وهذا المعنى بعيد في مقام الحساب والعرض على رب العالمين (كذلك) الضلال الفظيع (يضل الله الكافرين) حيث عبدوا هذه الأصنام التي أوصلتهم إلى النار.
(ذلكم) أي ذلك الإضلال المدلول عليه بالفعل أو العذاب (بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق) أي تظهرون في الدنيا. من الفرح بمعاصي الله، والسرور بمخالفة رسله وكتبه، وقيل: بما كنتم تفرحون به من المال والأتباع والصحة، وقيل: من إنكار البعث والعذاب، وقيل: المراد بالفرح هنا البطر والتكبر (وبما كنتم تمرحون) المراد بالمرح الزيادة في البطر، وقال مجاهد وغيره: تبطرون وتأشرون، وقال الضحاك: الفرح السرور. والمرح العدوان وقال مقاتل: المرح البطر والخيلاء وقيل المرح أشد من الفرح.
214
ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (٧٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (٨١)
215
(ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ) السبعة المقسومة لكم، قال تعالى: لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم، حال كونكم (خالدين فيها) أي مقدرين الخلود فيها (فبئس مثوى) أي مأوى (المتكبرين) عن قبول الحق جهنم وكان الظاهر أن يقال: مدخل، وعبر عنه بالمثوى لكون دخولهم بطريق الخلود قاله أبو السعود، وقال السمين لم يقل مدخل لأن الدخول لا يدوم، وإنما يدوم الثواء فلذلك خصه بالذم، وإن كان الدخول أيضاًً مذموماً، ثم أمر الله سبحانه رسوله ﷺ بالصبر تسلية له فقال:
(فاصبر إن وعد الله) أي وعده بالانتقام منهم (حق) كائن لا محالة، إما في الدنيا أو في الآخرة، ولهذا قال: (فإما نرينك بعض الذي نعدهم) من العذاب في الدنيا، بالقتل والأسر والقهر، وما زائدة عند المبرد والزجاج، والأصل نرك، ولحقت بالفعل نون التأكيد (أو نتوفينك) معطوف على نرينك أي قبل إنزال العذاب بهم (فإلينا
215
يرجعون) يوم القيامة فنعذبهم أشد العذاب.
216
(ولقد أرسلنا رسلاً) وأنبياء (من قبلك) إلى أممهم (منهم من قصصنا عليك) أي أنبأناك بأخبارهم في القرآن، وما لقوه من قومهم، وهم خمسة وعشرون (ومنهم من لم نقصص عليك) فيه خبره ولا أوصلنا إليك علم ما كان بينه وبين قومه، وعن علي بن أبي طالب في الآية قال: بعث الله عبداً حبشياً فهو ممن لم يقصص على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، عن أبي ذر قال: قلت: " يا رسول الله كم عدة الأنبياء؟ قال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً. الرسل من ذلك ثلثمائة وخمسة عشر جماً غفيراً "، أخرجه أحمد، وعبر عنه في الكشاف بقيل.
(وما كان) أي ما صح وما استقام (لرسول) منهم (أن يأتي بآية) أي معجزة دالة على نبوته (إلا بإذن الله) لا من قبل نفسه، فإن المعجزات عطايا قسمها الله تعالى بينهم، على ما اقتضته حكمته، كسائر القسم، ليس لهم اختيار في إيثار بعضها، والاستبداد بإتيان المقترح بها لأنهم عبيد مربوبون (فإذا جاء أمر الله) أي الوقت المعين لعذابهم في الدنيا وفي الآخرة (قضى بالحق) فيما بين الرسل ومكذبيها، فينجي الله بقضائه الحق عباده المحقين.
(وخسر هنالك) أي في ذلك الوقت (المبطلون) الذين يتبعون الباطل ويعملون به، وهم خاسرون في كل وقت قبل ذلك، وختمه بقوله: (المبطلون)، وختم السورة بقوله: (الكافرون)، لأن الأول متصل بقوله: قضى بالحق، ونقيض الحق هو الباطل، والثاني متصل بإيمان غير نافع ونقيض الإيمان الكفر أفاده الكرخي، ثم امتن الله سبحانه على عباده بنوع من أنواع نعمه التي لا تحصى فقال:
(الله الذي جعل لكم الأنعام) أي خلقها لأجلكم، قال الزجاج: الأنعام هنا الإبل خاصة، وقيل: الأزواج الثمانية، والأول هو الظاهر لأنها
216
هي التي توجد فيها المنافع الآتية كلها، وقوله: (لتركبوا منها) تفصيل لهذا الإجمال، ومن للتبعيض، وكذلك في قوله:
(ومنها تأكلون) أو لابتداء الغاية في الموضعين ومعناها ابتداء الركوب، وابتداء الأكل، والأول أولى. والمعنى لتركبوا بعضها وتأكلوا بعضها.
217
(ولكم فيها منافع) أخر غير الركوب والأكل من الوبر والصوف والشعر، والزبد والسمن والجبن، والدر والنسل، وغير ذلك (ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم) قال مجاهد ومقاتل وقتادة: تحمل أثقالكم من بلد إلى بلد، وقد تقدم بيان هذا مستوفى في سورة النحل:
(وعليها وعلى الفلك تحملون) أي على الإبل في البر، وعلى السفن في البحر، وقيل: المراد بالحمل على الأنعام هنا حمل الولدان والنساء في الهوادج، وهو السر في فصله عن الركوب، وفي الجمع بينهما من المناسبة التامة حتى سميت سفائن البر، ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة النحل (والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع) الآية، لكن هذه أجمع منها.
(ويريكم آياته) أي دلالاته الدالة على كمال قدرته ووحدانيته (فأي) آية من (آيات الله تنكرون) فإنها كلها من الظهور، وعدم الخفاء، بحيث لا ينكرها منكر، ولا يجحدها جاحد، وفيه تقريع لهم وتوبيخ عظيم وتذكير أي أشهر من تأنيثه، فلذلك لم يقل فأية آيات الله لأن التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء الجامدة نحو حمار وحمارة غريب، وهي في أي أغرب لابهامها، ونصب أي بـ (تنكرون) وإنما قدم على العامل فيه لأن له صدر الكلام، ثم أرشدهم سبحانه إلى الاعتبار والتفكر في آيات الله فقال:
217
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (٨٥)
218
(أفلم يسيروا في الأرض) أي في أطرافها ونواحيها (فينظروا) بأبصارهم وبصائرهم (كيف كان عاقبة الذين من قبلهم) من الأمم التي عصت الله وكذبت رسلها، فإن الآثار الموجودة في ديارهم تدل على ما نزل بهم من العقوبة، وما صاروا إليه من سوء العاقبة، ثم بين سبحانه أن تلك الأمم كانوا فوق هؤلاء في الكثرة والقوة فقال:
(كانوا أكثر منهم) عدداً (وأشد قوة) أي أقوى منهم أجساداً وأوسع منهم أموالاً (و) أظهر منهم (آثاراً في الأرض) بالعمائر والمصانع والحصون والصهاريج والحرث (فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون) يجوز أن تكون (ما) الأولى نافية أو استفهامية منصوبة بأغنى، والثانية موصولة أو مصدرية مرفوعة به، أي لم يغن عنهم أو أي شيء أغنى عنهم مكسوبهم أو كسبهم.
(فلما جاءتهم رسلهم بالبينات) أي بالحجج الواضحات، والمعجزات الظاهرات (فرحوا بما عندهم من العلم) أي أظهر الكفار الفرح بما عندهم مما يدعون أنه من العلم، من الشبه الداحضة، والدعاوى الزائغة، والفنون الفاسدة، والعلوم الكاسدة، وسماه علماً تهكماً بهم، أو
218
على ما يعتقدونه، وقال مجاهد: قالوا نحن أعلم منهم لن نعذب ولن نبعث، وقيل المراد من العلم علم أحوال الدنيا لا الدين كما في قوله:
(يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا) قال النسفي: أو علم الفلاسفة والدهريين، فإنهم كانوا إذا سمعوا بوحي الله دفعوه وصغروا علم الأنبياء إلى علمهم، وعن سقراط أنه سمع بموسى وقيل له لو هاجرت إليه؟ فقال: نحن قوم مهذبون فلا حاجة بنا إلى من يهذبنا، أو المراد فرحوا بما عند الرسل من العلم فرح ضحك واستهزاء به، كأنه قال: استهزأوا بالبينات وبما جاؤوا به من علم الوحي، فرحين مرحين، انتهى: وقيل: الذين فرحوا بما عندهم من العلم هم الرسل، وذلك أنهم لما كذبهم قومهم وأعلمهم الله بأنه مهلك الكافرين ومنجى المؤمنين، ففرحوا بذلك.
(وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) أي أحاط بهم جزاء استهزائهم
219
(فلما رأوا باسنا) أي عاينوا عذابنا النازل بهم في الدنيا (قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين) وهي الأصنام التي كانوا يعبدونها.
(فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا) أي عند معاينة عذابنا لأن ذلك الإيمان ليس بالإيمان النافع لصاحبه، فإنه إنما ينفع الإِيمان الاختياري لا الإِيمان الاضطراري، والفاآت من قوله: فما أغنى إلى هنا أربع: الأولى لبيان عاقبة كثرتهم وشدة قوتهم، أي أن عاقبتها خلاف وضد ما كانوا يؤملونه منها، وهو نفعها، فلم يترتب عليها، بل ترتب عدمه، كقولك: وعظته فلم يتعظ، والثانية تشير لتفصيل ما أبهم وأجمل من عدم الإغناء، والثالثة لمجرد التعقيب، وجعل ما بعدها تابعاً لما قبلها واقعاً عقيبه، لأن مضمون قوله: فلما جاءتهم الخ أنهم كفروا فكأنه قيل فكفروا ثم لما رأوا بأسنا آمنوا والرابعة للعطف على آمنوا، كأنه قيل: فآمنوا فلم ينفعهم، لأن النافع هو الإيمان الاختياري (١).
(سنة الله التي قد خلت) أي مضت (في عباده) المعنى أن الله
_________
(١) زاد المسير/٢٣٨.
219
سبحانه سن هذه السنة في الأمم كلها أنه لا ينفعهم الإيمان إذا رأوا العذاب، وقد مضى بيان هذا مستوفى في سورة النساء وسورة التوبة، وانتصاب سنة على أنها مصدر مؤكد لفعل محذوف بمنزلة وعد الله، وما أشبهه من المصادر المؤكدة، وقيل منصوب على التحذير أي احذروا يأهل مكة سنة الله في الأمم الماضية، والأول أولى.
(و) قد (خسر هنالك الكافرون) أي وقت رؤيتهم بأس الله، ومعاينتهم لعذابه على أنه اسم مكان قد استعير للزمان كما سلف آنفا قاله أبو السعود وقال السمين: لا يحتاج لهذا، بل يصح إبقاؤه على أصله، قال الزجاج: الكافر خاسر في كل وقت، ولكنه يتبين لهم خسرانهم إذا رأوا العذاب.
220
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سورة حم السجدة
تسمى سورة فصلت وسورة المصابيح وهي أربع وخمسون آية
وقيل: ثلاث وخمسون، قال القرطبي: وهي مكيّة في قول الجميع، قال ابن عباس: أنها نزلت بمكة، وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو يعلى والحاكم وصححه، وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل، وابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال: اجتمع قريش يوماً فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذي قد فرق جماعتنا، وشتت أمرنا. وعاب ديننا فليكلمه، ولينظر ماذا يرد عليه؟ فقالوا: ما نعلم أحداً غير عتبة بن ربيعة، فقالوا: ائت يا أبا الوليد، فأتاه فقال يا محمد أنت خير أم عبد الله؟ أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله - ﷺ -، قال فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبدت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك، أما والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك، فرقت جماعتنا، وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحراً، وأن في قريش كاهناً، والله ما تنتظر إلا مثل صيحة الحبلي، أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف، يا رجل إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلاً، وإن كان إنما بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشراً، فقال رسول الله - ﷺ -، " فرغت "؟ قال نعم، فقال رسول الله - ﷺ -: " بسم الله الرحمن الرحيم: (حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ) حتى بلغ: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ): فقال عتبة حسبك حسبك ما عندك غير هذا؟ قال: " لا "، فرجع إلى قريش فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما تركت شيئاً أرى أنكم تكلمونه به إلا كلمته، قالوا فهل أجابك؟ قال: والذي نصبها بنية ما فهمت شيئاً مما قال غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود.
221
قالوا ويلك، يكلمك الرجل بالعربية، وما تدري ما قال، قال: لا والله ما فهمت شيئاً مما قال غير ذكر الصاعقة.
وأخرج أبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل عن ابن عمر قال: " لما قرأ النبي - ﷺ -، على عتبة بن ربيعة حم أتى أصحابه فقال: يا قوم أطيعوني في هذا اليوم واعصوني بعده، فوالله لقد سمعت من هذا الرجل كلاماً ما سمعت أذني قط كلاماً مثله: وما دريت ما أرد عليه، وفي هذا الباب روايات تدل على اجتماع قريش وإرسالهم عتبة بن ربيعة، وتلاوته - ﷺ -، أو هذه السورة عليه:
222
بسم الله الرحمن الرحيم
حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (٤) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (٥) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (٧)
(بسم الله الرحمن الرحيم
223