ﰡ
وَقِيْلَ : معناهُ : وأظهرَهم على أعدائِهم وقوَّاهم من ضَعفِهم، قال ابنُ عبَّاس رضي الله عنه :(الَّذِينَ كَفَرُواْ صَدُّواْ عَنْ سَبيلِ اللهِ أهْلُ مَكَّةَ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لِلأَنْصَار).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ حَتَّى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الْوَثَاقَ ﴾ ؛ أي حتى إذا أكثَرتُم القتلَ فيه وغلَبتُموهم وبالَغْتُم في قتلِهم فاستوثَقُوهم بالأسرِ، ولا يكون الأسرُ إلاَّ بعد المبالَغةِ في القتلِ، كما قال اللهُ﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ ﴾[الأنفال : ٦٧]، والمعنَى حتى إذا قَهرتُموهم وغَلبتُموهم وصَاروا أسَارَى في أيدِيكم فشُدُّوا وثاقَهم كَيلاَ يَهربُوا، يقال : أوْثَقَهُ أيْ إيْثَاقاً إذا شدَّ أسْرَهُ لِئَلاَّ يُفْلِتَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ﴾ ؛ معناهُ : فإما أن تَمُنُّوا عليهم بعد أن تَأسِرُوهم وتطلقوهم بغيرِ فداءٍ، وإما تُطلِقُوهم يُفْدَوْنَ بأَسرَاكُم عندَهم أو بمالٍ، والمعنى فإمَّا بعدَ أن تأسِرُوهم إما مَنَنْتُمْ عليهم مَنّاً فأطلقتُموهم بغيرِ عِوَضٍ، وإما أنْ تُفَدُوا فِدَاءً.
وعن ابنِ عبَّاس قال :(هَذِهِ الآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ﴿ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ﴾[التوبة : ٥]). وَإلَيْهِ ذهَبَ أبُو حَنِيفَةَ وقالَ :(لاَ يَجُوزُ الْمَنُّ عَلَى الأَسِيرِ وَلاَ الْفِدَاءُ بالْمَالِ وَلاَ بغَيْرِ الْمَالِ مِنَ الأُسَارَى، وَلاَ يُبَاعُ السَّبْيُ مِنْ أهْلِ الْحَرْب).
ولم يختلف أهلُ التفسيرِ في أنَّ التوبةَ نزلت بعدَ سُورَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، ولا خلافَ بين العلماءِ في جواز قتل الأسيرِ وجواز قِسمَةِ الأُسَارَى بين المسلمِين إذا لم يكن الأُسارَى من العرب، وإنما اختَلَفُوا في جواز الْمَنِّ عليهم في مَفَادَاتِهم بالمالِ أو النفس.
قال الشافعيُّ :(يَجُوزُ المَنُّ عَلَيْهِمْ لأَنَّ النَّبيَّ ﷺ مَنَّ عَلَى أبي عَزَّةَ الشَّاعِرِ يَوْمَ بَدْرٍ عَلَى أنْ لاَ يُقَاتِلَ، فَرَجَعَ إلَى مَكَّةَ ثُمَّ عَادَ بَعْدَ ذلِكَ لِلْقِتَالِ فَأُسِرَ، فَأَمَرَ النَّبيُّ ﷺ بقَتْلِهِ). فأجابَ أصحابُنا عن هذا إنَّما مَنَّ عليه كما مَنَّ العربُ، وكان لا يجوزُ استرقاقهُ، وقال أبو يوسف ومحمَّد :(تَجُوزُ مُفَادَاةُ الأَسِيرِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ﴾ أي حتى يضعَ أهلُ الحرب أسلِحتَهم، والأوْزَارُ في اللغة : الأَثْقَالُ، وَقِيْلَ : المرادُ بالأوزار هنا الآثَامُ، وقال ابنُ عبَّاس :(مَعْنَى قَوْلِهِ ﴿ حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ﴾ أيْ حَتَّى لاَ يَبْقَى أحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ). وقال مجاهدُ :(حَتَّى لاَ يَكُونَ دِينٌ إلاَّ الإسْلاَمُ).
وَقِيْلَ : حتى تضعَ حربُكم وقتالُكم أوزارَ المشركين وقبائحَ أعمالِهم بأنْ يُسلِمُوا فلا يبقَى دينٌ غيرُ الإسلامِ، ولا يُعبَدُ وثنٌ. وقال الفرَّاءُ :(مَعْنَاهُ : حَتَّى لاَ يَبْقَى إلاَّ مُسْلِمٌ أوْ مُسَالِمٌ).
وَقِيْلَ : معناهُ : حتى تضعَ أهلُ الحرب آلتَها وعُدَّتَها، وآلَتُهم أسلِحَتُهم فيُمسِكُوا عن الحرب، وحربُ القومِ الْمُحاربُونَ كالرَّكْب والشُّرب، ويقال أيضاً للكِرَاعِ : أوْزَارٌ، قال الشاعرُ وهو الأعشَى :
وانتصبَ قولهُ ﴿ فَتَعْساً لَّهُمْ ﴾ على الدُّعاء ؛ أي أتْعَسَهُمُ اللهُ تَعْساً، قال الفرَّاءُ :(هُوَ نَصْبٌ عَلَى الْمَصْدَر)، وأصلُ التَّعْسِ في الدوَاب والناسِ، وهو أن يُقالَ للعاثرِ : تَعْساً ؛ إذا لَمْ يُرِيدُوا قِيَامَهُ، وضِدُّهُ لَعَّا إذا أرَادُوا قِيامَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ﴾ ؛ أي أبْطَلَها وأحبَطَها لأنَّها كانت في طاعةِ الشيطان. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ ﴾ ؛ أي ذلك التَّعْسُ والإضلالُ بأنَّهم كَرِهُوا ما أنزلَ اللهُ على نبيِّه ﷺ وبيَّن من الفرائضِ من الصَّلاة والزكاةِ، ﴿ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ﴾ ؛ لأنَّها لم تكن في إيمانٍ.
وأرادَ بالتمتُّعِ التعيُّشَ في الدنيا في الجهلِ، وشبَّهَ أكلَ الكافرِ بأكلِ الأنعام لأنَّهم يأكلُون للشَّبَعِ لا يَهمُّهم ما في غدٍ، والمؤمنُ هِمَّتُهُ مصروفةٌ إلى أمرِ دينه يأكلُ للقيامِ بعبادة اللهِ لا للشَّبع، ويكون قصدهُ من التَّمتُّع إعفافَ نفسه وزوجتهِ، وابتغاءَ ما كُتِبَ من الولدِ.
وفي الحديثِ عن النبيِّ ﷺ أنه قالَ :" مَا مَلأَ ابْنُ آدَمَ وعَاءً شَرّاً مِنْ بَطْنِهِ، فَإنْ كَانَ لاَ بُدَّ : فَثُلُثاً لِلطَّعَامِ وَثُلُثاً لِلشَّرَاب وَثُلُثاً لِلنَّفَسِ " وقال الحسنُ :(وَهُوَ أنَّكُمْ إذا أشْبعْتُمْ عَصَيْتُمْ شِئْتُمْ أوْ أبَيْتُمْ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ ﴾ ؛ أي لم يَحْمَضْ كما تَحْمَضُ وتتغيَّرُ ألبانُ الدُّنيا ؛ لأنه لم يخرُجْ من ضُروعِ الأنعامِ، ﴿ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ ﴾ ؛ بخلاف خمرِ الدُّنيا ؛ فإنَّها لا تخلُو من المرارةِ، وعن ما يحدثُ فيها من أنواعِ المرضِ ومن العقوبةِ في الدُّنيا والآخرةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى ﴾ ؛ أي مُصَفَّى من الأقذار، من العِكْرِ والكَدَر، بخلافِ عسلِ الدُّنيا الذي يكون من بطونِ النَّحل، فإنه لا يخلُو من الشَّعرِ وغيرهِ. قال مقاتلُ :(أنْهَارُ الْجَنَّةِ الْمَذْكُورَةُ تَتَفَجَّرُ مِنَ الْكَوْثَرِ إلَى الْجَنَّةِ). ويقالُ : إنَّها تتفجرُ من تحتِ شجرة طُوبَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ﴾ ؛ أي ولَهم في الجنَّة من جميعِ أنواع الثَّمرَاتِ والفواكهِ مما عَلِموهُ وما لَمْ يعلموهُ، ومما سَمعوهُ وما لَمْ يسمعوهُ، ظاهرُها مثلُ باطِنها، لا يخالِطُها قشرٌ ولا رذالٌ ولا نَوَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ ﴾ ؛ أي ولَهم مع ذلك النعيمِ المقيم مغفرةٌ مِن ربهم لذُنوبهم، فلا يُذكَرُ شيءٌ من معاريضِهم في الجنَّة ؛ لأنَّ اللهَ تعالى قد ستَرَها عليهم فهي بمنْزِلة ما لَمْ يُعمَلْ، ﴿ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ ﴾ ؛ أي مَن كان في هذا النعيمِ كمَنْ هو خالدٌ في النار ﴿ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً ﴾ شَديدَ الحرِّ تسْتَعرُ عليه جهنَّم منذُ خُلِقت ﴿ فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ ﴾ في الجوفِ من شدَّة الحرِّ، والأمعاءُ : جميعُ ما في البطنِ من الحوايَا، واحدُها مِعَاءٌ، كما قالَ تعالى في آيةٍ أُخرى :﴿ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ﴾[الحج : ٢٠].
وعن رسولِ اللهِ ﷺ أنه قالَ :" إذا شَرِبَهُ صَاحِبُهُ قَطَّعَ أمْعَاءَهُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ دُبُرِهِ " وعن محمَّد بن عبدِالله الكاتب قال : قَدِمْتُ مِنْ مَكَّةَ، فَلَمَّا صِرْتُ إلَى طِيزنَابَاذ ذكَرْتُ بَيْتَ أبي نُؤَاسٍ : بطِيزْنابَاذ كَرْمٌ مَا مَرَرْتُ بهِ إلاَّ تَعَجَّبْتُ مِمَّنْ شَرِبَ الْمَاءَفَهَتَفَ بهِ هَاتِفٌ أسْمَعُهُ وَلاَ أرَاهُ : فِي الْجَحِيمِ حَمِيمٌ مَا تَجَرَّعَهُ خَلْـ قٌ إلاَّ مَا بَقِيَ لَهُ بَطْنُ أمْعَاءِ
والآنِفُ : السَّاعَةُ ؛ مِن قولِكَ : اسْتَأْنَفْتُ الشَّيءَ إذا ابتدأتَهُ، والمعنى : ومِن هؤلاءِ الكفَّار مَن يستمعُ إليك : المنافِقُون يستمِعون قولَكَ فلا يَعُونَهُ ولا يفهمونَهُ تَهَاوُناً منهم بذلكَ وتثَاقُلاً، فإذا خرَجُوا قالوا للَّذين أوُتُوا العلمَ من الصحابةِ : مذا قالَ مُحَمَّدٌ الآنَ، وذلك أنَّهم سأَلُوا ابنَ مسعودٍ وابنَ عبَّاس عمَّا قال النبيُّ ﷺ استهزاءً وتَهاوُناً وهذا كالرجُلِ يستمعُ إلى غيرِ سماعٍ استخفافاً، ثم يقولُ بعدَ ذلك لأصحابهِ : أليس الذي كانَ يقولُ فلانٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ﴾ ؛ أي خَتَمَ عليها بالكُفرِ فلا يعقِلُون الإيمانَ، والطبعُ هو الْخَتْمُ على القلب بسِمَةٍ تعلَمُها الملائكةُ بأنَّه جاحدٌ لا يفلحُ أبداً، ﴿ وَاتَّبَعُواْ أَهْوَآءَهُمْ ﴾ ؛ في الكفرِ والنِّفاقِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ ﴾ ؛ أي مِن أين لَهم التوبةُ ؟ ومِن أين لَهم أن يتذكَّروا أو يتُوبُوا إذا جاءَتْهم الساعةُ حين لا ينفَعُهم ذلكَ.
والمعنى : مَن عَلِمَ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ فليَقُمْ على العلمِ ويَثبُتْ عليهِ، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ ﴾ ؛ أي استَعصِمْ مِن مُواقعَةِ ذنبٍ يُوجِبُ الاستغفارُ. ويقالُ : معناهُ : استَغفِرْ لصَغَائِرِكَ ؛ فإنه لا صغيرةَ مع الإصرار، ﴿ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ ؛ واستغفِرْ لذُنوب المؤمنين والمؤمناتِ، وهذا إكرامٌ من اللهِ لهذه الأُمة حين أمرَ نبيَّهم أنْ يستغفرَ لهم وهو الشفيعُ الْمُجَابُ فيهم.
وقوله تعالى :﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ﴾ ؛ أي مُتصرَّفَاتِكم في الدُّنيا من أوَّلِ ما ينقلِبُون من ظهرٍ إلى بطنٍ إلى أن تَخرُجوا من دُنياكم إلى قُبوركم، ويعلمُ أينَ مَثْوَاكُمْ في الآخرةِ، قال عكرمةُ :(مَعْنَاهُ : واللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ مِنَ أصْلاَب الآبَاءِ إلَى أرْحَامِ الأُمَّهَاتِ، وَمَثْوَاكُمْ مَقَامَكُمْ فِي الأَرْضِ). وقال مقاتلُ :(وَاللهُ يَعْلَمُ مُنْتَشَرَكُمْ بالنَّهَار وَمَأْوَاكُمْ باللَّيْلِ). والمعنى : إنَّهُ عالِمٌ بجميعِ أحوالِكم، لا يخفَى عليه شيءٌ منها.
والمعنى : أنَّ المؤمنِين قالُوا : هلاَّ أُنزِلَتْ سورةٌ تأمُرنا بالجهادِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ ﴾ ﴿ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ ﴾ ؛ أي إيجابُ القتالِ، ﴿ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ ﴾ ؛ وهم المنافِقُون، ﴿ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ﴾ ؛ عندَ ذكرِ القتالِ كنظَرِ الذي هو في غَشَيَانٍِ من الموتِ، كراهةً منهم للقتالِ مخافةَ أن يُقتَلوا في الحرب. قال الزجَّاجُ : مَعْنَاهُ : رَأيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَشْخَصُونَ نَحْوَكَ بأَبْصَارهِمْ، وَيَنْظُرُونَ إلَيْكَ نَظَراً شَدِيداً، شَزِراً بتَحْدِيقٍ شَدِيدٍ كَرَاهَةً مِنْهُمْ لِلْجِهَادِ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَأَوْلَى لَهُمْ ﴾ ؛ كلمةُ وعيدٍ لهم، ومعناهُ : وَلِيَهُم المكروهُ والعقابُ أولَى لهم، وهذا كما قالَ تعالى :﴿ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ﴾[القيامة : ٣٤]، قال الأصمعيُّ :(مَعْنَى قَوْلِهِ : أوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ؛ أيْ وَلِيَكَ وَقَارَبَكَ مَا تَكْرَهُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ ﴾ ؛ فإذا وُجِدَ الأمرُ ولَزِمَ فرضُ القتالِ، نَكَلُوا وكذبوا فيما وعَدُوكَ من أنفسهم، ﴿ فَلَوْ صَدَقُواْ اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ ﴾ ؛ أي صدَّقوا اللهَ في إيمانِهم وجِهَادِهم لكان خيراً لَهم من المعصيةِ والكراهة والمخالفةِ.
وذهبَ كثيرٌ من الناسِ إلى أنَّ هؤلاءِ بنُو أُميَّة، والمعنى : فلعلَّكم إنْ أعرَضتُم عن الإيمانِ والقرآن، وفارَقتم أحكامَهُ أن تُفسِدُوا في الأرضِ فتَعُودُوا إلى ما كُنتم عليه في الجاهليَّة من الفسادِ وقتلِ بعضكم بعضاً، وتُقَطِّعُوا أرْحَامَكُمْ بسَفكِ الدماءِ بعد ما جَمَعكم اللهُ بالاسلامِ والأُلفة، فتَعُودوا إلى ما كُنتم عليه في جاهلِيَّتكم من القتلِ والبغيِ وقطيعة الرَّحم. وقال المسيَّب بن شُريك :(مَعْنَاهُ : فَهَلْ عَسَيْتُمْ إنْ تَوَلَّيْتُمْ أمْرَ النَّاسِ أنْ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بالظُّلْمِ، نَزَلَتْ فِي أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَفِي بَنِي هَاشِمٍ).
قرأ يعقوبُ وأبو حاتمٍ :(وَتَقْطَعُوا) مُخفَّفاً من القطعِ اعتباراً بقولهِ﴿ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ ﴾[البقرة : ٢٧]، وقولُ الحسن (وَتَقَطَّعُواْ) بفتح الحروف المشدَّدة اعتباراً بقوله﴿ فَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ ﴾[المؤمنون : ٥٣]، وقرأ الكافَّة (وَتُقَطِّعُواْ) بضمِّ التاء وتشديدِ الطاء وكسرِها من القطعِ على التكثيرِ لأجل الأرحامِ.
ثم ذمَّ اللهُ تعالى مَن يريدُ ذلك فقالَ تعالى :﴿ أَوْلَـائِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ﴾ ؛ فلاَ يَسمعون الحقَّ ولا يهتَدون للرُّشدِ، يعني المنافقِين الذين يُفسِدون في الأرضِ، ويُقطِّعون أرحامَهم، ونسَبَهم اللهُ تعالى إلى الصَّمَمِ والعمَى لإعراضِهم عن أمرِ الله تعالى، وأمَّا في مُشاهدَتِهم فإنَّهم لا يكونون صُمّاً ولا عُمياناً، ومثلهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ﴾[الأحقاف : ٢٦].
ويُحْسَنُ الوقوفُ على قولِ :﴿ سَوَّلَ لَهُمْ ﴾ لأنه فِعلُ الشيطانِ، والإملاءُ فعلُ اللهِ تعالى، على قولِ الحسنِ : لاَ يُحْسَنُ الْوُقُوفُ ؛ لأنَّهُ يُقَالُ فِي تَفْسِيرِهِ :﴿ وَأَمْلَى لَهُمْ ﴾ : مَدَّ لَهُمُ الشَّيْطَانُ فِي الْعَمَلِ.
وقرأ أبو عمرٍو (وَأُمْلِي لَهُمْ) على ما لَمْ يُسَمَّ فاعلهُ، وهو حسنٌ للفصلِ بين فعلِ الشَّيطان وفعلِ الله تعالى، ونعلمُ يقيناً أنَّهُ لا يُؤَخِّرُ أحدٌ مدَّة أحدٍ ولاَ يُوَسِّعُ فيها إلاَّ اللهُ تعالى. وقرأ مجاهدُ (وَأُمْلِي) بضمِّ الهمزةِ وإسكانِ الياء على معنى : وأنَا أُمْلِي لَهم.
ثم ذكرَ سببَ ذلك الضَّرب :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُواْ مَآ أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ﴾ ؛ بما كتَمُوا من التوراةِ، وكفَرُوا بمُحَمَّدٍ ﷺ، وكَرِهُوا ما فيهِ رضوانُ اللهِ وهو الطاعةُ والإيمانُ ﴿ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ﴾، معنى ما كان من برٍّ وصلةٍ وخير عَمِلوهُ في غيرِ الإيمان بكُفرِهم.
وقولهُ تعالى :﴿ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ﴾ ؛ أعلمَ اللهُ النبيَّ ﷺ أنْ يُطلِعَهُ على نفاقِهم في فَحْوَى كلامِهم، فكان لا يتكلَّمُ بعدَ نُزولِ الآية منافقٌ عندَ النبيِّ ﷺ إلاَّ عُرِفَ بكلامهِ وبما يعتذرون إليه به مِن المعاذيرِ الكاذبة.
قال المفسِّرون معنى قولهِ ﴿ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ﴾ أي في فَحْوَى القولِ، ومعناهُ : ومَقْصَدِهِ، ويقالُ : فلانٌ لَحَنَ بحُجَّتهِ ولاَحَنَ في كلامهِ، وفي الحديث :" لَعَلَّ بَعْضَكُمْ ألْحَنُ بحُجَّتِهِ " أي أذْهَبُ بها في الجهاتِ لقوَّتهِ على تصريفِ الكلام، وإذا قِيْلَ : لَحَنَ في كلامهِ أو ألْحَنَ ؛ فمعناهُ : ذهبَ بالكلامِ إلى خلافِ جهة الصَّواب. ولَحَنَ القارئُ إذا تركَ الإعرابَ الصَّوابَ وعدلَ عنه. وقولهُ تعالى :﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ﴾ ؛ أي يعلمُ ظَواهِرَها وبوَاطِنَها.
وإنما كَنَّى بالعلمِ عن التمييزِ ؛ لأنه يُتَوَصَّلُ بالعلمِ إلى التمييزِ، فكان اللهُ تعالى عالِماً بكلٍّ منهم قبلَ أنْ خَلَقَهم، ولكن أرادَ بالعلمِ في هذه الآية العلمَ الذي يجبُ به الجزاءُ، وهو علمُ الشهادةِ لا علمُ الغيب.
وقولهُ تعالى :﴿ وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ ﴾ ؛ أي نَختَبرُ بما نأمرُكم به وننهاكم عنه أخبارَكم وأحوالكم حتى يظهرَ للناسِ، وكان الفضيلُ بن عِيَاضٍ إذا أتَى على هذه الآيةِ بَكَى وقالَ :(إنَّكَ إنْ بَلَوْتَ أخْبَارَنَا وَفَضَحْتَنَا وَهَتَكْتَ أسْتَارَنَا).
ويستدلُّ بظاهرِ هذه الآيةِ : على أنَّ مَنْ شَرَعَ في قُربَةٍ نحوَ الصلاةِ والصومِ والحجِّ، لم يَجُزْ له الخروجُ منها قبلَ إتْمَامِها ؛ لِمَا فيه من إبطالِ عَمَلِها.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاللَّهُ مَعَكُمْ ﴾ ؛ أي بالعَوْنِ والنُّصرَةِ على عدُوِّكم بثَوَابَي حِفظِكم، ﴿ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ﴾ ؛ أي لن يَنْقِصَكم شيئاً من ثواب أعمالكم، وفي الآيةِ دلالةٌ على أنَّهُ لا يجوزُ للإمامِ أن يدعُوا الكفارَ إلى الصُّلحِ، ولا أنْ يُجِيبَهم إلى الصُّلح في حالِ ما تكون الغَلَبَةُ للمسلمين، فإنَّ الواوَ في قولهِ :﴿ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ ﴾ واوُ الحالِ، كما يقالُ : لا تُسَلِّمْ على فُلانٍ وأنتَ راكبٌ ؛ أي في حالِ ما كُنتَ راكباً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ ﴾ ؛ أي تُؤمِنُوا بمُحَمَّدٍ ﷺ والقرآنِ، وتتَّقُوا الفواحشَ والكبائرَ، يُؤتِكُمْ ثوابَ أعمالكم كافياً وَافِياً، ﴿ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ ﴾ ؛ كلَّها في الإنفاقِ في سَبيلهِ، بل يأمرُكم بالإيمانِ والطاعة ليُثِيبَكم الجنَّةَ، ونظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ ﴾[الذاريات : ٥٧].
وَقِيْلَ : معناهُ : ولا يسأَلُكم مُحَمَّدٌ ﷺ أموالَكم، وَقِيْلَ : معناهُ : ولا يسأَلُكم اللهُ ورسولهُ أموالَكم كلَّها، إنما يسألُكم رُبُعَ العُشرِ، فطِيبُوا نَفْساً، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ ﴾ ؛ معناهُ : إنْ يُجهِدْكُم في المسألةِ، ويُلِحَّ عليكم ويسألُكم جميعَ أموالِكم، فبَخِلُوا بها ويمنَعُوا الواجبَ.
وقوله :﴿ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ ﴾ التي تحدثُ في القلوب بسبب البُخلِ، قال قتادةُ :(قَدْ عَلِمَ اللهُ أنَّ فِي مَسْأَلَةِ الْمَالِ خُرُوجَ الأَضْغَانِ). وقوله ﴿ أَضْغَانَكُمْ ﴾ أي بَغضَكم وعداوَتَكم للهِ ولرسوله، ولكن فَرَضَ عليكم يَسِيراً وهو رُبُعُ العُشرِ. والإحْفَاءُ في المسألةِ : هو الإْلحَاحُ والتشديدُ. وَقِيْلَ : معنى الآيةِ : ولا يسألُكم أموالَكم لنفسهِ، بل يسألُكم ليُؤتِكُمْ أجُورَكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ﴾ ؛ أي وإنْ تُعرِضُوا عن طاعةِ الله يَسْتَبْدِلْ قَوماً لا يَعْصُونَ ويفعلون ما يُؤمَرون، وَقِيْلَ : معناهُ : وإنْ تُعرِضُوا عن الإسلامِ وعمَّا افتَرَضَ عليكم من حقٍّ يستبدِلْ قوماً غيرَكم أطوعَ للهِ منكم، ﴿ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَالَكُم ﴾ ؛ بل يكون أمثلَ منكم وأطوعَ. قال الكلبيُّ :(هُمْ كِنْدَةُ وَالنَّخْعُ)، وقال الحسنُ :(هُمُ الْعَجَمُ)، قال عكرمةُ :(هُمْ فَارسُ وَالرُّومُ).
وعن رسولِ الله ﷺ " أنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ ؛ فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ إنْ تَوَلَّيْنَا اسْتُبْدِلُواْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أمْثَالَنَا ؟ فَضَرَبَ رَسُولُ اللهِ فِي صَدْر سَلْمَانَ الْفَارسِيَّ - وَقِيلَ : عَلَى فَخِذِهِ - وَقَالَ :" هَذا وَأصْحَابُهُ ". وَقَالَ :" وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ، لَوْ كَانَ الإيْمَانُ مُعَلَّقاً بالثُّرَيَّا لَتَنَاوَلَهُ رجَالٌ مِنْ أبْنَاءِ فَارسَ " قال الكلبيُّ فِي قَوْلِهِ :﴿ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ﴾ قَالَ :(لَمْ يَتَوَلَّوْا وَلَمْ يَسْتَبْدِلْ بهِمْ).