تفسير سورة محمد

مراح لبيد
تفسير سورة سورة محمد من كتاب مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد المعروف بـمراح لبيد .
لمؤلفه نووي الجاوي . المتوفي سنة 1316 هـ

سورة القتال
وتسمى سورة محمد وسورة الّذين كفروا، مكية، تسع وثلاثون آية، خمسمائة وتسع وثلاثون كلمة، ألفان وثلاثمائة وتسعة وأربعون حرفا
الَّذِينَ كَفَرُوا من قريش وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي أعرضوا عن الإسلام ومنعوا عقولهم من اتباع الدليل كالمطعمين الجيش يوم بدر منهم: أبو جهل، والحرث ابنا هشام،
وعتبة، وشيبة ابنا ربيعة، ومنبه وغيرهم أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١) أي أبطل الله أعمالهم فلم يبق لهم عمل بر لأنها لم تكن لله، ولا بأمره إنما فعلوها من عند أنفسهم وَالَّذِينَ آمَنُوا بالله ورسوله واليوم الآخر وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فيما بينهم وبين ربهم وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ أي بجميع الأشياء الواردة في كلام الله ورسوله وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ أي الحق النازل من ربهم، كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أي ستر الله أعمالهم السيئة بالإيمان والعمل الصالح وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (٢) أي حالهم ونياتهم، وذلك حيث يأتي المؤمن بسيئة، ثم يتنبه، ويندم، ويقف بين يدي ربه معترفا بذنبه مستحقرا لنفسه، فصار الذنب شرطا للندم، والثواب ليس على السيئة وإنما هو على الندم ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ أي ذلك إضلال الأعمال، وتكفير السيئات، وإصلاح البال كائن بسبب أن الكفار اتبعوا الشيطان، وبسبب أن المؤمنين اتبعوا أمر الله، وقوله: مِنْ رَبِّهِمْ أما متعلق ب «اتبعوا» الأخير أي من فضل ربهم أو من هدايته، أو متعلق بالأمرين جميعا أي اتبع هؤلاء الحق من حكم ربهم.
كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (٣) أي مثل هذا البيان يبين الله للناس أحوالهم العجيبة بإحباط الأعمال للكفر، ويغفر الذنوب بالإيمان والفعلان قد يتحدان صورة وحقيقة، وأحدهما يورث إبطال الأعمال والآخر يورث تكفير السيئات بسبب أن أحدهما يكون فيه اتباع الباطل، والآخر يكون فيه اتباع الحق كإطعام الطعام، وقد يختلفان في الظاهر والباطن كمن يؤمن ظاهرا وهو يسر الكفر، ومن يكفر ظاهرا بالإكراه وقلبه مطمئن بالإيمان فإبطال الأعمال لمن أظهر الإيمان بسبب الباطل من جانبه فكأنه تعالى قال الكفر والإيمان مثلان يثبت فيهما حكمان، وقد علم سبب ثبوت الحكم، وهو اتباع الحق والباطل فكل أمر اتبع فيه الحق كان مقبولا مثابا عليه،
وكل أمر اتبع فيه الباطل كان مردودا معاقبا عليه، فصار هذا عاما في الأمثال فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ أي فإذا لقيتم الكفار في المحاربة يوم بدر، فاضربوا أعناقهم أي فاقتلوهم بأي طريق أمكنكم حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ أي حتى إذا أضعفتموهم بالجراح فاستوثقوا الأسر فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً أي فإما تمنون منا عليهم بإرسالهم من غير فداء بعد أسرهم وشد وثاقهم، وإما تفدون فداء بمال، أو أسرى مسلمين حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها أي حتى تضع أهل الحرب آلات الحرب أي حتى تنقرض الحرب بالكلية بحيث لا يبقى في الدنيا حزب من أحزاب الكفر يحارب حزبا من أحزاب الإسلام ذلِكَ أي ذلك المذكور واجب وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ أي لانتقم من الكفار من غير قتالكم ببعض أسباب الهلكة كالخسف، وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ أي ولكن لم يشأ ذلك، بل يكلفهم بالقتال ليحصل لكم شرف باختياره إياكم لهذا الأمر، ويختبركم بالكفار لتجاهدوهم لاستحقاق العظيم، وليختبرهم بكم ليعالجهم ببعض العذاب على أيديكم كي يرتدع بعضهم عن الكفر، وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤)، قرأ أبو عمرو، وحفص «قتلوا» مبينا للمجهول أي والذين استشهدوا في طاعة الله يوم بدر فلن يضيع الله أعمالهم أي لا تخافوا القتل، فإن من يقتل في سبيل الله له من الأجر ما لا يمنع المقاتل من القتال، بل يحثه عليه، وقرأ الباقون قاتلوا أي جاهدوا لإعلاء دين الله سواء قتلوا أو لم يقتلوا، سَيَهْدِيهِمْ في الدنيا إلى أرشد الأمور إن لم يقتلوا وفي الآخرة إلى طريق الجنة من غير وقفة من قبورهم إلى موضع حبورهم وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) أي حالهم في الدنيا والآخرة بأن يقبل الله أعمالهم ويرضي خصماءهم يوم القيامة، وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (٦) أي إذا دخلوها يقال لهم: تفرقوا إلى منازلكم فهم أعرف بمنازلهم من أهل الجمعة إذا انصرفوا إلى منازلهم، وقال ابن عباس: أي طيبها لهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ أي إن تنصروا دين الله وحزب الله يَنْصُرْكُمْ على أعدائكم، وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (٧) أي يثبتكم في مواضع الحرب وعلى محجة الإسلام وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ أي فألزمهم الله هلاكا وعثارهم واجب لأن آلهتهم جمادات لا قدرة لها على النصرة، وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨) أي أبطل نفقاتهم يوم بدر ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ أي ذلك الهلاك وإبطال الأعمال بسبب أنهم كرهوا القرآن لما فيه من بيان التوحيد وبيان أمر الآخرة فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٩) أي فأبطل حسناتهم فلو عملوها مع الإيمان لأثبتوا عليها أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي أقعد كفار مكة في أماكنهم ولم يسافروا في الأرض فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم المكذبة دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي أهلك الله ما يختص بهم من أنفسهم، وأهليهم، وأموالهم وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (١٠) أي ولقوم محمد أمثال تلك العاقبة، فأهلكوا بأيدي أمثالهم الذين كانوا لا يرضون بمجالستهم وأسروا بأيدي من كانوا يستضعفونهم، وذلك الألم من الهلاك بسبب عام
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا أي ثبوت هلاك أمة محمد كالأمم السالفة بسبب أن الله تعالى ناصر المؤمنين على
415
أعدائهم. وقرئ «ولي الذين» إلخ وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (١١) أي وأن الكافرين اتخذوا آلهة لا تنفع ولا تضر وتركوا الله فلا ناصر لهم إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فالأنهار يتبعها الأشجار، والأشجار يتبعها الثمار، والماء سبب حياة العالم والمؤمنون ينظرون إليه وينتفعون به، وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ أي ينتفعون في الدنيا بمتاعها وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ فلا يهمهم إلا أكل الملاذ ولا يستدلون بالمأكولات على خالقها ولا يعلمون عاقبة أمرهم كالأنعام، فإنها لا تعلم أنها كلما كانت أسمن كانت أقرب إلى الذبح وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (١٢) فيتقلبون في النار ويتضررون بها وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ أي وكم من أهل قرية كذبوا رسلهم أهلكناهم وهم أشد قوة من أهل قريتك الّذين كانوا سببا لخروجك من بينهم فَلا ناصِرَ لَهُمْ (١٣) من إهلاكنا كذلك نفعل بأهل مكة فاصبر كما صبر رسل أولئك أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٤) أي أليس الأمر كما ذكر؟ فمن كان مستقرا على حجة ظاهرة من مالك أمره وهو القرآن وسائر الحجج العقلية كمن زيّن له سوء عمله فرآه حسنا واتبعوا أهواءهم الزائغة وانهمكوا في فنون الضلالات مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ و «مثل» مبتدأ وخبره «فيها أنهار»، وهو عين المبتدأ لأن اشتمال الجنة على أنهار من كذا وكذا صفة لها، وقيل: والخبر مقدر والتقدير: وفيما نقص عليكم مثل الجنة، وعلى هذا فالوقف على «المتقون» كاف والجملة بعده مفسرة لمثل مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ أي غير متغيّر ريحه وطعمه حتى في البطون، وقرأ ابن كثير بقصر الهمزة والباقون بمدها، وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ فلا يعود حامضا ولا قارصا ولا ما يكره من الطعوم، فلو أراد تغيره من أصل خلقته لشهوة اشتهوها تغير، وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ بأسرهم فليس فيها كراهة الطعم لهم وهي لمجرد الالتذاذ فقط وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى من شمع وغيره.
روي عن كعب الأحبار أنه قال: نهر دجلة نهر ماء أهل الجنة، ونهر الفرات نهر لبنهم، ونهر مصر، نهر خمرهم، ونهر سيحان وجيحان نهر عسلهم، وهذه الأنهار الأربعة تخرج من نهر الكوثر، وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أي ولأهل الجنة في الجنة زوجان من كل الثمرات، وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ أي ولهم فيها رفع تكليف عنهم فيأكلون، ويشربون من غير حساب، ولا عقاب، ورفع قبيح، ومكروه فلا يحتاجون إلى غائط، ولا يمرضون بسبب تناول المأكولات والمشروبات بخلاف الدنيا، فإن للأكل توابع ولوازم لا بد منها كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ أي أمن هو خالد في هذه الجنة حسب ما جرى به الوعد كمن هو خالد في النار كما نطق به قوله تعالى: وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً أي حارا فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (١٥) أي مباعرهم لحدة تكون في ذلك الماء من فرط الحرارة، وقوله تعالى: عَلى بَيِّنَةٍ في مقابلة زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وقوله تعالى: مِنْ رَبِّهِ في مقابلة وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ والْجَنَّةِ في مقابلة النار والثمار في الجنة في مقابلة الزقوم في
416
النار والماء الحميم في مقابلة الأنهار وقطع الأمعاء في مقابلة المغفرة لأن المغفرة التي في الجنة على أحد الوجوه هي تعرية أكل الثمرات عما يلزمه من قضاء الحاجة، والأمراض كأنه تعالى قال للمؤمن: أكل وشرب لا يجتمع في جوفهم، فيؤذيهم ويحوجهم إلى قضاء الحاجة، وللكافر ماء حميم. ففي أول ما يصل إلى جوفهم يقطع مصارينهم ويشتهون خروجه من جوفهم فخرجت المصارين من أدبارهم، ثم الوجه في توحيد الضمير العائد إلى «من» وجمعه أن يقال المسند إلى «من» إذا كان متصلا فرعاية اللفظ أولى لأنه مسموع، وإذا كان مع انفصال فرعاية المعنى أولى لأنه لا يسمع، بل يبقى في ذهن السامع فالحمل في الانفصال على المعنى، وهو جمع الضمير أولى، وحمل الاتصال على اللفظ، وهو إفراد الضمير أولى. وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً أي ومن الخالدين في النار قوم يستمعون إلى خطبتك يوم الجمعة فإذا خرجوا من المسجد قالوا للعلماء من الصحابة منهم ابن مسعود، وابن عباس استهزاء بما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم:
أي شيء قال محمد على المنبر الساعة الماضية القريبة منّا لا نعمل بقوله لأنه قول ساقط لا يعتد به، وقرأ البزي بخلاف عنه بقصر الهمزة أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦) أي أولئك التاركون اتباع الحق هم الذين أمات الله قلوبهم فلم تفهم فعند ذلك اتبعوا أهواءهم في الباطل وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧) أي والذين اهتدوا بالإيمان زادهم الله تعالى على الاهتداء هدى حتى ارتقوا من درجة المهتدين إلى درجة الهادين، وخلق الله فيهم كمال التقوى فلا يخافون معها لومة لائم ويتنزه العارفون عما يشتغل أسرارهم عن الحق ويتبتلون إليه، فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (١٨) و «أن» تأتيهم بدل اشتمال من «الساعة» و «أني» خبر مقدم و «ذكراهم» مبتدأ مؤخر والمعنى:
أنهم لا يتذكرون بذكر أهوال الأمم الخالية، ولا بالإخبار بإتيان الساعة، وعظائم الأهوال فيها فما ينتظرون للتذكر إلا إتيان نفس الساعة فجأة إذ قد جاءت علاماتها فلم يرفعوا لها رأسا ولم يعدوها من مبادئ إتيانها فيكون إتيانها بطريق المفاجأة لا مجالة فمن أين لهم التذكر والتوبة إذا جاءتهم الساعة فجأة، أي لا تنفعهم الذكرى إذ لا تقبل التوبة ولا يحسب الايمان حينئذ.
وقرئ «إن تأتيهم» على أن «إن» شرط مستأنف جزاؤه فإني لهم إلخ والمعنى أن تأتيهم الساعة بغتة لأنه قد ظهرت أماراتها كرسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وانشقاق القمر ونحوهما فكيف لهم اتعاظهم إذا جاءتهم، فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ أي إذا علمت أن مدار السعادة هو التوحيد والطاعة. ومناط الشقاوة هو الإشراك والعصيان فاثبت على العلم بالوحدانية والعمل بموجبه، وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وهو ترك الأفضل أو ضرب اليهودي زيد بن السمين، وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وللنبي صلّى الله عليه وسلّم ثلاث حالات: حال مع الله، وحال مع نفسه، وحال مع غيره، والمعنى:
فوحد الله، واطلب العصمة من الله لنفسك، واطلب الغفران من الله للمؤمنين والمؤمنات، ومعنى
417
طلب الغفران طلب عدم الافتضاح، ولذلك قد يكون بالعصمة من القبيح كما كان للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد يكون بالستر على القبيح بعد وجوده كما هو في حق المؤمنين والمؤمنات وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (١٩) أي يعلم أحوالكم في الدنيا ومواطن إقامتكم في الآخرة إما في الجنة أو في النار وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا إذ تأخر عنهم التكليف خوفا من أن لا يؤهلوا للعبادة لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ أي هلا نزلت سورة فيها تكليف بمحن المؤمن والمنافق، فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ أي لم تنسخ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ أي وذكر فيها الأمر بالقتال فإنه أشق تكليف، وقرئ و «ذكر فيها القتال» على بناء الفعل للفاعل وهو الله تعالى، وعلى نصب «القتال»، رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي نفاق يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ أي تشخص أبصارهم نحوك عند ذكرك للقتال شخوصا مثل شخوص من أصابته غشية الموت من كراهية قتالهم مع العدو، فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) أي قاربهم ما يهلكهم، أو فالهلاك لهم وهذا تهديد لهم من عذاب الله تعالى، أو يقال فالموت أولى لهم، فإن الموت خير من الحياة التي ليست في طاعة الله ورسوله
طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ أي طاعة مخلصة وقول حسن خير لهم، وقيل: هذا حكاية لقولهم ويدل عليه قراءة أبيّ «يقولون طاعة وقول معروف» أي يقول المنافقون أمرنا طاعة وكلام حسن لمحمد عليه الصلاة والسلام فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ أي فإذا جد الأمر خالفوا موعدهم وتأخروا عنه فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (٢١) أي فلو صدقوا الله تعالى في إيمانهم واتباعهم الرسول لكان الصدق خيرا لهم، أو فلو صدقوا الله في ذلك القول، وأطاعوا الله ورسوله لكان الصدق خيرا لهم، وقيل: إن جملة «فلو صدقوا الله» إلخ جواب إذا مثل قولك: إذا حضرني طعام، فلو جئتني لأطعمتك. فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢٢) أي إن كنتم تتركون القتال وتعرضون عنه وتقولون: إن في القتال إفسادا وقطع الأرحام لكون الكفار أقاربنا فلا يقع منكم إلّا ذلك حيث تقاتلون على أدنى شيء هو عادة العرب، وهذه الآية إشارة إلى فساد قولهم: كيف نقاتل والقتال إفساد، العرب من ذوي أرحامنا، فقال تعالى: إن أعرضتم عن القتال فلا يقع منكم إلّا الفساد في الأرض، فإنكم تقتلون من تقدرون عليه وتنبهونه، والقتال واقع بينكم أليس قتلكم البنات إفسادا وقطعا للرحم، فلا يصح تعللكم بذلك مع أنه خلاف ما أمر الله به وهذا القتال مع الكفار طاعة، وقيل: إن توليتم من الولاية، والمعنى: فلعلكم يا معشر المنافقين تتمنون إن صرتم أمراء على الناس وصاروا بأمركم أفسدتم في الأرض بالقتل والمعاصي، وقطعتم الأرحام بإظهار الكفر ويؤكد هذا القول قراءة من قرأ «وليتم» على البناء للمفعول أي وإن جعلتم ولاة ظلمتم بأخذ الرشا، ونحوه، وقراءة علي رضي الله عنه «توليتم» والمعنى ان تولاكم والمعنى: إن تولاكم ولاة ظلمة خرجتم معهم ومشيتم تحت لوائهم وساعدتموهم في الإفساد وقطيعة الرحم.
وقرئ تقطعوا بحذف إحدى التاءين من التقطع فانتصاب أرحامكم، حينئذ على نزع الجار
418
أي في أرحامكم وقرئ و «تقطعوا» من القطع أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ أي أبعدهم الله عن الخير فَأَصَمَّهُمْ فلا يسمعون الكرم المستبين وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣) فلا يتبعون الصراط المستقيم، فمن حيث إنهم استمعوا الكلام العلمي ولم يفهموه فهم صم وعند الأمر بالعمل تركوه وعللوا بكونه إفسادا وقطعا للرحم، وهم كانوا يتعاطونه عند النهي فتركوا اتباع النبي الّذي يأمرهم بالإصلاح وصلة الأرحام ولو دعاهم من يأمر بالإفساد وقطيعة الرحم لاتبعوه فهم عمي أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤) أي فلا يتدبرون القرآن لكونهم مبعدين منه، ومن كل خير أم على قلوب أقفال فيتدبرون ولا يفهمون فلا تدخل معانيه في قلوبهم إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ أي أن الذين رجعوا إلى الكفر من بعد ما ظهرت لهم الدلائل وسمعها، وهم جماعة منعهم حب الرياسة عن اتباع الرسول صلّى الله عليه وسلّم، الشيطان زيّن لهم الرجوع إلى دينهم، وسهل لهم اقتراف الكبائر.
وقرئ «سول» مبنيا للمفعول على حذف المضاف أي كيد الشيطان زيّن لهم وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥) أي ومد الشيطان لهم في الآمال فيقول لهم: إن في آجالكم فسحة فتمتعوا بدنياكم ورئاستكم إلى آخر أعماركم، وقيل: أمهلهم الله تعالى، ولم يعاجلهم بالعقوبة، وقرأ أبو عمرو «وأملى لهم» على البناء للمفعول أي أمهلوا ومد في أعمارهم، والباقون على البناء للفاعل، والفاعل إما الشيطان، فإن الله قدر على لسانه ويده ذلك التزيين، أو الله تعالى كما تقدم. وقرئ «وأملى لهم» على صيغة المتكلم فالمعنى أن الشيطان يغويهم، وأنا أنظرهم ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ أي ذلك الارتداد بسبب أن المنافقين قالوا سرا لليهود الكارهين لنزول القرآن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع علمهم بأنه من عند الله تعالى حسدا وطمعا في نزوله عليهم:
سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ كالقعود عن الجهاد، والموافقة في الخروج معكم عن الديار إن خرجتم منها، ولا نطيعكم في إظهار الكفر قبل قتالكم، وإخراجكم من دياركم، وهذا عبارة عما حكى عنهم بقوله تعالى أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ [الحشر: ١١] وهم بنو قريظة والنضير الذين كان المنافقون يوادونهم، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦)، قرأ حمزة، والكسائي، وحفص بكسر الهمزة أي إخفاءهم لما يقولونه، والباقون بفتحها أي جميع أسرارهم، فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧) أي فكيف يصنعون إذا قبضتهم الملائكة في حال أنهم يضربون وجوههم وظهورهم بمقامع من حديد، فإنهم يفعلون في حياتهم ما يفعلون من الحيل، وقرأ الأعمش «توفاهم» على أنه ماض أو مضارع حذف إحدى تاءيه ذلِكَ أي الضرب بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ من الكفر والمعاصي وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ من الإيمان والطاعة أي تضرب وجوههم لأنهم أقبلوا على سخط الله كإنكار الرسول
419
وإدبارهم لأنهم تولوا عما فيه رضا الله كالإقرار بالرسول وبدين الإسلام وعن ابن عباس رضي الله عنهما: «لا يتوفى أحد على معصية إلا تضرب الملائكة وجهه ودبره». فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٨) أي فأبطل الله حسناتهم يقال: نزلت الآيات من قوله تعالى: الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ إلى هاهنا في شأن المنافقين الذين رجعوا من المدينة
إلى مكة مرتدين عن دينهم، ويقال نزلت في شأن الحكم بن أبي العاص المنافق وأصحابه الذين شاوروا فيما بينهم، والنبي صلّى الله عليه وسلّم، يخطب يوم الجمعة في أمر الخلافة بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم وقالوا إن ولينا أمر هذه الأمة نفعل كذا وكذا ولا يستمعون إلى خطبته صلّى الله عليه وسلّم حتى قالوا بعد ذلك لعبد الله بن مسعود: ماذا قال محمد الآن على المنبر استهزاء منهم أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي نفاق أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩) أي أحسب المنافقون أنه لن يعلم الله أسرارهم أم حسبوا أنه لن يظهر الله أحقادهم على المؤمنين لرسوله، وللمؤمنين فتبقى أمورهم مستورة ف «أم» استفهامية والمعنى: أن ذلك الإظهار ما لا يكاد يدخل تحت الشك، وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ أي ولو أردنا لعرفناكهم تعريفا معه المعرفة فتعرفهم بعلامتهم القبيحة، وعن أنس رضي الله عنه قال: ما خفي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد هذه الآية شيء من المنافقين، كان يعرفهم بسيماهم في بعض الغزوات وفيها تسعة من المنافقين يشكوهم الناس فناموا ذات ليلة وأصبحوا وعلى كل واحد منهم مكتوب هذا منافق، وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ أي والله إنك يا محمد لتعرفن المنافقين في وجه خفي من القول فيفهمه النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا يفهمه غيره، ولكن لم يظهره إلى أن أذن الله تعالى في إظهار أمرهم وفي المنع من الصلاة على جنائزهم والقيام على قبورهم، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠) فيجازيكم بحسب قصدكم، وهذا وعد للمؤمنين، وبيان لكون حالهم على خلاف حال المنافقين، فكان للمنافق قول بلا عمل، وللمؤمن عمل ولا يقول به، وكان المؤمن يعمل الصالحات ويتكلم في السيئات مستغفرا، وكان المنافق يتكلم في الصالحات ويعمل السيء والله تعالى يسمع الأقوال الفارغة من المنافقين ويعلم الأعمال الصالحة منكم ولا يضيع،
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بالأمر بالجهاد والتكاليف الشاقة حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ أي حتى نعلم المقدمين على الجهاد وَالصَّابِرِينَ على مشاق الجهاد أي الذين لا يولون الأدبار وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (٣١) أي ونظهر أخباركم من حسن أعمالكم وقبحها.
وقرأ شعبة في الأفعال الثلاثة بالياء التحتية مسندا لضمير راجع إلى الله، وقرئ ونبلو بسكون الواو على تقدير ونحن نبلو. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل الكتاب قريظة والنضير أو من كفار قريش وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي أعرضوا عن دين الله وصرفوا الناس عن طاعة الله وَشَاقُّوا الرَّسُولَ أي خالفوه وعادوه مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى وهو نعت محمد في التوراة وما ظهر على يديه من المعجزات، وما نزل عليه من الآيات لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً تنزه الله تعالى عن أن يتضرر بكفر كافر وفسق فاسق، وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (٣٢) أي مكايدهم في القتال وفي إبطال دين الله
420
تعالى فيكون النصر للمؤمنين يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بمحمد والقرآن أَطِيعُوا اللَّهَ فيما أمركم من الفرائض والصدقة، وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فيما أمركم من الجهاد والسنة وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (٣٣) بالكفر، والنفاق، والعجب، والرياء، والسمعة، والمن، والأذى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (٣٤) أي إن الله لا يغفر الشرك ويغفر غيره إن شاء فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ أي إذا علمتم وجوب الجهاد فلا تضعفوا بالقتال مع العدو ولا تدعوا الكفار إلى الصلح وأنتم الأعلون أي الغالبون وهذه جملة حالية فتدعوا إما معطوف على المجزوم، أو جواب النهي منصوب بإضمار أن، وقرأ حمزة، وشعبة «السلم» بكسر السين، وَاللَّهُ مَعَكُمْ وهذا إرشاد يمنع المكلف من الإعجاب بنفسه وذلك لأن الله تعالى لما قال: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ كان ذلك سبب الافتخار، فقال تعالى: وَاللَّهُ مَعَكُمْ أي ليس ذلك العلو على الكفار من أنفسكم، بل من الله تعالى وأيضا لما كان المؤمنون يرون ضعف أنفسهم وقلتهم وشوكة الكفار وكثرتهم قال تعالى: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وما كان الأمر بما يقع في نفس بعضهم أنهم كيف يكون لهم الغلبة فقال تعالى: وَاللَّهُ مَعَكُمْ أي والله ناصركم فلا يبقى لكم شك في أن الغلبة لكم، وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٣٥) أي ولن يضيعها والمعنى: أن الله ينصركم ومع ذلك لا ينقص من أعمالكم شيئا أي فكأن النصرة جعلت بكم ومنكم فكأنكم مستقلون في ذلك النصر فيعطيكم أجوركم بالتمام. إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ أي أن الاشتغال بالدنيا أعمال ضائعة ومشغلة عن طاعة الله تعالى وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ أي يعطكم ثواب إيمانكم وتقواكم وثواب كل أعمالكم وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦) أي ولا يطلب منكم إخراج أموالكم كلها بحيث يخل الإخراج بمعاشكم، بل يطلب منكم إنفاق القليل من الأموال في طاعته تعالى ليرجع ثوابه إليكم إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧) أي لو طلب الله جميع أموالكم وألح عليكم في الطلب لما تعطونها، وأخرج الله أو الطلب أو البخل أحقادكم كيف وأنتم تبخلون باليسير لا فكيف لا تبخلون بالكثير ومن نوزع في حبيبه ظهرت طويته التي كان يسرها.
وقرئ «ونخرج» بنون العظمة، وقرئ «ويخرج» بالياء والتاء وفاعله «أضغانكم» أي ويخرج بسبب البخل الضغائن فيفضي إلى قتال الطالبين، وهم النبي وأصحابه ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي أنتم الذين تطلبون لتنفقوا في طاعة الله من الزكاة ونفقة الغزو وغيرهما فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ أي فمنكم ناس يبخلون، ومنكم من يجود، وَمَنْ يَبْخَلْ بالإنفاق في طاعة الله فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ أي فإنما يمسك الثواب عن نفسه فإن من يبخل وهو مريض بأجرة الطبيب، وبثمن الدواء فلا يبخل إلا على نفسه، وَاللَّهُ الْغَنِيُّ فلا يحتاج إلى مالكم، وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ فلا تقولون: نحن أغنياء عن القتال ودفع حاجة الفقراء فإنهم لا غنى لهم عن ذلك، لأنهم لولا القتال لقتلهم الكفار، ولولا دفع حاجة الفقراء لقصدوهم بسوء وكيف
421
لا يكونون فقراء وهم يوم القيامة موقوفون مسؤولون؟! وَإِنْ تَتَوَلَّوْا أي وإن تعرضوا عن الإيمان والتقوى يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ أي يخلق الله قوما آخرين بدلكم ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (٣٨) في التولي عن الإيمان والتقوى بل يكونون راغبين فيهما.
روى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تلا هذه الآية فقالوا: يا رسول الله من هؤلاء؟ فضرب صلّى الله عليه وسلّم بيده على كتف سلمان الفارسي ثم قال: «هذا وقومه ولو كان الدين عند الثريا لتناوله الرجال من الفرس»
«١».
وحكي عن أبي موسى الأشعري أنه لما نزلت هذه الآية فرح بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: «هي أحب إلي من الدنيا»
. والله أعلم.
(١) رواه البيهقي في دلائل النبوة (٤: ١٥٨)، وابن أبي شيبة في المصنّف (١٤: ٥٠١)، والسيوطي في الدر المنثور (٦: ١٧).
422
Icon