تفسير سورة محمد

تفسير ابن عطية
تفسير سورة سورة محمد من كتاب المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز المعروف بـتفسير ابن عطية .
لمؤلفه ابن عطية . المتوفي سنة 542 هـ
( ٤٧ ) سورة محمد مدنية
وآياتها ثمان وثلاثون
هذه السورة مدنية بإجماع غير أن بعض الناس قال في قوله تعالى ' وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك ' محمد١٣، إنها نزلت بمكة في وقت دخول النبي فيها عام الفتح أو سنة الحديبية وما كان مثل هذا فهو معدود في المدني لأن المراعى في ذلك إنما هو ما كان قبل الهجرة أو بعدها١.
١ قوله تعالى:﴿وكأين من قرية﴾ مدني أيضا على المعنى الذي وضحه المؤلف، والآية رقمها(١٣) من السورة، لكن الثعلبي قال: إن السورة كلها مكية، وحكى ذلك ابن هبة الله عن الضحاك وسعيد بن جبير، ولهذا عقب أبو حيان الأندلسي على قول ابن عطية:"هذه السورة مدنية بإجماع" فقال:"وليس كما قال". وتسمى هذه السورة أيضا سورة القتال، وعدد آياتها ثمان وثلاثون آية، وقيل: تسع وثلاثون آية..

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة محمّد
هذه السورة مدنية بإجماع، غير أن بعض الناس قال في قوله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ [محمد: ١٣] إنها نزلت بمكة في وقت دخول النبي فيها عام الفتح أو سنة الحديبية، وما كان مثل هذا فهو معدود في المدني، لأن المراعى في ذلك إنما هو ما كان قبل الهجرة أو بعدها.
قوله عز وجل:
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (٢) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (٣)
قوله تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا الآية، إشارة إلى أهل مكة الذين أخرجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا الآية إشارة إلى الأنصار أهل المدينة الذين آووه، وفي الطائفتين نزلت الآيتان، قاله ابن عباس ومجاهد، ثم هي بعد تعم كل من دخل تحت ألفاظها. وقوله: وَصَدُّوا يحتمل أن يريد الفعل المجاوز، فيكون المعنى: وَصَدُّوا غيرهم، ويحتمل أن يكون الفعل غير متعد، فيكون المعنى: وَصَدُّوا أنفسهم. و: سَبِيلِ اللَّهِ شرعه وطريقه الذي دعا إليه.
وقوله: أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ أي أتلفها، ولم يجعل لها غاية خير ولا نفعا، وروي أن هذه الآية نزلت بعد بدر، وأن الإشارة بقوله: أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ هي إلى الإنفاق الذي أنفقوه في سفرتهم إلى بدر، وقيل المراد بالأعمال: أعمالهم البرة في الجاهلية من صلة رحم ونحوه، واللفظ يعم ذلك.
وقرأ الناس: «نزّل» بضم النون وشد الزاي. وقرأ الأعمش: «أنزل» معدى بالهمزة وقوله تعالى:
وَأَصْلَحَ بالَهُمْ قال قتادة معناه: وأصلح حالهم. وقرأ ابن عباس «أمرهم». وقال مجاهد: شأنهم.
وتحرير التفسير في اللفظة أنها بمعنى الفكر والموضع الذي فيه نظر الإنسان وهو القلب، فإذا صلح ذلك صلحت حاله، فكأن اللفظة مشيرة إلى صلاح عقيدتهم وغير ذلك من الحال تابع، فقولك: خطر في
بالي كذا، وقولك: أصلح الله بالك: المراد بهما واحد، ذكره المبرد. والبال: مصدر كالحال والشأن، ولا يستعمل منها فعل، وكذلك عرفه أن لا يثنى ولا يجمع، وقد جاء مجموعا لكنه شاذ، فإنهم قالوا بآلات.
وقوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا الإشارة إلى هذه الأفعال التي ذكر الله أنه فعلها بالكفار وبالمؤمنين. و: الْباطِلَ الشيطان وكل ما يأمر به، قاله مجاهد. و: الْحَقَّ هنا هو الشرع ومحمد عليه السلام.
وقوله: كَذلِكَ يبين أمر كل فرقة ويجعل لها ضربها من القول وصنفها. وضرب المثل مأخوذ من الضريب والضرب الذي هو بمعنى النوع.
قوله عز وجل:
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ٤ الى ٩]
فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (٧) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨)
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٩)
قال ابن عباس وقتادة وابن جريج والسدي: إن هذه الآية منسوخة بآية السيف التي في براءة:
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: ٥] وإن الأسر والمن والفداء مرتفع، فمتى وقع أسر فإنما معه القتل ولا بد، وروي نحوه عن أبي بكر الصديق. وقال ابن عمر وعمر بن عبد العزيز وعطاء ما معناه:
إن هذه الآية محكمة مبينة لتلك، والمن والفداء ثابت، وقد منّ رسول الله ﷺ على ثمامة بن أثال، وفادى أسرى بدر، وقاله الحسن، وقال: لا يقتل الأسير إلا في الحرب، يهيب بذلك على العدو. وكان عمر بن عبد العزيز يفادي رجلا برجل، ومنع الحسن أن يفادوا بالمال. وقد أمر عمر بن عبد العزيز بقتل أسير من الترك ذكر له أنه قتل مسلمين. وقالت فرقة: هذه الآية خصصت من الأخرى أهل الكتاب فقط، ففيهم المن والفداء، وعباد الأوثان ليس فيهم إلا القتل. وعلى قول أكثر العلماء الآيتان محكمتان. وقوله هنا: فَضَرْبَ الرِّقابِ بمثابة قوله هناك: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: ٥] وصرح هنا بذكر المن والفداء، ولم يصرح به هناك، وهو مراد متقرر، وهذا هو القول القوي.
وقوله: فَضَرْبَ الرِّقابِ مصدر بمعنى الفعل، أي فاضربوا رقابهم وعين من أنواع القتل أشهره وأعرفه فذكره، والمراد: اقتلوهم بأي وجه أمكن، وقد زادت آية: وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ [الأنفال: ١٢] وهي من أنكى ضربات الحرب، لأنها تعطل من المضروب جميع جسده، إذ البنان أعظم آلة المقاتل وأصلها. و: أَثْخَنْتُمُوهُمْ معناه: بالقتل. والإثخان في القوم: أن يكثر فيهم القتلى والجرحى، والمعنى: فشدوا الوثاق بمن لم يقتل ولم يترتب عليه إلا الأسر. و: مَنًّا و: فِداءً
110
مصدران منصوبان بفعلين مضمرين. وقرأ جمهور الناس: «فداء». وقرأ شبل عن ابن كثير: «فدى» مقصورا.
وإمام المسلمين مخير في أسراه في خمسة أوجه: القتل، أو الاسترقاق، أو ضرب الجزية، أو الفداء، أو المن. ويترجح النظر في أسير أسر بحسب حاله من إذاية المسلمين أو ضد ذلك.
وقوله تعالى: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها معناه: حتى تذهب وتزول أثقالها. والأوزار: الأثقال فيها والآلات لها، ومنه قول الشاعر عمرو بن معد يكرب الزبيدي: [المتقارب]
وأعددت للحرب أوزارها رماحا طوالا وخيلا ذكورا
وقال الثعلبي: وقيل الأوزار في هذه الآية: الآثام، جمع وزر، لأن الحرب لا بد أن يكون فيها آثام في أحد الجانبين.
واختلف المتأولون في الغاية التي عندها تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها، فقال قتادة: حتى يسلم الجميع فتضع الحرب أوزارها. وقال حذاق أهل النظر: حتى تغلبوهم وتقتلوهم.
وقال مجاهد حتى ينزل عيسى ابن مريم.
قال القاضي أبو محمد: وظاهر الآية أنها استعارة يراد لها التزام الأمر أبدا، وذلك أن الحرب بين المؤمنين والكافرين لا تضع أوزارها، فجاء هذا كما تقول: أنا أفعل كذا إلى يوم القيامة، فإنما تريد: إنك تفعله دائما.
وقوله تعالى: ذلِكَ تقديره: الأمر ذلك. ثم قال: وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ أي بعذاب من عنده يهلكهم به في حين واحد، ولكنه تعالى أراد اختبار المؤمنين وأن يبلو بعض الناس ببعض.
وقرأ جمهور الناس: «قاتلوا» وقرأ عاصم الجحدري بخلاف عنه: «قتلوا» بفتح القاف والتاء. وقرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم والأعرج وقتادة والأعمش: «قتلوا» بضم القاف وكسر التاء. وقرأ زيد بن ثابت والحسن والجحدري وأبو رجاء: «قتّلوا» بضم القاف وكسر التاء وشدها، والقراءة الأولى أعمها وأوضحها معنى. وقال قتادة: نزلت هذه الآية فيمن قتل يوم أحد من المؤمنين.
وقوله تعالى: سَيَهْدِيهِمْ أي إلى طريق الجنة، وقد تقدم القول في إصلاح البال. وروى عباس بن المفضل عن أبي عمرو: «ويدخلهم» بسكون اللام. وفي سورة [التغابن] يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ [التغابن: ٩] وفي سورة [الإنسان] إِنَّما نُطْعِمُكُمْ [الإنسان: ٩] بسكون العين والميم.
وقوله تعالى: عَرَّفَها لَهُمْ قال أبو سعيد الخدري وقتادة ومجاهد معناه: بينها لهم، أي جعلهم يعرفون منازلهم منها، وفي نحو هذا المعنى هو قول النبي عليه السلام: لأحدكم بمنزله في الجنة أعرف منه بمنزله في الدنيا. وقالت فرقة معناه: سماها لهم ورسمها، كل منزل باسم صاحبه، فهذا نحو من التعريف.
وقالت فرقة معناه: شرفها لهم ورفعها وعلاها، وهذا من الأعراف التي هي الجبال وما أشبهها، ومنه أعراف
111
الخيل. وقال مؤرج وغيره معناه: طيبها مأخوذ من العرف، ومنه طعام معرف، أي مطيب. وعرفت القدر:
طيبتها بالملح والتابل.
وقوله تعالى: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ فيه حذف مضاف، أي دين الله ورسوله، والمعنى: تنصروه بجدكم واتباعكم وإيمانكم يَنْصُرْكُمْ بخلق القوة لكم والجرأة وغير ذلك من المعاون.
وقرأ جمهور الناس: «ويثبّت» بفتح التاء المثلثة وشد الباء. وقرأ المفضل عن عاصم: «ويثبت» بسكون الثاء وتخفيف الباء، وهذا التثبيت هو في مواطن الحرب على الإسلام، وقيل على الصراط في القيامة.
وقوله تعالى: فَتَعْساً لَهُمْ معناه: عثارا وهلاكا فيه، وهي لفظة تقال للعاثر إذا أريد به الشر، ومنه قول الشاعر: [المنسرح]
يا سيدي إن عثرت خذ بيدي... ولا تقل: لا، ولا تقل تعسا
وقال الأعشى: [البسيط]
بذات لوت عفرناة إذا عثرت فالتعس أدنى لها من أن أقول لعا
ومنه قول أم مسطح لما عثرت في مرطها: تعس مسطح. قال ابن السكيت: التعس أن يخر على وجهه. و: «تعسا» مصدر نصبه فعل مضمر.
وقوله تعالى: كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ يريد القرآن. وقوله: فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ يقتضي أن أعمالهم في كفرهم التي هي بر مقيدة محفوظة، ولا خلاف أن الكافر له حفظة يكتبون سيئاته. واختلف الناس في حسناتهم، فقالت فرقة: هي ملغاة يثابون عليها بنعم الدنيا فقط. وقالت فرقة: هي محصاة من أجل ثواب الدنيا، ومن أجل أنه قد يسلم فينضاف ذلك إلى حسناته في الإسلام، وهذا أحد التأويلين في قول النبي عليه السلام لحكيم بن حزام: «أسلمت على ما سلف لك من خير». فقوم قالوا تأويله: أسلمت على أن يعد لك ما سلف من خير، وهذا هو التأويل الذي أشرنا إليه. وقالت فرقة معناه: أسلمت على إسقاط ما سلف لك من خير، إذ قد ثوبت عليه بنعم دنياك. وذكر الطبري أن أعمالهم التي أخبر في هذه الآية بحبطها:
عبادتهم الأصنام وكفرهم. ومعنى: (أحبط) جعلها من العمل الذي لا يزكو ولا يعتد به، فهي لذلك كالذي أحبط.
قوله عز وجل:
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ١٠ الى ١٣]
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (١٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (١١) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (١٢) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (١٣)
قوله تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا توقيف لقريش وتوبيخ. و: الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يريد: ثمود وقوم لوط وقوم شعيب وأهل السد وغيرهم. والدمار: الإفساد وهدم البناء وإذهاب العمران.
وقوله: دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ من ذلك. والضمير في قوله: أَمْثالُها يصح أن يعود على العاقبة المذكورة، ويصح أن يعود على الفعلة التي يتضمنها قوله: دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وقولهم: ذلِكَ بِأَنَّ ابتداء وخبر في «أن» وما عملت فيه. والمولى: الناصر الموالي، وفي مصحف عبد الله بن مسعود: «ذلك بأن الله ولي الذين آمنوا». وقال قتادة: إن هذه الآية نزلت يوم أحد ومنها انتزع رسول الله ﷺ رده على أبي سفيان حين قال له: «قولوا الله مولانا ولا مولى لكم».
وقوله تعالى: وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ أي أكلا مجردا من فكرة ونظر، فالتشبيه بالمعنى إنما وقع فيما عدا الأكل من قلة الفكر وعدم النظر، فقوله: كَما في موضع الحال، وهذا كما تقول لجاهل:
يعيش كما تعيش البهيمة، فأما بمقتضى اللفظ فالجاهل والعالم والبهيمة من حيث لهم عيش فهم سواء، ولكن معنى كلامك يعيش عديم النظر والفهم كما تعيش البهيمة. والمثوى: موضع الإقامة، وقد تقدم القول غير مرة في قوله: وَكَأَيِّنْ. وضرب الله تعالى لمكة مثلا بالقرى المهلكة على عظمها، كقرية قوم عاد وغيرها. و: أَخْرَجَتْكَ معناه: وقت الهجرة. ونسب الإخراج إلى القرية حملا على اللفظ. وقال:
أَهْلَكْناهُمْ حملا على المعنى. ويقال: إن هذه الآية نزلت إثر خروج رسول الله ﷺ من مكة في طريق المدينة. وقيل: نزلت بالمدينة. وقيل: نزلت بمكة عام دخلها رسول الله صلى عليه وسلم بعد الحديبية. وقيل نزلت: عام الفتح وهو مقبل إليها. وهذا كله حكمه حكم المدني.
قوله عز وجل:
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ١٤ الى ١٦]
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٤) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (١٥) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦)
قوله تعالى: أَفَمَنْ كانَ الآية توقيف وتقرير على شيء متفق عليه وهي معادلة بين هذين الفريقين.
وقال قتادة: الإشارة بهذه الآية إلى محمد عليه السلام في أنه الذي هو على بينة وإلى كفار قريش في أنهم الذين زين لهم سوء أعمالهم.
قال القاضي أبو محمد: وبقي اللفظ عاما لأهل هاتين الصفتين غابر الدهر وقوله: عَلى بَيِّنَةٍ معناه
113
على قصة واضحة وعقيدة نيرة بينة، ويحتمل أن يكون المعنى على أمر بين ودين بين، وألحق الهاء للمبالغة: كعلامة ونسابة. والذي يسند إليه قوله: زُيِّنَ الشيطان. واتباع الأهواء: طاعتها كأنها تذهب إلى ناحية والمرء يذهب معها.
واختلف الناس في قوله تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الآية، فقال النضر بن شميل وغيره: مَثَلُ معناه صفة، كأنه قال صفة الجنة ما تسمعون فيها كذا وكذا، وقال سيبويه: المعنى فيما يتلى عليكم مثل الجنة.
ثم فسر ذلك الذي يتلى بقوله: فيها كذا وكذا.
قال القاضي أبو محمد: والذي ساق أن يجعل مَثَلُ بمثابة صفة هو أن الممثل به ليس في الآية، ويظهر أن القصد في التمثيل هو إلى الشيء الذي يتخيله المرء عند سماعه فيها كذا وكذا فإنه يتصور عند ذلك بقاعا على هذه الصورة وذلك هي مَثَلُ الْجَنَّةِ ومثالها، وفي الكلام حذف يقتضيه الظاهر، كأنه يقول: مَثَلُ الْجَنَّةِ ظاهر في نفس من وعى هذه الأوصاف. وقرأ علي بن أبي طالب: «مثال الجنة».
وقرأ علي بن أبي طالب أيضا وابن عباس: «أمثال الجنة». وعلى هذه التأويلات كلها ففي قوله: كَمَنْ هُوَ خالِدٌ حذف تقديره: أساكن هذه، أو تقديره: أهؤلاء إشارة إلى المتقين، ويحتمل عندي أيضا أن يكون الحذف في صدر الآية. كأنه قال: أمثل أهل الجنة كَمَنْ هُوَ خالِدٌ، ويكون قوله: مَثَلُ مستفهما عنه بغير ألف الاستفهام، فالمعنى: أمثل أهل الجنة، وهي بهذه الأوصاف كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ فتكون الكاف في قوله: كَمَنْ مؤكدة في التشبيه، ويجيء قوله: فِيها أَنْهارٌ في موضع الحال على هذا التأويل. وماءٍ غَيْرِ آسِنٍ معناه غير متغير، قاله ابن عباس وقتادة، وسواء أنتن أو لم ينتن، يقال: أسن الماء: بفتح السين، وأسن بكسرها.
وقرأ جمهور القراء: «آسن» على وزن فاعل. وقرأ ابن كثير: «أسن»، على وزن فعل، وهي قراءة أهل مكة، والأسن أيضا هو الذي يخشى عليه من ريح منتنة من ماء، ومنه قول الشاعر:
التارك القرن مصرا أنامله يميل في الرمح ميل المائح الأسن
وقال الأخفش: آسِنٍ لغة: والمعنى الإخبار به عن الحال، ومن قال: «آسن» على وزن فاعل، فهو يريد به أن يكون كذلك في المستقبل فنفى ذلك في الآية. وقرأت فرقة: «غير يسن»، بالياء. قال أبو علي: وذلك على تخفيف الهمزة، قال أبو حاتم عن عوف: كذلك كانت في المصحف: «يسن»، فغيرها الحجاج.
وقوله: في اللبن لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ نفي لجميع وجوه الفساد في اللبن وقوله: لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ جمعت طيب المطعم وزوال الآفات من الصداع وغيره ولَذَّةٍ نعت على النسب، أي ذات لذة. وتصفية العسل مذهبة لمومه وضرره. وقوله: مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أي من هذه الأنواع، لكنها بعيدة الشبه، إذ تلك لا عيب فيها ولا تعب بوجه. وقوله: وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ معناه: وتنعيم أعطته المغفرة وسببته، فالمغفرة إنما هي قبل الجنة، وقوله: وَسُقُوا الضمير عائد على «من» لأن المراد به جمع.
وقوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ يعني بذلك المنافقين من أهل المدينة، وذلك أنهم كانوا
114
يحضرون عند النبي عليه السلام فيسمعون كلامه وتلاوته، فإذا خرجوا قال بعضهم لمن شاء من المؤمنين الذين عملوا وانتفعوا ماذا قالَ آنِفاً فكان منهم من يقول هذا استخفافا، أي ما معنى ما قال وما نفعه وما قدره؟ ومنهم من كان يقول ذلك جهالة ونسيانا، لأنه كان في وقت الكلام مقبلا على فكرته في أمر دنياه وفي كفره، فكان القول يمر صفحا، فإذا خرج قال: ماذا قالَ آنِفاً، وهذا أيضا فيه ضرب من الاستخفاف، لأنه كان يصرح أنه كان يقصد الإعراض وقت الكلام، ولو لم يكن ذلك بقصد لم يبعد أن يجري على بعض المؤمنين. وروي أن عبد الله بن مسعود وابن عباس ممن سئل هذا السؤال، حكاه الطبري عن ابن عباس.
وقرأ الجمهور: «آنفا» على وزن فاعل، وقرأ ابن كثير وحده: «أنفا» على وزن فعل، وهما اسما فاعل من ائتنف، وجريا على غير فعلهما، وهذا كما جرى فقير على افتقر ولم يستعمل فقر، وهذا كثير، والمفسرون يقولون: «أنفا» معناه: الساعة الماضية القريبة منا، وهذا تفسير بالمعنى.
ثم أخبر تعالى أنه طَبَعَ على قلوب هؤلاء المنافقين الفاعلين لهذا، وهذا الطبع يحتمل أن يكون حقيقة، ويحتمل أن يكون استعارة وقد تقدم القول فيه.
قوله عز وجل:
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ١٧ الى ١٩]
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (١٨) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (١٩)
لما ذكر تعالى المنافقين بما هم أهله من قوله: أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ [محمد: ١٦] عقب ذلك بذكر المؤمنين ليبين الفرق، وشرفهم بإسناد فعل الاهتداء إليهم وهي إشارة إلى تكسبهم.
وقوله تعالى: زادَهُمْ هُدىً يحتمل أن يكون الفاعل في زادَهُمْ الله تعالى، والزيادة في هذا المعنى تكون إما بزيادة التفهيم والأدلة، وإما بورود الشرائع والنواهي والأخبار فيزيد الاهتداء لتزيد علم ذلك كله والإيمان به وذلك بفضل الله تعالى، ويحتمل أن يكون الفاعل في: زادَهُمْ قول المنافقين واضطرابهم، لأن ذلك مما يتعجب المؤمن منه ويحمد الله على إيمانه، ويتزيد بصيرة في دينه، فكأنه قال:
المهتدون والمؤمنون زادهم فعل هؤلاء المنافقين هدى، أي كانت الزيادة بسببه، فأسند الفعل إليه، وقالت فرقة: إن هذه الآية نزلت في قوم من النصارى، آمنوا بمحمد فالفاعل في: زادَهُمْ محمد عليه السلام كان سبب الزيادة فأسند الفعل إليه. وقوله على هذا القول: اهْتَدَوْا يريد في إيمانهم بعيسى عليه السلام ثم زادَهُمْ محمد هُدىً حين آمنوا به. والفاعل في آتاهُمْ يتصرف بحسب التأويلات المذكورة، وأقواها أن الفاعل الله تعالى. وَآتاهُمْ معناه: أعطاهم، أي جعلهم متقين له، فالتقدير: تقواهم إياه.
وقرأ الأعمش: «وأنطاهم تقواهم»، وهي بمعنى أعطاهم، ورواها محمد بن طلحة عن أبيه. وهي في مصحف عبد الله.
وقوله تعالى: فَهَلْ يَنْظُرُونَ يريد المنافقين، والمعنى: فَهَلْ يَنْظُرُونَ أي هكذا هو الأمر في نفسه وإن كانوا هم في أنفسهم ينتظرون غير ذلك، فإن ما في أنفسهم غير مراعى، لأنه باطل.
وقرأ جمهور الناس: «أن تأتيهم» ف أَنْ بدل من السَّاعَةَ. وقوله تعالى على هذه القراءة.
فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها إخبار مستأنف والفاء عاطفة جملة من الكلام على جملة. وقرأ أهل مكة فيما روى الرؤاسي «إن تأتهم» بكسر الألف وجزم الفعل على الشرط، والفاء في قوله: فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها جواب الشرط وليست بعاطفة على القراءة الأولى فثم نحو من معنى الشرط. و: بَغْتَةً معناه: فجأة، وروي عن أبي عمرو «بغتّة» بفتح الغين وشد التاء. وقوله: فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها على القراءتين معناه: فينبغي أن يقع الاستعداد والخوف منها لمن جزم ونظر لنفسه. والذي جاء من أشراط الساعة محمد عليه السلام لأنه آخر الأنبياء، فقد بان من أمر الساعة قدر ما، وفي الحديث عنه عليه السلام أنه قال: «أنا من أشراط الساعة وقد بعثت أنا والساعة كهاتين وكفرسي رهان». ويقال شرط وشرط: بسكون الراء وتخفيفها، وأشرط الرجل نفسه: ألزمها أمورا. وقال أوس بن حجر: [الطويل]
فأشرط فيها نفسه وهو معصم وألقى بأسباب له وتوكلا
وقوله تعالى: فَأَنَّى لَهُمْ الآية، يحتمل أن يكون المعنى: فَأَنَّى لَهُمْ الخلاص أو النجاة إِذْ جاءَتْهُمُ الذكرى بما كانوا يخبرون به في الدنيا فيكذبون به وجاءهم العذاب مع ذلك. ويحتمل أن يكون المعنى: فأنى لهم ذكراهم وعملهم بحسبها إذا جاءتهم الساعة، وهذا تأويل قتادة، نظيره: وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [سبإ: ٥٢].
وقوله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ الآية إضراب عن أمر هؤلاء المنافقين وذكر الأهم، والمعنى: دم على علمك، وهذا هو القانون في كل أمر بشيء هو متلبس به، وهذا خطاب للنبي عليه السلام، وكل واحد من الأمة داخل معه فيه. واحتج بهذه الآية من قال من أهل السنة: إن العلم والنظر قبل القول، والإقرار في مسألة أول الواجبات. وبوب البخاري رحمه الله العلم قبل القول والعمل لقوله تعالى:
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ الآية، وواجب على كل مؤمن أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات، فإنها صدقة. وقال الطبري وغيره: مُتَقَلَّبَكُمْ تصرفكم في يقظتكم. وَمَثْواكُمْ منامكم. وقال ابن عباس: مُتَقَلَّبَكُمْ تصرفكم في حياتكم الدنيا. وَمَثْواكُمْ في قبوركم وفي آخرتكم.
قوله عز وجل:
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ٢٠ الى ٢٣]
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (٢١) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢٢) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣)
116
هذا ابتداء وصف حال المؤمنين في جدهم في دين الله وحرصهم على ظهوره وحال المنافقين من الكسل والفشل والحرص على فساد دين الله وأهله، وذلك أن المؤمنين كان حرصهم يبعثهم على تمني الظهور وتمني قتال العدو وفضيحة المنافقين ونحو ذلك مما هو ظهور للإسلام، فكانوا يأنسون بالوحي ويستوحشون إذا أبطأ، والله تعالى قد جعل ذلك بآماد مضروبة وأوقات لا تتعدى، فمدح الله المؤمنين بحرصهم. وقولهم: لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ معناه: تتضمن إظهارنا وأمرنا بمجاهدة العدو ونحوه. ثم أخبر تعالى عن حال المنافقين عند نزول أمر القتال.
وقوله: مُحْكَمَةٌ معناه: لا يقع فيها نسخ، وبهذا الوجه خصص السورة بالأحكام، وأما الإحكام الذي هو بمعنى الإتقان، فالقرآن فيه كله سواء. وقال قتادة: كل سورة فيها القتال فهي محكمة، وهو أشد القرآن على المنافقين.
قال القاضي أبو محمد: وهذا أمر استقرأه قتادة من القرآن، وليس من تفسير هذه الآية في شيء.
وفي مصحف ابن مسعود: «سورة محدثة». والمرض الذي في القلوب: استعارة لفساد المعتقد وحقيقة الصحة والمرض في الأجسام، وتستعار للمعاني، ونظر الخائف الموله قريب من نظر الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ، وخسسهم هذا الوصف والتشبيه.
وقوله تعالى: فَأَوْلى لَهُمْ الآية، «أولى» : وزنه أفعل، من وليك الشيء يليك. وقالت فرقة وزنه:
أفلع، وفيه قلب، لأنه مشتق من الويل، والمشهور من استعمال «أولى» : أنك تقول: هذا أولى بك من هذا، أي أحق، وقد تستعمل «أولى» فقط على جهة الحذف والاختصار لما معها من القول، فتقول على جهة الزجر والتوعد: أولى لك يا فلان، وهذه الآية من هذا الباب، ومنه وقوله تعالى: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى [القيامة: ٣٤- ٣٥]، ومنه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه للحسن: أولى لك. وقالت فرقة من المفسرين: «أولى» رفع بالابتداء. و: طاعَةٌ خبره.
قال القاضي أبو محمد: فهذا هو المشهور من استعمال «أولى».
وقالت فرقة من المفسرين: أولى لَهُمْ ابتداء وخبر، معناه: الزجر والتوعد. ثم اختلفت هذه الفرقة في معنى قوله: طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فقال بعضها، التقدير: طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ أمثل، وهذا هو تأويل مجاهد ومذهب الخليل وسيبويه، وحسن الابتداء بالنكرة لأنها مخصصة، ففيها بعض التعريف.
وقال بعضها التقدير: الأمر طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ، أي الأمر المرضي لله تعالى. وقال بعضها التقدير قولهم لك يا محمد على جهة الهزء والخديعة طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فإذا عزم الأمر كرهوه، ونحو هذا من التقدير قاله قتادة. وقال أيضا ما معناه: إن تمام الكلام الذي معناه الزجر والتوعد ب «أولى». وقوله لَهُمْ
117
ابتداء كلام، ف طاعَةٌ على هذا القول: ابتداء، وخبره: لَهُمْ والمعنى أن ذلك منهم على جهة الخديعة، فإذا عزم الأمر ناقضوا وتعاصوا.
وقوله: عَزَمَ الْأَمْرُ استعارة كما قال:
قد جدت الحرب بكم فجدوا ومن هذا الباب: نام ليلك ونحوه.
وقوله: صَدَقُوا اللَّهَ يحتمل أن يكون من الصدق الذي هو ضد الكذب، ويحتمل أن يكون من قولك عود صدق، والمعنى متقارب.
وقوله تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ مخاطبة لهؤلاء الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي قل لهم يا محمد.
وقرأ نافع وأهل المدينة «عسيتم» بكسر السين. وقرأ أبو عمرو والحسن وعاصم وأبو جعفر وشيبة:
«عسيتم» بفتح السين، والفتح أفصح، لأنه من عسى التي تصحبها «أن». والمعنى: فهل عسى أن تفعلوا إِنْ تَوَلَّيْتُمْ غير أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ، وكأن الاستفهام الداخل على عسى غير معناها بعض التغيير كما يغير الاستفهام قولك: أو لو كان كذا وكذا. وقوله: إِنْ تَوَلَّيْتُمْ معناه: إن أعرضتم عن الحق. وقال قتادة: كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب الله ألم يسفكوا الدم الحرام وقطعوا الأرحام وعصوا الرحمن.
وقرأ جمهور القراء: «إن توليتم» والمعنى: إن أعرضتم عن الإسلام. وقال كعب الأحبار ومحمد بن كعب القرظي المعنى: إن توليتم أمور الناس من الولاية، وعلى هذا قيل إنها نزلت في بني هاشم وبني أمية، ذكره الثعلبي. وروى عبد الله بن مغفل عن النبي عليه السلام: «إن وليتم» بواو مضمومة ولام مكسورة. قرأ علي بن أبي طالب: «إن تولّيتم» بضم التاء والواو وكسر اللام المشددة على معنى: إن وليتكم ولاية الجور فملتم إلى دنياهم دون إمام العدل، أو على معنى: إن توليتم بالتعذيب والتنكيل وأفعال العرب في جاهليتها وسيرتها من الغارات والسباء، فإنما كانت ثمرتها الإفساد في الأرض وقطيعة الرحم، وقيل معناها: إن توليكم الناس ووكلكم الله إليهم.
وقرأ جمهور الناس: «وتقطّعوا» بضم التاء وشد الطاء المكسورة. وقرأ أبو عمرو: «وتقطعوا» بفتح التاء والطاء المخففة، وهي قراءة سلام ويعقوب.
وقوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ إشارة إلى مرضى القلوب المذكورين. و: لَعَنَهُمُ معناه: أبعدهم. وقوله: فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ استعارة لعدم سمعهم فكأنهم عمي وصم.
قوله عز وجل:
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ٢٤ الى ٢٨]
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٨)
118
قوله تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ توقيف وتوبيخ، وتدبر القرآن: زعيم بالتبيين والهدى.
و: أَمْ منقطعة وهي المقدرة ببل وألف الاستفهام.
وقوله تعالى: أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها استعارة للرين الذي منعهم الإيمان. وروي أن وفد اليمن وفد على النبي ﷺ وفيهم شاب، فقرأ رسول الله ﷺ هذه الآية، فقال الفتى عليها أقفالها حتى يفتحها الله ويفرجها، قال عمر: فعظم في عيني، فما زالت في نفس عمر رضي الله عنه حتى ولي الخلافة فاستعان بذلك الفتى.
وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ الآية، قال قتادة: إنها نزلت في قوم من اليهود كانوا قد عرفوا من التوراة أمر محمد عليه السلام وتبين لهم الهدى بهذا الوجه، فلما باشروا أمره حسدوه فارتدوا عن ذلك القدر من الهدى. وقال ابن عباس وغيره: نزلت في منافقين كانوا أسلموا ثم نافقت قلوبهم. والآية تعم كل من دخل في ضمن لفظها غابر الدهر. و: سَوَّلَ معناه: أرجاهم سولهم وأمانيهم، وقال أبو الفتح عن أبي علي أنه بمعنى: دلاهم، مأخوذ من السول: وهو الاسترخاء والتدلي.
وقرأ جمهور القراء: «وأملى لهم» وأمال ابن كثير وشبل وابن مصرف: «أملى». وفاعل أَمْلى هنا:
قال الحسن: هو الشَّيْطانُ جعل وعده الكاذب بالبقاء كالإملاء، وذلك أن الإملاء هو الإبقاء ملاوة من الدهر، يقال ملاوة وملاوة وملاوة بضم الميم وفتحها وكسرها، وهي القطعة من الزمن، ومنه الملوان الليل والنهار، فإذا أملى الشيطان إملاء لا صحة له إلا بطمعهم الكاذب، ويحتمل أن يكون الفاعل في أَمْلى الله عز وجل، كأنه قال: الشيطان سول لهم وأملى الله لهم. وحقيقة الإملاء إنما هو بيد الله عز وجل، وهذا هو الأرجح. وقرأ الأعرج ومجاهد والجحدري والأعمش: «وأملي لهم» بضم الهمزة وكسر اللام وإرسال ياء المتكلم، ورواها الخفاف عن أبي عمرو «وأملي» بفتح الياء على بناء الفعل للمفعول، وهي قراءة شيبة وابن سيرين والجحدري وعيسى البصري وعيسى الهمذاني، وهذا يحتمل فاعله من الخلاف ما في القراءة الأولى.
وقوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا الآية، قيل إنها نزلت في بني إسرائيل الذين تقدم ذكرهم في تفسير قوله: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا وروي أن قوما من قريظة والنضير كانوا يعدون المنافقين في أمر رسول الله ﷺ والخلاف عليه بنصر وموازرة، وذلك قولهم سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ.
وقرأ جمهور القراء «أسرارهم» بفتح الهمزة، وذلك على جمع سر، لأن أسرارهم كانت كثيرة. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «إسرارهم» بكسر الهمزة، وهي قراءة ابن وثاب وطلحة والأعمش، وهو مصدر اسم الجنس.
119
وقوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الآية، يحتمل أن يتوعدوا به على معنيين: أحدهما هذا هلعهم وجزعهم لفرض القتال وفراع الأعداء، فَكَيْفَ فزعهم وجزعهم إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ؟ والثاني أن يريد: هذه معاصيهم وعنادهم وكفرهم، فَكَيْفَ تكون حالهم مع الله إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ؟ وقال الطبري: المعنى وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ فَكَيْفَ علمه بها إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ. الْمَلائِكَةُ هنا:
ملك الموت والمصرفون معه. والضمير في يَضْرِبُونَ ل الْمَلائِكَةُ، وفي نحو هذا أحاديث تقتضي صفة الحال ومن قال إن الضمير في: يَضْرِبُونَ للكفار الذين يتوفون، فذلك ضعيف. و: ما أَسْخَطَ اللَّهَ هو الكفر. والرضوان هنا: الشرع والحق المؤدي إلى رضوان، وقد تقدم القول في تفسير قوله:
فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ.
وقرأ الأعمش: «فكيف إذا توفاهم الملائكة».
قوله عز وجل:
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ٢٩ الى ٣٢]
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (٣١) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (٣٢)
هذه الآية توبيخ للمنافقين وفضح لهم.
وقوله: أَمْ حَسِبَ توقيف وهي أَمْ المنقطعة، وتقدم تفسير مرض القلب. وقوله: أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ أي يبديها من مكانها في نفوسهم. والضغن: الحقد. وقوله تعالى: وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ مقاربة في شهرتهم، ولكنه تعالى لم يعينهم قط بالأسماء والتعريف التام إبقاء عليهم وعلى قرابتهم، وإن كانوا قد عرفوا ب لَحْنِ الْقَوْلِ وكانوا في الاشتهار على مراتب كعبد الله بن أبيّ والجد بن قيس وغيرهم ممن دونهم في الشهرة. والسيما: العلامة التي كان تعالى يجعل لهم لو أراد التعريف التام بهم. وقال ابن عباس والضحاك: إن الله تعالى قد عرفه بهم في سورة براءة. في قوله: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً [التوبة: ٨٤] وفي قوله: فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا [التوبة: ٨٣].
قال القاضي أبو محمد: وهذا في الحقيقة ليس بتعريف تام، بل هو لفظ يشير إليهم على الإجمال لا أنه سمى أحدا. وأعظم ما روي في اشتهارهم أن رسول الله ﷺ أمر يوما فأخرجت منهم جماعة من المسجد كأنه وسمهم بهذا لكنهم أقاموا على التبري من ذلك وتمسكوا بلا إله إلا الله فحقنت دماؤهم. وروي عن حذيفة ما يقتضي أن النبي عليه السلام عرفه بهم أو ببعضهم، وله في ذلك كلام مع عمر رضي الله عنه. ثم أخبر تعالى أنه سيعرفهم فِي لَحْنِ الْقَوْلِ، ومعناه في مذهب القول ومنحاه
120
ومقصده، وهذا هو كما يقول لك إنسان معتقده وتفهم أنت من مقاطع كلامه وهيئته وقرائن أمره أنه على خلاف ما يقول، وهذا معنى قوله: فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ومن هذا المعنى قول النبي عليه السلام: «فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض»، الحديث أي أذهب بها في جهات الكلام، وقد يكون هذا اللحن متفقا عليه: أن يقول الإنسان قولا يفهم السامعون منه معنى، ويفهم الذي اتفق مع المتكلم معنى آخر، ومنه الحديث الذي قال سعد بن معاذ وابن رواحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: عضل والقارة وفي هذا المعنى قول الشاعر [مالك بن أسماء] :[الخفيف] وخير الحديث ما كان لحنا أي ما فهمه عنك صاحبك وخفي على غيره، فأخبر الله محمدا رسوله عليه السلام أن أقوالهم المحرقة التي هي على خلاف عقدهم ستتبين له فيعرفهم بها، واحتج بهذه الآية من جعل في التعريض بالقذف.
وقوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ مخاطبة للجميع من مؤمن وكافر.
وقرأ جمهور القراء: «ولنبلونكم» بالنون، وكذلك «نعلم» وكذلك «نبلوا»، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر: «وليبلونكم الله»، وكذلك «يعلم» «ويبلو». وروى رويس عن يعقوب: «ويبلو» بالرفع على القطع والإعلام بأن ابتلاءه دائم. وكان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية بكى، وقال: اللهم لا تبتلنا، فإنك إن ابتليتنا فضحتنا وهتكت أستارنا.
وقوله تعالى: حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ أي حتى يعلمهم مجاهدين قد خرج جهادهم إلى الوجود وبان تكسبهم الذي به يتعلق ثوابهم، وعلم الله بالمجاهدين قديم أزلي، وإنما المعنى ما ذكرناه.
وقوله تعالى: وَصَدُّوا يحتمل أن يكون المعنى: وَصَدُّوا غيرهم، ويحتمل أن يكون غير متعد، بمعنى: وصدوهم في أنفسهم.
وقوله: وَشَاقُّوا الرَّسُولَ معناه: خالفوه، فكانوا في شق وهو في شق. وقوله: مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى قالت فرقة: نزلت في قوم من بني إسرائيل فعلوا هذه الأفاعيل بعد تبينهم لأمر محمد عليه السلام من التوراة. وقالت فرقة: نزلت في قوم من المنافقين حدث النفاق في نفوسهم بعد ما كان الإيمان داخلها. وقال ابن عباس: نزلت في المطعمين سفرة بدر، و: «تبين الهدى» هو وجوده عند الداعي إليه.
وقالت فرقة: بل هي عامة في كل كافر، وألزمهم أنه قد تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى من حيث كان الهدى بينا في نفسه، وهذا كما تقول لإنسان يخالفك في احتجاج على معنى التوبيخ له: أنت تخالف في شيء لا خفاء به عليك، بمعنى أنه هكذا هو في نفسه. وقوله: لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ تحقير لهم.
وقوله: وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ إما على قول من يرى أن أعمالهم الصالحة من صلة رحم ونحوه تكتب فيجيء هذا الإحباط فيها متمكنا، وإما على قول من لا يرى ذلك، فمعنى وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ أنها عبارة عن إعدامه أعمالهم وإفسادها، وأنها لا توجد شيئا منتفعا به، فذلك إحباط على تشبيه واستعارة.
121
قوله عز وجل:
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ٣٣ الى ٣٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (٣٣) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (٣٤) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٣٥)
روي أن هذه الآية نزلت في بني أسد من العرب، وذلك أنهم أسلموا وقالوا لرسول الله عليه السلام:
نحن قد آثرناك على كل شيء وجئناك بنفوسنا وأهلنا، كأنهم منوا بذلك، فنزل فيهم: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا [الحجرات: ١٧] ونزلت فيهم هذه الآية.
قال القاضي أبو محمد: فإن كان هذا فالإبطال الذي نهوا عنه ليس بمعنى الإفساد التام، لأن الإفساد التام لا يكون إلا بالكفر، وإلا فالحسنات لا تبطلها المعاصي، وإن كانت الآية عامة على ظاهرها نهي الناس عن إبطال أعمالهم بالكفر، والإبطال هو الإفساد التام.
وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ روي أنها نزلت بسبب عدي بن حاتم قال: يا رسول الله إن حاتما كانت له أفعال بر فما حاله؟ فقال رسوله الله ﷺ «هو في النار»، فبكى عدي وولى، فدعاه رسول الله ﷺ فقال له: أبي وأبوك وأبو إبراهيم خليل الرحمن في النار ونزلت هذه الآية في ذلك، وظاهر الآية العموم في كل ما تناولته الصفة.
وقوله تعالى: فَلا تَهِنُوا معناه: فلا تضعفوا، من وهن الرجل إذا ضعف.
وقرأ جمهور الناس: «وتدعوا» وقرأ أبو عبد الرحمن: «وتدّعوا» بشد الدال. وقرأ جمهور القراء: «إلى السلم» بفتح السين. وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم: «إلى السلم» بكسر السين. وهي قراءة الحسن وأبي رجاء والأعمش وعيسى وطلحة وهو بمعنى المسالمة. وقال الحسن بن أبي الحسن وفرقة ممن كسر السين إنه بمعنى إلى الإسلام، أي لا تهنوا وتكونوا داعين إلى الإسلام فقط دون مقاتلين بسببه. وقال قتادة معنى الآية: لا تكونوا أول الطائفتين ضرعت للأخرى.
قال القاضي أبو محمد: وهذا حسن ملتئم مع قوله: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها [الأنفال: ٦١].
وقوله: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ يحتمل موضعين أحدهما: أن يكون في موضع الحال، المعنى: لا تهنوا وأنتم في هذه الحال. والمعنى الثاني: أن يكون إخبارا بنصره ومعونته. و «يتر»، معناه ينقص ويذهب، ومنه قوله عليه السلام: «من ترك صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله» أي ذهب بجميع ذلك على جهة التغلب والقهر، والمعنى: لن يتركم ثواب أعمالكم وجزاء أعمالكم. واللفظة مأخوذة من الوتر الذي هو الدحل، وذهب قوم إلى أنه مأخوذ من الوتر الذي هو الفرد، المعنى لن يفردكم من ثواب أعمالكم، والأول أصح، وفسر ابن عباس وأصحابه يَتِرَكُمْ بيظلمكم.
قوله عز وجل:
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ٣٦ الى ٣٨]
إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (٣٨)
قوله تعالى: إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ تحقير لأمر الدنيا، أي فلا تهنوا في الجهاد بسببها، ووصفها باللعب واللهو هو على أنها وما فيها مما يختص بها لعب، وإلا ففي الدنيا ما ليس بلعب ولا لهو، وهو الطاعة وأمر الآخرة وما جرى مجراه.
وقوله تعالى: وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ معناه هذا هو المطلوب منكم لا غيره، لا تسألون أموالكم أن تنفقوها في سبيل الله. وقال سفيان بن عيينة: لا يسألكم كثيرا من أموالكم إحفاء إنما يسألكم غيضا من فيض ربع العشر فطيبوا أنفسكم، ثم قال تعالى منبها على خلق ابن آدم إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا والإحفاء هو أشد السؤال وهو المخجل المخرج ما عند المسئول كرها، ومنه حفاء الرجل.
والتحفي من البحث عن الشيء. وقوله: تَبْخَلُوا جزم على جواب شرط.
وقرأ جمهور القراء: «ويخرج» جزما على تَبْخَلُوا. وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو: «ويخرج» بالرفع على القطع، بمعنى هو يخرج، وحكاها أبو حاتم عن عيسى وقرأت فرقة: وَبالنصب على معنى:
يكن بخل وإخراج، فلما جاءت العبارة بفعل دل على أن التي مع الفعل بتأويل المصدر الذي هو الإخراج، والفاعل في قوله: وَيُخْرِجْ على كل الاختلافات يحتمل أن يكون الله، ويحتمل أن يكون البخل الذي تضمنه اللفظ، ويحتمل أن يكون السؤال الذي يتضمنه اللفظ أيضا. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن سيرين وابن محيصن وأيوب: «يخرج» بفتح الياء «أضغانكم» رفعا على أنها فاعلة وروي عنهم: «وتخرج» بضم التاء وفتح الراء على ما لم يسم فاعله.
وقرأ يعقوب: «ونخرج» بضم النون وكسر الراء «أضغانكم» نصبا. والأضغان كما قلنا معتقدات السوء، وهذا الذي كان يخاف أن يعتري المسلمين هو الذي تقرب به محمد بن مسلمة إلى كعب بن الأشرف حين قال له: إن هذا الرجل قد أكثر علينا وطلب منا الأموال ثم وقف تعالى عباده المؤمنين على جهة التوبيخ لبعضهم ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ وكرر هاء التنبيه تأكيدا.
وقوله: عَنْ نَفْسِهِ يحتمل معنيين، أحدهما: فإنما يبخل عن شح نفسه، والآخر أن يكون بمنزلة على، لأنك تقول: بخلت عليك وبخلت عنك، بمعنى: أمسكت عنك.
وقوله تعالى: وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ معنى مطرد في قليل الأشياء وكثيرها.
123
وقوله تعالى: يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ قيل الخطاب لقريش، والقوم الغير هم أهل المدينة. وقال عبد الرحمن بن جبير وشريح بن عبيد: الخطاب لمن حضر المدينة. والقوم الغير: فارس. وروى أبو هريرة أن رسول الله ﷺ سئل عن هذا وكان سلمان إلى جنبه فوضع يده على فخذه وقال: قوم هذا، لو كان الدين بالثريا لناله رجال من أهل فارس.
وقوله: أَمْثالَكُمْ معناه في الخلاف والتولي والبخل بالأموال ونحو هذا، وحكى الثعلبي أن القوم الغير: هم الملائكة.
نجز تفسير سورة القتال، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
124
Icon