تفسير سورة الحجرات

الصراط المستقيم في تبيان القرآن الكريم
تفسير سورة سورة الحجرات من كتاب الصراط المستقيم في تبيان القرآن الكريم .
لمؤلفه الكَازَرُوني . المتوفي سنة 923 هـ

لَمَّا أثنى على الصَّحابة وبين علوهم، نهاهم عمَّا يوجب انحطاطهم فقال: ﴿ بِسمِ ٱللهِ ٱلرَّحْمٰنِ ٱلرَّحِيـمِ * يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ ﴾: أمْراً، ولا تتقدموا قولا فعلا ﴿ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾: أي: قبل إذنهما ﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ ﴾: لقولكم ﴿ عَلِيمٌ ﴾: بفعلكم، نزلت في صوم يوم الشك أو النحر قبل الصلاة، أو تنازع الشيخين في حضرته صلى الله عليه وسلم ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ ﴾: في المكاملة ﴿ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِٱلْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ ﴾: كراهة ﴿ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ ﴾ إذ في الجهر استخفاف يؤدي إلى الكفر المُحْبط وهو مجاز عن انحطاط المنزلة ﴿ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ ﴾: بحبطها ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَغُضُّونَ ﴾: يخْفِضون ﴿ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ ﴾: كأبي بكر وعمر رضي الله عنهما بعد نزولها ﴿ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱمْتَحَنَ ﴾: أخلص ﴿ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾: تخليص الذهب عن الخبث وعن عمر رضي الله عنه: أذهب الشبهات عنها ﴿ لِلتَّقْوَىٰ ﴾: لإظهار تقواهم ﴿ لَهُم مَّغْفِرَةٌ ﴾: عظيمةٌ ﴿ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * إِنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ ﴾: خارج ﴿ ٱلْحُجُرَاتِ ﴾: التي لنسائه عليه الصلاة والسلام كعُيَيْنة، والأقرع التميْمِيّيْن ﴿ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾: إذ العقل يقتضي الأدب ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ ﴾: أي: لو ثبت صبرهم ﴿ حَتَّىٰ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ ﴾: الصبر ﴿ خَيْراً لَّهُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾: لمن تاب ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ ﴾: كالوليد بن عتبة، أرسله عليه الصلاة ولاسلام لأخذ زكاة بني المُصْطلق فاستقبلوه فخافهم لعداوتهم في الجاهلية ورجع وقال: منعوها فهمَّ عليه الصلاة والسلام بعزوهم، فجاءوا منكرين ذلك ﴿ فَتَبَيَّنُوۤاْ ﴾: تفحصوا صدقة كراهة ﴿ أَن تُصِيبُواْ قَوْمًا ﴾: بُرَآء ﴿ بِجَهَالَةٍ ﴾: جاهلين بهم ﴿ فَتُصْبِحُواْ ﴾ تصيروا ﴿ عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾: أفاد بترتيب الحكم على الفسق، جواز قبول خبر عدل واحد ﴿ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ ٱللَّهِ ﴾: على حاله ﴿ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ ﴾: كما أشار بعضكم بإيقاعه ببني المصطلق ﴿ لَعَنِتُّمْ ﴾: لوَقَعتهم في إثم وجهد، أفهم أنه عليه الصلاة والسلام قد يوافقهم، ويعضده:﴿ وَشَاوِرْهُمْ... ﴾[آل عمران: ١٥٩] إلى آخره ﴿ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ٱلْكُفْرَ وَٱلْفُسُوقَ ﴾: الكبائر ﴿ وَٱلْعِصْيَانَ ﴾: الصغائر، وهذه الكرامة حملتكم على أمره بالإيقاع بهم لما سمعتم قول الوليد، وذه الثلاثة في مقابلة الإيمان الكامل ﴿ أُوْلَـٰئِكَ ﴾: المستثنون ﴿ هُمُ ٱلرَّاشِدُونَ ﴾: إلى الطريق ﴿ فَضْلاً ﴾ تعليل لكره و " حبب " ﴿ مِّنَ ٱللَّهِ وَنِعْمَةً وَٱللَّهُ عَلِيمٌ ﴾: بخلقه ﴿ حَكِيمٌ ﴾: في فعله ﴿ وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ ﴾: كالأوس والخرزج حين أساء ابن أبي مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأفاد بإنْ، أنه ينبغي قِلَّته بينهم ﴿ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا ﴾: بالنصح والدعاء إلى الشرع، جمع للمعني، وثنى للفظ ﴿ فَإِن بَغَتْ ﴾: تعدت ﴿ إِحْدَاهُمَا عَلَىٰ ٱلأُخْرَىٰ فَقَاتِلُواْ ٱلَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيۤءَ ﴾: ترجع ﴿ إِلَىٰ أَمْرِ ﴾: حكم ﴿ ٱللَّهِ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِٱلْعَدْلِ ﴾: قيد به لأنه مظنة الحيف لكونه بعد المقاتلة ﴿ وَأَقْسِطُوۤاْ ﴾: اعدلوا ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾: دينا ﴿ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ﴾: المتنازعين، خصَّ الاثنين لأنهما أقل المتقابلين ولنزوله في الأوس والخزرج وإيثار الأخوة الغالبة في النسب على الإخوان الغالبة في الصَّداقة للتأكيد ﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾: أفادت الآيتان بقاء اسم الإيمان مع البغي ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾: بعد أن عرفتهم أُخْوَّتكم ﴿ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ ﴾: كوفد بني تميم ﴿ مِّن قَوْمٍ ﴾: كفقراء المسلمين ﴿ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ ﴾: عند الله تعالى، والقوم للرجال إلاَّ في التغليب، وخصَّ الجمع لأن السخرية منهم غالبا ﴿ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوۤاْ ﴾: تعيبوا ﴿ أَنفُسَكُمْ ﴾: بعضكم بعضا، واللَّمر: الطعن باللسان، أو لا تفعوا ما تستخفونه ﴿ وَلاَ تَنَابَزُواْ ﴾: لا يدعوا بعضكم بعضا يما يكرهه، والنَّبْرُ عرفا: سوء اللقب ﴿ بِٱلأَلْقَابِ بِئْسَ ٱلاسْمُ ﴾: الصفة ﴿ ٱلْفُسُوقُ ﴾: من السخرية واللمز والنبز ﴿ بَعْدَ ٱلإَيمَانِ ﴾: فإنه يأباها أو أراد تهجين نسبة الفسق إلى المؤمن ﴿ وَمَن لَّمْ يَتُبْ ﴾: عنه ﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ ﴾: ذكر ثلاثة أوصاف كل دون الآخر، إذ السخرية: الاستصغار، ثم اللّمْز الذي هو ذكره بعيب فيه، ثم فيه غيبته ثم النبز الذي هو مجرد تسميته.
﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ ٱلظَّنِّ ﴾: أبهم ليحتاط في كل ظنٍّ ﴿ إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنِّ ﴾: وهو ظن السوء بأهل الخير ﴿ إِثْمٌ ﴾: هو مَا تَستحق به العقوبة أو ما يثبط عن الثواب، قال الثوري: الظن ظنان، ما يتكلم به، وهو إثم، وما لا يتكلم به وهو ليس بإثم ﴿ وَلاَ تَجَسَّسُواْ ﴾: لا تتبعوا المعايب ﴿ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً ﴾: كمن قال في سليمان: لو بعثناه إلى بئر لغار ماؤها، والغيبة ذكره بما يكرهه ولو بغير بلفظ وإن لم يكن فيه فبهتان ﴿ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ ﴾: إن عرض عليكم، أي: أكله فأكرهوا الغيبة فإنها مثله إذ اللحم يستر على العظام، وهو كأنه يكشفه ﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ ﴾: مكثر قبول توبة التائب ﴿ رَّحِيمٌ ﴾: به ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ ﴾: آدم ﴿ وَأُنْثَىٰ ﴾: حواء ﴿ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً ﴾: جمع شعب بالفتح، مجتمع القبائل ﴿ وَقَبَآئِلَ ﴾: هي مُجْتمع العمائر، وهي للْبُطُون وهيَ للأفخاذ، وهي للْفصائل، مثالها مرتبا: خُزيمة، كنانة، قريش، قَصيٌّ، هاشمٌ، عباسٌ، وقيل: بين الأفخاذ والفصائل: العشائر، أو الشعوب، لمن لا يعرف نسبته كالعجم والقبائل للعرب أو للأبعد والأقر وذكر الأعمَّ، لأنه أذهب بالافتخار ﴿ لِتَعَارَفُوۤاْ ﴾: قرابتكم، فتصلوا لا للتفاخر، إذ الفخر بالتقوى ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾: بظواهركم وبواطنكم ﴿ قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ ﴾: البدويون من بني أسد حين جاءوا طمعا في الصدقة ﴿ آمَنَّا ﴾: صدقنا بقلوبنا، وما قاتلناك كبني فلان ﴿ قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ﴾: إذ منتكم هذه تنافي طمأنينة قلوبكم ﴿ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا ﴾: انقدنا ظاهراً ﴿ وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ ﴾: إلى الآن ﴿ فِي قُلُوبِكُمْ ﴾: ولكنه يَتَوقّعُ. * تنبيه: اعلم أن الإسلام هو الانقياد الظاهر المملوك بالشهادتين عند القدرة والإقرار بما ترتب عليه، والإسلام الصحيح إنما يكون مع الإيمان والشهادتين والصلاة والزكاة والصوم والحج، وقد ينفك الإسلام الظاهر عن الإيمان كما مر بخلاف الإسلام الحقيقي فلا ينفك، لكن الإيمان الحقيقي قد ينفك عن الإسلام الحقيقي في المصدق في قلبه التارك للأعمال - والله أعلم. ﴿ وَإِن تُطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾: بالقَلب ﴿ لاَ يَلِتْكُمْ ﴾: لا ينقصكم ﴿ مِّنْ ﴾: جزاء ﴿ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً ﴾: الظاهر أن معناهك إذا أتيتم بما يليق بضعفكم من الحسنة فهو فيؤتيكم ما يليق من الجزاء كفقير أهدى تفاحة إلى ملك ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ ﴾: لضعف عقيدتهم، فيه إشارة إلى موجب نفي إيمانهم ﴿ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ ﴾: في الإيمان ﴿ قُلْ أَتُعَلِّمُونَ ﴾: تُخْبرون ﴿ ٱللَّهَ بِدِينِكُمْ ﴾ بقولكم: آمنّا ﴿ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ ﴾: بأن ﴿ أَسْلَمُواْ ﴾: بلا قتال، أفاد أن الذي عبروا عنه بالإيمان هو الإسلام حقيقة، وأفاد بقوله ﴿ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ ﴾: أي: لإسلامكم أنه غير معتد به، بل إسلامٌ يليق بأمثالهم ﴿ بَلِ ٱللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ ﴾: بأن ﴿ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾: فيه فله المِنَّةُ عليكم ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾: فكيف يخفى على دينكم - والله أعْلَمُ.
Icon