تفسير سورة الحجرات

صفوة البيان لمعاني القرآن
تفسير سورة سورة الحجرات من كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن .
لمؤلفه حسنين مخلوف . المتوفي سنة 1410 هـ
مدنية، وآياتها ثماني عشر

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ﴾ لا تقطعوا أمرا، وتجترئوا على ارتكابه قبل أن يحكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم به ويأذنا فيه. وهو إرشاد عام في كل شيء. ومنع من الافتئات على الله ورسوله في أي أمر. و﴿ تقدموا ﴾ من قدم المتعدي. تقول : قدمت فلان على فلان، جعلته متقدما عليه وحذف مفعوله قصدا إلى التعميم. و " بين يدي الله ورسوله " تمثيل للتعجل في الإقدام على قطع الحكم في أمر من أمور الدين بغير إذن من الله ورسوله – بحالة من تقدم بين يدي متبوعه إذا سار في طريق ؛ فإنه في العادة مستهجن. أو المراد : بين يدي رسول الله ؛ وذكر لفظ الجلالة تعظيما للرسول، وإشعارا بأنه من الله تعالى بمكان يوجب إجلاله.
﴿ لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ﴾ نهى عن زيادة صوتهم على صوته في المكالمة. ﴿ ولا تجهروا له بالقول... ﴾ نهى عن مساواة أصواتهم بصوته صلى الله عليه وسلم في المكالمة ؛ فإن ذلك شأن الأقران والنظراء. والمراد بالنهيين : أن يجعلوا أصواتهم في مخاطبته أخفض من صوته صلى الله عليه وسلم، ويتعهدوا في مخاطبته الخفض القريب من الهمس ؛ كما هو الأدب عند مخاطبة المهيب المعظم. ﴿ أن تحبط أعمالكم ﴾ أي خشية أن يبطل ثواب أعمالكم بفعل المنهى عنه.
﴿ إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله ﴾ يخفضونها إجلالا له صلى الله عليه وسلم. يقال : غض من صوته وغض طرفه، خفضه. وكل شيء كففته فقد غضضته. وباب الكل رد. ﴿ أولئك الذين امتحن الله قلوبهم... ﴾ أخلصها للتقوى، أي جعلها خالصة لها ؛ فلم يبق لغير التقوى فيها حق، كأن القلوب خلصت ملكا للتقوى. وأصله من امتحان الذهب وإذابته ليخلص إبريزه من خبثه وينقى. واستعير لما ذكر لتخليص القلوب فيه من جميع الشوائب. نزلت في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ؛ فقد كان أبو بكر بعد نزول الآية السابقة لا يكلم النبي صلى الله عليه وسلم إلا كأخي السّرار. وكان عمر إذا تكلم عند الرسول صلى الله عليه وسلم لم يسمع كلامه حتى يستفهمه مما يخفض صوته.
﴿ إن الذين ينادونك من وراء الحجرات... ﴾ أي حجرات نسائه صلى الله عليه وسلم. جمع حجرة، وهي القطعة من الأرض المحجورة، أي الممنوعة من الدخول فيها بحائط أو نحوه. نزلت في وفد بني تميم، وكانوا أعرابا جفاة، قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم حتى أتوا منزله فنادوه من وراء الحجرات بصوت جاف : يا محمد، أخرج إلينا ! ثلاثا. ﴿ أكثرهم لا يعقلون ﴾ لا يجزون على مقتضى العقل من مراعاة الأدب مع أعظم خلق الله تعالى. وعبر بالأكثر لأن منهم من لم يقصد ترك الأدب، بل نادى لأمر ما.
﴿ إن جاءكم فاسق ﴾ وهو من أخل بشيء من أحكام الشرع بترك مأمور به، أو فعل منهى عنه. ﴿ فتبينوا ﴾ أي اطلبوا البيان والمعرفة. وقرئ " فتئبتوا " وهو قريب منه. أي إن أخبركم فاسق بخبر فتعرفوا صدقه، وتثبتوا منه خشية أن تصيبوا قوما بمكروه بسبب جهالتكم الحال ؛ فتندموا على ما فعلتم بهم، متمنين أنه لم يقع منكم. والندم : الغم على وقوع شيء مع تمنى عدم وقوعه.
﴿ لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ﴾ أي لو يطيعكم في كثير من الأخبار، وهو الباطل منها، فيرتب عليه أحكامه لوقعتم في الجهد والتعب، أو في الإثم والهلاك. ولكنه صلى الله عليه وسلم لا يطيعكم في غالب ما تخبرونه به قبل التبيّن والتثبت، ولا يسارع إلى العمل بما يبلغه قبل النظر فيه. والعنت : الوقوع في أمر شاق، والإثم. يقال : عنت فلان – من باب طرب – عنتا، إذا وقع في أمر يخاف منه التلف. والخطاب لغير الكمّل من المؤمنين. ﴿ ولكن الله حبب إليكم الإيمان ﴾ والمحبب إليهم ذلك هم الكمّل منهم.
﴿ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا... ﴾ أي تقاتلوا﴿ فأصلحوا بينهما ﴾ وجوبا بالنصح وإزالة الشبهة وأسباب الخصام، والدعاء إلى حكم الله تعالى.
والخطاب لأولى الأمر. ﴿ فإن بغت إحداهما على الأخرى ﴾ تعدت عليها بغير حق، وأبت الصلح والإجابة إلى حكم الله﴿ فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله ﴾ أي ترجع إلى حكمه﴿ فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل ﴾ بفصل ما بينهما على حكم الله، ولا تكتفوا بمجرد متاركتهما ؛ عسى أن يكون بينهما قتال فيما بعد﴿ وأقسطوا ﴾ اعدلوا في كل أمر ؛ وهو تأكيد ؛ وهو تأكيد لقوله " بالعدل ". ﴿ إن الله يحب المقسطين ﴾ العادلين ؛ فيجازيهم أحسن الجزاء.
﴿ إنما المؤمنون إخوة... ﴾ يجمعهم أصل واحد، وهو الإيمان ؛ كما يجمع الإخوة أصل واحد وهو النسب. وكما أن أخوة النسب داعية إلى الواصل والتراحم والتناصر في دفع الشر وجلب الخير ؛ كذلك الأخوة في الدين تدعو إلى ذلك، بل هي أدعى إليه ؛ لأنها في الله ولله عز وجل !.
﴿ لا يسخر قوم من قوم ﴾ لا يحتقر بعض المؤمنين بعضا، ولا يهزأ بعضهم من بعض ؛ من السخرية، وهي احتقار الإنسان قولا أو فعلا بحضرته على وجه يضحك. يقال : سخرت منه سخرا – من باب تعب – ومسخرا وسخرا – بضمتين – هزأت به. والاسم السخرية. روي أنها نزلت في قوم من بني تميم سخروا من بلال وعمار وصهيب وأمثالهم لما رأوا من رثاثة حالهم. ﴿ ولا تلمزوا أنفسكم ﴾ لا يعب بعضكم بعضا بقول أو إشارة، سواء أكان على وجه يضحك أم لا، وسواء أكان بحضرته أم لا. واللمز : العيب. وفعله من باب ضرب ونصر. وعطف هذا النهى على ما قبله من عطف العام على الخاص. ﴿ ولا تنابزوا بالألقاب ﴾ لا يدع بعضكم بعضا بما يستكره من الألقاب. والتنابز : التعاير والتداعي بالألقاب. يقال : نبزه ينبزه، لقبه كنبزه : والنبز – بالتحريك - : اللقب، محبوبا كان أو مكروها. وخصّ عرفا بالمكروه. ﴿ بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ﴾ أي بئس الذكر للمؤمنين بسبب ارتكاب واحد من هذه الأمور الثلاثة القبيحة – أن يذكروا بالفسوق بعد اتصافهم بالإيمان.
﴿ اجتنبوا كثيرا من الظن ﴾ أي تباعدوا منه. نهوا عن ظنون السوء بأهل الخير من المؤمنين، التي لا تستند إلى دليل أو أمارة صحيحة وسبب ظاهر، وإنما هي مجردتهم ؛ مع كون المظنون به ممن شوهد منه التستر والصلاح، وأونست منه الأمانة في الظاهر. وفي الحديث :( إن الله تعالى حرم من المسلم دمه وعرضه وأن يظن به ظن السوء ). وأما من يلابس الريب، ويجاهر بالخبائث فلا يحرم سوء الظن فيه ؛ وإن لم يره الظان متلبسا بها. ﴿ إن بعض الظن إثم ﴾ أي مؤثم. والإثم : الذنب الذي تستحق العقوبة عليه : يقال : أثم يأثم إثما فهو آثم، أي مرتكب ذنبا. وبابه علم. وهذا البعض هو الكثير المأمور باجتنابه. ﴿ ولا تجسسوا ﴾ أي خذوا ما ظهر، ولا تتبعوا عورات المسلمين ومعايبهم، وما ستروه من أمورهم ؛ فإن من تتبع عوراتهم تتبع الله عورته حتى يفضحه ولو في جوف بيته. وقرئ " تحسسوا "
بالحاء ؛ من الحس الذي هو أثر الجس وغايته. وقيل : التجسس والتحسس بمعنى، وهو تعرف الأخبار. ﴿ ولا يغتب بعضكم بعضا ﴾ نهوا عن الغيبة، وهي ذكر العيب بظهر الغيب. يقال : اغتابه اغتيابا، إذا وقع فيه. والاسم الغيبة، وهي من الكبائر. ﴿ أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا ﴾ تمثيل لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفحش وجه. ﴿ فكرهتموه ﴾ تقرير لذلك، أي فقد كرهتموه فلا تفعلوه. أو عرض عليكم ذلك فكرهتموه.
﴿ إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ﴾ أي من آدم وحواء فأنتم من ذلك سواء ؛ فلا محل للتفاخر بالأنساب. وقد كانوا يتفاخرون بها ويزدرون بالضعفاء والفقراء. ﴿ وجعلناكم شعوبا وقبائل ﴾ جمع شعب، وهو الجمع العظيم المنسوبون إلى أصل واحد، وهو يجمع القبائل، والقبيلة تجمع العمائر، والعمارة تجمع البطون، والبطن يجمع الأفخاذ، والفخذ تجمع الفصائل، والفصيلة تجمع العشائر. ﴿ لتعارفوا ﴾ ليعرف بعضكم بعضا ؛ فتصلوا الأرحام وتتبينوا الأنساب وتتعاونوا على البر ؛ لا للتفاخر والتطاول بالآباء والقبائل.
﴿ إن أكرمكم عند الله أتقاكم ﴾ أي إن أرفعكم منزلة لديه عز وجل في الدنيا والآخرة هو الأتقى ؛ فإن فاخرتم ففاخروا بالتقوى. وفي الحديث :( يأيها الناس ألا إن ربكم واحد، لا فضل لعربي على عجمي، ولا عجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى، ألا هل بلغت – قالوا بلى يا رسول الله ! قال :- فليبلغ الشاهد الغائب ).
﴿ قالت الأعراب آمنا ﴾ من الإيمان، وهو التصديق مع الثقة وطمأنينة القلب. نزلت في بني أسد ابن خزيمة، وقد أظهروا الإسلام نفاقا ؛ طعما في المغانم، وكانوا يمنون على رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامهم. ﴿ قل لم تؤمنوا ﴾ بقلوبكم﴿ ولكن قولوا أسلمنا ﴾ من الإسلام، وهو الانقياد الظاهري بالجوارح. والذين أسلموا بظواهرهم ولم يؤمنوا بقلوبهم هم المنافقون. ﴿ ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ﴾
أي لم يدخل فيها، ولكنه متوقع منكم ؛ وقد آمنوا كلهم أو بعضهم. ﴿ لا يلتكم من أعمالكم شيئا ﴾ لا ينقصكم من أجور أعمالكم شيئا من النقص. يقال : لاته حقه – كباعه – نقصه.
والله أعلم.
Icon