تفسير سورة الحجرات

تفسير آيات الأحكام للسايس
تفسير سورة سورة الحجرات من كتاب تفسير آيات الأحكام للسايس المعروف بـتفسير آيات الأحكام للسايس .
لمؤلفه محمد علي السايس .

من سورة الحجرات
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨)
اشتملت سورة الحجرات على إرشاد المؤمنين إلى مكارم الأخلاق، وبيّنت لهم أقوم الطرق التي يسلكونها في حياتهم الدنيا، وخير المناهج التي ينتهجونها في معاملتهم، فبيّنت لهم أنواعا من الأدب، تختلف باختلاف من تكون المعاملة معه.
وذلك أنه إمّا أن تكون المعاملة: مع الله تعالى، أو مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم، أو مع غيرهم من بني آدم وهؤلاء على قسمين، لأنهم إما مؤمنين ملتزمين الطاعة، أو خارجين عن حدودها وهؤلاء هم الفاسقون. والمؤمن الذي التزم حدود الطاعة إما أن يكون حاضرا أو غائبا، فهذه خمسة أصناف.
وقد جاء خطاب المؤمنين ب (يا أيها الذين آمنوا) في هذه السورة خمس مرات، بيّن تعالى في كلّ مرّة مكرمة تتناسب مع من تكون المعاملة معه.
- فقال في جانب الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وذكر الرسول صلّى الله عليه وسلّم إنما جيء به هنا لأنه الذي يوضّح طريق طاعة الله تعالى.
- وقال في جانب المعاملة مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ.
- وقال في جانب المؤمن الخارج عن حدود الطاعة (الفاسق) : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا.
- وقال في جانب المعاملة مع المؤمنين الحاضرين: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ.
- وقال في جانب الغائب: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ.
695
ومن أراد أن يقف على المكرمتين الأوليين فليطلبهما في كتب التفسير. ولنبدأ بالآية التي معنا.
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦).
يحذّر الله المؤمنين في هذه الآية، ويرشدهم إلى وجوب عدم الاعتماد على أقوال الكذبة الفاسقين، فإنّ الاستماع إليهم يوقع الفتنة بين المؤمنين، فيفشلوا، وتذهب ريحهم، وتتمكن العداوة والبغضاء من نفوسهم، وحينئذ يعضّون أصابعهم ندما، ولا ينفع الندم.
وقد يبدو أنّ مقتضى الترتيب أن تؤخّر آية الفاسق بعد آيات المؤمنين، ولكن لما كان الاستماع إلى الفاسق والاعتماد عليه قد يؤدي إلى فتنة وفساد كبير قدّم الكلام فيه، اعتناء بأمر المسلمين، واهتماما بأمر سلامتهم من الفتن، التي يجرّها الاعتماد على من يوضعون خلال المؤمنين، يبغونهم الفتنة.
وقد روي في سبب نزول هذه الآية ما أخرجه أحمد وابن أبي الدنيا والطبراني وغيرهم «١» بسند جيّد عن الحارث بن ضرار الخزاعي قال: قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فدعاني إلى الإسلام، فدخلت فيه، وأقررت به، فدعاني إلى الزكاة، فأقررت بها، وقلت: يا رسول الله أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة فمن استجاب لي جمعت زكاته، وترسل إليّ يا رسول الله رسولا لإبّان كذا وكذا ليأتيك بما جمعت من الزكاة.
فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له، وبلغ الإبان الذي أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يبعث إليه، احتبس عليه الرسول فلم يأت، فظنّ الحارث أن قد حدث فيه سخطة من الله عزّ وجلّ ورسوله، فدعا بسروات قومه، فقال لهم: بأنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان وقّت لي وقتا يرسل إليّ رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة، وليس من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الخلف، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة كانت، فانطلقوا فنأتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبعث رسول الله الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وهو أخو عثمان رضي الله عنه لأمه إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة، فلما أن سار الوليد إلى أن بلغ بعض الطريق فرق، فرجع، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: إنّ الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي. فضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم البعث إلى الحارث، فأقبل الحارث بأصحابه حتّى استقبله البعث، وقد فصل عن المدينة، قالوا: هذا الحارث، فلما غشيهم قال لهم:
إلى من بعثتم؟
(١) انظر المسند للإمام أحمد بن حنبل (٤/ ٢٧٩).
696
قالوا: إليك، قال: ولم؟ قالوا: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث إليك الوليد بن عقبة، فزعم أنّك منعته الزكاة، وأردت قتله قال: لا والذي بعث محمدا بالحق، ما رأيته بتة، ولا أتاني. فلما دخل الحارث على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «منعت الزكاة، وأردت قتل رسولي؟» قال: لا والذي بعثك بالحق، ما رأيته ولا رآني، ولا أقبلت إلا حين احتبس عليّ رسول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خشية أن تكون سخطة من الله عزّ وجلّ ورسوله، قال:
فنزلت الحجرات: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ.
ولم يختلف الذين رووا أسباب النزول في أنّ الوليد بن عقبة بن أبي معيط كان الشخص الذي جاء بالنبإ، إنما اختلفوا في أسباب قوله، فمنهم من روى أنّه خاف وفرق حين رأى جماعة الحارث وقد خرجت في انتظاره، فظنها خرجت لحربه، ومنهم من
روى أنّه كان بينه وبينهم موجدة في الجاهلية، فجاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال:
إنّهم قد تركوا الصلاة، وارتدوا، وكفروا بالله، فلم يعجل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبعث خالد بن الوليد إليهم، وقال: «ارمقهم عند الصلاة، فإن كان القوم قد تركوا الصلاة فشأنك بهم، وإلا فلا تعجل عليهم».
وهنا يختلف الذين رووا سبب النزول مرة أخرى، فيروي بعضهم ما قدمنا من أنّهم قدموا، وقابلوا البعث حيث فصل من المدينة.
ويروي بعض آخر أنّ خالد بن الوليد رضي الله عنه خرج إليهم، ودنا منهم عند غروب الشمس، فكمن حيث يسمع الصلاة، فرمقهم، فإذا هو بالمؤذن قد قام حين غربت الشمس، فأذّن ثم أقام الصلاة، فصلوا المغرب.
فقال خالد: ما أراهم إلّا يصلون، فلعلهم تركوا غير هذه الصلاة، ثم كمن حتى إذا جنح الليل وغاب الشفق أذّن مؤذنهم، فصلوا. فقال: فلعلهم تركوا صلاة أخرى، فكمن حتى إذا كان في جوف الليل تقدّم حتى أطل الخيل بدورهم، فإذا القوم تعلّموا شيئا من القرآن، فهم يتهجدون به من الليل، ويقرؤونه. ثم أتاهم عند الصبح فإذا المؤذن حين طلع الفجر قد أذّن ثم أقام، فقاموا فصلوا، فلما انصرفوا وأضاء لهم النهار إذا هم بنواصي الخيل في ديارهم، فقالوا: ما هذا؟ قال: خالد بن الوليد.
قال: يا خالد ما شأنك؟
فقال: والله أنتم شأني، أتي النبي صلّى الله عليه وسلّم فقيل له: إنكم كفرتم بالله وتركتم الصلاة، فجعلوا يبكون، فقالوا: نعوذ بالله أن نكفر بالله أبدا، فصرف الخيل وردّها عنهم، حتى أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وأنزل الله قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا «١».
وقد عرفت مرارا أنّ الآية تكون عامة، وإن نزلت على سبب خاص، ما دام
(١) انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (٦/ ٨٩).
697
لفظها عاما، وقد قال الحسن: فو الله لئن كانت نزلت في هؤلاء القوم خاصة إنّها لمرسلة إلى يوم القيامة ما نسخها شيء.
والفاسق: الخارج من حدود الشرع، من قولهم: فسق الرطب: إذا خرج عن قشره، وسمي به الفاسق لانسلاخه عن الخير، والفسق أعمّ من الكفر، لأنه يقع بالقليل من الذنوب وبالكثير، ولكن تعورف فيما كان بكثيره، يكثر ما يقال لمن كان مؤمنا، ثم أخلّ بجميع الأحكام أو ببعضها.
والتبين: طلب البيان، وقد قرئ (فتثبتوا) بدل فَتَبَيَّنُوا وهما متقاربان، إذ التثبت طلب الثبات، وما كان ثابتا كان قريب المعرفة. ويرى بعض اللغويين أنّه لا يقال للخبر نبأ حتى يكون ذا فائدة عظيمة، ويكون معنى الآية: إن جاءكم أيّ فاسق بنبإ عظيم، له نتائج عظيمة، فلا تقبلوه بادئ الأمر، بل توقّفوا فيه، وتثبتوا، حتى تأمنوا العاقبة.
والتعبير بكلمة (إن) التي هي (للشك) للإشارة إلى أنّ الغالب في المؤمن أن يكون يقظا، يعرف مداخل الأمور، وما يترتّب عليها، وإذ يكون هذا شأن المؤمنين فلا يجيئهم كاذب يكذب عليهم، وإن وقع ذلك يكون على ندرة وقلّة.
وقوله تعالى: أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ تعليل للأمر بالتبين، وهو إمّا مقدّر فيه لام التعليل قبل (إن) و (لا) النافية بعدها، أي فتبينوا لئلا تصيبوا، وإما مقدر فيه (الكراهة) أي كراهة أن تصيبوا. وقوله: بِجَهالَةٍ أي متلبسين بجهالة، أي جاهلين حالهم، أو تصيبوهم بسبب جهالتهم أمرهم وما هم عليه.
و (أصبح) هنا بمعنى (صار) والمعنى: فتصيروا من بعد تبيّن الأمر نادمين، ويستمر معكم هذا الندم.
والندم ضرب من الغم، وهو أن يلحق النادم الغمّ على ما وقع منه، يتمنى أنه لم يقع، وهو غمّ يصحب الإنسان صحبة لها دوام ولزوم، لأنه كلما تذكر فعله راجعه الندم.
وقد استدلّ بالآية على أنّ الفاسق أهل للشهادة، وإلا لم يكن للأمر بالتبين فائدة، قاله الآلوسي، وقال الأثري: إنّ العبد إذ شهد لا تقبل شهادته، ولا يحتاج فيها إلى التبيّن.
ومذهب الحنفية «١» أنّ الفاسق لا تقبل شهادته وإن كان أهلا لها، ولو قضى بها القاضي كان عاصيا، وينفذ قضاؤه، وتقبل شهادته عندهم في النكاح، لأنّ الشهادة من باب الولاية، وهو لمّا جاز أن يكون وليا على الزوجة في مالها، جاز أن يلي عليها في بضعها، وعبارته في النكاح عبارة، وتعبير عن ثبوت العقد لا إلزام فيها، ومن مذهبهم ألا تقبل الشهادة من الفاسق فيما فيه إلزام، والإلزام الذي في النكاح لم يجئ من الشهادة، وإنما جاء من التزام المتعاقدين في العقد.
(١) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (١- ٢/ ١٣١).
698
واستدلّ بالآية أيضا على قبول خبر الواحد العدل، وتقرير الاستدلال بها من وجهين:
الأول: أنه قد رتب الأمر بالتبين على مجيء الفاسق لنبأ، فيفيد ذلك أن الفسق علة للتبين، ومعنى كون الشيء علة لشيء آخر، أن يكون له تأثير في وجوده، لا يوجد إلا معه، وإلا فلو وجد دونه لما كان علة له، والفرض أنّه العلة.
وقد رد هذا بأنّ إثبات العلية بطريق ترتّب الحكم على الوصف إثبات بظني، ولا ينهض حجة في إثبات أصل من الأصول، ولأنّ الاقتصار على شيء لا ينفي ثبوت الحكم فيما عداه.
والثاني أن التبين مشروط بمجيء الفاسق، ومفهوم هذا الشرط انعدام الأمر بالتبين عند عدم الشرط، فيثبت انعدام التبين في خبر الواحد العدل فيكون مقبولا، وهو مردود، بأنّ ذلك قول ناشىء من اعتبار مفهوم المخالفة حجة، وهو مختلف فيه، فلا يثبت به أصل من الأصول، لأنّ الظواهر لا تكفي في إثبات المسائل العلمية.
واستدل الحنفية بالآية على قبول خبر الواحد المجهول الحال، لأنّها دلت على أنّ الفسق شرط وجوب التثبت والتبين، فيقتصر فيه على محل وروده، ويبقى ما وراءه على الأصل، وهو القبول.
وأنت ترى أنّ هذا استدلال مبني على أنّ الأصل العدالة. والخصم ينازعهم فيه، ويقول: بل الأصل عدمها، والظاهر أنّ مسألة قبول المجهول مبنية على هذا، فإن صحّ أنّ الأصل العدالة، فهو باق على عدالته، حتى يتبين خلافها، وإن كان الأصل عدمها، فهو داخل في الفسق، ويكون المراد منه من لم تتبيّن عدالته.
واستدلّ بالآية أيضا على أنّ من الصحابة من ليس بعدل، لأن الله تعالى أطلق الفاسق على الوليد بن عقبة، فإنّها نزلت فيه، وسبب النزول لا يمكن إخراجه من اللفظ العام، وهو صحابي بالاتفاق، وتكون الآية ردّا على قول من ذهب إلى أنهم كلهم عدول ولا نبحث عدالتهم في رواية ولا شهادة.
والمسألة خلافية، وفيها أقوال كثيرة:
أحدها، هذا وعليه أكثر العلماء سلفا وخلفا.
والثاني: أنّهم كغيرهم، فيبحث على العدالة فيهم كما يبحث عنها في غيرهم رواية وشهادة، إلا من يكون ظاهر العدالة أو مقطوعها كالشيخين أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما.
وثالثها: أنهم عدول إلى زمن عثمان، ويبحث عن عدالتهم من مقتله.
ورابعها: أنهم عدول إلا من قاتل عليا والمسألة لها موضع غير هذا، ولكل أدلته وبراهينه.
699
ثم إنّ الفاسق قسمان:
قسم فاسق غير متأوّل، وهذا لا خلاف أنه لا يقبل خبره.
وقسم فاسق متأوّل: كالجبرية والقدرية، ويقال له: المبتدع بدعة واضحة، وهذا قد اختلف فيه، فمن الأصوليين من ردّ شهادته وروايته، ومنهم من قبلهما.
فأما الشهادة فلأنّ ردها لتهمة الكذب، والفسق من حيث الاعتقاد لا يدل عليه، بل قد يكون أمارة الصدق، لأنّ الذي جعله يذهب مذهبه هو تعمقه في الدين، والكذب حرام في كلّ الأديان، ومن المبتدعة من يقول: بكفر الكاذب.
وأما الرواية: فلأنّ من احترز عن الكذب على غير الرسول صلّى الله عليه وسلّم فهو على الرسول صلّى الله عليه وسلّم أشدّ تحرّزا، فهذا يجب أن يكون حالهم ما لم يظهر منهم ما ينافيه، وعلى هذا جمهور أهل الفقه والحديث.
وذهب الشافعي وبعض العلماء إلى الأول، لأنّ الآية إنما دلّت على التثبت من قول يقوله الفاسق، وظاهر أنّ ذلك إنما كان لأنّ الغالب في الفاسق أن يكذب، فإذا ظهر أنه ممن لا يكذب، فالآية لم تعرض له، والذين تقبل شهادتهم من المبتدعة قوم يتشدّدون في الدين، لا يبيحون الكذب، فلم يكونوا ممن تناولته الآية الكريمة.
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨).
يرى الزمخشري أنّ الجملة المصدّرة (بلو) لا تكون كلاما مستأنفا، لأدائه إلى تنافر النظم. ولكن تكون كلاما متصلا بما قبله، وهي هنا (حال) من أحد الضميرين في (فيكم) المستتر المرفوع، أو البارز المجرور.
والمعنى: أنّ فيكم رسول الله على حال يجب عليكم تغييرها، وهي أنّكم تحاولون معه أن يعمل في الحوادث على مقتضى ما يعنّ لكم من رأي، وينزل على إرادتكم فعل المطواع لغيره، التابع له فيما يرتئيه. وهو لو فعل ذلك لعنتم، ووقعتم في العنت والهلاك، يقال: فلان يتعنّت فلانا، أي يطلب ما يؤديه إلى الهلاك. ويقال:
أعنت العظم إذا هيض بعد الجبر. وقد يستفاد من هذا أنّ بعض المؤمنين كانوا يزيّنون للرسول صلّى الله عليه وسلّم الإيقاع بقوم الحارث وتصديق الوليد في نبئه، وأنه كانت تفرط منهم نظائر ذلك من الهنات، وأنّ فريقا منهم كان يتصوّن، ويزعم إيمانهم، وجدّهم في التقوى فلا يجسرون على ذلك، وسيأتي بيان ذلك عند قوله تعالى: وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ.
700
ويرى بعضهم أنه يجوز أن يكون قوله: لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ كلاما مستأنفا، وذلك أنّه لما قال الله تعالى: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ثم قال: وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ كان ذلك بمثابة أنّ طريق الكشف والتبيّن سهل وممكن، وهو الرجوع إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم. لأنه فيكم، يبيّن لكم، ويرشدكم، وفي ذلك تنزيل لهم منزلة الجاهلين بمكان الرسول صلّى الله عليه وسلّم فيهم، وبوظيفته من البيان والإرشاد بينهم.
فاتجه من ذلك: أن يسأل سائل: ماذا فعلوا حتى نسبوا إلى التفريط، وقرّعوا بجهل منزلة الرسول صلّى الله عليه وسلّم فيهم؟
فجاء قوله تعالى: لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ مومئا إلى ما كان منهم من محاولة أن ينزل الرسول صلّى الله عليه وسلّم على رأيهم في الذي يرون، واتباع إشارتهم فيما يقولون.
وذلك أنّه بيّن لهم النتيجة التي تترتب على نزوله على إرادتهم، والخضوع لإشارتهم، فقال: لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وأنت ترى أن هذا القول وإن كان حسنا من حيث المعنى، إلّا أن فيه تغاضيا عن أنّ قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ معطوف (بالواو) وهو مرتبط بما قبله، وفيما ذهب إليه هذا البعض ما يفضي بترك العطف.
وظاهر كذلك أنّ ما ذهبوا إليه فيه إضمار لا حاجة إليه، ولا ضرر في جعل الجملة لَوْ يُطِيعُكُمْ حالا من أحد الضميرين، على ما ذهب إليه الزمخشري «١». والمعنى على أحد الوجهين: هو جعلها حالا من الضمير المستتر، وأمّا الوجه الآخر فالمعنى: (واعلموا أنّ فيكم رسول الله) حال كونكم على حال تتنافى مع مقامه بينكم، تلك الحال هي إرادتكم أن ينزل على إرادتكم، وذلك ضارّ بكم، يترتب عليه عنتكم وهلاككم.
وجاء قوله: (لو يطيعكم) على صيغة المضارع بدل الماضي للدلالة على أنهم كانوا يريدون إطاعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم لهم إطاعة مستمرة، بدليل قوله تعالى: فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ وذلك أن صيغة المضارع تفيد التجدد والاستمرار، تقول: فلان يقري الضيف ويحمي الحريم، تريد أنّ ذلك شأنه، وأنّه مستمر على ذلك.
وقوله تعالى: وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ استدراك على ما يقتضيه الكلام من وقوع العنت بهم. والمعنى: أنّ ما هم عليه كان يقتضي هلاكهم، ولكن منع من ذلك أنّ الله هدى فريقا منهم، وحبّب إليه الإيمان، فآمن، وزينه في قلبه، فأقام عليه، فلم يكن شأنه شأن أولئك الذين يريدون قلب الأوضاع، بأن يتّبعهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم في الذي يرون.
(١) في تفسيره الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (٤/ ٣٦١).
701
وكان الظاهر على هذا المعنى أن يقول: ولكنّ الله حبّب إلى بعضكم الإيمان، ولكنّه عمّم الخطاب تعريضا بمن فرط منه ذلك، وإشارة إلى أنهم وقد دخلوا في الإيمان واستقر الإيمان في قلوبهم ما كان ينبغي أن يكون ذلك شأنهم، فاستغني عن التنصيص على خطاب البعض لذلك، وأيضا فإنّه لما ذكر الصفة التي تميز هذا الفريق اكتفى بها عن التنصيص على الموصوف، مراعاة لما في تعميم الخطاب من فائدة التعريض.
ويرى بعضهم أنّ الخطاب لجميع المؤمنين، والمعنى عليه: أنّه لم يلحقكم العنت، لأنّه يعلم أنّه لم يدفعكم إلى ما أنتم فيه إلا حبّكم الإيمان، ومقامه في قلوبكم، وكرهكم الكفر، ونفرتكم من الفسوق والعصيان.
ومعنى تحبيب الإيمان إليهم تقريبه لهم، وإدخاله في قلوبهم، ومعنى تزيينه في قلوبهم إقامته فيها، بحيث لا يفارقها، وذلك أنّ من أحبّ شيئا فقد يفارقه، ولكن إذا زيّن له يستمر في الإقامة عليه والمكث فيه.
وقد ذكر الله الإيمان، وقابله بأمور ثلاثة كرهها إليهم، وهي: الكفر، والفسوق، والعصيان. والإيمان اسم لثلاثة أشياء: التصديق بالجنان، والإقرار باللسان، والعمل بالجوارح. فالكفر هو الإنكار، وهو يقابل الإذعان بالجنان. والفسوق يقابل الإقرار باللسان، وقد سبق إطلاق الفسق على المجيء بالنبإ الكاذب، وسيجيء إيراده بهذا المعنى في قوله: بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وذلك يدلّ على استعمال الفسق في الأمر القولي.
وهو في هذا المعنى مناسب لاشتقاق كلمة الفسق، فإنّها في أصل وضعها تدلّ على الخروج، مأخوذة من فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها، فهو يدلّ على الظهور والكذب يظهر ويعرف، فمن ثمّ صحّ إطلاق الفسق عليه. وأما العصيان فهو ترك العمل. ويرى بعضهم أنّ الكفر: الشرك، والفسوق: الكبيرة، والعصيان: الصغيرة.
وقوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ الإشارة فيه إلى الفريق الذي حبّب إليه الإيمان، وزيّن في قلبه، والخطاب فيه للرسول صلّى الله عليه وسلّم وفي تسميتهم بالراشدين إشارة إلى أنهم أقاموا على اتباع أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم ووقفوا عند إرشاده، وعرفوا مقامه ومكانه بينهم، فاستحقوا الرشد وكانوا راشدين. وفيه تعريض بالفريق الآخر حيث ابتعدوا عما يوصلهم إلى الرشد.
فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨) قوله: (فضلا) إما منصوب على أنه مفعول له، والعامل فيه فعل مفهوم من قوله (الراشدون) أي وفّقهم الله إلى الرشد، فضلا، منه ونعمة، والعامل فيه حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ويكون قوله: أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ جملة اعتراضية، وإما منصوب عل أنّه مصدر من غير لفظ العامل، وهو الراشدون،
702
وذلك أن الرشد فضل، فكأنه قيل: هم الراشدون رشدا، أو هو مصدر، وعامله محذوف، أي تفضل فضلا، وأنعم نعمة. والفضل: ما في خزائن الله، وهو مستغن عنه، والنعمة: ما يصل من الفضل إلى العبد.
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ يعلم من يتحرّى الخبر ومن لا يتحراه، ومن يريد الرسول صلّى الله عليه وسلّم على ما تقتضي به الحكمة ومن لا يريده، وهو فوق هذا يعلم الأشياء، ويعلم الرسول صلّى الله عليه وسلّم بها، ويأمره منها بما تقضي به الحكمة، فيجب أن تقفوا عند أمره، وأن تجتنبوا الاقتراح عليه.
قال الله تعالى: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) لما حذّر الله المؤمنين نتائج الاستماع لنبأ الفاسق، أراد أن يبيّن ما يتدارك به الأمر لو وقع، فقال: وَإِنْ طائِفَتانِ الطائفة: أقل من الفرقة، بدليل قوله تعالى: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ [التوبة: ١٢٢] كذا قيل، ولك أن تقول: لولا تقدّم الفرقة ما فهم منه هذا المعنى، فالطائفة الجماعة، والفرقة الجماعة، وقد تكون الجماعة قليلة، وقد تكون كثيرة.
والتعبير (بإن) للإشارة إلى أنّه لا ينبغي أن يقع القتال بين المسلمين، وأنه إن وقع فإنما يقع من الندرة والقلة، التي يشكّ في وجودها، وجاء اقْتَتَلُوا بلفظ الجمع، مع أنّ الظاهر مجيئه بلفظ التثنية، لأن الطائفة وإن كان مفردا في اللفظ فهو جمع في المعنى، فروعي فيه المعنى أولا، ثم روعي اللفظ ثانيا، في قوله: فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما.
(واقتتلوا) بمعنى تقاتلوا، والمراد بالإصلاح في قوله: فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما الأولى بذل النصح والإرشاد، وإزالة الشبه التي تكون عند إحداهما، أو عند كليهما، ودعوتهما إلى النزول على حكم الله.
فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى البغي: العدوان، والمراد الغلو بغير الحق، وعدم الإذعان للنصيحة فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ أي استمرّوا في قتالها حتى ترجع إلى حكم الله، أو إلى ما أمر الله به من عدم البغي.
فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ بفصل ما بينهما من أسباب الخصومة ونتائجها، ولا تكتفوا بمجرد المتاركة والموادعة، خشية أن تكون إحداهما أو كلاهما تركته تقية، وانتظارا للفرصة تسنح، وتقييد الصلح بالعدل هنا لأنه بعد القتال، وذلك مظنة الحيف، أي لا يحملنكم ما كان منهم من عناد وبغي على أن تظلموهم، ولا على أن
703
تظلموا عدوّهم لضعفه، بل يجب أن تعدلوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى.
وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ أي اعدلوا، والزموا العدل في كل الأمور، فإنّ الله يحب المقسطين، فيجازيهم أحسن الجزاء.
سبب النزول: أخرج أحمد والبخاري ومسلم وابن جرير «١» وغيرهم في سبب نزول هذه الآية عن أنس رضي الله عنه قال: قيل للنبي صلّى الله عليه وسلّم: لو أتيت عبد الله بن أبي، فانطلق إليه، وركب حمارا، وانطلق المسلمون يمشون، وهي أرض سبخة، فلما انطلق إليه، قال: إليك عنّي، فو الله لقد آذاني ريح حمارك، فقال رجل من الأنصار:
والله لحمار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أطيب ريحا منك، فغضب لعبد الله رجال من قومه، وغضب للأنصاري آخرون من قومه، فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال، فأنزل الله فيهم: وَإِنْ طائِفَتانِ.
وقيل: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم متوجها لزيارة سعد بن عبادة في مرضه، فمر على عبد الله بن أبي بن سلول، فقال ما قال، فرد عليه عبد الله بن رواحة، فتعصّب لكل أصحابه، فتقاتلوا، فنزلت، فقرأها صلّى الله عليه وسلّم فاصطلحوا، وكان ابن رواحة خزرجيا، وابن أبي أوسيا.
وقيل: إنّها نزلت في رجل من الأنصار يقال له عمران، وكان تحته امرأة يقال لها:
أم زيد، وقد أرادت أن تزور أهلها، فحبسها زوجها، وجعلها في علية له، لا يدخل عليها أحد من أهلها، فبعثت المرأة إلى أهلها، فجاء قومها، فأنزلوها لينطلقوا بها، واستعان الرجل بقومه، فجاؤوا ليحولوا بين المرأة وأهلها، فتدافعوا، وكان بينهم معركة، فنزلت فيهم هذه الآية، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأصلح بينهم، وفاؤوا إلى أمر الله «٢».
والخطاب في الآية الكريمة لولاة الأمور، والأمر فيها للوجوب، فيجب الإصلاح بالنصح، فإن أبت إحداهما إلا البغي، وجب قتالها ما قاتلت، فإن رجعت عن بغيها، والتزمت حكم الله تركت.
هذا وقد تمسّك جماعة بما جاء في سبب النزول، وقالوا: يقتصر في قتال الفئة الباغية على ما دون السلاح، ولا يجوز مقاتلتهم بالسلاح، وهو لا يصح أن يتمسّك به. فأنت تعلم أنّ الله قال: فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ وهو أمر بالمقاتلة إلى
(١) رواه مسلم في الصحيح (٣/ ١٤٢٤)، ٣٢- كتاب الجهاد، ٤٠- باب حديث رقم (١١٧/ ١٧٩٩)، والبخاري في الصحيح (٣/ ٢٢١)، ٥٣- كتاب الصلح، ١- باب ما جاء في الإصلاح، حديث رقم (٢٦٩١)، وأحمد في المسند (٣/ ١٥٧).
(٢) انظر تفسير ابن جرير الطبري المسمى جامع البيان في تفسير القرآن (٢٦/ ٨١).
704
الفيئة، فإذا كانوا لا يفيئون إلا بالسيف وجب قتالهم به، لأن الغرض من المقاتلة هو الفيئة، وهي لا تحصل إلا به، وقد وقع من الصحابة قتال البغاة بالسيف، وكفى بهم قدوة، ونزول آية عامة على واقعة خاصة لا يخصص العام، على أنّ القتال إنما شرع عند البغي قمعا للفتنة بين المسلمين، والمفروض أنّ العلاج قد استعصى بالنصح، ويراد اتخاذ علاج حاسم، فليترك الأمر لمن يباشر الحسم، فإن رأى أنّ الدواء يستأصل بما دون السلاح كان مسرفا في الزيادة، وإن رأى أنّ الفتنة لا تدفع إلا بالسلاح فعل حتى الفيئة.
واختلفت أقوال الفقهاء في أموال البغاة التي أخذت منهم أثناء قتالهم، فعن الإمام محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة: أن أموالهم لا تكون غنيمة. وإنما يستعان على حربهم بكراعهم وسلاحهم عند الاستيلاء عليه، فإذا وضعت الحرب أوزارها ردّ المال عليهم، وكذا يردّ الكراع والسلاح إذا لم يبق أحد باغيا.
وروي عن أبي يوسف: أن ما وجد في أيدي أهل البغي من كراع وسلاح فهو فيء يقسّم ويخمس، وإذا تابوا لم يؤخذوا بدم ولا مال استهلكوه.
وروي عن الإمام مالك رضي الله عنه: ما استهلكه الخوارج من مال ودم ثم تابوا لم يؤخذوا به، وما كان قائما بعينه ردّ، وهو مروي عن الأوزاعي والشافعي.
وقال الحسن بن صالح: إذا قوتل اللصوص المحاربون فقتلوا، وأخذ ما معهم، فهو غنيمة لمن قاتلهم بعد إخراج الخمس، إلا أن يكون شيء قد علم أنّهم سرقوه من الناس، وعرف أصحابه، فإنّه يردّ عليهم.
وما استهلك من أموالهم أثناء التجمع للقتال، والتفريق عند وضع الحرب أوزارها، لا ضمان فيه بالإجماع.
وقد جاء في حديث أخرجه الحاكم «١» ما يوضّح الحكم في المسألة، فقد جاء فيه قال عليه الصلاة والسلام: «يا ابن أم عبد هل تدري كيف حكم الله فيمن بغى من هذه الأمة».
فقال: الله ورسوله أعلم. قال: «لا يجهز على جريحها، ولا يقتل أسيرها، ولا يطلب هاربها، ولا يقسّم فيئها».
وقد روى عكرمة بن عمار بسنده عن ابن عباس أنّ الخوارج نقموا على علي رضي الله عنه أنّه لم يسب ولم يغنم، فحاجّهم قائلا: أفتسبون أمّكم عائشة، ثم تستحلون منها ما تستحلّون من غيرها؟ فإن فعلتم لقد كفرتم.
وقد سئل أبو وائل: أخمّس علي أموال أهل الجمل؟ قال: لا.
(١) رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين (٢/ ١٥٥). [.....]
705
وإنما ذكر الله العدل في الإصلاح بعد الفيئة، لأنّ هذا وقت قد غلبت فيه الفئة الباغية على أمرها، ويغلب أن تظلم، وتصادر أموالها، وما أخذ منها لا يردّ إليها.
فالعدل وذكره هنا بمثابة أن يقال: لا يحملنّكم قهركم إياهم على ظلمهم، فهم طائفة من المؤمنين عصمت دماؤهم، وعصمت أموالهم، وما حصل منهم يكفي فيه قهرهم، وما نالهم من الهزيمة، فتكون الآية حينئذ ظاهرة في أنّه لا يجوز أسرهم بعد الفيئة، ولا يكون مالهم فيئا ولا يضمّنون شيئا.
قال الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠) بيّن الله تعالى في الآية السابقة أنّه لو ظهرت بوادر القتال بين طائفتين من المؤمنين، فالواجب إصلاح ذات البين بالنصح والإرشاد، فإن جنحا للسلم، فقد كفى الله المؤمنين القتال، وإن جنحت إحداهما، وبغت الأخرى، فالواجب قتال الباغية حتّى تفيء إلى أمر الله، فإن فاءت ورجعت فالواجب الإصلاح بالعدل، لا يجهز على جريح، ولا يسبى أحد، ولا يقسم الفيء، وهنا بيّن الله تعالى أنّ الإصلاح كما يجب بين الجماعات فهو واجب بين الأفراد، حتّى لا يظنّ ظانّ أنّ الإصلاح إنما يجب عند اختلاف الجماعات والطوائف، لأنّ اختلاف الجماعات شديد البلاء، يخشى منه على المسلمين أن تذهب ريحهم، ويتمكّن منهم عدوّهم. فأمّا إذا كان الخلاف بين فردين فليست له هذه الأهمية، فلا يجب الإصلاح، فدفعا لهذا الوهم قال الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وقد ذهب بعض أهل اللغة، إلى أنّ إخوة جمع الأخ من النسب، وأما الأخ بمعنى الصديق فجمعه إخوان، فجعل الله الإخوة في الإسلام إخوة في النسب، فأعطاها اسمها توكيدا لأمر المحافظة عليها، وإشارة إلى أنهم في الإسلام إخوة، وأن الإسلام ينتمون إليه كما ينتمي الإخوة إلى أبيهم.
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم
وزيادة في أمر العناية بالإصلاح بين الأخوين ذيّل الله الأمر به بالأمر بالتقوى، لأنّه لما لم يكن عاما فقد لا يخشى ضرره، فلا يتسارع الناس إلى إزالته، فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ يعني والله أعلم: فأصلحوا بينهما، وليكن رائدكم في هذا الإصلاح تقوى الله وخشيته، والخوف منه، فالتزموا الحق العدل، ولا تحيفوا، ولا يكن منكم ميل لأحد الأخوين، فإنّهم إخوانكم، وليس أحدهما بالنسبة إليكم فاضلا والآخر مفضولا، إذ الذي جمع بينكم وبينهما الإسلام، وفي الإسلام تذهب الفوارق وتتلاشى.
الحصر (بإنما) يفيد أنّ أمر الإصلاح ووجوبه إنما هو عند وجود الإخوة في الإسلام، فأما بين الكفار فلا، وأما بين المسلم والكافر، فللمسلم علينا النصرة
706
والإعانة مطلقا إن كان خصمه حربيا. ونصره وإعانته عند وقوع ظلم عليه إن كان خصمه ذميا أو صاحب أمن.
وأما إن كان خصمه ذميا والمسلم ظالم له، فالواجب علينا وضع الظلم، فقد استحق بعقد الذمة أن يكون له ما لنا وعليه ما علينا.
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١) السخر: الهزء، قيل: وهو النظر إلى المسخور بعين النقص، وقال القرطبي: إنّ السخرية وهي اسم منه، الاستحقار والاستهانة، والتنبيه على العيوب والنقائص بوجه يضحك منه. والأكثر تعدية فعله (بمن) وهي لغة الكتاب العزيز، كما تدل عليه الآية التي معنا، وقوله تعالى: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ [هود: ٣٨] ويقال: فلان سخرة، بوزن همزة.
إذا كان يهزأ به الناس، وقد تكون السخرية بمحاكاة الفعل بالقول والإشارة، أو الضحك على كلام المسخور منه إذا بدا منه تخبط أو غلط، أو على صنعته، أو قبح صورته، ويرى بعضهم أن السخرية ذكر الشخص بما يكره على وجه مضحك بحضرته. ويرى البعض أنّ المراد منها احتقار القول أو الفعل بحضور صاحبه.
والآية نزلت في قوم بني تميم، سخروا من بلال وسلمان وعمّار وخباب وصهيب وابن فهيرة وسالم مولى أبي حذيفة «١».
وقد ذكر فيها النهي عن السخرية بالنساء تتميما لبيان الحكم.
وروي أنّها في شأن أمّ سلمة حين سخر منها بعض الصحابيات، وقيل غير ذلك.
وقوله عزّ وجلّ: عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ تعليل للنهي، أي عسى أن يكون المسخور منه عند الله خيرا من الساخر، ف «ربّ أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبرّه» وقيل: بل المعنى عسى أن يبدّل الله الحال، ويعكس الأمر، فيصير المسخور منه عزيزا رفيع الجانب، والساخر ذليلا مهانا، وهو حينئذ على حد قوله:
لا تهن الفقير علّك أن تركع يوما والدهر قد رفعه
وقد ذكر الله تعالى النساء مع القوم في الآية، فكان ذلك قرينة على أنّ المراد
(١) انظر ما رواه السيوطي في كتابه الدر المنثور في التفسير بالمأثور (٦/ ٩١).
707
بالقوم الرجال. ويرى بعضهم أنّ القوم اسم خاصّ بالرجال لا يدلّ على النساء إلا من طريق التغليب، ومنه ما جاء في بيت زهير:
وما أدري وسوف إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء
وكأنّ هذا المعنى يرجع إلى أنّ لفظ القوم مأخوذ من أنّ الرجل قوّام على المرأة، وهو في الأصل: إما مصدر بمعنى القيام، ثم استعمل في جماعة الرجال، وإما اسم جمع لقائم.
وقد جاء النهي عن السخرية موجها إلى جماعة الرجال والنساء، وإن كان حكم الفرد من الفريقين كذلك، جريا على ما كان حاصلا، وما هو الأغلب من وقوع السخرية في المجامع والمحافل. وما دامت علة النهي عامة، فهو يفيد عموم الحكم لعموم العلة.
وكلمة (عسى) في مثل هذا التركيب الذي أسندت فيه إلى (أن، والفعل) قيل:
تامة، لا تحتاج إلى خبر، و (أن) وما دخلت عليه في محل رفع على الفاعلية. وقيل ناقصة، وسد ما بعدها مسد جزءيها.
وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ أي لا يعب بعضكم بعضا، وقد جعل الله لمز بعض المؤمنين لمزا للنفس، لأنهم كنفس واحدة، فمتى عاب المؤمن أخاه، فكأنّه عاب نفسه.
وقد ذكر الله في الآية النهي عن ثلاثة أشياء: عن السخرية، وعن اللمز، وعن التنابز بالألقاب.
أما التنابز بالألقاب: وهو التعاير بها، فمغايرته للسخرية واللمز ظاهرة.
وأما السخرية واللمز، فقد ذهب العلماء في المغايرة بينهما إلى وجوه، فمنهم من يرى أنّ السخرية احتقار الشخص مطلقا على وجه مضحك بحضرته، واللمز التنبيه على معايبه، سواء أكان على مضحك أم غيره، وسواء أكان بحضرته أم لا، وعلى هذا اللّمز أعم من السخرية، ويكون من عطف العام على الخاص، لإفادة الشمول.
ومنهم من يرى السخرية الاحتقار واللمز والتنبيه على المعايب، أو تتبعها، وهو يرى أنّ العطف من قبيل عطف العلة على معلولها. كأنّه قيل: لا يحقّر أحد لعيبه، وهذا الوجه لا يكاد يظهر له كبير معنى.
ومنهم من يرى أنّ اللمز خاص بما كان من السخرية على وجه الخفية، وعليه العطف من عطف الخاص على العام، مبالغة في النهي عنه، كأنه جنس آخر.
ويرى بعضهم أن المعنى: ولا تأتوا من الأفعال ما يكون سببا لأن يلمزكم الناس، ويكون المعنى لا يسخر أحد من أحد، ولا يفعلنّ أحد ما يقتضي أن يلمزه الناس.
وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ التنابز: التعاير، والتداعي بالألقاب، وخصّ في العرف
708
بالمكروه منها، وقد نقل عن العلماء النصّ على تحريم تلقيب الإنسان بما يكره، سواء أكان صفة له، أم لأبيه، أم لأمه، أم لكلّ من ينتسب إليه.
بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ تعليل للنهي، والاسم هنا المراد منه الذكر، والمراد: ذم أن يجتمع اسم الفسوق الذي يلحق الناس بسبب التنابز مع الإيمان، وذلك تغليظ شديد، حيث جعل التنابز فسقا، وفيه من التنفير منه ما لا يخفى.
وقيل: بل المعنى: لا ينسبن أحدكم غيره إلى الفسق الذي كان فيه بعد اتصافه بالإيمان، كأنّه قيل: لا تشهّروا بالناس بذكر ما كانوا عليه من فسق بعد ما حصلوا على الإيمان، ويكون ذلك نهيا عن أن ينادى من دخل الإسلام بصفته التي كان عليها، وقد استثني من النهي دعاء الرجل بلقب قبيح لا على سبيل الاستخفاف والإهانة، بأن يكون على قصد التمييز، كقول المحدّثين: سليمان الأعمش.
وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي من لم يتب عما نهي عنه من الأمور الثلاثة فهو ظالم، وكأنه لا ظالم سواه، لأنه وضع العصيان موضع الطاعة، وعرّض نفسه للعذاب.
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢) يقال اجتنب الشيء أي كان منه على جانب، ثم استعمل في التباعد مطلقا، فمعنى قوله تعالى: اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ تباعدوا عن كثير من الظن، وجيء بلفظ (كثير) منكّرا، ليحتاط فيه، فيكون بعيدا عن بعض الظن الذي هو إثم إذا ابتعد عن الكثير منه.
والظن أنواع: منه ما هو محرّم، ومنه ما هو واجب ومنه ما هو مندوب، ومنه ما هو مباح.
فالمحرم: كسوء الظن بالله والعياذ بالله. وسوء الظن بالمسلم مستور الحال، ظاهر العدالة،
فقد ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا يموتنّ أحدكم إلا وهو يحسن الظنّ بالله عزّ وجلّ» «١».
وعنه أنه قال: «إيّاكم والظنّ، فإنّ الظنّ أكذب الحديث» «٢».
وقد جاء في القرآن الكريم: إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً [يونس: ٣٦] وقال الله تعالى: وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً [الفتح: ١٢]
وفي الحديث: «إنّ الله تعالى حرّم من المسلم دمه وعرضه وأن يظنّ به ظنّ السوء».
(١) رواه مسلم في الصحيح (٤/ ٢٢٠٥)، ٥١- كتاب الجنة، ١٩- باب الأمر بحسن الظن حديث رقم (٢٨٧٧).
(٢) انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (٦/ ٩٢).
709
وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من أساء بأخيه الظنّ فقد أساء الظنّ بربّه، إن الله تعالى يقول:
اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ.
وقد قدمنا أنّ الممنوع إساءة الظن بالمسلم المستور ظاهر العدالة، وأما من يتعاطى الرّيب، والمجاهرة بالخبائث، فلا يحرم إساءة الظن به، فليس الناس أحرص منه على نفسه، وقد أمر أن يتجنب الريب، وألّا يقف مواقف التّهم، فمن وقف مواقف التهم اتّهم.
والظن الواجب: يكون فيما تعبّدنا الله تعالى بعلمه، ولم ينصب عليه دليلا قاطعا، فهنا يجب الظن للوصول إلى المعرفة التي تعبّدنا الله بها، وما غلب على ظنه فهو الذي تعبّدنا الله به. ومن ذلك قبول شهادة العدل، وتحرّي القبلة، وتقويم المستهلكات، وأروش الجنايات التي لم يرد بمقاديرها نصّ عن الشارع.
والمندوب من الظن: ظنّ الخير بالمسلم، وقد تقول: ما دام سوء الظن محرّما، فما بال حسن الظن مندوبا؟
ولكن إذا علمت أنّ هناك واسطة، وهو ألا يظن شيئا علمت أنّه لا يلزم التقابل في الحكم.
والظنّ المباح: قد مثّلوا له بالشك في الصلاة، وكأنهم يريدون من الظنّ استواء الطرفين، ومثّلوا له أيضا بالظن الذي يعرض في القلب، مما يوجب الريبة،
وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا ظننتم فلا تحققوا»

أي لا توجدوا أثرا لهذا الظن.
وحرمة الظن بالناس إنما تكون إذا كان لسوء الظن أثر يتعدّى إلى الغير، وأمّا أن تظنّ شرا لتتقيه، ولا يتعدّى ذلك إلى الغير، فذلك محمود غير مذموم، وهو محمل ما
ورد من أنّ (من الحزم سوء الظن).
و (احترسوا من الناس بسوء الظن).
وما جاء في الحكم: (حسن الظنّ ورطة، وسوء الظنّ عصمة).
وقوله تعالى: إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ تعليل للأمر باجتناب الظنّ. والإثم الذنب الذي يستحقّ فاعله العقوبة عليه.
وَلا تَجَسَّسُوا أي لا تبحثوا عن عورات المسلمين ومعايبهم، وتستكشفوا ما ستروه. والتجسس: تفعل من الجس، وهو بمعنى التحسس على ما قيل، وبعضهم يرى أنهما متغايران، وأن التجسس معرفة الظاهر، وبالحاء تتبع البواطن، وقيل:
بالعكس، والأمر مرجعه إلى اللغة. وقد عدّ العلماء التجسس من الكبائر.
وقد أخرج أبو داود وغيره عن أبي برزة الأسلمي قال: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنّه
710
من يتّبع عوراتهم يتّبع الله عورته ومن يتّبع الله عورته يفضحه في بيته» «١».
وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أي لا يذكر بعضكم بعضا بما يكره.
أخرج مسلم وأبو داود والترمذي «٢» وغيرهم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «أتدرون ما الغيبة؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «ذكرك أخاك بما يكره». قيل:
أفرأيت لو كان في أخي ما أقول؟ قال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتّه».
ومعلوم أنّ المراد من هذا النهي النهي عن الإيذاء بتفهيم الغير معايب المغتاب، وذلك يتناول كلّ طرق الإفهام، وهو يتناول أيضا كلّ ما يكره، سواء في دينه أو دنياه، وفي خلقه أو خلقه، وفي ماله، أو ولده، أو زوجته، أو مملوكه، أو خادمه، أو لباسه، وخصّه بعضهم بما لا يذمّ شرعا من الصفات، فمن ذكر الزاني بأنّه زان لا يكون مغتابا، ولا يحرم عليه هذا الذكر عنده. واستدل لذلك
بقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اذكروا الفاجر بما فيه، يحذره الناس».
ولم يرفض الجمهور ذلك، وقالوا: الحديث ضعيف لا ينهض حجة: قال أحمد: وهو منكر، وقال البيهقي: ليس بشيء، ولو صحّ فهو محمول على فاجر متهتّك يعلن فجوره وتهتكه.
ويرى بعضهم أنّ الذكر بالمكروه يحرم مطلقا في الغيبة والحضور، ونصّ بعض المفسرين على أنه المعتمد، ويكون التقييد بالغيبة خارج مخرج الغالب، إذ إنّ الغالب أن الناس تستحي من أن تذكر أحدا بمعايبه في حضرته.
أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ هذا مثال ذكره الله تنفيرا من الغيبة، وتبعيدا منها، وهو مثل بالغ النهاية في تأدية المراد، قد وضّح فيه ما يصدر من المغتاب من حيث صدوره عنه، ومن حيث تعلقه بصاحبه على أفحش وجه تستقبحه العقول، وتنفر منه الطباع، وتنكره الشرائع، وقد ذكر المثل على سبيل الاستفهام التقريري، وهو لا يقع إلّا في كلام مسلّم عند السامع، حقيقة أو ادّعاء، وقد أسند في المثل الفعل إلى أحد إيذانا بأنّه لا يستقر في طبع أحد كائنا من كان أن يقدم على أن يأكل لحم إنسان، فضلا عن أن يحبه، وما بالك به إذا كان المأكول لحم أخيه؟ لا
(١) رواه أبو داود في السنن (٤/ ٢٩٢)، كتاب الأدب، باب في الغيبة حديث رقم (٤٨٨٠)، وأحمد في المسند (٤/ ٤٢١).
(٢) رواه مسلم في الصحيح (٤/ ٢٠٠١)، ٤٥- كتاب البر، ٢٠- باب تحريم الغيبة حديث رقم (٧٠/ ٢٥٨٩)، والترمذي في الجامع الصحيح (٤/ ٢٩٠)، كتاب البر، باب الغيبة حديث رقم (١٩٣٤)، وأبو داود في السنن (٢/ ٢٩٠)، كتاب الأدب، باب في الغيبة حديث رقم (٤٨٧٤).
711
شك أنه يكون أشنع، وماذا تكون الشناعة إذا كان الأخ ميتا؟ إنّها تكون شناعة ما فوقها شناعة.
فقد بيّن الله بهذا المثل أوضح بيان أنّ وقوع المغتاب في عرض الناس بذكر معايبهم يشبه أن يكون أكلا للحومهم، وهم إخوته، وليتهم كانوا حاضرين، بل هو إنما ينهش أعراضهم وهم غائبون، فهو كالكلب ينهض لحوم الجيف. ولو عقل الناس هذا المثل، وما استعمل فيه من طرق التنفير ما أقدموا على الغيبة.
والفاء في قوله تعالى: فَكَرِهْتُمُوهُ فإن الفصيحة مقدّر معها (قد) وهي واقعة في جواب شرط مقدّر، أي إن عرض لكم هذا فقد كرهتموه، ولا يمكنكم إنكار كراهته.
وبعضهم: إنّ المعنى فأنتم تكرهونه، ويكون الكلام تصريحا بجوابهم عن الاستفهام، كأنّهم قالوا: لا نحب، فقال الله تعالى: فأنتم كرهتموه، وعبر بالماضي للمبالغة.
وَاتَّقُوا اللَّهَ عطف على مقدّر، كأنه قيل: امتثلوا ما أمرتم به، ونهيتم عنه، واتقوا الله إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ تعليل للأمر بالتقوى، وتوّاب: معناه كثير القبول لتوبة من تاب.
والغيبة محرّمة بنص إلهيّ في الآية الكريمة، وقد نقل القرطبي «١» الإجماع على أنها من الكبائر. والغزالي: يرى أنّها من الصغائر، وهو عجيب من عمدة الأخلاق الغزالي، ولعلّه أراد أن يخفف على الناس لمّا رأى فشوها فيهم، لا يخلو منهم من لا يرتكبها إلا النادر، ولكنّا ما علمنا أنّ إطباق الناس على منكر يكون سببا في تخفيفه ولو لم يرد فيها من دلائل التحريم غير ما ذكر في هذه الآية وأنّها من أشنع القبائح لكان ذلك كافيا في كونها من الكبائر.
وليس لأحد أن يتعلّق بما ورد من
قوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه أحمد «٢» عن أبي بكرة أنّه قال: بينما أنا أماشي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو آخذ بيدي، ورجل عن يساري، فإذا نحن بقبرين أمامنا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير» وبكى إلى أن قال: وما يعذبان إلا في الغيبة والبول
إذ المراد أنهما ما كان يكبر عليهما أن يتجنّبا سبب هذا العذاب، فكان أحدهما لا يستنزه من البول، وإنّه ليسير، وكان الآخر لا يبتعد عن الغيبة، وما هو عليه بعسير.
ولو أنّ الإمام الغزالي رحمه الله ذهب إلى أنّ بعضها ليس بكبيرة، بل هو من الصغائر لكان الأمر هينا فإنّك عرفت أنّ الغيبة إنما نهي عنها من أجل الإيذاء، وهو مراتب، فلن يكون ذكر معايب الثوب أو القربة مثلا ببالغ حدّ الخوض في العرض من جهة الإيذاء، فالغيبة حرام، ويجب على المغتاب أن يبادر إلى التوبة والاستغفار منها.
(١) انظر الجامع لأحكام القرآن للإمام القرطبي (١٦/ ٣٣٧).
(٢) رواه الإمام أحمد في المسند (٥/ ٣٩).
712
وقد أخرج العلماء أشياء لا يكون لها حكم الغيبة فيما إذا كان العيب لغرض صحيح شرعي لا يتوصل إليه إلا به.
فمن ذلك التظلم: فلمن ظلم أن يشكو لمن يظنّ منه القدرة على إزالة ظلمه.
ومنه الاستعانة على تغيير المنكر بذكره لمن يظن قدرته على تغييره.
ومنه الاستفتاء: كأن يقول للمفتي ظلمني فلان بكذا، فما طريق الوصول إلى حقي؟
ومنه أن يكون صاحب العيب مجاهرا بالمعصية، كشربه الخمر- للذين يتظاهرون-.
ومنه جرح الرواة والمصنفين والمفتين مع عدم الأهلية، وكلّ ما فيه تحذير المسلمين من الشر، إذا تعين ذلك طريقا له.
هذا وقد اشتملت الآية الكريمة على الأمر باجتناب الظنّ باجتناب أثره، ثم النهي عن طلب تحقيق ذلك الظن بقوله: ولا تجسسوا ثم النهي عن ذكر ما عسى أن يكون المتجسس قد وقف عليه، فهذه ثلاثة مترتبة: ظنّ، فعلم من طريق التجسس، فاغتاب.
713
Icon