تفسير سورة الحجرات

فتح الرحمن في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة الحجرات من كتاب فتح الرحمن في تفسير القرآن المعروف بـفتح الرحمن في تفسير القرآن .
لمؤلفه مجير الدين العُلَيْمي . المتوفي سنة 928 هـ

[١] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ قرأ يعقوب: (تَقَدَّمُوا) بفتح التاء والدال؛ من التقدم؛ أي: لا تتقدموا، على حذف إحدى التاءين، وقرأ الباقون: بضم التاء وكسر الدال؛ من التقديم (١)؛ أي: لا تعجلوا بالأمر والنهي دونه، المعنى: لا تفعلوا ولا تقولوا شيئًا حتى يحكما به، ويأذنا فيه، ولا تفتاتوا عليهما، وقد كانت عادة العرب الاشتراك في الآراء، وأن يتكلم كل بما شاء، ويفعل ما أحب، فمشى بعض الناس مع النبي - ﷺ - على بعض ذلك، فربما قال قوم: لو نزل كذا وكذا في معنى كذا، ولو فعل الله كذا، أو ينبغي أن يكون كذا، وأيضًا فإن قومًا ذبحوا ضحاياهم قبل النبي - ﷺ -، وقومًا فعلوا في بعض خروجه وغزواته أشياء بآرائهم، فنزلت هذه الآية ناهية عن جميع ذلك، وتحقيق معنى الآية الأمرُ بتعظيم النبي - ﷺ - وتوقيره، وخفض الصوت بحضرته، وقد كره بعض العلماء رفع الصوت عند قبره - ﷺ -، وكره بعضهم رفع الصوت في مجالس الفقهاء؛ تشريفًا لهم؛ إذ أنهم (٢) ورثة الأنبياء.
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ في مخالفة أمره ﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ﴾ لأقوالكم ﴿عَلِيمٌ﴾ بأحوالكم.
...
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٤/ ١٩٧)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٧٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٢١٩).
(٢) في "ت": "هم".
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (٢)﴾.
[٢] ونزل فيمن رفع صوته لدى النبي - ﷺ -، وهو ثابت بن قيس (١) بن شماس، وكان جهوري الصوت، وربما كان يكلم رسول الله - ﷺ - فيتأذى بصوته: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ﴾ (٢) إذا نطقتكم.
﴿فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ﴾ إذا نطق ﴿وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ﴾ إذا ناجيتموه ﴿كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ﴾ أي: لا تغلظوا له الخطاب، ولا تنادوه باسمه يا محمد يا أحمد كما ينادي بعضكم بعضًا، ولكن فخموه، وقولوا له قولًا لينًا: يا رسول الله! يا نبي الله! نظيره: ﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا﴾ [النور: ٦٣].
﴿أَنْ تَحْبَطَ﴾ أي: مخافة أن تبطل ﴿أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾.
...
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣)﴾.
[٣] فلما نزل، دخل ثابت في بيته، فجعل يبكي، وقال لامرأته جميلة بنت عبد الله بن أبي بن سلول: لا أخرج حتى يتوفاني الله، أو يرضى عني رسوله، إني رفيع الصوت، وإني أخاف أن يحبط عملي، وأكون من أهل
(١) "بن قيس" زيادة من "ت".
(٢) رواه مسلم (١١٩)، كتاب: الإيمان، باب: مخافة المؤمن أن يحبط عمله، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
النار، فدعاه النبي - ﷺ -، وقال "أما (١) ترضى أن تعيش حميدًا وتموتَ شهيدًا وتدخلَ الجنة؟ "، فقال؛ رضيتُ ببشرى الله ورسوله، ولا أرفع صوتي أبدًا على رسول الله - ﷺ -، فأنزل الله:
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ﴾ (٢) إجلالًا له.
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ أي: اختبرها بأنواع المحن ﴿لِلتَّقْوَى﴾ أي: لتظهر التقوى بالاختبار وصد النفس عن مرادها ﴿لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ واستُشهد ثابت يوم القيامة في حرب مسيلمة الكذاب في خلافة أبي بكر -رضي الله عنه-.
...
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (٤)﴾.
[٤] ونزل في وفد بني تميم حين وفدوا على رسول الله - ﷺ -، فدخلوا المسجد، ودنوا من حُجَر أزواج النبي - ﷺ -، وهي تسعة، فعجلوا، ولم ينتظروا، ونادوا بجملتهم: يا محمد! اخرج إلينا؛ فإن مدحنا زين، وذمنا شين، فتربص مدة، ثم خرج - ﷺ - وهو يقول: "إنما ذلكم اللهُ الذي مدحُه زَيْن وذمُّه شَيْن": ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ﴾ (٣) جمع حجرة، وهو ما يحجر عليه من الأرض بحائط، والمراد: حجرات نساء النبي - ﷺ -. قرأ
(١) في "ت": "إنما".
(٢) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (٢٠٤٢٥)، والطبري في "تفسيره" (٢٦/ ١١٩)، والطبراني في "المعجم الكبير" (١٣١٠)، والحاكم في "المستدرك" (٥٠٣٤).
(٣) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (٥/ ١٤٦)، و"البحر المحيط" لأبي حيان (٨/ ١٠٦)، و"تفسير الثعلبي" (٩/ ٧٣).
أبو جعفر: (الحُجَرَاتِ) بفتح الجيم، والباقون: بضمها (١)، وهما لغتان، فكان كل واحد ينادي من وراء حجرة؛ لأنهم لم يتحققوا مكانه، والإنكار إنما وقع لأنهم نادوه من ظاهر الدار بجفاء وغلظة مناداةَ الأعرب.
﴿أَكْثَرُهُمْ﴾ جهال ﴿لَا يَعْقِلُونَ﴾ إذ العقل يقتضي حسنَ الأدب، وسئل رسول الله - ﷺ - عنهم فقال: "هم جُفاةُ بني تميم، لولا أنهم من أشدِّ الناسِ قتالًا للأعور الدجَّال، لدعوتُ الله عليهم أن يُهلكهم" (٢).
...
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)﴾.
[٥] ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا﴾ أي: ولو ثبت صبرهم وانتظارهم.
﴿حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ﴾ الصبر.
﴿خَيْرًا لَهُمْ﴾ وأحسنَ لأدبهم، والصبر: حبسُ النفس عن أن تنازع إلى هواها.
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٤/ ٢٠٠)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٧٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٢٢٠).
(٢) رواه الثعلبي في "تفسيره" (٩/ ٧٧)، من حديث سعد بن عبد الله. وقد روى البخاري (٢٤٠٥)، كتاب: العتق، باب: من ملك من العرب رقيقًا فوهب وباع.. ، ومسلم (٢٥٢٥)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل غفار وأسلم وجهينة ومزينة وتميم، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: ما زلت أحبُّ بني تميم منذ ثلاث سمعت من رسول الله - ﷺ - يقول فيهم، سمعته يقول: "هم أشدُّ أمتي على الدجال".
﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ حيث اقتصر على النصح والتقريع لهؤلاء المسيئين الأدب (١)، والتاركين تعظيم الرسول.
...
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (٦)﴾.
[٦] روي أن رسول الله - ﷺ - بعث الوليد بن عقبة أخا عثمان لأمه إلى بني المصطلق مُصَدِّقًا، وكان بينه وبينهم عدواة في الجاهلية، فلما سمع به القوم، خرجوا يتلقونه تعظيمًا لأمر رسول الله، فخافهم، فرجع من الطريق هاربًا، فجاء النبيَّ - ﷺ -، وقال: إنهم قد منعوا الصدقة، وهموا بقتلي، فغضب رسول الله - ﷺ -، وهَمَّ بغزوهم، فأتوا رسول الله - ﷺ -، وقالوا: يا رسول الله! خرجنا نتلقاه، فرجع، فخشينا أن يكون قد رده كتاب أتاه منك، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله، فاتهمهم في قولهم، وأرسل إليهم بعد عودهم إلى بلادهم خالد بن الوليد، فلم ير فيهم إلا الطاعة والخير، فانصرف إلى رسول الله - ﷺ -، وأخبره بذلك، فأنزل الله تعالى:
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ﴾ (٢) يعني: الوليد بن عقبة ﴿بِنَبَإٍ﴾ بخبر ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (فَتَثَبَّتُوا) بالتاء والثاء؛ من التثبت؛ أي: توقفوا، وقرأ الباقون: بالياء والنون؛ من التبين (٣)؛ أي:
(١) "الأدب" زيادة من "ت".
(٢) انظر: "تفسير الثعلبي" (٤/ ١٨٧)، و"المحرر الوجيز" لابن عطية (٥/ ١٤٦).
(٣) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٩٧)، و"الكشف" لمكي (١/ ٣٩٤)،=
تفحصوا، وتنكير (فَاسِقٌ) يؤذن بالاحتراز من كل فاسق.
﴿أَنْ تُصِيبُوا﴾ كيلا تصيبوا بالقتل ﴿قَوْمًا﴾ برآء ﴿بِجَهَالَةٍ﴾ جاهلين بحالهم.
﴿فَتُصْبِحُوا﴾ فتصيروا ﴿عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ مغتمين.
...
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧)﴾.
[٧] ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ﴾ إن كذبتم، أخبره الله، فتفتضحوا.
﴿لَوْ يُطِيعُكُمْ﴾ يقبل منكم ﴿فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ﴾ الذي تخبرونه به، فيحكم برأيكم ﴿لَعَنِتُّمْ﴾ لأثمتم وهلكتم.
﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ﴾ فجعله أحبَّ الأديان إليكم.
﴿وَزَيَّنَهُ﴾ حَسَّنه ﴿فِي قُلُوبِكُمْ﴾ بالبرهان، وثبته فيها.
﴿وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ﴾ الكذبَ ﴿وَالْفُسُوقَ﴾ الخروجَ عن الطاعة ﴿وَالْعِصْيَانَ﴾ جميع معاصي الله، ومعنى تحبيب الله وتكريهه: اللطف والإمداد بالتوفيق، ثم عاد من خطاب المؤمنين إلى الإخبار عنهم، فقال: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾ الثابتون على دينهم.
...
= و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٢٢٠ - ٢٢١).
﴿فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨)﴾.
[٨] ﴿فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً﴾ مصدر مؤكد لنفسه؛ لأن ما قبله هو بمعناه؛ إذ التحبيب والتزيين هو نفس الفضل.
﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ﴾ بأحوال المؤمنين ﴿حَكِيمٌ﴾ بإنعامه عليهم بالتوفيق.
...
﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩)﴾.
[٩] روي أن رسول الله - ﷺ - توجه إلى زيارة سعد بن عبادة في مرضه، وركب حمارًا، فمر بعبد الله بن أبي بن سلول، فقال عبد الله بن أبي (١) لما غشيَه حمارُ رسول الله - ﷺ -: لا تغبروا علينا، والله لقد آذاني نتنُ حمارك، فقال عبد الله بن رواحة لابن أبي: واللهِ لحمارُ رسولِ الله - ﷺ - أطيبُ ريحًا منك، فغضب لعبد الله رجل من قومه، فتشاتما، فغضب لكل واحد منهما أصحابه، فكان بينهما ضرب بالجريد والأيدي والنعال، وكان فيمن غضب لابن أبي مؤمنون، وقيل غير ذلك، فنزل:
﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا﴾ (٢) جُمع نظرًا إلى المعنى؛ لأن كل
(١) "ابن سلول فقال عبد الله بن أبي" زيادة من "ت".
(٢) رواه البخاري (٢٥٤٥)، كتاب: الصلح، باب: ما جاء في الإصلاح بين الناس، ومسلم (١٧٩٩)، كتاب: الجهاد والسِّير، باب: في دعاء النبي - ﷺ -، من حديث أنس -رضي الله عنه- وانظر: "تفسير البغوي" (٤/ ٢٠٣).
365
طائفة جماعة ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾ بالنصح والدعاءِ إلى حكم الله تعالى، وثُني نظرًا إلى اللفظ.
﴿فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى﴾ بأن كانت الباغية مبطلة، والأخرى محقة.
﴿فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾ ترجع إلى حكمه المذكور في كتابه من الصلح. قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر، ورويس عن يعقوب: (تَفِيءَ إِلَى) بتحقيق الهمزة الأولى، وتسهيل الثانية بين اللفظين، وقرأ الباقون: بتحقيق الهمزتين (١).
﴿فَإِنْ فَاءَتْ﴾ رجعت عن البغي ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ﴾ بالإنصاف ﴿وَأَقْسِطُوا﴾ اعدلوا.
﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ والقَسْط بالفتح الجور؛ من القسط: اعوجاج في الرجلين، و -بالكسر-: العدل، وفعله أقسط، وهمزته أصلية (٢)؛ أي: أزيلوا الجور، يقال: قسط: جار، وأقسط: عدل، والباغي في الشرع: هو الخارج على إمام العدل.
وأما حكم قتال أهل البغي، فقد اتفق الأئمة على أن نصب الإمام فرض كفاية، وتنعقد الإمامة بالبيعة، وباستخلاف (٣) الإمام، وقهرِ قرشيٍّ حر ذكر، ويحرم قتاله بالاتفاق، فإذا خرج على الإمام طائفة ذات شوكة بتأويل
(١) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٩٧)، و"معجم القراءات القرآنية:" (٦/ ٢٢١ - ٢٢٢).
(٢) في "ت": "للسلب".
(٣) في "ت": "وبالاستخلاف".
366
سائغ، ونصبوا إمامًا، وقالوا: الحق معنا، دعاهم، وكشف شبهتهم التي استندوا إليها في خروجهم عن طاعته، وأزال ما يذكرونه من مظلمة؛ فإن فاؤوا، وإلا أبيح قتالهم بالاتفاق حتى يفيئوا إلى أمر الله، فإذا فاؤوا، كف عنهم، فإن لم يكن لهم شوكة، أو لم يكن تأويل، أو لم ينصبوا إمامًا، فقطاع طريق تقدم حكمهم في سورة المائدة عند تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ [المائدة: ٣٣].
واختلفوا في اتباعِ مدبرِ البغاةِ، وقتلِ جريحهم، فقال أبو حنيفة: إن كان لهم فئة يرجعون إليها، جاز ذلك، وإلا فلا، وقال الثلاثة: لا يجوز.
واتفقوا على أن أموالهم يحرم أخذها، وهي باقية لهم.
واختلفوا هل يجوز أن يستعان على حربهم بسلاحهم؟ فقال الشافعي، وأحمد: لا يجوز، وقال أبو حنيفة ومالك: يجوز مع قيام الحرب، فإذا انقضت، ردت إليهم.
واتفقوا على أن البغاة إذا أخذوا خراجًا أو جزيةَ ذمي، فإنه يلزم أهل العدل أن يحتسبوا بذلك، بخلاف عن مالك.
واتفقوا على أن ما يتلفه أهل العدل على أهل البغي وعكسه من نفس ومال حالَ الحرب، فلا ضمان فيه، وتقبل شهادة البغاة (١) وقضاء قاضيهم فيما يقبل فيه قضاء قاضينا بالاتفاق بخلاف عن مالك، ويحرم سبي ذراريهم بالاتفاق، ومن أسر منهم من رجل أو امرأة أو صبي، حُبس حتى ينقضي الحرب، ثم يرسل بالاتفاق، ويحرم قتالهم بما يعم إتلافه؛ كنار
(١) "فلا ضمان فيه وتقبل شهادة البغاة" زيادة من "ت".
367
ومنجنيق إلا لضرورة عند الشافعي وأحمد، وعند أبي حنيفة: يجوز، وعند مالك: للإمام العدل في قتالهم ما له في الكفار بعد أن يدعوهم إلى الحق.
...
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠)﴾.
[١٠] ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾ المتنازعين، وثُني؛ لأن النزاع إنما يكون أولًا بين اثنين، ثم يتعدى إلى الجماعة، ويجوز أن يراد: الحزبان؛ كقوله: (طَائِفَتَانِ). قرأ يعقوب: (إِخْوَتِكُمْ) بكسر الهمزة وإسكان الخاء وتاء مكسورة على الجمع، وقرأ الباقون: بفتح الهمزة والخاء وياء ساكنة على التثنية (١).
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ فلا تعصوه ﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ وفي هاتين الآيتين دليل على أن البغي لا يزيل اسم الإيمان؛ لأن الله تعالى سماهم إخوة مؤمنين، مع كونهم باغين، يدل عليه ما روي عن علي -رضي الله عنه-: أنه سئل، وهو القدوة في قتال أهل البغي، عن أهل الجمل وصفين: أمشركون هم؟ فقال: لا، من الشرك فروا، فقيل: أمنافقون هم؟ فقال: لا، إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلًا، قيل: فما حالهم؟ قال: إخواننا بغوا علينا (٢).
(١) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٧٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٢٢٢).
(٢) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (٣٧٧٦٣)، والبيهقي في "الكبرى" (٨/ ١٧٣).
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١)﴾.
[١١] ونزل في ثابت بن قيس حين سأل رجلًا: من أنت؟ فقال: ابن فلان، فقال ثابت: أنت ابن فلانة، فخجل الرجل؛ لأنه كان يُعير بها في الجاهلية: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ﴾ (١) أي: رجال من رجال، والقوم: الرجال خاصة؛ لأنهم القوام على النساء، جمع قائم، ويسخر معناه: يستهزئ.
﴿عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ﴾ المعنى: اجتنبوا السخرية، فربما كان المستسخَر به خيرًا عند الله من الساخر.
﴿وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ﴾ ونكر (قَوْمٌ) و (نِسَاءٌ)؛ ليعم النهي (٢) قبيلهما (٣)، ولم يقل: رجل من رجل، ولا امرأة من امرأة؛ أي: فرد من فرد؛ لأن السخرية تكون غالبًا بين جمع.
عن ابن عباس: أنها نزلت في صفية بنت حيي بن أخطب، قال لها النساء: يهودية بنت يهوديين، فشكت ذلك إلى رسول الله - ﷺ -، فقال لها: "هَلَّا قلتِ: إن أبي هارون، وعمي موسى، وزوجي محمد" (٤).
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٤/ ٢٠٦)، و"تفسير الثعلبي" (٩/ ٨٠)، و"تفسير النسفي" (٤/ ١٦٦).
(٢) "النهي" زيادة من "ت".
(٣) في "ت": "قبيلهما".
(٤) انظر: "تفسير البغوي" (٤/ ٢٠٦)، و"تفسير الثعلبي" (٩/ ٨١)، =
369
﴿وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ لا يعيب بعضكم بعضًا. قرأ يعقوب: (تَلْمُزُوا) بضم الميم، والباقون: بكسرها (١).
﴿وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ﴾ النبز: اللقب، واللقب: ما يسمى به الإنسان بعد اسمه العَلَم، يعم المدح والذم، والتنابز: هو أن يدعى الإنسان بغير ما سُمي به مما يكرهه، المعنى: لا تلقبوا غيركم بالألقاب القبيحة؛ كالفاسق ونحوه، ولا تنادوه بها. قرأ البزي عن ابن كثير: (وَلاَ تَّنَابَزُوا) ﴿وَلَا تَّجَسَّسُوا﴾ (لِتَّعَارَفُوا) بتشديد التاء في الثلاثة، والباقون: بالتخفيف (٢).
﴿بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ﴾ أي: بئس الذكرُ المرتفع للمؤمنين أن يُذكروا بالفسق بعد دخولهم بالإيمان، واشتهارهم به.
﴿وَمَنْ لَمْ يَتُبْ﴾ عما نُهي عنه ﴿فَأُولَئِكَ﴾ أي: الساخرون واللامزون.
﴿هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ بوضع العصيان موضع الطاعة. قرأ أبو عمرو، والكسائي، وخلاد عن حمزة بخلاف عنه: (يَتُب فَّأُولَئِكَ) بإدغام الباء في الفاء، والباقون: بالإظهار (٣).
= و"الكشاف" للزمخشري (٤/ ٣٨٣). وقوله: "هلَّا قلتِ... محمد" أخرجه الترمذي في "سننه" (٣٨٩٢) في كتاب: المناقب، باب: فضل أزواج النبي - ﷺ -، والطبراني في "المعجم الكبير" (٢٤/ ٧٥)، والحاكم في "المستدرك" (٦٧٩٠).
وهو ضعيف الإسناد؛ قال الترمذي: حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث هاشم الكوفي، وليس إسناده بذلك القوي.
(١) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٨٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٢٢٣).
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٨٣)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٩٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٢٢٣ - ٢٢٥).
(٣) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٩٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٢٢٣ - ٢٢٤). =
370
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢)﴾.
[١٢] ونزل في رجلين اغتابا رفيقهما: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ﴾ (١) أي: أَبعِدوه عنكم، واجعلوه جانبًا منكم.
﴿إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ يستحق عليه العقاب، وذلك البعض كثير؛ لأنه ظن السوء بالمؤمنين، والتبعيض يؤذن باجتناب بعض الظن، ولا يقدم عليه إلا بعد النظر في حال الشخص، فإن كان موسومًا بالصلاح، فلا يظن به السوء بأدنى توهم، بل يحتاط في ذلك، ولا تظنن سوءًا إلا بعد ألا تجد إلى الخير سبيلًا، وأما ظن الصلاح بالصلحاء والعلماء بالله والشرع، فمندوب إليه، وأما الفساق، فلنا أن نظن بهم مثل الذي ظهر منهم.
﴿وَلَا تَجَسَّسُوا﴾ ولا تتبعوا عورات الناس، ولا تبحثوا عن أخبارها حتى لا يظهر ما ستره الله منها ﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ الغيبة: أن يقول في الرجل ما فيه مما يكرهه.
﴿أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا﴾ أي: أن ما يناله من عرض أخيه كأكل لحم ميت. قرأ نافع، وأبو جعفر: (مَيِّتًا) بكسر الياء مشددة (٢)، والباقون: بإسكانها مخففة (٣)، ونصبه على الحال من (لَحْمَ).
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٤/ ٢٠٧)، و"تفسير القرطبي" (١٦/ ٣٣٠).
(٢) "مشددة" زيادة من "ت".
(٣) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٠٦)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري =
﴿فَكَرِهْتُمُوهُ﴾ المعنى: إن صح ذلك، أو عرض عليكم هذا، فقد كرهتموه، ولا يمكنكم إنكار كراهته ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾ لمن اتقى ما نهي عنه، وتاب مما فرط منه.
...
﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣)﴾.
[١٣] ونزل نهيًا عن التفاخر: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى﴾ من آدم وحواء.
﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا﴾ جمع شعب -بفتح الشين-، وهو أكبر من القبيلة؛ لأنه يجمع القبائل مثل: ربيعة ومضر، والأوس والخزرج، سموا شعوبًا؛ لتشعبهم واجتماعهم كشعب أغصان الشجر ﴿وَقَبَائِلَ﴾ وهي دون الشعوب، واحدتها قبيلة، والقبيلة تجمع العمائر، [والعمائر تجمع البطون، والبطون تجمع الأفخاذ، والأفخاذ تجمع الفصائل] (١) مثاله: خزيمة شعب، كنانة قبيلة، قريش عمارة، قصي بطن، هاشم فخذ، العباس فصيلة، المعنى: خلقناكم من أصل واحد، ثم فرقناكم.
﴿لِتَعَارَفُوا﴾ ليعرف بعضكم بعضًا، ويعطيه حقه، لا للتفاخر، ثم بين ما به (٢) الفخر فقال: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ فإن التقوى بها تكمل
= (٢/ ٢٢٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٢٢٤).
(١) ما بين معكوفتين زيادة من "ت".
(٢) "ما به" زيادة من "ت".
النفوس، وتتفاضل الأشخاص، قال - ﷺ -: "من أحبَّ أن يكونَ أكرمَ الناس، فليتق الله" (١).
﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ﴾ بكم ﴿خَبِيرٌ﴾ ببواطنكم.
...
﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤)﴾.
[١٤] ونزل في طوائف من الأعراب قَدِموا المدينة في سنة جدبة، وأظهروا الإسلام ليأمنوا بذلك على نفوسهم وأموالهم، ومَنُّوا بذلك على النبي - ﷺ -: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا﴾ يا محمد: ﴿لَمْ تُؤْمِنُوا﴾ حقيقة، وأوقع ﴿لَمْ تُؤْمِنُوا﴾ موقع كذبتم؛ لأنه نفي ما ادعوه تأدبًا.
﴿وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾ انقدنا واستسلمنا؛ مخافةَ القتل والسبي.
﴿وَلَمَّا﴾ أي: لم ﴿يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ فالإسلام: الخضوع والقبول لأمر رسول الله - ﷺ -، فإن وجد معه اعتقاد وتصديق بالقلب، فهو إيمان، وتقدم ذكر الإيمان واختلاف الأئمة فيه أول سورة البقرة.
﴿وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ بالإخلاص وترك النفاق.
(١) رواه عبد بن حميد في "مسنده" (٦٧٥)، والحاكم في "المستدرك" (٧٧٠٧)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (٣٦٧)، وغيرهم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وإسناده ضعيف. انظر: "الضعفاء" للعقيلي (٤/ ٣٤٠).
﴿لَا يَلِتْكُمْ﴾ قرأ أبو عمرو، ويعقوب: (يَأْلِتكُمْ) بهمزة ساكنة بين الياء واللام، ويبدلها أبو عمرو على أصله؛ من ألت يألت؛ كضرب يضرب، لقوله تعالى: (وَمَا أَلَتْنَاهُمْ)، وقرأ الباقون: بكسر اللام من غير همز (١)؛ من لات يليت؛ كباع يبيع، وهما لغتان، معناهما: لا ينقصكم.
﴿مِنْ أَعْمَالِكُمْ﴾ أي: من ثوابها ﴿شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ﴾ لما (٢) فرط من المطيعين ﴿رَحِيمٌ﴾ بالتفضل عليهم.
...
﴿إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥)﴾.
[١٥] ثم بين المؤمنين حقيقة فقال: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا﴾ لم يشكوا.
﴿وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ في إيمانهم.
...
﴿قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦)﴾.
[١٦] فلما نزلت هاتان الآيتان، أتت الأعراب رسولَ الله - ﷺ - يحلفون
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٦٠٦)، و"التيسير" للداني (ص: ٢٢)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٩٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٢٢٦).
(٢) في "ت": "لمن".
بالله إنهم مؤمنون صادقون، وعلم الله غير ذلك منهم، فأنزل:
﴿قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ﴾ (١) التعليم بمعنى الإعلام؛ أي: أتخبرون الله بدينكم الذي أنتم عليه.
﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ لا يحتاج إلى إخباركم.
...
﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٧)﴾.
[١٧] ثم أمر تعالى نبيه - ﷺ - أن ينفي مِنَّةَ الأعراب، فقال: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ﴾ أي: بإسلامكم، فنصب بنزع الخافض.
﴿بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ﴾ على ما زعمتم.
﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ في إيمانكم، وجوابه محذوف يدل عليه ما قبله؛ أي: فلله المنة عليكم لا لكم.
...
﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٨)﴾.
[١٨] ﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ ما غاب فيهما.
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٤/ ٢١٣ - ٢١٤)، و"تفسير الثعلبي" (٩/ ٩٠)، و"تفسير القرطبي" (١٦/ ٢٤٩).
375
﴿وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ في سركم وعلانيتكم. قرأ ابن كثير: (يَعْمَلُونَ) بالغيب؛ لما في الآية من الغيبة عن النبي - ﷺ -، وقرأ الباقون: بالخطاب (١)، والله أعلم.
...
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٦٠٦)، و"التيسير" للداني (ص: ٢٠٢)، و"تفسير البغوي" (٤/ ٢١٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٦/ ٢٢٧).
376
Icon