تفسير سورة الرحمن

غاية الأماني في تفسير الكلام الرباني
تفسير سورة سورة الرحمن من كتاب غاية الأماني في تفسير الكلام الرباني المعروف بـغاية الأماني في تفسير الكلام الرباني .
لمؤلفه أحمد بن إسماعيل الكَوْرَاني . المتوفي سنة 893 هـ

سورة الرحمن
مكية، ست وسبعون آية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الرَّحْمَنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) هذه السورة مقصورة على بيان نِعَم الدارين التي لها شأن؛ لأن إحصاء الكل محال؛ فلذلك صدرها بالاسم الدال على جلائل النعم براعة للاستهلال، وبدأ بأجلها وهي نعم الدين، ثم اختار أعلاها شأناً وأسناها مكاناً وهي القرآن الحاوي لأصول الدين وفروعه الموضح للسبل، المصدق لسائر الكتب والرسل. ولما كان كمال الإنسان في تكميل قوته النظرية، وهو الغاية المطلوبة من خلقه؛ قدم تعليم القرآن، ثم أردفه بما يتوقف عليه بقوله:
(خَلَقَ الْإِنْسَانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (٤) المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير الذي لا يمكن تعلم القرآن وتعليمه إلا به. وأتى بالجمل الثلاث على نمط التعديد؛ إشارة إلى تقاعد الإنسان عن الوفاء بشكرها كما تقول فيمن قصر في مكافأة معروفك: " يا هذا كنت
صغيراً ربيتك، محتاجاً أعطتك، ضائعاً آويتك ". ثم بعد قضاء الوطر من هذا الأسلوب، أفاض في تعداد النعم واحدة إثر أخرى على النمط المعروف بحرف النسق مراعياً التقارب والتناسب بقوله:
(الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (٥) يجري كل منهما في منازله وبروجه بلا اختلال؛ ليضبط بذلك أحوال الكائنات، ويتميز به الفصول والأوقات.
(وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (٦) ينقادان لأمره فيما خلقا له، شبه ذلك بسجدة المكلف. والنجم: نبت لا ساق له، والشجر: ما له ساق، وارتباط الجملتين بما تقدم معنوي؛ وذلك أنه لما رمز إلى تقاعده في الشكر أخذ في تعداد نعم أخرى حثاً له على ما طلب منه، ولو عطف لم يفد هذا الغرض. فيهما إشارة إلى أن ما في العالم العلوي والسفلي قائم بما خلق له، والإنسان مع كونه المقصود من الكون خسر بذلك، وكان ظلوماً جهولاً.
(وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا... (٧) شرفاً ورتبة، لأنها منشأ أحكامه، ومصدر قضاياه، ومنزل أوامره ونواهيه، أو مكاناً فوق الأرض كقوله: (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا). دل به على علو شأنه وعظم كبريائه وسلطانه، مع كونه مبدأ جوده وإحسانه. (وَوَضَعَ الْمِيزَانَ) قانون الشرع الذي به النظام والوفاق بين الأنام الذي هو لأفعال المكلفين كالمكيال والمقياس الذي يعرف به الأشباه والأمثال.
(أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (٨) لا تتجاوزوا بالزيادة والنقصان، فيورثكم الندم والخسران.
(وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ... (٩) اجعلوا وزن أعمالكم قويماً لا عوج به بالعدل السوي، وهو ما قننه الشارع. (وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) لا تنقصوا ما وجب عليكم عن حقه.
أعاده مبالغة في التوصية.
(وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (١٠) بسطها مدحوة؛ لئلا يشق عليهم التصرف والتردد في اكتساب المعاش والمعاد. والأنام: الإنس والجن كذا عن الحسن، أو كل ذي روح.
(فِيهَا فَاكِهَةٌ... (١١) ضروب مما يتفكه به. (وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ) جمع كِمّ بالكسر وهو وعاء الطلع، أو أريد به كل ما يغطى من ليفه وسعفه وكُفَرّاه. وبالجملة ليس في شجر النخل ما لا ينتفع به، ولذلك قال رسول اللَّه - ﷺ -: " إِن مِنْ الشَّجَرِ شَجَرَةً مَثَلهَا كَمَثَلِ الْمُسْلِمِ،.. ثم قال إنها النِّخْلَة ". وعلى هذا ذكرها بعد الفاكهة ليس كذكر جبرائيل بعد الملائكة.
(وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ... (١٢) كالبُر وسائر الحبوب، والعصف: ورق النبات.
(وَالرَّيْحَانُ) لب الحَبِّ وما يؤكل منه، ولذلك فسر بالرزق. استوعب أقسام ما يتناول في حال الرفاهية؛ لأنه إما للتلذذ وهو الفاكهة، أو له وللتغذي وهو ثمر النخل، أو للتغذي وحده وهو الحب. وفي ذكرها على هذا الأسدوب ترق من الأدنى إلى ما هو أدخل في الامتنان. وقرأ ابن عامر الثلاثة بالنصب عطفاً على الفعلية بتقدير خلق. وعلية رسم الشام، ونافع وابن ذكوان وابن كثير وأبو عمرو وعاصم برفعها عطفاً على الاسمية أي: فيها فاكهة وفيها الحب. وعليه بقية الرسوم. وقرأ حمزة والكسائي بجر الثالث ورفع الأولين أي: ذو العصف والريحان أصله روحان، قلبت واوه ياء تخفيفاً. أو ريوحان حذف واوه فوزنه فيلان.
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (١٣) الخطاب للثقلين؛ لما تقدم ذكرهما في الأنام، ولقوله: (أَيُّهَ الثَّقَلَانِ). عن جابر " قرأ رسول اللَّه - ﷺ - علينا سورة الرحمن إلى آخرها ثم
قال: قرأتها على الجن كانوا أحسن ردًّا منكم كلما أتيت إلى (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) قالوا: لا بشّيء من آلائك نكذب ربنا ".
(خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ... (١٤) من طين يابس له صلصلة أي: صوت.
(كَالْفَخَّارِ) كالخزف، وعبّر عنه بالطين اللازب والحمأ المسنون والتراب أيضاً باعتبار انقلابه في الأطوار.
(وَخَلَقَ الْجَانَّ... (١٥) أبا الجن وهو إبليس (مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ) أي: من نار صافية، أو مختلطة بالدخان. ومنه الأمر المَريج " من " بيان أو من نار مخصوصة ممتازة عن هذه النيران؛ فلهذا نكره فـ " من " ابتدائية.
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (١٦) إذ إفاضة الجود أجلّ الإنعامات وأولاها.
(رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧) مشرقي الشتاء والصيف ومغربيهما.
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (١٨) لما في ذلك من الفوائد التي لا تحصى.
(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (١٩) أرسلهما متلاقيين، من مرجت الدابة أرسلتها.
(بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (٢٠) حاجب من قدرته يمنع أحدهما من التعدي على الآخر بالاختلاط.
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٢١) إذ في ذلك من الآيات ما يدل على كمال اقتداره الموصل إلى الإيمان الذي كل نعمة دونه. وتفسر الالتقاء بتماس السطوح، ثم تفسير البرزخ بحاجب من الأرض، وحمل البحرين على بحر فارس والروم غير سديد.
(يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (٢٢) أحدهما أبيض يقَق، والآخر أحمر قانئ، وهما من خواص الملح دون العذب، وإنما قال منهما؛ لاتصالهما في المرأي. والقول بأنهما يخرجان من مجمع البحرين ترده المشاهدة.
قرأ نافع وأبو عمرو بضم الياء وفتح الراء، والباقون بالعكس. والأولى الأصل، والثانية التعبير باللازم.
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٢٣) وكونهما من فواخر النعم غني عن البيان.
(وَلَهُ الْجَوَارِ... (٢٤) السفن الجارية في البحر (الْمُنْشَئَاتُ فِي الْبَحْرِ) المرفوعات الشُّرُع. وقرأ حمزة بالكسر أي: رافعات الشرع أو الموج أو السر اتساعاً، أو المبتدئات في الفعل، من أنشأ: شرع في الفعل.
(كَالْأَعْلَامِ) كالجبال الشامخة. قالت الخنساء:
كَأنهُ عَلَمٌ في رأسه نارُ
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٢٥) لما في ذلك من الدلائل الدالة على كمال علمه تعالى واقتداره، وما في ضمنه من منافع العباد.
(كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (٢٦) أي: على الأرض من الموجودات، و (مَنْ) لتغليب العقلاء، لقوله. (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)، والاقتصار على من على الأرض؛ لأنه في تعداد النعم، وأشار إلى العموم بقوله:
(وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ... (٢٧) أي: ذاته. يجوز به أولاً عن الجملة كاليد والعين، ثم اشتهر حتى صار حقيقة فاستعمل فيمن تنزه عن الأجزاء. (ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) أي:
الذي يجله الموحدون وينسبونه إلى الكرم، أو الذي جدير بأن يقال: ما أجلَّه وما أكرمه قيل أو لم يقل. وتقديم صفة السلب، لأنه في مقام الجلال، وقهر الخلق بالفناء.
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٢٨) لما في ذلك من العلم بكمال الصانع وكبريائه، مع الوصول إلى الجزاء والحياة الأبدية.
(يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ... (٢٩) لافتقار الكل إليه ابتداء وبقاء. روي أنه تعالى لمّا لَعَنَ إِبْليس وَطَرَدَهُ مِنْ جِوَارِهِ، وَكَانَ من الحافيّنَ بالعرشِ بَكَى جبرائيلُ وميكائيلُ فسألهما الربّ تعالى وهو أعلم بهما لم تبكيان؟ قالا. يا ربنا من خوفِك. فقال: هكذا كونا رَاهبين. (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) يسعد ويشّقي، ويحيي ويميت، ويغني ويفقر، شؤون يبديها لا شؤون يبتديها.
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٣٠) لما في ذلك من دفع الضر وجلب النفع، والاعتبار والتذكر المنجي من عقابه.
(سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (٣١) كناية عن التوفر للانتقام وتوجه الإرادة إليه، أو تمثيل بأن مثل حاله تعالى بعد انتهاء الشؤون إلى واحد وهو الأخذ بالجزاء بحال من له سابقة اشتغال عن شيء ثم فرغ له. والثقلان: الإنس والجن،. لأن الأرض لهما كالحمولة. قرأ حمزة وأبوبكر في وجه (سَيَفْرُغُ) بالياء.
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٣٢) لما في هذا الترهيب من الحث على الطاعة.
(يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ... (٣٣) من ملكوتي لتنجو بذلك من دهري (فَانْفُذُوا) أمر تعجيز وفي معناه (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) وقيل: المراد به يوم الحشر فإن الملائكة يحدق بهم سبعة صفوف. (يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ). وتقديم الجن؛ لأنهم أعتى وأشد قوة (لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٣٤) وأنى لكم ذلك.
(يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ... (٣٥) لهب مركّب من النار والدخان. وعن ابن عباس: " نار لا دخان فيه ". وقرأ ابن كثير شِوَاظ بكسر الشين. (مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ) صفْرٌ مذابٌ يحشر الناس إلى الموقف. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو بالجر عطفاً على المجرور أي: من نار ومن نحاس على أن المراد به الدخان. وأنشد:
والرفع أبلغ وإليه ذهب ابن عباس (فَلَا تَنْتَصِرَانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٣٦) فإن في التهديد كبح عنان العاصي، وحث الطائع على المزيد.
(فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً (٣٧) قطعة حمراء كلون الورد. وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما الوردة أديم أحمر. (كَالدِّهَانِ) كالزيت المذاب الذي يدهن به. كقوله (يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ) والمعنى: أنها تذوب من حرِّ نار جهنم. والدهان: كل ما يدهن به كالحِزام واللثام والختام.
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٣٨) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (٣٩) هذا في أول الحال قبل شفاعة رسول اللَّه - ﷺ - للفصل والقضاء، فلا ينافيه (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) والهاء للإنس والجان؛ لتقدمهما رتبة.
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٤٠) لما في ذلك الوقت من النعيم في ظل عرش الرحمن (لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).
(يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ (٤١) بعلامتهم سواد الوجه وزرقة العين (فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ) مجموعا بينهما، أو على التعاقب.
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٤٢) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍءَانٍ (٤٤) بلغ نهاية الحرارة. يحترقون بالنار ويشربون من ذلك الحميم.
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٤٥) وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ... (٤٦) الوقوف بين يديه (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) كقوله: (ذَلِكَ لِمَن خَافَ مَقَامِي)، أو لفظ المقام مقحم أي: لمن خاف اللَّه كقول الشماخ:
............ وَنفيتُ عَنهُ... مَقامَ الذِئب كالرَجُلِ اللعينِ
(جَنَّتَانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٤٧) أي: لكل واحد إحداهما للاعتقاد والأخرى للعمل، أو إحداهما لترك المعاصي والأخرى لفعل الطاعات. وجعل إحداهما للخائف من الإنس والأخرى للخائف من الجن بعيد مخالف للأحاديث.
(ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (٤٨) جمع فَنَن: وهو الغصن. خصها بالذكر؛ لأنها التي ينتفع بظلالها وثمارها وحصن المنظر بأوراقها، أو جمع فن أي: أنواع من الثمار.
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٤٩) حيث أعد لكم هذا وأنتم بعد في العدم.
(فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (٥٠) كيف شاؤوا إحداهما السلسبيل، والأخرى تسنيم.
روي أنهما ينبعان من جيل من مسك. والوصف بالجريان؛ لتوفير حظ الباصرة فإن النظر إلى الماء الزلال أجلب شيء للسرور.
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٥١) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (٥٢) صنفان مما تعلمون ومما لا تعلمون، أو رطب ويابس لئلا يُملّ.
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٥٣) وأيُّ نعيم أفضل من هذا التنويع؟
(مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ... (٥٤) من حرير غليظ، وظهائرها من سندس. نصب على المدح، أو حال من فاعل " خاف "؛ لأنه في معنى الجمع. (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ) دان قريب يناله القاعد والمتكئ. اسم بمعنى المجني.
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٥٥) فِيهِنَّ... (٥٧) أي: في الجنان التي لكل واحد منها جنتان، أو في الجنتين؛ لاشتمالها على الأمكنة، أو في الآلاء المعدودة. (قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ) على أزواجهن لا ينظرن الغير. (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (٥٦) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٥٧) فهنَّ أبكار كما خلقن. وقرأَ الكسائي في رواية الدوري هنا بضم الميم وكسرها في الثانية، وفي رواية الليث عنه بالعكس، وفي رواية الجوهري بالمرجان خيّر الكسائي بين ضم إحداهما وكسر الأخرى على التعاند. وهذا أحسن جمعاً بين اللغتين بلا ترجيح من غير مرجح.
(كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (٥٨) في صفاء الياقوت وبياض المرجان. روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول اللَّه - ﷺ - قال: " لِكُّلِّ وَاحِدٍ زَوجَتَانِ يُرَى مخُّ سَاقِهَا مِنْ وَرَاء اللحْم ". وفي رواية ابن مسعود - رضي الله عنه -: " مِنْ وَرَاءِ سَبعين حُلَّة ".
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٥٩) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (٦٠) أي: لا يكون إلا ذلك.
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٦١) وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (٦٢) دون الجنتين الأولين في الشرف، هما للمقربين وهاتان لأصحاب اليمين، روى البخاري عن عبد اللَّه بن قيس عن
أبيه أن رسول اللَّه - ﷺ - قال: " جَنتان مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فيهِمَا، وَجَنَّتَان مِنْ فضَّة آنيَتُهُمَا وَمَا فيهِمَا ". وفي اللفظ دلالة على مزية الأوليين.
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٦٣) مُدْهَامَّتَانِ (٦٤) سوداوان من الرّيّ. في مقابله (ذَوَاتَا أَفْنَانٍ).
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٦٥) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (٦٦) في مقابلة (عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ) والنضخ: الفوران، أقل من الجري.
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٦٧) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨) أفردهما؛ لبيان شرفهما على سائر الفواكه كأنهما جنسان آخران، أو لاشتمالهما على غير التفكه كالتغذي في التمر، والتداوي وفي الرمان؛ ولذلك ذهب أبو حنيفة رحمه اللَّه إلى أن من
حلف لا يأكل الفاكهة لا يحنث بأكل أحدهما. والوجه هو الأول إذ هذا إنما يتصور في فاكهة الدنيا؛ لأن كل ما يتناول في الجنة لا يتناول إلا على وجه التفكه.
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٦٩) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (٧٠) جميلات حسان الأخلاق، تخفيف خيرات صفة لا اسم تفضيل. إذ ذاك لا يجمع هذا الجمع.
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٧١) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (٧٢) مخدرات لا يخرجن، أو مقصور طرفهن على أزواجهن.
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٧٣) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (٧٤) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٧٥) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ... (٧٦) وسائد من حرير أخضر؛ لأنه لون مفرِح، ويقال أيضاً للبسط ولأطراف الخيمة وكل ثوب أخضر. (وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ) بُسُطٍ حسَنةٍ منسوب إلى عبقر. تزعم العرب أنه اسم بلد للجن ينسبون إليه كلّ شيء عجيب. ومنه في وصف عمر. " فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيّاً يَفْرِي فَريَه " والمراد به الجنس؛ ولذلك جمع وصفه.
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٧٧) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ... (٧٨) كثر خيره وازداد. أراد لفظ الرحمن الذي يعقبه هذه النعم، أو كل اسم له فإنه لا يبدأ به شيء إلا صار ذا بركة
69
ويمن. (ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) تقدم الكلام فيه. وقرأ ابن عامر (ذو) مرفوعاً صفة للاسم وفيه مبالغة حسنة.
* * *
تمت سورة الرحمن، والحمد لمن له الفضل والإحسان، والصلاة على المبعوث إلى الإنس والجان، وآله وصحبه ذوي الرتب والشان.
70
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
يُضيءُ كَضوءِ سِراج السلِيطِ لَم يَجعَلِ اللَّه فِيهِ نُحاسا.