تفسير سورة الحديد

فتح القدير
تفسير سورة سورة الحديد من كتاب فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير المعروف بـفتح القدير .
لمؤلفه الشوكاني . المتوفي سنة 1250 هـ
سورة الحديد
هي تسع وعشرون آية وهي مدنية. قال القرطبي : في قول الجميع. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت سورة الحديد بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج الطبراني وابن مردويه قال السيوطي بسند ضعيف عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«نزلت سورة الحديد يوم الثلاثاء، وخلق الله الحديد يوم الثلاثاء، وقتل ابن آدم أخاه يوم الثلاثاء، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحجامة يوم الثلاثاء ». وأخرج الديلمي عن جابر مرفوعاً «لا تحتجموا يوم الثلاثاء، فإن سورة الحديد أنزلت علي يوم الثلاثاء ». وأخرج أحمد والترمذي وحسَّنه والنسائي وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن العرباض بن سارية «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد وقال : إن فيهن آية أفضل من ألف آية ». وفي إسناده بقية بن الوليد وفيه مقال معروف. وقد أخرجه النسائي عن خالد بن معدان قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكر العرباض بن سارية، فهو مرسل. وأخرج ابن الضريس عن يحيى بن أبي كثير قال :«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ المسبحات، وكان يقول : إن فيهن آية أفضل من ألف آية » قال يحيى : فنراها الآية التي في آخر الحشر. وقال ابن كثير في تفسيره : والآية المشار إليها والله أعلم هي قوله :«هو الأول والآخر والظاهر والباطن » الآية. والمسبحات المذكورة هي : الحديد والحشر، والصف، والجمعة، والتغابن.

سورة الحديد
وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضَّرِيسِ وَالنَّحَّاسُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْحَدِيدِ بِالْمَدِينَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَزَلَتْ سُورَةُ الْحَدِيدِ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَخَلَقَ اللَّهُ الْحَدِيدَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَقَتَلَ ابْنُ آدَمَ أَخَاهُ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَنَهَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْحِجَامَةِ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ». وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: «لَا تَحْتَجِمُوا يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، فَإِنَّ سُورَةَ الْحَدِيدِ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ». وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ الْمُسَبِّحَاتِ قَبْلَ أَنْ يَرْقُدَ وَقَالَ: إِنَّ فِيهِنَّ آيَةً أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ آيَةٍ». وَفِي إِسْنَادِهِ بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَفِيهِ مَقَالٌ مَعْرُوفٌ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَذْكُرِ العِرْبَاضَ بْنَ سَارِيَةَ، فَهُوَ مُرْسَلٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ عَنْ يَحْيَى ابن أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ الْمُسَبِّحَاتِ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ فِيهِنَّ آيَةً أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ آيَةٍ» قَالَ يَحْيَى: فَنَرَاهَا الْآيَةَ الَّتِي فِي آخِرِ الْحَشْرِ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: وَالْآيَةُ الْمُشَارُ إِلَيْهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ هِيَ قَوْلُهُ: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ الْآيَةَ. وَالْمُسَبِّحَاتُ الْمَذْكُورَةُ هِيَ: الْحَدِيدُ، وَالْحَشْرُ، وَالصَّفُّ، والجمعة، والتغابن.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ١ الى ٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤)
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٦)
قَوْلُهُ: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ: نَزَّهَهُ وَمَجَّدَهُ. قَالَ الْمُقَاتِلَانِ: يَعْنِي كُلَّ شَيْءٍ مِنْ ذِي رُوحٍ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي تَسْبِيحِ الْجَمَادَاتِ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ «١» وَالْمُرَادُ بِالتَّسْبِيحِ الْمُسْنَدِ إِلَى مَا فِي السَّمَاوَاتِ والأرض من العقلاء وغيرهم
(١). الإسراء: ٤٤.
198
وَالْحَيَوَانَاتِ وَالْجَمَادَاتِ: هُوَ مَا يَعُمُّ التَّسْبِيحَ بِلِسَانِ الْمَقَالِ كَتَسْبِيحِ الْمَلَائِكَةِ وَالْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَبِلِسَانِ الْحَالِ كَتَسْبِيحِ غَيْرِهِمْ، فَإِنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ يَدُلُّ عَلَى الصَّانِعِ. وَقَدْ أَنْكَرَ الزَّجَّاجُ أَنْ يَكُونَ تَسْبِيحُ غَيْرِ الْعُقَلَاءِ هُوَ تَسْبِيحُ الدَّلَالَةِ، وَقَالَ: لَوْ كَانَ هَذَا تَسْبِيحَ الدَّلَالَةِ وَظُهُورِ آثَارِ الصَّنْعَةِ لَكَانَتْ مَفْهُومَةً، فَلِمَ قَالَ: وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ وَإِنَّمَا هُوَ تَسْبِيحُ مَقَالٍ. وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ «١» فَلَوْ كَانَ هَذَا التَّسْبِيحُ مِنَ الْجِبَالِ تَسْبِيحَ دَلَالَةٍ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ دَاوُدَ فَائِدَةٌ. وَفِعْلُ التَّسْبِيحِ قَدْ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ تَارَةً، كَمَا فِي قوله: وَسَبِّحُوهُ وَبِاللَّامِ أُخْرَى كَهَذِهِ الْآيَةِ، وَأَصْلُهُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ لِأَنَّ مَعْنَى سَبَّحْتُهُ:
بَعَّدْتُهُ عَنِ السُّوءِ، فَإِذَا اسْتُعْمِلَ بِاللَّامِ فَهِيَ إِمَّا مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ كَمَا فِي شَكَرْتُهُ وَشَكَرْتُ لَهُ، أَوْ هِيَ لِلتَّعْلِيلِ، أَيِ: افْعَلِ التَّسْبِيحَ لِأَجْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ خَالِصًا لَهُ، وَجَاءَ هَذَا الْفِعْلُ فِي بَعْضِ الْفَوَاتِحِ مَاضِيًا كَهَذِهِ الْفَاتِحَةِ، وَفِي بَعْضِهَا مُضَارِعًا، وَفِي بَعْضِهَا أَمْرًا لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مُسَبِّحَةٌ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ، لَا يَخْتَصُّ تَسْبِيحُهَا بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، بَلْ هِيَ مُسَبِّحَةٌ أَبَدًا فِي الْمَاضِي، وَسَتَكُونُ مُسَبِّحَةً أَبَدًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ الْعَزِيزُ أَيِ:
الْقَادِرُ الْغَالِبُ الَّذِي لَا يُنَازِعُهُ أَحَدٌ وَلَا يُمَانِعُهُ مُمَانِعٌ كَائِنًا مَا كَانَ الْحَكِيمُ الَّذِي يَفْعَلُ أَفْعَالَ الْحِكْمَةِ وَالصَّوَابِ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَتَصَرَّفُ فِيهِ وَحْدَهُ وَلَا يَنْفُذُ غَيْرُ تَصَرُّفِهِ وَأَمْرِهِ، وَقِيلَ: أَرَادَ خَزَائِنَ الْمَطَرِ وَالنَّبَاتِ وَسَائِرِ الْأَرْزَاقِ يُحْيِي وَيُمِيتُ الْفِعْلَانِ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُمَا خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ لَهُ، أَوْ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ لِبَيَانِ بَعْضِ أَحْكَامِ الْمُلْكِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُحْيِي فِي الدُّنْيَا وَيُمِيتُ الْأَحْيَاءَ، وَقِيلَ: يُحْيِي النُّطَفَ وَهِيَ مُوَاتٌ وَيُمِيتُ الْأَحْيَاءَ، وَقِيلَ: يُحْيِي الْأَمْوَاتَ لِلْبَعْثِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ كَائِنًا مَا كَانَ هُوَ الْأَوَّلُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وَالْآخِرُ بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ، أَيِ:
الْبَاقِي بَعْدَ فَنَاءِ خَلْقِهِ وَالظَّاهِرُ الْعَالِي الْغَالِبُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، أَوِ الظَّاهِرُ وَجُودُهُ بِالْأَدِلَّةِ الْوَاضِحَةِ وَالْباطِنُ أَيِ: الْعَالِمُ بِمَا بَطَنَ، مِنْ قَوْلِهِمْ فُلَانٌ يُبْطِنُ أَمْرَ فُلَانٍ، أَيْ: يَعْلَمُ دَاخِلَةَ أَمْرِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الْمُحْتَجِبُ عَنِ الْأَبْصَارِ وَالْعُقُولِ، وَقَدْ فَسَّرَ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ الْأَرْبَعَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا سَيَأْتِي، فَيَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إِلَى ذَلِكَ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ شَيْءٌ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ هذا بيان لبعض ملكه للسماوات وَالْأَرْضِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَفِي غَيْرِهَا مُسْتَوْفًى يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ أَيْ: يَدْخُلُ فِيهَا مِنْ مَطَرٍ وَغَيْرِهِ وَما يَخْرُجُ مِنْها مِنْ نَبَاتٍ وَغَيْرِهِ وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ مَطَرٍ وَغَيْرِهِ وَما يَعْرُجُ فِيها أَيْ: يَصْعَدُ إِلَيْهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَأَعْمَالِ الْعِبَادِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ سَبَأٍ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ أَيْ: بِقُدْرَتِهِ وَسُلْطَانِهِ وَعِلْمِهِ، وَهَذَا تَمْثِيلٌ لِلْإِحَاطَةِ بِمَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ أَيْنَمَا دَارُوا فِي الْأَرْضِ مِنْ بَرٍّ وَبَحْرٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْءٌ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ هَذَا التَّكْرِيرُ لِلتَّأْكِيدِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ لَا إِلَى غَيْرِهِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «تُرْجَعُ» مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ عَامِرٍ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وفي مواضع
(١). الأنبياء: ٧٩.
199
﴿ لَّهُ مُلْكُ السموات والأرض ﴾ يتصرّف فيه وحده ولا ينفذ غير تصرّفه وأمره، وقيل : أراد خزائن المطر والنبات وسائر الأرزاق ﴿ يحيى ويميت ﴾ الفعلان في محل رفع على أنهما خبر لمبتدأ محذوف، أو في محل نصب على الحال من ضمير «له »، أو كلام مستأنف لبيان بعض أحكام الملك، والمعنى : أنه يحيي في الدنيا ويميت الأحياء، وقيل : يحيي النطف وهي موات ويميت الأحياء، وقيل : يحيي الأموات للبعث ﴿ وَهُوَ على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ ﴾ لا يعجزه شيء كائناً ما كان.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن أبي شيبة ومسلم والترمذي والبيهقي، عن أبي هريرة قال : جاءت فاطمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله خادماً، فقال : قولي :«اللَّهمّ ربّ السموات السبع ورب العرش العظيم، وربنا وربّ كل شيء، منزل التوراة والإنجيل والفرقان، فالق الحبّ والنوى، أعوذ بك من شرّ كل شيء أنت آخذ بناصيته، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر». وأخرج أحمد ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة من وجه آخر مرفوعاً مثل هذا في الأربعة الأسماء المذكورة وتفسيرها. وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن ابن عمر وأبي سعيد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :«لا يزال الناس يسألون عن كل شيء حتى يقولوا : هذا الله كان قبل كل شيء، فماذا كان قبل الله ؟ فإن قالوا لكم ذلك، فقولوا : هو الأوّل قبل كل شيء، والآخر فليس بعده شيء، وهو الظاهر فوق كل شيء، وهو الباطن دون كل شيء، وهو بكل شيء عليم». وأخرج أبو داود عن أبي زميل قال : سألت ابن عباس فقلت : ما شيء أجده في صدري، قال ما هو ؟ قلت : والله لا أتكلم به، قال : فقال لي : أشيء من شك ؟ قال وضحك، قال : ما نجا من ذلك أحد، قال : حتى أنزل الله :﴿ فَإِن كُنتَ فِي شَكّ مّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءونَ الكتاب مِن قَبْلِكَ ﴾ الآية [ يونس : ٩٤ ] قال : وقال لي : إذا وجدت في نفسك شيئًا فقل :﴿ هو الأوّل والآخر والظاهر والباطن، وهو بكل شيء عليم ﴾. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ ﴾ قال : عالم بكم أينما كنتم.
﴿ هُوَ الأوّل ﴾ قبل كل شيء ﴿ والآخر ﴾ بعد كل شيء : أي الباقي بعد فناء خلقه ﴿ والظاهر ﴾ العالي الغالب على كل شيء، أو الظاهر وجوده بالأدلة الواضحة ﴿ والباطن ﴾ أي العالم بما بطن، من قولهم : فلان يبطن أمر فلان : أي يعلم داخلة أمره، ويجوز أن يكون المعنى المحتجب عن الأبصار والعقول، وقد فسّر هذه الأسماء الأربعة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي، فيتعين المصير إلى ذلك ﴿ وَهُوَ بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ ﴾ لا يعزب عن علمه شيء من المعلومات.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن أبي شيبة ومسلم والترمذي والبيهقي، عن أبي هريرة قال : جاءت فاطمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله خادماً، فقال : قولي :«اللَّهمّ ربّ السموات السبع ورب العرش العظيم، وربنا وربّ كل شيء، منزل التوراة والإنجيل والفرقان، فالق الحبّ والنوى، أعوذ بك من شرّ كل شيء أنت آخذ بناصيته، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر». وأخرج أحمد ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة من وجه آخر مرفوعاً مثل هذا في الأربعة الأسماء المذكورة وتفسيرها. وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن ابن عمر وأبي سعيد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :«لا يزال الناس يسألون عن كل شيء حتى يقولوا : هذا الله كان قبل كل شيء، فماذا كان قبل الله ؟ فإن قالوا لكم ذلك، فقولوا : هو الأوّل قبل كل شيء، والآخر فليس بعده شيء، وهو الظاهر فوق كل شيء، وهو الباطن دون كل شيء، وهو بكل شيء عليم». وأخرج أبو داود عن أبي زميل قال : سألت ابن عباس فقلت : ما شيء أجده في صدري، قال ما هو ؟ قلت : والله لا أتكلم به، قال : فقال لي : أشيء من شك ؟ قال وضحك، قال : ما نجا من ذلك أحد، قال : حتى أنزل الله :﴿ فَإِن كُنتَ فِي شَكّ مّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءونَ الكتاب مِن قَبْلِكَ ﴾ الآية [ يونس : ٩٤ ] قال : وقال لي : إذا وجدت في نفسك شيئًا فقل :﴿ هو الأوّل والآخر والظاهر والباطن، وهو بكل شيء عليم ﴾. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ ﴾ قال : عالم بكم أينما كنتم.
﴿ هُوَ الذي خَلَقَ السموات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ﴾ هذا بيان لبعض ملكه للسموات والأرض. وقد تقدّم تفسيره في سورة الأعراف وفي غيرها مستوفى ﴿ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ ﴾ أي يدخل فيها من مطر وغيره ﴿ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا ﴾ من نبات وغيره ﴿ وَمَا يَنزِلُ مِنَ السماء ﴾ من مطر وغيره ﴿ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ﴾ أي يصعد إليها من الملائكة وأعمال العباد، وقد تقدّم تفسير هذا في سورة سبأ ﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ ﴾ أي بقدرته وسلطانه وعلمه، وهذا تمثيل للإحاطة بما يصدر منهم أينما داروا في الأرض من برّ وبحر ﴿ والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ لا يخفى عليه من أعمالكم شيء.
﴿ لَّهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْض ﴾ هذا التكرير للتأكيد ﴿ وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأُمُور ﴾ لا إلى غيره. قرأ الجمهور ﴿ تُرْجَعُ ﴾ مبنياً للمفعول. وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر على البناء للفاعل.
﴿ يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل ﴾ قد تقدّم تفسير هذا في سورة آل عمران، وفي مواضع ﴿ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور ﴾ أي بضمائر الصدور ومكنوناتها، لا يخفى عليه من ذلك خافية.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن أبي شيبة ومسلم والترمذي والبيهقي، عن أبي هريرة قال : جاءت فاطمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله خادماً، فقال : قولي :«اللَّهمّ ربّ السموات السبع ورب العرش العظيم، وربنا وربّ كل شيء، منزل التوراة والإنجيل والفرقان، فالق الحبّ والنوى، أعوذ بك من شرّ كل شيء أنت آخذ بناصيته، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر». وأخرج أحمد ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة من وجه آخر مرفوعاً مثل هذا في الأربعة الأسماء المذكورة وتفسيرها. وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن ابن عمر وأبي سعيد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :«لا يزال الناس يسألون عن كل شيء حتى يقولوا : هذا الله كان قبل كل شيء، فماذا كان قبل الله ؟ فإن قالوا لكم ذلك، فقولوا : هو الأوّل قبل كل شيء، والآخر فليس بعده شيء، وهو الظاهر فوق كل شيء، وهو الباطن دون كل شيء، وهو بكل شيء عليم». وأخرج أبو داود عن أبي زميل قال : سألت ابن عباس فقلت : ما شيء أجده في صدري، قال ما هو ؟ قلت : والله لا أتكلم به، قال : فقال لي : أشيء من شك ؟ قال وضحك، قال : ما نجا من ذلك أحد، قال : حتى أنزل الله :﴿ فَإِن كُنتَ فِي شَكّ مّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءونَ الكتاب مِن قَبْلِكَ ﴾ الآية [ يونس : ٩٤ ] قال : وقال لي : إذا وجدت في نفسك شيئًا فقل :﴿ هو الأوّل والآخر والظاهر والباطن، وهو بكل شيء عليم ﴾. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ ﴾ قال : عالم بكم أينما كنتم.
وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أَيْ: بِضَمَائِرِ الصُّدُورِ وَمَكْنُونَاتِهَا، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ خَافِيَةٌ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَتْ فَاطِمَةُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسأله خادما، فقال قولي: «اللهم ربّ السموات السَّبْعِ وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، وَرَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، مُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْفُرْقَانِ، فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ شَيْءٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ، أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ، اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ، وَأَغْنِنَا مِنَ الفقر». وأخرج أحمد ومسلم وغير هما مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَرْفُوعًا مِثْلَ هَذَا فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَسْمَاءِ الْمَذْكُورَةِ وَتَفْسِيرِهَا. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَزَالُ النَّاسُ يَسْأَلُونَ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى يَقُولُوا: هَذَا اللَّهُ كَانَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، فَمَاذَا كَانَ قَبْلَ اللَّهِ؟ فَإِنْ قَالُوا لَكُمْ ذَلِكَ فَقُولُوا: هُوَ الْأَوَّلُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَالْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ، وَهُوَ الظَّاهِرُ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ الْبَاطِنُ دُونَ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ». وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي زُمَيْلٍ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ: مَا شَيْءٌ أَجِدُهُ فِي صَدْرِي، قَالَ: مَا هُوَ؟ قُلْتُ:
وَاللَّهِ لَا أَتَكَلَّمُ بِهِ، قَالَ: فَقَالَ لِي: أَشَيْءٌ مِنْ شَكٍّ؟ قَالَ: وَضَحِكَ، قَالَ: مَا نَجَا مِنْ ذَلِكَ أَحَدٌ، قَالَ:
حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ «١» الْآيَةَ قَالَ: وَقَالَ لِي: إِذَا وَجَدْتَ فِي نَفْسِكَ شَيْئًا فَقُلْ: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ قال: عالم بكم أينما كنتم.
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ٧ الى ١١]
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) وَما لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٩) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١)
قَوْلُهُ: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أَيْ: صَدِّقُوا بِالتَّوْحِيدِ وَبِصِحَّةِ الرِّسَالَةِ، وَهَذَا خِطَابٌ لِكُفَّارِ الْعَرَبِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْجَمِيعِ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ الِاسْتِمْرَارُ عَلَيْهِ، أَوِ الِازْدِيَادُ مِنْهُ. ثُمَّ لَمَّا أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ أَمَرَهُمْ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ أَيْ:
جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَمْلِكُوهُ حَقِيقَةً، فَإِنَّ الْمَالَ مَالُ اللَّهِ وَالْعِبَادَ خُلَفَاءُ اللَّهِ فِي أَمْوَالِهِ، فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَصْرِفُوهَا فِيمَا يُرْضِيهِ. وَقِيلَ: جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِمَّنْ تَرِثُونَهُ، وَسَيَنْتَقِلُ إِلَى غَيْرِكُمْ مِمَّنْ يَرِثُكُمْ،
(١). يونس: ٩٤.
200
فَلَا تَبْخَلُوا بِهِ. كَذَا قَالَ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ. وَفِيهِ التَّرْغِيبُ إِلَى الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ الْخَيْرِ قَبْلَ أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْهُمْ وَيَصِيرَ إِلَى غَيْرِهِمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ التَّرْغِيبُ فِي الْإِنْفَاقِ فِي الْخَيْرِ، وَمَا يَرْضَاهُ اللَّهُ عَلَى الْعُمُومِ، وَقِيلَ: هُوَ خَاصٌّ بِالزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، وَلَا وَجْهَ لهذا التخصيص. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ ثَوَابَ مَنْ أَنْفَقَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ:
فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ أَيِ: الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَبَيْنَ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ، وَهُوَ الْجَنَّةُ وَما لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ، أَيْ:
أَيُّ عُذْرٍ لَكُمْ، وَأَيُّ مَانِعٍ مِنَ الْإِيمَانِ، وَقَدْ أُزِيحَتْ عَنْكُمُ الْعِلَلُ؟ وَ «ما» مبتدأ و «لكم» خبره ولا تُؤْمِنُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي «لَكُمْ»، وَالْعَامِلُ «مَا» فِيهِ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى:
أَيُّ شَيْءٍ لَكُمْ مِنَ الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ إِذَا لَمْ تُؤْمِنُوا؟ وَجُمْلَةُ: وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ لَا تُؤْمِنُونَ على التداخل، و «لتؤمنوا» متعلق بيدعوكم، أَيْ: يَدْعُوكُمْ لِلْإِيمَانِ، وَالْمَعْنَى: أَيُّ عُذْرٍ لَكُمْ فِي تَرْكِ الْإِيمَانِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ وَيُنَبِّهُكُمْ عَلَيْهِ؟ وَجُمْلَةُ: وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ يَدْعُوكُمْ عَلَى التَّدَاخُلِ أَيْضًا، أَيْ: وَالْحَالُ أَنْ قَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَكُمْ حِينَ أَخْرَجَكُمْ مِنْ ظَهْرِ أَبِيكُمْ آدَمَ، أَوْ بِمَا نَصَبَ لَكُمْ مِنَ الْأَدِلَّةِ الدالة على التوحيد وجوب الْإِيمَانِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «وَقَدْ أَخَذَ» مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِمَا أُخِذَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْمِيثَاقِ، أَوْ بِالْحُجَجِ وَالدَّلَائِلِ، أَوْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ، فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِهِ وَأَوْضَحِ مُوجِبَاتِهِ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ أي: واضحات ظاهرات، وهي الآيات الْقُرْآنِيَّةُ، وَقِيلَ: الْمُعْجِزَاتُ وَالْقُرْآنُ أَعْظَمُهَا لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أَيْ: لِيُخْرِجَكُمُ اللَّهُ بِتِلْكَ الْآيَاتِ مِنْ ظُلُمَاتِ الشِّرْكِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ، أَوْ لِيُخْرِجَكُمُ الرَّسُولُ بِتِلْكَ الْآيَاتِ، أَوْ بِالدَّعْوَةِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ أَيْ: لَكَثِيرُ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ بَلِيغُهُمَا، حَيْثُ أَنْزَلَ كُتُبَهُ وَبَعَثَ رُسُلَهُ لِهِدَايَةِ عِبَادِهِ، فَلَا رَأْفَةَ وَلَا رَحْمَةَ أَبْلَغُ مِنْ هَذِهِ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِلتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، وَالْكَلَامُ فِي إِعْرَابِ هَذَا كَالْكَلَامِ فِي إِعْرَابِ قَوْلِهِ: وَما لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِنْفَاقَ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ هُوَ الْإِنْفَاقُ في سبيل كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ، وَالْمَعْنَى: أَيُّ عُذْرٍ لَكُمْ وأيّ شَيْءٍ يَمْنَعُكُمْ مِنَ الْإِنْفَاقِ فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ؟ وَالْأَصْلُ: فِي أَنْ لَا تُنْفِقُوا، وَقِيلَ: إِنَّ أَنْ زَائِدَةٌ، وَجُمْلَةُ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ «أَلَّا تُنْفِقُوا» أَوْ مِنْ مَفْعُولِهِ، وَالْمَعْنَى: أَيُّ شَيْءٍ يَمْنَعُكُمْ مِنَ الْإِنْفَاقِ فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ؟ وَالْحَالُ أَنَّ كُلَّ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِانْقِرَاضِ الْعَالَمِ كَرُجُوعِ الْمِيرَاثِ إِلَى الْوَارِثِ، وَلَا يَبْقَى لَهُمْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَهَذَا أَدْخَلُ فِي التَّوْبِيخِ وَأَكْمَلُ فِي التَّقْرِيعِ، فَإِنَّ كَوْنَ تِلْكَ الْأَمْوَالِ تَخْرُجُ عَنْ أَهْلِهَا، وَتَصِيرُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، وَلَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْ مَالِكِيهَا أَقْوَى فِي إِيجَابِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ مِنْ كَوْنِهَا لِلَّهِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَهُمْ خُلَفَاؤُهُ فِي التَّصَرُّفِ فِيهَا. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ فَضْلَ مَنْ سَبَقَ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْفَتْحِ فَتْحُ مَكَّةَ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَالزَّهْرِيُّ: فَتْحُ الْحُدَيْبِيَةَ. قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ قِتَالَانِ أَحَدُهُمَا أَفْضَلُ
201
مِنَ الْآخَرِ، وَنَفَقَتَانِ إِحْدَاهُمَا أَفْضَلُ مِنَ الْأُخْرَى، كَانَ الْقِتَالُ وَالنَّفَقَةُ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ أَفْضَلَ مِنَ الْقِتَالِ وَالنَّفَقَةِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَذَا قَالَ مُقَاتِلٌ وَغَيْرُهُ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا يَسْتَوِي مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ وَمَنْ أَنْفَقَ مِنْ بَعْدِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ، فَحُذِفَ لِظُهُورِهِ وَلِدَلَالَةِ مَا سَيَأْتِي عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا كَانَتِ النَّفَقَةِ وَالْقِتَالِ بَعْدَ الْفَتْحِ لِأَنَّ حَاجَةَ النَّاسِ كَانَتْ إِذْ ذَاكَ أَكْثَرَ، وَهُمْ أَقَلُّ وَأَضْعَفُ، وَتَقْدِيمُ الْإِنْفَاقِ عَلَى الْقِتَالِ لِلْإِيذَانِ بِفَضِيلَةِ الْإِنْفَاقِ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْحَاجَةِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يجودون بأنفسهم ولا يجدون ما يجدون بِهِ مِنَ الْأَمْوَالِ:
وَالْجُودُ بِالنَّفْسِ أَقْصَى غَايَةِ الْجُودِ «١»
وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ إِلَى «مَنْ» بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهَا، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا أَيْ: أَرْفَعُ مَنْزِلَةً وَأَعْلَى رُتْبَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ الْفَتْحِ وَقَاتَلُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ عَطَاءٌ: دَرَجَاتُ الْجَنَّةِ تَتَفَاضَلُ فَالَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ فِي أَفْضَلِهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: لِأَنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ نَالَهُمْ مِنَ الْمَشَقَّةِ أَكْثَرُ مِمَّا نَالَ مَنْ بَعْدَهُمْ، وَكَانَتْ بَصَائِرُهُمْ أَيْضًا أَنْفَذَ.
وَقَدْ أَرْشَدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هَذِهِ الْفَضِيلَةِ بِقَوْلِهِ فِيمَا صَحَّ عَنْهُ: لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ» وَهَذَا خِطَابٌ مِنْهُ صلّى الله عليه وسلّم للمتأخرين وصحبه كَمَا يُرْشِدُ إِلَى ذَلِكَ السَّبَبُ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ هَذَا الْحَدِيثُ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى أَيْ: وَكُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ وَعَدَ اللَّهُ الْمَثُوبَةَ الْحُسْنَى، وَهِيَ الْجَنَّةُ مَعَ تَفَاوُتِ دَرَجَاتِهِمْ فِيهَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «وَكُلًّا» بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ لِلْفِعْلِ الْمُتَأَخِّرِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ خَبَرُهُ وَالْعَائِدُ محذوف، أو على أنه خبر مبتدأ مَحْذُوفٌ، وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُ الشَّاعِرِ «٢» :
قَدْ أَصْبَحَتْ أَمُّ الْخِيَارِ تَدَّعِي عَلِيَّ ذَنْبًا كُلَّهُ لَمْ أَصْنَعِ
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ. ثُمَّ رَغَّبَ سُبْحَانَهُ فِي الصَّدَقَةِ فَقَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً أَيْ: مَنْ ذَا الَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ كَمَنْ يُقْرِضُهُ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِكُلِّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا حَسَنًا قَدْ أَقْرَضَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «٣».
وَإِذَا جُوزِيتَ قَرْضًا فَاجْزِهِ إِنَّمَا يَجْزِي الْفَتَى لَيْسَ الْجَمَلْ
قَالَ الْكَلْبِيُّ قَرْضاً أَيْ: صَدَقَةً حَسَناً أَيْ: مُحْتَسِبًا مِنْ قَلْبِهِ بِلَا مَنٍّ وَلَا أَذًى. قَالَ مُقَاتِلٌ:
حَسَنًا طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَيُضاعِفَهُ لَهُ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَابْنُ كَثِيرٍ «فَيُضْعِفُهُ» بِإِسْقَاطِ الْأَلِفِ، إِلَّا أَنَّ ابْنَ عَامِرٍ وَيَعْقُوبَ نَصَبُوا الْفَاءَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ «فَيُضَاعِفَهُ» بِالْأَلِفِ وَتَخْفِيفِ الْعَيْنِ، إِلَّا أَنَّ عَاصِمًا نَصَبَ الْفَاءَ وَرَفَعَ الْبَاقُونَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الرَّفْعُ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى يُقْرِضُ، أَوِ الِاسْتِئْنَافِ وَالنَّصْبُ لِكَوْنِ الْفَاءِ فِي جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ. وضعف النصب أبو علي
(١). وصدره: تجود بالنفس إذ أنت الضنين بها. والبيت لمسلم بن الوليد.
(٢). هو لبيد.
(٣). هو لبيد.
202
﴿ وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بالله ﴾ هذا الاستفهام للتوبيخ والتقريع : أي أيّ عذر لكم وأيّ مانع من الإيمان، وقد أزيحت عنكم العلل. و ﴿ ما ﴾ مبتدأ و ﴿ لكم ﴾ خبره و ﴿ لا تؤمنون ﴾ في محل نصب على الحال من الضمير في ﴿ لكم ﴾، والعامل ما فيه من معنى الاستقرار، وقيل : المعنى : أي شيء لكم من الثواب في الآخرة إذا لم تؤمنوا ؟ وجملة :﴿ والرسول يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبّكُمْ ﴾ في محل نصب على الحال من ضمير «لا تؤمنون » على التداخل، و «لتؤمنوا » متعلق ب «يدعوكم » : أي يدعوكم للإيمان، والمعنى : أيّ عذر لكم في ترك الإيمان والرسول يدعوكم إليه وينبهكم عليه ؟ وجملة :﴿ وَقَدْ أَخَذَ ميثاقكم ﴾ في محل نصب على الحال من فاعل يدعوكم على التداخل أيضاً : أي والحال أن قد أخذ الله ميثاقكم حين أخرجكم من ظهر أبيكم آدم، أو بما نصب لكم من الأدلة الدالة على التوحيد ووجوب الإيمان. قرأ الجمهور :﴿ وَقَدْ أَخَذَ ﴾ مبنياً للفاعل، وهو الله سبحانه لتقدّم ذكره. وقرأ أبو عمرو على البناء للمفعول. ﴿ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ بما أخذ عليكم من الميثاق، أو بالحجج والدلائل، أو إن كنتم مؤمنين بسبب من الأسباب فهذا من أعظم أسبابه وأوضح موجباته.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل من طريق زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية حتى إذا كنا بعسفان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«يوشك أن يأتي قوم تحرقون أعمالكم مع أعمالهم»، قلنا من هم يا رسول الله ؟ أقريش ؟ قال :«لا، ولكنهم أهل اليمن، هم أرقّ أفئدة، وألين قلوباً» فقلنا : أهم خير منا يا رسول الله ؟ قال :«لو كان لأحدهم جبل من ذهب ما أدرك مدّ أحدكم ولا نصيفه، إلاّ أن هذا فصل ما بيننا وبين الناس ﴿ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وقاتل ﴾ الآية». وهذا الحديث قال ابن كثير : هو غريب بهذا الإسناد، وقد رواه ابن جرير ولم يذكر فيه الحديبية. وأخرج أحمد عن أنس قال : كان بين خالد بن الوليد، وبين عبد الرحمن بن عوف كلام، فقال خالد لعبد الرحمن : تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها ؟ فبلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال :«دعوا لي أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد أو مثل الجبال ذهباً ما بلغتم أعمالهم» والذي في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظ «لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه» وفي لفظ «ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» أخرج هذا الحديث البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عمر قال : لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم عمره.
﴿ هُوَ الذي يُنَزّلُ على عَبْدِهِ ءايات بينات ﴾ أي واضحات ظاهرات، وهي الآيات القرآنية، وقيل : المعجزات والقرآن أعظمها ﴿ لِيُخْرِجَكُمْ مّنَ الظلمات إِلَى النور ﴾ أي ليخرجكم الله بتلك الآيات من ظلمات الشرك إلى نور الإيمان، أو ليخرجكم الرسول بتلك الآيات، أو بالدعوة ﴿ وَإِنَّ الله بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ أي لكثير الرأفة والرحمة بليغهما حيث أنزل كتبه وبعث رسله لهداية عباده، فلا رأفة ولا رحمة أبلغ من هذه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل من طريق زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية حتى إذا كنا بعسفان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«يوشك أن يأتي قوم تحرقون أعمالكم مع أعمالهم»، قلنا من هم يا رسول الله ؟ أقريش ؟ قال :«لا، ولكنهم أهل اليمن، هم أرقّ أفئدة، وألين قلوباً» فقلنا : أهم خير منا يا رسول الله ؟ قال :«لو كان لأحدهم جبل من ذهب ما أدرك مدّ أحدكم ولا نصيفه، إلاّ أن هذا فصل ما بيننا وبين الناس ﴿ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وقاتل ﴾ الآية». وهذا الحديث قال ابن كثير : هو غريب بهذا الإسناد، وقد رواه ابن جرير ولم يذكر فيه الحديبية. وأخرج أحمد عن أنس قال : كان بين خالد بن الوليد، وبين عبد الرحمن بن عوف كلام، فقال خالد لعبد الرحمن : تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها ؟ فبلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال :«دعوا لي أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد أو مثل الجبال ذهباً ما بلغتم أعمالهم» والذي في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظ «لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه» وفي لفظ «ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» أخرج هذا الحديث البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عمر قال : لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم عمره.
والاستفهام في قوله :﴿ وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ الله ﴾. للتقريع والتوبيخ. والكلام في إعراب هذا كالكلام في إعراب قوله :﴿ وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بالله ﴾ وفي هذه الآية دليل على أن الإنفاق المأمور به في قوله ﴿ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ﴾ هو الإنفاق في سبيل الله كما بينا ذلك، والمعنى : أيّ عذر لكم وأيّ شيء يمنعكم من ذلك، والأصل في أن لا تنفقوا، وقيل : إن «أن » زائدة، وجملة ﴿ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السموات والأرض ﴾ في محل نصب على الحال من فاعل ﴿ أَلاَّ تُنفِقُوا ﴾ أو من مفعوله، والمعنى : أيّ شيء يمنعكم من الإنفاق في ذلك الوجه والحال أن كل ما في السموات والأرض راجع إلى الله سبحانه بانقراض العالم كرجوع الميراث إلى الوارث، ولا يبقى لهم منه شيء، وهذا أدخل في التوبيخ وأكمل في التقريع، فإن كون تلك الأموال تخرج عن أهلها وتصير لله سبحانه ولا يبقى أحد من مالكيها أقوى في إيجاب الإنفاق عليهم من كونها لله في الحقيقة، وهم خلفاؤه في التصرّف فيها. ثم بيّن سبحانه فضل من سبق بالإنفاق في سبيل الله فقال :﴿ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح ﴾ قيل : المراد بالفتح : فتح مكة، وبه قال أكثر المفسرين. وقال الشعبي والزهري : فتح الحديبية. قال قتادة : كان قتالان، أحدهما أفضل من الآخر، ونفقتان إحداهما أفضل من الأخرى، كان القتال والنفقة قبل فتح مكة أفضل من القتال والنفقة بعد ذلك، وكذا قال مقاتل وغيره، وفي الكلام حذف، والتقدير : لا يستوي من أنفق من قبل الفتح ﴿ وقاتل ﴾ ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل، فحذف لظهوره ولدلالة ما سيأتي عليه، وإنما كانت النفقة والقتال قبل الفتح أفضل من النفقة والقتال بعد الفتح، لأن حاجة الناس كانت إذ ذاك أكثر وهم أقلّ وأضعف، وتقديم الإنفاق على القتال للإيذان بفضيلة الإنفاق لما كانوا عليه من الحاجة، فإنهم كانوا يجودون بأنفسهم ولا يجدون ما يجودون به من الأموال.
والجود بالنفس أقصى غاية الجود والإشارة بقوله :﴿ أولئك ﴾ إلى «من » باعتبار معناها، وهو مبتدأ وخبره ﴿ أَعْظَمُ دَرَجَةً مّنَ الذين أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وقاتلوا ﴾ أي أرفع منزلة وأعلا رتبة من الذين أنفقوا أموالهم في سبيل الله من بعد الفتح وقاتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عطاء : درجات الجنة تتفاضل ؛ فالذين أنفقوا من قبل الفتح في أفضلها. قال الزّجاج : لأن المتقدّمين نالهم من المشقة أكثر مما نال من بعدهم. وكانت بصائرهم أيضاً أنفذ.
وقد أرشد صلى الله عليه وسلم إلى هذه الفضيلة بقوله فيما صحّ عنه :
«لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه » وهذا خطاب منه صلى الله عليه وسلم للمتأخرين وصحبه كما يرشد إلى ذلك السبب الذي ورد فيه هذا الحديث ﴿ وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى ﴾ أي وكل واحد من الفريقين وعد الله المثوبة الحسنى، وهي الجنة مع تفاوت درجاتهم فيها. قرأ الجمهور ﴿ وكُلاًّ ﴾ بالنصب على أنه مفعول به للفعل المتأخر. وقرأ ابن عامر بالرفع على الابتداء، والجملة بعده خبره، والعائد محذوف، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف، ومثل هذا قول الشاعر :
قد أصبحت أمّ الخيار تدّعي عليّ ذنباً كله لم أصنع
﴿ والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ لا يخفى عليه من ذلك شيء.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل من طريق زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية حتى إذا كنا بعسفان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«يوشك أن يأتي قوم تحرقون أعمالكم مع أعمالهم»، قلنا من هم يا رسول الله ؟ أقريش ؟ قال :«لا، ولكنهم أهل اليمن، هم أرقّ أفئدة، وألين قلوباً» فقلنا : أهم خير منا يا رسول الله ؟ قال :«لو كان لأحدهم جبل من ذهب ما أدرك مدّ أحدكم ولا نصيفه، إلاّ أن هذا فصل ما بيننا وبين الناس ﴿ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وقاتل ﴾ الآية». وهذا الحديث قال ابن كثير : هو غريب بهذا الإسناد، وقد رواه ابن جرير ولم يذكر فيه الحديبية. وأخرج أحمد عن أنس قال : كان بين خالد بن الوليد، وبين عبد الرحمن بن عوف كلام، فقال خالد لعبد الرحمن : تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها ؟ فبلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال :«دعوا لي أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد أو مثل الجبال ذهباً ما بلغتم أعمالهم» والذي في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظ «لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه» وفي لفظ «ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» أخرج هذا الحديث البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عمر قال : لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم عمره.
ثم رغب سبحانه في الصدقة فقال :﴿ مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا ﴾ أي من ذا الذي ينفق ماله في سبيل الله، فإنه كمن يقرضه، والعرب تقول لكل من فعل فعلاً حسناً قد أقرض، ومنه قول الشاعر :
وإذا جوزيت قرضاً فأجزه إنما يجزى الفتى ليس الجمل
قال : الكلبي ﴿ قَرْضًا ﴾ أي صدقة ﴿ حَسَنًا ﴾ أي محتسباً من قلبه بلا منّ ولا أذى. قال مقاتل : حسناً طيبة به نفسه، وقد تقدّم تفسير الآية في سورة البقرة ﴿ فَيُضَاعِفَهُ لَهُ ﴾ قرأ ابن عامر وابن كثير :«فيضعفه » بإسقاط الألف إلاّ أن ابن عامر ويعقوب نصبوا الفاء. وقرأ نافع وأهل الكوفة والبصرة، ﴿ فيضاعفه ﴾ بالألف وتخفيف العين إلاّ أن عاصماً نصب الفاء ورفع الباقون. قال ابن عطية : الرّفع على العطف على ﴿ يقرض ﴾، أو الاستئناف والنصب لكون الفاء في جواب الاستفهام. وضعَّف النصب أبو عليّ الفارسي قال لأن السؤال لم يقع عن القرض، وإنما وقع عن فاعل القرض، وإنما تنصب الفاء فعلاً مردوداً على فعل مستفهم عنه، لكن هذه الفرقة حملت ذلك على المعنى، كأن قوله :﴿ مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله ﴾ بمنزلة قوله : أيقرض الله أحد ﴿ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ﴾ وهو الجنة، والمضاعفة هنا هي كون الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف على اختلاف الأحوال والأشخاص والأوقات.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل من طريق زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية حتى إذا كنا بعسفان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«يوشك أن يأتي قوم تحرقون أعمالكم مع أعمالهم»، قلنا من هم يا رسول الله ؟ أقريش ؟ قال :«لا، ولكنهم أهل اليمن، هم أرقّ أفئدة، وألين قلوباً» فقلنا : أهم خير منا يا رسول الله ؟ قال :«لو كان لأحدهم جبل من ذهب ما أدرك مدّ أحدكم ولا نصيفه، إلاّ أن هذا فصل ما بيننا وبين الناس ﴿ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وقاتل ﴾ الآية». وهذا الحديث قال ابن كثير : هو غريب بهذا الإسناد، وقد رواه ابن جرير ولم يذكر فيه الحديبية. وأخرج أحمد عن أنس قال : كان بين خالد بن الوليد، وبين عبد الرحمن بن عوف كلام، فقال خالد لعبد الرحمن : تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها ؟ فبلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال :«دعوا لي أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد أو مثل الجبال ذهباً ما بلغتم أعمالهم» والذي في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظ «لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه» وفي لفظ «ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» أخرج هذا الحديث البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عمر قال : لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم عمره.
الفارسي، قال: لأن السؤال لم يقع على الْقَرْضِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ عَنْ فَاعِلِ الْقَرْضِ، وَإِنَّمَا تَنْصِبُ الْفَاءُ فِعْلًا مَرْدُودًا عَلَى فِعْلٍ مُسْتَفْهَمٍ عَنْهُ، لَكِنَّ هَذِهِ الْفِرْقَةَ حَمَلَتْ ذَلِكَ عَلَى الْمَعْنَى، كَأَنَّ قَوْلَهُ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: أَيُقْرِضُ اللَّهَ أَحَدٌ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ وَهُوَ الْجَنَّةُ، وَالْمُضَاعَفَةُ هُنَا هِيَ كَوْنُ الْحَسَنَةِ بِعَشَرَةِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَشْخَاصِ وَالْأَوْقَاتِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ، مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عام الحديبية حتى إذا كان بِعُسْفَانَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ قَوْمٌ يُحَقِّرُونَ أَعْمَالَكُمْ مَعَ أَعْمَالِهِمْ، قُلْنَا: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
أَقَرِيشٌ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّهُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً وَأَلْيَنُ قُلُوبًا، فَقُلْنَا: أَهُمْ خَيْرٌ مِنَّا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
قَالَ: لَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمْ جَبَلٌ مِنْ ذَهَبٍ مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِكُمْ وَلَا نَصِيفَهُ، إِلَّا أَنَّ هَذَا فَصْلُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ النَّاسِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ الْآيَةَ»
وَهَذَا الْحَدِيثُ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: هُوَ غَرِيبٌ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْحُدَيْبِيَةَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ بَيْنَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَبَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ كَلَامٌ، فَقَالَ خَالِدٌ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: تَسْتَطِيلُونَ عَلَيْنَا بِأَيَّامٍ سَبَقْتُمُونَا بِهَا؟ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «دعوا لي أصحابي، فو الّذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقْتُمْ مِثْلَ أُحُدٍ أَوْ مِثْلَ الْجِبَالِ ذَهَبًا مَا بَلَغْتُمْ أَعْمَالَهُمْ».
وَالَّذِي فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلفظ: «لا تسبّوا أصحابي، فو الّذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ»، وَفِي لَفْظٍ: «مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ ولا نصيفه» أخرج هذا الحديث البخاري ومسلم وغير هما مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيٍّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَا تَسُبُّوا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَقَامُ أَحَدِهِمْ سَاعَةً خَيْرٌ مِنْ عَمَلِ أَحَدِكُمْ عمره.
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ١٢ الى ١٥]
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (١٣) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (١٤) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥)
قَوْلُهُ: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ مُضْمَرٌ وَهُوَ اذْكُرْ، أَوْ «كَرِيمٌ»، أَوْ «فَيُضَاعِفَهُ»، أَوِ الْعَامِلُ فِي لَهُمْ وَهُوَ الِاسْتِقْرَارُ، وَالْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ، وَقَوْلُهُ: يَسْعى نُورُهُمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ مَفْعُولِ تَرَى، وَالنُّورُ: هُوَ الضِّيَاءُ الَّذِي يُرَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ وَذَلِكَ عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ دَلِيلُهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ. قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ يُضِيءُ لَهُ نُورٌ كَمَا بَيْنَ عَدَنَ إِلَى صَنْعَاءَ، حَتَّى إِنَّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ لَا يُضِيءُ لَهُ نُورُهُ إِلَّا مَوْضِعَ قَدَمَيْهِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ: وَبِأَيْمَانِهِمْ كُتُبُهُمُ الَّتِي
203
أُعْطُوهَا، فَكُتُبُهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ، وَنُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْبَاءُ بِمَعْنَى فِي، أَيْ: فِي أَيْمَانِهِمْ، أَوْ بِمَعْنَى عَنْ.
قَالَ الضَّحَّاكُ أَيْضًا: نُورُهُمْ هُدَاهُمْ، وَبِأَيْمَانِهِمْ كُتُبُهُمْ، وَاخْتَارَ هَذَا ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، أَيْ: يَسْعَى إِيمَانُهُمْ وَعَمَلُهُمُ الصَّالِحُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَفِي أَيْمَانِهِمْ كُتُبُ أَعْمَالِهِمْ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «بأيمانهم» جمع يمين. وقرأ سهل ابن سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ وَأَبُو حَيْوَةَ «بِإِيمَانِهِمْ» بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِيمَانِ ضِدُّ الْكُفْرِ، وَقِيلَ: هُوَ الْقُرْآنُ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ نُورِهِمْ، أَيْ: كَائِنًا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها «بُشْرَاكُمْ» مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ «جَنَّاتٌ» عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ: دُخُولِ جَنَّاتٍ، وَالْجُمْلَةُ مَقُولُ قَوْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: يُقَالُ لَهُمْ هَذَا، وَالْقَائِلُ لَهُمْ هُمُ الْمَلَائِكَةُ. قَالَ مَكِّيٌّ:
وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ نَصْبَ جَنَّاتٌ عَلَى الْحَالِ، وَيَكُونُ «الْيَوْمَ» خَبَرَ «بُشْرَاكُمْ»، وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا. «خَالِدِينَ فِيهَا» حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ ذلِكَ إِلَى النُّورِ وَالْبُشْرَى، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أَيِ:
لَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ لَا فَوْزَ غَيْرُهُ، وَلَا اعْتِدَادَ بِمَا سِوَاهُ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ «يَوْمَ» بَدَلٌ مِنْ «يَوْمَ» الْأَوَّلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ العامل فيه هو الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيِ: اذْكُرْ لِلَّذِينَ آمَنُوا اللَّامُ لِلتَّبْلِيغِ كَنَظَائِرِهَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: انْظُرُونا أَمْرًا بِوَصْلِ الْهَمْزَةِ وَضَمِّ الْظَاءِ مِنَ النَّظَرِ بِمَعْنَى الِانْتِظَارِ، أَيْ: انْتَظِرُونَا، يَقُولُونَ ذَلِكَ لَمَّا رَأَوُا الْمُؤْمِنِينَ يُسْرَعُ بِهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الظَّاءِ مِنَ الإنظار، أي: أمهلونا وأخّرونا، يُقَالُ: أَنَظَرْتُهُ وَاسْتَنْظَرْتُهُ، أَيْ: أَمْهَلْتُهُ وَاسْتَمْهَلْتُهُ، قَالَ الْفَرَّاءُ: تَقُولُ الْعَرَبُ أَنْظِرْنِي، أَيِ: انْتَظِرْنِي، وَأَنْشَدَ قول عمرو ابن كُلْثُومٍ:
أَبَا هِنْدٍ فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْنَا وَأَنْظِرْنَا نُخَبِّرْكَ الْيَقِينَا
وَقِيلَ: مَعْنَى انْظُرُونَا: انْظُرُوا إِلَيْنَا لِأَنَّهُمْ إِذَا نَظَرُوا إِلَيْهِمُ اسْتَقْبَلُوهُمْ بِوُجُوهِهِمْ فَيَسْتَضِيئُونَ بِنُورِهِمْ نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ أَيْ: نَسْتَضِيءُ مِنْهُ، وَالْقَبَسُ: الشُّعْلَةُ مِنَ النَّارِ وَالسِّرَاجُ، فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ أَيْ: قَالَ لَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ أَوِ الْمَلَائِكَةُ زَجْرًا لَهُمْ وَتَهَكُّمًا بِهِمْ، أَيِ: ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي أَخَذْنَا مِنْهُ النُّورَ فَالْتَمِسُوا نُوراً أَيِ: اطْلُبُوا هُنَالِكَ نُورًا لِأَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّهُ مِنْ هُنَالِكَ يُقْتَبَسُ، وَقِيلَ:
الْمَعْنَى: ارْجِعُوا إِلَى الدُّنْيَا فَالْتَمِسُوا النُّورَ بِمَا الْتَمَسْنَاهُ بِهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَقِيلَ: أَرَادُوا بِالنُّورِ مَا وَرَاءَهُمْ مِنَ الظُّلْمَةِ تَهَكُّمًا بِهِمْ فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ السُّورُ: هُوَ الْحَاجِزُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْحَاجِزُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، أَوْ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: وَالْبَاءُ فِي بِسُورٍ زَائِدَةٌ: ثُمَّ وَصَفَ سُبْحَانَهُ السُّورَ الْمَذْكُورَ فَقَالَ: لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ أَيْ: بَاطِنُ ذَلِكَ السُّورِ. وَهُوَ الْجَانِبُ الَّذِي يَلِي أَهْلَ الْجَنَّةِ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَهِيَ الْجَنَّةُ وَظاهِرُهُ وَهُوَ الْجَانِبُ الَّذِي يَلِي أَهْلَ النَّارِ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ أَيْ: مِنْ جِهَتِهِ عَذَابُ جَهَنَّمَ، وَقِيلَ: إِنَّ المؤمنين يسبقونهم فيدخلون الجنة، والمنافقون يجعلون فِي الْعَذَابِ وَبَيْنَهُمُ السُّورُ، وَقِيلَ: إِنَّ الرَّحْمَةَ الَّتِي فِي بَاطِنِهِ نُورُ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْعَذَابُ الَّذِي فِي ظَاهِرِهِ ظُلْمَةُ الْمُنَافِقِينَ، وَلِمَا ضُرِبَ بِالسُّورِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَمَّا قَالَهُ الْمُنَافِقُونَ إِذْ ذَاكَ، فَقَالَ: يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ
204
أَيْ: مُوَافِقِينَ لَكُمْ فِي الظَّاهِرِ، نُصَلِّي بِصَلَاتِكُمْ فِي مَسَاجِدِكُمْ، وَنَعْمَلُ بِأَعْمَالِ الْإِسْلَامِ مِثْلَكُمْ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَاذَا قَالَ الْمُنَافِقُونَ بَعْدَ ضَرْبِ السُّورِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: يُنادُونَهُمْ، ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَمَّا أَجَابَهُمْ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ فَقَالَ: قالُوا بَلى أَيْ: كُنْتُمْ مَعَنَا فِي الظَّاهِرِ وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِالنِّفَاقِ وَإِبِطَانِ الْكُفْرِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: أَهْلَكْتُمُوهَا بِالنِّفَاقِ، وَقِيلَ: بِالشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ وَتَرَبَّصْتُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ حَوَادِثَ الدَّهْرِ، وَقِيلَ: تَرَبَّصْتُمْ بِالتَّوْبَةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى.
وَارْتَبْتُمْ أَيْ: شَكَكْتُمْ فِي أمر الدّين، ولم تصدقوا بما نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ وَلَا بِالْمُعْجِزَاتِ الظَّاهِرَةِ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ الْبَاطِلَةُ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا مَا كُنْتُمْ فِيهِ مِنَ التَّرَبُّصِ، وَقِيلَ: هُوَ طُولُ الْأَمَلِ، وَقِيلَ: مَا كَانُوا يَتَمَنَّوْنَهُ مِنْ ضَعْفِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْأَمَانِيُّ هُنَا غُرُورُ الشَّيْطَانِ، وَقِيلَ: الدُّنْيَا، وَقِيلَ: هُوَ طَمَعُهُمْ فِي الْمَغْفِرَةِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْأَمَانِيِّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُوَ الْمَوْتُ، وَقِيلَ: نَصْرُهُ سُبْحَانَهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ إِلْقَاؤُهُمْ فِي النَّارِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «الْغَرُورِ» بِفَتْحِ الْغَيْنِ، وَهُوَ صِفَةٌ عَلَى فَعُولٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ الشَّيْطَانُ، أَيْ: خَدَعَكُمْ بِحِلْمِ اللَّهِ وَإِمْهَالِهِ الشَّيْطَانُ. وَقَرَأَ أَبُو حيوة ومحمد ابن السّميقع وَسِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ بِضَمِّهَا وَهُوَ مَصْدَرٌ فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ تَفْدُونَ بِهَا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ أَيُّهَا الْمُنَافِقُونَ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللَّهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا مَأْواكُمُ النَّارُ أَيْ: مَنْزِلُكُمُ الَّذِي تَأْوُونَ إِلَيْهِ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ أَيْ: هِيَ أَوْلَى بِكُمْ، وَالْمَوْلَى فِي الْأَصْلِ من يتولى مصالح الإنسان، ثم استعمل فيمن يُلَازِمُهُ، وَقِيلَ: مَعْنَى مَوْلَاكُمْ: مَكَانُكُمْ عَنْ قُرْبٍ، من الولي وهو القرب. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ يُرَكِّبُ فِي النَّارِ الْحَيَاةَ وَالْعَقْلَ، فَهِيَ تَتَمَيَّزُ غَيْظًا عَلَى الْكُفَّارِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: هِيَ نَاصِرُكُمْ، عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ
وَبِئْسَ الْمَصِيرُ الَّذِي تصيرون إليه هو النَّارِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ قَالَ: يُؤْتَوْنَ نُورَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، يَمُرُّونَ عَلَى الصِّرَاطِ، مِنْهُمْ مَنْ نُورُهُ مِثْلُ الْجَبَلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ نُورُهُ مِثْلُ النَّخْلَةِ، وَأَدْنَاهُمْ نُورًا مَنْ نُورُهُ عَلَى إِبْهَامِهِ يُطْفَأُ مَرَّةً وَيُوقَدُ أُخْرَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَيْنَمَا النَّاسُ فِي ظُلْمَةٍ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ نُورًا، فَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ النُّورَ تَوَجَّهُوا نَحْوَهُ، وَكَانَ النُّورُ دَلِيلَهُمْ مِنَ اللَّهِ إِلَى الْجَنَّةِ، فَلَمَّا رَأَى الْمُنَافِقُونَ الْمُؤْمِنِينَ قَدِ انْطَلَقُوا إِلَى النُّورِ تَبِعُوهُمْ، فَأَظْلَمَ اللَّهُ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، فَقَالُوا حِينَئِذٍ: انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ فَإِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ فِي الدُّنْيَا، قَالَ الْمُؤْمِنُونَ: ارْجِعُوا وَراءَكُمْ مِنْ حَيْثُ جِئْتُمْ مِنَ الظُّلْمَةِ فَالْتَمِسُوا هُنَالِكَ النُّورَ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ يَدْعُو النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأُمَّهَاتِهِمْ سَتْرًا مِنْهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَأَمَّا عِنْدَ الصِّرَاطِ فَإِنَّ اللَّهَ يُعْطِي كُلَّ مُؤْمِنٍ نُورًا وَكُلَّ مُنَافِقٍ نُورًا، فَإِذَا اسْتَوَوْا عَلَى الصِّرَاطِ سَلَبَ اللَّهُ نُورَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ وَقَالَ الْمُؤْمِنُونَ:
205
﴿ يَوْمَ يَقُولُ المنافقون والمنافقات ﴾ ﴿ يوم ﴾ بدل من ﴿ يوم ﴾ الأوّل، ويجوز أن يكون العامل فيه :﴿ الفوز العظيم ﴾، ويجوز أن يكون منصوباً بفعل مقدّر : أي اذكر ﴿ لِلَّذِينَ ءامَنُوا ﴾ اللام للتبليغ كنظائرها. قرأ الجمهور ﴿ انْظُرُونَا ﴾ أمراً بوصل الهمزة وضم الظاء من النظر بمعنى الانتظار : أي انتظرونا، يقولون ذلك لما رأوا المؤمنين يسرع بهم إلى الجنة. وقرأ الأعمش وحمزة ويحيى بن وثاب بقطع الهمزة وكسر الظاء من الإنظار : أي أمهلونا وأخبرونا، يقال : أنظرته واستنظرته : أي أمهلته واستمهلته. قال الفراء : تقول العرب أنظرني : أي انتظرني، وأنشد قول عمرو بن كلثوم :
أبا هند فلا تعجل علينا وأنظرنا نخبرك اليقينا
وقيل : معنى انظرونا : انظروا إلينا، لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم فيستضيئون بنورهم ﴿ نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ ﴾ أي نستضيء منه، والقبس : الشعلة من النار والسراج، فلما قالوا ذلك ﴿ قِيلَ ارجعوا وَرَاءكُمْ ﴾ أي قال لهم المؤمنون أو الملائكة زجراً لهم وتهكماً بهم : أي ارجعوا وراءكم إلى الموضع الذي أخذنا منه النور ﴿ فالتمسوا نُوراً ﴾ أي اطلبوا هنالك نوراً لأنفسكم، فإنه من هنالك يقتبس، وقيل : المعنى : ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا النور بما التمسناه به من الإيمان والأعمال الصالحة، وقيل : أرادوا بالنور ما وراءهم من الظلمة تهكماً بهم :﴿ فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ ﴾ السور : هو الحاجز بين الشيئين، والمراد به هنا الحاجز بين الجنة والنار، أو بين أهل الجنة وأهل النار.
قال الكسائي : والباء في ﴿ بسور ﴾ زائدة. ثم وصف سبحانه السور المذكور فقال :﴿ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ ﴾ أي باطن ذلك السور، وهو الجانب الذي يلي أهل الجنة فيه الرّحمة : وهي الجنة ﴿ وظاهره ﴾ وهو الجانب الذي يلي أهل النار ﴿ مِن قِبَلِهِ العذاب ﴾ أي من جهته عذاب جهنم، وقيل : إن المؤمنين يسبقونهم فيدخلون الجنة، والمنافقون يحصلون في العذاب وبينهم السور، وقيل : إن الرّحمة التي في باطنه : نور المؤمنين، والعذاب الذي في ظاهره : ظلمة المنافقين.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن مسعود ﴿ يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ﴾ قال : يؤتون نورهم على قدر أعمالهم يمرّون على الصراط، منهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من نوره مثل النخلة، وأدناهم نوراً من نوره على إبهامه يطفأ مرّة، ويوقد أخرى. وأخرج ابن جرير وابن مردويه والبيهقي في البعث عن ابن عباس قال : بينما الناس في ظلمة إذ بعث الله نوراً، فلما رأى المؤمنون النور توجهوا نحوه، وكان النور دليلهم من الله إلى الجنة، فلما رأى المنافقون المؤمنين قد انطلقوا إلى النور تبعوهم، فأظلم الله على المنافقين، فقالوا حينئذ :﴿ انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ ﴾ فإنا كنا معكم في الدنيا، قال المؤمنون :﴿ ارجعوا وَرَاءكُمْ ﴾ من حيث جئتم من الظلمة ﴿ فالتمسوا ﴾ هنالك النور. وأخرج الطبراني وابن مردويه عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إن الله يدعو الناس يوم القيامة بأمهاتهم ستراً منه على عباده، وأما عند الصراط فإن الله يعطى كل مؤمن نوراً، وكل منافق نوراً، فإذا استووا على الصراط سلب الله نور المنافقين والمنافقات، فقال المنافقون :﴿ انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ ﴾ وقال المؤمنون :﴿ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا ﴾ [ التحريم : ٨ ] فلا يذكر عند ذلك أحد أحداً» وفي الباب أحاديث وآثار. وأخرج عبد بن حميد عن عبادة بن الصامت : أنه كان على سور بيت المقدس فبكى، فقيل له : ما يبكيك ؟ فقال : هاهنا أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى جهنم. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن عساكر عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : إن السور الذي ذكره الله في القرآن ﴿ فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ ﴾ هو السور الذي ببيت المقدس الشرقي ﴿ بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة ﴾ المسجد ﴿ وظاهره مِن قِبَلِهِ العذاب ﴾ يعني : وادي جهنم وما يليه.
ولا يخفاك أن تفسير السور المذكور في القرآن في هذه الآية بهذا السور الكائن ببيت المقدس فيه من الإشكال ما لا يدفعه مقال، ولاسيما بعد زيادة قوله :﴿ باطنه فيه الرّحمة ﴾ المسجد، فإن هذا غير ما سيقت له الآية وغير ما دلت عليه، وأين يقع بيت المقدس أو سوره بالنسبة إلى السور الحاجز بين فريقي المؤمنين والمنافقين، وأيّ معنى لذكر مسجد بيت المقدس هاهنا، فإن كان المراد أن الله سبحانه ينزع سور بيت المقدس، ويجعله في الدار الآخرة سوراً مضروباً بين المؤمنين والمنافقين، فما معنى تفسير باطن السور وما فيه من الرّحمة بالمسجد، وإن كان المراد أن الله يسوق فريقي المؤمنين والمنافقين إلى بيت المقدس فيجعل المؤمنين داخل السور في المسجد، ويجعل المنافقين خارجه، فهم إذ ذاك على الصراط وفي طريق الجنة وليسوا ببيت المقدس، فإن كان مثل هذا التفسير ثابتاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلناه، وآمنا به، وإلاّ فلا كرامة ولا قبول.
وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله :﴿ ولكنكم فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ ﴾ قال : بالشهوات واللذات ﴿ وَتَرَبَّصْتُمْ ﴾ قال : بالتوبة ﴿ وَغرَّتْكُمُ الأماني حتى جَاء أَمْرُ الله ﴾ قال : الموت ﴿ وَغَرَّكُم بالله الغرور ﴾ قال : الشيطان.

ولما ضرب بالسور بين المؤمنين والمنافقين أخبر الله سبحانه عما قاله المنافقون إذ ذاك، فقال :﴿ ينادونهم أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ ﴾ أي موافقين لكم في الظاهر نصلي بصلاتكم في مساجدكم، ونعمل بأعمال الإسلام مثلكم، والجملة مستأنفة كأنه قيل : فماذا قال المنافقون بعد ضرب السور بينهم وبين المؤمنين ؟ فقال :﴿ ينادونهم ﴾، ثم أخبر سبحانه عما أجابهم به المؤمنون فقال :﴿ قَالُوا بلى ﴾ أي كنتم معنا في الظاهر ﴿ ولكنكم فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ ﴾ بالنفاق وإبطان الكفر. قال مجاهد : أهلكتموها بالنفاق، وقيل : بالشهوات واللذات ﴿ وَتَرَبَّصْتُمْ ﴾ بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبمن معه من المؤمنين حوادث الدّهر، وقيل : تربصتم بالتوبة، والأوّل أولى ﴿ وارتبتم ﴾ أي شككتم في أمر الدين ولم تصدّقوا ما نزل من القرآن ولا بالمعجزات الظاهرة ﴿ وَغرَّتْكُمُ الأماني ﴾ الباطلة التي من جملتها ما كنتم فيه من التربص، وقيل : هو طول الأمل، وقيل : ما كانوا يتمنونه من ضعف المؤمنين، وقال قتادة : الأمانيّ هنا : غرور الشيطان، وقيل : الدنيا، وقيل : هو طمعهم في المغفرة، وكل هذه الأشياء تدخل في مسمى الأمانيّ ﴿ حتى جَاء أَمْرُ الله ﴾ وهو الموت، وقيل : نصره سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم. وقال قتادة : هو إلقاؤهم في النار ﴿ وَغَرَّكُم بالله الغرور ﴾ قرأ الجمهور ﴿ الغرور ﴾ بفتح الغين، وهو صفة على فعول، والمراد به : الشيطان : أي خدعكم بحلم الله وإمهاله الشيطان. وقرأ أبو حيوة ومحمد بن السميفع وسماك بن حرب بضمها وهو مصدر.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن مسعود ﴿ يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ﴾ قال : يؤتون نورهم على قدر أعمالهم يمرّون على الصراط، منهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من نوره مثل النخلة، وأدناهم نوراً من نوره على إبهامه يطفأ مرّة، ويوقد أخرى. وأخرج ابن جرير وابن مردويه والبيهقي في البعث عن ابن عباس قال : بينما الناس في ظلمة إذ بعث الله نوراً، فلما رأى المؤمنون النور توجهوا نحوه، وكان النور دليلهم من الله إلى الجنة، فلما رأى المنافقون المؤمنين قد انطلقوا إلى النور تبعوهم، فأظلم الله على المنافقين، فقالوا حينئذ :﴿ انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ ﴾ فإنا كنا معكم في الدنيا، قال المؤمنون :﴿ ارجعوا وَرَاءكُمْ ﴾ من حيث جئتم من الظلمة ﴿ فالتمسوا ﴾ هنالك النور. وأخرج الطبراني وابن مردويه عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إن الله يدعو الناس يوم القيامة بأمهاتهم ستراً منه على عباده، وأما عند الصراط فإن الله يعطى كل مؤمن نوراً، وكل منافق نوراً، فإذا استووا على الصراط سلب الله نور المنافقين والمنافقات، فقال المنافقون :﴿ انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ ﴾ وقال المؤمنون :﴿ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا ﴾ [ التحريم : ٨ ] فلا يذكر عند ذلك أحد أحداً» وفي الباب أحاديث وآثار. وأخرج عبد بن حميد عن عبادة بن الصامت : أنه كان على سور بيت المقدس فبكى، فقيل له : ما يبكيك ؟ فقال : هاهنا أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى جهنم. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن عساكر عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : إن السور الذي ذكره الله في القرآن ﴿ فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ ﴾ هو السور الذي ببيت المقدس الشرقي ﴿ بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة ﴾ المسجد ﴿ وظاهره مِن قِبَلِهِ العذاب ﴾ يعني : وادي جهنم وما يليه.
ولا يخفاك أن تفسير السور المذكور في القرآن في هذه الآية بهذا السور الكائن ببيت المقدس فيه من الإشكال ما لا يدفعه مقال، ولاسيما بعد زيادة قوله :﴿ باطنه فيه الرّحمة ﴾ المسجد، فإن هذا غير ما سيقت له الآية وغير ما دلت عليه، وأين يقع بيت المقدس أو سوره بالنسبة إلى السور الحاجز بين فريقي المؤمنين والمنافقين، وأيّ معنى لذكر مسجد بيت المقدس هاهنا، فإن كان المراد أن الله سبحانه ينزع سور بيت المقدس، ويجعله في الدار الآخرة سوراً مضروباً بين المؤمنين والمنافقين، فما معنى تفسير باطن السور وما فيه من الرّحمة بالمسجد، وإن كان المراد أن الله يسوق فريقي المؤمنين والمنافقين إلى بيت المقدس فيجعل المؤمنين داخل السور في المسجد، ويجعل المنافقين خارجه، فهم إذ ذاك على الصراط وفي طريق الجنة وليسوا ببيت المقدس، فإن كان مثل هذا التفسير ثابتاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلناه، وآمنا به، وإلاّ فلا كرامة ولا قبول.
وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله :﴿ ولكنكم فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ ﴾ قال : بالشهوات واللذات ﴿ وَتَرَبَّصْتُمْ ﴾ قال : بالتوبة ﴿ وَغرَّتْكُمُ الأماني حتى جَاء أَمْرُ الله ﴾ قال : الموت ﴿ وَغَرَّكُم بالله الغرور ﴾ قال : الشيطان.

﴿ فاليوم لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ ﴾ تفدون بها أنفسكم من النار أيها المنافقون ﴿ وَلاَ مِنَ الذين كَفَرُوا ﴾ بالله ظاهراً وباطناً ﴿ مَاوَاكُمُ النار ﴾ أي منزلكم الذي تأوون إليه النار ﴿ هِيَ مولاكم ﴾ أي هي أولى بكم، والمولى في الأصل من يتولى مصالح الإنسان ثم استعمل فيمن يلازمه، وقيل : معنى ﴿ مولاكم ﴾ : مكانكم عن قرب، من الولي وهو القرب.
وقيل : إن الله يركِّب في النار الحياة والعقل، فهي تتميز غيظاً على الكفار، وقيل المعنى : هي ناصركم على طريقة قول الشاعر :
تحية بينهم ضرب وجيع ***. . .
﴿ وَبِئْسَ المصير ﴾ الذي تصيرون إليه وهو النار.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن مسعود ﴿ يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ﴾ قال : يؤتون نورهم على قدر أعمالهم يمرّون على الصراط، منهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من نوره مثل النخلة، وأدناهم نوراً من نوره على إبهامه يطفأ مرّة، ويوقد أخرى. وأخرج ابن جرير وابن مردويه والبيهقي في البعث عن ابن عباس قال : بينما الناس في ظلمة إذ بعث الله نوراً، فلما رأى المؤمنون النور توجهوا نحوه، وكان النور دليلهم من الله إلى الجنة، فلما رأى المنافقون المؤمنين قد انطلقوا إلى النور تبعوهم، فأظلم الله على المنافقين، فقالوا حينئذ :﴿ انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ ﴾ فإنا كنا معكم في الدنيا، قال المؤمنون :﴿ ارجعوا وَرَاءكُمْ ﴾ من حيث جئتم من الظلمة ﴿ فالتمسوا ﴾ هنالك النور. وأخرج الطبراني وابن مردويه عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إن الله يدعو الناس يوم القيامة بأمهاتهم ستراً منه على عباده، وأما عند الصراط فإن الله يعطى كل مؤمن نوراً، وكل منافق نوراً، فإذا استووا على الصراط سلب الله نور المنافقين والمنافقات، فقال المنافقون :﴿ انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ ﴾ وقال المؤمنون :﴿ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا ﴾ [ التحريم : ٨ ] فلا يذكر عند ذلك أحد أحداً» وفي الباب أحاديث وآثار. وأخرج عبد بن حميد عن عبادة بن الصامت : أنه كان على سور بيت المقدس فبكى، فقيل له : ما يبكيك ؟ فقال : هاهنا أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى جهنم. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن عساكر عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : إن السور الذي ذكره الله في القرآن ﴿ فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ ﴾ هو السور الذي ببيت المقدس الشرقي ﴿ بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة ﴾ المسجد ﴿ وظاهره مِن قِبَلِهِ العذاب ﴾ يعني : وادي جهنم وما يليه.
ولا يخفاك أن تفسير السور المذكور في القرآن في هذه الآية بهذا السور الكائن ببيت المقدس فيه من الإشكال ما لا يدفعه مقال، ولاسيما بعد زيادة قوله :﴿ باطنه فيه الرّحمة ﴾ المسجد، فإن هذا غير ما سيقت له الآية وغير ما دلت عليه، وأين يقع بيت المقدس أو سوره بالنسبة إلى السور الحاجز بين فريقي المؤمنين والمنافقين، وأيّ معنى لذكر مسجد بيت المقدس هاهنا، فإن كان المراد أن الله سبحانه ينزع سور بيت المقدس، ويجعله في الدار الآخرة سوراً مضروباً بين المؤمنين والمنافقين، فما معنى تفسير باطن السور وما فيه من الرّحمة بالمسجد، وإن كان المراد أن الله يسوق فريقي المؤمنين والمنافقين إلى بيت المقدس فيجعل المؤمنين داخل السور في المسجد، ويجعل المنافقين خارجه، فهم إذ ذاك على الصراط وفي طريق الجنة وليسوا ببيت المقدس، فإن كان مثل هذا التفسير ثابتاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلناه، وآمنا به، وإلاّ فلا كرامة ولا قبول.
وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله :﴿ ولكنكم فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ ﴾ قال : بالشهوات واللذات ﴿ وَتَرَبَّصْتُمْ ﴾ قال : بالتوبة ﴿ وَغرَّتْكُمُ الأماني حتى جَاء أَمْرُ الله ﴾ قال : الموت ﴿ وَغَرَّكُم بالله الغرور ﴾ قال : الشيطان.

رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا «١» فَلَا يَذْكُرُ عِنْدَ ذَلِكَ أَحَدٌ أَحَدًا» وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ وَآثَارٌ. وَأَخْرَجَ عَبَدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ: أَنَّهُ كَانَ عَلَى سُورِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَبَكَى، فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ: هَاهُنَا أَخْبَرَنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَأَى جَهَنَّمَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: إِنَّ السُّورَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ هُوَ السُّورُ الَّذِي بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ الشَّرْقِيِّ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ الْمَسْجِدُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ يَعْنِي وَادِي جَهَنَّمَ وَمَا يَلِيهِ.
وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ تَفْسِيرَ السُّورِ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْآنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِهَذَا السُّورِ الْكَائِنِ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ فِيهِ مِنَ الْإِشْكَالِ مَا لَا يَدْفَعُهُ مَقَالٌ، وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ زِيَادَةِ قَوْلِهِ: «بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ» : الْمَسْجِدُ، فَإِنَّ هَذَا غَيْرُ مَا سِيقَتْ لَهُ الْآيَةُ وَغَيْرُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ، وَأَيْنَ يَقَعُ بَيْتُ الْمَقْدِسِ أَوْ سُورُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى السُّورِ الْحَاجِزِ بَيْنَ فَرِيقَيِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ؟ وَأَيُّ مَعْنًى لِذِكْرِ مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ هَاهُنَا؟ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَنْزِعُ سُورَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَيَجْعَلُهُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ سُورًا مَضْرُوبًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، فَمَا مَعْنَى تَفْسِيرِ بَاطِنِ السُّورِ وَمَا فِيهِ مِنَ الرَّحْمَةِ بِالْمَسْجِدِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ يَسُوقُ فَرِيقَيِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَيَجْعَلُ الْمُؤْمِنِينَ دَاخِلَ السُّوَرِ فِي الْمَسْجِدِ، وَيَجْعَلُ الْمُنَافِقِينَ خَارِجَهُ، فَهُمْ إِذْ ذَاكَ عَلَى الصِّرَاطِ وَفِي طَرِيقِ الْجَنَّةِ وَلَيْسُوا بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَإِنْ كَانَ مِثْلُ هَذَا التَّفْسِيرِ ثَابِتًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبِلْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ، وَإِلَّا فَلَا كَرَامَةَ وَلَا قَبُولَ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ قَالَ: بِالشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ وَتَرَبَّصْتُمْ قَالَ: بِالتَّوْبَةِ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قَالَ: الْمَوْتُ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ قَالَ: الشيطان.
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ١٦ الى ١٩]
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (١٦) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٩)
قَوْلُهُ: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا يُقَالُ: أَنَى لَكَ يَأْنِي أَنًى إِذَا حَانَ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «أَلَمْ يأن» وقرأ الحسن وأبو السّمّال «ألمّا يأن» وأنشد ابن السكيت:
ألمّا يئن لِي أَنْ تُجَلَّى عِمَايَتِي وَأُقْصِرَ عَنْ لَيْلَى بلى قد أنى ليا
وأَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ فَاعِلُ يَأْنِ، أَيْ: أَلَمْ يَحْضُرْ خُشُوعُ قُلُوبِهِمْ وَيَجِيءُ وَقْتُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
(١). التحريم: ٨.
206
أَلَمْ يَأْنِ لِي يَا قَلْبُ أَنْ أَتْرُكَ الْجَهْلَا وَأَنْ يُحْدِثَ الشَّيْبُ الْمُنِيرُ لَنَا عَقْلَا
هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ الْحَسَنُ: يَسْتَبْطِئُهُمْ وَهُمْ أَحَبُّ خَلْقِهِ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْخِطَابَ لِمَنْ آمَنَ بِمُوسَى وَعِيسَى دُونَ مُحَمَّدٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: نَزَلَتْ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، حُثُّوا عَلَى الرِّقَّةِ وَالْخُشُوعِ، فَأَمَّا مَنْ وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِالرِّقَّةِ وَالْخُشُوعِ فَطَبَقَةٌ فَوْقَ هَؤُلَاءِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: الْمَعْنَى أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينِ آمَنُوا فِي الظَّاهِرِ وَأَسَرُّوا الْكُفْرَ أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَسَيَأْتِي فِي آخِرِ الْبَحْثِ مَا يُقَوِّي قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَالْخُشُوعُ: لِينُ الْقَلْبِ وَرِقَّتُهُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُورِثَهُمُ الذِّكْرُ خُشُوعًا وَرِقَّةً، وَلَا يَكُونُوا كَمَنْ لَا يَلِينُ قَلْبُهُ لِلذِّكْرِ وَلَا يَخْشَعُ لَهُ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ مَعْطُوفٌ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ، وَالْمُرَادُ بِمَا نَزَلَ مِنَ الحق القرآن، فيحمل الذكر المعطوف عليه مَا عَدَاهُ مِمَّا فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِاللِّسَانِ، أَوْ خُطُورٍ بِالْقَلْبِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ هُوَ الْقُرْآنُ، فَيَكُونُ هَذَا الْعَطْفُ مِنْ بَابِ عطف التفسير، أو باعتبار تغاير الْمَفْهُومَيْنِ.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «نَزَلَ» مُشَدَّدًا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحَفْصٌ بِالتَّخْفِيفِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ الجحدري وأبو جعفر والأعمش وأبو عمرو وفي رواية عنه مشدّد مبنيا للمفعول. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ «أُنْزِلَ» مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى الْغَيْبَةِ جَرْيًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بالفوقية على الحساب الْتِفَاتًا، وَبِهَا قَرَأَ عِيسَى وَابْنُ إِسْحَاقَ، وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى «تَخْشَعَ» أَيْ: أَلَمْ يَأْنِ لَهُمْ أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ وَلَا يَكُونُوا، وَالْمَعْنَى: النَّهْيُ لَهُمْ عَنْ أَنْ يَسْلُكُوا سَبِيلَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ أُوتُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلِ نُزُولِ الْقُرْآنِ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ أَيْ: طَالَ عَلَيْهِمُ الزَّمَانُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَنْبِيَائِهِمْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «الْأَمَدُ» بِتَخْفِيفِ الدَّالِّ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِتَشْدِيدِهَا، أَيِ:
الزَّمَنُ الطَّوِيلُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأَمَدِ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى الْأَجَلُ وَالْغَايَةُ، يُقَالُ: أَمَدُ فُلَانٍ كَذَا، أَيْ: غَايَتُهُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ بِذَلِكَ السَّبَبِ، فَلِذَلِكَ حَرَّفُوا وَبَدَّلُوا، فَنَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُونُوا مِثْلَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ أَيْ: خَارِجُونَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا الْعَمَلَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ، وَحَرَّفُوا وَبَدَّلُوا وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ تَرَكُوا الْإِيمَانَ بِعِيسَى وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ ابْتَدَعُوا الرَّهْبَانِيَّةَ، وَهُمْ أَصْحَابُ الصَّوَامِعِ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ الْأَجْسَامَ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَيُلِينُ الْقُلُوبَ بَعْدَ قَسْوَتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا هَذِهِ الْآيَاتُ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أَيْ: كَيْ تَعْقِلُوا مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَتَعْمَلُوا بِمُوجَبِ ذَلِكَ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِتَشْدِيدِ الصَّادِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مِنَ الصَّدَقَةِ، وَأَصْلُهُ الْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ، فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الصَّادِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: «الْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ» بِإِثْبَاتِ التَّاءِ عَلَى الْأَصْلِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِتَخْفِيفِ الصَّادِ فِيهِمَا مِنَ التَّصْدِيقِ، أَيْ: صَدَّقُوا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَ بِهِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً مَعْطُوفٌ عَلَى اسْمِ الْفَاعِلِ فِي الْمُصَّدِّقِينَ لِأَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ صِلَةً لِلْأَلِفِ وَاللَّامِ الْمَوْصُولَةِ حَلَّ مَحَلَّ الْفِعْلِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ:
إِنَّ الَّذِينَ تَصَدَّقُوا وَأَقْرَضُوا، كَذَا قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ: جُمْلَةُ وَأَقْرَضُوا مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ اسْمِ إِنَّ وَخَبَرِهَا، وَهُوَ يُضاعَفُ. وَقِيلَ: هِيَ صِلَةٌ لِمَوْصُولٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: وَالَّذِينَ أَقْرَضُوا، وَالْقَرْضُ
207
الْحَسَنُ: عِبَارَةٌ عَنِ التَّصَدُّقِ وَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَعَ خُلُوصِ نِيَّةٍ، وَصِحَّةِ قَصْدٍ، وَاحْتِسَابِ أَجْرٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُضاعَفُ لَهُمْ بِفَتْحِ الْعَيْنِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَالْقَائِمُ مَقَامَ الْفَاعِلِ إِمَّا الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ، أَوْ ضَمِيرٌ يَرْجِعُ إِلَى الْمُصَّدِّقِينَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: ثَوَابُهُمْ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: «يُضَاعِفُهُ» بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَزِيَادَةِ الْهَاءِ.
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ «يُضَعَّفُ» بِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ وَفَتْحِهَا وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ وَهُوَ الْجَنَّةُ، وَالْمُضَاعَفَةُ هُنَا أَنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشَرَةِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ جَمِيعًا، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ إِلَى الْمَوْصُولِ، وَخَبَرُهُ قَوْلُهُ: هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ الْمَوْصُولِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: كُلُّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ فَهُوَ صِدِّيقٌ. قَالَ الْمُقَاتِلَانِ: هُمُ الَّذِينَ لَمْ يَشُكُّوا فِي الرُّسُلِ حِينَ أَخْبَرُوهُمْ وَلَمْ يُكَذِّبُوهُمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هَذِهِ الْآيَةُ لِلشُّهَدَاءِ خَاصَّةً، وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ لِلْأُمَمِ وَعَلَيْهِمْ، وَاخْتَارَ هَذَا الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ: هُمُ الَّذِينَ اسْتُشْهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقِيلَ: هُمْ أُمَمُ الرُّسُلِ يَشْهَدُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِأَنْبِيَائِهِمْ بِالتَّبْلِيغِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ جَمِيعًا بِمَنْزِلَةِ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ الْمَشْهُورِينَ بِعُلُوِّ الدَّرَجَةِ عِنْدَ اللَّهِ، وَقِيلَ: إِنَّ الصِّدِّيقِينَ هُمُ الْمُبَالِغُونَ فِي الصِّدْقِ حَيْثُ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا جَمِيعَ رُسُلِهِ، وَالْقَائِمُونَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ بِالتَّوْحِيدِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَا لَهُمْ مِنَ الْخَيْرِ بِسَبَبِ مَا اتَّصَفُوا بِهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ فَقَالَ: لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالضَّمِيرُ الْأَوَّلُ رَاجِعٌ إِلَى الْمَوْصُولِ، وَالضَّمِيرَانِ الْأَخِيرَانِ راجعان إلى الصديقين والشهداء، أي: لهم مثل أجرهم ونورهم، وأما على قول من قال: إن الذين آمنوا بالله ورسله هم نفس الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ، فَالضَّمَائِرُ الثَّلَاثَةُ كُلُّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَالْمَعْنَى: لَهُمُ الْأَجْرُ وَالنُّورُ الْمَوْعُودَانِ لَهُمْ. ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ وَثَوَابَهُمْ ذَكَرَ حَالَ الْكَافِرِينَ وَعِقَابَهُمْ فَقَالَ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أَيْ: جَمَعُوا بَيْنَ الْكُفْرِ وَتَكْذِيبِ الْآيَاتِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ إِلَى الْمَوْصُولِ بِاعْتِبَارِ مَا فِي صِلَتِهِ مِنَ اتِّصَافِهِمْ بِالْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ، وَهَذَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ أَصْحابُ الْجَحِيمِ يُعَذَّبُونَ بِهَا، وَلَا أَجْرَ لَهُمْ وَلَا نُورَ، بَلْ عَذَابٌ مُقِيمٌ وَظُلْمَةٌ دَائِمَةٌ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اسْتَبْطَأَ اللَّهُ قُلُوبَ الْمُهَاجِرِينَ بَعْدَ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةٍ مِنْ نُزُولِ الْقُرْآنِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ». وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:
«خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمْ يَضْحَكُونَ، فَسَحَبَ رِدَاءَهُ مُحْمَرًّا وَجْهُهُ فَقَالَ:
أَتَضْحَكُونَ وَلَمْ يَأْتِكُمْ أَمَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ بِأَنَّهُ قَدْ غَفَرَ لَكُمْ؟! وَلَقَدْ أَنْزَلَ عَلَيَّ فِي ضَحِكِكُمْ آيَةً: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا كَفَّارَةُ ذَلِكَ؟ قَالَ: تَبْكُونَ بِقَدْرِ مَا ضَحِكْتُمْ»
. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَا كَانَ بَيْنَ إِسْلَامِنَا وَبَيْنَ أَنْ عَاتَبَنَا اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا إِلَّا أَرْبَعُ سِنِينَ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ عَنْهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ أُخْرَى. وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ:
لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَقْبَلَ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ: أَيَّ شَيْءٍ أَحْدَثْنَا؟ أَيَّ شَيْءٍ صَنَعْنَا؟. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ اسْتَبْطَأَ قُلُوبَ الْمُهَاجِرِينَ فَعَاتَبَهُمْ عَلَى رَأْسِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةٍ مِنْ نُزُولِ الْقُرْآنِ
208
﴿ اعْلَمُوا أَنَّ الله يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ فهو قادر على أن يبعث الأجسام بعد موتها، ويلين القلوب بعد قسوتها ﴿ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيات ﴾ التي من جملتها هذه الآيات ﴿ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ أي كي تعقلوا ما تضمنته من المواعظ، وتعملوا بموجب ذلك.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن مردويه عن أنس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :«استبطأ الله قلوب المهاجرين بعد سبع عشرة سنة من نزول القرآن، فأنزل الله ﴿ أَلَمْ يَانِ لِلَّذِينَ ءامَنُوا ﴾ الآية». وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفر من أصحابه في المسجد وهم يضحكون، فسحب رداءه محمراً وجهه فقال :«أتضحكون ولم يأتكم أمان من ربكم بأنه قد غفر لكم، ولقد أنزل عليّ في ضحككم آية :﴿ أَلَمْ يَانِ لِلَّذِينَ ءامَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله ﴾، قالوا : يا رسول الله، فما كفارة ذلك ؟ قال : تبكون بقدر ما ضحكتم». وأخرج مسلم والنسائي وابن ماجه وابن المنذر وابن مردويه عن ابن مسعود قال : ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية ﴿ أَلَمْ يَانِ لِلَّذِينَ ءامَنُوا ﴾ إلاّ أربع سنين. وأخرج نحوه عنه ابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه من طريق أخرى. وأخرج أبو يعلى وابن مردويه عنه أيضاً قال : لما نزلت هذه الآية أقبل بعضنا على بعض : أيّ شيء أحدثنا أيّ شيء صنعنا ؟ وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : إن الله استبطأ قلوب المهاجرين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن :﴿ أَلَمْ يَانِ لِلَّذِينَ ءامَنُوا ﴾ الآية. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن عبد العزيز بن أبي روّاد أن أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ظهر فيهم المزاح والضحك، فنزلت هذه الآية ﴿ أَلَمْ يَانِ لِلَّذِينَ ءامَنُوا ﴾. وأخرج ابن المبارك عن ابن عباس ﴿ اعلموا أَنَّ الله يُحْيِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ قال : يعني : أنه يلين القلوب بعد قسوتها. وأخرج ابن جرير عن البراء بن عازب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«مؤمنو أمتي شهداء»، ثم تلا النبيّ صلى الله عليه وسلم ﴿ والذين ءامَنُوا بالله وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصّدّيقون والشهداء عِندَ رَبّهِمْ ﴾. وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود قال : كل مؤمن صديق وشهيد. وأخرج الحاكم وصححه عن ابن مسعود قال : إن الرجل ليموت على فراشه وهو شهيد، ثم تلا هذه الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس ﴿ والذين ءامَنُوا بالله وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصّدّيقون ﴾ قال : هذه مفصولة ﴿ والشهداء عِندَ رَبّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ ﴾. وأخرج ابن حبان عن عمرو بن مرة الجهني قال : جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال :«يا رسول الله أرأيت إن شهدت أن لا إله إلاّ الله، وأنك رسول الله، وصليت الصلوات الخمس وأدّيت الزكاة وصمت رمضان وقمته، فممن أنا ؟ قال : من الصدّيقين والشهداء».
﴿ إِنَّ المصدّقين والمصدّقات ﴾ قرأ الجمهور بتشديد الصاد في الموضعين من الصدقة، وأصله المتصدّقين والمتصدّقات، فأدغمت التاء في الصاد. وقرأ أبيّ «المتصدّقين والمتصدّقات » بإثبات التاء على الأصل. وقرأ ابن كثير بتخفيف الصاد فيهما من التصديق : أي صدّقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به ﴿ وَأَقْرَضُواُ الله قَرْضاً حَسَناً ﴾ معطوف على اسم الفاعل في المصدّقين لأنه لما وقع صلة للألف واللام الموصولة حلّ محلّ الفعل، فكأنه قال : إن الذين تصدّقوا وأقرضوا كذا قال أبو علي الفارسي وغيره. وقيل : جملة :﴿ وأقرضوا ﴾ معترضة بين اسم إن وخبرها، وهو ﴿ يضاعف ﴾ وقيل : هي صلة لموصول محذوف : أي والذين أقرضوا، والقرض الحسن عبارة عن التصدق والإنفاق في سبيل الله مع خلوص نية وصحة قصد واحتساب أجر. قرأ الجمهور :﴿ يُضَاعَفُ لَهُمْ ﴾ بفتح العين على البناء للمفعول، والقائم مقام الفاعل إما الجار والمجرور أو ضمير يرجع إلى المصدّقين على حذف مضاف : أي ثوابهم، وقرأ الأعمش :«يضاعفه » بكسر العين وزيادة الهاء. وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب :«يُضَعَّفُ » بتشديد العين وفتحها ﴿ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ﴾ وهو الجنة، والمضاعفة هنا أن الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن مردويه عن أنس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :«استبطأ الله قلوب المهاجرين بعد سبع عشرة سنة من نزول القرآن، فأنزل الله ﴿ أَلَمْ يَانِ لِلَّذِينَ ءامَنُوا ﴾ الآية». وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفر من أصحابه في المسجد وهم يضحكون، فسحب رداءه محمراً وجهه فقال :«أتضحكون ولم يأتكم أمان من ربكم بأنه قد غفر لكم، ولقد أنزل عليّ في ضحككم آية :﴿ أَلَمْ يَانِ لِلَّذِينَ ءامَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله ﴾، قالوا : يا رسول الله، فما كفارة ذلك ؟ قال : تبكون بقدر ما ضحكتم». وأخرج مسلم والنسائي وابن ماجه وابن المنذر وابن مردويه عن ابن مسعود قال : ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية ﴿ أَلَمْ يَانِ لِلَّذِينَ ءامَنُوا ﴾ إلاّ أربع سنين. وأخرج نحوه عنه ابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه من طريق أخرى. وأخرج أبو يعلى وابن مردويه عنه أيضاً قال : لما نزلت هذه الآية أقبل بعضنا على بعض : أيّ شيء أحدثنا أيّ شيء صنعنا ؟ وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : إن الله استبطأ قلوب المهاجرين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن :﴿ أَلَمْ يَانِ لِلَّذِينَ ءامَنُوا ﴾ الآية. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن عبد العزيز بن أبي روّاد أن أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ظهر فيهم المزاح والضحك، فنزلت هذه الآية ﴿ أَلَمْ يَانِ لِلَّذِينَ ءامَنُوا ﴾. وأخرج ابن المبارك عن ابن عباس ﴿ اعلموا أَنَّ الله يُحْيِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ قال : يعني : أنه يلين القلوب بعد قسوتها. وأخرج ابن جرير عن البراء بن عازب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«مؤمنو أمتي شهداء»، ثم تلا النبيّ صلى الله عليه وسلم ﴿ والذين ءامَنُوا بالله وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصّدّيقون والشهداء عِندَ رَبّهِمْ ﴾. وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود قال : كل مؤمن صديق وشهيد. وأخرج الحاكم وصححه عن ابن مسعود قال : إن الرجل ليموت على فراشه وهو شهيد، ثم تلا هذه الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس ﴿ والذين ءامَنُوا بالله وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصّدّيقون ﴾ قال : هذه مفصولة ﴿ والشهداء عِندَ رَبّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ ﴾. وأخرج ابن حبان عن عمرو بن مرة الجهني قال : جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال :«يا رسول الله أرأيت إن شهدت أن لا إله إلاّ الله، وأنك رسول الله، وصليت الصلوات الخمس وأدّيت الزكاة وصمت رمضان وقمته، فممن أنا ؟ قال : من الصدّيقين والشهداء».
﴿ والذين ءامَنُوا بالله وَرُسُلِهِ ﴾ جميعاً، والإشارة بقوله :﴿ أولئك ﴾ إلى الموصول، وخبره قوله :﴿ هُمُ الصِِّدِّيقُونَ والشُّهَدَاء ﴾ الجملة خبر الموصول. قال مجاهد : كل من آمن بالله ورسله فهو صدّيق. قال المقاتلان : هم الذين لم يشكوا في الرسل حين أخبروهم ولم يكذّبوهم. وقال مجاهد : هذه الآية للشهداء خاصة، وهم الأنبياء الذين يشهدون للأمم وعليهم، واختار هذا الفراء والزجاج. وقال مقاتل بن سليمان : هم الذين استشهدوا في سبيل الله، وكذا قال ابن جرير، وقيل : هم أمم الرسل يشهدون يوم القيامة لأنبيائهم بالتبليغ، والظاهر أن معنى الآية : إن الذين آمنوا بالله ورسله جميعاً بمنزلة الصدّيقين والشهداء المشهورين بعلوّ الدرجة عند الله، وقيل : إن الصدّيقين هم المبالغون في الصدق حيث آمنوا بالله وصدّقوا جميع رسله، والقائمون لله سبحانه بالتوحيد. ثم بيّن سبحانه ما لهم من الخير بسبب ما اتصفوا به من الإيمان بالله ورسله فقال :﴿ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ ﴾ والضمير الأوّل راجع إلى الموصول، والضميران الأخيران راجعان إلى الصدّيقين والشهداء : أي لهم مثل أجرهم ونورهم، وأما على قول من قال : إن الذين آمنوا بالله ورسله هم نفس الصديقين والشهداء، فالضمائر الثلاثة كلها راجعة إلى شيء واحد، والمعنى : لهم الأجر والنور الموعودان لهم.
ثم لما ذكر حال المؤمنين وثوابهم ذكر حال الكافرين وعقابهم، فقال :﴿ والذين كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بآياتنا ﴾ أي جمعوا بين الكفر وتكذيب الآيات، والإشارة بقوله :﴿ أولئك ﴾ إلى الموصول باعتبار ما في صلته من اتصافهم بالكفر والتكذيب، وهذا مبتدأ وخبره ﴿ أصحاب الجحيم ﴾ يعذبون بها ولا أجر لهم ولا نور، بل عذاب مقيم وظلمة دائمة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن مردويه عن أنس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :«استبطأ الله قلوب المهاجرين بعد سبع عشرة سنة من نزول القرآن، فأنزل الله ﴿ أَلَمْ يَانِ لِلَّذِينَ ءامَنُوا ﴾ الآية». وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفر من أصحابه في المسجد وهم يضحكون، فسحب رداءه محمراً وجهه فقال :«أتضحكون ولم يأتكم أمان من ربكم بأنه قد غفر لكم، ولقد أنزل عليّ في ضحككم آية :﴿ أَلَمْ يَانِ لِلَّذِينَ ءامَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله ﴾، قالوا : يا رسول الله، فما كفارة ذلك ؟ قال : تبكون بقدر ما ضحكتم». وأخرج مسلم والنسائي وابن ماجه وابن المنذر وابن مردويه عن ابن مسعود قال : ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية ﴿ أَلَمْ يَانِ لِلَّذِينَ ءامَنُوا ﴾ إلاّ أربع سنين. وأخرج نحوه عنه ابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه من طريق أخرى. وأخرج أبو يعلى وابن مردويه عنه أيضاً قال : لما نزلت هذه الآية أقبل بعضنا على بعض : أيّ شيء أحدثنا أيّ شيء صنعنا ؟ وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : إن الله استبطأ قلوب المهاجرين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن :﴿ أَلَمْ يَانِ لِلَّذِينَ ءامَنُوا ﴾ الآية. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن عبد العزيز بن أبي روّاد أن أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ظهر فيهم المزاح والضحك، فنزلت هذه الآية ﴿ أَلَمْ يَانِ لِلَّذِينَ ءامَنُوا ﴾. وأخرج ابن المبارك عن ابن عباس ﴿ اعلموا أَنَّ الله يُحْيِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ قال : يعني : أنه يلين القلوب بعد قسوتها. وأخرج ابن جرير عن البراء بن عازب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«مؤمنو أمتي شهداء»، ثم تلا النبيّ صلى الله عليه وسلم ﴿ والذين ءامَنُوا بالله وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصّدّيقون والشهداء عِندَ رَبّهِمْ ﴾. وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود قال : كل مؤمن صديق وشهيد. وأخرج الحاكم وصححه عن ابن مسعود قال : إن الرجل ليموت على فراشه وهو شهيد، ثم تلا هذه الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس ﴿ والذين ءامَنُوا بالله وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصّدّيقون ﴾ قال : هذه مفصولة ﴿ والشهداء عِندَ رَبّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ ﴾. وأخرج ابن حبان عن عمرو بن مرة الجهني قال : جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال :«يا رسول الله أرأيت إن شهدت أن لا إله إلاّ الله، وأنك رسول الله، وصليت الصلوات الخمس وأدّيت الزكاة وصمت رمضان وقمته، فممن أنا ؟ قال : من الصدّيقين والشهداء».
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَهَرَ فِيهِمُ الْمِزَاحُ وَالضَّحِكُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَالَ: يَعْنِي أَنَّهُ يُلِينُ الْقُلُوبَ بَعْدَ قَسْوَتِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ:
سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مُؤْمِنُو أُمَّتِي شُهَدَاءُ، ثُمَّ تَلَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ». وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُلُّ مُؤْمِنٍ صِدِّيقٌ وَشَهِيدٌ.
وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَمُوتُ عَلَى فِرَاشِهِ وَهُوَ شَهِيدٌ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةِ» وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ قَالَ: هَذِهِ مَفْصُولَةٌ: وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ الْجُهَنِيِّ: قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ شَهِدْتُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ وَصَلَّيْتُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَأَدَّيْتُ الزَّكَاةَ وَصُمْتُ رَمَضَانَ وَقُمْتُهُ، فَمِمَّنْ أَنَا؟ قَالَ: من الصّدّيقين والشهداء».
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ٢٠ الى ٢٤]
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١) مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (٢٣) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤)
قَوْلُهُ: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ حَالَ الْفَرِيقِ الثَّانِي وَمَا وَقَعَ مِنْهُمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ مَيْلِهِمْ إِلَى الدُّنْيَا وَتَأْثِيرِهَا، بَيَّنَ لَهُمْ حَقَارَتَهَا، وَأَنَّهَا أَحْقَرُ مِنْ أَنْ تُؤْثَرَ عَلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَاللَّعِبُ: هُوَ الْبَاطِلُ، وَاللَّهْوُ: كُلُّ شَيْءٍ يُتَلَهَّى بِهِ ثُمَّ يَذْهَبُ. قَالَ قَتَادَةُ: «لَعِبٌ وَلَهْوٌ» :
أَكْلٌ وَشُرْبٌ. قَالَ مُجَاهِدٌ: كُلُّ لَعِبٍ لَهْوٌ، وَقِيلَ: اللَّعِبُ: مَا رَغَّبَ فِي الدُّنْيَا، وَاللَّهْوُ: مَا أَلْهَى عَنِ الْآخِرَةِ وَشَغَلَ عَنْهَا، وَقِيلَ: اللَّعِبُ: الِاقْتِنَاءُ، وَاللَّهْوُ: النِّسَاءُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ هَذَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَالزِّينَةُ:
التَّزَيُّنُ بِمَتَاعِ الدُّنْيَا مِنْ دُونِ عَمَلٍ لِلْآخِرَةِ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ قَرَأَ الجمهور بتنوين «تفاخر» والظرف صفة لَهُ، وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ بِالْإِضَافَةِ، أَيْ: يَفْتَخِرُ بِهِ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَقِيلَ: يَتَفَاخَرُونَ بِالْخِلْقَةِ وَالْقُوَّةِ، وَقِيلَ:
بِالْأَنْسَابِ وَالْأَحْسَابِ كَمَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْعَرَبُ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ أَيْ: يَتَكَاثَرُونَ بِأَمْوَالِهِمْ
209
وَأَوْلَادِهِمْ، وَيَتَطَاوَلُونَ بِذَلِكَ عَلَى الْفُقَرَاءِ. ثُمَّ بَيَّنَ سبحانه لهذه الحياة شَبَهًا، وَضَرَبَ لَهَا مَثَلًا، فَقَالَ:
كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ أَيْ: كَمَثَلِ مَطَرٍ أَعْجَبَ الزُّرَّاعَ نَبَاتُهُ، وَالْمُرَادُ بِالْكُفَّارِ هُنَا الزُّرَّاعُ لِأَنَّهُمْ يَكْفُرُونَ الْبَذْرَ، أَيْ: يُغَطُّونَهُ بِالتُّرَابِ، وَمَعْنَى نَبَاتُهُ: النَّبَاتُ الْحَاصِلُ بِهِ ثُمَّ يَهِيجُ أَيْ: يَجِفُّ بَعْدَ خُضْرَتِهِ وَيَيْبَسُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا أَيْ: مُتَغَيِّرًا عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْخُضْرَةِ وَالرَّوْنَقُ إِلَى لَوْنِ الصُّفْرَةِ وَالذُّبُولِ ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً أَيْ: فُتَاتًا هَشِيمًا مُتَكَسِّرًا مُتَحَطِّمًا بَعْدَ يُبْسِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا الْمَثَلِ فِي سُورَةِ يُونُسَ والكهف. والمعنى: أن الحياة كَالزَّرْعِ يُعْجِبُ النَّاظِرِينَ إِلَيْهِ لِخُضْرَتِهِ وَكَثْرَةِ نَضَارَتِهِ، ثُمَّ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَصِيرَ هَشِيمًا تِبْنًا كَأَنْ لَمْ يَكُنْ. وَقُرِئَ «مُصْفَارًّا» وَالْكَافُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَوْ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهَا خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ حَقَارَةَ الدُّنْيَا وَسُرْعَةَ زَوَالِهَا ذَكَرَ مَا أَعَدَّهُ لِلْعُصَاةِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فَقَالَ: وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وأتبعه ما أَعَدَّهُ لِأَهْلِ الطَّاعَةِ فَقَالَ: وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ والتنكير فيها لِلتَّعْظِيمِ. قَالَ قَتَادَةُ: عَذَابٌ شَدِيدٌ لِأَعْدَاءِ اللَّهِ، وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ لِأَوْلِيَائِهِ وَأَهْلِ طَاعَتِهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: التَّقْدِيرُ فِي الْآيَةِ إِمَّا عَذَابٌ شَدِيدٌ، وَإِمَّا مَغْفِرَةٌ، فَلَا يُوقَفُ عَلَى «شَدِيدٌ». ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ بَعْدَ التَّرْهِيبِ وَالتَّرْغِيبِ حَقَارَةَ الدُّنْيَا فَقَالَ: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ لِمَنِ اغْتَرَّ بِهَا وَلَمْ يَعْمَلْ لِآخِرَتِهِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مَتَاعُ الْغُرُورِ لِمَنْ لَمْ يَشْتَغِلْ بِطَلَبِ الْآخِرَةِ. وَمَنِ اشْتَغَلَ بِطَلَبِهَا فَلَهُ مَتَاعُ بِلَاغٍ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِلْمَثَلِ الْمُتَقَدِّمِ وَمُؤَكِّدَةٌ لَهُ. ثُمَّ نَدَبَ عِبَادَهُ إِلَى الْمُسَابَقَةِ إِلَى مَا يُوجِبُ الْمَغْفِرَةَ مِنَ التَّوْبَةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَإِنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ إِلَى الْجَنَّةِ، فَقَالَ: سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَيْ: سَارِعُوا مُسَارَعَةَ السَّابِقِينَ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي تُوجِبُ الْمَغْفِرَةَ لَكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ، وَتُوبُوا مِمَّا وَقَعَ مِنْكُمْ مِنَ الْمَعَاصِي، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْآيَةِ التَّكْبِيرَةُ الْأُولَى مَعَ الْإِمَامِ، قَالَهُ مَكْحُولٌ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ الصَّفُّ الْأَوَّلُ، وَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِ مَا فِي الْآيَةِ بِمِثْلِ هَذَا، بَلْ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا تُصْدُقُ عَلَيْهِ صِدْقًا شُمُولِيًّا أَوْ بَدَلِيًّا وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَيْ: كَعَرْضِهِمَا، وَإِذَا كَانَ هَذَا قَدْرَ عَرْضِهَا فَمَا ظَنُّكَ بِطُولِهَا. قَالَ الْحَسَنُ:
يَعْنِي جَمِيعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ مَبْسُوطَاتٍ كُلَّ وَاحِدَةٍ إِلَى صَاحِبَتِهَا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْجَنَّةِ الَّتِي عَرْضُهَا هَذَا الْعَرْضُ هِيَ جَنَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: عَنَى بِهِ جَنَّةً وَاحِدَةً مِنَ الْجَنَّاتِ، وَالْعَرْضُ أَقَلُّ مِنَ الطُّولِ، وَمِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَنَّهَا تُعَبِّرُ عن [سعة] «١» الشَّيْءِ بِعَرْضِهِ دُونَ طُولِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
كَأَنَّ بِلَادَ اللَّهِ وَهْيَ عَرِيضَةٌ عَلَى الْخَائِفِ الْمَطْلُوبِ كِفَّةُ حَابِلِ
وَقَدْ مَضَى تَفْسِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. ثُمَّ وَصَفَ سُبْحَانَهُ تِلْكَ الْجَنَّةَ بِصِفَةٍ أُخْرَى فَقَالَ: أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَجُوزُ أَنَّ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْجَنَّةِ يَكُونُ بِمُجَرَّدِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَلَكِنَّ هَذَا مُقَيَّدٌ بِالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهَا إِلَّا مَنْ عَمِلَ بِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَاجْتَنَبَ مَا نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهُ، وَهِيَ أَدِلَّةٌ كَثِيرَةٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا وَعَدَ بِهِ
(١). من تفسير القرطبي (١٧/ ٢٥٦).
210
سُبْحَانَهُ مِنَ الْمَغْفِرَةِ وَالْجَنَّةِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ أَيْ: يُعْطِيهِ مَنْ يَشَاءُ إِعْطَاءَهُ إِيَّاهُ تَفَضُّلًا وَإِحْسَانًا وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ فَهُوَ يَتَفَضَّلُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدِهِ، وَهُوَ الْكَرِيمُ الْمُطْلَقُ وَالْجَوَادُ الَّذِي لَا يَبْخَلُ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ مَا يُصَابُ بِهِ الْعِبَادُ مِنَ الْمَصَائِبِ قَدْ سَبَقَ بِذَلِكَ قَضَاؤُهُ وَقَدَرُهُ، وَثَبَتَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، فَقَالَ: مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ مِنْ قَحْطِ مَطَرٍ، وَضَعْفِ نَبَاتٍ، وَنَقْصِ ثِمَارٍ. قَالَ مُقَاتِلٌ: الْقَحْطُ وَقِلَّةُ النَّبَاتِ وَالثِّمَارِ، وَقِيلَ: الْجَوَائِحُ فِي الزَّرْعِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ قَالَ قَتَادَةُ: بِالْأَوْصَابِ وَالْأَسْقَامِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِقَامَةُ الْحُدُودِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ:
ضِيقُ الْمَعَاشِ إِلَّا فِي كِتابٍ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ «مُصِيبَةٌ»، أَيْ: إِلَّا حَالَ كَوْنِهَا مَكْتُوبَةً فِي كِتَابٍ، وَهُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، وَجُمْلَةُ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها فِي مَحَلِّ جر صفة لكتاب، وَالضَّمِيرُ فِي نَبْرَأَهَا عَائِدٌ إِلَى الْمُصِيبَةِ، أَوْ إِلَى الْأَنْفُسِ، أَوْ إِلَى الْأَرْضِ، أَوْ إِلَى جَمِيعِ ذَلِكَ، وَمَعْنَى نَبْرَأَها نَخْلُقُهَا إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أَيْ: إِنَّ إِثْبَاتَهَا فِي الْكِتَابِ عَلَى كَثْرَتِهِ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ غَيْرُ عسير، لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فاتَكُمْ أَيِ: اخْتَبَرْنَاكُمْ بِذَلِكَ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ مِنَ الدُّنْيَا وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ مِنْهَا، أَيْ: أَعْطَاكُمْ مِنْهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ يَزُولُ عَنْ قَرِيبٍ، وَكُلُّ زَائِلٍ عَنْ قَرِيبٍ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُفْرَحَ بِحُصُولِهِ، وَلَا يُحْزَنَ عَلَى فَوَاتِهِ، وَمَعَ أَنَّ الكل بقضاء الله وقدره، فلن يعدو أمر مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَا كَانَ حُصُولُهُ كَائِنًا لَا مَحَالَةَ فَلَيْسَ بِمُسْتَحِقٍّ لِلْفَرَحِ بِحُصُولِهِ وَلَا للحزن على فوته، قيل: وَالْحُزْنُ وَالْفَرَحُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُمَا هُمَا اللَّذَانِ يُتَعَدَّى فِيهِمَا إِلَى مَا لَا يَجُوزُ، وَإِلَّا فَلَيْسَ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَهُوَ يَحْزَنُ وَيَفْرَحُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِما آتاكُمْ بِالْمَدِّ، أَيْ: أَعْطَاكُمْ، وَقَرَأَ أبو العالية ونصر بن عاصم وأبو عمرة بِالْقَصْرِ، أَيْ: جَاءَكُمْ، وَاخْتَارَ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى أَبُو حَاتِمٍ، وَاخْتَارَ الْقِرَاءَةَ الثَّانِيَةِ أَبُو عُبَيْدٍ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ أَيْ: لَا يُحِبُّ مَنِ اتَّصَفَ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ وَهُمَا الِاخْتِيَالُ وَالِافْتِخَارُ، قِيلَ: هُوَ ذَمٌّ لِلْفَرَحِ الَّذِي يَخْتَالُ فِيهِ صَاحِبُهُ وَيَبْطَرُ، وَقِيلَ: إِنَّ مَنْ فَرِحَ بِالْحُظُوظِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَعَظُمَتْ فِي نَفْسِهِ، اخْتَالَ وَافْتَخَرَ بِهَا، وَقِيلَ: الْمُخْتَالُ: الَّذِي يَنْظُرُ إِلَى نَفْسِهِ، والفخور: الَّذِي يَنْظُرُ إِلَى نَفْسِهِ، وَالْفَخُورُ: الَّذِي يَنْظُرُ إِلَى النَّاسِ بِعَيْنِ الِاسْتِحْقَارِ. وَالْأَوْلَى تَفْسِيرُ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ بِمَعْنَاهُمَا الشَّرْعِيِّ ثُمَّ اللُّغَوِيِّ، فَمَنْ حَصَلَتَا فِيهِ فَهُوَ الَّذِي لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ الْمَوْصُولُ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَهُوَ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَا قَبْلَهُ، وَالْخَبَرُ مُقَدَّرٌ، أَيِ: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ فَاللَّهُ غَنِيٌّ عَنْهُمْ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ وَقِيلَ: الْمَوْصُولُ فِي مَحَلِّ جَرٍّ بَدَلٌ مِنْ «مُخْتَالٍ»، وَهُوَ بَعِيدٌ، فَإِنَّ هَذَا الْبُخْلَ بِمَا فِي الْيَدِ، وَأَمْرَ النَّاسِ بِالْبُخْلِ، لَيْسَ هُوَ مَعْنَى الْمُخْتَالِ الْفَخُورِ، لَا لُغَةً وَلَا شَرْعًا. وَقِيلَ: هُوَ فِي مَحَلِّ جَرٍّ نَعْتٌ لَهُ، وَهُوَ أَيْضًا بِعِيدٌ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِالْعِلْمِ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ بِهِ لِئَلَّا يُعَلِّمُوا النَّاسَ شَيْئًا. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: إِنَّهُ الْبُخْلُ بِأَدَاءِ حَقِّ اللَّهِ، وقيل: إنه البخل بالصدقة، وقال طاوس:
إِنَّهُ الْبُخْلُ بِمَا فِي يَدَيْهِ، وَقِيلَ: أَرَادَ رُؤَسَاءَ الْيَهُودِ الَّذِينَ بَخِلُوا بِبَيَانِ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُتُبِهِمْ لِئَلَّا يُؤْمِنَ بِهِ النَّاسُ فَتَذْهَبَ مَآكِلُهُمْ، قَالَهُ السُّدِّيُّ والكلبي. قرأ الجمهور: بِالْبُخْلِ بضم وَسُكُونِ الْخَاءِ. وَقَرَأَ أَنَسٌ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ وَمُجَاهِدٌ وَحُمَيْدٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِفَتْحَتَيْنِ، وَهِيَ لُغَةُ الْأَنْصَارِ.
211
ثم ندب عباده إلى المسابقة إلى ما يوجب المغفرة من التوبة والعمل الصالح، فإن ذلك سبب إلى الجنة، فقال :﴿ سَابِقُوا إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَبِّكُمْ ﴾ أي سارعوا مسارعة السابقين بالأعمال الصالحة التي توجب المغفرة لكم من ربكم وتوبوا مما وقع منكم من المعاصي، وقيل : المراد بالآية التكبيرة الأولى مع الإمام، قاله مكحول، وقيل : المراد الصفّ الأوّل. ولا وجه لتخصيص ما في الآية بمثل هذا، بل هو من جملة ما تصدّق عليه صدقاً شمولياً أو بدلياً ﴿ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ﴾ أي كعرضهما، وإذا كان هذا قدر عرضها، فما ظنك بطولها.
قال الحسن : يعني جميع السموات والأرضين مبسوطات كل واحدة إلى صاحبتها، وقيل : المراد بالجنة التي عرضها هذا العرض هي جنة كل واحد من أهل الجنة. وقال ابن كيسان : عنى به جنة واحدة من الجنات، والعرض أقل من الطول، ومن عادة العرب أنها تعبر عن الشيء بعرضه دون طوله، ومن ذلك قول الشاعر :
كأن بلاد الله وهي عريضة على الخائف المطلوب كفة حابل
وقد مضى تفسير هذا في سورة آل عمران، ثم وصف سبحانه تلك الجنة بصفة أخرى، فقال :﴿ أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ﴾ ويجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة. وفي هذا دليل على أن استحقاق الجنة يكون بمجرّد الإيمان بالله ورسله، ولكن هذا مقيد بالأدلة الدالة على أنه لا يستحقها إلاّ من عمل بما فرض الله عليه واجتنب ما نهاه الله عنه، وهي أدلة كثيرة في الكتاب والسنة، والإشارة بقوله :﴿ ذلك ﴾ إلى ما وعد به سبحانه من المغفرة والجنة، وهو مبتدأ وخبره ﴿ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء ﴾ أي يعطيه من يشاء إعطاءه إياه تفضلاً وإحساناً ﴿ والله ذُو الفضل العظيم ﴾ فهو يتفضل على من يشاء بما يشاء، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، والخير كله بيده، وهو الكريم المطلق والجواد الذي لا يبخل.
ثم بيّن سبحانه أن ما يصاب به العباد من المصائب قد سبق بذلك قضاؤه وقدره وثبت في أمّ الكتاب، فقال :﴿ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرض ﴾ من قحط مطر وضعف نبات ونقص ثمار. قال مقاتل : القحط وقلة النبات والثمار، وقيل : الجوائح في الزرع ﴿ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ ﴾ قال قتادة : بالأوصاب والأسقام. وقال مقاتل : إقامة الحدود. وقال ابن جريج : ضيق المعاش ﴿ إِلاَّ فِي كتاب ﴾ في محل نصب على الحال من مصيبة : أي إلاّ حال كونها مكتوبة في كتاب، وهو اللوح المحفوظ، وجملة :﴿ مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ﴾ في محل جر صفة لكتاب، والضمير في نبرأها عائد إلى المصيبة، أو إلى الأنفس، أو إلى الأرض، أو إلى جميع ذلك، ومعنى ﴿ نَّبْرَأَهَا ﴾ : نخلقها ﴿ إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ ﴾ أي أن إثباتها في الكتاب على كثرته على الله يسير غير عسير.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرض وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ ﴾ يقول : في الدين والدنيا ﴿ إِلاَّ فِي كتاب مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ﴾ قال : نخلقها ﴿ لّكَيْلاَ تَاسَوْا على مَا فَاتَكُمْ ﴾ من الدنيا ﴿ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا ءاتاكم ﴾ منها.
وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال : هو شيء قد فرغ منه من قبل أن تبرأ الأنفس. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عنه أيضاً في قوله :﴿ لّكَيْلاَ تَاسَوْا على مَا فَاتَكُمْ ﴾ الآية، قال : ليس أحد إلاّ وهو يحزن ويفرح، ولكن من أصابته مصيبة جعلها صبراً، ومن أصابه خير جعله شكراً. وأخرج ابن المنذر عنه في الآية قال : يريد مصائب المعاش، ولا يريد مصائب الدين، إنه قال :﴿ لّكَيْلاَ تَاسَوْا على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا ءاتاكم ﴾ وليس هذا من مصائب الدين، أمرهم أن يأسوا على السيئة ويفرحوا بالحسنة.

﴿ لّكَيْلاَ تَاسَوْا على مَا فَاتَكُمْ ﴾ أي اختبرناكم بذلك لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من الدنيا ﴿ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا ءاتاكم ﴾ منها : أي أعطاكم منها، فإن ذلك يزول عن قريب، وكلّ زائل عن قريب لا يستحق أن يفرح بحصوله ولا يحزن على فواته، ومع أن الكل بقضاء الله وقدره، فلن يعدو امرأ ما كتب له، وما كان حصوله كائناً لا محالة فليس بمستحقّ للفرح بحصوله ولا للحزن على فوته، قيل : والحزن والفرح المنهيّ عنهما هما اللذان يتعدّى فيهما إلى ما لا يجوز، وإلاّ فليس من أحد إلاّ وهو يحزن ويفرح. قرأ الجمهور :﴿ بما آتاكم ﴾ بالمدّ : أي أعطاكم، وقرأ أبو العالية ونصر بن عاصم وأبو عمرو بالقصر : أي جاءكم، واختار القراءة الأولى أبو حاتم، واختار القراءة الثانية أبو عبيد ﴿ والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ أي لا يحبّ من اتصف بهاتين الصفتين وهما الاختيال والافتخار، قيل : هو ذمّ للفرح الذي يختال فيه صاحبه ويبطر، وقيل : إن من فرح بالحظوظ الدنيوية وعظمت في نفسه اختال وافتخر بها، وقيل : المختال الذي ينظر إلى نفسه، والفخور الذي ينظر إلى الناس بعين الاستحقار. والأولى تفسير هاتين الصفتين بمعناهما الشرعي ثم اللغوي، فمن حصلتا فيه فهو الذي لا يحبه الله.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرض وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ ﴾ يقول : في الدين والدنيا ﴿ إِلاَّ فِي كتاب مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ﴾ قال : نخلقها ﴿ لّكَيْلاَ تَاسَوْا على مَا فَاتَكُمْ ﴾ من الدنيا ﴿ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا ءاتاكم ﴾ منها.
وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال : هو شيء قد فرغ منه من قبل أن تبرأ الأنفس. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عنه أيضاً في قوله :﴿ لّكَيْلاَ تَاسَوْا على مَا فَاتَكُمْ ﴾ الآية، قال : ليس أحد إلاّ وهو يحزن ويفرح، ولكن من أصابته مصيبة جعلها صبراً، ومن أصابه خير جعله شكراً. وأخرج ابن المنذر عنه في الآية قال : يريد مصائب المعاش، ولا يريد مصائب الدين، إنه قال :﴿ لّكَيْلاَ تَاسَوْا على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا ءاتاكم ﴾ وليس هذا من مصائب الدين، أمرهم أن يأسوا على السيئة ويفرحوا بالحسنة.

﴿ الذين يَبْخَلُونَ وَيَامُرُونَ الناس بالبخل ﴾ الموصول في محل رفع بالابتداء، وهو كلام مستأنف لا تعلق له بما قبله، والخبر مقدّر : أي الذين يبخلون فالله غنيّ عنهم، ويدل على ذلك قوله :﴿ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغَنِيُّ الحميد ﴾. وقيل : الموصول في محل جرّ بدل من مختال، وهو بعيد، فإن هذا البخل بما في اليد وأمر الناس بالبخل ليس هو معنى المختال الفخور، لا لغة ولا شرعاً. وقيل : هو في محل جرّ نعت له، وهو أيضاً بعيد. قال سعيد بن جبير : الذين يبخلون بالعلم ويأمرون الناس بالبخل به لئلا يعلموا الناس شيئًا. وقال زيد بن أسلم : إنه البخل بأداء حق الله، وقيل : إنه البخل بالصدقة، وقال طاووس : إنه البخل بما في يديه، وقيل : أراد رؤساء اليهود الذين بخلوا ببيان صفة محمد في كتبهم لئلا يؤمن به الناس فتذهب مآكلهم، قاله السدّي والكلبي، قرأ الجمهور :﴿ بِالبُخْلِ ﴾ بضم الباء وسكون الخاء. وقرأ أنس وعبيد بن عمير ويحيى بن يعمر ومجاهد وحميد وابن محيصن وحمزة والكسائي بفتحتين، وهي لغة الأنصار. وقرأ أبو العالية وابن السميفع بفتح الباء وإسكان الخاء. وقرأ نصر بن عاصم بضمهما، وكلها لغات ﴿ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيد ﴾ أي ومن يعرض عن الإنفاق، فإن الله غنيّ عنه محمود عند خلقه لا يضره ذلك. قرأ الجمهور ﴿ هو الغَنِيُّ ﴾ بإثبات ضمير الفصل. وقرأ نافع وابن عامر :«فإن الله الغني الحميد » بحذف الضمير.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرض وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ ﴾ يقول : في الدين والدنيا ﴿ إِلاَّ فِي كتاب مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ﴾ قال : نخلقها ﴿ لّكَيْلاَ تَاسَوْا على مَا فَاتَكُمْ ﴾ من الدنيا ﴿ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا ءاتاكم ﴾ منها.
وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال : هو شيء قد فرغ منه من قبل أن تبرأ الأنفس. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عنه أيضاً في قوله :﴿ لّكَيْلاَ تَاسَوْا على مَا فَاتَكُمْ ﴾ الآية، قال : ليس أحد إلاّ وهو يحزن ويفرح، ولكن من أصابته مصيبة جعلها صبراً، ومن أصابه خير جعله شكراً. وأخرج ابن المنذر عنه في الآية قال : يريد مصائب المعاش، ولا يريد مصائب الدين، إنه قال :﴿ لّكَيْلاَ تَاسَوْا على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا ءاتاكم ﴾ وليس هذا من مصائب الدين، أمرهم أن يأسوا على السيئة ويفرحوا بالحسنة.

وقرأ أبو العالية وابن السّميقع بِفَتْحِ الْبَاءِ وَإِسْكَانِ الْخَاءِ. وَقَرَأَ نَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ بِضَمِّهِمَا، وَكُلُّهَا لُغَاتٌ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ أَيْ: وَمَنْ يُعْرِضْ عن الإنفاق فإن الله غنيّ مَحْمُودٌ عِنْدَ خَلْقِهِ لَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ.
قَرَأَ الجمهور هو الغني بإثبات ضمير الفصل. قرأ نافع وابن عامر فإن الله الغني الحميد بِحَذْفِ الضَّمِيرِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ يَقُولُ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها قال: نخلقها لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فاتَكُمْ مِنَ الدُّنْيَا وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ مِنْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: هُوَ شَيْءٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُبْرَأَ الْأَنْفُسُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ في الشعب عنه أيضا في قوله: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فاتَكُمْ الْآيَةَ قَالَ: لَيْسَ أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ يَحْزَنُ وَيَفْرَحُ، وَلَكِنْ مَنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ جَعَلَهَا صَبْرًا، وَمَنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ جَعَلَهُ شُكْرًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: يُرِيدُ مَصَائِبَ الْمَعَاشِ، وَلَا يُرِيدُ مصائب الدين، إنه قال: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ مَصَائِبِ الدِّينِ، أَمَرَهُمْ أن يأسوا على السيئة ويفرحوا بالحسنة.
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ٢٥ الى ٢٩]
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها مَا كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩)
قَوْلُهُ: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ أَيْ: بِالْمُعْجِزَاتِ الْبَيِّنَةِ وَالشَّرَائِعِ الظَّاهِرَةِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ الْمُرَادُ الْجِنْسُ، فَيَدْخُلُ فِيهِ كِتَابُ كُلِّ رَسُولٍ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ قال قتادة ومقاتل ابن حَيَّانَ: الْمِيزَانُ: الْعَدْلُ، وَالْمَعْنَى: أَمَرْنَاهُمْ بِالْعَدْلِ، كَمَا في قوله: وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ «١» وَقَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ
«٢» وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ مَا يُوزَنُ بِهِ وَيُتَعَامَلُ بِهِ، وَمَعْنَى لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ لِيَتَّبِعُوا مَا أُمِرُوا بِهِ مِنَ الْعَدْلِ فَيَتَعَامَلُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ بِالنَّصَفَةِ، وَالْقِسْطُ: الْعَدْلُ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمِيزَانِ الْعَدْلُ، وَمَعْنَى إِنْزَالِهِ: إِنْزَالُ أسبابه وموجباته. وعلى القول
(١). الرّحمن: ٧.
(٢). الشورى: ١٧.
212
بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْآلَةُ الَّتِي يُوزَنُ بِهَا فَيَكُونُ إِنْزَالُهُ بِمَعْنَى إِرْشَادِ النَّاسِ إِلَيْهِ وَإِلْهَامِهِمُ الْوَزْنَ بِهِ، وَيَكُونُ الْكَلَامُ مِنْ بَابِ:
عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا...................
وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ أَيْ خَلَقْنَاهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ «١» وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ خَلَقَهُ مِنَ الْمَعَادِنِ وَعَلَّمَ النَّاسَ صَنْعَتَهُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ نَزَلَ مَعَ آدَمَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ لِأَنَّهُ تُتَّخَذُ مِنْهُ آلَاتُ الْحَرْبِ.
قَالَ الزَّجَّاجُ: يُمْتَنَعُ بِهِ وَيُحَارَبُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تُتَّخَذُ مِنْهُ آلَةٌ لِلدَّفْعِ وَآلَةٌ لِلضَّرْبِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: فِيهِ جُنَّةٌ وَسِلَاحٌ، وَمَعْنَى وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ أَنَّهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِهِ فِي كَثِيرٍ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِثْلِ السِّكِّينِ وَالْفَأْسِ وَالْإِبْرَةِ وَآلَاتِ الزِّرَاعَةِ والنجارة والعمارة وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: «لِيَقُومَ النَّاسُ» أَيْ:
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا وَفَعَلْنَا كَيْتَ وَكَيْتَ لِيَقُومَ النَّاسُ وَلِيَعْلَمَ، وَقِيلَ: مَعْطُوفٌ عَلَى عِلَّةٍ مُقَدَّرَةٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ:
ليستعلموه وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ فِي الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ بِنُصْرَةِ دِينِهِ وَرُسُلِهِ فَمَنْ نَصَرَ دِينَهُ وَرُسُلَهُ عَلِمَهُ نَاصِرًا، ومن عصى علمه بخلاف ذلك وبالغيب فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ يَنْصُرُهُ أَوْ مِنْ مَفْعُولِهِ، أَيْ: غَائِبًا عَنْهُمْ أَوْ غَائِبِينَ عَنْهُ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ أَيْ: قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ غَالِبٌ لِكُلِّ شَيْءٍ، وَلَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَنْصُرَهُ أَحَدٌ مِنْ عِبَادِهِ وَيَنْصُرَ رُسُلَهُ، بَلْ كَلَّفَهُمْ بذلك لينتفعوا به إذا امتثلوا، ويحصل له مَا وَعَدَ بِهِ عِبَادَهُ الْمُطِيعِينَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ إِرْسَالَ الرُّسُلِ إِجْمَالًا أَشَارَ هُنَا إِلَى نَوْعِ تَفْصِيلٍ، فَذَكَرَ رِسَالَتَهُ لِنُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ، وَكَرَّرَ الْقَسَمَ لِلتَّوْكِيدِ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ أَيْ: جَعَلْنَا فِيهِمُ النُّبُوَّةَ وَالْكُتُبَ الْمُنَزَّلَةَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ مِنْهُمْ، وَقِيلَ: جَعَلَ بَعْضَهُمْ أَنْبِيَاءَ وَبَعْضَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ أَيْ: فَمِنَ الذُّرِّيَّةِ مَنِ اهْتَدَى بِهُدَى نوح وإبراهيم، وقيل: المعنى: فمن الرسل إِلَيْهِمْ مِنْ قَوْمِ الْأَنْبِيَاءِ مُهْتَدٍ بِمَا جَاءَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ مِنَ الْهُدَى وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ خَارِجُونَ عَنِ الطَّاعَةِ ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا أَيِ: أَتْبَعْنَا عَلَى آثَارِ الذُّرِّيَّةِ أَوْ عَلَى آثَارِ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ بِرُسُلِنَا الَّذِينَ أَرْسَلْنَاهُمْ إِلَى الْأُمَمِ كَمُوسَى وَإِلْيَاسَ وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِمْ وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ أَيْ: أَرْسَلْنَا رَسُولًا بَعْدَ رَسُولٍ حَتَّى انْتَهَى إِلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَهُوَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ جِهَةِ أُمِّهِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَهُوَ الْكِتَابُ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ اشْتِقَاقِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْإِنْجِيلَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِفَتْحِهَا وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ هُمُ الْحَوَارِيُّونَ جَعَلَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مَوَدَّةً لِبَعْضِهِمُ الْبَعْضَ، وَرَحْمَةً يَتَرَاحَمُونَ بِهَا، بِخِلَافِ الْيَهُودِ فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا كَذَلِكَ، وَأَصْلُ الرَّأْفَةِ:
اللِّينُ، وَالرَّحْمَةُ: الشَّفَقَةُ، وَقِيلَ: الرَّأْفَةُ أَشَدُّ الرَّحْمَةِ وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها انْتِصَابُ رَهْبَانِيَّةً عَلَى الِاشْتِغَالِ، أَيْ: وَابْتَدَعُوا رَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا، وليس بمعطوفة عَلَى مَا قَبْلَهَا، أَيْ: وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِهِمْ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً مُبْتَدَعَةً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ. والأوّل أولى، ورجّحه أبو علي الفارسي غيره، وجملة ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ صفة ثانية لرهبانية، أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِكَوْنِهَا مُبْتَدَعَةً مِنْ جِهَةِ أنفسهم، والمعنى: ما فرضناها عليهم،
(١). الزمر: ٦.
213
وَالرَّهْبَانِيَّةُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا، وَقَدْ قُرِئَ بِهِمَا. وَهِيَ بِالْفَتْحِ الْخَوْفُ مِنَ الرَّهْبِ، وَبِالضَّمِّ مَنْسُوبَةٌ إِلَى الرُّهْبَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ غَلَوْا فِي الْعِبَادَةِ، وحملوا على أنفسهم المشتقات فِي الِامْتِنَاعِ مِنَ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَنْكِحِ، وَتَعَلَّقُوا بِالْكُهُوفِ وَالصَّوَامِعِ لِأَنَّ مُلُوكَهُمْ غَيَّرُوا وَبَدَّلُوا وَبَقِيَ مِنْهُمْ نَفَرٌ قَلِيلٌ فَتَرَهَّبُوا وَتَبَتَّلُوا، ذَكَرَ مَعْنَاهُ الضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ بَدَلًا مِنَ الْهَاءِ وَالْأَلِفِ فِي كَتَبْنَاهَا، وَالْمَعْنَى: مَا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها أَيْ: لَمْ يَرْعَوْا هَذِهِ الرَّهْبَانِيَّةَ الَّتِي ابْتَدَعُوهَا مِنْ جِهَةِ أَنْفُسِهِمْ، بل صنعوها وَكَفَرُوا بِدِينِ عِيسَى، وَدَخَلُوا فِي دِينِ الْمُلُوكِ الَّذِينَ غَيَّرُوا وَبَدَّلُوا وَتَرَكُوا التَّرَهُّبَ وَلَمْ يَبْقَ عَلَى دِينِ عِيسَى إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ، وَهُمُ الْمُرَادُونَ بِقَوْلِهِ: فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ الَّذِي يَسْتَحِقُّونَهُ بِالْإِيمَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ آمَنُوا بِعِيسَى وَثَبَتُوا عَلَى دِينِهِ حَتَّى آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَهُ اللَّهُ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ خَارِجُونَ عَنِ الْإِيمَانِ بِمَا أُمِرُوا أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ، وَوَجْهُ الذَّمِّ لَهُمْ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ أَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا أَلْزَمُوا أَنْفُسَهُمُ الرَّهْبَانِيَّةَ مُعْتَقِدِينَ أَنَّهَا طَاعَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ يَرْضَاهَا، فَكَانَ تَرْكُهَا وَعَدَمُ رِعَايَتِهَا حَقَّ الرِّعَايَةِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ مُبَالَاتِهِمْ بِمَا يَعْتَقِدُونَهُ دِينًا. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلٌ، وَأَنَّ التَّقْدِيرَ: مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ لِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا لِيَبْتَغُوا بِهَا رِضْوَانَ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ وَفَّقْنَاهُمْ لِابْتِدَاعِهَا فَوَجْهُ الذَّمِّ ظَاهِرٌ. ثُمَّ أَمَرَ سُبْحَانَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالرُّسُلِ الْمُتَقَدِّمِينَ بِالتَّقْوَى وَالْإِيمَانِ بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ بِتَرْكِ مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ
أَيْ: نَصِيبَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ بِسَبَبِ إِيمَانِكُمْ بِرَسُولِهِ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ بِمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ، وَأَصْلُ الْكِفْلِ: الْحَظُّ وَالنَّصِيبُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى تَفْسِيرِهِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ يَعْنِي عَلَى الصِّرَاطِ كَمَا قَالَ: نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ «١» وَقِيلَ:
الْمَعْنَى: وَيَجْعَلْ لَكُمْ سَبِيلًا وَاضِحًا فِي الدِّينِ تَهْتَدُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ مَا سَلَفَ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ: بَلِيغُ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ اللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، وَالتَّقْدِيرُ: اتَّقُوا وَآمِنُوا يُؤْتِكُمْ كَذَا وَكَذَا لِيَعْلَمَ الَّذِينَ لَمْ يَتَّقُوا وَلَا آمَنُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَ «لَا» فِي قَوْلِهِ: لِئَلَّا زائدة للتوكيد، قاله الفراء والأخفش وغير هما، وأن في قوله: أَلَّا يَقْدِرُونَ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاسْمُهَا ضَمِيرُ شَأْنٍ مَحْذُوفٍ، وَخَبَرُهَا مَا بَعْدَهَا، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهَا مَفْعُولُ يَعْلَمَ، وَالْمَعْنَى: لِيَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يَنَالُوا شَيْئًا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ الَّذِي تَفَضَّلَ بِهِ عَلَى مَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى دَفْعِ ذَلِكَ الْفَضْلِ الَّذِي تَفَضَّلَ اللَّهُ بِهِ عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ لَهُ، وَجُمْلَةُ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، أَيْ:
لِيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَقَوْلُهُ: يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ خَبَرٌ ثان لأنّ، أَوْ هُوَ الْخَبَرُ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا، وَالْمُرَادُ بِالْفَضْلِ هُنَا مَا تَفَضَّلَ بِهِ عَلَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَآمَنُوا بِرَسُولِهِ مِنَ الْأَجْرِ الْمُضَاعَفِ. وَقَالَ الكلبي:
(١). التحريم: ٨.
214
هُوَ رِزْقُ اللَّهِ، وَقِيلَ: نِعَمُ اللَّهِ الَّتِي لَا تُحْصَى، وَقِيلَ: هُوَ الْإِسْلَامُ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ «لَا» فِي «لِئَلَّا» غَيْرُ مَزِيدَةٍ، وَضَمِيرَ «لَا يَقْدِرُونَ» لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ. وَالْمَعْنَى: لِئَلَّا يَعْتَقِدَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ النَّبِيُّ وَالْمُؤْمِنُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَمَّا أُوتُوهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ «لِكَيْلَا يَعْلَمَ» وقرأ حطّان بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: «لِأَنْ يَعْلَمَ» وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ: «لِيَعْلَمَ» وَقُرِئَ: «لِيَلَّا» بِقَلْبِ الْهَمْزَةِ يَاءً، وَقُرِئَ بِفَتْحِ اللَّامِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ، وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالَ: هَلْ تَدْرِي أَيُّ عُرَى الْإِسْلَامِ أَوْثَقُ؟
قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: أَفْضَلُ النَّاسِ أَفْضَلُهُمْ عَمَلًا إِذَا فَقُهُوا فِي دِينِهِمْ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَلْ تَدْرِي أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّ أَعْلَمَ النَّاسِ أَبْصَرُهُمْ بِالْحَقِّ إِذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ وَإِنْ كَانَ مُقَصِّرًا بِالْعَمَلِ وَإِنْ كَانَ يَزْحَفُ عَلَى اسْتِهِ، وَاخْتَلَفَ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً نَجَا مِنْهَا ثَلَاثٌ وَهَلَكَ سَائِرُهَا، فرقة وازت الْمُلُوكَ وَقَاتَلَتْهُمْ عَلَى دِينِ اللَّهِ وَعِيسَى ابْنِ مريم، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الْمُلُوكِ فَأَقَامُوا بَيْنَ ظَهَرَانَيْ قَوْمِهِمْ فَدَعَوْهُمْ إِلَى دِينِ اللَّهِ وَدِينِ عِيسَى فَقَتَلَهُمُ الْمُلُوكُ وَنَشْرَتْهُمْ بالمناشير، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الْمُلُوكِ وَلَا بِالْمَقَامِ مَعَهُمْ فَسَاحُوا فِي الْجِبَالِ وَتَرَهَّبُوا فِيهَا وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ:
وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها مَا كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِي وَصَدَّقُونِي وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ الَّذِينَ جَحَدُونِي وَكَفَرُوا بي»
. وأخرج النسائي، والحكيم والترمذي فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
«كَانَتْ مُلُوكٌ بَعْدَ عِيسَى بَدَّلَتِ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، فَكَانَ مِنْهُمْ مُؤْمِنُونَ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، فَقِيلَ لِمُلُوكِهِمْ: مَا نَجِدُ شَيْئًا أَشَدَّ مِنْ شَتْمٍ يَشْتُمُنَا هَؤُلَاءِ، إِنَّهُمْ يَقْرَءُونَ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ «١» وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ «٢» فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ «٣» مَعَ مَا يَعِيبُونَنَا بِهِ مِنْ أَعْمَالِنَا فِي قِرَاءَتِهِمْ، فَادْعُوهُمْ فَلْيَقْرَءُوا كَمَا نَقْرَأُ وَلْيُؤْمِنُوا كَمَا آمَنَّا، فَدَعَاهُمْ فَجَمَعَهُمْ وَعَرَضَ عليهم القتل، أو ليتركوا التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ إِلَّا مَا بَدَّلُوا مِنْهُمَا، فَقَالُوا: مَا تُرِيدُونَ إِلَى ذَلِكَ؟
دَعُونَا، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ: ابْنُوا لَنَا أُسْطُوَانَةً ثُمَّ ارْفَعُونَا إِلَيْهَا، ثُمَّ أَعْطُونَا شَيْئًا نَرْفَعُ بِهِ طَعَامَنَا وَشَرَابَنَا وَلَا نَرُدُّ عَلَيْكُمْ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: دَعُونَا نَسِيحُ فِي الْأَرْضِ وَنَهِيمُ وَنَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُ مِنْهُ الْوُحُوشُ وَنَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُ، فَإِنْ قَدَرْتُمْ عَلَيْنَا فِي أَرْضِكُمْ فَاقْتُلُونَا، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: ابْنُوا لَنَا دُورًا فِي الْفَيَافِي وَنَحْتَفِرُ الْآبَارَ وَنَحْرُثُ الْبُقُولَ فَلَا نَرُدُّ عَلَيْكُمْ وَلَا نَمُرُّ بِكُمْ، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْقَبَائِلِ إِلَّا لَهُ حَمِيمٌ فِيهِمْ فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: رَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها مَا كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها وَقَالَ الْآخَرُونَ مِمَّنْ تَعَبَّدَ من أهل الشرك
(١). المائدة: ٤٤.
(٢). المائدة: ٤٥. [.....]
(٣). المائدة: ٤٧.
215
وَفَنِيَ مَنْ فَنِيَ مِنْهُمْ قَالُوا: نَتَعَبَّدُ كَمَا تَعَبَّدَ فُلَانٌ وَنَسِيحُ كَمَا سَاحَ فُلَانٌ وَنَتَّخِذُ دُورًا كَمَا اتَّخَذَ فُلَانٌ وَهُمْ عَلَى شِرْكِهِمْ، لَا عِلْمَ لَهُمْ بِإِيمَانِ الَّذِينَ اقْتَدَوْا بِهِمْ، فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ انْحَطَّ صَاحِبُ الصومعة من صومعته وجاء السائح مِنْ سِيَاحَتِهِ وَصَاحِبُ الدَّيْرِ مِنْ دَيْرِهِ، فَآمَنُوا به وصدّقوه، فقال الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ أَجْرَيْنِ بِإِيمَانِهِمْ بِعِيسَى وَنَصَبِ أَنْفُسِهِمْ وَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَبِإِيمَانِهِمْ بِمُحَمَّدٍ وَتَصْدِيقِهِمْ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ الْقُرْآنَ وَاتِّبَاعَهُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو يَعْلَى، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَهْبَانِيَّةً وَرَهْبَانِيَّةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ». وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فِي قَوْلِهِ: كِفْلَيْنِ قَالَ: ضِعْفَيْنِ، وَهِيَ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ قَالَ:
الْكِفْلُ ثَلَاثُمِائَةِ جُزْءٍ وَخَمْسُونَ جُزْءًا مِنْ رحمة الله.
216
﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وإبراهيم ﴾ لما ذكر سبحانه إرسال الرسل إجمالاً أشار هنا إلى نوع تفصيل، فذكر رسالته لنوح وإبراهيم، وكرّر القسم للتوكيد ﴿ وَجَعَلْنَا فِي ذُرّيَّتِهِمَا النبوة والكتاب ﴾ أي جعلنا فيهم النبوّة والكتب المنزلة على الأنبياء منهم، وقيل : جعل بعضهم أنبياء، وبعضهم يتلون الكتاب ﴿ فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ ﴾ أي فمن الذرية من اهتدى بهدي نوح وإبراهيم، وقيل المعنى : فمن المرسل إليهم من قوم الأنبياء مهتد بما جاء به الأنبياء من الهدى ﴿ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فاسقون ﴾ خارجون عن الطاعة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج عبد بن حميد والحكيم الترمذي في نوادر الأصول، وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب من طرق عن ابن مسعود قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم :«يا عبد الله، قلت : لبيك يا رسول الله ثلاث مرات، قال : هل تدري أيّ عرى الإسلام أوثق ؟ قلت : الله ورسوله أعلم، قال : أفضل الناس أفضلهم عملاً إذ فقهوا في دينهم، يا عبد الله هل تدري أيّ الناس أعلم ؟ قلت : الله ورسوله أعلم، قال : فإن أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس وإن كان مقصراً بالعمل وإن كان يزحف على إسته، واختلف من كان قبلنا على اثنتين وسبعين فرقة نجا منها ثلاث وهلك سائرها : فرقة وازرت الملوك وقاتلتهم على دين الله وعيسى ابن مريم، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازرة الملوك فأقاموا بين ظهراني قومهم فدعوهم إلى دين الله ودين عيسى فقتلهم الملوك ونشرتهم بالمناشير، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازرة الملوك ولا بالمقام معهم فساحوا في الجبال وترهبوا فيها وهم الذين قال الله :﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها مَا كتبناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابتغاء رضوان الله فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَئَاتَيْنَا الذين ءامَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ﴾ هم الذين آمنوا بي وصدقوني ﴿ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فاسقون ﴾ الذين جحدوني وكفروا بي». وأخرج النسائي والحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال :«كانت ملوك بعد عيسى بدلت التوراة والإنجيل، فكان منهم مؤمنون يقرؤون التوراة والإنجيل فقيل لملوكهم : ما نجد شيئًا أشدّ من شتم يشتمنا هؤلاء إنهم يقرءون ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون ﴾ [ المائدة : ٤٤ ] ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون ﴾ [ المائدة : ٤٥ ] ﴿ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون ﴾ [ المائدة : ٤٧ ] مع ما يعيبوننا به من أعمالنا في قراءتهم، فادعوهم فليقرؤوا كما نقرأ وليؤمنوا كما آمنا، فدعاهم فجمعهم وعرض عليهم القتل، أو ليتركوا قراءة التوراة والإنجيل إلاّ ما بدلوا منهما، فقالوا : ما تريدون إلى ذلك ؟ دعونا، فقالت طائفة منهم : ابنوا لنا أسطوانة، ثم ارفعونا إليها، ثم أعطونا شيئًا نرفع به طعامنا وشرابنا ولا نرد عليكم، وقالت طائفة : دعونا نسيح في الأرض ونهيم ونأكل مما تأكل منه الوحوش ونشرب مما تشرب، فإن قدرتم علينا في أرضكم فاقتلونا، وقالت طائفة : ابنوا لنا دوراً في الفيافي ونحتفر الآبار ونحرث البقول فلا نرد عليكم ولا نمرّ بكم، وليس أحد من القبائل إلاّ له حميم فيهم ففعلوا ذلك، فأنزل الله ﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانَ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ﴾ وقال الآخرون ممن تعبد من أهل الشرك وفني من فني منهم قالوا : نتعبد كما تعبد فلان، ونسيح كما ساح فلان، ونتخذ دوراً كما اتخذ فلان، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يبق منهم إلاّ القليل انحط صاحب الصومعة من صومعته وجاء السياح من سياحته وصاحب الدير من ديره، فآمنوا به وصدّقوه، فقال الله :﴿ يأيها الذين ءامَنُوا اتقوا الله وَءامِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ ﴾ أجرين بإيمانهم بعيسى ونصب أنفسهم والتوراة والإنجيل، وبإيمانهم بمحمد وتصديقهم ﴿ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ﴾ القرآن واتّباعهم النبيّ صلى الله عليه وسلم».
وأخرج أحمد والحكيم الترمذي وأبو يعلى والبيهقي في الشعب عن أنس أن النبيّ قال :«إن لكل أمة رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله». وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي موسى الأشعريّ في قوله :﴿ كِفْلَيْنِ ﴾ قال : ضعفين وهي بلسان الحبشة. وأخرج الفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عمر في قوله :﴿ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ ﴾ قال : الكفل ثلثمائة جزء وخمسون جزءاً من رحمة الله.

﴿ ثُمَّ قَفَّيْنَا على ءاثارهم بِرُسُلِنَا ﴾ أي اتبعنا على آثار الذرية أو على آثار نوح وإبراهيم برسلنا الذين أرسلناهم إلى الأمم كموسى وإلياس وداود وسليمان وغيرهم ﴿ وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابن مَرْيَمَ ﴾ أي أرسلنا رسولاً بعد رسول حتى انتهى إلى عيسى ابن مريم، وهو من ذرية إبراهيم من جهة أمه ﴿ وآتيناه الإنجيل ﴾ وهو الكتاب الذي أنزله الله عليه، وقد تقدّم ذكر اشتقاقه في سورة آل عمران.
قرأ الجمهور ﴿ الإِنجيل ﴾ بكسر الهمزة، وقرأ الحسن بفتحها ﴿ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الذين اتبعوه رَافَةً وَرَحْمَةً ﴾ الذين اتبعوه هم الحواريون جعل الله في قلوبهم مودّة لبعضهم البعض، ورحمة يتراحمون بها، بخلاف اليهود فإنهم ليسوا كذلك، وأصل الرأفة : اللين والرحمة : الشفقة، وقيل الرأفة : أشدّ الرحمة ﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا ﴾ انتصاب ﴿ رهبانية ﴾ على الاشتغال : أي وابتدعوا رهبانية ابتدعوها، وليس بمعطوفة على ما قبلها، وقيل : معطوفة على ما قبلها : أي وجعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانية مبتدعة من عند أنفسهم. والأوّل أولى، ورجحه أبو علي الفارسي وغيره، وجملة :﴿ مَا كتبناها عَلَيْهِمْ ﴾ صفة ثانية لرهبانية، أو مستأنفة مقرّرة لكونها مبتدعة من جهة أنفسهم، والمعنى : ما فرضناها عليهم، والرهبانية بفتح الراء وضمها، وقد قرئ بهما، وهي بالفتح : الخوف من الرهب، وبالضم منسوبة إلى الرهبان، وذلك لأنهم غلوا في العبادة وحملوا على أنفسهم المشقات في الامتناع من المطعم والمشرب والمنكح، وتعلقوا بالكهوف والصوامع، لأن ملوكهم غيروا وبدلوا وبقي منهم نفر قليل فترهبوا وتبتلوا، ذكر معناه الضحاك وقتادة وغيرهما ﴿ إِلاَّ ابتغاء رضوان الله ﴾ الاستثناء منقطع : أي ما كتبناها نحن عليهم رأساً، ولكن ابتدعوها ابتغاء رضوان الله. وقال الزجاج : ما كتبناها عليهم معناه لم نكتب عليهم شيئًا البتة، قال : ويكون ﴿ إِلاَّ ابتغاء رضوان الله ﴾ بدلاً من الهاء والألف في كتبناها، والمعنى : ما كتبنا عليهم إلاّ ابتغاء رضوان الله ﴿ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ﴾ أي لم يرعوا هذه الرهبانية التي ابتدعوها من جهة أنفسهم وبل صيعوها وكفروا بدين عيسى، ودخلوا في دين الملوك الذين غيروا وبدّلوا وتركوا الترهب، ولم يبق على دين عيسى إلاّ قليل منهم، وهم المرادون بقوله :﴿ فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم ﴾ الذي يستحقونه بالإيمان، وذلك لأنهم آمنوا بعيسى وثبتوا على دينه حتى آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم لما بعثه الله ﴿ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فاسقون ﴾ : خارجون عن الإيمان بما أمروا أن يؤمنوا به، ووجه الذمّ لهم على تقدير أن الاستثناء منقطع أنهم قد كانوا ألزموا أنفسهم الرهبانية معتقدين أنها طاعة وأن الله يرضاها، فكان تركها وعدم رعايتها حق الرعاية يدل على عدم مبالاتهم بما يعتقدونه ديناً. وأما على القول بأن الاستثناء متصل، وأن التقدير : ما كتبناها عليهم لشيء من الأشياء إلاّ ليبتغوا بها رضوان الله بعد أن وفقناهم لابتداعها فوجه الذم ظاهر.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج عبد بن حميد والحكيم الترمذي في نوادر الأصول، وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب من طرق عن ابن مسعود قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم :«يا عبد الله، قلت : لبيك يا رسول الله ثلاث مرات، قال : هل تدري أيّ عرى الإسلام أوثق ؟ قلت : الله ورسوله أعلم، قال : أفضل الناس أفضلهم عملاً إذ فقهوا في دينهم، يا عبد الله هل تدري أيّ الناس أعلم ؟ قلت : الله ورسوله أعلم، قال : فإن أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس وإن كان مقصراً بالعمل وإن كان يزحف على إسته، واختلف من كان قبلنا على اثنتين وسبعين فرقة نجا منها ثلاث وهلك سائرها : فرقة وازرت الملوك وقاتلتهم على دين الله وعيسى ابن مريم، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازرة الملوك فأقاموا بين ظهراني قومهم فدعوهم إلى دين الله ودين عيسى فقتلهم الملوك ونشرتهم بالمناشير، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازرة الملوك ولا بالمقام معهم فساحوا في الجبال وترهبوا فيها وهم الذين قال الله :﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها مَا كتبناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابتغاء رضوان الله فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَئَاتَيْنَا الذين ءامَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ﴾ هم الذين آمنوا بي وصدقوني ﴿ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فاسقون ﴾ الذين جحدوني وكفروا بي». وأخرج النسائي والحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال :«كانت ملوك بعد عيسى بدلت التوراة والإنجيل، فكان منهم مؤمنون يقرؤون التوراة والإنجيل فقيل لملوكهم : ما نجد شيئًا أشدّ من شتم يشتمنا هؤلاء إنهم يقرءون ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون ﴾ [ المائدة : ٤٤ ] ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون ﴾ [ المائدة : ٤٥ ] ﴿ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون ﴾ [ المائدة : ٤٧ ] مع ما يعيبوننا به من أعمالنا في قراءتهم، فادعوهم فليقرؤوا كما نقرأ وليؤمنوا كما آمنا، فدعاهم فجمعهم وعرض عليهم القتل، أو ليتركوا قراءة التوراة والإنجيل إلاّ ما بدلوا منهما، فقالوا : ما تريدون إلى ذلك ؟ دعونا، فقالت طائفة منهم : ابنوا لنا أسطوانة، ثم ارفعونا إليها، ثم أعطونا شيئًا نرفع به طعامنا وشرابنا ولا نرد عليكم، وقالت طائفة : دعونا نسيح في الأرض ونهيم ونأكل مما تأكل منه الوحوش ونشرب مما تشرب، فإن قدرتم علينا في أرضكم فاقتلونا، وقالت طائفة : ابنوا لنا دوراً في الفيافي ونحتفر الآبار ونحرث البقول فلا نرد عليكم ولا نمرّ بكم، وليس أحد من القبائل إلاّ له حميم فيهم ففعلوا ذلك، فأنزل الله ﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانَ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ﴾ وقال الآخرون ممن تعبد من أهل الشرك وفني من فني منهم قالوا : نتعبد كما تعبد فلان، ونسيح كما ساح فلان، ونتخذ دوراً كما اتخذ فلان، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يبق منهم إلاّ القليل انحط صاحب الصومعة من صومعته وجاء السياح من سياحته وصاحب الدير من ديره، فآمنوا به وصدّقوه، فقال الله :﴿ يأيها الذين ءامَنُوا اتقوا الله وَءامِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ ﴾ أجرين بإيمانهم بعيسى ونصب أنفسهم والتوراة والإنجيل، وبإيمانهم بمحمد وتصديقهم ﴿ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ﴾ القرآن واتّباعهم النبيّ صلى الله عليه وسلم».
وأخرج أحمد والحكيم الترمذي وأبو يعلى والبيهقي في الشعب عن أنس أن النبيّ قال :«إن لكل أمة رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله». وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي موسى الأشعريّ في قوله :﴿ كِفْلَيْنِ ﴾ قال : ضعفين وهي بلسان الحبشة. وأخرج الفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عمر في قوله :﴿ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ ﴾ قال : الكفل ثلثمائة جزء وخمسون جزءاً من رحمة الله.

ثم أمر سبحانه المؤمنين بالرسل المتقدّمين بالتقوى والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، فقال :﴿ يأيها الذين ءامَنُوا اتقوا الله ﴾ بترك ما نهاكم عنه ﴿ وآمنوا برسوله ﴾ محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ ﴾ أي نصيبين من رحمته بسبب إيمانكم برسوله بعد إيمانكم بمن قبله من الرسل، وأصل الكفل : الحظ والنصيب، وقد تقدّم الكلام على تفسيره في سورة النساء ﴿ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ﴾ يعني : على الصراط كما قال :﴿ نُورُهُمْ يسعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ﴾ [ التحريم : ٨ ] وقيل : المعنى ويجعل لكم سبيلاً واضحاً في الدين تهتدون به ﴿ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ﴾ ما سلف من ذنوبكم ﴿ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ أي بليغ المغفرة والرحمة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج عبد بن حميد والحكيم الترمذي في نوادر الأصول، وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب من طرق عن ابن مسعود قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم :«يا عبد الله، قلت : لبيك يا رسول الله ثلاث مرات، قال : هل تدري أيّ عرى الإسلام أوثق ؟ قلت : الله ورسوله أعلم، قال : أفضل الناس أفضلهم عملاً إذ فقهوا في دينهم، يا عبد الله هل تدري أيّ الناس أعلم ؟ قلت : الله ورسوله أعلم، قال : فإن أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس وإن كان مقصراً بالعمل وإن كان يزحف على إسته، واختلف من كان قبلنا على اثنتين وسبعين فرقة نجا منها ثلاث وهلك سائرها : فرقة وازرت الملوك وقاتلتهم على دين الله وعيسى ابن مريم، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازرة الملوك فأقاموا بين ظهراني قومهم فدعوهم إلى دين الله ودين عيسى فقتلهم الملوك ونشرتهم بالمناشير، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازرة الملوك ولا بالمقام معهم فساحوا في الجبال وترهبوا فيها وهم الذين قال الله :﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها مَا كتبناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابتغاء رضوان الله فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَئَاتَيْنَا الذين ءامَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ﴾ هم الذين آمنوا بي وصدقوني ﴿ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فاسقون ﴾ الذين جحدوني وكفروا بي». وأخرج النسائي والحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال :«كانت ملوك بعد عيسى بدلت التوراة والإنجيل، فكان منهم مؤمنون يقرؤون التوراة والإنجيل فقيل لملوكهم : ما نجد شيئًا أشدّ من شتم يشتمنا هؤلاء إنهم يقرءون ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون ﴾ [ المائدة : ٤٤ ] ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون ﴾ [ المائدة : ٤٥ ] ﴿ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون ﴾ [ المائدة : ٤٧ ] مع ما يعيبوننا به من أعمالنا في قراءتهم، فادعوهم فليقرؤوا كما نقرأ وليؤمنوا كما آمنا، فدعاهم فجمعهم وعرض عليهم القتل، أو ليتركوا قراءة التوراة والإنجيل إلاّ ما بدلوا منهما، فقالوا : ما تريدون إلى ذلك ؟ دعونا، فقالت طائفة منهم : ابنوا لنا أسطوانة، ثم ارفعونا إليها، ثم أعطونا شيئًا نرفع به طعامنا وشرابنا ولا نرد عليكم، وقالت طائفة : دعونا نسيح في الأرض ونهيم ونأكل مما تأكل منه الوحوش ونشرب مما تشرب، فإن قدرتم علينا في أرضكم فاقتلونا، وقالت طائفة : ابنوا لنا دوراً في الفيافي ونحتفر الآبار ونحرث البقول فلا نرد عليكم ولا نمرّ بكم، وليس أحد من القبائل إلاّ له حميم فيهم ففعلوا ذلك، فأنزل الله ﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانَ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ﴾ وقال الآخرون ممن تعبد من أهل الشرك وفني من فني منهم قالوا : نتعبد كما تعبد فلان، ونسيح كما ساح فلان، ونتخذ دوراً كما اتخذ فلان، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يبق منهم إلاّ القليل انحط صاحب الصومعة من صومعته وجاء السياح من سياحته وصاحب الدير من ديره، فآمنوا به وصدّقوه، فقال الله :﴿ يأيها الذين ءامَنُوا اتقوا الله وَءامِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ ﴾ أجرين بإيمانهم بعيسى ونصب أنفسهم والتوراة والإنجيل، وبإيمانهم بمحمد وتصديقهم ﴿ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ﴾ القرآن واتّباعهم النبيّ صلى الله عليه وسلم».
وأخرج أحمد والحكيم الترمذي وأبو يعلى والبيهقي في الشعب عن أنس أن النبيّ قال :«إن لكل أمة رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله». وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي موسى الأشعريّ في قوله :﴿ كِفْلَيْنِ ﴾ قال : ضعفين وهي بلسان الحبشة. وأخرج الفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عمر في قوله :﴿ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ ﴾ قال : الكفل ثلثمائة جزء وخمسون جزءاً من رحمة الله.

﴿ لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب ﴾ اللام متعلقة بما تقدّم من الأمر بالإيمان والتقوى، والتقدير : اتقوا وآمنوا يؤتكم كذا وكذا ليعلم الذين لم يتقوا ولا آمنوا من أهل الكتاب ﴿ أَن لا يَقْدِرُونَ على شَيْء مّن فَضْلِ الله ﴾ و " لا " في قوله :﴿ لّئَلاَّ ﴾ زائدة للتوكيد، قاله الفراء والأخفش، وغيرهما، و " أن " في قوله :﴿ أَن لا يَقْدِرُونَ ﴾ هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير شأن محذوف وخبرها ما بعدها، والجملة في محل نصب على أنها مفعول يعلم، والمعنى : ليعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على أن ينالوا شيئًا من فضل الله الذي تفضل به على من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولا يقدرون على دفع ذلك الفضل الذي تفضل الله به على المستحقين له، وجملة :﴿ وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله ﴾ معطوفة على الجملة التي قبلها : أي ليعلموا أنهم لا يقدرون، وليعلموا أن الفضل بيد الله سبحانه، وقوله :﴿ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء ﴾ خبر ثان لأنّ، أو هو الخبر، والجارّ والمجرور في محل نصب على الحال ﴿ والله ذُو الفضل العظيم ﴾ هذه الجملة مقرّرة لمضمون ما قبلها، والمراد بالفضل هنا : ما تفضل به على الذين اتقوا وآمنوا برسوله من الأجر المضاعف. وقال الكلبي : هو رزق الله، وقيل : نعم الله التي لا تحصى، وقيل : هو الإسلام، وقد قيل : إن «لا » في ﴿ لئلا ﴾ غير مزيدة، وضمير ﴿ لا يقدرون ﴾ للنبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه. والمعنى : لئلا يعتقد أهل الكتاب أنه لا يقدر النبيّ والمؤمنون على شيء من فضل الله الذي هو عبارة عما أوتوه، والأوّل أولى. وقرأ ابن مسعود :«لكيلا يعلم » وقرأ خطاب بن عبد الله :«لأن يعلم » وقرأ عكرمة :«ليعلم » وقرئ :«ليلا » بقلب الهمزة ياء، وقرئ بفتح اللام.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقد أخرج عبد بن حميد والحكيم الترمذي في نوادر الأصول، وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب من طرق عن ابن مسعود قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم :«يا عبد الله، قلت : لبيك يا رسول الله ثلاث مرات، قال : هل تدري أيّ عرى الإسلام أوثق ؟ قلت : الله ورسوله أعلم، قال : أفضل الناس أفضلهم عملاً إذ فقهوا في دينهم، يا عبد الله هل تدري أيّ الناس أعلم ؟ قلت : الله ورسوله أعلم، قال : فإن أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس وإن كان مقصراً بالعمل وإن كان يزحف على إسته، واختلف من كان قبلنا على اثنتين وسبعين فرقة نجا منها ثلاث وهلك سائرها : فرقة وازرت الملوك وقاتلتهم على دين الله وعيسى ابن مريم، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازرة الملوك فأقاموا بين ظهراني قومهم فدعوهم إلى دين الله ودين عيسى فقتلهم الملوك ونشرتهم بالمناشير، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازرة الملوك ولا بالمقام معهم فساحوا في الجبال وترهبوا فيها وهم الذين قال الله :﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها مَا كتبناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابتغاء رضوان الله فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَئَاتَيْنَا الذين ءامَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ﴾ هم الذين آمنوا بي وصدقوني ﴿ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فاسقون ﴾ الذين جحدوني وكفروا بي». وأخرج النسائي والحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال :«كانت ملوك بعد عيسى بدلت التوراة والإنجيل، فكان منهم مؤمنون يقرؤون التوراة والإنجيل فقيل لملوكهم : ما نجد شيئًا أشدّ من شتم يشتمنا هؤلاء إنهم يقرءون ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون ﴾ [ المائدة : ٤٤ ] ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون ﴾ [ المائدة : ٤٥ ] ﴿ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون ﴾ [ المائدة : ٤٧ ] مع ما يعيبوننا به من أعمالنا في قراءتهم، فادعوهم فليقرؤوا كما نقرأ وليؤمنوا كما آمنا، فدعاهم فجمعهم وعرض عليهم القتل، أو ليتركوا قراءة التوراة والإنجيل إلاّ ما بدلوا منهما، فقالوا : ما تريدون إلى ذلك ؟ دعونا، فقالت طائفة منهم : ابنوا لنا أسطوانة، ثم ارفعونا إليها، ثم أعطونا شيئًا نرفع به طعامنا وشرابنا ولا نرد عليكم، وقالت طائفة : دعونا نسيح في الأرض ونهيم ونأكل مما تأكل منه الوحوش ونشرب مما تشرب، فإن قدرتم علينا في أرضكم فاقتلونا، وقالت طائفة : ابنوا لنا دوراً في الفيافي ونحتفر الآبار ونحرث البقول فلا نرد عليكم ولا نمرّ بكم، وليس أحد من القبائل إلاّ له حميم فيهم ففعلوا ذلك، فأنزل الله ﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانَ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ﴾ وقال الآخرون ممن تعبد من أهل الشرك وفني من فني منهم قالوا : نتعبد كما تعبد فلان، ونسيح كما ساح فلان، ونتخذ دوراً كما اتخذ فلان، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يبق منهم إلاّ القليل انحط صاحب الصومعة من صومعته وجاء السياح من سياحته وصاحب الدير من ديره، فآمنوا به وصدّقوه، فقال الله :﴿ يأيها الذين ءامَنُوا اتقوا الله وَءامِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ ﴾ أجرين بإيمانهم بعيسى ونصب أنفسهم والتوراة والإنجيل، وبإيمانهم بمحمد وتصديقهم ﴿ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ﴾ القرآن واتّباعهم النبيّ صلى الله عليه وسلم».
وأخرج أحمد والحكيم الترمذي وأبو يعلى والبيهقي في الشعب عن أنس أن النبيّ قال :«إن لكل أمة رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله». وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي موسى الأشعريّ في قوله :﴿ كِفْلَيْنِ ﴾ قال : ضعفين وهي بلسان الحبشة. وأخرج الفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عمر في قوله :﴿ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ ﴾ قال : الكفل ثلثمائة جزء وخمسون جزءاً من رحمة الله.

Icon