تفسير سورة التحريم

نظم الدرر
تفسير سورة سورة التحريم من كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور المعروف بـنظم الدرر .
لمؤلفه برهان الدين البقاعي . المتوفي سنة 885 هـ
سورة التحريم١ تسمى سورة النبي صلى الله عليه وسلم.
مقصودها الحث على تقدير التدبير في الأدب مع الله ومع رسوله صلى الله عليه وسلم مع سائر العباد والندب إلى التخلق بالأدب٢ الشرعي وحسن المباشرة لا سيما [ للنساء-٣ ] اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في حسن عشرته وكريم صحبته وبيان أن الأدب الشرعي تارة يكون باللين والأناة، وأخرى بالسوط وماداناه ومرة بالسيف وما والاه، وكل من اسميها التحريم والنبي٤ صلى الله عليه وسلم موضح لذلك ( بسم الله ) الذي له الكمال كله على الدوام ( الرحمان ) الذي عم عاده بعظيم الإنعام ( الرحيم ) الذي أتم على خواصه٥ نعمة الإسلام.
١ - السادسة والستون من سور القرآن الكريم، مدنية، وعدد آياها (١٢)..
٢ - من ظ وم، وفي الأصل: والأدب..
٣ - زيد من ظ وم..
٤ - من ظ وم، وفي الأصل: التسمية بالنبي..
٥ - من ظ وم، وفي الأصل: على عباده خواص الأنعام و..

لما ختم سبحانه الطلاق بإحاطة علمه وتنزل أمره بين الخافقين في تدبيره، دل عليه أول هذه بإعلاء أمور الخلق بأمر وقع بين خير خلقه وبين نسائه اللاتي من خير النساء واجتهد كل في إخفاء ما تعلق به منه فأظهره سبحانه عتاباً لأزواج نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صورة عقابه لأنه أبلغ رفقاً به لأنه يكاد من شفقته أن يبخع نفسه الشريفة
179
رحمة لأمته تارة لطلب رضاهم وأخرى رغبة في هداهم، لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالغ في تهذيب أخلاقه مع ما طهره الله به من نزاهتها عن كل دنس حتى ضيق عليها بالامتناع عن بعض ما أبيح له حفظاً لخاطر الغير، فقال تعالى منادياً له بأداة البعد وهو أقرب أهل الحضرة مع أنها معدة لما يكون ذا خطب جليل ومعنى جسيم جليل، وفيها إيماء إلى تنبيه الغير وإسماعه إرادة لتأديبه وتزكيته وتهذيبه: ﴿يا أيها النبي﴾ مخاطبة بالوصف الذي يعلم بالعصمة ويلائمه أشد الملاءمة خلو البال وسرور القلب وانشراح الصدر لأنه للتلقي عن الله تعالى فيحث كل سامع على البعد عن كل ما يشوش عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أدنى تشويش ﴿لم تحرم﴾ أي تفعل فعل المحرم بمنع نفسك الشريفة ﴿ما أحل الله﴾ أي الملك الذي لا أمر لأحد معه ﴿لك﴾ بالوعد لبعض أمهات المؤمنين رضي الله عنهن بالامتناع من شرب العسل الذي كان عند حفصة أو زينب رضي الله عنهما والامتناع من ملامسة سريتك مارية رضي الله تعالى عنها فتضيق على نفسك لإحسان العشرة مع نسائك رضي الله عنهن أجمعين، فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يشرب عسلاً عند حفصة بنت عمر أو زينت بنت جحش رضي الله عنهما على اختلاف
180
الروايتين في ذلك في الصحيح، وفي رواية «أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا صلى الغداة دخل على نسائه رضي الله عنهن امرأة امرأة، وكانت قد أهديت لحفصة بنت عمر رضي الله عنهما عكة من العسل، فكانت إذا دخل عليها فسلم حبسته وسقته منها، وأن عائشة رضي الله عنها أنكرت احتباسه عندها فقالت لجويرية عندها حبشية يقال لها خصرة: إذا دخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على حفصة فادخلي عليها فانظري ماذا يصنع فأخبرتها الخبر فوصت صواحباتها فنفرنه من شربه بإخباره بأنه يوجد منه ريح كريهة لأن نحلة جرست العرفط، فقال: لن أعود له،» وروى الطبري وابن مردوية «أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلا بمارية رضي الله عنها أم ولده إبراهيم عليه السلام في بيت حفصة رضي الله عنها فتوجعت من ذلك حفصة رضي الله عنها فقال هي علي حرام ولا تذكري ذلك لأحد وأبشرك على ذلك بشارة، وهي أن أبا بكر يلي هذا الأمر من بعدي وأباك يليه من بعد أبي بكر رضي الله عنهما، لا تخبري بذلك أحداً، فأخبرت عائشة رضي الله عنها»
ويروى أن حفصة رضي الله عنها قالت في يومها من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن بي إلى أبي حاجة نفقة له عنده فأذن لي أن
181
أزوره وآتي بها، فأذن لها فلما خرجت أرسل إلى جاريته مارية القبطية رضي الله عنها فوقع عليها فأتت حفصة فوجدت الباب مغلقاً فجلست عنده فخرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووجهه يقطر عرقاً وحفصة تبكي فقال لها: ما يبكيك؟ فقالت: إنما أذنت لي من أجل هذا وقعت عليها في يومي وعلى فراشي، أما رأيت لي حرمة وحقاً ما كنت تصنع هذا بامرأة منهن، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أليس هي جاريتي قد أحلها الله لي اسكتي فهي علي حرام ألتمس بذاك رضاك فلا تخبري بهذا أحداً، فلما خرج أخبرت عائشة رضي الله عنها فحلفته على ترك مارية رضي الله عنهن» ثم علل ذلك سبحانه بقوله: ﴿تبتغي﴾ أي تريد إرادة عظيمة من مكارم أخلاقك وحسن صحبتك ﴿مرضات أزواجك﴾ أي الأحوال والمواضع والأمور التي يرضين بها ومن أولى بأن تبتغين رضاك وكذا جميع الخلق لتفرغ لما يوحى إليك من ربك لكن ذلك للزوجات آكد.
ولما كان أعلى ما يقع به المنع من الأشياء من جهة العباد الإيمان، وكان تعالى قد جعل من رحمته لعباده لإيمانهم كفارة قال: ﴿والله﴾ أي تفعل ذلك لرضاهن والحال أن الله الملك الأعلى ﴿غفور رحيم *﴾
182
أي محاء ستور لما يشق على خلص عباده مكرم لهم، ثم علل أو بين بقوله: ﴿قد فرض الله﴾ أي قدر ذو الجلال والإكرام الذي لا شريك له ولا أمر لأحد معه، وعبر بالفرض حثاً على قبول الرخصة إشارة إلى أن ذلك لا يقدح في الورع ولا يخل بحرمة اسم الله لأن أهل الهمم العوالي لا يحبون النقلة من عزيمة إلى رخصة بل من رخصة إلى عزيمة، أو عزيمة إلى مثلها.
ولما كان التخفيف على هذه الأمة إنما هو كرماً منه وتعظيماً لهذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ﴿لكم﴾ أي أيتها الأمة التي أنت رأسها، وعبر بمصدر حلل المزيد مثل كرمه وتكرمه إظهاراً لمزيد الغاية فقال: ﴿تحلة﴾ أي تحللة ﴿أيمانكم﴾ أي شيئاً يحللكم مما أوثقتم به أنفسكم منها تارة بالاستثناء وتارة بالكفارة تحليلاً عظيماً بحيث يعيد الحال إلى ما كان عليه قبل اليمين، وقد بين ذلك في سورة المائدة فحلل يمينك واخرج من تضييقك على نفسك واشرح من صدرك لتتلقى ما يأتيك من أنباء الله تعالى وأنت متفرغ له بطيب النفس وقرة العين، وهذا يدل على أن قوله «أنت علي حرام» كاليمين إذا لم يقصد به طلاقاً للزوجة ولا إعتاقاً للأمة، وإذا كان الله قد فرض ذلك لكافة الأمة تيسيراً عليهم فرأسهم أولى بأن يجعل له ذلك، قال مقاتل:
183
فأعتق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الواقعة رقبة، وقد قيل: إن تحريمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هنا كان بيمين حلفها وحينئذ لا يكون فيه حجة لمن رأى أن «أنت على حرام» يمين ﴿والله﴾ أي والحال أن المختص بأوصاف الكمال ﴿مولاكم﴾ أي يفعل معكم فعل القريب الصديق ﴿العليم﴾ أي البالغ العلم بمصالحكم وغيرها إلى ما لا نهاية له ﴿الحكيم *﴾ أي الذي يضع كل ما يصدر عنه لكم في أتقن محاله بحيث لا ينسخه هو ولا يقدر غيره أن يغيره ولا شيئاً منه، وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير: لاخفاء بشدة اتصال هذه السورة بسورة الطلاق لاتحاد مرماهما وتقارب معناهما، وقد ظن أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طلق نساءه حين اعتزل في المشربة حتى سأله عمر رضي الله عنه والقصة معروفة وتخييره صل الله عليه وسلم إياهن أثر ذلك وبعد اعتزالهن شهراً كاملاً وعتب الله عليهن في قوله:
﴿وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه﴾ [التحريم: ٤] وقوله: ﴿عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن﴾ [التحريم: ٥] فهذه السورة وسورة الطلاق أقرب شيء وأشبه بسورة الأنفال وبراءة لتقارب المعاني والتحام المقاصد - انتهى.
184
ولما كانت العدة فيمن رأى حبيبه قد ضاق صدره أن يسعى أولاً في شرح صدره وطيب نفسه ثم يزيده بسطاً بأن يقول للحاضرين: إن حبيبنا هذا الكريم علينا اتفق له كذا، وقد كرهت هذا وضمنت زواله، وكان تعالى قد طيب نفسه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأول السورة، ثم أتبعه الأمر الآخر، فكان التقدير: اذكروا هذا الذي ذكرته من حسن عشرة نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لنسائه رضي الله تعالى عنهن وكريم صحبته وشريف أخلاقه وجميل أفضاله وجليل حلمه واذكروا ما خفف الله به عنكم في الأيمان التي لا مثنوية فيها واذكروا فيها اسمه المقدس، عطف عليه قوله تعالى تشريفاً لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمعاتبة عليه وبإظهار ما هو حامل له من ثقل هذا السر على أجمل وجه تخفيفاً عنه وترويحاً له: ﴿وإذ﴾ أي واذكروا كريم أخلاقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وطاهر شمائله في عشرتهن حين ﴿أسر النبي﴾ أي الذي شأنه أن يرفعه الله دائماً بأن يتلقى من فياض علمه ما يخبر به الناس فإنه ما ينطق عن الهوى وأبهم الزوجة ولم يعينها سبحانه تشريفاً له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولها رضي الله عنهن فقال تعالى: ﴿إلى بعض أزواجه﴾ وهي حفصة رضي الله عنها، كنى عنها صيانة لهن لأن حرمتهن رضي الله عنهن من حرمته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
185
﴿حديثاً﴾ ليس هو من شأن الرسالة ولو كان من شأنها لهم به وأعلنه ولم يخص به ولا أسره وذلك هو تحريم مارية رضي الله عنها ووعده بأن يترك العسل وبشارته بولاية أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ولم يبين الحديث ويفصله إكراماً له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحفظاً لسره لأن العادة جارية بأن الإنسان لا يحب تفصيل سره وإن كنا اطلعنا عليه بعد ذلك لنتأسى به فيما فيه من الأحكام، فإن أحواله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلها أحكام لنا إلا ما اختص به وأشار إلى قرب زمن إفشائه من زمن التحديث بالفاء في قوله تعالى: ﴿فلما نبأت﴾ أي أخبرت إخباراً عظيماً جليلاً لشرفه في نفسه ولأنه من عند الله وبالغت في ذلك وأخبرت ﴿به﴾ كله من جميع وجوهه، وجعل ذلك في سياق حكاية لأنه أستر لحرمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث لم يقل: فنبأت به ولا قال: أساءت بالإنباء به، ونحو ذلك مما يفهم أنه مقصود بالذات ﴿وأظهره الله﴾ أي أطلعه الملك الذي له الإحاطة بكل شيء ﴿عليه﴾ أي الحديث بأنه قد أفشى مناصحة له في إعلامه بما يقع في غيبته ليحذره إن كان شراً ويثيب عليه إن كان خيراً ﴿عرف﴾ أي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي أسر إليها ﴿بعضه﴾ وهو أمر الخلافة عتاباً لها عليه لأنه كان أوصاها أن لا تظهره، والكف عن بعض العتب أبعث على حياء
186
المعتوب وأعون على توبته وعدم عدده إلى فعل مثله ﴿وأعرض عن بعض﴾ وهو أمر السرية والعسل تكرما منه أن يستقصي في العتاب وحياء وحسن عشرة، قال الحسن: ما استقصى كريم قط، وقال سفيان الثوري: ما زال التغافل من فعل الكبراء وإنما عاتب على أمر الخلافة خوفاً من أن ينتشر في الناس ويذيع، فربما أثار حسداً من بعض المنافقين وأورث الحسود للصديق والفاروق كيداً أو جر إلى مفسدة لا نعلمها، وخفف الكسائي: عرف أي أقر به والمعرفة سبب التعريف والتعريف عن المعرفة فإطلاق أحدهما على الآخر شائع وعلاقته ذلك وأشار إلى مبادرته بتعريفها ذلك لئلا ينتشر ما يكرهه منه بقوله: ﴿فلما نبأها﴾ بما فعلت من إفشاء ما عرفها منه على وجه لم يغادر من ذلك الذي عرفها ﴿به﴾ شيئاً منه ولا من عوارضه ليزداد بصيرة، روي أنها قالت: قلت لعائشة رضي الله عنها سراً وأنا أعلم أنها لا تظهره، قاله الملوي وهو معنى قوله: ﴿قالت﴾ أي ظناً منها أن عائشة رضي الله عنها أفشت عليها ﴿من أنبأك هذا﴾ أي مطلق إخبار، واستأنف قوله: ﴿قال نبأني﴾ وحذف المتعلق اختصاراً للفظ وتكثيراً للمعنى بالتعميم إشارة إلى أنه أخبره بجميع ما دار بينها وبين عائشة رضي الله عنهما مما عرفها به ومن غيره على أتم ما كان ﴿العليم﴾ أي المحيط بالعلم ﴿الخبير *﴾ أي المطلع
187
على الضمائر والظواهر فهو أهل لأن يحذر فلا يتكلم سراً ولا جهراً إلا بما يرضيه.
188
ولما عرف من هذا أن المعاتب المنبئة ومن نباته، وكان قد يكون عدداً أشار إلى أنه واحد فالمعاتب اثنتان، وكانتا قد اتسعت قلوبهما لما يأتي من قبل الله من الرغائب بهذا العتاب على هذا الأمر الخفي جداً والكرم عليهما فيه بعدم الاستقصاء فمالت قلوبهما إلى المعالي وغاصت على جليل المعارف فصاغت من جواهر ذلك دقيق المعاني، لفت إليهما الخطاب بلطيف العباد لشريف المتاب، فقال تشريفاً آخر له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالإقبال على نسائه رضي الله تعالى عنهن بالعتاب لأجله قياماً عنه بما ربما أزعجه لو باشره حفظاً لخاطره الشريف مما قد يغره ﴿إن تتوبا﴾ أي يا عائشة ويا حفصة مما صنعته حفصة بالإفشاء وعائشة بالاحتيال على المنع من شرب العسل والتحليف على مارية ﴿إلى الله﴾ أي الملك الذي أحاط علمه فجلت قدرته ولطف بهما لأجله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غاية اللطف في قوله: ﴿فقد صغت﴾ أي مالت وغاضت بما صاغت ﴿قلوبكما﴾ وفي جمع القلوب جمع كثرة تأكيد لما فهمته من ميل القلب بكثرة المعارف بما أفادهما إظهار هذا السر والعتاب عليه من الحياء، فصارتا جديرتين بالمبادرة إلى التوبة متأهلتين لذلك غاية التأهل.
ولما أورد ما صارتا حقيقيتين به بأداة الشك إقامة للسامع بين
188
الخوف والرجاء من ذلك وهو أعلم مما يكون أكمل ذلك بذكر شق الخوف، فقال معلماً بأن الملك وأوليائه أنصار له ﴿وإن تظاهرا﴾ بالتشديد للإدغام في قراءة الجماعة لأن النظر هنا إن وقع كان على وجه الخفاء في أعمال الحيلة في أمر مارية رضي الله عنها والعسل وما يأتي من مثل ذلك ما يبعث عليه الغيرة ﴿عليه﴾ أي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المنبأ من قبل الله بما يرفع قدره ويعلي ذكره، وقراءة الكوفيين بالتخفيف بإسقاط إحدى التاءين إشارة إلى سهولة أمر هذه المظاهرة وقلة أذاها له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولما كان المعنى كأنه لا يبالي بمظاهرة كما عبر عنه بعلته، فقال مؤكداً إعلاماً بأن حال المتظاهرين عليه حال المنكر لمضمون الكلام: ﴿فإن الله﴾ أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له ﴿هو﴾ أي بنفسه الأقدس وحضرة غيب غيبه التي لا يقوم لما لها من العظمة شيء ﴿مولاه﴾ أي ناصره والمتولي من أمره ما يتولاه القريب الصديق القادر وكل من له وعي يعلم كفايته سبحانه في ذلك فهو يعمل أبلغ ما يعمله مولى مع من هو متول لأمره وفي معاونته لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إظهار
189
لشرفه ومراعاة لحفظ خاطره وشرح لصدره.
ولما كانت النفوس لمبنى هذه الدار على حكمة الأسباب مؤكلة بها ناظرة أتم نظر إليها، وكان نساء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكثرة ما يتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة على لسان جبريل عليه الصلاة والسلام وكثرة تردده إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيوتهن ويعلمهن قد صار عندهن بذلك من الأسباب الظاهرة المألوفة، وكان هو أعظم أنصار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ﴿وجبريل﴾ لأنه من أعظم الأسباب التي يقيمها الله سبحانه.
ولما كان الحامل على مظاهرته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على كل ما يريده الإيمان فكل ما كان الإنسان فيه أمكن كان له أشد مظاهرة وأعون قال: ﴿وصالح المؤمنين﴾ أي الراسخين في رتبة الإيمان والصلاح من الإنس والجن وأبواهما رضي الله عنهما أعظم مراد بهذا، وقد روي أن عمر رضي الله عنه قال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو أمرتني لأضربن عنقها، والصالح وإن كان لفظه مفرداً فمعناه الجمع المستغرق لأنه للجنس، ودل على ذلك مع دلالة السياق إضافته للجمع ولعله عبر بالإفراد مع أن هذا المراد للإشارة إلى قلة المتصف بهذا
190
جداً لقلة الراسخين في الإيمان وقلة الراسخين في الصلاح من الراسخين في الإيمان فهو قليل من قليل وقد جوز بعضهم أن يكون جمعاً وأنه حذفت واؤه في الرسم على خلاف القياس وهي محذوفة في الوصل لالتقاء الساكنين، فظن لذلك مفرداً ودخل في ذلك جبريل عليه السلام أيضاً.
ولما كان الله سبحانه وتعالى قد أعطى الملائكة من القوى والتصرف في الظواهر. والبواطن ما يجل عن الوصف، قال تعظيماً للمقام بعد تعظيمه بما ذكر من رئيس الكروبيين عليهم الصلاة والسلام ﴿والملائكة﴾ أي كلهم ومنهم جبريل عليهم الصلاة والسلام فهو مذكور خصوصاً وعموماً ثلاث مرات إظهاراً لشدة محبته وموالاته للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ولما كان المراد التعميم في الزمان والمكان بعد التعميم في الصالحين من الملائكة والإنس والجان، قال من غير جار معظماً لنصرة الملائكة لما لهم من العظمة في القلوب لما تقرر لمن باشر منهم العذاب تارة بالرجفة وأخرى بالصعقة وتارة بالخسف وأخرى بغير ذلك، فكيف إذا تصور الآدمي المقيد بالمحسوسات اجتماعهم على ما لهم من الأشكال المهولة ﴿بعد ذلك﴾ أي الأمر العظيم الذي تقدم ذكره وهو مظاهرة الله ومن ذكر معه ﴿ظهير *﴾ أخبر عن الجمع باسم الجنس
191
إشارة إلى أنهم على كلمة واحدة في المظاهرة، فخوف بهذا كله لأجل المتاب لطفاً به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإظهاراً لعظمته وفي قصة صاحب ياسين قال ﴿وما أنزلنا على قومه﴾ الآية، تحقيراً لقومه وإهانة لهم، ويجوز أن يكون «ظهير» خبر جبريل عليه الصلاة والسلام، وخبر ما بعده محذوف لدلالته عليه أي كذلك.
ولما حذر بما تقدم، زاد في التحذير ما يقطع القلوب لأن أشد ما على المرأة أن تطلق ثم إذا طلقت أن تستبدل بها ثم أن يكون البدل خيراً منها فقال مبيناً لأدنى أنواع المظاهرة سائقاً الأمر مساق الرجاء إشارة إلى أنه يكفي العاقل في الخوف تجويز احتمال الضرر فكيف إذا كان الأمر حتماً لأن من المعلوم أن «عسى» من الله على طريق الكبراء لا سيما الملوك في اكتفائهم بالإشارات والرموز فمن هنا كانت واجبة لأنه ملك الملوك وهو ذو الكبرياء في الحقيقة لا غيره ﴿عسى ربه﴾ أي المسحن إليه بجميع أنواع الإحسان التي عرفتموها وما لم تعرفوه جدير وحقيق، ووسط بينها وبين خبرها اهتماماً وتخويفاً قوله: ﴿إن طلقكن﴾ أي بنفسه من غير اعتراض عليه جمع أو بعضكن
192
بإيجاد الطلاق لمن لم يطلقها وإدامته من طلقها ﴿أن يبدّله﴾ منكن بمجرد طلاقه لكن من غير أن تحوجه إلى التفتيش تبديلاً مبالغاً فيه بما أشارت إليه قراءة نافع وأبي جفعر وأبي عمرو بالتشديد، فهي أبلغ من قراءة الباقين بالتخفيف الدال على مطلق الإبدال الصالح للمبالغ فيه وغيره، ومن التشريف أيضاً إضافة الطلاق إليه والإبدال إلى الله مع التعبير بصفة الإحسان وتخصيص الإضافة! بضميره.
ولما كان الأوجع لقب الحرة حرة مثلها لا سرية قال: ﴿أزواجاً﴾ ولما كان علوها عليها في الرتبة هو النهاية في التأسيف قال: ﴿خيراً﴾ ودل على أنها للتفضيل بقوله: ﴿منكن﴾ وهذا على سبيل الفرض وعام في الدنيا والآخرة فلا يقتضي وجود من هو خير منهن مطلقاً وإن قيل بوجوده في خديجة رضي الله عنها لما جرب من تحاملها على نفسها في حقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبلوغها في حبه والأدب معه ظاهراً وباطناً النهاية القصوى ومريم عليها السلام التي أحصنت فرجها حتى كانت من القانتين، وذلك في الآخرة، والكلام خارج مخرج الشرط بالطلاق وقد علم سبحانه أنه لا يقع لكنه سبحانه علم أنه لو وقع أبدله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من هو بالصفات المذكورة المقتضية للإخلاص
193
في طاعته كما أشار إليه «قانتات» ولا شك أن من لازم طاعته وقيد الاتصال به في الدارين كان خيراً من غيره، وتعليق تطلق الكل لا يدل على أنه لم يطلق حفصة رضي الله عنها فقد روي أنه طلقها ولم يزدها ذلك إلا فضلاً من الله تعالى لأن الله تعالى أمره بأن يراجعها لأنها صوامة قوامه - والله الموفق. ولما وعد بما ذكر، وكان أول منظور إليه الظاهر، فصل ذلك الوعد وفسر الخيرية بادئاً بقوله: ﴿مسلمات﴾ أي ملقيات لجميع قيادهن ظاهراً وباطناً لله ولرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على وجه الخضوع.
ولما كان المشاهد من الإسلام إنما هو الظاهر قال: ﴿مؤمنات﴾ أي راسخات في القوة العلمية بتصديق الباطن.
ولما كان ذلك قد يكون فيه نوع شوب قال: ﴿قانتات﴾ أي مخلصات في ذلك لا شائبة في شيء منه فهن في غاية ما يكون من إدامة الطاعة له من الذل والانكسار والمبادرة إلى امتثال أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنشط والمكره.
ولما كان الإنسان مجبولاً على النقصان، وكان الإخلاص يدل صاحبه على تقصيره فكان ربما فتره ذلك، قال تسهيلاً لخدمته وتقريباً
194
لدوام طاعته معلماً الأدب لمحتاجه ﴿تائبات﴾ أي راجعات من الهفوات أو الزلات سريعاً إن وقع منهن شيء من ذلك. ولما كان هذا مصححاً للعبادة مسهلاً لدوامها قال: ﴿عابدات﴾ أي مديمات للعبادة بسبب إدامة تجديد التوبة. ولما كان دوام العبادة مسهلاً للخروج عن الدنيا قال: ﴿سائحات﴾ أي متصفات بصفات الملائكة من التخلي عن الدنيا والاستغراق في الآخرة بما أدناه الصيام ماضيات في ذلك غاية المضاء ليتم الانقياد لله ولرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأن من كان هكذا لم يكن له مراد، فكان تابعاً لربه في أمره دائماً ويصير لطيف الذات حلو الشمائل، قال الملوي: والمرأة إذا كانت كثيرة الصيام قليلة الأكل يقل عرقها ويصغر كرشها وتلطف رائحتها وتخف حركتها لما يراد منها - انتهى. وسوق هذه الأوصاف هذا السياق في عتاب من هو متصف بها معرف أن المراد منها التمام لا سيما وهي لا يوجد وصف منها على سبيل الرسوخ إلا كان مستلزماً لسائرها، فلذلك لم يحتج في تعدادها إلى العطف بالواو. والتجريد عنه أقعد في الدلالة على إرادة اجتماعها كلها.
ولما أكمل الصفات الدينية النافعة في أمر العشرة ولم يبق إلا الصفات
195
الكونية وكان التنويع إلى عارفة بالعشرة وباقية على أصل الفطرة، ألذ وأشهى إلى النفس، قال مقسماً للنساء المتصفات بالصفات الست عاطفاً ثاني الوصفين بالواو للتضاد ﴿ثيبات﴾ قدمهن لأنهن أخبر بالعشرة التي هذا سياقها ﴿وأبكاراً﴾.
196
ولما أبلغ سبحانه في عتاب أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع صيانتهن عن التسمية إكراماً له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلم اتصافهن بهذه الصفات العظيمة على سبيل الرسوخ من دوام صحبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهن ليكن من جملة أزواجه في الجنة وكان اتصافهن بذلك الذي أداهن إلى السعادة العظمى إنما هو بحسن تأديب أوليائهن لهن وإكمال ذلك الأدب بحسن عشرته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتأدبهن بكريم أخلاقه أثمر ذلك أمر الأمة بالتأسي به في هذه الأخلاق الكاملة والتأسي بأوليائهن في ذلك ليعرفن حق الله وحق الأزواج فيحصل بذلك صلاح ذات البين المثمرات للخير كله فقال تعالى متبعاً لهذه الموعظة الخاصة بموعظة عامة دالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للأقرب فالأقرب ﴿يا أيها﴾ مخاطبة لأدنى الأسنان إشارة إلى أن من فوقهم
196
تأسى من حين دخوله في الإسلام فهو غني عن أمر جديد ﴿الذين آمنوا﴾ أي أقروا بذلك ﴿قوا أنفسكم﴾ أي اجعلوا لها وقاية بالتأسي به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أدبه مع الخلق والخالق في لينه لمن يستحق اللين من الخلق تعظيماً للخالق فعاملوه قبل كل شيء بما يعاملكم به من الأدب، وكذا كونوا مع بقية الخلق.
ولما كان الإنسان راعياً لأهل بيته مسؤولاً عن رعيته قال تعالى: ﴿وأهليكم﴾ من النساء والأولاد وكل من يدخل في هذا الاسم قوهم ﴿ناراً﴾ بالنصح والتأديب ليكونوا متخلقين بأخلاق أهل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما روى أحمد والطبراني عن سعيد بن العاص رضي الله عنه رفعه: «ما نحل والد ولداً أفضل من أدب حسن» ولما كانت الأشياء لا تعظم في نفسها وعند المخبر بها إلا بإخباره بما يشتمل عليه من الأوصاف قال: ﴿وقودها﴾ أي الذي توقد به ﴿الناس والحجارة﴾ أي ألين الأشياء وأصلبها، فما بين ذلك هو لها وقود بطريق الأولى.
ولما وصفها بغاية الأدب في الائتمار أتبعه وصف القُوَام فقال معبراً بأداة الاستعلاء دلالة على تمكنهم من التصرف فيها:
197
﴿عليها ملائكة﴾ أي يكون أمرها على سبيل الاستعلاء فلا تعصيهم شيئاً لتأديب الله لها ﴿غلاظ﴾ أي في الأبدان والقلوب فظاظة على أهلها لاستحقاقهم لذلك بعصيانهم الملك الأعلى.
ولما كان الغلظ قد يكون مع الرخاوة قال: ﴿شداد﴾ أي في كل شيء يحاولونه بالقول والفعل حتى روي أن الواحد منهم يلقي بالدفعة الواحدة في النار من الكفار سبعين ألفاً.
ولما كان المعنى أنهم يوقعون غلظتهم وشدتهم بأهل المعاصي على مقادير استحقاقهم. بين ذلك بما يخلع القلوب لكونه بأمر الله تعالى فقال: ﴿لا يعصون الله﴾ أي الملك الأعلى في وقت من الأوقات ﴿ما أمرهم﴾ أي أوقع الأمر لهم به في زمن ما.
ولما كان المطيع منا قد يخل ببعض المأمور به في ذاته بنقص ركن أو شرط أو وقت لنسيان، أو نوم ونحوه أو بترك مندوب ونحوه أو ما في معناه بوسوسة أو حديث نفس ونحوه يقصر عن إيقاعه على أعلى الدرجات كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما أخرجه ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما والطيالسي عن ثوبان رضي الله عنه: «استقيموا ولن تحصوا» قال نافياً لذلك عنهم: ﴿ويفعلون﴾ أي مجددين مع كل أمر على سبيل الاستمرار ﴿ما يؤمرون *﴾ أي ما يقع
198
لهم الأمر به في أي وقت كان من غير نقص ما، وبني الفعل لما لم يسم فاعله كناية عن سهولة انقيادهم وإشارة إلى أن الذي أمرهم معلوم أنه الله سبحانه وتعالى.
ولما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعظم من أريد بأمر الأمة بالتأدب معه فكان تعمد الإخلال بالأدب معه كفراً، علم أن هذه النار لأولئك فعلم أن التقدير: يقولون: ﴿يا أيها الذين كفروا﴾ أي بالإخلال بالأدب في النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأداهم ذلك إلى الإخلال بالأدب مع الله وبالأدب مع سائر خلقه ﴿لا تعتذروا﴾ أي تبالغوا في إظهار العذر وهو إيساع الحيلة في وجه يزيل ما ظهر من التقصير ﴿اليوم﴾ فإنه يوم الجزاء لا يوم الاعتذار، وقد فات زمان الاعتذار، وصار الأمر إلى ما صار، وإذا نهى عن المبالغة في الاعتذار لعدم نفعها كان النهي عن مطلقه من باب الأولى، وهذا قطع لرجائهم وإيجاب لباسهم ليعظم همهم وتنقطع قلوبهم لأن معناه أن الاعتذار لا ينفعكم وإن بالغتم فيه، ولذلك استأنف قوله على سبيل الحصر: ﴿إنما تجزون﴾ أي في هذا اليوم ﴿ما كنتم﴾ أي بما هو لكم كالجبلة والطبع ﴿تعملون *﴾ أي على سبيل الإصرار ولا بعد على الله في أن
199
يصور لكل إنسان صورة عمله بحيث لا يشك أنها عمله، ثم يجعل تلك الصورة عذابه الذي يجد فيه من الألم ما علم سبحانه أنه بمقدار استحقاقه.
200
ولما أفهم الأمر بالوقاية والمدح للملائكة أن المأمورين بالوقاية مقصرون قال مرشداً إلى داوء التقصير: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ ناداهم بما هو أليق بهم من أداة البعد ﴿توبوا﴾ أي ارجعوا رجوعاً تاماً ﴿إلى الله﴾ أي الملك الذي لا كفوء له.
ولما كان كل فعول بمعنى فاعل يستوي فيه المذكر والمؤنث قال: ﴿توبة نصوحاً﴾ أي بالغة في كونها ناصحة عن الإسناد المجازي أي منصوحاً فيها بالإخلاص في الأزمان الثلاثة، الماضي بالندم، والحال بالإقلاع. والمستقبل بالعزم على عدم العود إلى الذنب، فلا يقع فيها رجوع كما لا يعود الحليب إلى الضرع، فلا يؤذي أحد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن أذى رسوله من أذاه، قال القرطبي: النصوح مجمعها أربعة أشياء: الاستغفار باللسان، والإقلاع بالأبدان، وإضمار ترك العود بالجنان، ومهاجرة سيىء الإخوان، وقال رويم الراعي: هي أن تكون لله وجهاً بلا قفا كما كانت له عند المعصية قفاء بلا وجه.
ولما أمر بالتوبة عللها بما يفيد الإطماع من الإقامة بين الرجاء والخوف إعلاماً بأن هذا المقام هو المنجي لأنه اعتقاد الكمال له سبحانه وهو أن له أن يفعل ما يشاء في المطيع وغيره بقوله:
200
﴿عسى ربكم﴾ أي افعلوا ذلك ليكون المحسن إليكم بهذا البيان جديراً أو حقيقاً ﴿أن يكفر﴾ أي يغطي تغطية عظيمة ﴿عنكم﴾ أي بالتوبة، وإذا كان التائب على خطر فما ظنك بالمصر على ذنوبه ﴿سيئاتكم﴾ أي ما بدا منكم ما يسوءه.
ولما ذكر نفع التوبة في دفع المضار، ذكر نفعها في جلب المسار فقال: ﴿ويدخلكم﴾ أي يوم الفصل ﴿جنات﴾ أي بساتين كثيرة الأشجار تستر داخلها لأنها ﴿تجري﴾.
ولما كان ذلك الجري في بعض أرضها قال معبراً بأداة التبعيض: ﴿من تحتها﴾ أي تحت غرفها وأشجارها ﴿الأنهار﴾ فهي لا تزال ريا.
ولما ذكر الغفران والإكرام. ذكر وقته فقال مبشراً لأهله معرضاً لغيرهم مستحمداً لأهل وده لكونه وفقهم ولم يخذلهم كأعدائه: ﴿يوم لا يخزي الله﴾ أي الملك الأعظم الذي له الإحاطة بالكمال ﴿النبي﴾ أي الرجل الذي ينبئه الله بما يوجب له الرفعة التامة من الإخبار التي هي في غاية العظمة ﴿والذين﴾ أي
201
ولا يخزي الذين ﴿آمنوا معه﴾ وهم الصحابة رضي الله تعالى عنهم إن كان المراد المعية في مطلق الزمان، وسابقوهم إن كان المراد في الوصف أو زمان مخصوص كبدر وبيعة الرضوان لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة» كما رواه مسلم عن أم مبشر رضي الله عنها وأبو داود والترمذي عن جابر رضي الله عنه: «ولعل الله اطلع على أهل بدر فقال:» اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم «»
وقال تعالى: ﴿لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا﴾ [الحديد: ١٠] إلى قوله ﴿وكلاًّ وعد الله الحسنى﴾ [الحديد: ١٠] ونساءه رضي الله عنهن أحق بأن يكن أول راغب في الكون معه في الإيمان ليبعدن عن النيران، وإذا استحضرت قصص الأنبياء من سورة هود عليه الصلاة والسلام اتضح لك حسن هذا الوجه، ويجوز أن يكون «الذين» مبتدأ خبره «نورهم» أو يكون الخبر «معه» إشارة إلى أن جميع الأنبياء وصالحي أممهم من أمته وتحت لوائه، وذلك في غاية ما يكون من الشرف والرفعة له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والإيمان المقيد بمعيته، أي تأهله لمصاحبة إيمانه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير الإيمان المطلق، فلا مانع من أن يدخل غيرهم من المؤمنين النار ثم يخرج منها بشفاعة الشافعين فلا متمسك للمعتزلة بها في أن مرتكب الكبائر مخلد في النار لأنه داخل النار فهو مخزي، فهو غير موصوف بالإيمان لأن من اتصف بالإيمان لا يخزى بدليل هذه الآية، قال أبو حيان:
202
وفي الحديث: «أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تضرع في أمر أمته فأوحى الله إليه: إن شئت جعلت حسابهم إليك، فقال: يا رب! أنت أرحم بهم مني، فقال تعالى: إذاً لا أخزيك فيهم».
ولما نفى عنهم الخزي، فسره بقوله مقدماً للنور لأن السياق لتعظيم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخلاف ما مضى في الحديد: ﴿نورهم يسعى﴾ أي سعياً مستمر التجدد، وعلى التفسير الآخر تكون هذه الجملة حالية، ويجوز أن تكون خبراً ل «الذين» إذا جعلناه مبتدأ ﴿بين أيديهم﴾ وحذف الجار إشارة إلى أنه ملأ تلك الجهة ﴿و﴾ كذا ﴿بأيمانهم﴾ وأما ما يلي شمائلهم فإنهم لا يلتفتون إليه لأنهم إما من السابقين وإما من أهل اليمين، فهم يمشون فيما بين الجهتين ويؤتون صحائف أعمالهم منهما، وأما أهل الشمال فيعطونها من وراء ظهورهم ومن شمائلهم وهم بما لهم من النر إن قالوا سمع لهم وإن شفعوا شفعوا.
ولما كانت إدامة للملك هي أشرف صفات العبد قال: ﴿يقولون﴾ أي مجددين لذلك دائماً لعلمهم أن الله تعالى له أن
203
يفعل ما يشاء، لا حق لأحد عليه ولا سيما إذا رأوا انطفاء نور المنافقين، قال سهل: لا يسقط الافتقار إلى الله تعالى عن المؤمنين في الدنيا ولا في الآخرة بل هم في الآخرة أشد افتقاراً إليه وإن كانوا في دار العز لشوقهم إلى لقائه: ﴿ربنا﴾ أي أيها المتفضل علينا بهذا النور وبكل خير كنا أو نكون فيه ﴿أتمم﴾ فأظهروا لأن المقام له.
ولما كان الإنسان ربما رزق شيئاً فانتفع به غيره دونه قالوا: ﴿لنا نورنا﴾ أي الذي مننت به علينا حتى يكون في غاية التمام فتوصلنا به إلى المأمن في دار السلام، ولا تجعلنا كالمنافقين الذين أطفأت أنوارهم فكانت عاقبتهم إلى الظلام.
ولما كان كل من حسن أدبه لا بد أن يعتقد في نفسه النقص، قالوا على سبيل الذلة والمسكنة والتواضع: ﴿واغفر لنا﴾ أي امح عنا كل نقص كان يميل بنا إلى أحوال المنافقين عينه وأثره، وهذا النور هو صورة أعمالهم في الدنيا لأن الآخرة تظهر فيها حقائق الأشياء وتتبع الصور معانيها، وهو شرع الله الذي شرعه وهو الصراط الذي يضرب بين ظهراني جهنم لأن الفضائل في الدنيا متوسطة بين الرذائل، فكل فضيلة تكتنفها رذيلتان: إفراط وتفريط، فالفضيلة هي الصراط المستقيم، والرذيلتان ما كان من جهنم عن يمينه وشماله، فمن كان
204
يمشي في الدنيا على ما أمر به سواء من غير إفراط ولا تفريط كان نوره تاماً، ومن أمالته الشهوات طفىء نوره - أعاذنا الله من ذلك ورزقنا حسن الثبات، وكان ذلك الطفىء في بعض الأوقات واختطفته كلاليب هي صور الشهوات فتميل به في النار بقدر ميله إليها، والمنافق يظهر له نور إقراره بكلمة التوحيد، فإذا مشى طفىء لأن إقراره لا حقيقة له فنوره لا حقيقة له.
ولما كان ما ذكر لا يقدر عليه إلا الله تعالى، علله بقوله مؤكداً لإنكار الكفار البعث وما تفرع عنه: ﴿إنك﴾ أي وحدك ﴿على كل شيء﴾ أي يمكن دخول المشيئة فيه ﴿قدير *﴾ أي بالغ القدرة.
ولما ذكر ما تقدم من لينه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأضعف الناس النساء وحسن أدبه وكريم عشرته لأنه مجبول على الشفقة على عباد الله والرحمة لهم، وختم بما للمؤمنين من الشرف ولله من تمام القدرة، أنتج ذلك القطع بإذلال أعدائهم وإخزائهم فقال مدارياً لهم من خطر ذلك اليوم بيد أنصح الخلق ليكون صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جامعاً في طاعته سبحانه وتعالى بين المتضادات من اللين والشدة والرضى والغضب والحلم والانتقام وغيرها، فيكون ذلك أدل على التعبد لله بما أمر به سبحانه وتعالى والتخلق بأوامره وكل ما يرضيه: ﴿يا أيها النبي﴾
205
منادياً بأداة التوسط إسماعاً للأمة الوسطى تنبيهاً على أنهم المنادون في الحقيقة، ولأجل دلالتها على التوسط والله أعلم كان لا يتعقبها إلا ما له شأن عظيم، معبراً بالوصف الدال على الرفعة بالإعلام بالأخبار الإلهية المبني على الإحكام والعظمة المثمرة للغلبة، وأما وصف الرسالة فيغلب فيه الرحمة فيكثر إقباله على اللين والمسايسة نظراً إلى وصف الربوبية: ﴿جاهد الكفار﴾ أي المجاهرين بكل ما يجهدهم فيكفهم من السيف وما دونه ليعرف أن الأسود إنما اكتسبت من صولتك، فيعرف أن ذلك اللين لأهل الله إنما هو من تمام عقلك وغزير علمك وفضلك، وكبير حلمك وخوفك من الله ونبلك: ﴿والمنافقين﴾ أي المساترين بما يليق بهم من الحجة إن استمروا على المساترة، والسيف إن احتيج إليه إن أبدوا نوع مظاهرة ﴿وأغلظ﴾ أي كن غليظاً بالفعل والقول بالتوبيخ والزجر والإبعاد والهجر ﴿عليهم﴾ فإن الغلظة عليهم من اللين لله كما أن اللين لأهل الله من خشية الله، وقد أمره سبحانه باللين لهم في أول الأمر لإزالة أعذارهم وبيان إصرارهم، فلما بلغ الرفق أقصى مداه جازه إلى الغلظة وتعداه، وقد بان بهذه الآية أن أفعل التفضيل في قول النسوة لعمر رضي الله عنه: «
206
أنت أفظ وأغلظ من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» على بابه ولا محذور.
ولما كان انتقام الولي من العدو إنما هو لله سبحانه وتعالى، لاحظ له فيه، فكان موجباً لعدم اكتفاء الله به في حق الولي، فكان التقدير: فإنهم ليس لهم عصمة ولا حرمة في الدنيا ولا قوة وإن لاح في أمرهم خلاف ذلك، عطف عليه قوله: ﴿ومأواهم﴾ أي في الآخرة ﴿جهنم﴾ أي الدركة النارية التي تلقى داخلها بالعبوسة والكراهة.
ولما كان التقدير: إليها مصيرهم لا محالة، عطف عليه قوله: ﴿وبئس المصير *﴾ أي هي، فذلك جزاء الله لهم عن الإساءة إلى أوليائه والانتقاص لأحبائه.
207
ولما كان أمر الاستئصال في الإنجاء والإهلاك أشبه شيء بحال أهل الآخرة في الدينونة بالعدل والفضل، وكان المفتتح به السورة عتاب النساء، ثم أتبع بالأمر بالتأديب لجميع الأمة إلى أن ختم بهلاك المخالف في الدارين، وكان للكفار قرابات بالمسلمين وكانوا يظنون أنها ربما تنفعهم، وللمسلمين قرابات بالكفار وكانوا ربما توهموا أنها تضرهم، قال مجيباً لما يتخيل من ذلك تأديباً لمن ينكر عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
207
من النساء وغيرهن: ﴿ضرب الله﴾ أي الملك الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً ﴿مثلاً﴾ يعلم به من فيه قابلية العلم ويتعظ به من له أهلية الاتعاظ ﴿للذين كفروا﴾ أي غطوا الحق على أنفسهم وعلى غيرهم سواء كانوا مشاققين أو منافقين في عدم انتفاعهم مع كفرهم بما بينهم وبين المؤمنين من الوصل والعلائق فيغلظ عليهم في الدارين معاملة بما يستحقون من غير محاباة لأحد وإن جل مقامه، وعلا منصبه ومرامه، لأن الكفر قاطع للعلائق بين الكافر والمسلم: ﴿امرأت نوح﴾ الذي أهلك الله من كذبه بالغرق ونصره وآواه عليه الصلاة والسلام وكان اسمها فيما يقال واعلة ﴿وامرأت لوط﴾ الذي أهلك الله أيضاً من كذبه بالحصب والخسف والإغراق، واسمها فيما قيل واهلة، ودل على وجه الشبه بقوله: ﴿كانتا﴾ أي مع كونهما كافرتين. ولم يقل: تحتهما، بل أظهر بالوصف العبودية المضافة إليه سبحانه وتعالى والوصف بالصلاح لأن ذلك أفخم، فيكون أشد تأثيراً للموعوظ وأعظم، ودفعاً لأن يتوهم أحد بشيء لا يليق بمقامهما عليهما الصلاة والسلام فقال: ﴿تحت عبدين﴾ أي
208
كل واحدة منهما تحت عبد، وعبر بذلك لأن أثر الناس عند الملك كما تقدم عبيده، ودل على كثرة عبيده تنبيهاً على غناه بقوله: ﴿من عبادنا﴾.
ولما كانت طبقات القرب متفاوتة بحسب الصلاح قال: ﴿صالحين﴾ وهما نوح ولوط عليهما الصلاة والسلام ﴿فخانتاهما﴾ بعدم المتابعة في الدين نفاقاً منهما لا بالخيانة في الفرش، فقد صان الله جميع الأنبياء من ذلك فلم تقل واحدة منهما لأجل كفرهما: رب اجعلني مع نبيك في الجنة، وآذن بعدم قبول الشفاعة فيمن أساء إلى الحبيب وبعذابه حتماً للتشفي بقوله: ﴿فلم﴾ أي فتسبب عن ذلك أن العبدين الصالحين لم ﴿يغنيا عنهما﴾ أي المرأتين بحق الزواج ﴿من الله﴾ أي من عذاب الملك الذي له الأمر كله فلا أمر لغيره ﴿شيئاً﴾ أي من إغناء لأجل خيانتهما بالمخالفة في الدين، ودل على كمال قدرته تعالى بالتعبير بالمجهول فقال: ﴿وقيل﴾ أي للمرأتين ممن أذن له في القول النافذ الذي لا مرد له: ﴿ادخلا النار﴾ أي مقدماتها من الإصرار على الكفر ثم الإهلاك بعذاب الانتقام في الدنيا وحقيقتها في الآخرة لأن الله أبغضهما لأنهما عدو لأوليائه، وذلك كما قيل: عدو صديقي ليس لي بصديق.
209
ولما فعلتا فعل الرجال في استقلالهما وعدم عدهما لأنفسهما تبعاً، غلظ عذابهما بالكون مع الرجال في عذابهم فقال دالاً على نفوذ الحكم فيمن هو أقوى منهما بعد نفوذه فيهما: ﴿مع الداخلين *﴾ أي الذين هم أعظم منهما ممن لهم وصلة بأهل الله وممن لا وصلة لهم بهم، فليتأدب كل أحد مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غاية الأدب خوفاً من مثل ذلك، وهذا خالع لقلوب من ابتدأ بتأديبهن - رضي الله تعالى عنهن.
210
ولما أتم مثل النذارة بأن طاعة المطيع لا تنفع العاصي وإن كان أقرب الناس إلى المطيع إلا إن كان له أساس يصح البناء عليه، ويجوز الاعتداد به والنظر إليه، أتبعه مثل البشارة بأن عصيان العاصي لا يضر المطيع فقال: ﴿وضرب الله﴾ أي الملك الأعلى الذي له صفات الكمال ﴿مثلاً للذين آمنوا﴾ ولو كان في أدنى درجات الإيمان مبيناً لأن وصلة الكفار إذا كانت على وجه الإكراه والإجبار لا تضر ﴿امرأت فرعون﴾ واسمها آسية بنت مزاحم، آمنت وعملت صالحاً فلم تضرها الوصلة بالكافر بالزوجية التي هي من أعظم الوصل ولا نفعه إيمانها ﴿كل امرىء بما كسب رهين﴾ [الطور: ٢١] وأثابها ربها سبحانه أن جعلها زوجة خير خلقه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في دار كرامته بصبرها على عبادة الله وهي في حبالة عدوه، وأسقط وصفه بالعبودية دليلاً على تحقيره وعدم رحمته لأنه أعدى أعدائه، وأشار إلى وجه الشبه في المثل
210
وهو التحيز إلى حزب الله بقدر الوسع فقال: ﴿إذ﴾ أي مثلهم مثلها حين ﴿قالت﴾ تصديقاً بالعبث منادية نداء الخواص بإسقاط الأداة لأجل أنها مؤمنة وإن كانت تحت كافر بنا فلم تضر صحبته شيئاً لأجل إيمانها: ﴿رب﴾ أي أيها المحسن إليّ بالهداية وأنا في حبالة هذا الكافر الجبار ولم تغرني بعز الدنيا وسعتها ﴿ابن لي﴾.
ولما كان الجار مطلوباً - كما قالوا - قبل الدار، طلبت خير جار وقدمت الظرف اهتماماً به لنصه على المجاورة ولدلالته على الزلفى فقالت: ﴿عندك بيتاً﴾ وعينت مرادها بالعندية فقالت: ﴿في الجنة﴾ لأنها دار المقربين فظهر من أول كلامها وآخره أن مطلوبها أخص داره، وقد أجابها سبحانه بأن جعلها زوجة لخاتم رسوله الذي هو خير خلقه وأقربهم منه، فكانت معه في منزله الذي هو أعلى المنازل.
ولما سألت ما حيّزها إلى جناب الله سألت ما يباعدها في الدارين من أعدائه فقالت: ﴿ونجني﴾ أي تنجية عظيمة ﴿من فرعون﴾ أي فلا أكون عنده ولا تسلطه عليّ بما يضرني عندك ﴿وعمله﴾ أي أن أعمل بشيء منه ﴿ونجني﴾ أعادت العامل تأكيداً ﴿من القوم الظالمين *﴾ أي الناس الأقوياء العريقين في أن يضعوا أعمالهم في غير مواضعها التي أمروا بوضعها فيها فعل من يمشي في الظلام عامة، وهم القبط، لا تخالطني بأحد منهم، فاستجاب الله تعالى دعاءها وأحسن إليها لأجل محبتها
211
للمحبوب وهو موسى عليه الصلاة والسلام كما يقال: صديق صديقي داخل في صداقتي، وذلك أن موسى عليه الصلاة والسلام لما غلب السحرة آمنت به فعذبها فرعون فماتت بعد أن أراها الله بيتها في الجنة ولم يضرها كونها تحت فرعون شيئاً لأنها كانت معذورة في ذلك، فالآية من الاحتباك: حذف أولاً «فلم تسألا الجنة» لدلالة «رب ابن لي» ثانياً عليه، وحذف ثانياً «كانت تحت كافر» لدلالة الأول عليه.
ولما أتم المثل بمن أساءتا الأدب فلم تنفعهما الوصلة بالأولياء بل زادتهما ضرراً للإعراض عن الخير مع قربه وتيسره، وبمن أحسنت الأدب فلم تضرها الوصلة بأعدى الأعداء بل زادتها خيراً لإحسانها مع قيام المغتر بها عن الإحسان ضرب مثلاً بقرينتها في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما رواه الشيخان عن أبي موسى رضي الله عنه: «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام» ومع مقارنتها لها في الكمال، فبين حاليهما في الثيوبة والبكورة طباق، فلم يبتلها سبحانه بخلطة زوج جمعاً بين ما تقدم من صنفي الثيبات والأبكار اللاتي يعطيهما لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأحسنت الأدب في نفسها مع الله ومع سائر من لزمها الأدب معه من عباده فأحسن إليها رعاية لها
212
على ما وفقها إليه من الإحسان، وذلك رعاية لأسلافها إذ كانوا من أعظم الأحباب فقال: ﴿ومريم﴾ أي وضرب الله مثلاً لأهل الانفراد والعزلة من الذين آمنوا مريم ﴿ابنة عمران﴾ أي أحد الأحباب، وذكر وجه الشبه فقال: ﴿التي أحصنت فرجها﴾ أي عفت عن السوء وجميع مقدماته عفة كانت كالحصن العظيم المانع من العدو فاستمرت على بكريتها إلى الممات فتزوجها في الجنة جزاء لها بخير عبادنا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاتم الأنبياء وإمام المرسلين.
ولما اغتنت بأنسها بروح الله الذي بثه في قلبها من محبة الذكر والعبادة عن الأنس بأرواح الناس، كان ذلك سبباً لأن وهبها روحاً منه جسده في أكمل الصور المقدرة في ذلك الحين فقال مخبراً عن ذلك: ﴿فنفخنا﴾ أي بعظمتنا بواسطة ملكنا روح القدس.
ولما كانت هذه السورة لتشريف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتكميل نسائه في الدنيا والآخرة، نص على المقصود بتذكير الضمير ولم يؤنثه قطعاً للسان من يقول تعنتاً: إن المراد نفخ روحها في جسدها: ﴿فيه﴾ أي فرجها الحقيقي وهو جيبها وكل جيب يسمى فرجاً، ويدل على الأول قراءة «فيها» شاذة ﴿من روحنا﴾ أي روح هو أهل لشرفه بما عظمنا من خلقه ولطف تكوينه أن يضاف إلينا لكونه خارجاً
213
عن التسبيب المعتاد وهو جبريل عليه الصلاة والسلام أو روح الحياة.
ولما كان التقدير: فكان ما أردنا، فحملت من غير ذكر ولدت عيسى عليه الصلاة والسلام الذي كان من كلمتنا وهي «احملي» ثم كلمتنا «كن يا حمل من غير ذكر» ثم كلمتنا «لديه يا مريم من غير مساعد» ثم كلمتنا «تكلم عيسى في المهد بالحكمة» عطف عليه قوله: ﴿وصدقت﴾ فاستحقت لذلك أن تسمى صديقة ﴿بكلمات ربها﴾ أي المحسن إليها بما تقدم وغيره مما كان من كلام جبريل عليه الصلاة والسلام بسببه ومن عيسى عليه الصلاة والسلام ومما تكلم به عن الله سبحانه وتعالى ﴿وكتبه﴾ أي وكتابه الضابط الجامع لكلامه أنزل على ولدها وغيره من كتب الله كما دل على ذلك قراءة البصريين وحفص بالجمع.
ولما كان المصدق ربما كان تصديقه في الظاهر أو مشوباً بشيء من الضمائر قال: ﴿وكانت﴾ أي جبلة وطبعاً، وشرفها بأن جعلها في رتبة الأكمل وهم الرجال فقال: ﴿من القانتين *﴾ أي المخلصين الذين هم في غاية القوة والكمال لأنها كانت من بنات الأحباب المصطفين على العالمين، فلم تكن عبادتها تقصر عن عبادة الأقوياء الكلمة، وقد أتم سبحانه الأمثال في الآداب بالثيبات والأبكار والأخيار والأشرار، فانعطف آخر السورة على أولها في المعاني بالآداب، وزاد
214
ذلك حسناً كونها في النساء وفي الذوات والأعيان بزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لآسية امرأة فرعون ومريم ابنة عمران في الجنة دار القرار السالمة عن الأكدار الزواج الأبدي فصار أول السورة وآخرها في أزواجه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي ختامها بالقنوت الذي هو خلاصة الأوصاف الماضية في الأبدال المذكورات أعظم مناسبة - والله الهادي.
سورة الملك
وتسمى تبارك والمانعة والواقية والمنجية، قال الولي الملوي: هذه السورة كان النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يحبها لكثرة علومها، وقال: " وددت لو كانت في صدر كل مسلم ". مقصودها الخضوع لله لاتصافه بكمال الملك الدال عليه تمام القدرة الدال عليه قطعا أحكام المكونات الدال عليه تمام العلم الدال عليه أحكام المصنوعات علم ما في الصدور لينتج ذلك العلم بتحتم البعث لدينونة العباد على ما هم عليه من الصلاح والعناد كما هي عادة الملوك في دينونة رعاياهم لتكمل الحكمة وتتم النعمة وتظهر سورة الملك، واسمها الملك واضح في ذلك لأن الملك محل الخضوع من كل
215
من يرى الملك وكذا تبارك لأن من كان كذلك كان له تمام الثبات والبقاء، وكان له من كل شيء كمال الخضوع ولالاتقاء، وكذا اسمها المانعة والواقية والمنجية لأن الخضوع حامل على لزوم طريق السعادة، ومن لزمها نجا مما يخاف ومنع من كل هول ووقي كل مخلوق، وترد السؤال عمن لازم عليها وهذا من أهم الأمور) بسم الله (الذي خضعت لكمال عظمته الملوك) الرحمن (الذي عم بنعمة الإيجاد وتبيان محل السلوك) الرحيم (الذي خص أولياءه الهعداية وزوال الشكوك.
216
Icon