تفسير سورة التوبة

الجامع لأحكام القرآن
تفسير سورة سورة التوبة من كتاب الجامع لأحكام القرآن .
لمؤلفه القرطبي . المتوفي سنة 671 هـ
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
فَصْل فِي أَسْمَائِهَا
قَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : سَأَلْت اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَنْ سُورَة بَرَاءَة فَقَالَ : تِلْكَ الْفَاضِحَة مَا زَالَ يَنْزِل : وَمِنْهُمْ وَمِنْهُمْ حَتَّى خِفْنَا أَلَّا تَدَع أَحَدًا.
قَالَ الْقُشَيْرِيّ أَبُو نَصْر عَبْد الْحَمِيد : هَذِهِ السُّورَة نَزَلَتْ فِي غَزْوَة تَبُوك وَنَزَلَتْ بَعْدهَا.
وَفِي أَوَّلهَا نَبْذ عُهُود الْكُفَّار إِلَيْهِمْ.
وَفِي السُّورَة كَشْف أَسْرَار الْمُنَافِقِينَ.
وَتُسَمَّى الْفَاضِحَة وَالْبَحُوث، لِأَنَّهَا تَبْحَث عَنْ أَسْرَار الْمُنَافِقِينَ وَتُسَمَّى الْمُبَعْثِرَة، وَالْبَعْثَرَة : الْبَحْث.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي سَبَب سُقُوط الْبَسْمَلَة مِنْ أَوَّل هَذِهِ السُّورَة عَلَى أَقْوَال خَمْسَة :[ الْأَوَّل ] أَنَّهُ قِيلَ كَانَ مِنْ شَأْن الْعَرَب فِي زَمَانهَا فِي الْجَاهِلِيَّة إِذَا كَانَ بَيْنهمْ وَبَيْن قَوْم عَهْد فَإِذَا أَرَادُوا نَقْضه كَتَبُوا إِلَيْهِمْ كِتَابًا وَلَمْ يَكْتُبُوا فِيهِ بَسْمَلَة فَلَمَّا نَزَلَتْ سُورَة بَرَاءَة بِنَقْضِ الْعَهْد الَّذِي كَانَ بَيْن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُشْرِكِينَ بَعَثَ بِهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَقَرَأَهَا عَلَيْهِمْ فِي الْمَوْسِم وَلَمْ يُبَسْمِل فِي ذَلِكَ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَتهمْ فِي نَقْض الْعَهْد مِنْ تَرْك الْبَسْمَلَة.
[ وَقَوْل ثَانٍ ] رَوَى النَّسَائِيّ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْمُثَنَّى عَنْ يَحْيَى بْن سَعِيد قَالَ حَدَّثَنَا عَوْف قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيد الرَّقَاشِيّ قَالَ : قَالَ لَنَا اِبْن عَبَّاس : قُلْت لِعُثْمَان مَا حَمَلَكُمْ إِلَى أَنْ عَمَدْتُمْ إِلَى [ الْأَنْفَال ] وَهِيَ مِنْ الْمَثَانِي وَإِلَى [ بَرَاءَة ] وَهِيَ مِنْ الْمِئِين فَقَرَنْتُمْ بَيْنهمَا وَلَمْ تَكْتُبُوا سَطْر بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم وَوَضَعْتُمُوهَا فِي السَّبْع الطُّوَل فَمَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ ؟ قَالَ عُثْمَان : إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الشَّيْء يَدْعُو بَعْض مَنْ يَكْتُب عِنْده فَيَقُول :( ضَعُوا هَذَا فِي السُّورَة الَّتِي فِيهَا كَذَا وَكَذَا ).
وَتَنْزِل عَلَيْهِ الْآيَات فَيَقُول :( ضَعُوا هَذِهِ الْآيَات فِي السُّورَة الَّتِي يُذْكَر فِيهَا كَذَا وَكَذَا ).
وَكَانَتْ [ الْأَنْفَال ] مِنْ أَوَائِل مَا أُنْزِلَ، وَ [ بَرَاءَة ] مِنْ آخِر الْقُرْآن وَكَانَتْ قِصَّتهَا شَبِيهَة بِقِصَّتِهَا وَقُبِضَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُبَيِّن لَنَا أَنَّهَا مِنْهَا فَظَنَنْت أَنَّهَا مِنْهَا فَمِنْ ثَمَّ قَرَنْت بَيْنهمَا وَلَمْ أَكْتُب بَيْنهمَا سَطْر بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم.
وَخَرَّجَهُ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ وَقَالَ : هَذَا حَدِيث حَسَن.
[ وَقَوْل ثَالِث ] رُوِيَ عَنْ عُثْمَان أَيْضًا.
وَقَالَ مَالِك فِيمَا رَوَاهُ اِبْن وَهْب وَابْن الْقَاسِم وَابْن عَبْد الْحَكَم : إِنَّهُ لَمَّا سَقَطَ أَوَّلهَا سَقَطَ بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم مَعَهُ.
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ اِبْن عَجْلَان أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ سُورَة [ بَرَاءَة ] كَانَتْ تَعْدِل الْبَقَرَة أَوْ قُرْبهَا فَذَهَبَ مِنْهَا فَلِذَلِكَ لَمْ يُكْتَب بَيْنهمَا بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم.
وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : كَانَتْ مِثْل سُورَة الْبَقَرَة.
[ وَقَوْل رَابِع ] قَالَهُ خَارِجَة وَأَبُو عِصْمَة وَغَيْرهمَا.
قَالُوا : لَمَّا كَتَبُوا الْمُصْحَف فِي خِلَافَة عُثْمَان اِخْتَلَفَ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ بَعْضهمْ : بَرَاءَة وَالْأَنْفَال سُورَة وَاحِدَة.
وَقَالَ بَعْضهمْ : هُمَا سُورَتَانِ.
فَتُرِكَتْ بَيْنهمَا فُرْجَة لِقَوْلِ مَنْ قَالَ أَنَّهُمَا سُورَتَانِ وَتُرِكَتْ بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم لِقَوْلِ مَنْ قَالَ هُمَا سُورَة وَاحِدَة فَرَضِيَ الْفَرِيقَانِ مَعًا وَثَبَتَتْ حُجَّتهمَا فِي الْمُصْحَف.
[ وَقَوْل خَامِس ] قَالَ عَبْد اللَّه بْن عَبَّاس : سَأَلْت عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب لِمَ لَمْ يُكْتَب فِي بَرَاءَة بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم ؟ قَالَ : لِأَنَّ بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم أَمَان وَبَرَاءَة نَزَلَتْ بِالسَّيْفِ لَيْسَ فِيهَا أَمَان.
وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ الْمُبَرِّد قَالَ : وَلِذَلِكَ لَمْ يُجْمَع بَيْنهمَا فَإِنَّ بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم رَحْمَة وَبَرَاءَة نَزَلَتْ سَخْطَة.
وَمِثْله عَنْ سُفْيَان.
قَالَ سُفْيَان بْن عُيَيْنَة : إِنَّمَا لَمْ تُكْتَب فِي صَدْر هَذِهِ السُّورَة بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم لِأَنَّ التَّسْمِيَة رَحْمَة وَالرَّحْمَة أَمَان وَهَذِهِ السُّورَة نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ وَبِالسَّيْفِ وَلَا أَمَان لِلْمُنَافِقِينَ.
وَالصَّحِيح أَنَّ التَّسْمِيَة لَمْ تُكْتَب لِأَنَّ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام مَا نَزَلَ بِهَا فِي هَذِهِ السُّورَة قَالَهُ الْقُشَيْرِيّ.
وَفِي قَوْل عُثْمَان : قُبِضَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُبَيِّن لَنَا أَنَّهَا مِنْهَا دَلِيل عَلَى أَنَّ السُّوَر كُلّهَا اِنْتَظَمَتْ بِقَوْلِهِ وَتَبْيِينه وَأَنَّ بَرَاءَة وَحْدهَا ضُمَّتْ إِلَى الْأَنْفَال مِنْ غَيْر عَهْد مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا عَاجَلَهُ مِنْ الْحِمَام قَبْل تَبْيِينه ذَلِكَ.
وَكَانَتَا تُدْعَيَانِ الْقَرِينَتَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ تُجْمَعَا وَتُضَمّ إِحْدَاهُمَا إِلَى الْأُخْرَى لِلْوَصْفِ الَّذِي لَزِمَهُمَا مِنْ الِاقْتِرَان وَرَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيّ.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : هَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّ الْقِيَاس أَصْل فِي الدِّين أَلَا تَرَى إِلَى عُثْمَان وَأَعْيَان الصَّحَابَة كَيْفَ لَجَئُوا إِلَى قِيَاس الشَّبَه عِنْد عَدَم النَّصّ وَرَأَوْا أَنَّ قِصَّة [ بَرَاءَة ] شَبِيهَة بِقِصَّةِ [ الْأَنْفَال ] فَأَلْحَقُوهَا بِهَا ؟ فَإِذَا كَانَ اللَّه تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ دُخُول الْقِيَاس فِي تَأْلِيف الْقُرْآن فَمَا ظَنّك بِسَائِرِ الْأَحْكَام.
" بَرَاءَة " تَقُول : بَرِئْت مِنْ الشَّيْء أَبْرَأ بَرَاءَة فَأَنَا مِنْهُ بَرِيء إِذَا أَزَلْته عَنْ نَفْسك وَقَطَعْت سَبَب مَا بَيْنك وَبَيْنه.
و " بَرَاءَة " رَفْع عَلَى خَبَر اِبْتِدَاء مُضْمَر تَقْدِيره هَذِهِ بَرَاءَة.
وَيَصِحّ أَنْ تُرْفَع بِالِابْتِدَاءِ.
وَالْخَبَر فِي قَوْله :" إِلَى الَّذِينَ ".
وَجَازَ الِابْتِدَاء بِالنَّكِرَةِ لِأَنَّهَا مَوْصُوفَة فَتَعَرَّفَتْ تَعْرِيفًا مَا وَجَازَ الْإِخْبَار عَنْهَا.
وَقَرَأَ عِيسَى بْن عُمَر " بَرَاءَة " بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِير اِلْتَزِمُوا بَرَاءَة فَفِيهَا مَعْنَى الْإِغْرَاء.
وَهِيَ مَصْدَر عَلَى فَعَالَة كَالشَّنَاءَةِ وَالدَّنَاءَة.
إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
يَعْنِي إِلَى الَّذِينَ عَاهَدَهُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ كَانَ الْمُتَوَلِّي لِلْعُقُودِ وَأَصْحَابه بِذَلِكَ كُلّهمْ رَاضُونَ فَكَأَنَّهُمْ عَاقَدُوا وَعَاهَدُوا فَنَسَبَ الْعَقْد إِلَيْهِمْ.
وَكَذَلِكَ مَا عَقَدَهُ أَئِمَّة الْكُفْر عَلَى قَوْمهمْ مَنْسُوب إِلَيْهِمْ مَحْسُوب عَلَيْهِمْ يُؤَاخَذُونَ بِهِ إِذْ لَا يُمْكِن غَيْر ذَلِكَ فَإِنَّ تَحْصِيل الرِّضَا مِنْ الْجَمِيع مُتَعَذِّر فَإِذَا عَقَدَ الْإِمَام لِمَا يَرَاهُ مِنْ الْمَصْلَحَة أَمْرًا لَزِمَ جَمِيع الرَّعَايَا.
فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ
فِيهِ ثَلَاث مَسَائِل : الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :" فَسِيحُوا " رَجَعَ مِنْ الْخَبَر إِلَى الْخِطَاب أَيْ قُلْ لَهُمْ سِيحُوا أَيْ سِيرُوا فِي الْأَرْض مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ آمَنِينَ غَيْر خَائِفِينَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِحَرْبٍ وَلَا سَلْب وَلَا قَتْل وَلَا أَسْر.
يُقَال سَاحَ فُلَان فِي الْأَرْض يَسِيح سِيَاحَة وَسُيُوحًا وَسَيَحَانًا وَمِنْهُ السَّيْح فِي الْمَاء الْجَارِي الْمُنْبَسِط وَمِنْهُ قَوْل طَرَفَة بْن الْعَبْد :
لَوْ خِفْت هَذَا مِنْك مَا نِلْتنِي حَتَّى تَرَى خَيْلًا أَمَامِي تَسِيح
الثَّانِيَة : وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي كَيْفِيَّة هَذَا التَّأْجِيل وَفِي هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَرِئَ اللَّه مِنْهُمْ وَرَسُوله.
فَقَالَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق وَغَيْره : هُمَا صِنْفَانِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ أَحَدهمَا كَانَتْ مُدَّة عَهْده أَقَلّ مِنْ أَرْبَعَة أَشْهُر فَأُمْهِلَ تَمَام أَرْبَعَة أَشْهُر وَالْآخَر كَانَتْ مُدَّة عَهْده بِغَيْرِ أَجَل مَحْدُود فَقُصِرَ بِهِ عَلَى أَرْبَعَة أَشْهُر لِيَرْتَادَ لِنَفْسِهِ.
ثُمَّ هُوَ حَرْب بَعْد ذَلِكَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يُقْتَل حَيْثُ مَا أُدْرِكَ وَيُؤْسَر إِلَّا أَنْ يَتُوب وَابْتِدَاء هَذَا الْأَجَل يَوْم الْحَجّ الْأَكْبَر وَانْقِضَاؤُهُ إِلَى عَشْر مِنْ شَهْر رَبِيع الْآخَر فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْد فَإِنَّمَا أَجَله اِنْسِلَاخ الْأَرْبَعَة الْأَشْهُر الْحُرُم وَذَلِكَ خَمْسُونَ يَوْمًا : عِشْرُونَ مِنْ ذِي الْحِجَّة وَالْمُحَرَّم.
وَقَالَ الْكَلْبِيّ : إِنَّمَا كَانَتْ الْأَرْبَعَة الْأَشْهُر لِمَنْ كَانَ بَيْنه وَبَيْن رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْد دُون أَرْبَعَة أَشْهُر وَمَنْ كَانَ عَهْده أَكْثَر مِنْ أَرْبَعَة أَشْهُر فَهُوَ الَّذِي أَمَرَ اللَّه أَنْ يُتَمّ لَهُ عَهْده بِقَوْلِهِ " فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدهمْ إِلَى مُدَّتهمْ " [ التَّوْبَة : ٤ ] وَهَذَا اِخْتِيَار الطَّبَرِيّ وَغَيْره.
وَذَكَرَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق وَمُجَاهِد وَغَيْرهمَا : أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي أَهْل مَكَّة.
وَذَلِكَ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَ قُرَيْشًا عَام الْحُدَيْبِيَة، عَلَى أَنْ يَضَعُوا الْحَرْب عَشْر سِنِينَ، يَأْمَن فِيهَا النَّاس وَيَكُفّ بَعْضهمْ عَنْ بَعْض، فَدَخَلَتْ خُزَاعَة فِي عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَخَلَ بَنُو بَكْر فِي عَهْد قُرَيْش، فَعَدَتْ بَنُو بَكْر عَلَى خُزَاعَة وَنَقَضُوا عَهْدهمْ.
وَكَانَ سَبَب ذَلِكَ دَمًا كَانَ لِبَنِي بَكْر عِنْد خُزَاعَة قَبْل الْإِسْلَام بِمُدَّةٍ، فَلَمَّا كَانَتْ الْهُدْنَة الْمُنْعَقِدَة يَوْم الْحُدَيْبِيَة، أَمِنَ النَّاس بَعْضهمْ بَعْضًا، فَاغْتَنَمَ بَنُو الدَّيْل مِنْ بَنِي بَكْر - وَهُمْ الَّذِينَ كَانَ الدَّم لَهُمْ - تِلْكَ الْفُرْصَة وَغَفْلَة خُزَاعَة، وَأَرَادُوا إِدْرَاك ثَأْر بَنِي الْأَسْوَد بْن رزن، الَّذِينَ قَتَلَهُمْ خُزَاعَة، فَخَرَجَ نَوْفَل بْن مُعَاوِيَة الدَّيْلِيّ فِيمَنْ أَطَاعَهُ مِنْ بَنِي بَكْر بْن عَبْد مَنَاة، حَتَّى بَيَّتُوا خُزَاعَة وَاقْتَتَلُوا، وَأَعَانَتْ قُرَيْش بَنِي بَكْر بِالسِّلَاحِ، وَقَوْم مِنْ قُرَيْش أَعَانُوهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ، فَانْهَزَمَتْ خُزَاعَة إِلَى الْحَرَم عَلَى مَا هُوَ مَشْهُور مَسْطُور، فَكَانَ ذَلِكَ نَقْضًا لِلصُّلْحِ الْوَاقِع يَوْم الْحُدَيْبِيَة، فَخَرَجَ عَمْرو بْن سَالِم الْخُزَاعِيّ وَبُدَيْل بْن وَرْقَاء الْخُزَاعِيّ وَقَوْم مِنْ خُزَاعَة، فَقَدِمُوا عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَغِيثِينَ فِيمَا أَصَابَهُمْ بِهِ بَنُو بَكْر وَقُرَيْش، وَأَنْشَدَ عَمْرو بْن سَالِم فَقَالَ :
يَا رَبّ إِنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدَا حِلْف أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا
كُنْت لَنَا أَبًا وَكُنَّا وَلَدَا ثُمَّتْ أَسْلَمْنَا وَلَمْ نَنْزِع يَدَا
فَانْصُرْ هَدَاك اللَّه نَصْرًا عَتَدَا و/ وَادْعُ عِبَاد اللَّه يَأْتُوا مَدَدَا
فِيهِمْ رَسُول اللَّه قَدْ تَجَرَّدَا أَبْيَض مِثْل الشَّمْس يَنْمُو صُعُدَا
إِنْ سِيمَ خَسْفًا وَجْهه تَرَبَّدَا فِي فَيْلَقٍ كَالْبَحْرِ يَجْرِي مُزْبِدَا
إِنَّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوك الْمَوْعِدَا وَنَقَضُوا مِيثَاقك الْمُؤَكَّدَا
وَزَعَمُوا أَنْ لَسْت تَدْعُو أَحَدَا وَهُمْ أَذَلّ وَأَقَلّ عَدَدَا
هُمْ بَيَّتُونَا بِالْوَتِير هُجَّدَا وَقَتَلُونَا رُكَّعًا وَسُجَّدَا
فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( لَا نُصِرْتُ إِنْ لَمْ أَنْصُر كَعْب ).
ثُمَّ نَظَرَ إِلَى سَحَابَة فَقَالَ :( إِنَّهَا لَتَسْتَهِلّ لِنَصْرِ بَنِي كَعْب ) يَعْنِي خُزَاعَة.
وَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبُدَيْل بْن وَرْقَاء وَمَنْ مَعَهُ :( إِنَّ أَبَا سُفْيَان سَيَأْتِي لِيَشُدّ الْعَقْد وَيَزِيد فِي الصُّلْح وَسَيَنْصَرِفُ بِغَيْرِ حَاجَة ).
فَنَدِمَتْ قُرَيْش عَلَى مَا فَعَلَتْ، فَخَرَجَ أَبُو سُفْيَان إِلَى الْمَدِينَة لِيَسْتَدِيمَ الْعَقْد وَيَزِيد فِي الصُّلْح، فَرَجَعَ بِغَيْرِ حَاجَة كَمَا أَخْبَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوف مِنْ خَبَره.
وَتَجَهَّزَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَكَّة فَفَتَحَهَا اللَّه، وَذَلِكَ فِي سَنَة ثَمَان مِنْ الْهِجْرَة.
فَلَمَّا بَلَغَ هَوَازِن فَتْح مَكَّة جَمَعَهُمْ مَالِك بْن عَوْف النَّصْرِيّ، عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوف مَشْهُور مِنْ غَزَاة حُنَيْن.
وَسَيَأْتِي بَعْضهَا.
وَكَانَ الظَّفَر وَالنَّصْر لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ.
وَكَانَتْ وَقْعَة هَوَازِن يَوْم حُنَيْن فِي أَوَّل شَوَّال مِنْ السَّنَة الثَّامِنَة مِنْ الْهِجْرَة.
وَتَرَكَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسْم الْغَنَائِم مِنْ الْأَمْوَال وَالنِّسَاء، فَلَمْ يَقْسِمهَا حَتَّى أَتَى الطَّائِف، فَحَاصَرَهُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَة.
وَقِيلَ غَيْر ذَلِكَ.
وَنَصَبَ عَلَيْهِمْ الْمَنْجَنِيق وَرَمَاهُمْ بِهِ، عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوف مِنْ تِلْكَ الْغَزَاة.
ثُمَّ اِنْصَرَفَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْجِعْرَانَة، وَقَسَّمَ غَنَائِم حُنَيْن، عَلَى مَا هُوَ مَشْهُور مِنْ أَمْرهَا وَخَبَرهَا.
ثُمَّ اِنْصَرَفَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَفَرَّقُوا، وَأَقَامَ الْحَجّ لِلنَّاسِ عَتَّاب بْن أُسَيْد فِي تِلْكَ السَّنَة.
وَهُوَ أَوَّل أَمِير أَقَامَ الْحَجّ فِي الْإِسْلَام.
وَحَجَّ الْمُشْرِكُونَ عَلَى مَشَاعِرهمْ.
وَكَانَ عَتَّاب بْن أُسَيْد خَيِّرًا فَاضِلًا وَرِعًا.
وَقَدِمَ كَعْب بْن زُهَيْر بْن أَبِي سُلْمَى إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَامْتَدَحَهُ، وَأَقَامَ عَلَى رَأْسه بِقَصِيدَتِهِ الَّتِي أَوَّلهَا :
بَانَتْ سُعَاد فَقَلْبِي الْيَوْم مَتْبُول
وَأَنْشَدَهَا إِلَى آخِرهَا، وَذَكَرَ فِيهَا الْمُهَاجِرِينَ فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ - وَكَانَ قَبْل ذَلِكَ قَدْ حُفِظَ لَهُ هِجَاء فِي النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَابَ عَلَيْهِ الْأَنْصَار إِذْ لَمْ يَذْكُرهُمْ، فَغَدَا عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَصِيدَةٍ يَمْتَدِح فِيهَا الْأَنْصَار فَقَالَ :
مَنْ سَرَّهُ كَرَم الْحَيَاة فَلَا يَزَلْ فِي مِقْنَب مِنْ صَالِحِي الْأَنْصَار
وَرِثُوا الْمَكَارِم كَابِرًا عَنْ كَابِر إِنَّ الْخِيَار هُمُ بَنُو الْأَخْيَار
الْمُكْرِهِينَ السَّمْهَرِيّ بِأَذْرُعٍ كَسَوَافِل الْهِنْدِيّ غَيْر قِصَار
وَالنَّاظِرِينَ بِأَعْيُنٍ مُحْمَرَّة كَالْجَمْرِ غَيْر كَلِيلَة الْأَبْصَار
وَالْبَائِعِينَ نُفُوسهمْ لِنَبِيِّهِمْ لِلْمَوْتِ يَوْم تَعَانُق وَكِرَار
يَتَطَهَّرُونَ يَرَوْنَهُ نُسُكًا لَهُمْ بِدِمَاءِ مَنْ عَلِقُوا مِنْ الْكُفَّار
دَرِبُوا كَمَا دَرِبْت بِبَطْنِ خَفِيَّة غُلْب الرِّقَاب مِنْ الْأَسْوَد ضَوَار
وَإِذَا حَلَلْت لِيَمْنَعُوك إِلَيْهِمْ أَصْبَحْت عِنْد مَعَاقِل الْأَغْفَار
ضَرَبُوا عَلِيًّا يَوْم بَدْر ضَرْبَة دَانَتْ لِوَقْعَتِهَا جَمِيع نِزَار
لَوْ يَعْلَم الْأَقْوَام عِلْمِي كُلّه فِيهِمْ لَصَدَّقَنِي الَّذِينَ أُمَارِي
قَوْم إِذَا خَوَتْ النُّجُوم فَإِنَّهُمْ لِلطَّارِقِينَ النَّازِلِينَ مَقَارِي
ثُمَّ أَقَامَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ بَعْد اِنْصِرَافه مِنْ الطَّائِف ذَا الْحِجَّة وَالْمُحَرَّم وَصَفَر وَرَبِيع الْأَوَّل وَرَبِيع الْآخَر وَجُمَادَى الْأُولَى وَجُمَادَى الْآخِرَة، وَخَرَجَ فِي رَجَب مِنْ سَنَة تِسْع بِالْمُسْلِمِينَ إِلَى غَزْوَة الرُّوم غَزْوَة تَبُوك.
وَهِيَ آخِر غَزْوَة غَزَاهَا.
قَالَ اِبْن جُرَيْج عَنْ مُجَاهِد : لَمَّا اِنْصَرَفَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَبُوك أَرَادَ الْحَجّ ثُمَّ قَالَ :( إِنَّهُ يَحْضُر الْبَيْت عُرَاة مُشْرِكُونَ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ فَلَا أُحِبّ أَنْ أَحُجّ حَتَّى لَا يَكُون ذَلِكَ ).
فَأَرْسَلَ أَبَا بَكْر أَمِيرًا عَلَى الْحَجّ، وَبَعَثَ مَعَهُ بِأَرْبَعِينَ آيَة مِنْ صَدْر [ بَرَاءَة ] لِيَقْرَأهَا عَلَى أَهْل الْمَوْسِم.
فَلَمَّا خَرَجَ دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا وَقَالَ :( اُخْرُجْ بِهَذِهِ الْقُصَّة مِنْ صَدْر بَرَاءَة فَأَذِّنْ بِذَلِكَ فِي النَّاس إِذَا اِجْتَمَعُوا ).
فَخَرَجَ عَلِيّ عَلَى نَاقَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَضْبَاء حَتَّى أَدْرَكَ أَبَا بَكْر الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا بِذِي الْحُلَيْفَة.
فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْر لَمَّا رَآهُ : أَمِير أَوْ مَأْمُور ؟ فَقَالَ : بَلْ مَأْمُور ثُمَّ نَهَضَا، فَأَقَامَ أَبُو بَكْر لِلنَّاسِ الْحَجّ عَلَى مَنَازِلهمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّة.
فِي كِتَاب النَّسَائِيّ عَنْ جَابِر وَأَنَّ عَلِيًّا قَرَأَ عَلَى النَّاس [ بَرَاءَة ] حَتَّى خَتَمَهَا قَبْل يَوْم التَّرْوِيَة بِيَوْمٍ.
وَفِي يَوْم عَرَفَة وَفِي يَوْم النَّحْر عِنْد اِنْقِضَاء خُطْبَة أَبِي بَكْر فِي الثَّلَاثَة الْأَيَّام.
فَلَمَّا كَانَ يَوْم النَّفْر الْأَوَّل قَامَ أَبُو بَكْر فَخَطَبَ النَّاس، فَحَدَّثَهُمْ كَيْفَ يَنْفِرُونَ وَكَيْفَ يَرْمُونَ، يُعَلِّمهُمْ مَنَاسِكهمْ.
فَلَمَّا فَرَغَ قَامَ عَلِيّ فَقَرَأَ عَلَى النَّاس [ بَرَاءَة ] حَتَّى خَتَمَهَا.
وَقَالَ سُلَيْمَان بْن مُوسَى : لَمَّا خَطَبَ أَبُو بَكْر بِعَرَفَة قَالَ قُمْ يَا عَلِيّ فَأَدِّ رِسَالَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَ عَلِيّ فَفَعَلَ.
قَالَ : ثُمَّ وَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّ جَمِيع النَّاس لَمْ يُشَاهِدُوا خُطْبَة أَبِي بَكْر، فَجَعَلْت أَتَتَبَّع الْفَسَاطِيط يَوْم النَّحْر.
وَرَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ زَيْد بْن يُثَيْع قَالَ : سَأَلْت عَلِيًّا بِأَيِّ شَيْء بُعِثْت فِي الْحَجّ ؟ قَالَ : بُعِثْت بِأَرْبَعٍ : أَلَّا يَطُوف بِالْبَيْتِ عُرْيَان، وَمَنْ كَانَ بَيْنه وَبَيْن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْد فَهُوَ إِلَى مُدَّته، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْد فَأَجَله أَرْبَعَة أَشْهُر، وَلَا يَدْخُل الْجَنَّة إِلَّا نَفْس مُؤْمِنَة، وَلَا يَجْتَمِع الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ بَعْد عَامهمْ هَذَا.
قَالَ : هَذَا حَدِيث حَسَن صَحِيح.
وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ وَقَالَ : فَكُنْت أُنَادِي حَتَّى صَحِلَ صَوْتِي.
قَالَ أَبُو عُمَر : بُعِثَ عَلِيّ لَيَنْبِذ إِلَى كُلّ ذِي عَهْد عَهْده، وَيَعْهَد إِلَيْهِمْ أَلَّا يَحُجّ بَعْد الْعَام مُشْرِك، وَلَا يَطُوف بِالْبَيْتِ عُرْيَان.
وَأَقَامَ الْحَجّ فِي ذَلِكَ الْعَام سَنَة تِسْع أَبُو بَكْر.
ثُمَّ حَجّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَابِل حَجَّته الَّتِي لَمْ يَحُجّ غَيْرهَا مِنْ الْمَدِينَة، فَوَقَعَتْ حَجَّته فِي ذِي الْحِجَّة فَقَالَ :
( إِنَّ الزَّمَان قَدْ اِسْتَدَارَ ) الْحَدِيث، عَلَى مَا يَأْتِي فِي آيَة النَّسِيء بَيَانه.
وَثَبَتَ الْحَجّ فِي ذِي الْحِجَّة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.
وَذَكَرَ مُجَاهِد : أَنَّ أَبَا بَكْر حَجّ فِي ذِي الْقِعْدَة مِنْ سَنَة تِسْع.
اِبْن الْعَرَبِيّ : وَكَانَتْ الْحِكْمَة فِي إِعْطَاء [ بَرَاءَة ] لِعَلِيٍّ أَنَّ بَرَاءَة تَضَمَّنَتْ نَقْض الْعَهْد الَّذِي كَانَ عَقَدَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتْ سِيرَة الْعَرَب أَلَّا يَحُلّ الْعَقْد إِلَّا الَّذِي عَقَدَهُ أَوْ رَجُل مِنْ أَهْل بَيْته، فَأَرَادَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْطَع أَلْسِنَة الْعَرَب بِالْحُجَّةِ، وَيُرْسِل اِبْن عَمّه الْهَاشِمِيّ مِنْ بَيْته يَنْقُض الْعَهْد، حَتَّى لَا يَبْقَى لَهُمْ مُتَكَلِّم.
قَالَ مَعْنَاهُ الزَّجَّاج.
الثَّالِثَة : قَالَ الْعُلَمَاء : وَتَضَمَّنَتْ الْآيَة جَوَاز قَطْع الْعَهْد بَيْننَا وَبَيْن الْمُشْرِكِينَ.
وَلِذَلِكَ حَالَتَانِ : حَالَة تَنْقَضِي الْمُدَّة بَيْننَا وَبَيْنهمْ فَنُؤْذِنهُمْ بِالْحَرْبِ.
وَالْإِيذَان اِخْتِيَار.
وَالثَّانِيَة : أَنْ نَخَاف مِنْهُمْ غَدْرًا، فَنَنْبِذ إِلَيْهِمْ عَهْدهمْ كَمَا سَبَقَ.
اِبْن عَبَّاس : وَالْآيَة مَنْسُوخَة فَإِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَاهَدَ ثُمَّ نَبَذَ الْعَهْد لَمَّا أُمِرَ بِالْقِتَالِ.
وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ
" وَأَذَان " الْأَذَان : الْإِعْلَام لُغَة مِنْ غَيْر خِلَاف.
وَهُوَ عَطْف عَلَى " بَرَاءَة ".
" إِلَى النَّاس " النَّاس هُنَا جَمِيع الْخَلْق.
" يَوْم الْحَجّ الْأَكْبَر " ظَرْف، وَالْعَامِل فِيهِ " أَذَان ".
وَإِنْ كَانَ قَدْ وُصِفَ بِقَوْلِهِ :" مِنْ اللَّه "، فَإِنَّ رَائِحَة الْفِعْل فِيهِ بَاقِيَة، وَهِيَ عَامِلَة فِي الظُّرُوف.
وَقِيلَ : الْعَامِل فِيهِ " مُخْزِي " وَلَا يَصِحّ عَمَل " أَذَان "، لِأَنَّهُ قَدْ وُصِفَ فَخَرَجَ عَنْ حُكْم الْفِعْل.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْحَجّ الْأَكْبَر، فَقِيلَ : يَوْم عَرَفَة.
رُوِيَ عَنْ عُمَر وَعُثْمَان وَابْن عَبَّاس وَطَاوُس وَمُجَاهِد.
وَهُوَ مَذْهَب أَبِي حَنِيفَة، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ.
وَعَنْ عَلِيّ وَابْن عَبَّاس أَيْضًا وَابْن مَسْعُود وَابْن أَبِي أَوْفَى وَالْمُغِيرَة بْن شُعْبَة أَنَّهُ يَوْم النَّحْر.
وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيّ.
وَرَوَى اِبْن عُمَر أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ يَوْم النَّحْر فِي الْحَجَّة الَّتِي حَجَّ فِيهَا فَقَالَ :( أَيّ يَوْم هَذَا ) فَقَالُوا : يَوْم النَّحْر فَقَالَ :( هَذَا يَوْم الْحَجّ الْأَكْبَر ).
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد.
وَخَرَّجَ الْبُخَارِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : بَعَثَنِي أَبُو بَكْر الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِيمَنْ يُؤَذِّن يَوْم النَّحْر بِمِنًى : لَا يَحُجّ بَعْد الْعَام مُشْرِك وَلَا يَطُوف بِالْبَيْتِ عُرْيَان.
وَيَوْم الْحَجّ الْأَكْبَر يَوْم النَّحْر.
وَإِنَّمَا قِيلَ الْأَكْبَر مِنْ أَجْل قَوْل النَّاس : الْحَجّ الْأَصْغَر.
فَنَبَذَ أَبُو بَكْر إِلَى النَّاس فِي ذَلِكَ الْعَام، فَلَمْ يَحُجّ عَام حَجَّة الْوَدَاع الَّذِي حَجَّ فِيهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُشْرِك.
وَقَالَ اِبْن أَبِي أَوْفَى : يَوْم النَّحْر يَوْم الْحَجّ الْأَكْبَر، يُهْرَاق فِيهِ الدَّم، وَيُوضَع فِيهِ الشَّعْر، وَيُلْقَى فِيهِ التَّفَث، وَتَحِلّ فِيهِ الْحُرُم.
وَهَذَا مَذْهَب مَالِك، لِأَنَّ يَوْم النَّحْر فِيهِ كَالْحَجِّ كُلّه، لِأَنَّ الْوُقُوف إِنَّمَا هُوَ لَيْلَته، وَالرَّمْي وَالنَّحْر وَالْحَلْق وَالطَّوَاف فِي صَبِيحَته.
اِحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِحَدِيثِ مَخْرَمَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( يَوْم الْحَجّ الْأَكْبَر يَوْم عَرَفَة ).
رَوَاهُ إِسْمَاعِيل الْقَاضِي.
وَقَالَ الثَّوْرِيّ وَابْن جُرَيْج : الْحَجّ الْأَكْبَر أَيَّام مِنًى كُلّهَا.
وَهَذَا كَمَا يُقَال : يَوْم صِفِّينَ وَيَوْم الْجَمَل وَيَوْم بُعَاث، فَيُرَاد بِهِ الْحِين وَالزَّمَان لَا نَفْس الْيَوْم.
وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِد : الْحَجّ الْأَكْبَر الْقِرَان، وَالْأَصْغَر الْإِفْرَاد.
وَهَذَا لَيْسَ مِنْ الْآيَة فِي شَيْء.
وَعَنْهُ وَعَنْ عَطَاء : الْحَجّ الْأَكْبَر الَّذِي فِيهِ الْوُقُوف بِعَرَفَة، وَالْأَصْغَر الْعُمْرَة.
وَعَنْ مُجَاهِد أَيْضًا : أَيَّام الْحَجّ كُلّهَا.
وَقَالَ الْحَسَن وَعَبْد اللَّه بْن الْحَارِث بْن نَوْفَل : إِنَّمَا سُمِّيَ يَوْم الْحَجّ الْأَكْبَر لِأَنَّهُ حَجَّ ذَلِكَ الْعَام الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ، وَاتَّفَقَتْ فِيهِ يَوْمئِذٍ أَعْيَاد الْمِلَل : الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس.
قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا ضَعِيف أَنْ يَصِفهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابه بِالْأَكْبَرِ لِهَذَا.
وَعَنْ الْحَسَن أَيْضًا : إِنَّمَا سُمِّيَ الْأَكْبَر لِأَنَّهُ حَجَّ فِيهِ أَبُو بَكْر وَنُبِذَتْ فِيهِ الْعُهُود.
وَهَذَا الَّذِي يُشْبِه نَظَر الْحَسَن.
وَقَالَ اِبْن سِيرِينَ : يَوْم الْحَجّ الْأَكْبَر الْعَام الَّذِي حَجَّ فِيهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّة الْوَدَاع، وَحَجَّتْ مَعَهُ فِيهِ الْأُمَم.
أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ
" أَنَّ " بِالْفَتْحِ فِي مَوْضِع نَصْب.
وَالتَّقْدِير بِأَنَّ اللَّه.
وَمَنْ قَرَأَ بِالْكَسْرِ قَدَّرَهُ بِمَعْنَى قَالَ إِنَّ اللَّه " بَرِيء " خَبَر إِنَّ.
" وَرَسُولُهُ " عَطْف عَلَى الْمَوْضِع، وَإِنْ شِئْت عَلَى الْمُضْمَر الْمَرْفُوع فِي " بَرِيء ".
كِلَاهُمَا حَسَن ; لِأَنَّهُ قَدْ طَالَ الْكَلَام.
وَإِنْ شِئْت عَلَى الِابْتِدَاء وَالْخَبَر مَحْذُوف ; التَّقْدِير : وَرَسُوله بَرِيء مِنْهُمْ.
وَمَنْ قَرَأَ " وَرَسُوله " بِالنَّصْبِ - وَهُوَ الْحَسَن وَغَيْره - عَطَفَهُ عَلَى اِسْم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَى اللَّفْظ.
وَفِي الشَّوَاذّ " وَرَسُولِهِ " بِالْخَفْضِ عَلَى الْقَسَم، أَيْ وَحَقّ رَسُولِهِ ; وَرُوِيَتْ عَنْ الْحَسَن.
وَقَدْ تَقَدَّمَتْ قِصَّة عُمَر فِيهَا أَوَّل الْكِتَاب.
فَإِنْ تُبْتُمْ
أَيْ عَنْ الشِّرْك.
فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ
أَيْ أَنْفَع لَكُمْ.
وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ
أَيْ عَنْ الْإِيمَان.
فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
أَيْ فَائِتِيهِ ; فَإِنَّهُ مُحِيط بِكُمْ وَمُنْزِل عِقَابه عَلَيْكُمْ.
إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
فِي مَوْضِع نَصْب بِالِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِل، الْمَعْنَى : أَنَّ اللَّه بَرِيء مِنْ الْمُشْرِكِينَ إِلَّا مِنْ الْمُعَاهِدِينَ فِي مُدَّة عَهْدهمْ.
وَقِيلَ : الِاسْتِثْنَاء مُنْقَطِع، أَيْ أَنَّ اللَّه بَرِيء مِنْهُمْ وَلَكِنَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ فَثَبَتُوا عَلَى الْعَهْد فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدهمْ.
ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا
يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَهْل الْعَهْد مَنْ خَاسَ بِعَهْدِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ ثَبَتَ عَلَى الْوَفَاء، فَأَذِنَ اللَّه سُبْحَانه لِنَبِيِّيهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَقْضِ عَهْد مَنْ خَاسَ، وَأُمِرَ بِالْوَفَاءِ لِمَنْ بَقِيَ عَلَى عَهْده إِلَى مُدَّته.
وَمَعْنَى " لَمْ يَنْقُصُوكُمْ " أَيْ مِنْ شُرُوط الْعَهْد شَيْئًا.
وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا
لَمْ يُعَاوِنُوا.
وَقَرَأَ عِكْرِمَة وَعَطَاء بْن يَسَار " ثُمَّ لَمْ يَنْقُضُوكُمْ " بِالضَّادِ مُعْجَمَة عَلَى حَذْف مُضَاف، التَّقْدِير ثُمَّ لَمْ يَنْقُضُوا عَهْدهمْ.
يُقَال : إِنَّ هَذَا مَخْصُوص يُرَاد بِهِ بَنُو ضَمْرَة خَاصَّة.
فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ
أَيْ وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَر مِنْ أَرْبَعَة أَشْهُر.
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ
أَيْ خَرَجَ، وَسَلَخْت الشَّهْر إِذَا صِرْت فِي أَوَاخِر أَيَّامه، تَسْلَخهُ سَلْخًا وَسُلُوخًا بِمَعْنَى خَرَجْت مِنْهُ.
وَقَالَ الشَّاعِر : ش إِذَا مَا سَلَخْت الشَّهْر أَهْلَلْت قَبْله و كَفَى قَاتِلًا سَلْخِي الشُّهُور وَإِهْلَالِي ش وَانْسَلَخَ الشَّهْر وَانْسَلَخَ النَّهَار مِنْ اللَّيْل الْمُقْبِل.
وَسَلَخَتْ الْمَرْأَة دِرْعهَا نَزَعَتْهُ وَفِي التَّنْزِيل :" وَآيَة لَهُمْ اللَّيْل نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَار " [ يس : ٣٧ ].
وَنَخْلَة مِسْلَاخ، وَهِيَ الَّتِي يَنْتَثِر بُسْرهَا أَخْضَر.
وَالْأَشْهُر الْحُرُم فِيهَا لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ : قِيلَ هِيَ الْأَشْهُر الْمَعْرُوفَة، ثَلَاثَة سَرْد وَوَاحِد فَرْد.
قَالَ الْأَصَمّ : أُرِيد بِهِ مَنْ لَا عَقْد لَهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فَأَوْجَبَ أَنْ يُمْسَك عَنْ قِتَالهمْ حَتَّى يَنْسَلِخ الْحُرُم، وَهُوَ مُدَّة خَمْسِينَ يَوْمًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ اِبْن عَبَّاس، لِأَنَّ النِّدَاء كَانَ بِذَلِكَ يَوْم النَّحْر.
وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا.
وَقِيلَ : شُهُور الْعَهْد أَرْبَعَة، قَالَهُ مُجَاهِد وَابْن إِسْحَاق وَابْن زَيْد وَعَمْرو بْن شُعَيْب.
وَقِيلَ لَهَا حُرُم لِأَنَّ اللَّه حَرَّمَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِيهَا دِمَاء الْمُشْرِكِينَ وَالتَّعَرُّض لَهُمْ إِلَّا عَلَى سَبِيل الْخَيْر.
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ
عَامّ فِي كُلّ مُشْرِك، لَكِنَّ السُّنَّة خَصَّتْ مِنْهُ مَا تَقَدَّمَ بَيَانه فِي سُورَة [ الْبَقَرَة ] مِنْ اِمْرَأَة وَرَاهِب وَصَبِيّ وَغَيْرهمْ.
وَقَالَ اللَّه تَعَالَى فِي أَهْل الْكِتَاب :" حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَة ".
إِلَّا أَنَّهُ يَجُوز أَنْ يَكُون لَفْظ الْمُشْرِكِينَ لَا يَتَنَاوَل أَهْل الْكِتَاب، وَيَقْتَضِي ذَلِكَ مَنْع أَخْذ الْجِزْيَة مِنْ عَبَدَة الْأَوْثَان وَغَيْرهمْ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه.
وَاعْلَمْ أَنَّ مُطْلَق قَوْله :" اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ " يَقْتَضِي جَوَاز قَتْلهمْ بِأَيِّ وَجْه كَانَ، إِلَّا أَنَّ الْأَخْبَار وَرَدَتْ بِالنَّهْيِ عَنْ الْمُثْلَة.
وَمَعَ هَذَا فَيَجُوز أَنْ يَكُون الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ حِين قَتَلَ أَهْل الرِّدَّة بِالْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ، وَبِالْحِجَارَةِ وَبِالرَّمْيِ مِنْ رُءُوس الْجِبَال، وَالتَّنْكِيس فِي الْآبَار، تَعَلَّقَ بِعُمُومِ الْآيَة.
وَكَذَلِكَ إِحْرَاق عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَوْمًا مِنْ أَهْل الرِّدَّة يَجُوز أَنْ يَكُون مَيْلًا إِلَى هَذَا الْمَذْهَب، وَاعْتِمَادًا عَلَى عُمُوم اللَّفْظ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ
عَامّ فِي كُلّ مَوْضِع.
وَخَصَّ أَبُو حَنِيفَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ الْمَسْجِد الْحَرَام، كَمَا سَبَقَ فِي سُورَة " الْبَقَرَة " ثُمَّ اِخْتَلَفُوا، فَقَالَ الْحُسَيْن بْن الْفَضْل : نَسَخَتْ هَذِهِ كُلَّ آيَة فِي الْقُرْآن فِيهَا ذِكْر الْإِعْرَاض وَالصَّبْر عَلَى أَذَى الْأَعْدَاء.
وَقَالَ الضَّحَّاك وَالسُّدِّيّ وَعَطَاء : هِيَ مَنْسُوخَة بِقَوْلِهِ :" فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء " [ مُحَمَّد : ٤ ].
وَأَنَّهُ لَا يُقْتَل أَسِير صَبْرًا، إِمَّا أَنْ يُمَنّ عَلَيْهِ وَإِمَّا أَنْ يُفَادَى.
وَقَالَ مُجَاهِد وَقَتَادَة : بَلْ هِيَ نَاسِخَة لِقَوْلِهِ تَعَالَى :" فَإِمَّا مَنًّا بَعْد وَإِمَّا فِدَاء " وَأَنَّهُ لَا يَجُوز فِي الْأُسَارَى مِنْ الْمُشْرِكِينَ إِلَّا الْقَتْل.
وَقَالَ اِبْن زَيْد : الْآيَتَانِ مُحْكَمَتَانِ.
وَهُوَ الصَّحِيح، لِأَنَّ الْمَنّ وَالْقَتْل وَالْفِدَاء لَمْ يَزَلْ مِنْ حُكْم رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ مِنْ أَوَّل حَرْب حَارَبَهُمْ، وَهُوَ يَوْم بَدْر كَمَا سَبَقَ.
وَخُذُوهُمْ
وَالْأَخْذ هُوَ الْأَسْر.
وَالْأَسْر إِنَّمَا يَكُون لِلْقَتْلِ أَوْ الْفِدَاء أَوْ الْمَنّ عَلَى مَا يَرَاهُ الْإِمَام.
وَاحْصُرُوهُمْ
يُرِيد عَنْ التَّصَرُّف إِلَى بِلَادكُمْ وَالدُّخُول إِلَيْكُمْ، إِلَّا أَنْ تَأْذَنُوا لَهُمْ فَيَدْخُلُوا إِلَيْكُمْ بِأَمَانٍ.
وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ
الْمَرْصَد : الْمَوْضِع الَّذِي يُرْقَب فِيهِ الْعَدُوّ، يُقَال : رَصَدْت فُلَانًا أَرْصُدهُ، أَيْ رَقَبْته.
أَيْ اُقْعُدُوا لَهُمْ فِي مَوَاضِع الْغِرَّة حَيْثُ يُرْصَدُونَ.
قَالَ عَامِر بْن الطُّفَيْل :
وَلَقَدْ عَلِمْت وَمَا إِخَالك نَاسِيَا أَنَّ الْمَنِيَّة لِلْفَتَى بِالْمَرْصَدِ
وَقَالَ عَدِيّ :
أَعَاذِل إِنَّ الْجَهْل مِنْ لَذَّة الْفَتَى وَإِنَّ الْمَنَايَا لِلنُّفُوسِ بِمَرْصَدِ
وَفِي هَذَا دَلِيل عَلَى جَوَاز اِغْتِيَالهمْ قَبْل الدَّعْوَة.
وَنَصْب " كُلّ " عَلَى الظَّرْف، وَهُوَ اِخْتِيَار الزَّجَّاج، وَيُقَال : ذَهَبْت طَرِيقًا وَذَهَبْت كُلّ طَرِيق.
أَوْ بِإِسْقَاطِ الْخَافِض، التَّقْدِير : فِي كُلّ مَرْصَد وَعَلَى كُلّ مَرْصَد، فَيُجْعَل الْمَرْصَد اِسْمًا لِلطَّرِيقِ.
وَخَطَّأَ أَبُو عَلِيٍّ الزَّجَّاجَ فِي جَعْله الطَّرِيق ظَرْفًا وَقَالَ : الطَّرِيق مَكَان مَخْصُوص كَالْبَيْتِ وَالْمَسْجِد، فَلَا يَجُوز حَذْف حَرْف الْجَرّ مِنْهُ إِلَّا فِيمَا وَرَدَ فِيهِ الْحَذْف سَمَاعًا، كَمَا حَكَى سِيبَوَيْهِ : دَخَلْت الشَّام وَدَخَلْت الْبَيْت، وَكَمَا قِيلَ :
كَمَا عَسَلَ الطَّرِيقَ الثَّعْلَبُ
فَإِنْ تَابُوا
أَيْ مِنْ الشِّرْك.
وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
هَذِهِ الْآيَة فِيهَا تَأَمُّل، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى عَلَّقَ الْقَتْل عَلَى الشِّرْك، ثُمَّ قَالَ :" فَإِنْ تَابُوا ".
وَالْأَصْل أَنَّ الْقَتْل مَتَى كَانَ الشِّرْك يَزُول بِزَوَالِهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي زَوَال الْقَتْل بِمُجَرَّدِ التَّوْبَة، مِنْ غَيْر اِعْتِبَار إِقَامَة الصَّلَاة وَإِيتَاء الزَّكَاة، وَلِذَلِكَ سَقَطَ الْقَتْل بِمُجَرَّدِ التَّوْبَة قَبْل وَقْت الصَّلَاة وَالزَّكَاة.
وَهَذَا بَيِّن فِي هَذَا الْمَعْنَى، غَيْر أَنَّ اللَّه تَعَالَى ذَكَرَ التَّوْبَة وَذَكَرَ مَعَهَا شَرْطَيْنِ آخَرَيْنِ، فَلَا سَبِيل إِلَى إِلْغَائِهِمَا.
نَظِيره قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( أُمِرْت أَنْ أُقَاتِل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَيُقِيمُوا الصَّلَاة وَيُؤْتُوا الزَّكَاة فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابهمْ عَلَى اللَّه ).
وَقَالَ أَبُو بَكْر الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ :( وَاَللَّه لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْن الصَّلَاة وَالزَّكَاة، فَإِنَّ الزَّكَاة حَقّ الْمَال ) وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : رَحِمَ اللَّه أَبَا بَكْر مَا كَانَ أَفْقَهه.
وَقَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : فَانْتَظَمَ الْقُرْآن وَالسُّنَّة وَاطَّرَدَا.
وَلَا خِلَاف بَيْن الْمُسْلِمِينَ أَنَّ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاة وَسَائِر الْفَرَائِض مُسْتَحِلًّا كَفَرَ، وَمَنْ تَرَكَ السُّنَن مُتَهَاوِنًا فَسَقَ، وَمَنْ تَرَكَ النَّوَافِل لَمْ يُحَرَّج، إِلَّا أَنْ يَجْحَد فَضْلهَا فَيَكْفُر، لِأَنَّهُ يَصِير رَادًّا عَلَى الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام مَا جَاءَ بِهِ وَأَخْبَرَ عَنْهُ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ تَرَكَ الصَّلَاة مِنْ غَيْر جَحْد لَهَا وَلَا اِسْتِحْلَال، فَرَوَى يُونُس بْن عَبْد الْأَعْلَى قَالَ : سَمِعْت اِبْن وَهْب يَقُول قَالَ مَالِك : مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ وَأَبَى أَنْ يُصَلِّي قُتِلَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْر وَجَمِيع أَصْحَاب الشَّافِعِيّ.
وَهُوَ قَوْل حَمَّاد بْن زَيْد وَمَكْحُول وَوَكِيع.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : يُسْجَن وَيُضْرَب وَلَا يُقْتَل، وَهُوَ قَوْل اِبْن شِهَاب وَبِهِ يَقُول دَاوُد بْن عَلِيّ.
وَمِنْ حُجَّتهمْ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( أُمِرْت أَنْ أُقَاتِل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا اللَّه فَإِذَا قَالُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ إِلَّا بِحَقِّهَا ).
وَقَالُوا : حَقّهَا الثَّلَاث الَّتِي قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( لَا يَحِلّ دَم اِمْرِئٍ مُسْلِم إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاث كُفْر بَعْد إِيمَان أَوْ زِنًى بَعْد إِحْصَان أَوْ قَتْل نَفْس بِغَيْرِ نَفْس ).
وَذَهَبَتْ جَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ إِلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ صَلَاة وَاحِدَة مُتَعَمِّدًا حَتَّى يَخْرُج وَقْتهَا لِغَيْرِ عُذْر، وَأَبَى مِنْ أَدَائِهَا وَقَضَائِهَا وَقَالَ لَا أُصَلِّي فَإِنَّهُ كَافِر، وَدَمه وَمَاله حَلَالَان، وَلَا يَرِثهُ وَرَثَته مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَيُسْتَتَاب، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ، وَحُكْم مَاله كَحُكْمِ مَال الْمُرْتَدّ، وَهُوَ قَوْل إِسْحَاق.
قَالَ إِسْحَاق : وَكَذَلِكَ كَانَ رَأْي أَهْل الْعِلْم مِنْ لَدُنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى زَمَاننَا هَذَا.
وَقَالَ اِبْن خُوَيْز مِنْدَاد : وَاخْتَلَفَ أَصْحَابنَا مَتَى يُقْتَل تَارِك الصَّلَاة، فَقَالَ بَعْضهمْ فِي آخِر الْوَقْت الْمُخْتَار، وَقَالَ بَعْضهمْ آخِر وَقْت الضَّرُورَة، وَهُوَ الصَّحِيح مِنْ ذَلِكَ.
وَذَلِكَ أَنْ يَبْقَى مِنْ وَقْت الْعَصْر أَرْبَع رَكَعَات إِلَى مَغِيب الشَّمْس، وَمِنْ اللَّيْل أَرْبَع رَكَعَات لِوَقْتِ الْعِشَاء، وَمِنْ الصُّبْح رَكْعَتَانِ قَبْل طُلُوع الشَّمْس.
وَقَالَ إِسْحَاق : وَذَهَاب الْوَقْت أَنْ يُؤَخِّر الظُّهْر إِلَى غُرُوب الشَّمْس وَالْمَغْرِب إِلَى طُلُوع الْفَجْر.
هَذِهِ الْآيَة دَالَّة عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ : قَدْ تُبْت أَنَّهُ لَا يُجْتَزَأ بِقَوْلِهِ حَتَّى يَنْضَاف إِلَى ذَلِكَ أَفْعَاله الْمُحَقِّقَة لِلتَّوْبَةِ، لِأَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ شَرَطَ هُنَا مَعَ التَّوْبَة إِقَام الصَّلَاة وَإِيتَاء الزَّكَاة لِيُحَقِّق بِهِمَا التَّوْبَة.
وَقَالَ فِي آيَة الرِّبَا " وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوس أَمْوَالكُمْ " [ الْبَقَرَة : ٢٧٩ ].
وَقَالَ :" إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا " [ الْبَقَرَة : ١٦٠ ] وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى هَذَا فِي سُورَة الْبَقَرَة.
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ
فِيهِ أَرْبَع مَسَائِل : الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :" وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ " أَيْ مِنْ الَّذِينَ أَمَرْتُك بِقِتَالِهِمْ.
" اِسْتَجَارَك " أَيْ سَأَلَ جِوَارك، أَيْ أَمَانك وَذِمَامك، فَأَعْطِهِ إِيَّاهُ لِيَسْمَع الْقُرْآن، أَيْ يَفْهَم أَحْكَامه وَأَوَامِره وَنَوَاهِيه.
فَإِنْ قَبِلَ أَمْرًا فَحَسَن، وَإِنْ أَبَى فَرَدَّهُ إِلَى مَأْمَنه.
وَهَذَا مَا لَا خِلَاف فِيهِ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
قَالَ مَالِك : إِذَا وُجِدَ الْحَرْبِيّ فِي طَرِيق بِلَاد الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ : جِئْت أَطْلُب الْأَمَان.
قَالَ مَالِك : هَذِهِ أُمُور مُشْتَبِهَة، وَأَرَى أَنْ يُرَدّ إِلَى مَأْمَنه.
وَقَالَ اِبْن قَاسِم : وَكَذَلِكَ الَّذِي يُوجَد وَقَدْ نَزَلَ تَاجِرًا بِسَاحِلِنَا فَيَقُول : ظَنَنْت أَلَّا تَعْرِضُوا لِمَنْ جَاءَ تَاجِرًا حَتَّى يَبِيع.
وَظَاهِر الْآيَة إِنَّمَا هِيَ فِيمَنْ يُرِيد سَمَاع الْقُرْآن وَالنَّظَر فِي الْإِسْلَام، فَأَمَّا الْإِجَارَة لِغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّمَا هِيَ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ وَالنَّظَر فِيمَا تَعُود عَلَيْهِمْ بِهِ مَنْفَعَته.
الثَّانِيَة : وَلَا خِلَاف بَيْن كَافَّة الْعُلَمَاء أَنَّ أَمَان السُّلْطَان جَائِز، لِأَنَّهُ مُقَدَّم لِلنَّظَرِ وَالْمَصْلَحَة، نَائِب عَنْ الْجَمِيع فِي جَلْب الْمَنَافِع وَدَفْع الْمَضَارّ.
وَاخْتَلَفُوا فِي أَمَان غَيْر الْخَلِيفَة، فَالْحُرّ يَمْضِي أَمَانه عِنْد كَافَّة الْعُلَمَاء.
إِلَّا أَنَّ اِبْن حَبِيب قَالَ : يَنْظُر الْإِمَام فِيهِ.
وَأَمَّا الْعَبْد فَلَهُ الْأَمَان فِي مَشْهُور الْمَذْهَب، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْرِيّ وَأَبُو ثَوْر وَدَاوُد وَمُحَمَّد بْن الْحَسَن.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : لَا أَمَان لَهُ، وَهُوَ الْقَوْل الثَّانِي لِعُلَمَائِنَا.
وَالْأَوَّل أَصَحّ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ ).
قَالُوا : فَلَمَّا قَالَ ( أَدْنَاهُمْ ) جَازَ أَمَان الْعَبْد، وَكَانَتْ الْمَرْأَة الْحُرَّة أَحْرَى بِذَلِكَ، وَلَا اِعْتِبَار بِعِلَّةِ ( لَا يُسْهَم لَهُ ).
وَقَالَ عَبْد الْمَلِك بْن الْمَاجِشُون : لَا يَجُوز أَمَان الْمَرْأَة إِلَّا أَنْ يُجِيزهُ الْإِمَام، فَشَذَّ بِقَوْلِهِ عَنْ الْجُمْهُور.
وَأَمَّا الصَّبِيّ فَإِذَا أَطَاقَ الْقِتَال جَازَ أَمَانه، لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَة الْمُقَاتِلَة، وَدَخَلَ فِي الْفِئَة الْحَامِيَة.
وَقَدْ ذَهَبَ الضَّحَّاك وَالسُّدِّيّ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَة مَنْسُوخَة بِقَوْلِهِ :" فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ".
وَقَالَ الْحَسَن : هِيَ مُحْكَمَة سُنَّة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَقَالَهُ مُجَاهِد.
وَقِيلَ : هَذِهِ الْآيَة إِنَّمَا كَانَ حُكْمهَا بَاقِيًا مُدَّة الْأَرْبَعَة الْأَشْهُر الَّتِي ضُرِبَتْ لَهُمْ أَجَلًا، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ.
وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : جَاءَ رَجُل مِنْ الْمُشْرِكِينَ إِلَى عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب فَقَالَ : إِنْ أَرَادَ الرَّجُل مِنَّا أَنْ يَأْتِي مُحَمَّدًا بَعْد اِنْقِضَاء الْأَرْبَعَة الْأَشْهُر فَيَسْمَع كَلَام اللَّه أَوْ يَأْتِيه بِحَاجَةٍ قُتِلَ فَقَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب : لَا، لِأَنَّ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُول :" وَإِنْ أَحَد مِنْ الْمُشْرِكِينَ اِسْتَجَارَك فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَع كَلَام اللَّه ".
وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح.
وَالْآيَة مُحْكَمَة.
الثَّالِثَة : قَوْله تَعَالَى :" وَإِنْ أَحَد " " أَحَد " مَرْفُوع بِإِضْمَارِ فِعْل كَاَلَّذِي بَعْده.
وَهَذَا حَسَن فِي " إِنْ " وَقَبِيح فِي أَخَوَاتهَا.
وَمَذْهَب سِيبَوَيْهِ فِي الْفَرْق بَيْن " إِنْ " وَأَخَوَاتهَا، أَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ أُمّ حُرُوف الشَّرْط خُصَّتْ بِهَذَا، وَلِأَنَّهَا لَا تَكُون فِي غَيْره.
وَقَالَ مُحَمَّد بْن يَزِيد : أَمَّا قَوْله - لِأَنَّهَا لَا تَكُون فِي غَيْره - فَغَلَط، لِأَنَّهَا تَكُون بِمَعْنَى - مَا - وَمُخَفَّفَة مِنْ الثَّقِيلَة وَلَكِنَّهَا مُبْهَمَة، وَلَيْسَ كَذَا غَيْرهَا.
وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ :
لَا تَجْزَعِي إِنْ مُنْفِسًا أَهْلَكْته وَإِذَا هَلَكْت فَعِنْد ذَلِكَ فَاجْزَعِي
الرَّابِعَة : قَالَ الْعُلَمَاء : فِي قَوْله تَعَالَى :" حَتَّى يَسْمَع كَلَام اللَّه " دَلِيل عَلَى أَنَّ كَلَام اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مَسْمُوع عِنْد قِرَاءَة الْقَارِئ، قَالَهُ الشَّيْخ أَبُو الْحَسَن وَالْقَاضِي أَبُو بَكْر وَأَبُو الْعَبَّاس الْقَلَانِسِيّ وَابْن مُجَاهِد وَأَبُو إِسْحَاق الْإِسْفِرَايِينِيّ وَغَيْرهمْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى :" حَتَّى يَسْمَع كَلَام اللَّه " فَنَصَّ عَلَى أَنَّ كَلَامه مَسْمُوع عِنْد قِرَاءَة الْقَارِئ لِكَلَامِهِ.
وَيَدُلّ عَلَيْهِ إِجْمَاع الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الْقَارِئ إِذَا قَرَأَ فَاتِحَة الْكِتَاب أَوْ سُورَة قَالُوا : سَمِعْنَا كَلَام اللَّه.
وَفَرَّقُوا بَيْن أَنْ يَقْرَأ كَلَام اللَّه تَعَالَى وَبَيْن أَنْ يَقْرَأ شِعْر اِمْرِئِ الْقَيْس.
وَقَدْ مَضَى فِي سُورَة [ الْبَقَرَة ] مَعْنَى كَلَام اللَّه تَعَالَى، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِحَرْفٍ وَلَا صَوْت، وَالْحَمْد لِلَّهِ.
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
كَيْفَ هُنَا لِلتَّعَجُّبِ، كَمَا تَقُول : كَيْفَ يَسْبِقنِي فُلَان أَيْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْبِقنِي.
و " عَهْد " اِسْم يَكُون.
وَفِي الْآيَة إِضْمَار، أَيْ كَيْفَ يَكُون لِلْمُشْرِكِينَ عَهْد مَعَ إِضْمَار الْغَدْر، كَمَا قَالَ :
وَخَبَّرْتُمَانِي إِنَّمَا الْمَوْت بِالْقُرَى فَكَيْفَ وَهَاتَا هَضْبَة وَكَثِيب
التَّقْدِير : فَكَيْفَ مَاتَ، عَنْ الزَّجَّاج.
وَقِيلَ : الْمَعْنَى كَيْفَ يَكُون لِلْمُشْرِكِينَ عَهْد عِنْد اللَّه يَأْمَنُونَ بِهِ عَذَابه غَدًا، وَكَيْفَ يَكُون لَهُمْ عِنْد رَسُوله عَهْد يَأْمَنُونَ بِهِ عَذَاب الدُّنْيَا.
ثُمَّ اِسْتَثْنَى فَقَالَ :" إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْد الْمَسْجِد الْحَرَام ".
قَالَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق : هُمْ بَنُو بَكْر، أَيْ لَيْسَ الْعَهْد إِلَّا لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَمْ يَنْقُضُوا وَلَمْ يَنْكُثُوا.
فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ
أَيْ فَمَا أَقَامُوا عَلَى الْوَفَاء بِعَهْدِكُمْ فَأَقِيمُوا لَهُمْ عَلَى مِثْل ذَلِكَ.
اِبْن زَيْد : فَلَمْ يَسْتَقِيمُوا فَضَرَبَ لَهُمْ أَجَلًا أَرْبَعَة أَشْهُر فَأَمَّا مَنْ لَا عَهْد لَهُ فَقَاتِلُوهُ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُ إِلَّا أَنْ يَتُوب.
كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ
أَعَادَ التَّعَجُّب مِنْ أَنْ يَكُون لَهُمْ عَهْد مَعَ خُبْث أَعْمَالهمْ، أَيْ كَيْفَ يَكُون لَهُمْ عَهْد وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّة.
يُقَال : ظَهَرْت عَلَى فُلَان أَيْ غَلَبْته، وَظَهَرْت الْبَيْت عَلَوْته، وَمِنْهُ " فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ " [ الْكَهْف : ٩٧ ] أَيْ يَعْلُوا عَلَيْهِ.
لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ
" يَرْقُبُوا " يُحَافِظُوا.
وَالرَّقِيب الْحَافِظ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ.
إِلًّا
عَهْدًا، عَنْ مُجَاهِد وَابْن زَيْد.
وَعَنْ مُجَاهِد أَيْضًا : هُوَ اِسْم مِنْ أَسْمَاء اللَّه عَزَّ وَجَلَّ.
اِبْن عَبَّاس وَالضَّحَّاك : قَرَابَة.
الْحَسَن : جِوَارًا.
قَتَادَة : حِلْفًا، و " ذِمَّة " عَهْدًا.
أَبُو عُبَيْدَة : يَمِينًا.
وَعَنْهُ أَيْضًا : إِلَّا الْعَهْد، وَالذِّمَّة التَّذَمُّم.
الْأَزْهَرِيّ : اِسْم اللَّه بِالْعِبْرَانِيَّةِ، وَأَصْله مِنْ الْأَلِيل وَهُوَ الْبَرِيق، يُقَال أَلَّ لَوْنه يَؤُلّ أَلًّا، أَيْ صَفَا وَلَمَعَ.
وَقِيلَ : أَصْله مِنْ الْحِدَّة، وَمِنْهُ الْأَلَّة لِلْحَرْبَةِ، وَمِنْهُ أُذُن مُؤَلَّلَة أَيْ مُحَدَّدَة.
وَمِنْهُ قَوْل طَرَفَة بْن الْعَبْد يَصِف أُذُنَيْ نَاقَته بِالْحِدَّةِ وَالِانْتِصَاب.
مُؤَلَّلَتَانِ تَعْرِف الْعِتْق فِيهِمَا كَسَامِعَتَيْ شَاة بِحَوْمَل مُفْرَد
فَإِذَا قِيلَ لِلْعَهْدِ وَالْجِوَار وَالْقَرَابَة " إِلّ " فَمَعْنَاهُ أَنَّ الْأُذُن تُصْرَف إِلَى تِلْكَ الْجِهَة، أَيْ تُحَدَّد لَهَا.
وَالْعَهْد يُسَمَّى " إِلًّا " لِصَفَائِهِ وَظُهُوره.
وَيُجْمَع فِي الْقِلَّة آلَالَ.
وَفِي الْكَثْرَة إِلَال.
وَقَالَ الْجَوْهَرِيّ وَغَيْره : الْإِلّ بِالْكَسْرِ هُوَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، وَالْإِلّ أَيْضًا الْعَهْد وَالْقَرَابَة.
قَالَ حَسَّان :
وَلَا ذِمَّةً
أَيْ عَهْدًا.
وَهِيَ كُلّ حُرْمَة يَلْزَمك إِذَا ضَيَّعْتهَا ذَنْب.
قَالَ اِبْن عَبَّاس وَالضَّحَّاك وَابْن زَيْد : الذِّمَّة الْعَهْد.
وَمَنْ جَعَلَ الْإِلّ الْعَهْد فَالتَّكْرِير لِاخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة مَعْمَر : الذِّمَّة التَّذَمُّم.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْد : الذِّمَّة الْأَمَان فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام :( وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ ).
وَجَمْع ذِمَّة ذِمَم.
وَبِئْر ذَمَّة - بِفَتْحِ الذَّال - قَلِيلَة الْمَاء، وَجَمْعهَا ذِمَام.
قَالَ ذُو الرِّمَّة :
لَعَمْرك إِنَّ إِلَّك مِنْ قُرَيْش كَإِلِّ السَّقْب مِنْ رَأَل النَّعَام
عَلَى حِمْيَرِيَّات كَأَنَّ عُيُونهَا ذِمَام الرَّكَايَا أَنْكَزَتْهَا الْمَوَاتِح
أَنْكَزَتْهَا أَذْهَبَتْ مَاءَهَا.
وَأَهْل الذِّمَّة أَهْل الْعَقْد.
يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ
أَيْ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا يُرْضِي ظَاهِره.
وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ
أَيْ نَاقِضُونَ الْعَهْد.
وَكُلّ كَافِر فَاسِق، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ هَاهُنَا الْمُجَاهِرِينَ بِالْقَبَائِحِ وَنَقْض الْعَهْد.
اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا
يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ فِي نَقْضِهِمْ الْعُهُود بِأَكْلَةٍ أَطْعَمَهُمْ إِيَّاهَا أَبُو سُفْيَان، قَالَهُ مُجَاهِد.
وَقِيلَ : إِنَّهُمْ اِسْتَبْدَلُوا بِالْقُرْآنِ مَتَاع الدُّنْيَا.
فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
أَيْ أَعْرَضُوا، مِنْ الصُّدُود أَوْ مَنَعُوا عَنْ سَبِيل اللَّه، مِنْ الصَّدّ.
لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً
قَالَ النَّحَّاس : لَيْسَ هَذَا تَكْرِيرًا، وَلَكِنَّ الْأَوَّل لِجَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ وَالثَّانِي لِلْيَهُودِ خَاصَّة.
وَالدَّلِيل عَلَى هَذَا " اِشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّه ثَمَنًا قَلِيلًا " يَعْنِي الْيَهُود، بَاعُوا حُجَج اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَبَيَانه بِطَلَبِ الرِّيَاسَة وَطَمَع فِي شَيْء.
وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ
أَيْ الْمُجَاوِزُونَ الْحَلَال إِلَى الْحَرَام بِنَقْضِ الْعَهْد.
فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ
أَيْ عَنْ الشِّرْك وَالْتَزَمُوا أَحْكَام الْإِسْلَام.
فَإِخْوَانُكُمْ
أَيْ فَهُمْ إِخْوَانكُمْ
فِي الدِّينِ
قَالَ اِبْن عَبَّاس : حَرَّمَتْ هَذِهِ دِمَاءَ أَهْل الْقِبْلَة.
وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى.
وَقَالَ اِبْن زَيْد : اِفْتَرَضَ اللَّه الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَأَبَى أَنْ يُفَرِّق بَيْنهمَا وَأَبَى أَنْ يَقْبَل الصَّلَاة إِلَّا بِالزَّكَاةِ.
وَقَالَ اِبْن مَسْعُود : أُمِرْتُمْ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة فَمَنْ لَمْ يُزَكِّ فَلَا صَلَاة لَهُ.
وَفِي حَدِيث أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( مَنْ فَرَّقَ بَيْن ثَلَاث فَرَّقَ اللَّه بَيْنه وَبَيْن رَحْمَته يَوْم الْقِيَامَة مَنْ قَالَ أُطِيع اللَّه وَلَا أُطِيع الرَّسُول وَاَللَّه تَعَالَى يَقُول " أَطِيعُوا اللَّه وَأَطِيعُوا الرَّسُول " [ النِّسَاء : ٥٩ ] وَمَنْ قَالَ أُقِيم الصَّلَاة وَلَا أُوتِي الزَّكَاة وَاَللَّه تَعَالَى يَقُول :" وَأَقِيمُوا الصَّلَاة وَآتُوا الزَّكَاة " [ الْبَقَرَة : ٤٣ ] وَمَنْ فَرَّقَ بَيْن شُكْر اللَّه وَشُكْر وَالِدَيْهِ وَاَللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَقُول :" أَنْ اُشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْك " [ لُقْمَان : ١٤ ] ).
وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ
أَيْ نُبَيِّنهَا.
لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
خَصَّهُمْ لِأَنَّهُمْ هُمْ الْمُنْتَفِعُونَ بِهَا.
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ
النَّكْث النَّقْض، وَأَصْله فِي كُلّ مَا فُتِلَ ثُمَّ حُلَّ.
فَهِيَ فِي الْأَيْمَان وَالْعُهُود مُسْتَعَارَة.
قَالَ :
وَإِنْ حَلَفْت لَا يَنْقُض النَّأْي عَهْدهَا فَلَيْسَ لِمَخْضُوبِ الْبَنَان يَمِينُ
أَيْ عَهْد.
وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ
أَيْ بِالِاسْتِنْقَاض وَالْحَرْب وَغَيْر ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلهُ الْمُشْرِك.
يُقَال : طَعَنَهُ بِالرُّمْحِ وَطَعَنَ بِالْقَوْلِ السَّيِّئ فِيهِ يَطْعُن، بِضَمِّ الْعَيْن فِيهِمَا.
وَقِيلَ : يَطْعُن بِالرُّمْحِ - بِالضَّمِّ - وَيَطْعَن بِالْقَوْلِ - بِالْفَتْحِ -.
وَهِيَ هُنَا اِسْتِعَارَة، وَمِنْهُ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين أَمَّرَ أُسَامَة :( إِنْ تَطْعَنُوا فِي إِمَارَته فَقَدْ طَعَنْتُمْ فِي إِمَارَة أَبِيهِ مِنْ قَبْل وَأَيْم اللَّه إِنْ كَانَ لَخَلِيقًا لِلْإِمَارَةِ ).
خَرَّجَهُ الصَّحِيح.
اِسْتَدَلَّ بَعْض الْعُلَمَاء بِهَذِهِ الْآيَة عَلَى وُجُوب قَتْل كُلّ مَنْ طَعَنَ فِي الدِّين، إِذْ هُوَ كَافِر.
وَالطَّعْن أَنْ يَنْسُب إِلَيْهِ مَا لَا يَلِيق بِهِ، أَوْ يَعْتَرِض بِالِاسْتِخْفَافِ عَلَى مَا هُوَ مِنْ الدِّين، لِمَا ثَبَتَ مِنْ الدَّلِيل الْقَطْعِيّ عَلَى صِحَّة أُصُوله وَاسْتِقَامَة فُرُوعه.
وَقَالَ اِبْن الْمُنْذِر : أَجْمَع عَامَّة أَهْل الْعِلْم عَلَى أَنَّ مَنْ سَبَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ الْقَتْل.
وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ مَالِك وَاللَّيْث وَأَحْمَد وَإِسْحَاق، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِيّ.
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ النُّعْمَان أَنَّهُ قَالَ : لَا يُقْتَل مَنْ سَبَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْل الذِّمَّة، عَلَى مَا يَأْتِي.
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ فِي مَجْلِس عَلِيّ : مَا قُتِلَ كَعْب بْن الْأَشْرَف إِلَّا غَدْرًا، فَأَمَرَ عَلِيّ بِضَرْبِ عُنُقه.
وَقَالَهُ آخَر فِي مَجْلِس مُعَاوِيَة فَقَامَ مُحَمَّد بْن مَسْلَمَة فَقَالَ : أَيُقَالُ هَذَا فِي مَجْلِسك وَتَسْكُت ! وَاَللَّه لَا أُسَاكِنك تَحْت سَقْف أَبَدًا، وَلَئِنْ خَلَوْت بِهِ لَأَقْتُلَنَّهُ.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا يُقْتَل وَلَا يُسْتَتَاب إِنْ نَسَبَ الْغَدْر لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَهُوَ الَّذِي فَهِمَهُ عَلِيّ وَمُحَمَّد بْن مَسْلَمَة رِضْوَان اللَّه عَلَيْهِمَا مِنْ قَائِل ذَلِكَ، لِأَنَّ ذَلِكَ زَنْدَقَة.
فَأَمَّا إِنْ نَسَبَهُ لِلْمُبَاشِرِينَ لِقَتْلِهِ بِحَيْثُ يَقُول : إِنَّهُمْ أَمَّنُوهُ ثُمَّ غَدَرُوهُ لَكَانَتْ هَذِهِ النِّسْبَة كَذِبًا مَحْضًا، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامهمْ مَعَهُ مَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُمْ أَمَّنُوهُ وَلَا صَرَّحُوا لَهُ بِذَلِكَ، وَلَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ لَمَا كَانَ أَمَانًا، لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا وَجَّهَهُمْ لِقَتْلِهِ لَا لِتَأْمِينِهِ، وَأَذِنَ لِمُحَمَّدِ بْن مَسْلَمَة فِي أَنْ يَقُول.
وَعَلَى هَذَا فَيَكُون فِي قَتْل مَنْ نَسَبَ ذَلِكَ لَهُمْ نَظَر وَتَرَدُّد.
وَسَبَبه هَلْ يَلْزَم مِنْ نِسْبَة الْغَدْر لَهُمْ نِسْبَته لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ قَدْ صَوَّبَ فِعْلهمْ وَرَضِيَ بِهِ فَيَلْزَم مِنْهُ أَنَّهُ قَدْ رَضِيَ بِالْغَدْرِ وَمَنْ صَرَّحَ بِذَلِكَ قُتِلَ، أَوْ لَا يَلْزَم مِنْ نِسْبَة الْغَدْر لَهُمْ نِسْبَته لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يُقْتَل.
وَإِذَا قُلْنَا لَا يُقْتَل، فَلَا بُدّ مِنْ تَنْكِيل ذَلِكَ الْقَائِل وَعُقُوبَته بِالسَّجْنِ، وَالضَّرْب الشَّدِيد وَالْإِهَانَة الْعَظِيمَة.
فَأَمَّا الذِّمِّيّ إِذَا طَعَنَ فِي الدِّين اِنْتَقَضَ عَهْده فِي الْمَشْهُور مِنْ مَذْهَب مَالِك، لِقَوْلِهِ :" وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانهمْ " الْآيَة.
فَأَمَرَ بِقَتْلِهِمْ وَقِتَالهمْ.
وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة فِي هَذَا : إِنَّهُ يُسْتَتَاب، وَإِنَّ مُجَرَّد الطَّعْن لَا يُنْقَض بِهِ الْعَهْد إِلَّا مَعَ وُجُود النَّكْث، لِأَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إِنَّمَا أَمَرَ بِقَتْلِهِمْ بِشَرْطَيْنِ : أَحَدهمَا نَقْضهمْ الْعَهْد، وَالثَّانِي طَعْنهمْ فِي الدِّين.
قُلْنَا : إِنْ عَمِلُوا بِمَا يُخَالِف الْعَهْد اِنْتَقَضَ عَهْدهمْ، وَذِكْر الْأَمْرَيْنِ لَا يَقْتَضِي تَوَقُّف قِتَاله عَلَى وُجُودهمَا، فَإِنَّ النَّكْث يُبِيح لَهُمْ ذَلِكَ بِانْفِرَادِهِ عَقْلًا وَشَرْعًا.
وَتَقْدِير الْآيَة عِنْدنَا : فَإِنْ نَكَثُوا عَهْدهمْ حَلَّ قِتَالهمْ، وَإِنْ لَمْ يَنْكُثُوا بَلْ طَعَنُوا فِي الدِّين مَعَ الْوَفَاء بِالْعَهْدِ حَلَّ قِتَالهمْ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَر رُفِعَ إِلَيْهِ ذِمِّيّ نَخَسَ دَابَّة عَلَيْهَا اِمْرَأَة مُسْلِمَة فَرَمَحَتْ فَأَسْقَطَتْهَا فَانْكَشَفَتْ بَعْض عَوْرَتهَا، فَأَمَرَ بِصَلْبِهِ فِي الْمَوْضِع.
إِذَا حَارَبَ الذِّمِّيّ نُقِضَ عَهْده وَكَانَ مَاله وَوَلَده فَيْئًا مَعَهُ.
وَقَالَ مُحَمَّد بْن مَسْلَمَة : لَا يُؤَاخَذ وَلَده بِهِ، لِأَنَّهُ نَقَضَ وَحْده.
وَقَالَ : أَمَّا مَاله فَيُؤْخَذ.
وَهَذَا تَعَارُض لَا يُشْبِه مَنْصِب مُحَمَّد بْن مَسْلَمَة، لِأَنَّ عَهْده هُوَ الَّذِي حَمَى مَاله وَوَلَده، فَإِذَا ذَهَبَ عَنْهُ مَاله ذَهَبَ عَنْهُ وَلَده.
وَقَالَ أَشْهَب : إِذَا نَقَضَ الذِّمِّيّ الْعَهْد فَهُوَ عَلَى عَهْده وَلَا يَعُود فِي الرِّقّ أَبَدًا.
وَهَذَا مِنْ الْعَجَب، وَكَأَنَّهُ رَأَى الْعَهْد مَعْنًى مَحْسُوسًا.
وَإِنَّمَا الْعَهْد حُكْم اِقْتَضَاهُ النَّظَر، وَالْتَزَمَهُ الْمُسْلِمُونَ لَهُ، فَإِذَا نَقَضَهُ اِنْتَقَضَ كَسَائِرِ الْعُقُود.
أَكْثَر الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ مَنْ سَبَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْل الذِّمَّة أَوْ عَرَّضَ أَوْ اِسْتَخَفَّ بِقَدْرِهِ أَوْ وَصَفَهُ بِغَيْرِ الْوَجْه الَّذِي كَفَرَ بِهِ فَإِنَّهُ يُقْتَل، فَإِنَّا لَمْ نُعْطِهِ الذِّمَّة أَوْ الْعَهْد عَلَى هَذَا.
إِلَّا أَبَا حَنِيفَة وَالثَّوْرِيّ وَأَتْبَاعهمَا مِنْ أَهْل الْكُوفَة فَإِنَّهُمْ قَالُوا : لَا يُقْتَل، مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ الشِّرْك أَعْظَم، وَلَكِنْ يُؤَدَّب وَيُعَزَّر.
وَالْحُجَّة عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى :" وَإِنْ نَكَثُوا " الْآيَة.
وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بَعْضهمْ بِأَمْرِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ كَعْب بْن الْأَشْرَف وَكَانَ مُعَاهِدًا.
وَتَغَيَّظَ أَبُو بَكْر عَلَى رَجُل مِنْ أَصْحَابه فَقَالَ أَبُو بَرْزَة : أَلَا أَضْرِب عُنُقه ! فَقَالَ : مَا كَانَتْ لِأَحَدٍ بَعْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس : أَنَّ رَجُلًا أَعْمَى كَانَتْ لَهُ أُمّ وَلَد، لَهُ مِنْهَا اِبْنَانِ مِثْل اللُّؤْلُؤَتَيْنِ، فَكَانَتْ تَشْتُم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقَع فِيهِ، فَيَنْهَاهَا فَلَمْ تَنْتَهِ، وَيَزْجُرهَا فَلَمْ تَنْزَجِر، فَلَمَّا كَانَ ذَات لَيْلَة ذَكَرَتْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا صَبَرَ سَيِّدهَا أَنْ قَامَ إِلَى مِعْوَل فَوَضَعَهُ فِي بَطْنهَا، ثُمَّ اِتَّكَأَ عَلَيْهَا حَتَّى أَنْفَذَهُ.
فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( أَلَا اِشْهَدُوا إِنَّ دَمهَا هَدَر ).
وَفِي رِوَايَة عَنْ اِبْن عَبَّاس : فَقَتَلَهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ قِيلَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَ الْأَعْمَى فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه، أَنَا صَاحِبهَا، كَانَتْ تَشْتُمك وَتَقَع فِيك فَأَنْهَاهَا فَلَا تَنْتَهِي، وَأَزْجُرهَا فَلَا تَنْزَجِر، وَلِي مِنْهَا اِبْنَانِ مِثْل اللُّؤْلُؤَتَيْنِ، وَكَانَتْ بِي رَفِيقَة فَلَمَّا كَانَ الْبَارِحَة جَعَلَتْ تَشْتُمك وَتَقَع فِيك فَقَتَلْتهَا، فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( أَلَا اِشْهَدُوا إِنَّ دَمهَا هَدَر ).
وَاخْتَلَفُوا إِذَا سَبَّهُ ثُمَّ أَسْلَمَ تَقِيَّة مِنْ الْقَتْل، فَقِيلَ يُسْقِطُ إِسْلَامُهُ قَتْلَهُ، وَهُوَ الْمَشْهُور مِنْ الْمَذْهَب، لِأَنَّ الْإِسْلَام يَجُبّ مَا قَبْله.
بِخِلَافِ الْمُسْلِم إِذَا سَبَّهُ ثُمَّ تَابَ قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ :" قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَر لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ " [ الْأَنْفَال : ٣٨ ].
وَقِيلَ : لَا يُسْقِطُ الْإِسْلَامُ قَتْلَهُ، قَالَهُ فِي الْعُتْبِيَّة لِأَنَّهُ حَقّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَبَ لِانْتِهَاكِهِ حُرْمَته وَقَصْده إِلْحَاق النَّقِيصَة وَالْمَعَرَّة بِهِ، فَلَمْ يَكُنْ رُجُوعه إِلَى الْإِسْلَام بِاَلَّذِي يُسْقِطهُ، وَلَا يَكُون أَحْسَن حَالًا مِنْ الْمُسْلِم.
فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ
" أَئِمَّة " جَمْع إِمَام، وَالْمُرَاد صَنَادِيد قُرَيْش - فِي قَوْل بَعْض الْعُلَمَاء - كَأَبِي جَهْل وَعُتْبَة وَشَيْبَة وَأُمَيَّة بْن خَلَف.
وَهَذَا بَعِيد، فَإِنَّ الْآيَة فِي سُورَة " بَرَاءَة " وَحِين نَزَلَتْ وَقُرِئَتْ عَلَى النَّاس كَانَ اللَّه قَدْ اِسْتَأْصَلَ شَأْفَة قُرَيْش فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مُسْلِم أَوْ مُسَالِم، فَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد " فَقَاتِلُوا أَئِمَّة الْكُفْر ".
أَيْ مَنْ أَقْدَم عَلَى نَكْث الْعَهْد وَالطَّعْن فِي الدِّين يَكُون أَصْلًا وَرَأْسًا فِي الْكُفْر، فَهُوَ مِنْ أَئِمَّة الْكُفْر عَلَى هَذَا.
وَيَحْتَمِل أَنْ يُعْنَى بِهِ الْمُتَقَدِّمُونَ وَالرُّؤَسَاء مِنْهُمْ، وَأَنَّ قِتَالهمْ قِتَال لِأَتْبَاعِهِمْ وَأَنَّهُمْ لَا حُرْمَة لَهُمْ.
وَالْأَصْل أَأْمِمَة كَمِثَالٍ وَأَمْثِلَة، ثُمَّ أُدْغِمَتْ الْمِيم فِي الْمِيم وَقُلِبَتْ الْحَرَكَة عَلَى الْهَمْزَة فَاجْتَمَعَتْ هَمْزَتَانِ، فَأُبْدِلَتْ مِنْ الثَّانِيَة يَاء.
وَزَعَمَ الْأَخْفَش أَنَّك تَقُول : هَذَا أَيَمّ مِنْ هَذَا، بِالْيَاءِ.
وَقَالَ الْمَازِنِيّ : أَوَمّ مِنْ هَذَا، بِالْوَاوِ.
وَقَرَأَ حَمْزَة " أَئِمَّة ".
وَأَكْثَر النَّحْوِيِّينَ يَذْهَب إِلَى أَنَّ هَذَا لَحْن، لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْن هَمْزَتَيْنِ فِي كَلِمَة وَاحِدَة.
إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ
أَيْ لَا عُهُود لَهُمْ، أَيْ لَيْسَتْ عُهُودهمْ صَادِقَة يُوفُونَ بِهَا.
وَقَرَأَ اِبْن عَامِر " لَا إِيمَان لَهُمْ " بِكَسْرِ الْهَمْزَة مِنْ الْإِيمَان، أَيْ لَا إِسْلَام لَهُمْ.
وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون مَصْدَر آمَنْته إِيمَانًا، مِنْ الْأَمْن الَّذِي ضِدّه الْخَوْف، أَيْ لَا يُؤْمِنُونَ، مِنْ أَمَّنْته إِيمَانًا أَيْ أَجَرْته، فَلِهَذَا قَالَ :" فَقَاتِلُوا أَئِمَّة الْكُفْر ".
" لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ " أَيْ عَنْ الشِّرْك.
قَالَ الْكَلْبِيّ : كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَادَعَ أَهْل مَكَّة سَنَة وَهُوَ بِالْحُدَيْبِيَةِ فَحَبَسُوهُ عَنْ الْبَيْت، ثُمَّ صَالَحُوهُ عَلَى أَنْ يَرْجِع فَمَكَثُوا مَا شَاءَ اللَّه، ثُمَّ قَاتَلَ حُلَفَاء رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خُزَاعَة حُلَفَاء بَنِي أُمَيَّة مِنْ كِنَانَة، فَأَمَدَّتْ بَنُو أُمَيَّة حُلَفَاءَهُمْ بِالسِّلَاحِ وَالطَّعَام، فَاسْتَعَانَتْ خُزَاعَة بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة وَأُمِرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعِين حُلَفَاءَهُ كَمَا سَبَقَ.
وَفِي الْبُخَارِيّ عَنْ زَيْد بْن وَهْب قَالَ : كُنَّا عِنْد حُذَيْفَة فَقَالَ مَا بَقِيَ مِنْ أَصْحَاب هَذِهِ الْآيَة - يَعْنِي " فَقَاتِلُوا أَئِمَّة الْكُفْر إِنَّهُمْ لَا أَيْمَان لَهُمْ " - إِلَّا ثَلَاثَة، وَلَا بَقِيَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ إِلَّا أَرْبَعَة.
فَقَالَ أَعْرَابِيّ : إِنَّكُمْ أَصْحَاب مُحَمَّد تُخْبِرُونَ أَخْبَارًا لَا نَدْرِي مَا هِيَ ! تَزْعُمُونَ أَلَّا مُنَافِق إِلَّا أَرْبَعَة، فَمَا بَال هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَبْقُرُونَ بُيُوتنَا وَيَسْرِقُونَ أَعَلَاقنَا قَالَ : أُولَئِكَ الْفُسَّاق أَجَل لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا أَرْبَعَة، أَحَدهمْ شَيْخ كَبِير لَوْ شَرِبَ الْمَاء الْبَارِد لَمَا وَجَدَ بَرْده.
لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ
أَيْ عَنْ كُفْرهمْ وَبَاطِلهمْ وَأَذِيَّتهمْ لِلْمُسْلِمِينَ.
وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُون الْغَرَض مِنْ قِتَالهمْ دَفْع ضَرَرهمْ لِيَنْتَهُوا عَنْ مُقَاتَلَتنَا وَيَدْخُلُوا فِي دِيننَا.
أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ
تَوْبِيخ وَفِيهِ مَعْنَى التَّحْضِيض نَزَلَتْ فِي كُفَّار مَكَّة كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا.
وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ
أَيْ كَانَ مِنْهُمْ سَبَب الْخُرُوج، فَأُضِيفَ الْإِخْرَاج إِلَيْهِمْ.
وَقِيلَ : أَخْرَجُوا الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام مِنْ الْمَدِينَة لِقِتَالِ أَهْل مَكَّة لِلنَّكْثِ الَّذِي كَانَ مِنْهُمْ : عَنْ الْحَسَن.
وَهُمْ بَدَءُوكُمْ
بِالْقِتَالِ.
أَوَّلَ مَرَّةٍ
أَيْ نَقَضُوا الْعَهْد وَأَعَانُوا بَنِي بَكْر عَلَى خُزَاعَة.
وَقِيلَ : بَدَءُوكُمْ بِالْقِتَالِ يَوْم بَدْر ; لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ لِلْعِيرِ وَلَمَّا أَحْرَزُوا عِيرهمْ كَانَ يُمْكِنهُمْ الِانْصِرَاف، فَأَبَوْا إِلَّا الْوُصُول إِلَى بَدْر وَشُرْب الْخَمْر بِهَا ; كَمَا تَقَدَّمَ.
أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
أَيْ تَخَافُوا عِقَابه فِي تَرْك قِتَالهمْ مِنْ أَنْ تَخَافُوا أَنْ يَنَالكُمْ فِي قِتَالهمْ مَكْرُوه.
وَقِيلَ : إِخْرَاجهمْ الرَّسُول مَنْعهمْ إِيَّاهُ مِنْ الْحَجّ وَالْعُمْرَة وَالطَّوَاف، وَهُوَ اِبْتِدَاؤُهُمْ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ
" قَاتِلُوهُمْ " أَمْر.
" يُعَذِّبهُمْ اللَّه " جَوَابه.
وَهُوَ جَزْم بِمَعْنَى الْمُجَازَاة : وَالتَّقْدِير : إِنْ تُقَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبهُمْ اللَّه بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُركُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُور قَوْم مُؤْمِنِينَ.
وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ
بَنُو خُزَاعَة، عَلَى مَا ذَكَرْنَا عَنْ مُجَاهِد.
فَإِنَّ قُرَيْشًا أَعَانَتْ بَنِي بَكْر عَلَيْهِمْ، وَكَانَتْ خُزَاعَة حُلَفَاء النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَأَنْشَدَ رَجُل مِنْ بَنِي بَكْر هِجَاء رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ بَعْض خُزَاعَة : لَئِنْ أَعَدْته لَأَكْسِرَنَّ فَمك، فَأَعَادَهُ فَكَسَرَ فَاهُ وَثَارَ بَيْنهمْ قِتَال، فَقَتَلُوا مِنْ الْخُزَاعِيِّينَ أَقْوَامًا، فَخَرَجَ عَمْرو بْن سَالِم الْخُزَاعِيّ فِي نَفَر إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَهُ بِهِ، فَدَخَلَ مَنْزِل مَيْمُونَة وَقَالَ :( اُسْكُبُوا إِلَيَّ مَاء ) فَجَعَلَ يَغْتَسِل وَهُوَ يَقُول :( لَا نُصِرْت إِنْ لَمْ أَنْصُر بَنِي كَعْب ).
ثُمَّ أَمَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّجَهُّزِ وَالْخُرُوج إِلَى مَكَّة فَكَانَ الْفَتْح.
وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ
دَلِيل عَلَى أَنَّ غَيْظهمْ كَانَ قَدْ اِشْتَدَّ.
وَقَالَ مُجَاهِد : يَعْنِي خُزَاعَة حُلَفَاء رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَكُلّه عَطْف، وَيَجُوز فِيهِ كُلّه الرَّفْع عَلَى الْقَطْع مِنْ الْأَوَّل.
وَيَجُوز النَّصْب عَلَى إِضْمَار ( أَنْ ) وَهُوَ الصَّرْف عِنْد الْكُوفِيِّينَ، كَمَا قَالَ :
فَإِنْ يَهْلِك أَبُو قَابُوس يَهْلِك رَبِيع النَّاس وَالشَّهْر الْحَرَام
وَنَأْخُذ بَعْده بِذِنَابِ عَيْش أَجَبّ الظَّهْر لَيْسَ لَهُ سَنَام
وَإِنْ شِئْت رَفَعْت ( وَنَأْخُذ ) وَإِنْ شِئْت نَصَبْته.
وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
الْقِرَاءَة بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَاف لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْس الْأَوَّل وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ ( وَيَتُبْ ) بِالْجَزْمِ لِأَنَّ الْقِتَال غَيْر مُوجِب لَهُمْ التَّوْبَة مِنْ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ وَهُوَ مُوجِب لَهُمْ الْعَذَاب وَالْخِزْي وَشِفَاء صُدُور الْمُؤْمِنِينَ وَذَهَاب غَيْظ قُلُوبهمْ وَنَظِيره :" فَإِنْ يَشَأْ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبك " [ الشُّورَى : ٢٤ ] تَمَّ الْكَلَام.
ثُمَّ قَالَ :" وَيَمْحُو اللَّه الْبَاطِل " [ الشُّورَى : ٢٤ ].
وَاَلَّذِينَ تَابَ اللَّه عَلَيْهِمْ مِثْل أَبِي سُفْيَان وَعِكْرِمَة بْن أَبِي جَهْل وَسُلَيْم بْن أَبِي عَمْرو، فَإِنَّهُمْ أَسْلَمُوا.
وَقَرَأَ اِبْن أَبِي إِسْحَاق " وَيَتُوب " بِالنَّصْبِ.
وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عِيسَى الثَّقَفِيّ وَالْأَعْرَج، وَعَلَيْهِ فَتَكُون التَّوْبَة دَاخِلَة فِي جَوَاب الشَّرْط، لِأَنَّ الْمَعْنَى : إِنْ تُقَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبهُمْ اللَّه.
وَكَذَلِكَ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ.
ثُمَّ قَالَ :" وَيَتُوب اللَّه " أَيْ إِنْ تُقَاتِلُوهُمْ.
فَجَمَعَ بَيْن تَعْذِيبهمْ بِأَيْدِيكُمْ وَشِفَاء صُدُوركُمْ وَإِذْهَاب غَيْظ قُلُوبكُمْ وَالتَّوْبَة عَلَيْكُمْ.
وَالرَّفْع أَحْسَن، لِأَنَّ التَّوْبَة لَا يَكُون سَبَبهَا الْقِتَال، إِذْ قَدْ تُوجَد بِغَيْرِ قِتَال لِمَنْ شَاءَ اللَّه أَنْ يَتُوب عَلَيْهِ فِي كُلّ حَال.
أَمْ حَسِبْتُمْ
خُرُوج مِنْ شَيْء إِلَى شَيْء.
أَنْ تُتْرَكُوا
فِي مَوْضِع الْمَفْعُولَيْنِ عَلَى قَوْل سِيبَوَيْهِ.
وَعِنْد الْمُبَرِّد أَنَّهُ قَدْ حُذِفَ الثَّانِي.
وَمَعْنَى الْكَلَام : أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا مِنْ غَيْر أَنْ تُبْتَلَوْا بِمَا يَظْهَر بِهِ الْمُؤْمِن وَالْمُنَافِق الظُّهُور الَّذِي يَسْتَحِقّ بِهِ الثَّوَاب وَالْعِقَاب.
وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْر مَوْضِع.
وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
" وَلَمَّا يَعْلَم " جُزِمَ بِلَمَّا وَإِنْ كَانَتْ مَا زَائِدَة، فَإِنَّهَا تَكُون عِنْد سِيبَوَيْهِ جَوَابًا لِقَوْلِك : قَدْ فَعَلَ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَكُسِرَتْ الْمِيم لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ.
" وَلِيجَة " بِطَانَة وَمُدَاخَلَة مِنْ الْوُلُوج وَهُوَ الدُّخُول وَمِنْهُ سُمِّيَ الْكِنَاس الَّذِي تَلِج فِيهِ الْوُحُوش تَوْلَجًا وَلَجَ يَلِجُ وُلُوجًا إِذَا دَخَلَ وَالْمَعْنَى : دَخِيلَة مَوَدَّة مِنْ دُون اللَّه وَرَسُوله وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة : كُلّ شَيْء أَدْخَلْته فِي شَيْء لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ وَلِيجَة وَالرَّجُل يَكُون فِي الْقَوْم وَلَيْسَ مِنْهُمْ وَلِيجَة وَقَالَ اِبْن زَيْد : الْوَلِيجَة الدَّخِيلَة وَالْوُلَجَاء الدُّخَلَاء فَوَلِيجَة الرَّجُل مَنْ يَخْتَصّ بِدَخْلَةِ أَمْره دُون النَّاس.
تَقُول : هُوَ وَلِيجَتِي وَهُمْ وَلِيجَتِي الْوَاحِد وَالْجَمْع فِيهِ سَوَاء قَالَ أَبَان بْن تَغْلِب رَحِمَهُ اللَّه :
فَبِئْسَ الْوَلِيجَة لِلْهَارِبِينَ وَالْمُعْتَدِينَ وَأَهْل الرِّيَب
وَقِيلَ : وَلِيجَة بِطَانَة، وَالْمَعْنَى وَاحِد، نَظِيره " لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَة مِنْ دُونكُمْ " [ آل عِمْرَان : ١١٨ ].
وَقَالَ الْفَرَّاء : وَلِيجَة بِطَانَة مِنْ الْمُشْرِكِينَ يَتَّخِذُونَهُمْ وَيُفْشُونَ إِلَيْهِمْ أَسْرَارهمْ وَيُعْلِمُونَهُمْ أُمُورهمْ.
مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ
الْجُمْلَة مِنْ " أَنْ يَعْمُرُوا " فِي مَوْضِع رَفْع اِسْم كَانَ.
" شَاهِدِينَ " عَلَى الْحَال.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي تَأْوِيل هَذِهِ الْآيَة، فَقِيلَ : أَرَادَ لَيْسَ لَهُمْ الْحَجّ بَعْد مَا نُودِيَ فِيهِمْ بِالْمَنْعِ عَنْ الْمَسْجِد الْحَرَام، وَكَانَتْ أُمُور الْبَيْت كَالسَّدَانَةِ وَالسِّقَايَة وَالرِّفَادَة إِلَى الْمُشْرِكِينَ، فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْلًا لِذَلِكَ، بَلْ أَهْله الْمُؤْمِنُونَ.
وَقِيلَ : إِنَّ الْعَبَّاس لَمَّا أُسِرَ وَعُيِّرَ بِالْكُفْرِ وَقَطِيعَة الرَّحِم قَالَ : تَذْكُرُونَ مَسَاوِئَنَا وَلَا تَذْكُرُونَ مَحَاسِننَا.
فَقَالَ عَلِيّ : أَلَكُمْ مَحَاسِن ؟ قَالَ : نَعَمْ إِنَّا لَنَعْمُر الْمَسْجِد الْحَرَام وَنَحْجُب الْكَعْبَة وَنَسْقِي الْحَاجّ وَنَفُكّ الْعَانِي، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة رَدًّا عَلَيْهِ.
فَيَجِب إِذًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ تَوَلِّي أَحْكَام الْمَسَاجِد وَمَنْع الْمُشْرِكِينَ مِنْ دُخُولهَا.
وَقِرَاءَة الْعَامَّة " يَعْمُر " بِفَتْحِ الْيَاء وَضَمّ الْمِيم، مِنْ عَمَرَ يَعْمُر.
وَقَرَأَ اِبْن السَّمَيْقَع بِضَمِّ الْيَاء وَكَسْر الْمِيم أَيْ يَجْعَلُوهُ عَامِرًا أَوْ يُعِينُوا عَلَى عِمَارَته.
وَقُرِئَ " مَسْجِد اللَّه " عَلَى التَّوْحِيد أَيْ الْمَسْجِد الْحَرَام.
وَهِيَ قِرَاءَة اِبْن عَبَّاس وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَعَطَاء بْن أَبِي رَبَاح وَمُجَاهِد وَابْن كَثِير وَأَبِي عَمْرو وَابْن مُحَيْصِن وَيَعْقُوب.
وَالْبَاقُونَ " مَسَاجِد " عَلَى التَّعْمِيم.
وَهُوَ اِخْتِيَار أَبِي عُبَيْد، لِأَنَّهُ أَعَمّ وَالْخَاصّ يَدْخُل تَحْت الْعَامّ.
وَقَدْ يَحْتَمِل أَنْ يُرَاد بِقِرَاءَةِ الْجَمْع الْمَسْجِد الْحَرَام خَاصَّة.
وَهَذَا جَائِز فِيمَا كَانَ مِنْ أَسْمَاء الْجِنْس، كَمَا يُقَال : فُلَان يَرْكَب الْخَيْل وَإِنْ لَمْ يَرْكَب إِلَّا فَرَسًا.
وَالْقِرَاءَة " مَسَاجِد " أَصْوَب، لِأَنَّهُ يَحْتَمِل الْمَعْنَيَيْنِ.
وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى قِرَاءَة قَوْله :" إِنَّمَا يَعْمُر مَسَاجِد اللَّه " عَلَى الْجَمْع، قَالَهُ النَّحَّاس.
وَقَالَ الْحَسَن : إِنَّمَا قَالَ مَسَاجِد وَهُوَ الْمَسْجِد الْحَرَام، لِأَنَّهُ قِبْلَة الْمَسَاجِد كُلّهَا وَإِمَامهَا.
شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ
قِيلَ : أَرَادَ وَهُمْ شَاهِدُونَ فَلَمَّا طَرَحَ " وَهُمْ " نَصَبَ.
قَالَ اِبْن عَبَّاس : شَهَادَتهمْ عَلَى أَنْفُسهمْ بِالْكُفْرِ سُجُودهمْ لِأَصْنَامِهِمْ، وَإِقْرَارهمْ أَنَّهَا مَخْلُوقَة.
وَقَالَ السُّدِّيّ : شَهَادَتهمْ بِالْكُفْرِ هُوَ أَنَّ النَّصْرَانِيّ تَقُول لَهُ.
مَا دِينك ؟ فَيَقُول نَصْرَانِيّ، وَالْيَهُودِيّ فَيَقُول يَهُودِيّ وَالصَّابِئ فَيَقُول صَابِئ.
وَيُقَال لِلْمُشْرِكِ مَا دِينك فَيَقُول مُشْرِك.
أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ
أَيْ بَطَلَتْ وَفَسَدَتْ وَمِنْهُ الْحَبَط وَهُوَ فَسَاد يَلْحَق بِالْمَوَاشِي فِي بُطُونهَا مِنْ كَثْرَة أَكْلهَا الْكَلَأ فَتَنْتَفِخ أَجْوَافهَا وَرُبَّمَا تَمُوت مِنْ ذَلِكَ.
إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ
" إِنَّمَا يَعْمُر مَسَاجِد اللَّه " دَلِيل عَلَى أَنَّ الشَّهَادَة لِعُمَّارِ الْمَسَاجِد بِالْإِيمَانِ صَحِيحَة لِأَنَّ اللَّه سُبْحَانه رَبَطَهُ بِهَا وَأَخْبَرَ عَنْهُ بِمُلَازَمَتِهَا.
وَقَدْ قَالَ بَعْض السَّلَف : إِذَا رَأَيْتُمْ الرَّجُل يَعْمُر الْمَسْجِد فَحَسِّنُوا بِهِ الظَّنّ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ ( إِذَا رَأَيْتُمْ الرَّجُل يَعْتَاد الْمَسْجِد فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ ) قَالَ اللَّه تَعَالَى :" إِنَّمَا يَعْمُر مَسَاجِد اللَّه مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر ".
وَفِي رِوَايَة :( يَتَعَاهَد الْمَسْجِد ).
قَالَ : حَدِيث حَسَن غَرِيب.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا فِي ظَاهِر الصَّلَاح لَيْسَ فِي مَقَاطِع الشَّهَادَات، فَإِنَّ الشَّهَادَات لَهَا أَحْوَال عِنْد الْعَارِفِينَ بِهَا فَإِنَّ مِنْهُمْ الذَّكِيّ الْفَطِن الْمُحَصِّل لِمَا يَعْلَم اِعْتِقَادًا وَإِخْبَارًا وَمِنْهُمْ الْمُغَفَّل، وَكُلّ وَاحِد يُنَزَّل عَلَى مَنْزِلَته وَيُقَدَّر عَلَى صِفَته.
وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ
إِنْ قِيلَ : مَا مِنْ مُؤْمِن إِلَّا وَقَدْ خَشِيَ غَيْر اللَّه، وَمَا زَالَ الْمُؤْمِنُونَ وَالْأَنْبِيَاء يَخْشَوْنَ الْأَعْدَاء مِنْ غَيْرهمْ.
قِيلَ لَهُ : الْمَعْنَى وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّه مِمَّا يُعْبَد : فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَوْثَان وَيَخْشَوْنَهَا وَيَرْجُونَهَا.
جَوَاب ثَانٍ - أَيْ لَمْ يَخَفْ فِي بَاب الدِّين إِلَّا اللَّه.
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ أَثْبَتَ الْإِيمَان فِي الْآيَة لِمَنْ عَمَرَ الْمَسَاجِد بِالصَّلَاةِ فِيهَا، وَتَنْظِيفهَا وَإِصْلَاح مَا وَهَى مِنْهَا، وَآمَنَ بِاَللَّهِ.
وَلَمْ يَذْكُر الْإِيمَان بِالرَّسُولِ فِيهَا وَلَا إِيمَان لِمَنْ لَمْ يُؤْمِن بِالرَّسُولِ.
قِيلَ لَهُ : دَلَّ عَلَى الرَّسُول مَا ذُكِرَ مِنْ إِقَامَة الصَّلَاة وَغَيْرهَا لِأَنَّهُ مِمَّا جَاءَ بِهِ، فَإِقَامَة الصَّلَاة وَإِيتَاء الزَّكَاة إِنَّمَا يَصِحّ مِنْ الْمُؤْمِن بِالرَّسُولِ، فَلِهَذَا لَمْ يُفْرِدهُ بِالذِّكْرِ.
فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ
" عَسَى " مِنْ اللَّه وَاجِبَة، عَنْ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره.
وَقِيلَ : عَسَى بِمَعْنَى خَلِيق أَيْ فَخَلِيق " أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ ".
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
" أَجَعَلْتُمْ سِقَايَة الْحَاجّ " التَّقْدِير فِي الْعَرَبِيَّة : أَجَعَلْتُمْ أَصْحَاب سِقَايَة الْحَاجّ أَوْ أَهْل سِقَايَة الْحَاجّ مِثْل مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيله.
وَيَصِحّ أَنْ يُقَدَّر الْحَذْف فِي " مَنْ آمَنَ " أَيْ أَجَعَلْتُمْ عَمَل سَقْي الْحَاجّ كَعَمَلِ مَنْ آمَنَ.
وَقِيلَ : التَّقْدِير كَإِيمَانِ مَنْ آمَنَ.
وَالسِّقَايَة مَصْدَر كَالسِّعَايَةِ وَالْحِمَايَة.
فَجَعَلَ الِاسْم بِمَوْضِعِ الْمَصْدَر إِذْ عُلِمَ مَعْنَاهُ، مِثْل إِنَّمَا السَّخَاء حَاتِم، وَإِنَّمَا الشِّعْر زُهَيْر.
وَعِمَارَة الْمَسْجِد الْحَرَام مِثْل " وَاسْأَلْ الْقَرْيَة " [ يُوسُف : ٨٢ ].
وَقَرَأَ أَبُو وَجْزَة " أَجَعَلْتُمْ سُقَاة الْحَاجّ وَعَمَرَة الْمَسْجِد الْحَرَام " سُقَاة جَمْع سَاقٍ وَالْأَصْل سُقْيَة عَلَى فُعْلَة، كَذَا يُجْمَع الْمُعْتَلّ مِنْ هَذَا، نَحْو قَاضٍ وَقُضَاة وَنَاسٍ وَنُسَاة.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَلًّا جُمِعَ عَلَى فُعَلَة، نَحْو نَاسِئ وَنُسَأَة، لِلَّذِينَ كَانُوا يُنْسِئُونَ الشُّهُور.
وَكَذَا قَرَأَ اِبْن الزُّبَيْر وَسَعِيد بْن جُبَيْر " سُقَاة وَعَمَرَة " إِلَّا أَنَّ اِبْن جُبَيْر نَصَبَ " الْمَسْجِد " عَلَى إِرَادَة التَّنْوِين فِي " عَمَرَة " وَقَالَ الضَّحَّاك : سِقَايَة بِضَمِّ السِّين، وَهِيَ لُغَة.
وَالْحَاجّ اِسْم جِنْس الْحُجَّاج.
وَعِمَارَة الْمَسْجِد الْحَرَام : مُعَاهَدَته وَالْقِيَام بِمَصَالِحِهِ.
وَظَاهِر هَذِهِ الْآيَة أَنَّهَا مُبْطِلَة قَوْل مَنْ اِفْتَخَرَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِسِقَايَةِ الْحَاجّ وَعِمَارَة الْمَسْجِد الْحَرَام، كَمَا ذَكَرَهُ السُّدِّيّ.
قَالَ : اِفْتَخَرَ عَبَّاس بِالسِّقَايَةِ، وَشَيْبَة بِالْعِمَارَةِ، وَعَلِيّ بِالْإِسْلَامِ وَالْجِهَاد، فَصَدَّقَ اللَّهُ عَلِيًّا وَكَذَّبَهُمَا، وَأَخْبَرَ أَنَّ الْعِمَارَة لَا تَكُون بِالْكُفْرِ، وَإِنَّمَا تَكُون بِالْإِيمَانِ وَالْعِبَادَة وَأَدَاء الطَّاعَة.
وَهَذَا بَيِّنٌ لَا غُبَار عَلَيْهِ.
وَيُقَال : إِنَّ الْمُشْرِكِينَ سَأَلُوا الْيَهُود وَقَالُوا : نَحْنُ سُقَاة الْحَاجّ وَعُمَّار الْمَسْجِد الْحَرَام، أَفَنَحْنُ أَفْضَل أَمْ مُحَمَّد وَأَصْحَابه ؟ فَقَالَتْ لَهُمْ الْيَهُود عِنَادًا لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنْتُمْ أَفْضَل.
وَقَدْ اِعْتَرَضَ هُنَا إِشْكَال وَهُوَ مَا جَاءَ فِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ النُّعْمَان بْن بَشِير قَالَ : كُنْت عِنْد مِنْبَر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَجُل : مَا أُبَالِي أَلَّا أَعْمَلَ عَمَلًا بَعْد الْإِسْلَام إِلَّا أَنْ أَسْقِي الْحَاجّ.
وَقَالَ آخَر : مَا أُبَالِي أَلَّا أَعْمَلَ عَمَلًا بَعْد الْإِسْلَام إِلَّا أَنْ أَعْمُر الْمَسْجِد الْحَرَام.
وَقَالَ آخَر : الْجِهَاد فِي سَبِيل اللَّه أَفْضَل مِمَّا قُلْتُمْ.
فَزَجَرَهُمْ عُمَر وَقَالَ : لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتكُمْ عِنْد مِنْبَر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَوْم الْجُمُعَة - وَلَكِنْ إِذَا صَلَّيْت الْجُمُعَة دَخَلْت وَاسْتَفْتَيْته فِيمَا اِخْتَلَفْتُمْ فِيهِ.
فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ :" أَجَعَلْتُمْ سِقَايَة الْحَاجّ وَعِمَارَة الْمَسْجِد الْحَرَام كَمَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر " إِلَى آخِر الْآيَة.
وَهَذَا الْمَسَاق يَقْتَضِي أَنَّهَا إِنَّمَا نَزَلَتْ عِنْد اِخْتِلَاف الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَفْضَل مِنْ هَذِهِ الْأَعْمَال.
وَحِينَئِذٍ لَا يَلِيق أَنْ يُقَال لَهُمْ فِي آخِر الْآيَة :" وَاَللَّه لَا يَهْدِي الْقَوْم الظَّالِمِينَ " فَتَعَيَّنَ الْإِشْكَال.
وَإِزَالَته بِأَنْ يُقَال : إِنَّ بَعْض الرُّوَاة تَسَامَحَ فِي قَوْله، فَأَنْزَلَ اللَّه الْآيَة.
وَإِنَّمَا قَرَأَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآيَة عَلَى عُمَر حِين سَأَلَهُ فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّهَا نَزَلَتْ حِينَئِذٍ.
وَاسْتَدَلَّ بِهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ الْجِهَاد أَفْضَل مِمَّا قَالَ أُولَئِكَ الَّذِينَ سَمِعَهُمْ عُمَر، فَاسْتَفْتَى لَهُمْ فَتَلَا عَلَيْهِ مَا قَدْ كَانَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ، لَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي هَؤُلَاءِ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
فَإِنْ قِيلَ : فَعَلَى هَذَا يَجُوز الِاسْتِدْلَال عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِمَا أُنْزِلَ فِي الْكَافِرِينَ، وَمَعْلُوم أَنَّ أَحْكَامهمْ مُخْتَلِفَة.
قِيلَ لَهُ : لَا يُسْتَبْعَد أَنْ يُنْتَزَع مِمَّا أَنْزَلَ اللَّه فِي الْمُشْرِكِينَ أَحْكَام تَلِيق بِالْمُسْلِمِينَ.
وَقَدْ قَالَ عُمَر : إِنَّا لَوْ شِئْنَا لَاتَّخَذْنَا سَلَائِق وَشِوَاء وَتُوضَع صَحْفَة وَتُرْفَع أُخْرَى وَلَكِنَّا سَمِعْنَا قَوْل اللَّه تَعَالَى :" أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتكُمْ فِي حَيَاتكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا " [ الْأَحْقَاف : ٢٠ ].
وَهَذِهِ الْآيَة نَصّ فِي الْكُفَّار، وَمَعَ ذَلِكَ فَفَهِمَ مِنْهَا عُمَر الزَّجْر عَمَّا يُنَاسِب أَحْوَالهمْ بَعْض الْمُنَاسَبَة، وَلَمْ يُنْكِر عَلَيْهِ أَحَد مِنْ الصَّحَابَة.
فَيُمْكِن أَنْ تَكُون هَذِهِ الْآيَة مِنْ هَذَا النَّوْع.
وَهَذَا نَفِيس وَبِهِ يَزُول الْإِشْكَال وَيَرْتَفِع الْإِبْهَام، وَاَللَّه أَعْلَم.
الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ
" الَّذِينَ آمَنُوا " فِي مَوْضِع رَفْع بِالِابْتِدَاءِ.
وَخَبَره " أَعْظَم دَرَجَة عِنْد اللَّه ".
و " دَرَجَة " نُصِبَ عَلَى الْبَيَان، أَيْ مِنْ الَّذِينَ اِفْتَخَرُوا بِالسَّقْيِ وَالْعِمَارَة.
وَلَيْسَ لِلْكَافِرِينَ دَرَجَة عِنْد اللَّه حَتَّى يُقَال : الْمُؤْمِن أَعْظَم دَرَجَة.
وَالْمُرَاد أَنَّهُمْ قَدَّرُوا لِأَنْفُسِهِمْ الدَّرَجَة بِالْعِمَارَةِ وَالسَّقْي فَخَاطَبَهُمْ عَلَى مَا قَدَّرُوهُ فِي أَنْفُسهمْ وَإِنْ كَانَ التَّقْدِير خَطَأ كَقَوْلِهِ تَعَالَى :" أَصْحَاب الْجَنَّة يَوْمئِذٍ خَيْر مُسْتَقَرًّا " [ الْفُرْقَان : ٢٤ ].
وَقِيلَ :" أَعْظَم دَرَجَة " مِنْ كُلّ ذِي دَرَجَة، أَيْ لَهُمْ الْمَزِيَّة وَالْمَرْتَبَة الْعَلِيَّة.
" وَأُولَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ " بِذَلِكَ.
يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ
" يُبَشِّرهُمْ رَبّهمْ " أَيْ يُعْلِمهُمْ فِي الدُّنْيَا مَا لَهُمْ فِي الْآخِرَة مِنْ الثَّوَاب الْجَزِيل وَالنَّعِيم الْمُقِيم.
وَالنَّعِيم : لِين الْعَيْش وَرَغَده.
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا
نُصِبَ عَلَى الْحَال.
وَالْخُلُود الْإِقَامَة.
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
أَيْ أَعَدَّ لَهُمْ فِي دَار كَرَامَته ذَلِكَ الثَّوَاب.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى
ظَاهِر هَذِهِ الْآيَة أَنَّهَا خِطَاب لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ كَافَّة، وَهِيَ بَاقِيَة الْحُكْم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة فِي قَطْع الْوِلَايَة بَيْن الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ.
وَرَوَتْ فِرْقَة أَنَّ هَذِهِ الْآيَة إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي الْحَضّ عَلَى الْهِجْرَة وَرَفْض بِلَاد الْكَفَرَة.
فَالْمُخَاطَبَة عَلَى هَذَا إِنَّمَا هِيَ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَانُوا بِمَكَّة وَغَيْرهَا مِنْ بِلَاد الْعَرَب، خُوطِبُوا بِأَلَّا يُوَالُوا الْآبَاء وَالْإِخْوَة فَيَكُونُوا لَهُمْ تَبَعًا فِي سُكْنَى بِلَاد الْكُفْر.
" إِنْ اِسْتَحَبُّوا " أَيْ أَحَبُّوا، كَمَا يُقَال : اِسْتَجَابَ بِمَعْنَى أَجَابَ.
أَيْ لَا تُطِيعُوهُمْ وَلَا تَخُصُّوهُمْ.
وَخَصَّ اللَّه سُبْحَانه الْآبَاء وَالْإِخْوَة إِذْ لَا قَرَابَة أَقْرَب مِنْهَا.
فَنَفَى الْمُوَالَاة بَيْنهمْ كَمَا نَفَاهَا بَيْن النَّاس بِقَوْلِهِ تَعَالَى :" يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء " [ الْمَائِدَة : ٥١ ] لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْقُرْب قُرْب الْأَدْيَان لَا قُرْب الْأَبْدَان.
وَفِي مِثْله تُنْشِد الصُّوفِيَّة :
يَقُولُونَ لِي دَار الْأَحِبَّة قَدْ دَنَتْ وَأَنْتَ كَئِيب إِنَّ ذَا لَعَجِيبُ
فَقُلْت وَمَا تُغْنِي دِيَار قَرِيبَة إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْن الْقُلُوب قَرِيبُ
فَكَمْ مِنْ بَعِيد الدَّار نَالَ مُرَاده وَآخَر جَار الْجَنْب مَاتَ كَئِيبُ
وَلَمْ يَذْكُر الْأَبْنَاء فِي هَذِهِ الْآيَة إِذْ الْأَغْلَب مِنْ الْبَشَر أَنَّ الْأَبْنَاء هُمْ التَّبَع لِلْآبَاءِ.
وَالْإِحْسَان وَالْهِبَة مُسْتَثْنَاة مِنْ الْوِلَايَة.
قَالَتْ أَسْمَاء : يَا رَسُول اللَّه، إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ عَلَيَّ رَاغِبَة وَهِيَ مُشْرِكَة أَفَأَصِلُهَا ؟ قَالَ :( صِلِي أُمّك ) خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ.
الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ
قَالَ اِبْن عَبَّاس : هُوَ مُشْرِك مِثْلهمْ لِأَنَّ مَنْ رَضِيَ بِالشِّرْكِ فَهُوَ مُشْرِك.
قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ
لَمَّا أَمَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهِجْرَةِ مِنْ مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة جَعَلَ الرَّجُل يَقُول لِأَبِيهِ وَالْأَب لِابْنِهِ وَالْأَخ لِأَخِيهِ وَالرَّجُل لِزَوْجَته : إِنَّا قَدْ أُمِرْنَا بِالْهِجْرَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ تَسَارَعَ لِذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَبَى أَنْ يُهَاجِر، فَيَقُول : وَاَللَّه لَئِنْ لَمْ تَخْرُجُوا إِلَى دَار الْهِجْرَة لَا أَنْفَعكُمْ وَلَا أُنْفِق عَلَيْكُمْ شَيْئًا أَبَدًا.
وَمِنْهُمْ مَنْ تَتَعَلَّق بِهِ اِمْرَأَته وَوَلَده وَيَقُولُونَ لَهُ : أَنْشُدك بِاَللَّهِ أَلَّا تَخْرُج فَنَضِيع بَعْدك، فَمِنْهُمْ مَنْ يَرِقّ فَيَدَع الْهِجْرَة وَيُقِيم مَعَهُمْ، فَنَزَلَتْ " يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانكُمْ أَوْلِيَاء إِنْ اِسْتَحَبُّوا الْكُفْر عَلَى الْإِيمَان ".
يَقُول : إِنْ اِخْتَارُوا الْإِقَامَة عَلَى الْكُفْر بِمَكَّة عَلَى الْإِيمَان بِاَللَّهِ وَالْهِجْرَة إِلَى الْمَدِينَة.
" وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ " بَعْد نُزُول الْآيَة " فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ ".
ثُمَّ نَزَلَ فِي الَّذِينَ تَخَلَّفُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا :" قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانكُمْ وَأَزْوَاجكُمْ وَعَشِيرَتكُمْ " وَهِيَ الْجَمَاعَة الَّتِي تَرْجِع إِلَى عَقْد وَاحِد كَعَقْدِ الْعَشَرَة فَمَا زَادَ، وَمِنْهُ الْمُعَاشَرَة وَهِيَ الِاجْتِمَاع عَلَى الشَّيْء.
وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا
يَقُول : اِكْتَسَبْتُمُوهَا بِمَكَّة.
وَأَصْل الِاقْتِرَاف اِقْتِطَاع الشَّيْء مِنْ مَكَانه إِلَى غَيْره.
وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا
قَالَ اِبْن الْمُبَارَك : هِيَ الْبَنَات وَالْأَخَوَات إِذَا كَسَدْنَ فِي الْبَيْت لَا يَجِدْنَ لَهُنَّ خَاطِبًا.
قَالَ الشَّاعِر :
وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا
يَقُول : وَمَنَازِل تُعْجِبكُمْ الْإِقَامَة فِيهَا.
أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
مِنْ أَنْ تُهَاجِرُوا إِلَى اللَّه وَرَسُوله بِالْمَدِينَةِ.
" وَأَحَبّ " خَبَر كَانَ.
وَيَجُوز فِي غَيْر الْقُرْآن رَفْع " أَحَبّ " عَلَى الِابْتِدَاء وَالْخَبَر، وَاسْم كَانَ مُضْمَر فِيهَا.
وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ :
إِذَا مِتّ كَانَ النَّاس صِنْفَانِ : شَامِت... وَآخَر مُثْنٍ بِاَلَّذِي كُنْت أَصْنَع
وَأَنْشَدَ :
هِيَ الشِّفَاء لِدَائِي لَوْ ظَفِرْت بِهَا... وَلَيْسَ مِنْهَا شِفَاء الدَّاء مَبْذُول
وَفِي الْآيَة دَلِيل عَلَى وُجُوب حُبّ اللَّه وَرَسُوله، وَلَا خِلَاف فِي ذَلِكَ بَيْن الْأُمَّة، وَأَنَّ ذَلِكَ مُقَدَّم عَلَى كُلّ مَحْبُوب.
وَقَدْ مَضَى فِي [ آل عِمْرَان ] مَعْنَى مَحَبَّة اللَّه تَعَالَى وَمَحَبَّة رَسُوله.
وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا
صِيغَته صِيغَة أَمْر وَمَعْنَاهُ التَّهْدِيد.
يَقُول : اِنْتَظِرُوا.
وَفِي قَوْله :" وَجِهَاد فِي سَبِيله " دَلِيل عَلَى فَضْل الْجِهَاد، وَإِيثَاره عَلَى رَاحَة النَّفْس وَعَلَائِقهَا بِالْأَهْلِ وَالْمَال.
وَسَيَأْتِي فَضْل الْجِهَاد فِي آخِر السُّورَة.
وَقَدْ مَضَى مِنْ أَحْكَام الْهِجْرَة فِي [ النِّسَاء ] مَا فِيهِ كِفَايَة، وَالْحَمْد لِلَّهِ.
وَفِي الْحَدِيث الصَّحِيح ( إِنَّ الشَّيْطَان قَعَدَ لِابْنِ آدَم ثَلَاث مَقَاعِد قَعَدَ لَهُ فِي طَرِيق الْإِسْلَام فَقَالَ لِمَ تَذَر دِينك وَدِين آبَائِك فَخَالَفَهُ وَأَسْلَمَ وَقَعَدَ لَهُ فِي طَرِيق الْهِجْرَة فَقَالَ لَهُ أَتَذَرُ مَالَك وَأَهْلك فَخَالَفَهُ وَهَاجَرَ ثُمَّ قَعَدَ فِي طَرِيق الْجِهَاد فَقَالَ لَهُ تُجَاهِد فَتُقْتَل فَيُنْكَح أَهْلك وَيُقْسَم مَالَك فَخَالَفَهُ وَجَاهَدَ فَحَقٌّ عَلَى اللَّه أَنْ يُدْخِلهُ الْجَنَّة ).
وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيث سَبَرَة بْن أَبِي فَاكِه قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول :( إِنَّ الشَّيْطَان... ) فَذَكَرَهُ.
قَالَ الْبُخَارِيّ :( اِبْن الْفَاكِه ) وَلَمْ يَذْكُر فِيهَا اِخْتِلَافًا.
وَقَالَ اِبْن أَبِي عَدِيّ : يُقَال اِبْن الْفَاكِه وَابْن أَبِي الْفَاكِه.
اِنْتَهَى.
حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ
يَعْنِي بِالْقِتَالِ وَفَتْح مَكَّة، عَنْ مُجَاهِد.
الْحَسَن : بِعُقُوبَةٍ آجِلَة أَوْ عَاجِلَة.
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ
لَمَّا بَلَغَ هَوَازِن فَتْح مَكَّة جَمَعَهُمْ مَالِك بْن عَوْف النَّصْرِيّ مِنْ بَنِي نَصْر بْن مَالِك، وَكَانَتْ الرِّيَاسَة فِي جَمِيع الْعَسْكَر إِلَيْهِ، وَسَاقَ مَعَ الْكُفَّار أَمْوَالهمْ وَمَوَاشِيهمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَوْلَادهمْ، وَزَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ يَحْمِي بِهِ نُفُوسهمْ وَتَشْتَدّ فِي الْقِتَال عِنْد ذَلِكَ شَوْكَتهمْ.
وَكَانُوا ثَمَانِيَة آلَاف فِي قَوْل الْحَسَن وَمُجَاهِد.
وَقِيلَ : أَرْبَعَة آلَاف، مِنْ هَوَازِن وَثَقِيف.
وَعَلَى هَوَازِن مَالِك بْن عَوْف، وَعَلَى ثَقِيف كِنَانَة بْن عَبْد، فَنَزَلُوا بِأَوْطَاس.
وَبَعَثَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْد اللَّه بْن أَبِي حَدْرَد الْأَسْلَمِيّ عَيْنًا، فَأَتَاهُ وَأَخْبَرَهُ بِمَا شَاهَدَ مِنْهُمْ، فَعَزَمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَصْدهمْ، وَاسْتَعَارَ مِنْ صَفْوَان بْن أُمَيَّة بْن خَلَف الْجُمَحِيّ دُرُوعًا.
قِيلَ : مِائَة دِرْع.
وَقِيلَ : أَرْبَعمِائَةِ دِرْع.
وَاسْتَسْلَفَ مِنْ رَبِيعَة الْمَخْزُومِيّ ثَلَاثِينَ أَلْفًا أَوْ أَرْبَعِينَ أَلْفًا، فَلَمَّا قَدِمَ قَضَاهُ إِيَّاهَا.
ثُمَّ قَالَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( بَارَكَ اللَّه لَك فِي أَهْلك وَمَالك إِنَّمَا جَزَاء السَّلَف الْوَفَاء وَالْحَمْد ) خَرَّجَهُ اِبْن مَاجَهْ فِي السُّنَن.
وَخَرَجَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اِثْنَيْ عَشَر أَلْفًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، مِنْهُمْ عَشَرَة آلَاف صَحِبُوهُ مِنْ الْمَدِينَة وَأَلْفَانِ مِنْ مُسْلِمَة الْفَتْح وَهُمْ الطُّلَقَاء إِلَى مَنْ اِنْضَافَ إِلَيْهِ مِنْ الْأَعْرَاب مِنْ سُلَيْم وَبَنِي كِلَاب وَعَبْس وَذُبْيَان.
وَاسْتَعْمَلَ عَلَى مَكَّة عَتَّاب بْن أُسَيْد.
وَفِي مَخْرَجه هَذَا رَأَى جُهَّال الْأَعْرَاب شَجَرَة خَضْرَاء وَكَانَ لَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّة شَجَرَة مَعْرُوفَة تُسَمَّى ذَات أَنْوَاط يَخْرُج إِلَيْهَا الْكُفَّار يَوْمًا مَعْلُومًا فِي السَّنَة يُعَظِّمُونَهَا، فَقَالُوا : يَا رَسُول اللَّه، اِجْعَلْ لَنَا ذَات أَنْوَاط كَمَا لَهُمْ ذَات أَنْوَاط فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام :( اللَّه أَكْبَر قُلْتُمْ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ كَمَا قَالَ قَوْم مُوسَى " اِجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَة قَالَ إِنَّكُمْ قَوْم تَجْهَلُونَ " لَتَرْكَبُنَّ سَنَن مِنْ قَبْلكُمْ حَذْو الْقُذَّة بِالْقُذَّةِ حَتَّى أَنَّهُمْ لَوْ دَخَلُوا جُحْر ضَبّ لَدَخَلْتُمُوهُ ).
فَنَهَضَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَى وَادِي حُنَيْن، وَهُوَ مِنْ أَوْدِيَة تِهَامَة، وَكَانَتْ هَوَازِن قَدْ كَمَنَتْ فِي جَنْبَتِي الْوَادِي وَذَلِكَ فِي غَبَش الصُّبْح فَحَمَلَتْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَمْلَة رَجُل وَاحِد، فَانْهَزَمَ جُمْهُور الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَلْوِ أَحَد عَلَى أَحَد، وَثَبَتَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَثَبَتَ مَعَهُ أَبُو بَكْر وَعُمَر، وَمِنْ أَهْل بَيْته عَلِيّ وَالْعَبَّاس وَأَبُو سُفْيَان بْن الْحَارِث بْن عَبْد الْمُطَّلِب وَابْنه جَعْفَر، وَأُسَامَة بْن زَيْد، وَأَيْمَن بْن عُبَيْد وَهُوَ أَيْمَن بْن أُمّ أَيْمَن قُتِلَ يَوْمئِذٍ بِحُنَيْنٍ - وَرَبِيعَة بْن الْحَارِث، وَالْفَضْل بْن عَبَّاس، وَقِيلَ فِي مَوْضِع جَعْفَر بْن أَبِي سُفْيَان : قُثَم بْن الْعَبَّاس.
فَهَؤُلَاءِ عَشَرَة رِجَال، وَلِهَذَا قَالَ الْعَبَّاس :
نَصَرْنَا رَسُول اللَّه فِي الْحَرْب تِسْعَة... وَقَدْ فَرَّ مَنْ قَدْ فَرَّ عَنْهُ وَأَقْشَعُوا
وَعَاشِرُنَا لَاقَى الْحِمَام بِنَفْسِهِ... بِمَا مَسَّهُ فِي اللَّه لَا يَتَوَجَّع
وَثَبَتَتْ أُمّ سُلَيْم فِي جُمْلَة مَنْ ثَبَتَ مُحْتَزِمَة مُمْسِكَة بَعِيرًا لِأَبِي طَلْحَة وَفِي يَدهَا خِنْجَر.
وَلَمْ يَنْهَزِم رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَحَد مِنْ هَؤُلَاءِ، وَكَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَغْلَته الشَّهْبَاء وَاسْمهَا دُلْدُل.
وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَنَس قَالَ عَبَّاس : وَأَنَا آخُذ بِلِجَامِ بَغْلَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكُفّهَا إِرَادَة أَلَّا تُسْرِع وَأَبُو سُفْيَان آخِذ بِرِكَابِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( أَيْ عَبَّاس نَادِ أَصْحَاب السَّمُرَة ).
فَقَالَ عَبَّاس - وَكَانَ رَجُلًا صَيِّتًا.
وَيُرْوَى مِنْ شِدَّة صَوْته أَنَّهُ أُغِيرَ يَوْمًا عَلَى مَكَّة فَنَادَى وَاصَبَاحَاه فَأَسْقَطَتْ كُلّ حَامِل سَمِعْت صَوْته جَنِينهَا - : فَقُلْت بِأَعْلَى صَوْتِي : أَيْنَ أَصْحَاب السَّمُرَة ؟ قَالَ : فَوَاَللَّهِ لَكَأَنَّ عَطَفْتهمْ حِين سَمِعُوا صَوْتِي عَطْفَة الْبَقَر عَلَى أَوْلَادهَا.
فَقَالُوا : يَا لَبَّيْكَ يَا لَبَّيْكَ.
قَالَ : فَاقْتَتَلُوا وَالْكُفَّار... ) الْحَدِيث.
وَفِيهِ :( قَالَ ثُمَّ أَخَذَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَصَيَات فَرَمَى بِهِنَّ وُجُوه الْكُفَّار ).
ثُمَّ قَالَ :( اِنْهَزَمُوا وَرَبّ مُحَمَّد ).
قَالَ فَذَهَبْت أَنْظُر فَإِذَا الْقِتَال عَلَى هَيْئَته فِيمَا أَرَى.
قَالَ : فَوَاَللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَمَاهُمْ بِحَصَيَاتِهِ، فَمَا زِلْت أَرَى حَدّهمْ كَلِيلًا وَأَمْرهمْ مُدْبِرًا.
قَالَ أَبُو عُمَر : رَوَيْنَا مِنْ وُجُوه عَنْ بَعْض مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِمَّنْ شَهِدَ حُنَيْنًا أَنَّهُ قَالَ - وَقَدْ سُئِلَ عَنْ يَوْم حُنَيْن - : لَقِينَا الْمُسْلِمِينَ فَمَا لَبِثْنَا أَنْ هَزَمْنَاهُمْ وَأَتْبَعْنَاهُمْ حَتَّى اِنْتَهَيْنَا إِلَى رَجُل رَاكِب عَلَى بَغْلَة بَيْضَاء، فَلَمَّا رَآنَا زَجَرَنَا زَجْرَة وَانْتَهَرَنَا، وَأَخَذَ بِكَفِّهِ حَصًى وَتُرَابًا فَرَمَى بِهِ وَقَالَ :( شَاهَتْ الْوُجُوه ) فَلَمْ تَبْقَ عَيْن إِلَّا دَخَلَهَا مِنْ ذَلِكَ، وَمَا مَلَكْنَا أَنْفُسنَا أَنْ رَجَعْنَا عَلَى أَعْقَابنَا.
وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : حَدَّثَنَا رَجُل مِنْ الْمُشْرِكِينَ، يَوْم حُنَيْن قَالَ : لَمَّا اِلْتَقَيْنَا مَعَ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقِفُوا لَنَا حَلْب شَاة، حَتَّى إِذَا اِنْتَهَيْنَا إِلَى صَاحِب الْبَغْلَة الشَّهْبَاء - يَعْنِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَلَقَّانَا رِجَال بِيض الْوُجُوه حِسَان، فَقَالُوا لَنَا : شَاهَتْ الْوُجُوه، اِرْجِعُوا، فَرَجَعْنَا وَرَكِبُوا أَكْتَافنَا فَكَانَتْ إِيَّاهَا.
يَعْنِي الْمَلَائِكَة.
قُلْت : وَلَا تَعَارُض فَإِنَّهُ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون شَاهَتْ الْوُجُوه مِنْ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ قَوْل الْمَلَائِكَة مَعًا وَيَدُلّ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَة قَاتَلَتْ يَوْم حُنَيْن.
فَاَللَّه أَعْلَم.
وَقَتَلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ يَوْم حُنَيْن أَرْبَعِينَ رَجُلًا بِيَدِهِ.
وَسَبَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَة آلَاف رَأْس.
وَقِيلَ : سِتَّة آلَاف، وَاثْنَيْ عَشَر أَلْف نَاقَة سِوَى مَا لَا يُعْلَم مِنْ الْغَنَائِم.
قَالَ الْعُلَمَاء فِي هَذِهِ الْغَزَاة : قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَة فَلَهُ سَلَبُهُ ).
وَقَدْ مَضَى فِي [ الْأَنْفَال ] بَيَانه.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَلِهَذِهِ النُّكْتَة وَغَيْرهَا أَدْخَلَ الْأَحْكَامِيُّونَ هَذِهِ الْآيَة فِي الْأَحْكَام.
قُلْت : وَفِيهِ أَيْضًا جَوَاز اِسْتِعَارَة السِّلَاح وَجَوَاز الِاسْتِمْتَاع بِمَا اُسْتُعِيرَ إِذَا كَانَ عَلَى الْمَعْهُود مِمَّا يُسْتَعَار لَهُ مِثْله، وَجَوَاز اِسْتِلَاف الْإِمَام الْمَال عِنْد الْحَاجَة إِلَى ذَلِكَ وَرَدّه إِلَى صَاحِبه.
وَحَدِيث صَفْوَان أَصْل فِي هَذَا الْبَاب.
وَفِي هَذِهِ الْغَزَاة أَمَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( أَلَّا تُوطَأ حَامِل حَتَّى تَضَع وَلَا حَائِل حَتَّى تَحِيض حَيْضَة ).
وَهُوَ يَدُلّ عَلَى أَنَّ السَّبْيَ يَقْطَعُ الْعِصْمَةَ.
وَقَدْ مَضَى بَيَانه فِي سُورَة [ النِّسَاء ] مُسْتَوْفًى.
وَفِي حَدِيث مَالِك أَنَّ صَفْوَان خَرَجَ مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ كَافِر، فَشَهِدَ حُنَيْنًا وَالطَّائِف وَامْرَأَته مُسْلِمَةٌ.
الْحَدِيث.
قَالَ مَالِك : وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِأَمْرِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا أَرَى أَنْ يُسْتَعَان بِالْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ إِلَّا أَنْ يَكُونُوا خَدَمًا أَوْ نَوَاتِيَّة.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ وَالثَّوْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ : لَا بَأْس بِذَلِكَ إِذَا كَانَ حُكْم الْإِسْلَام هُوَ الْغَالِب، وَإِنَّمَا تُكْرَه الِاسْتِعَانَة بِهِمْ إِذَا كَانَ حُكْم الشِّرْك هُوَ الظَّاهِرَ.
وَقَدْ مَضَى الْقَوْل فِي الْإِسْهَام لَهُمْ فِي [ الْأَنْفَال ]
" وَيَوْم حُنَيْن " " حُنَيْن " وَادٍ بَيْن مَكَّة وَالطَّائِف، وَانْصَرَفَ لِأَنَّهُ اِسْم مُذَكَّر، وَهِيَ لُغَة الْقُرْآن.
وَمِنْ الْعَرَب مَنْ لَا يَصْرِفهُ، يَجْعَلهُ اِسْمًا لِلْبُقْعَةِ.
وَأَنْشَدَ :
كَسَدْنَ مِنْ الْفَقْر فِي قَوْمهنَّ وَقَدْ زَادَهُنَّ مَقَامِي كُسُودَا
نَصَرُوا نَبِيّهمْ وَشَدُّوا أَزْره بِحُنَيْن يَوْم تَوَاكُل الْأَبْطَال
" وَيَوْم " ظَرْف، وَانْتَصَبَ هُنَا عَلَى مَعْنَى : وَنَصَرَكُمْ يَوْم حُنَيْن.
وَقَالَ الْفَرَّاء : لَمْ تَنْصَرِف " مَوَاطِن " لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا نَظِير فِي الْمُفْرَد وَلَيْسَ لَهَا جِمَاع، إِلَّا أَنَّ الشَّاعِر رُبَّمَا اِضْطَرَّ فَجَمَعَ، وَلَيْسَ يَجُوز فِي الْكَلَام كُلّ مَا يَجُوز فِي الشِّعْر.
وَأَنْشَدَ :
فَهُنَّ يَعْلُكْنَ حَدَائِدَاتهَا
وَقَالَ النَّحَّاس : رَأَيْت أَبَا إِسْحَاق يَتَعَجَّب مِنْ هَذَا قَالَ : أَخَذَ قَوْل الْخَلِيل وَأَخْطَأَ فِيهِ، لِأَنَّ الْخَلِيل يَقُول فِيهِ : لَمْ يَنْصَرِف لِأَنَّهُ جَمْع لَا نَظِير لَهُ فِي الْوَاحِد، وَلَا يُجْمَع جَمْع التَّكْسِير، وَأَمَّا بِالْأَلِفِ وَالتَّاء فَلَا يَمْتَنِع.
إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا
قِيلَ : كَانُوا اِثْنَيْ عَشَر أَلْفًا.
وَقِيلَ : أَحَد عَشَر أَلْفًا وَخَمْسمِائَةٍ.
وَقِيلَ : سِتَّة عَشَر أَلْفًا.
فَقَالَ بَعْضهمْ : لَنْ نُغْلَب الْيَوْم عَنْ قِلَّة.
فَوُكِلُوا إِلَى هَذِهِ الْكَلِمَة، فَكَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْهَزِيمَة فِي الِابْتِدَاء إِلَى أَنْ تَرَاجَعُوا، فَكَانَ النَّصْر وَالظَّفَر لِلْمُسْلِمِينَ بِبَرَكَةِ سَيِّد الْمُرْسَلِينَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَبَيَّنَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي هَذِهِ الْآيَة أَنَّ الْغَلَبَة إِنَّمَا تَكُون بِنَصْرِ اللَّه لَا بِالْكَثْرَةِ وَقَدْ قَالَ :" وَإِنْ يَخْذُلكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُركُمْ مِنْ بَعْده " [ آل عِمْرَان : ١٦٠ ].
وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ
أَيْ مِنْ الْخَوْف، كَمَا قَالَ :
كَأَنَّ بِلَاد اللَّه وَهِيَ عَرِيضَة عَلَى الْخَائِف الْمَطْلُوب كِفَّة حَابِل
وَالرُّحْب - بِضَمِّ الرَّاء - السَّعَة.
تَقُول مِنْهُ : فُلَان رُحْب الصَّدْر.
وَالرَّحْب - بِالْفَتْحِ - : الْوَاسِع.
تَقُول مِنْهُ : بَلَد رَحْب، وَأَرْض رَحْبَة.
وَقَدْ رَحُبَتْ تَرْحُب رُحْبًا وَرَحَابَة.
وَقِيلَ : الْبَاء بِمَعْنَى مَعَ أَيْ مَعَ رَحْبهَا.
وَقِيلَ : بِمَعْنَى عَلَى، أَيْ عَلَى رَحْبهَا.
وَقِيلَ : الْمَعْنَى بِرَحْبِهَا، ف " مَا " مَصْدَرِيَّة.
ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ
رَوَى مُسْلِم عَنْ أَبِي إِسْحَاق قَالَ : جَاءَ رَجُل إِلَى الْبَرَاء فَقَالَ : أَكُنْتُمْ وَلَّيْتُمْ يَوْم حُنَيْن يَا أَبَا عُمَارَة.
فَقَالَ : أَشْهَدَ عَلَى نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا وَلَّى، وَلَكِنَّهُ اِنْطَلَقَ أَخِفَّاءُ مِنْ النَّاس، وَحُسَّرٌ إِلَى هَذَا الْحَيّ مِنْ هَوَازِن.
وَهُمْ قَوْم رُمَاة فَرَمَوْهُمْ بِرِشْقٍ مِنْ نَبْل كَأَنَّهَا رِجْل مِنْ جَرَاد فَانْكَشَفُوا، فَأَقْبَلَ الْقَوْم إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو سُفْيَان يَقُود بِهِ بَغْلَته، فَنَزَلَ وَدَعَا وَاسْتَنْصَرَ وَهُوَ يَقُول :( أَنَا النَّبِيّ لَا كَذِب.
أَنَا اِبْن عَبْد الْمُطَّلِب.
اللَّهُمَّ نَزِّلْ نَصْرك ).
قَالَ الْبَرَاء : كُنَّا وَاَللَّه إِذَا اِحْمَرَّ الْبَأْس نَتَّقِي بِهِ، وَإِنَّ الشُّجَاع مِنَّا لَلَّذِي يُحَاذِي بِهِ، يَعْنِي النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ
أَيْ أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ مَا يُسَكِّنهُمْ وَيُذْهِب خَوْفهمْ، حَتَّى اِجْتَرَءُوا عَلَى قِتَال الْمُشْرِكِينَ بَعْد أَنْ وَلَّوْا.
وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا
وَهُمْ الْمَلَائِكَة، يُقَوُّونَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا يُلْقُونَ فِي قُلُوبهمْ مِنْ الْخَوَاطِر وَالتَّثْبِيت، وَيُضَعِّفُونَ الْكَافِرِينَ بِالتَّجْبِينِ لَهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُمْ وَمِنْ غَيْر قِتَال، لِأَنَّ الْمَلَائِكَة لَمْ تُقَاتِل إِلَّا يَوْم بَدْر.
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي نَصْر قَالَ لِلْمُؤْمِنِينَ بَعْد الْقِتَال : أَيْنَ الْخَيْل الْبُلْق، وَالرِّجَال الَّذِينَ كَانُوا عَلَيْهَا بِيض، مَا كُنَّا فِيهِمْ إِلَّا كَهَيْئَةِ الشَّامَة، وَمَا كَانَ قَتْلنَا إِلَّا بِأَيْدِيهِمْ.
أَخْبَرُوا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَقَالَ :( تِلْكَ الْمَلَائِكَة ).
وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ
أَيْ بِأَسْيَافِكُمْ
ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
أَيْ عَلَى مَنْ اِنْهَزَمَ فَيَهْدِيه إِلَى الْإِسْلَام.
كَمَالِك بْن عَوْف النَّصْرِيّ رَئِيس حُنَيْن وَمَنْ أَسْلَمَ مَعَهُ مِنْ قَوْمه.
وَلَمَّا قَسَمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَنَائِم حُنَيْن بِالْجِعْرَانَةِ، أَتَاهُ وَفْد هَوَازِن مُسْلِمِينَ رَاغِبِينَ فِي الْعَطْف عَلَيْهِمْ وَالْإِحْسَان إِلَيْهِمْ، وَقَالُوا : يَا رَسُول اللَّه، إِنَّك خَيْر النَّاس وَأَبَرّ النَّاس، وَقَدْ أَخَذْت أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا وَأَمْوَالنَا.
فَقَالَ لَهُمْ :( إِنِّي قَدْ كُنْت اِسْتَأْنَيْت بِكُمْ وَقَدْ وَقَعَتْ الْمَقَاسِم وَعِنْدِي مَنْ تَرَوْنَ وَإِنَّ خَيْر الْقَوْل أَصْدَقُهُ فَاخْتَارُوا إِمَّا ذَرَارِيّكُمْ وَإِمَّا أَمْوَالكُمْ ).
فَقَالُوا : لَا نَعْدِل بِالْأَنْسَابِ شَيْئًا.
فَقَامَ خَطِيبًا وَقَالَ :( هَؤُلَاءِ جَاءُونَا مُسْلِمِينَ وَقَدْ خَيَّرْنَاهُمْ فَلَمْ يَعْدِلُوا بِالْأَنْسَابِ فَرَضَوْا بِرَدِّ الذُّرِّيَّة وَمَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْد الْمُطَّلِب وَبَنِي هَاشِم فَهُوَ لَهُمْ ).
وَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَار : أَمَّا مَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَامْتَنَعَ الْأَقْرَع بْن حَابِس وَعُيَيْنَة بْن حِصْن فِي قَوْمهمَا مِنْ أَنْ يَرُدُّوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِمَّا وَقَعَ لَهُمْ فِي سِهَامهمْ.
وَامْتَنَعَ الْعَبَّاس بْن مِرْدَاس السُّلَمِيّ كَذَلِكَ، وَطَمِعَ أَنْ يُسَاعِدهُ قَوْمه كَمَا سَاعَدَ الْأَقْرَع وَعُيَيْنَة قَوْمهمَا.
فَأَبَتْ بَنُو سُلَيْم وَقَالُوا : بَلْ مَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( مَنْ ضَنَّ مِنْكُمْ بِمَا فِي يَدَيْهِ فَإِنَّا نُعَوِّضهُ مِنْهُ ).
فَرَدَّ عَلَيْهِمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُمْ وَأَوْلَادهمْ، وَعَوَّضَ مَنْ لَمْ تَطِبْ نَفْسه بِتَرْكِ نَصِيبه أَعْوَاضًا رَضَوْا بِهَا.
وَقَالَ قَتَادَة : ذُكِرَ لَنَا أَنَّ ظِئْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ مِنْ بَنِي سَعْد أَتَتْهُ يَوْم حُنَيْن فَسَأَلَتْهُ سَبَايَا حُنَيْن فَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( إِنِّي لَا أَمْلِك إِلَّا مَا يُصِيبنِي مِنْهُمْ وَلَكِنْ ايِتِينِي غَدًا فَاسْأَلِينِي وَالنَّاس عِنْدِي فَإِذَا أَعْطَيْتُك حِصَّتِي أَعْطَاك النَّاس ).
فَجَاءَتْ الْغَد فَبَسَطَ لَهَا ثَوْبه فَأَقْعَدَهَا عَلَيْهِ.
ثُمَّ سَأَلَتْهُ فَأَعْطَاهَا نَصِيبه فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ النَّاس أَعْطَوْهَا أَنْصِبَاءَهُمْ.
وَكَانَ عَدَد سَبْي هَوَازِن فِي قَوْل سَعِيد بْن الْمُسَيِّب سِتَّة آلَاف رَأْس.
وَقِيلَ : أَرْبَعَة آلَاف.
قَالَ أَبُو عُمَر : فِيهِنَّ الشَّيْمَاء أُخْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الرَّضَاعَة، وَهِيَ بِنْت الْحَارِث بْن عَبْد الْعُزَّى مِنْ بَنَى سَعْد بْن بَكْر وَبِنْت حَلِيمَة السَّعْدِيَّة، فَأَكْرَمَهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْطَاهَا وَأَحْسَنَ إِلَيْهَا، وَرَجَعَتْ مَسْرُورَة إِلَى بِلَادهَا بِدِينِهَا وَبِمَا أَفَاءَ اللَّه عَلَيْهَا.
قَالَ اِبْن عَبَّاس : رَأَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم أَوْطَاس اِمْرَأَة تَعْدُو وَتَصِيح وَلَا تَسْتَقِرّ، فَسَأَلَ عَنْهَا فَقِيلَ : فَقَدَتْ بُنَيًّا لَهَا.
ثُمَّ رَآهَا وَقَدْ وَجَدَتْ اِبْنهَا وَهِيَ تُقَبِّلهُ وَتُدْنِيه، فَدَعَاهَا وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ :( أَطَارِحَة هَذِهِ وَلَدهَا فِي النَّار ) ؟ قَالُوا : لَا.
قَالَ :( لِمَ ) ؟ قَالُوا : لِشَفَقَتِهَا.
قَالَ :( اللَّه أَرْحَم بِكُمْ مِنْهَا ).
وَخَرَّجَهُ مُسْلِم بِمَعْنَاهُ وَالْحَمْد لِلَّهِ.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ
اِبْتِدَاء وَخَبَر.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي مَعْنَى وَصْف الْمُشْرِك بِالنَّجَسِ، فَقَالَ قَتَادَة وَمَعْمَر بْن رَاشِد وَغَيْرهمَا : لِأَنَّهُ جُنُب إِذْ غُسْله مِنْ الْجَنَابَة لَيْسَ بِغُسْلٍ.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره : بَلْ مَعْنَى الشِّرْك هُوَ الَّذِي نَجَّسَهُ.
قَالَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ مَنْ صَافَحَ مُشْرِكًا فَلْيَتَوَضَّأْ.
وَالْمَذْهَب كُلّه عَلَى إِيجَاب الْغُسْل عَلَى الْكَافِر إِذَا أَسْلَمَ إِلَّا اِبْن عَبْد الْحَكَم فَإِنَّهُ قَالَ : لَيْسَ بِوَاجِبٍ، لِأَنَّ الْإِسْلَام يَهْدِم مَا كَانَ قَبْله.
وَبِوُجُوبِ الْغُسْل عَلَيْهِ قَالَ أَبُو ثَوْر وَأَحْمَد.
وَأَسْقَطَهُ الشَّافِعِيّ وَقَالَ : أَحَبّ إِلَيَّ أَنْ يَغْتَسِل.
وَنَحْوه لِابْنِ الْقَاسِم.
وَلِمَالِكٍ قَوْل : إِنَّهُ لَا يَعْرِف الْغُسْل، رَوَاهُ عَنْهُ اِبْن وَهْب وَابْن أَبِي أُوَيْس.
وَحَدِيث ثُمَامَة وَقَيْس بْن عَاصِم يَرُدّ هَذِهِ الْأَقْوَال.
رَوَاهُمَا أَبُو حَاتِم الْبُسْتِيّ فِي صَحِيح مُسْنَده.
وَأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِثُمَامَة يَوْمًا فَأَسْلَمَ فَبَعَثَ بِهِ إِلَى حَائِط أَبِي طَلْحَة فَأَمَرَهُ أَنْ يَغْتَسِل، فَاغْتَسَلَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ.
فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( لَقَدْ حَسُنَ إِسْلَام صَاحِبكُمْ ) وَأَخْرَجَهُ مُسْلِم بِمَعْنَاهُ.
وَفِيهِ : أَنَّ ثُمَامَة لَمَّا مَنَّ عَلَيْهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِنْطَلَقَ إِلَى نَخْل قَرِيب مِنْ الْمَسْجِد فَاغْتَسَلَ.
وَأَمَرَ قَيْس بْن عَاصِم أَنْ يَغْتَسِل بِمَاءٍ وَسِدْر.
فَإِنْ كَانَ إِسْلَامه قُبَيْل اِحْتِلَامه فَغُسْله مُسْتَحَبّ.
وَمَتَى أَسْلَمَ بَعْد بُلُوغه لَزِمَهُ أَنْ يَنْوِي بِغُسْلِهِ الْجَنَابَة.
هَذَا قَوْل عُلَمَائِنَا، وَهُوَ تَحْصِيل الْمَذْهَب.
وَقَدْ أَجَازَ اِبْن الْقَاسِم لِلْكَافِرِ أَنْ يَغْتَسِل قَبْل إِظْهَاره لِلشَّهَادَةِ بِلِسَانِهِ إِذَا اِعْتَقَدَ الْإِسْلَام بِقَلْبِهِ وَهُوَ قَوْل ضَعِيف فِي النَّظَر مُخَالِف لِلْأَثَرِ.
وَذَلِكَ أَنَّ أَحَدًا لَا يَكُون بِالنِّيَّةِ مُسْلِمًا دُون الْقَوْل.
هَذَا قَوْل جَمَاعَة أَهْل السُّنَّة فِي الْإِيمَان : إِنَّهُ قَوْل بِاللِّسَانِ وَتَصْدِيق بِالْقَلْبِ، وَيَزْكُو بِالْعَمَلِ.
قَالَ اللَّه تَعَالَى :" إِلَيْهِ يَصْعَد الْكَلِم الطَّيِّب وَالْعَمَل الصَّالِح يَرْفَعهُ " [ فَاطِر : ١٠ ].
نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ
" فَلَا يَقْرَبُوا " نَهْي، وَلِذَلِكَ حُذِفَتْ مِنْهُ النُّون.
" الْمَسْجِد الْحَرَام " هَذَا اللَّفْظ يُطْلَق عَلَى جَمِيع الْحَرَم، وَهُوَ مَذْهَب عَطَاء فَإِذًا يَحْرُم تَمْكِين الْمُشْرِك مِنْ دُخُول الْحَرَم أَجْمَع.
فَإِذَا جَاءَنَا رَسُول مِنْهُمْ خَرَجَ الْإِمَام إِلَى الْحِلّ لِيَسْمَع مَا يَقُول.
وَلَوْ دَخَلَ مُشْرِك الْحَرَم مَسْتُورًا وَمَاتَ نُبِشَ قَبْره وَأُخْرِجَتْ عِظَامه.
فَلَيْسَ لَهُمْ الِاسْتِيطَان وَلَا الِاجْتِيَاز.
وَأَمَّا جَزِيرَة الْعَرَب، وَهِيَ مَكَّة وَالْمَدِينَة وَالْيَمَامَة وَالْيَمَن وَمَخَالِيفهَا، فَقَالَ مَالِك : يُخْرَج مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِع كُلّ مَنْ كَانَ عَلَى غَيْر الْإِسْلَام، وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ التَّرَدُّد بِهَا مُسَافِرِينَ.
وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه، غَيْر أَنَّهُ اِسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الْيَمَن.
وَيُضْرَب لَهُمْ أَجَل ثَلَاثَة أَيَّام كَمَا ضَرَبَهُ لَهُمْ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ حِين أَجْلَاهُمْ.
وَلَا يُدْفَنُونَ فِيهَا وَيُلْجَئُونَ إِلَى الْحِلّ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي دُخُول الْكُفَّار الْمَسَاجِد وَالْمَسْجِد الْحَرَام عَلَى خَمْسَة أَقْوَال، فَقَالَ أَهْل الْمَدِينَة : الْآيَة عَامَّة فِي سَائِر الْمُشْرِكِينَ وَسَائِر الْمَسَاجِد.
وَبِذَلِكَ كَتَبَ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز إِلَى عُمَّاله وَنَزَعَ فِي كِتَابه بِهَذِهِ الْآيَة.
وَيُؤَيِّد ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى :" فِي بُيُوت أَذِنَ اللَّه أَنْ تُرْفَع وَيُذْكَر فِيهَا اِسْمه " [ النُّور : ٣٦ ].
وَدُخُول الْكُفَّار فِيهَا مُنَاقِض لِتَرْفِيعِهَا.
وَفِي صَحِيح مُسْلِم وَغَيْره :( إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِد لَا تَصْلُح لِشَيْءٍ مِنْ الْبَوْل وَالْقَذَر... ) الْحَدِيث.
وَالْكَافِر لَا يَخْلُو عَنْ ذَلِكَ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( لَا أُحِلُّ الْمَسْجِد لِحَائِضٍ وَلَا لِجُنُبٍ ) وَالْكَافِر جُنُب وَقَوْله تَعَالَى :" إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَس " فَسَمَّاهُ اللَّه تَعَالَى نَجَسًا.
فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُون نَجِس الْعَيْن أَوْ مُبْعَدًا مِنْ طَرِيق الْحُكْم.
وَأَيّ ذَلِكَ كَانَ فَمَنْعه مِنْ الْمَسْجِد وَاجِب لِأَنَّ الْعِلَّة وَهِيَ النَّجَاسَة مَوْجُودَة فِيهِمْ، وَالْحُرْمَة مَوْجُودَة فِي الْمَسْجِد.
يُقَال : رَجُل نَجَس، وَامْرَأَة نَجَس، وَرَجُلَانِ نَجَس، وَامْرَأَتَانِ نَجَس، وَرِجَال نَجَس، وَنِسَاء نَجَس، لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَع لِأَنَّهُ مَصْدَر.
فَأَمَّا النَّجِس - بِكَسْرِ النُّون وَجَزْم الْجِيم - فَلَا يُقَال إِلَّا إِذَا قِيلَ مَعَهُ رِجْس.
فَإِذَا أُفْرِدَ قِيلَ نَجِس - بِفَتْحِ النُّون وَكَسْر الْجِيم - وَنَجُس - بِضَمِّ الْجِيم -.
وَقَالَ الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه : الْآيَة عَامَّة فِي سَائِر الْمُشْرِكِينَ، خَاصَّة فِي الْمَسْجِد الْحَرَام، وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ دُخُول غَيْره، فَأَبَاحَ دُخُول الْيَهُودِيّ وَالنَّصْرَانِيّ فِي سَائِر الْمَسَاجِد.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا جُمُود مِنْهُ عَلَى الظَّاهِر، لِأَنَّ قَوْله عَزَّ وَجَلَّ :" إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَس " تَنْبِيه عَلَى الْعِلَّة بِالشِّرْكِ وَالنَّجَاسَة.
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رَبَطَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَامَة فِي الْمَسْجِد وَهُوَ مُشْرِك.
قِيلَ لَهُ : أَجَابَ عُلَمَاؤُنَا عَنْ هَذَا الْحَدِيث - وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا - بِأَجْوِبَةٍ : أَحَدهَا : أَنَّهُ كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى نُزُول الْآيَة.
الثَّانِي : أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَدْ عَلِمَ بِإِسْلَامِهِ فَلِذَلِكَ رَبَطَهُ.
الثَّالِث : أَنَّ ذَلِكَ قَضِيَّة فِي عَيْن فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُدْفَع بِهَا الْأَدِلَّة الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، لِكَوْنِهَا مُقَيِّدَة حُكْم الْقَاعِدَة الْكُلِّيَّة.
وَقَدْ يُمْكِن أَنْ يُقَال : إِنَّمَا رَبَطَهُ فِي الْمَسْجِد لِيَنْظُر حُسْن صَلَاة الْمُسْلِمِينَ وَاجْتِمَاعهمْ عَلَيْهَا، وَحُسْن آدَابهمْ فِي جُلُوسهمْ فِي الْمَسْجِد، فَيَسْتَأْنِس بِذَلِكَ وَيُسْلِم، وَكَذَلِكَ كَانَ.
وَيُمْكِن أَنْ يُقَال : إِنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَوْضِع يَرْبِطُونَهُ فِيهِ إِلَّا فِي الْمَسْجِد، وَاَللَّه أَعْلَم.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه : لَا يُمْنَع الْيَهُود وَالنَّصَارَى مِنْ دُخُول الْمَسْجِد الْحَرَام وَلَا غَيْره، وَلَا يُمْنَع دُخُول الْمَسْجِد الْحَرَام إِلَّا الْمُشْرِكُونَ وَأَهْل الْأَوْثَان.
وَهَذَا قَوْل يَرُدّهُ كُلّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْآيَة وَغَيْرهَا.
قَالَ إِلْكِيَا الطَّبَرِيّ : وَيَجُوز لِلذِّمِّيِّ دُخُول سَائِر الْمَسَاجِد عِنْد أَبِي حَنِيفَة مِنْ غَيْر حَاجَة.
وَقَالَ الشَّافِعِيّ : تُعْتَبَر الْحَاجَة، وَمَعَ الْحَاجَة لَا يَجُوز دُخُول الْمَسْجِد الْحَرَام.
وَقَالَ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح : الْحَرَم كُلّه قِبْلَة وَمَسْجِد، فَيَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعُوا مِنْ دُخُول الْحَرَم، لِقَوْلِهِ تَعَالَى :" سُبْحَان الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِد الْحَرَام " [ الْإِسْرَاء : ١ ].
وَإِنَّمَا رُفِعَ مِنْ بَيْت أُمّ هَانِئ.
وَقَالَ قَتَادَة : لَا يَقْرُب الْمَسْجِد الْحَرَام مُشْرِك إِلَّا أَنْ يَكُون صَاحِب جِزْيَة أَوْ عَبْدًا كَافِرًا لِمُسْلِمٍ.
وَرَوَى إِسْمَاعِيل بْن إِسْحَاق حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن عَبْد الْحَمِيد قَالَ حَدَّثَنَا شَرِيك عَنْ أَشْعَث عَنْ الْحَسَن عَنْ جَابِر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( لَا يَقْرُب الْمَسْجِد مُشْرِك إِلَّا أَنْ يَكُون عَبْدًا أَوْ أَمَة فَيَدْخُلهُ لِحَاجَةٍ ).
وَبِهَذَا قَالَ جَابِر بْن عَبْد اللَّه فَإِنَّهُ قَالَ : الْعُمُوم يَمْنَع الْمُشْرِك عَنْ قُرْبَانِ الْمَسْجِد الْحَرَام، وَهُوَ مَخْصُوص فِي الْعَبْد وَالْأَمَة.
الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ
فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدهمَا - أَنَّهُ سَنَة تِسْع الَّتِي حَجَّ فِيهَا أَبُو بَكْر.
الثَّانِي سَنَة عَشْرٍ قَالَهُ قَتَادَة.
اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهُوَ الصَّحِيح الَّذِي يُعْطِيه مُقْتَضَى اللَّفْظ وَإِنَّ مِنْ الْعَجَب أَنْ يُقَال : إِنَّهُ سَنَة تِسْع وَهُوَ الْعَام الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْأَذَان.
وَلَوْ دَخَلَ غُلَام رَجُل دَاره يَوْمًا فَقَالَ لَهُ مَوْلَاهُ : لَا تَدْخُل هَذِهِ الدَّار بَعْد يَوْمك لَمْ يَكُنْ الْمُرَاد الْيَوْم الَّذِي دَخَلَ فِيهِ.
هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ
قَالَ عَمْرو بْن فَائِد : الْمَعْنَى وَإِذْ خِفْتُمْ.
وَهَذِهِ عُجْمَة، وَالْمَعْنَى بَارِع ب " إِنْ ".
وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ لَمَّا مَنَعُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ الْمَوْسِم وَهُمْ كَانُوا يَجْلِبُونَ الْأَطْعِمَة وَالتِّجَارَات، قَذَفَ الشَّيْطَان فِي قُلُوبهمْ الْخَوْف مِنْ الْفَقْر وَقَالُوا : مِنْ أَيْنَ نَعِيش.
فَوَعَدَهُمْ اللَّه أَنْ يُغْنِيهِمْ مِنْ فَضْله.
قَالَ الضَّحَّاك : فَفَتَحَ اللَّه عَلَيْهِمْ بَاب الْجِزْيَة مِنْ أَهْل الذِّمَّة بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ :" قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِر " [ التَّوْبَة : ٢٩ ] الْآيَة.
وَقَالَ عِكْرِمَة : أَغْنَاهُمْ اللَّه بِإِدْرَارِ الْمَطَر وَالنَّبَات وَخِصْب الْأَرْض فَأَخْصَبَتْ تَبَالَة وَجُرَش وَحَمَلُوا إِلَى مَكَّة الطَّعَام وَالْوَدَك وَكَثُرَ الْخَيْر وَأَسْلَمَتْ الْعَرَب : أَهْل نَجْد وَصَنْعَاء وَغَيْرهمْ فَتَمَادَى حَجّهمْ وَتَجْرهمْ وَأَغْنَى اللَّه مِنْ فَضْله بِالْجِهَادِ وَالظُّهُور عَلَى الْأُمَم.
وَالْعَيْلَة : الْفَقْر.
يُقَال : عَالَ الرَّجُل يَعِيل إِذَا اِفْتَقَرَ.
قَالَ الشَّاعِر :
وَمَا يَدْرِي الْفَقِير مَتَى غَنَاهُ وَمَا يَدْرِي الْغَنِيّ مَتَى يَعِيلُ
وَقَرَأَ عَلْقَمَة وَغَيْره مِنْ أَصْحَاب اِبْن مَسْعُود " عَائِلَة " وَهُوَ مَصْدَر كَالْقَائِلَةِ مِنْ قَالَ يَقِيل.
وَكَالْعَافِيَةِ.
وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون نَعْتًا لِمَحْذُوفٍ تَقْدِيره : حَالًا عَائِلَة، وَمَعْنَاهُ خَصْلَة شَاقَّة.
يُقَال مِنْهُ : عَالَنِي الْأَمْر يَعُولنِي : أَيْ شَقَّ عَلَيَّ وَاشْتَدَّ.
وَحَكَى الطَّبَرِيّ أَنَّهُ يُقَال : عَالَ يَعُول إِذَا اِفْتَقَرَ.
فِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى أَنَّ تَعَلُّق الْقَلْب بِالْأَسْبَابِ فِي الرِّزْق جَائِز وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُنَافٍ لِلتَّوَكُّلِ وَإِنْ كَانَ الرِّزْق مُقَدَّرًا وَأَمْر اللَّه وَقَسْمه مَفْعُولًا وَلَكِنَّهُ عَلَّقَهُ بِالْأَسْبَابِ حِكْمَة لِيَعْلَم الْقُلُوب الَّتِي تَتَعَلَّق بِالْأَسْبَابِ مِنْ الْقُلُوب الَّتِي تَتَوَكَّل عَلَى رَبّ الْأَرْبَاب.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ السَّبَب لَا يُنَافِي التَّوَكُّل قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( لَوْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّه حَقّ تَوَكُّله لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُق الطَّيْر تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوح بِطَانًا ).
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ.
فَأَخْبَرَ أَنَّ التَّوَكُّل الْحَقِيقِيّ لَا يُضَادّهُ الْغُدُوّ وَالرَّوَاح فِي طَلَب الرِّزْق.
اِبْن الْعَرَبِيّ : وَلَكِنَّ شُيُوخ الصُّوفِيَّة قَالُوا : إِنَّمَا يَغْدُو وَيَرُوح فِي الطَّاعَات فَهُوَ السَّبَب الَّذِي يَجْلِب الرِّزْق.
قَالُوا : وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَمْرَانِ : أَحَدهمَا : قَوْله تَعَالَى :" وَأْمُرْ أَهْلك بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلك رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقك " [ طَه : ١٣٢ ] الثَّانِي : قَوْله تَعَالَى :" إِلَيْهِ يَصْعَد الْكَلِم الطَّيِّب وَالْعَمَل الصَّالِح يَرْفَعهُ " [ فَاطِر : ١٠ ] فَلَيْسَ يُنْزِل الرِّزْقَ مِنْ مَحَلّه، وَهُوَ السَّمَاء، إِلَّا مَا يَصْعَد وَهُوَ الذِّكْر الطَّيِّب وَالْعَمَل الصَّالِح وَلَيْسَ بِالسَّعْيِ فِي الْأَرْض فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا رِزْق.
وَالصَّحِيح مَا أَحْكَمَتْه السُّنَّة عِنْد فُقَهَاء الظَّاهِر وَهُوَ الْعَمَل بِالْأَسْبَابِ الدُّنْيَوِيَّة مِنْ الْحَرْث وَالتِّجَارَة فِي الْأَسْوَاق وَالْعِمَارَة لِلْأَمْوَالِ وَغَرْس الثِّمَار.
وَقَدْ كَانَتْ الصَّحَابَة تَفْعَل ذَلِكَ وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْن أَظْهُرهمْ.
قَالَ أَبُو الْحَسَن بْن بَطَّال : أَمَرَ اللَّه سُبْحَانه عِبَاده بِالْإِنْفَاقِ مِنْ طَيِّبَات مَا كَسَبُوا إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ الْآي.
وَقَالَ :" فَمَنْ اُضْطُرَّ غَيْر بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْم عَلَيْهِ " [ الْبَقَرَة : ١٧٣ ].
فَأَحَلَّ لِلْمُضْطَرِّ مَا كَانَ حَرَّمَ عَلَيْهِ عِنْد عَدَمه لِلْغِذَاءِ الَّذِي أَمَرَهُ بِاكْتِسَابِهِ وَالِاغْتِذَاء بِهِ، وَلَمْ يَأْمُرهُ بِانْتِظَارِ طَعَام يَنْزِل عَلَيْهِ مِنْ السَّمَاء، وَلَوْ تَرَكَ السَّعْي فِي تَرْك مَا يَتَغَذَّى بِهِ لَكَانَ لِنَفْسِهِ قَاتِلًا.
وَقَدْ كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَلَوَّى مِنْ الْجُوع مَا يَجِد مَا يَأْكُلهُ، وَلَمْ يَنْزِل عَلَيْهِ طَعَام مِنْ السَّمَاء، وَكَانَ يَدَّخِر لِأَهْلِهِ قُوت سَنَته حَتَّى فَتَحَ اللَّه عَلَيْهِ الْفُتُوح.
وَقَدْ رَوَى أَنَس بْن مَالِك أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعِيرٍ فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه، أَعْقِلهُ وَأَتَوَكَّل أَوْ أُطْلِقهُ وَأَتَوَكَّل ؟ قَالَ :( اِعْقِلْهُ وَتَوَكَّلْ ).
قُلْت : وَلَا حُجَّة لَهُمْ فِي أَهْل الصُّفَّة، فَإِنَّهُمْ كَانُوا فُقَرَاء يَقْعُدُونَ فِي الْمَسْجِد مَا يَحْرُثُونَ وَلَا يَتَّجِرُونَ، لَيْسَ لَهُمْ كَسْب وَلَا مَال، إِنَّمَا هُمْ أَضْيَاف الْإِسْلَام عِنْد ضِيق الْبُلْدَان، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَحْتَطِبُونَ بِالنَّهَارِ وَيَسُوقُونَ الْمَاء إِلَى بَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآن بِاللَّيْلِ وَيُصَلُّونَ.
هَكَذَا وَصَفَهُمْ الْبُخَارِيّ وَغَيْره.
فَكَانُوا يَتَسَبَّبُونَ.
وَكَانَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا جَاءَتْهُ هَدِيَّة أَكَلَهَا مَعَهُمْ، وَإِنْ كَانَتْ صَدَقَة خَصَّهُمْ بِهَا، فَلَمَّا كَثُرَ الْفَتْح وَانْتَشَرَ الْإِسْلَام خَرَجُوا وَتَأَمَّرُوا - كَأَبِي هُرَيْرَة وَغَيْره - وَمَا قَعَدُوا.
ثُمَّ قِيلَ : الْأَسْبَاب الَّتِي يُطْلَب بِهَا الرِّزْق سِتَّة أَنْوَاع :[ أَعْلَاهَا ] كَسْب نَبِيّنَا مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ :( جُعِلَ رِزْقِي تَحْت ظِلّ رُمْحِي وَجُعِلَ الذِّلَّة وَالصَّغَار عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي ).
خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ وَصَحَّحَهُ.
فَجَعَلَ اللَّه رِزْق نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَسْبه لِفَضْلِهِ، وَخَصَّهُ بِأَفْضَل أَنْوَاع الْكَسْب، وَهُوَ أَخْذ الْغَلَبَة وَالْقَهْر لِشَرَفِهِ.
[ الثَّانِي ] أَكْل الرَّجُل مِنْ عَمَل يَده، قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( إِنَّ أَطْيَب مَا أَكَلَ الرَّجُل مِنْ عَمَل يَده وَإِنَّ نَبِيّ اللَّه دَاوُد كَانَ يَأْكُل مِنْ عَمَل يَده ) خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ.
وَفِي التَّنْزِيل " وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَة لَبُوس لَكُمْ " [ الْأَنْبِيَاء : ٨٠ ]، وَرُوِيَ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يَأْكُل مِنْ غَزْل أُمّه.
[ الثَّالِث ] التِّجَارَة، وَهِيَ كَانَتْ عَمَل جُلّ الصَّحَابَة رِضْوَان اللَّه عَلَيْهِمْ، وَخَاصَّة الْمُهَاجِرِينَ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهَا التَّنْزِيل فِي غَيْر مَوْضِع.
[ الرَّابِع ] الْحَرْث وَالْغَرْس.
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي سُورَة [ الْبَقَرَة ] [ الْخَامِس ] إِقْرَاء الْقُرْآن وَتَعْلِيمه وَالرُّقْيَة، وَقَدْ مَضَى فِي [ الْفَاتِحَة ] [ السَّادِس ] يَأْخُذ بِنِيَّةِ الْأَدَاء إِذَا اِحْتَاجَ، قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( مَنْ أَخَذَ أَمْوَال النَّاس يُرِيد أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّه عَنْهُ وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيد إِتْلَافهَا أَتْلَفَهُ اللَّه ).
خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ.
رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ
دَلِيل عَلَى أَنَّ الرِّزْق لَيْسَ بِالِاجْتِهَادِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ فَضْل اللَّه تَوَلَّى قِسْمَته بَيْن عِبَاده وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي قَوْله تَعَالَى :" نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنهمْ مَعِيشَتهمْ فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا " [ الزُّخْرُف : ٣٢ ] الْآيَة.
قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ
فِيهِ خَمْس عَشْرَة مَسْأَلَة : الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :" قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِر " لَمَّا حَرَّمَ اللَّه تَعَالَى عَلَى الْكُفَّار أَنْ يَقْرَبُوا الْمَسْجِد الْحَرَام، وَجَدَ الْمُسْلِمُونَ فِي أَنْفُسهمْ بِمَا قَطَعَ عَنْهُمْ مِنْ التِّجَارَة الَّتِي كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُوَافُونَ بِهَا، قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ :" وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَة " [ التَّوْبَة : ٢٨ ] الْآيَة.
عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
ثُمَّ أَحَلَّ فِي هَذِهِ الْآيَة الْجِزْيَة وَكَانَتْ لَمْ تُؤْخَذ قَبْل ذَلِكَ، فَجَعَلَهَا عِوَضًا مِمَّا مَنَعَهُمْ مِنْ مُوَافَاة الْمُشْرِكِينَ بِتِجَارَتِهِمْ.
فَقَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ :" قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِر " الْآيَة.
فَأَمَرَ سُبْحَانه وَتَعَالَى بِمُقَاتَلَةِ جَمِيع الْكُفَّار لِإِصْفَاقِهِمْ عَلَى هَذَا الْوَصْف، وَخَصَّ أَهْل الْكِتَاب بِالذِّكْرِ إِكْرَامًا لِكِتَابِهِمْ، وَلِكَوْنِهِمْ عَالِمِينَ بِالتَّوْحِيدِ وَالرُّسُل وَالشَّرَائِع وَالْمِلَل، وَخُصُوصًا ذِكْر مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِلَّته وَأُمَّته.
فَلَمَّا أَنْكَرُوهُ تَأَكَّدَتْ عَلَيْهِمْ الْحُجَّة وَعَظُمَتْ مِنْهُمْ الْجَرِيمَة، فَنَبَّهَ عَلَى مَحَلّهمْ ثُمَّ جَعَلَ لِلْقِتَالِ غَايَة وَهِيَ إِعْطَاء الْجِزْيَة بَدَلًا عَنْ الْقَتْل.
وَهُوَ الصَّحِيح.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : سَمِعْت أَبَا الْوَفَاء عَلِيّ بْن عَقِيل فِي مَجْلِس النَّظَر يَتْلُوهَا وَيَحْتَجّ بِهَا.
فَقَالَ :" قَاتِلُوا " وَذَلِكَ أَمْر بِالْعُقُوبَةِ.
ثُمَّ قَالَ :" الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ " وَذَلِكَ بَيَان لِلذَّنْبِ الَّذِي أَوْجَبَ الْعُقُوبَة.
وَقَوْله :" وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِر " تَأْكِيد لِلذَّنْبِ فِي جَانِب الِاعْتِقَاد.
ثُمَّ قَالَ :" وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّه وَرَسُوله " زِيَادَة لِلذَّنْبِ فِي مُخَالَفَة الْأَعْمَال.
ثُمَّ قَالَ :" وَلَا يَدِينُونَ دِين الْحَقّ " إِشَارَة إِلَى تَأْكِيد الْمَعْصِيَة بِالِانْحِرَافِ وَالْمُعَانَدَة وَالْأَنَفَة عَنْ الِاسْتِسْلَام.
ثُمَّ قَالَ :" مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب " تَأْكِيد لِلْحُجَّةِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدهمْ فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل.
ثُمَّ قَالَ :" حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَة عَنْ يَد " فَبَيَّنَ الْغَايَة الَّتِي تَمْتَدّ إِلَيْهَا الْعُقُوبَة وَعَيَّنَ الْبَدَل الَّذِي تَرْتَفِع بِهِ.
الثَّانِيَة : وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِيمَنْ تُؤْخَذ مِنْهُ الْجِزْيَة، قَالَ الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه : لَا تُقْبَل الْجِزْيَة إِلَّا مِنْ أَهْل الْكِتَاب خَاصَّة عَرَبًا كَانُوا أَوْ عَجَمًا لِهَذِهِ الْآيَة، فَإِنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ خُصُّوا بِالذِّكْرِ فَتَوَجَّهَ الْحُكْم إِلَيْهِمْ دُون مَنْ سِوَاهُمْ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ :" فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ " [ التَّوْبَة : ٥ ].
وَلَمْ يَقُلْ : حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَة كَمَا قَالَ فِي أَهْل الْكِتَاب.
وَقَالَ : وَتُقْبَل مِنْ الْمَجُوس بِالسُّنَّةِ وَبِهِ قَالَ أَحْمَد وَأَبُو ثَوْر.
وَهُوَ مَذْهَب الثَّوْرِيّ وَأَبِي حَنِيفَة وَأَصْحَابه.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ : تُؤْخَذ الْجِزْيَة مِنْ كُلّ عَابِد وَثَن أَوْ نَار أَوْ جَاحِد أَوْ مُكَذِّب.
وَكَذَلِكَ مَذْهَب مَالِك، فَإِنَّهُ رَأَى الْجِزْيَة تُؤْخَذ مِنْ جَمِيع أَجْنَاس الشِّرْك وَالْجَحْد، عَرَبِيًّا أَوْ عَجَمِيًّا، تَغْلِبِيًّا أَوْ قُرَشِيًّا، كَائِنًا مَنْ كَانَ، إِلَّا الْمُرْتَدّ.
وَقَالَ اِبْن الْقَاسِم وَأَشْهَب وَسَحْنُون : تُؤْخَذ الْجِزْيَة مِنْ مَجُوس الْعَرَب وَالْأُمَم كُلّهَا.
وَأَمَّا عَبَدَة الْأَوْثَان مِنْ الْعَرَب فَلَمْ يَسْتَنّ اللَّه فِيهِمْ جِزْيَة، وَلَا يَبْقَى عَلَى الْأَرْض مِنْهُمْ أَحَد، وَإِنَّمَا لَهُمْ الْقِتَال أَوْ الْإِسْلَام.
وَيُوجَد لِابْنِ الْقَاسِم : أَنَّ الْجِزْيَة تُؤْخَذ مِنْهُمْ، كَمَا يَقُول مَالِك.
وَذَلِكَ فِي التَّفْرِيع لِابْنِ الْجَلَّاب وَهُوَ اِحْتِمَال لَا نَصّ.
وَقَالَ اِبْن وَهْب : لَا تُقْبَل الْجِزْيَة مِنْ مَجُوس الْعَرَب وَتُقْبَل مِنْ غَيْرهمْ.
قَالَ : لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَرَب مَجُوسِيّ إِلَّا وَجَمِيعهمْ أَسْلَمَ، فَمَنْ وُجِدَ مِنْهُمْ بِخِلَافِ الْإِسْلَام فَهُوَ مُرْتَدّ يُقْتَل بِكُلِّ حَال إِنْ لَمْ يُسْلِم وَلَا تُقْبَل مِنْهُمْ جِزْيَة.
وَقَالَ اِبْن الْجَهْم : تُقْبَل الْجِزْيَة مِنْ كُلّ مَنْ دَانَ بِغَيْرِ الْإِسْلَام إِلَّا مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ مِنْ كُفَّار قُرَيْش.
وَذَكَرَ فِي تَعْلِيل ذَلِكَ أَنَّهُ إِكْرَام لَهُمْ عَنْ الذِّلَّة وَالصَّغَار، لِمَكَانِهِمْ مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ غَيْره : إِنَّمَا ذَلِكَ لِأَنَّ جَمِيعهمْ أَسْلَمَ يَوْم فَتْح مَكَّة.
وَاَللَّه أَعْلَم.
الثَّالِثَة : وَأَمَّا الْمَجُوس فَقَالَ اِبْن الْمُنْذِر : لَا أَعْلَم خِلَافًا أَنَّ الْجِزْيَة تُؤْخَذ مِنْهُمْ.
وَفِي الْمُوَطَّإِ : مَالِك عَنْ جَعْفَر بْن مُحَمَّد عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَر بْن الْخَطَّاب ذَكَرَ أَمْر الْمَجُوس فَقَالَ : مَا أَدْرِي كَيْفَ أَصْنَع فِي أَمْرهمْ.
فَقَالَ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف : أَشْهَد لَسَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول :( سُنُّوا بِهِمْ سُنَّة أَهْل الْكِتَاب ).
قَالَ أَبُو عُمَر : يَعْنِي فِي الْجِزْيَة خَاصَّة.
وَفِي قَوْل رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( سُنُّوا بِهِمْ سُنَّة أَهْل الْكِتَاب ) دَلِيل عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْل كِتَاب.
وَعَلَى هَذَا جُمْهُور الْفُقَهَاء.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الشَّافِعِيّ أَنَّهُمْ كَانُوا أَهْل كِتَاب فَبَدَّلُوا.
وَأَظُنّهُ ذَهَبَ فِي ذَلِكَ إِلَى شَيْء رُوِيَ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ مِنْ وَجْه فِيهِ ضَعْف، يَدُور عَلَى أَبِي سَعِيد الْبَقَّال، ذَكَرَهُ عَبْد الرَّزَّاق وَغَيْره.
قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَرُوِيَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ بُعِثَ فِي الْمَجُوس نَبِيّ اِسْمه زَرَادِشت.
وَاَللَّه أَعْلَم.
الرَّابِعَة : لَمْ يَذْكُر اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى فِي كِتَابه مِقْدَارًا لِلْجِزْيَةِ الْمَأْخُوذَة مِنْهُمْ.
وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي مِقْدَار الْجِزْيَة الْمَأْخُوذَة مِنْهُمْ، فَقَالَ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح : لَا تَوْقِيت فِيهَا، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى مَا صُولِحُوا عَلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ قَالَ يَحْيَى بْن آدَم وَأَبُو عُبَيْد وَالطَّبَرِيّ، إِلَّا أَنَّ الطَّبَرِيّ قَالَ : أَقَلّه دِينَار وَأَكْثَره لَا حَدّ لَهُ.
وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ أَهْل الصَّحِيح عَنْ عَمْرو بْن عَوْف : أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَ أَهْل الْبَحْرَيْنِ عَلَى الْجِزْيَة.
وَقَالَ الشَّافِعِيّ : دِينَار عَلَى الْغَنِيّ وَالْفَقِير مِنْ الْأَحْرَار الْبَالِغِينَ لَا يَنْقُص مِنْهُ شَيْء وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْره عَنْ مُعَاذ : أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَن وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذ مِنْ كُلّ حَالِم دِينَارًا فِي الْجِزْيَة.
قَالَ الشَّافِعِيّ : وَهُوَ الْمُبَيِّن عَنْ اللَّه تَعَالَى مُرَاده.
وَهُوَ قَوْل أَبِي ثَوْر.
قَالَ الشَّافِعِيّ : وَإِنْ صُولِحُوا عَلَى أَكْثَر مِنْ دِينَار جَازَ، وَإِنْ زَادُوا وَطَابَتْ بِذَلِكَ أَنْفُسهمْ قُبِلَ مِنْهُمْ.
وَإِنْ صُولِحُوا عَلَى ضِيَافَة ثَلَاثَة أَيَّام جَازَ، إِذَا كَانَتْ الضِّيَافَة مَعْلُومَة فِي الْخُبْز وَالشَّعِير وَالتِّبْن وَالْإِدَام، وَذَكَرَ مَا عَلَى الْوَسَط مِنْ ذَلِكَ وَمَا عَلَى الْمُوسِر وَذَكَرَ مَوْضِع النُّزُول وَالْكِنّ مِنْ الْبَرْد وَالْحَرّ.
وَقَالَ مَالِك فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ اِبْن الْقَاسِم وَأَشْهَب وَمُحَمَّد بْن الْحَارِث بْن زَنْجَوَيْهِ : إِنَّهَا أَرْبَعَة دَنَانِير عَلَى أَهْل الذَّهَب وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا عَلَى أَهْل الْوَرِق، الْغَنِيّ وَالْفَقِير سَوَاء وَلَوْ كَانَ مَجُوسِيًّا.
لَا يُزَاد وَلَا يُنْقَص عَلَى مَا فَرَضَ عُمَر لَا يُؤْخَذ مِنْهُمْ غَيْره.
وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ الضَّعِيف يُخَفَّف عَنْهُ بِقَدْرِ مَا يَرَاهُ الْإِمَام.
وَقَالَ اِبْن الْقَاسِم : لَا يُنْقَص مِنْ فَرْض عُمَر لِعُسْرٍ وَلَا يُزَاد عَلَيْهِ لِغِنًى.
قَالَ أَبُو عُمَر : وَيُؤْخَذ مِنْ فُقَرَائِهِمْ بِقَدْرِ مَا يَحْتَمِلُونَ وَلَوْ دِرْهَمًا.
وَإِلَى هَذَا رَجَعَ مَالِك.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه وَمُحَمَّد بْن الْحَسَن وَأَحْمَد بْن حَنْبَل : اِثْنَا عَشَر، وَأَرْبَعَة وَعِشْرُونَ، وَأَرْبَعُونَ.
قَالَ الثَّوْرِيّ : جَاءَ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب فِي ذَلِكَ ضَرَائِب مُخْتَلِفَة، فَلِلْوَالِي أَنْ يَأْخُذ بِأَيِّهَا شَاءَ، إِذَا كَانُوا أَهْل ذِمَّة.
وَأَمَّا أَهْل الصُّلْح فَمَا صُولِحُوا عَلَيْهِ لَا غَيْر.
الْخَامِسَة : قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَة اللَّه عَلَيْهِمْ : وَاَلَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآن أَنَّ الْجِزْيَة تُؤْخَذ مِنْ الرِّجَال الْمُقَاتِلِينَ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ :" قَاتِلُوا الَّذِينَ " إِلَى قَوْله :" حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَة " فَيَقْتَضِي ذَلِكَ وُجُوبهَا عَلَى مَنْ يُقَاتِل.
وَيَدُلّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْعَبْد وَإِنْ كَانَ مُقَاتِلًا، لِأَنَّهُ لَا مَال لَهُ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ :" حَتَّى يُعْطُوا ".
وَلَا يُقَال لِمَنْ لَا يَمْلِك حَتَّى يُعْطِي.
وَهَذَا إِجْمَاع مِنْ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْجِزْيَة إِنَّمَا تُوضَع عَلَى جَمَاجِم الرِّجَال الْأَحْرَار الْبَالِغِينَ، وَهُمْ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ دُون النِّسَاء وَالذُّرِّيَّة وَالْعَبِيد وَالْمَجَانِين الْمَغْلُوبِينَ عَلَى عُقُولهمْ وَالشَّيْخ الْفَانِي.
وَاخْتُلِفَ فِي الرُّهْبَان، فَرَوَى اِبْن وَهْب عَنْ مَالِك أَنَّهَا لَا تُؤْخَذ مِنْهُمْ.
قَالَ مُطَرِّف وَابْن الْمَاجِشُون : هَذَا إِذَا لَمْ يَتَرَهَّب بَعْد فَرْضهَا فَإِنْ فُرِضَتْ ثُمَّ تَرَهَّبَ لَمْ يُسْقِطهَا تَرَهُّبه.
السَّادِسَة : إِذَا أَعْطَى أَهْل الْجِزْيَةِ الْجِزْيَةَ لَمْ يُؤْخَذ مِنْهُمْ شَيْء مِنْ ثِمَارهمْ وَلَا تِجَارَتهمْ وَلَا زُرُوعهمْ إِلَّا أَنْ يَتَّجِرُوا فِي بِلَاد غَيْر بِلَادهمْ الَّتِي أُقِرُّوا فِيهَا وَصُولِحُوا عَلَيْهَا.
فَإِنْ خَرَجُوا تُجَّارًا عَنْ بِلَادهمْ الَّتِي أُقِرُّوا فِيهَا إِلَى غَيْرهَا أُخِذَ مِنْهُمْ الْعُشْر إِذَا بَاعُوا وَنَضَّ ثَمَن ذَلِكَ بِأَيْدِيهِمْ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي السَّنَة مِرَارًا إِلَّا فِي حَمْلهمْ الطَّعَام الْحِنْطَة وَالزَّيْت إِلَى الْمَدِينَة وَمَكَّة خَاصَّة، فَإِنَّهُ يُؤْخَذ مِنْهُمْ نِصْف الْعُشْر عَلَى مَا فَعَلَ عُمَر.
وَمِنْ أَهْل الْمَدِينَة مَنْ لَا يَرَى أَنْ يُؤْخَذ مِنْ أَهْل الذِّمَّة الْعُشْر فِي تِجَارَتهمْ إِلَّا مَرَّة فِي الْحَوْل، مِثْل مَا يُؤْخَذ مِنْ الْمُسْلِمِينَ.
وَهُوَ مَذْهَب عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز وَجَمَاعَة مِنْ أَئِمَّة الْفُقَهَاء.
وَالْأَوَّل قَوْل مَالِك وَأَصْحَابه.
السَّابِعَة : إِذَا أَدَّى أَهْل الْجِزْيَة جِزْيَتهمْ الَّتِي ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ أَوْ صُولِحُوا عَلَيْهَا خُلِّيَ بَيْنهمْ وَبَيْن أَمْوَالهمْ كُلّهَا، وَبَيْن كُرُومِهِمْ وَعَصْرهَا مَا سَتَرُوا خُمُورهمْ وَلَمْ يُعْلِنُوا بَيْعهَا مِنْ مُسْلِم وَمُنِعُوا مِنْ إِظْهَار الْخَمْر وَالْخِنْزِير فِي أَسْوَاق الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ أَظْهَرُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أُرِيقَتْ الْخَمْر عَلَيْهِمْ، وَأُدِّبَ مَنْ أَظْهَرَ الْخِنْزِير.
وَإِنْ أَرَاقَهَا مُسْلِم مِنْ غَيْر إِظْهَارهَا فَقَدْ تَعَدَّى، وَيَجِب عَلَيْهِ الضَّمَان.
وَقِيلَ : لَا يَجِب وَلَوْ غَصَبَهَا وَجَبَ عَلَيْهِ رَدّهَا.
وَلَا يُعْتَرَض لَهُمْ فِي أَحْكَامهمْ وَلَا مُتَاجَرَتهمْ فِيمَا بَيْنهمْ بِالرِّبَا.
فَإِنْ تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا فَالْحَاكِم مُخَيَّر، إِنْ شَاءَ حَكَمَ بَيْنهمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه وَإِنْ شَاءَ أَعْرَضَ.
وَقِيلَ : يَحْكُم بَيْنهمْ فِي الْمَظَالِم عَلَى كُلّ حَال، وَيُؤْخَذ مِنْ قَوِيّهمْ لِضَعِيفِهِمْ، لِأَنَّهُ مِنْ بَاب الدَّفْع عَنْهُمْ وَعَلَى الْإِمَام أَنْ يُقَاتِل عَنْهُمْ عَدُوّهُمْ وَيَسْتَعِين بِهِمْ فِي قِتَالهمْ.
وَلَا حَظّ لَهُمْ فِي الْفَيْء، وَمَا صُولِحُوا عَلَيْهِ مِنْ الْكَنَائِس لَمْ يَزِيدُوا عَلَيْهَا، وَلَمْ يُمْنَعُوا مِنْ إِصْلَاح مَا وَهَى مِنْهَا، وَلَا سَبِيل لَهُمْ إِلَى إِحْدَاث غَيْرهَا.
وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللِّبَاس وَالْهَيْئَة بِمَا يَبِينُونَ بِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَيُمْنَعُونَ مِنْ التَّشَبُّه بِأَهْلِ الْإِسْلَام.
وَلَا بَأْس بِاشْتِرَاءِ أَوْلَاد الْعَدُوّ مِنْهُمْ إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُمْ ذِمَّة.
وَمَنْ لَدَّ فِي أَدَاء جِزْيَته أُدِّبَ عَلَى لَدَده وَأُخِذَتْ مِنْهُ صَاغِرًا.
الثَّامِنَة : اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِيمَا وَجَبَتْ الْجِزْيَة عَنْهُ، فَقَالَ عُلَمَاء الْمَالِكِيَّة : وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الْقَتْل بِسَبَبِ الْكُفْر.
وَقَالَ الشَّافِعِيّ : وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الدَّم وَسُكْنَى الدَّار.
وَفَائِدَة الْخِلَاف أَنَّا إِذَا قُلْنَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الْقَتْل فَأَسْلَمَ سَقَطَتْ عَنْهُ الْجِزْيَة لِمَا مَضَى، وَلَوْ أَسْلَمَ قَبْل تَمَام الْحَوْل بِيَوْمٍ أَوْ بَعْده عِنْد مَالِك.
وَعِنْد الشَّافِعِيّ أَنَّهَا دَيْن مُسْتَقِرّ فِي الذِّمَّة فَلَا يُسْقِطهُ الْإِسْلَام كَأُجْرَةِ الدَّار.
وَقَالَ بَعْض الْحَنَفِيَّة بِقَوْلِنَا.
وَقَالَ بَعْضهمْ : إِنَّمَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ النَّصْر وَالْجِهَاد.
وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو زَيْد وَزَعَمَ أَنَّهُ سِرّ اللَّه فِي الْمَسْأَلَة.
وَقَوْل مَالِك أَصَحّ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( لَيْسَ عَلَى مُسْلِم جِزْيَة ).
قَالَ سُفْيَان : مَعْنَاهُ إِذَا أَسْلَمَ الذِّمِّيّ بَعْد مَا وَجَبَتْ الْجِزْيَة عَلَيْهِ بَطَلَتْ عَنْهُ.
أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ وَأَبُو دَاوُد.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَعَلَيْهِ يَدُلّ قَوْله تَعَالَى :" حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَة عَنْ يَد وَهُمْ صَاغِرُونَ " لِأَنَّ بِالْإِسْلَامِ يَزُول هَذَا الْمَعْنَى.
وَلَا خِلَاف أَنَّهُمْ إِذَا أَسْلَمُوا فَلَا يُؤَدُّونَ الْجِزْيَة عَنْ يَد وَهُمْ صَاغِرُونَ.
وَالشَّافِعِيّ لَا يَأْخُذ بَعْد الْإِسْلَام عَلَى الْوَجْه الَّذِي قَالَهُ اللَّه تَعَالَى.
وَإِنَّمَا يَقُول : إِنَّ الْجِزْيَة دَيْن، وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِسَبَبِ سَابِق وَهُوَ السُّكْنَى أَوْ تَوَقِّي شَرّ الْقَتْل، فَصَارَتْ كَالدُّيُونِ كُلّهَا.
التَّاسِعَة : لَوْ عَاهَدَ الْإِمَام أَهْل بَلَد أَوْ حِصْن ثُمَّ نَقَضُوا عَهْدهمْ وَامْتَنَعُوا مِنْ أَدَاء مَا يَلْزَمهُمْ مِنْ الْجِزْيَة وَغَيْرهَا وَامْتَنَعُوا مِنْ حُكْم الْإِسْلَام مِنْ غَيْر أَنْ يُظْلَمُوا وَكَانَ الْإِمَام غَيْر جَائِر عَلَيْهِمْ وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ غَزْوهمْ وَقِتَالهمْ مَعَ إِمَامهمْ.
فَإِنْ قَاتَلُوا وَغُلِبُوا حَكَمَ فِيهِمْ بِالْحُكْمِ فِي دَار الْحَرْب سَوَاء.
وَقَدْ قِيلَ : هُمْ وَنِسَاؤُهُمْ فَيْء وَلَا خُمُس فِيهِمْ، وَهُوَ مَذْهَب.
الْعَاشِرَة : فَإِنْ خَرَجُوا مُتَلَصِّصِينَ قَاطِعِينَ الطَّرِيق فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُحَارِبِينَ الْمُسْلِمِينَ إِذَا لَمْ يَمْنَعُوا الْجِزْيَة.
وَلَوْ خَرَجُوا مُتَظَلِّمِينَ نَظَرَ فِي أَمْرهمْ وَرُدُّوا إِلَى الذِّمَّة وَأُنْصِفُوا مِنْ ظَالِمهمْ وَلَا يُسْتَرَقّ مِنْهُمْ أَحَد وَهُمْ أَحْرَار.
فَإِنْ نَقَضَ بَعْضهمْ دُون بَعْض فَمَنْ لَمْ يَنْقُض عَلَى عَهْده، وَلَا يُؤْخَذ بِنَقْضِ غَيْره وَتُعْرَف إِقَامَتهمْ عَلَى الْعَهْد بِإِنْكَارِهِمْ عَلَى النَّاقِضِينَ.
الْحَادِيَة عَشْرَة : الْجِزْيَة وَزْنهَا فِعْلَة، مِنْ جَزَى يَجْزِي إِذَا كَافَأَ عَمَّا أُسْدِيَ إِلَيْهِ، فَكَأَنَّهُمْ أَعْطَوْهَا جَزَاء مَا مُنِحُوا مِنْ الْأَمْن، وَهِيَ كَالْقِعْدَةِ وَالْجِلْسَة.
وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْل الشَّاعِر :
يُجْزِيك أَوْ يُثْنِي عَلَيْك وَإِنَّ مَنْ أَثْنَى عَلَيْك بِمَا فَعَلْت كَمَنْ جَزَى
الثَّانِيَة عَشْرَة : رَوَى مُسْلِم عَنْ هِشَام بْن حَكِيم بْن حِزَام وَمَرَّ عَلَى نَاس مِنْ الْأَنْبَاط بِالشَّامِ قَدْ أُقِيمُوا فِي الشَّمْس - فِي رِوَايَة : وَصُبَّ عَلَى رُءُوسهمْ الزَّيْت - فَقَالَ : مَا شَأْنهمْ ؟ فَقَالَ يُحْبَسُونَ فِي الْجِزْيَة.
فَقَالَ هِشَام : أَشْهَد لَسَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول :( إِنَّ اللَّه يُعَذِّب الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاس فِي الدُّنْيَا ).
فِي رِوَايَة : وَأَمِيرهمْ يَوْمئِذٍ عُمَيْر بْن سَعْد عَلَى فِلَسْطِين، فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَحَدَّثَهُ فَأَمَرَ بِهِمْ فَخُلُّوا.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : أَمَّا عُقُوبَتهمْ إِذَا اِمْتَنَعُوا مِنْ أَدَائِهَا مَعَ التَّمْكِين فَجَائِز، فَأَمَّا مَعَ تَبَيُّن عَجْزهمْ فَلَا تَحِلّ عُقُوبَتهمْ، لِأَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنْ الْجِزْيَة سَقَطَتْ عَنْهُ.
وَلَا يُكَلَّف الْأَغْنِيَاء أَدَاءَهَا عَنْ الْفُقَرَاء.
وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ صَفْوَان بْن سُلَيْم عَنْ عِدَّة مِنْ أَبْنَاء أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ آبَائِهِمْ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( مَنْ ظَلَمَ مُعَاهَدًا أَوْ اِنْتَقَصَهُ أَوْ كَلَّفَهُ فَوْق طَاقَته أَوْ أَخَذَ شَيْئًا مِنْهُ بِغَيْرِ طِيب نَفْس فَأَنَا حَجِيجه يَوْم الْقِيَامَة ).
الثَّالِثَة عَشْرَة : قَوْله تَعَالَى :" عَنْ يَد " قَالَ اِبْن عَبَّاس : يَدْفَعهَا بِنَفْسِهِ غَيْر مُسْتَنِيب فِيهَا أَحَدًا رَوَى أَبُو الْبَخْتَرِيّ عَنْ سَلْمَان قَالَ : مَذْمُومِينَ.
وَرَوَى مَعْمَر عَنْ قَتَادَة قَالَ : عَنْ قَهْر وَقِيلَ :" عَنْ يَد " عَنْ إِنْعَام مِنْكُمْ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ إِذَا أُخِذَتْ مِنْهُمْ الْجِزْيَة فَقَدْ أُنْعِمَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ.
عِكْرِمَة : يَدْفَعهَا وَهُوَ قَائِم وَالْآخِذ جَالِس وَقَالَهُ سَعِيد بْن جُبَيْر.
اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا لَيْسَ مِنْ قَوْله :" عَنْ يَد " وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْله :" وَهُمْ صَاغِرُونَ ".
الرَّابِعَة عَشْرَة : رَوَى الْأَئِمَّة عَنْ عَبْد اللَّه بْن عُمَر أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( الْيَد الْعُلْيَا خَيْر مِنْ الْيَد السُّفْلَى وَالْيَد الْعُلْيَا الْمُنْفِقَة وَالسُّفْلَى السَّائِلَة ) وَرَوَى :( وَالْيَد الْعُلْيَا هِيَ الْمُعْطِيَة ).
فَجَعَلَ يَد الْمُعْطِي فِي الصَّدَقَة عُلْيَا، وَجَعَلَ يَد الْمُعْطِي فِي الْجِزْيَة سُفْلَى.
وَيَد الْآخِذ عُلْيَا ; ذَلِكَ بِأَنَّهُ الرَّافِع الْخَافِض، يَرْفَع مَنْ يَشَاء وَيَخْفِض مَنْ يَشَاء، لَا إِلَه غَيْره.
الْخَامِسَة عَشْرَة : عَنْ حَبِيب بْن أَبِي ثَابِت قَالَ : جَاءَ رَجُل إِلَى اِبْن عَبَّاس فَقَالَ : إِنَّ أَرْض الْخَرَاج يَعْجِز عَنْهَا أَهْلهَا أَفَأَعْمُرهَا وَأَزْرَعهَا وَأُؤَدِّي خَرَاجهَا ؟ فَقَالَ : لَا.
وَجَاءَهُ آخَر فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ : لَا وَتَلَا قَوْله تَعَالَى :" قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِر " إِلَى قَوْله :" وَهُمْ صَاغِرُونَ " أَيَعْمِدُ أَحَدكُمْ إِلَى الصَّغَار فِي عُنُق أَحَدهمْ فَيَنْتَزِعهُ فَيَجْعَلهُ فِي عُنُقه وَقَالَ كُلَيْب بْن وَائِل : قُلْت لِابْنِ عُمَر اِشْتَرَيْت أَرْضًا قَالَ الشِّرَاء حَسَن.
قُلْت : فَإِنِّي أُعْطِي عَنْ كُلّ جَرِيب أَرْض دِرْهَمًا وَقَفِيز طَعَام.
قَالَ : لَا تَجْعَل فِي عُنُقك صَغَارًا.
وَرَوَى مَيْمُون بْن مِهْرَان عَنْ اِبْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَ : مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي الْأَرْض كُلّهَا بِجِزْيَةِ خَمْسَة دَرَاهِم أُقِرّ فِيهَا بِالصَّغَارِ عَلَى نَفْسِي.
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ
قَرَأَ عَاصِم وَالْكِسَائِيّ " عُزَيْرٌ اِبْنُ اللَّه " بِتَنْوِينِ عُزَيْر.
وَالْمَعْنَى أَنَّ " ابْن " عَلَى هَذَا خَبَر اِبْتِدَاء عَنْ عُزَيْر، و " عُزَيْر " يَنْصَرِف عَجَمِيًّا كَانَ أَوْ عَرَبِيًّا.
وَقَرَأَ اِبْن كَثِير وَنَافِع وَأَبُو عَمْرو وَابْن عَامِر " عُزَيْر اِبْن " بِتَرْكِ التَّنْوِين لِاجْتِمَاعِ السَّاكِنَيْنِ، وَمِنْهُ قِرَاءَة مَنْ قَرَأَ " قُلْ هُوَ اللَّه أَحَد اللَّه الصَّمَد " [ الْإِخْلَاص :
١ - ٢ ].
قَالَ أَبُو عَلِيّ : وَهُوَ كَثِير فِي الشِّعْر.
وَأَنْشَدَ الطَّبَرِيّ فِي ذَلِكَ :
لَتَجِدنِي بِالْأَمِيرِ بَرَّا وَبِالْقَنَاةِ مِدْعَسًا مِكَرَّا
إِذَا غُطَيْف السُّلَمِيّ فَرَّا
" وَقَالَتْ الْيَهُود " هَذَا لَفْظ خَرَجَ عَلَى الْعُمُوم وَمَعْنَاهُ الْخُصُوص، لِأَنَّ لَيْسَ كُلّ الْيَهُود قَالُوا ذَلِكَ.
وَهَذَا مِثْل قَوْله تَعَالَى :" الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاس " [ آل عِمْرَان : ١٧٣ ] وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ كُلّ النَّاس.
وَقِيلَ : إِنَّ قَائِل مَا حَكَى عَنْ الْيَهُود سَلَّام بْن مِشْكَم وَنُعْمَان بْن أَبِي أَوْفَى وَشَاس بْن قَيْس وَمَالِك بْن الصَّيْف، قَالُوهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ النَّقَّاش : لَمْ يَبْقَ يَهُودِيّ يَقُولهَا بَلْ اِنْقَرَضُوا فَإِذَا قَالَهَا وَاحِد فَيَتَوَجَّه أَنْ تَلْزَم الْجَمَاعَة شُنْعَة الْمَقَالَة، لِأَجْلِ نَبَاهَة الْقَائِل فِيهِمْ.
وَأَقْوَال النُّبَهَاء أَبَدًا مَشْهُورَة فِي النَّاس يُحْتَجّ بِهَا.
فَمِنْ هَاهُنَا صَحَّ أَنْ تَقُول الْجَمَاعَة قَوْل نَبِيههَا.
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سَبَب ذَلِكَ الْقَوْل أَنَّ الْيَهُود قَتَلُوا الْأَنْبِيَاء بَعْد مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَرَفَعَ اللَّه عَنْهُمْ التَّوْرَاة وَمَحَاهَا مِنْ قُلُوبهمْ، فَخَرَجَ عُزَيْر يَسِيح فِي الْأَرْض، فَأَتَاهُ جِبْرِيل فَقَالَ :( أَيْنَ تَذْهَب ) ؟ قَالَ : أَطْلُب الْعِلْم، فَعَلَّمَهُ التَّوْرَاة كُلّهَا فَجَاءَ عُزَيْر بِالتَّوْرَاةِ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيل فَعَلَّمَهُمْ.
وَقِيلَ : بَلْ حَفَّظَهَا اللَّهُ عُزَيْرًا كَرَامَة مِنْهُ لَهُ، فَقَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيل : إِنَّ اللَّه قَدْ حَفَّظَنِي التَّوْرَاة، فَجَعَلُوا يَدْرُسُونَهَا مِنْ عِنْده.
وَكَانَتْ التَّوْرَاة مَدْفُونَة، كَانَ دَفَنَهَا عُلَمَاؤُهُمْ حِين أَصَابَهُمْ مِنْ الْفِتَن وَالْجَلَاء وَالْمَرَض مَا أَصَابَ وَقَتْل بُخْتَنَصْر إِيَّاهُمْ.
ثُمَّ إِنَّ التَّوْرَاة الْمَدْفُونَة وُجِدَتْ فَإِذَا هِيَ مُتَسَاوِيَة لِمَا كَانَ عُزَيْر يُدَرِّس فَضَلُّوا عِنْد ذَلِكَ وَقَالُوا : إِنَّ هَذَا لَمْ يَتَهَيَّأ لِعُزَيْرٍ إِلَّا وَهُوَ اِبْن اللَّه حَكَاهُ الطَّبَرِيّ.
وَظَاهِر قَوْل النَّصَارَى أَنَّ الْمَسِيح اِبْن اللَّه، إِنَّمَا أَرَادُوا بُنُوَّة النَّسْل كَمَا قَالَتْ الْعَرَب فِي الْمَلَائِكَة.
وَكَذَلِكَ يَقْتَضِي قَوْل الضَّحَّاك وَالطَّبَرِيّ وَغَيْرهمَا.
وَهَذَا أَشْنَع الْكُفْر.
قَالَ أَبُو الْمَعَالِي : أَطْبَقَتْ النَّصَارَى عَلَى أَنَّ الْمَسِيح إِلَه وَإِنَّهُ اِبْن إِلَه.
قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَيُقَال إِنَّ بَعْضهمْ يَعْتَقِدهَا بُنُوَّة حُنُوّ وَرَحْمَة.
وَهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا لَا يَحِلّ أَنْ تُطْلَق الْبُنُوَّة عَلَيْهِ وَهُوَ كُفْر.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : فِي هَذَا دَلِيل مِنْ قَوْل رَبّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى أَنَّ مَنْ أَخْبَرَ عَنْ كُفْر غَيْره الَّذِي لَا يَجُوز لِأَحَدٍ أَنْ يَبْتَدِئ بِهِ لَا حَرَج عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَنْطِق بِهِ عَلَى مَعْنَى الِاسْتِعْظَام لَهُ وَالرَّدّ عَلَيْهِ وَلَوْ شَاءَ رَبّنَا مَا تَكَلَّمَ بِهِ أَحَد، فَإِذَا مَكَّنَ مِنْ إِطْلَاق الْأَلْسُن بِهِ فَقَدْ أَذِنَ بِالْإِخْبَارِ عَنْهُ عَلَى مَعْنَى إِنْكَاره بِالْقَلْبِ وَاللِّسَان وَالرَّدّ عَلَيْهِ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَان.
ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ
قِيلَ : مَعْنَاهُ التَّأْكِيد، كَمَا قَالَ تَعَالَى :" يَكْتُبُونَ الْكِتَاب بِأَيْدِيهِمْ " [ الْبَقَرَة : ٧٩ ] وَقَوْله :" وَلَا طَائِر يَطِير بِجَنَاحَيْهِ " [ الْأَنْعَام : ٣٨ ] وَقَوْله :" فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّوَر نَفْخَة وَاحِدَة " [ الْحَاقَّة : ١٣ ] وَمِثْله كَثِير.
وَقِيلَ : الْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَوْل سَاذَج لَيْسَ فِيهِ بَيَان وَلَا بُرْهَان، وَإِنَّمَا هُوَ قَوْل بِالْفَمِ مُجَرَّد نَفْس دَعْوَى لَا مَعْنَى تَحْته صَحِيح لِأَنَّهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ اللَّه سُبْحَانه لَمْ يَتَّخِذ صَاحِبَة فَكَيْفَ يَزْعُمُونَ أَنَّ لَهُ وَلَدًا، فَهُوَ كَذِب وَقَوْل لِسَانِيّ فَقَطْ بِخِلَافِ الْأَقْوَال الصَّحِيحَة الَّتِي تُعَضِّدهَا الْأَدِلَّة وَيَقُوم عَلَيْهَا الْبُرْهَان.
قَالَ أَهْل الْمَعَانِي : إِنَّ اللَّه سُبْحَانه لَمْ يَذْكُر قَوْلًا مَقْرُونًا بِذِكْرِ الْأَفْوَاه وَالْأَلْسُن إِلَّا وَكَانَ قَوْلًا زُورًا، كَقَوْلِهِ :" يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبهمْ " [ آل عِمْرَان : ١٦٧ ] و " كَبُرَتْ كَلِمَة تَخْرُج مِنْ أَفْوَاههمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا " [ الْكَهْف : ٥ ] و " يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبهمْ " [ الْفَتْح : ١١ ].
يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ
" يُضَاهِئُونَ " يُشَابِهُونَ، وَمِنْهُ قَوْل الْعَرَب : اِمْرَأَة ضَهْيَأ لِلَّتِي لَا تَحِيض أَوْ الَّتِي لَا ثَدْي لَهَا، كَأَنَّهَا أَشْبَهَتْ الرِّجَال.
وَلِلْعُلَمَاءِ فِي " قَوْل الَّذِينَ كَفَرُوا " ثَلَاثَة أَقْوَال :[ الْأَوَّل ] قَوْل عَبَدَة الْأَوْثَان : اللَّات وَالْعُزَّى وَمَنَاة الثَّالِثَة الْأُخْرَى.
[ الثَّانِي ] قَوْل الْكَفَرَة : الْمَلَائِكَة بَنَات اللَّه.
[ الثَّالِث ] قَوْل أَسْلَافهمْ، فَقَلَّدُوهُمْ فِي الْبَاطِل وَاتَّبَعُوهُمْ عَلَى الْكُفْر، كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :" إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّة " [ الزُّخْرُف : ٢٣ ].
اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي " ضَهْيَأ " هَلْ يُمَدّ أَوْ لَا، فَقَالَ اِبْن وَلَّاد : اِمْرَأَة ضَهْيَأ، وَهِيَ الَّتِي لَا تَحِيض، مَهْمُوز غَيْر مَمْدُود.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُدّ وَهُوَ سِيبَوَيْهِ فَيَجْعَلهَا عَلَى فَعَلَاء بِالْمَدِّ، وَالْهَمْزَة فِيهَا زَائِدَة لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ نِسَاء ضُهْي فَيَحْذِفُونَ الْهَمْزَة.
قَالَ أَبُو الْحَسَن قَالَ لِي النَّجِيرَمِيّ : ضَهْيَأَة بِالْمَدِّ وَالْهَاء.
جَمَعَ بَيْن عَلَامَتَيْ تَأْنِيث، حَكَاهُ عَنْ أَبِي عَمْرو الشَّيْبَانِيّ فِي النَّوَادِر.
وَأَنْشَدَ :
ضَهْيَأَة أَوْ عَاقِر جَمَاد
اِبْن عَطِيَّة : مَنْ قَالَ " يُضَاهِئُونَ " مَأْخُوذ مِنْ قَوْلهمْ : اِمْرَأَة ضَهْيَاءَ فَقَوْله خَطَأ، قَالَهُ أَبُو عَلِيّ، لِأَنَّ الْهَمْزَة فِي ( ضَاهَأَ ) أَصْلِيَّة، وَفِي ( ضَهْيَاءَ ) زَائِدَة كَحَمْرَاء.
قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ
أَيْ لَعَنَهُمْ اللَّه، يَعْنِي الْيَهُود وَالنَّصَارَى، لِأَنَّ الْمَلْعُون كَالْمَقْتُولِ.
قَالَ اِبْن جُرَيْج :" قَاتَلَهُمْ اللَّه " هُوَ بِمَعْنَى التَّعَجُّب.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : كُلّ شَيْء فِي الْقُرْآن قَتْل فَهُوَ لَعْن، وَمِنْهُ قَوْل أَبَان بْن تَغْلِب :
قَاتَلَهَا اللَّه تَلْحَانِي وَقَدْ عَلِمَتْ أَنِّي لِنَفْسِي إِفْسَادِي وَإِصْلَاحِي
وَحَكَى النَّقَّاش أَنَّ أَصْل " قَاتَلَ اللَّه " الدُّعَاء، ثُمَّ كَثُرَ فِي اِسْتِعْمَالهمْ حَتَّى قَالُوهُ عَلَى التَّعَجُّب فِي الْخَيْر وَالشَّرّ، وَهُمْ لَا يُرِيدُونَ الدُّعَاء.
وَأَنْشَدَ الْأَصْمَعِيّ :
اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ
الْأَحْبَار جَمْع حَبْر، وَهُوَ الَّذِي يُحَسِّن الْقَوْل وَيُنَظِّمهُ وَيُتْقِنهُ بِحُسْنِ الْبَيَان عَنْهُ.
وَمِنْهُ ثَوْب مُحَبَّر أَيْ جَمَعَ الزِّينَة.
وَقَدْ قِيلَ فِي وَاحِد الْأَحْبَار : حِبْر بِكَسْرِ الْحَاء، وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا : مِدَاد حِبْر يُرِيدُونَ مِدَاد عَالِم، ثُمَّ كَثُرَ الِاسْتِعْمَال حَتَّى قَالُوا لِلْمِدَادِ حِبْر.
قَالَ الْفَرَّاء : الْكَسْر وَالْفَتْح لُغَتَانِ.
وَقَالَ اِبْن السِّكِّيت : الْحِبْر بِالْكَسْرِ الْمِدَاد، وَالْحَبْر بِالْفَتْحِ الْعَالِم.
وَالرُّهْبَان جَمْع رَاهِب مَأْخُوذ مِنْ الرَّهْبَة، وَهُوَ الَّذِي حَمَلَهُ خَوْف اللَّه تَعَالَى عَلَى أَنْ يُخْلِص لَهُ النِّيَّة دُون النَّاس، وَيَجْعَل زَمَانه لَهُ وَعَمَله مَعَهُ وَأُنْسه بِهِ.
أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ
قَالَ أَهْل الْمَعَانِي : جَعَلُوا أَحْبَارهمْ وَرُهْبَانهمْ كَالْأَرْبَابِ حَيْثُ أَطَاعُوهُمْ فِي كُلّ شَيْء وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى :" قَالَ اُنْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا " [ الْكَهْف : ٩٦ ] أَيْ كَالنَّارِ.
قَالَ عَبْد اللَّه بْن الْمُبَارَك :
يَا قَاتَلَ اللَّه لَيْلَى كَيْفَ تُعْجِبنِي وَأُخْبِر النَّاس أَنِّي لَا أُبَالِيهَا
وَهَلْ أَفْسَدَ الدِّين إِلَّا الْمُلُوك وَأَحْبَار سُوء وَرُهْبَانهَا
رَوَى الْأَعْمَش وَسُفْيَان عَنْ حَبِيب بْن أَبِي ثَابِت عَنْ أَبَى الْبَخْتَرِيّ قَالَ : سُئِلَ حُذَيْفَة عَنْ قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ :" اِتَّخَذُوا أَحْبَارهمْ وَرُهْبَانهمْ أَرْبَابًا مِنْ دُون اللَّه " هَلْ عَبَدُوهُمْ ؟ فَقَالَ لَا، وَلَكِنْ أَحَلُّوا لَهُمْ الْحَرَام فَاسْتَحَلُّوهُ، وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمْ الْحَلَال فَحَرَّمُوهُ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ عَدِيّ بْن حَاتِم قَالَ : أَتَيْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي عُنُقِي صَلِيب مِنْ ذَهَب.
فَقَالَ :( مَا هَذَا يَا عَدِيّ اِطْرَحْ عَنْك هَذَا الْوَثَن ) وَسَمِعْته يَقْرَأ فِي سُورَة [ بَرَاءَة ] " اِتَّخَذُوا أَحْبَارهمْ وَرُهْبَانهمْ أَرْبَابًا مِنْ دُون اللَّه وَالْمَسِيح اِبْن مَرْيَم " ثُمَّ قَالَ :( أَمَّا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اِسْتَحَلُّوهُ وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ ).
قَالَ : هَذَا حَدِيث غَرِيب لَا يُعْرَف إِلَّا مِنْ حَدِيث عَبْد السَّلَام بْن حَرْب.
وَغُطَيْف بْن أَعْيَن لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ فِي الْحَدِيث.
وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ
مَضَى الْكَلَام فِي اِشْتِقَاقه فِي [ آل عِمْرَان ] وَالْمَسِيح : الْعَرَق يَسِيل مِنْ الْجَبِين.
وَلَقَدْ أَحْسَن بَعْض الْمُتَأَخِّرِينَ فَقَالَ :
اِفْرَحْ فَسَوْفَ تَأْلَف الْأَحْزَانَا إِذَا شَهِدْت الْحَشْر وَالْمِيزَانَا
وَسَالَ مِنْ جَبِينك الْمَسِيح كَأَنَّهُ جَدَاوِل تَسِيح
وَمَضَى فِي [ النِّسَاء ] مَعْنَى إِضَافَته إِلَى مَرْيَم أُمّه.
يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ
أَيْ دَلَالَته وَحُجَجه عَلَى تَوْحِيده.
جَعَلَ الْبَرَاهِين بِمَنْزِلَةِ النُّور لِمَا فِيهَا مِنْ الْبَيَان.
وَقِيلَ : الْمَعْنَى نُور الْإِسْلَام، أَيْ أَنْ يُخْمِدُوا دِين اللَّه بِتَكْذِيبِهِمْ.
بِأَفْوَاهِهِمْ
جَمْع فَوْه عَلَى الْأَصْل، لِأَنَّ الْأَصْل فِي فَم فَوْه، مِثْل حَوْض وَأَحْوَاض.
وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ
يُقَال : كَيْفَ دَخَلَتْ " إِلَّا " وَلَيْسَ فِي الْكَلَام حَرْف نَفْي، وَلَا يَجُوز ضَرَبْت إِلَّا زَيْدًا.
فَزَعَمَ الْفَرَّاء أَنَّ " إِلَّا " إِنَّمَا دَخَلَتْ لِأَنَّ فِي الْكَلَام طَرَفًا مِنْ الْجَحْد.
قَالَ الزَّجَّاج : الْجَحْد وَالتَّحْقِيق لَيْسَا بِذَوِي أَطْرَاف.
وَأَدَوَات الْجَحْد : مَا، وَلَا، وَإِنْ، وَلَيْسَ : وَهَذِهِ لَا أَطْرَاف لَهَا يَنْطِق بِهَا وَلَوْ كَانَ الْأَمْر كَمَا أَرَادَ لَجَازَ كَرِهْت إِلَّا زَيْدًا، وَلَكِنَّ الْجَوَاب أَنَّ الْعَرَب تَحْذِف مَعَ أَبَى.
وَالتَّقْدِير : وَيَأْبَى اللَّه كُلّ شَيْء إِلَّا أَنْ يُتِمّ نُوره.
وَقَالَ عَلِيّ بْن سُلَيْمَان : إِنَّمَا جَازَ هَذَا فِي " أَبَى " لِأَنَّهَا مَنْع أَوْ اِمْتِنَاع فَضَارَعَتْ النَّفْي.
قَالَ النَّحَّاس : فَهَذَا حَسَن، كَمَا قَالَ الشَّاعِر :
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ
يُرِيد مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
بِالْهُدَى
أَيْ بِالْفُرْقَانِ.
وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ
أَيْ بِالْحُجَّةِ وَالْبَرَاهِين.
وَقَدْ أَظْهَرَهُ عَلَى شَرَائِع الدِّين حَتَّى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْء مِنْهَا، عَنْ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره.
وَقِيلَ :" لِيُظْهِرهُ " أَيْ لِيُظْهِر الدِّين دِين الْإِسْلَام عَلَى كُلّ دِين.
قَالَ أَبُو هُرَيْرَة وَالضَّحَّاك : هَذَا عِنْد نُزُول عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام.
وَقَالَ السُّدِّيّ : ذَاكَ عِنْد خُرُوج الْمَهْدِيّ، لَا يَبْقَى أَحَد إِلَّا دَخَلَ فِي الْإِسْلَام أَوْ أَدَّى الْجِزْيَة.
وَقِيلَ : الْمَهْدِيّ هُوَ عِيسَى فَقَطْ وَهُوَ غَيْر صَحِيح لِأَنَّ الْأَخْبَار الصِّحَاح قَدْ تَوَاتَرَتْ عَلَى أَنَّ الْمَهْدِيّ مِنْ عِتْرَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا يَجُوز حَمْله عَلَى عِيسَى.
وَالْحَدِيث الَّذِي وَرَدَ فِي أَنَّهُ ( لَا مَهْدِيّ إِلَّا عِيسَى ) غَيْر صَحِيح.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي كِتَاب الْبَعْث وَالنُّشُور : لِأَنَّ رَاوِيه مُحَمَّد بْن خَالِد الْجُنْدِيّ وَهُوَ مَجْهُول، يَرْوِي عَنْ أَبَان بْن أَبِي عَيَّاش - وَهُوَ مَتْرُوك - عَنْ الْحَسَن عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مُنْقَطِع.
وَالْأَحَادِيث الَّتِي قَبْله فِي التَّنْصِيص عَلَى خُرُوج الْمَهْدِيّ، وَفِيهَا بَيَان كَوْن الْمَهْدِيّ مِنْ عِتْرَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَحّ إِسْنَادًا.
قُلْت : قَدْ ذَكَرْنَا هَذَا وَزِدْنَاهُ بَيَانًا فِي كِتَابنَا ( كِتَاب التَّذْكِرَة ) وَذَكَرْنَا أَخْبَار الْمَهْدِيّ مُسْتَوْفَاة وَالْحَمْد لِلَّهِ.
وَقِيلَ : أَرَادَ " لِيُظْهِرهُ عَلَى الدِّين كُلّه " فِي جَزِيرَة الْعَرَب، وَقَدْ فَعَلَ.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ
" لَيَأْكُلُونَ أَمْوَال النَّاس بِالْبَاطِلِ " دَخَلَتْ اللَّام عَلَى يَفْعَل، وَلَا تَدْخُل عَلَى فَعَلَ لِمُضَارَعَةِ يَفْعَل الْأَسْمَاء.
وَالْأَحْبَار عُلَمَاء الْيَهُود.
وَالرُّهْبَان مُجْتَهِدُو النَّصَارَى فِي الْعِبَادَة.
" بِالْبَاطِلِ " قِيلَ : إِنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ مِنْ أَمْوَال أَتْبَاعهمْ ضَرَائِب وَفُرُوضًا بِاسْمِ الْكَنَائِس وَالْبِيَع وَغَيْر ذَلِكَ، مِمَّا يُوهِمُونَهُمْ أَنَّ النَّفَقَة فِيهِ مِنْ الشَّرْع وَالتَّزَلُّف إِلَى اللَّه تَعَالَى، وَهُمْ خِلَال ذَلِكَ يَحْجُبُونَ تِلْكَ الْأَمْوَال، كَاَلَّذِي ذَكَرَهُ سَلْمَان الْفَارِسِيّ عَنْ الرَّاهِب الَّذِي اِسْتَخْرَجَ كَنْزه، ذَكَرَهُ اِبْن إِسْحَاق فِي السِّيَر.
وَقِيلَ : كَانُوا يَأْخُذُونَ مِنْ غَلَّاتهمْ وَأَمْوَالهمْ ضَرَائِب بِاسْمِ حِمَايَة الدِّين وَالْقِيَام بِالشَّرْعِ.
وَقِيلَ : كَانُوا يَرْتَشُونَ فِي الْأَحْكَام، كَمَا يَفْعَلهُ الْيَوْم كَثِير مِنْ الْوُلَاة وَالْحُكَّام.
وَقَوْله :" بِالْبَاطِلِ " يَجْمَع ذَلِكَ كُلّه.
بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ
أَيْ يَمْنَعُونَ أَهْل دِينهمْ عَنْ الدُّخُول فِي دِين الْإِسْلَام، وَاتِّبَاع مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ
الْكَنْز أَصْله فِي اللُّغَة الضَّمّ وَالْجَمْع وَلَا يَخْتَصّ ذَلِكَ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّة.
أَلَا تَرَى قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام :( أَلَا أُخْبِركُمْ بِخَيْرِ مَا يَكْنِز الْمَرْءُ الْمَرْأَة الصَّالِحَة ).
أَيْ يَضُمّهُ لِنَفْسِهِ وَيَجْمَعهُ.
قَالَ :
وَلَمْ تَزَوَّدْ مِنْ جَمِيع الْكَنْز... غَيْر خُيُوط وَرَثِيث بَزّ
وَقَالَ آخَر :
لَا دَرَّ دَرِّي إِنْ أَطْعَمْت جَائِعهمْ... قِرْف الْحَتِيّ وَعِنْدِي الْبُرّ مَكْنُوز
قِرْف الْحَتِيّ هُوَ سَوِيق الْمُقِلّ.
يَقُول : إِنَّهُ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَكَانَ قِرَاهُ عِنْدهمْ سَوِيق الْمُقِلّ، وَهُوَ الْحَتِيّ، فَلَمَّا نَزَلُوا بِهِ قَالَ هُوَ : لَا دَرَّ دَرِّي... الْبَيْت.
وَخَصَّ الذَّهَب وَالْفِضَّة بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُطَّلَع عَلَيْهِ، بِخِلَافِ سَائِر الْأَمْوَال.
قَالَ الطَّبَرِيّ : الْكَنْز كُلّ شَيْء مَجْمُوع بَعْضه إِلَى بَعْض، فِي بَطْن الْأَرْض كَانَ أَوْ عَلَى ظَهْرهَا.
وَسُمِّيَ الذَّهَب ذَهَبًا لِأَنَّهُ يَذْهَب، وَالْفِضَّة لِأَنَّهَا تَنْفَضّ فَتَتَفَرَّق، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى :" اِنْفَضُّوا إِلَيْهَا " [ الْجُمُعَة : ١١ ] - " لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلك " [ آل عِمْرَان : ١٥٩ ] وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي [ آل عِمْرَان ]
وَاخْتَلَفَ الصَّحَابَة فِي الْمُرَاد بِهَذِهِ الْآيَة، فَذَهَبَ مُعَاوِيَة إِلَى أَنَّ الْمُرَاد بِهَا أَهْل الْكِتَاب وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَصَمّ لِأَنَّ قَوْله :" وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ " مَذْكُور بَعْد قَوْله :" إِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأَحْبَار وَالرُّهْبَان لَيَأْكُلُونَ أَمْوَال النَّاس بِالْبَاطِلِ ".
وَقَالَ أَبُو ذَرّ وَغَيْره : الْمُرَاد بِهَا أَهْل الْكِتَاب وَغَيْرهمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ.
وَهُوَ الصَّحِيح، لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَهْل الْكِتَاب خَاصَّة لَقَالَ : وَيَكْنِزُونَ، بِغَيْرِ وَاَلَّذِينَ.
فَلَمَّا قَالَ :" وَاَلَّذِينَ " فَقَدْ اِسْتَأْنَفَ مَعْنًى آخَر يُبَيِّن أَنَّهُ عَطَفَ جُمْلَة عَلَى جُمْلَة.
فَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ كَلَام مُسْتَأْنَف، وَهُوَ رَفْع عَلَى الِابْتِدَاء.
قَالَ السُّدِّيّ : عَنَى أَهْل الْقِبْلَة.
فَهَذِهِ ثَلَاثَة أَقْوَال.
وَعَلَى قَوْل الصَّحَابَة فِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّ الْكُفَّار عِنْدهمْ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَة.
رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ زَيْد بْن وَهْب قَالَ : مَرَرْت بِالرَّبَذَةِ فَإِذَا أَنَا بِأَبِي ذَرّ فَقُلْت لَهُ : مَا أَنْزَلَك مَنْزِلك هَذَا ؟ قَالَ : كُنْت بِالشَّامِ فَاخْتَلَفْت أَنَا وَمُعَاوِيَة فِي " الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَب وَالْفِضَّة وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيل اللَّه "، فَقَالَ مُعَاوِيَة : نَزَلَتْ فِي أَهْل الْكِتَاب.
فَقُلْت : نَزَلَتْ فِينَا وَفِيهِمْ، وَكَانَ بَيْنِي وَبَيْنه فِي ذَلِكَ.
فَكَتَبَ إِلَى عُثْمَان يَشْكُونِي، فَكَتَبَ إِلَيَّ عُثْمَان أَنْ اُقْدُمْ الْمَدِينَة، فَقَدِمْتهَا فَكَثُرَ عَلَيَّ النَّاس حَتَّى كَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْنِي قَبْل ذَلِكَ، فَذَكَرْت ذَلِكَ لِعُثْمَان فَقَالَ : إِنْ شِئْت تَنَحَّيْت فَكُنْت قَرِيبًا، فَذَاكَ الَّذِي أَنْزَلَنِي هَذَا الْمَنْزِل وَلَوْ أَمَّرُوا عَلَيَّ حَبَشِيًّا لَسَمِعْت وَأَطَعْت.
قَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد : تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَة زَكَاة الْعَيْن، وَهِيَ تَجِب بِأَرْبَعَةِ شُرُوط : حُرِّيَّة، وَإِسْلَام، وَحَوْل، وَنِصَاب سَلِيم مِنْ الدَّيْن.
وَالنِّصَاب مِائَتَا دِرْهَم أَوْ عِشْرُونَ دِينَارًا.
أَوْ يُكَمِّل نِصَاب أَحَدهمَا مِنْ الْآخَر وَأَخْرَجَ رُبْع الْعُشْر مِنْ هَذَا وَرُبْع الْعُشْر مِنْ هَذَا.
وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ الْحُرِّيَّة شَرْط، فَلِأَنَّ الْعَبْد نَاقِص الْمِلْك.
وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ الْإِسْلَام شَرْط، فَلِأَنَّ الزَّكَاة طُهْرَة وَالْكَافِر لَا تَلْحَقهُ طُهْرَة، وَلِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ :" وَأَقِيمُوا الصَّلَاة وَآتُوا الزَّكَاة " [ الْبَقَرَة : ٤٣ ] فَخُوطِبَ بِالزَّكَاةِ مَنْ خُوطِبَ بِالصَّلَاةِ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ الْحَوْل شَرْط، فَلِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( لَيْسَ فِي مَال زَكَاة حَتَّى يَحُول عَلَيْهِ الْحَوْل ).
وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ النِّصَاب شَرْط، فَلِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( لَيْسَ فِي أَقَلّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَم زَكَاة وَلَيْسَ فِي أَقَلّ مِنْ عِشْرِينَ دِينَارًا زَكَاة ).
وَلَا يُرَاعَى كَمَال النِّصَاب فِي أَوَّل الْحَوْل، وَإِنَّمَا يُرَاعَى عِنْد آخِر الْحَوْل، لِاتِّفَاقِهِمْ أَنَّ الرِّبْح فِي حُكْم الْأَصْل.
يَدُلّ عَلَى هَذَا أَنَّ مَنْ كَانَتْ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَم فَتَجَرَ فِيهَا فَصَارَتْ آخِر الْحَوْل أَلْفًا أَنَّهُ يُؤَدِّي زَكَاة الْأَلْف، وَلَا يَسْتَأْنِف لِلرِّبْحِ حَوْلًا.
فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْتَلِف حُكْم الرِّبْح، كَانَ صَادِرًا عَنْ نِصَاب أَوْ دُونه.
وَكَذَلِكَ اِتَّفَقُوا أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ أَرْبَعُونَ مِنْ الْغَنَم، فَتَوَالَدَتْ لَهُ رَأْس الْحَوْل ثُمَّ مَاتَتْ الْأُمَّهَات إِلَّا وَاحِدَة مِنْهَا، وَكَانَتْ السِّخَال تَتِمَّة النِّصَاب فَإِنَّ الزَّكَاة تُخْرَج عَنْهَا.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْمَال الَّذِي أُدِّيَتْ زَكَاته هَلْ يُسَمَّى كَنْزًا أَمْ لَا ؟ فَقَالَ قَوْم : نَعَمْ.
وَرَوَاهُ أَبُو الضَّحَّاك عَنْ جَعْدَة بْن هُبَيْرَة عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، قَالَ عَلِيّ : أَرْبَعَة آلَاف فَمَا دُونهَا نَفَقَة، وَمَا كَثُرَ فَهُوَ كَنْز وَإِنْ أَدَّيْت زَكَاته، وَلَا يَصِحّ.
وَقَالَ قَوْم : مَا أَدَّيْت زَكَاته مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْره عَنْهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ.
قَالَ اِبْن عُمَر : مَا أُدِّيَ زَكَاته فَلَيْسَ بِكَنْزٍ وَإِنْ كَانَ تَحْت سَبْع أَرَضِينَ، وَكُلّ مَا لَمْ تُؤَدَّ زَكَاته فَهُوَ كَنْز وَإِنْ كَانَ فَوْق الْأَرْض.
وَمِثْله عَنْ جَابِر، وَهُوَ الصَّحِيح.
وَرَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( مَنْ آتَاهُ اللَّه مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاته مُثِّلَ لَهُ يَوْم الْقِيَامَة شُجَاعًا أَقْرَع لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوِّقهُ يَوْم الْقِيَامَة ثُمَّ يَأْخُذ بِلِهْزِمَتَيْهِ - يَعْنِي شِدْقَيْهِ - ثُمَّ يَقُول أَنَا مَالَك أَنَا كَنْزك - ثُمَّ تَلَا - " وَلَا يَحَسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ " [ آل عِمْرَان : ١٨٠ ] الْآيَة.
وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ أَبِي ذَرّ، قَالَ : اِنْتَهَيْت إِلَيْهِ - يَعْنِي النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ :( وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ - أَوْ وَاَلَّذِي لَا إِلَه غَيْره أَوْ كَمَا حَلَفَ - مَا مِنْ رَجُل تَكُون لَهُ إِبِل أَوْ بَقَر أَوْ غَنَم لَا يُؤَدِّي حَقّهَا إِلَّا أُتِيَ بِهَا يَوْم الْقِيَامَة أَعْظَم مَا تَكُون وَأَسْمَنه تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا وَتَنْطَحهُ بِقُرُونِهَا كُلَّمَا جَازَتْ أُخْرَاهَا رُدَّتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا حَتَّى يُقْضَى بَيْن النَّاس ).
فَدَلَّ دَلِيل خِطَاب هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى صِحَّة مَا ذَكَرْنَا.
وَقَدْ بَيَّنَ اِبْن عُمَر فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ هَذَا الْمَعْنَى، قَالَ لَهُ أَعْرَابِيّ : أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْل اللَّه تَعَالَى :" وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَب وَالْفِضَّة " قَالَ اِبْن عُمَر : مَنْ كَنَزَهَا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتهَا فَوَيْل لَهُ، إِنَّمَا كَانَ هَذَا قَبْل أَنْ تَنْزِل الزَّكَاة، فَلَمَّا أُنْزِلَتْ جَعَلَهَا اللَّه طُهْرًا لِلْأَمْوَالِ.
وَقِيلَ : الْكَنْز مَا فَضَلَ عَنْ الْحَاجَة.
رُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرّ، وَهُوَ مِمَّا نُقِلَ مِنْ مَذْهَبه، وَهُوَ مِنْ شَدَائِده وَمِمَّا اِنْفَرَدَ بِهِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
قُلْت : وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون مُجْمَل مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرّ فِي هَذَا، مَا رُوِيَ أَنَّ الْآيَة نَزَلَتْ فِي وَقْت شِدَّة الْحَاجَة وَضَعْف الْمُهَاجِرِينَ وَقِصَر يَد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كِفَايَتهمْ، وَلَمْ يَكُنْ فِي بَيْت الْمَال مَا يَسَعُهُمْ، وَكَانَتْ السُّنُونَ الْجَوَائِح هَاجِمَة عَلَيْهِمْ، فَنُهُوا عَنْ إِمْسَاك شَيْء مِنْ الْمَال إِلَّا عَلَى قَدْر الْحَاجَة وَلَا يَجُوز اِدِّخَار الذَّهَب وَالْفِضَّة فِي مِثْل ذَلِكَ الْوَقْت.
فَلَمَّا فَتَحَ اللَّه عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَوَسَّعَ عَلَيْهِمْ أَوْجَبَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مِائَتَيْ دِرْهَم خَمْسَة دَرَاهِم وَفِي عِشْرِينَ دِينَارًا نِصْف دِينَار وَلَمْ يُوجِب الْكُلّ وَاعْتَبَرَ مُدَّة الِاسْتِنْمَاء، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ بَيَانًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقِيلَ : الْكَنْز مَا لَمْ تُؤَدَّ مِنْهُ الْحُقُوق الْعَارِضَة، كَفَكّ الْأَسِير وَإِطْعَام الْجَائِع وَغَيْر ذَلِكَ.
وَقِيلَ : الْكَنْز لُغَة : الْمَجْمُوع مِنْ النَّقْدَيْنِ، وَغَيْرهمَا مِنْ الْمَال مَحْمُول عَلَيْهِمَا بِالْقِيَاسِ.
وَقِيلَ : الْمَجْمُوع مِنْهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ حُلِيًّا، لِأَنَّ الْحُلِيّ مَأْذُون فِي اِتِّخَاذه وَلَا حَقّ فِيهِ.
وَالصَّحِيح مَا بَدَأْنَا بِذِكْرِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ كُلّه يُسَمَّى كَنْزًا لُغَة وَشَرْعًا.
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي زَكَاة الْحُلِيّ، فَذَهَبَ مَالِك وَأَصْحَابه وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَأَبُو عُبَيْد إِلَى أَنْ لَا زَكَاة فِيهِ.
وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ بِالْعِرَاقِ، وَوَقَفَ فِيهِ بَعْد ذَلِكَ بِمِصْرَ وَقَالَ : أَسْتَخِير اللَّه فِيهِ.
وَقَالَ الثَّوْرِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه وَالْأَوْزَاعِيّ : فِي ذَلِكَ كُلّه الزَّكَاة.
اِحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ فَقَالُوا : قَصْد النَّمَاء يُوجِب الزَّكَاة فِي الْعُرُوض وَهِيَ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لِإِيجَابِ الزَّكَاة، كَذَلِكَ قَطْع النَّمَاء فِي الذَّهَب وَالْفِضَّة بِاِتِّخَاذِهِمَا حُلِيًّا لِلْقِنْيَةِ يُسْقِط الزَّكَاة.
اِحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَة بِعُمُومِ الْأَلْفَاظ فِي إِيجَاب الزَّكَاة فِي النَّقْدَيْنِ وَلَمْ يُفَرِّق بَيْن حُلِيّ وَغَيْره.
وَفَرَّقَ اللَّيْث بْن سَعْد فَأَوْجَبَ الزَّكَاة فِيمَا صَنَعَ حُلِيًّا لِيَفِرّ بِهِ مِنْ الزَّكَاة وَأَسْقَطَهَا فِيمَا كَانَ مِنْهُ يُلْبَس وَيُعَار وَفِي الْمَذْهَب فِي الْحُلِيّ تَفْصِيل بَيَانه فِي كُتُب الْفُرُوع.
رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة " وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَب وَالْفِضَّة " قَالَ : كَبُرَ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ عُمَر : أَنَا أُفَرِّج عَنْكُمْ فَانْطَلَقَ فَقَالَ : يَا نَبِيّ اللَّه إِنَّهُ كَبُرَ عَلَى أَصْحَابك هَذِهِ الْآيَة.
فَقَالَ :( إِنَّ اللَّه لَمْ يَفْرِض الزَّكَاة إِلَّا لِيُطَيِّب مَا بَقِيَ مِنْ أَمْوَالكُمْ وَإِنَّمَا فَرَضَ الْمَوَارِيث - وَذَكَرَ كَلِمَة - لِتَكُونَ لِمَنْ بَعْدكُمْ ) قَالَ : فَكَبَّرَ عُمَر.
ثُمَّ قَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( أَلَا أُخْبِرك بِخَيْرِ مَا يَكْنِز الْمَرْء الْمَرْأَة الصَّالِحَة إِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ وَإِذَا أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ وَإِذَا غَابَ عَنْهَا حَفِظَتْهُ ).
وَرَوَى التِّرْمِذِيّ وَغَيْره عَنْ ثَوْبَان أَنَّ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا : قَدْ ذَمّ اللَّه سُبْحَانه الذَّهَب وَالْفِضَّة، فَلَوْ عَلِمْنَا أَيّ الْمَال خَيْر حَتَّى نَكْسِبهُ.
فَقَالَ عُمَر : أَنَا أَسْأَل لَكُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ :( لِسَان ذَاكِر وَقَلْب شَاكِر وَزَوْجَة تُعِين الْمَرْء عَلَى دِينه ).
قَالَ حَدِيث حَسَن.
وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ
وَلَمْ يَقُلْ يُنْفِقُونَهُمَا، فَفِيهِ أَجْوِبَة سِتَّة :[ الْأَوَّل ] قَالَ اِبْن الْأَنْبَارِيّ : قَصَدَ الْأَغْلَب وَالْأَعَمّ وَهِيَ الْفِضَّة، وَمِثْله قَوْله :" وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاة وَإِنَّهَا لَكَبِيرَة " [ الْبَقَرَة : ٤٥ ] رَدَّ الْكِنَايَة إِلَى الصَّلَاة لِأَنَّهَا أَعَمّ.
وَمِثْله " وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَة أَوْ لَهْوًا اِنْفَضُّوا إِلَيْهَا " [ الْجُمُعَة : ١١ ] فَأَعَادَ الْهَاء إِلَى التِّجَارَة لِأَنَّهَا الْأَهَمّ وَتَرَكَ اللَّهْو قَالَهُ كَثِير مِنْ الْمُفَسِّرِينَ.
وَأَبَاهُ بَعْضهمْ وَقَالَ : لَا يُشْبِههَا، لِأَنَّ " أَوْ " قَدْ فَصَلَتْ التِّجَارَة مِنْ اللَّهْو فَحَسُنَ عَوْد الضَّمِير عَلَى أَحَدهمَا.
[ الثَّانِي ] الْعَكْس وَهُوَ أَنْ يَكُون " يُنْفِقُونَهَا " لِلذَّهَبِ وَالثَّانِي مَعْطُوفًا عَلَيْهِ.
وَالذَّهَب تُؤَنِّثهُ الْعَرَب تَقُول : هِيَ الذَّهَب الْحَمْرَاء.
وَقَدْ تُذَكِّر وَالتَّأْنِيث أَشْهَر.
[ الثَّالِث ] أَنْ يَكُون الضَّمِير لِلْكُنُوزِ.
[ الرَّابِع ] لِلْأَمْوَالِ الْمَكْنُوزَة.
[ الْخَامِس ] لِلزَّكَاةِ التَّقْدِير وَلَا يُنْفِقُونَ زَكَاة الْأَمْوَال الْمَكْنُوزَة.
[ السَّادِس ] الِاكْتِفَاء بِضَمِيرِ الْوَاحِد عَنْ ضَمِير الْآخَر إِذَا فُهِمَ الْمَعْنَى، وَهَذَا كَثِير فِي كَلَام الْعَرَب.
أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ :
وَهَلْ لِي أُمّ غَيْرهَا إِنْ تَرَكْتهَا أَبَى اللَّه إِلَّا أَنْ أَكُون لَهَا ابْنَمَا
نَحْنُ بِمَا عِنْدنَا وَأَنْتَ بِمَا عِنْدك رَاضٍ وَالرَّأْي مُخْتَلِف
وَلَمْ يَقُلْ رَاضُونَ.
وَقَالَ آخَر :
رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْت مِنْهُ وَوَالِدِي بَرِيئًا وَمِنْ أَجْل الطَّوِيّ رَمَانِي
وَلَمْ يَقُلْ بَرِيئَيْنِ.
وَنَحْوه قَوْل حَسَّان بْن ثَابِت رَضِيَ اللَّه عَنْهُ :
إِنَّ شَرْخ الشَّبَاب وَالشَّعْر الْأَسْوَد مَا لَمْ يُعَاصَ كَانَ جُنُونًا
وَلَمْ يَقُلْ يُعَاصَيَا.
إِنْ قِيلَ : مَنْ لَمْ يَكْنِز وَلَمْ يُنْفِق فِي سَبِيل اللَّه وَأَنْفَقَ فِي الْمَعَاصِي، هَلْ يَكُون حُكْمه فِي الْوَعِيد حُكْمَ مَنْ كَنَزَ وَلَمْ يُنْفِق فِي سَبِيل اللَّه.
قِيلَ لَهُ : إِنَّ ذَلِكَ أَشَدّ، فَإِنَّ مَنْ بَذَرَ مَاله فِي الْمَعَاصِي عَصَى مِنْ جِهَتَيْنِ : بِالْإِنْفَاقِ وَالتَّنَاوُل، كَشِرَاء الْخَمْر وَشُرْبهَا.
بَلْ مِنْ جِهَات إِذَا كَانَتْ الْمَعْصِيَة مِمَّا تَتَعَدَّى، كَمَنْ أَعَانَ عَلَى ظُلْم مُسْلِم مِنْ قَتْله أَوْ أَخْذ مَاله إِلَى غَيْر ذَلِكَ.
وَالْكَانِز عَصَى مِنْ جِهَتَيْنِ، وَهُمَا مَنْع الزَّكَاة وَحَبْس الْمَال لَا غَيْر.
وَقَدْ لَا يُرَاعَى حَبْس الْمَال، وَاَللَّه أَعْلَم.
اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ
قَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ.
وَقَدْ فَسَّرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْعَذَاب بِقَوْلِهِ :( بَشِّرْ الْكَنَّازِينَ بِكَيٍّ فِي ظُهُورهمْ يَخْرُج مِنْ جُنُوبهمْ وَبِكَيٍّ مِنْ قِبَل أَقْفَائِهِمْ يَخْرُج مِنْ جِبَاههمْ ) الْحَدِيث.
أَخْرَجَهُ مُسْلِم.
رَوَاهُ أَبُو ذَرّ فِي رِوَايَة :( بَشِّرْ الْكَنَّازِينَ بِرَضْفٍ يُحْمَى عَلَيْهِ فِي نَار جَهَنَّم فَيُوضَع عَلَى حَلَمَة ثَدْي أَحَدهمْ حَتَّى يَخْرُج مِنْ نُغْض كَتِفَيْهِ وَيُوضَع عَلَى نُغْض كَتِفَيْهِ حَتَّى يَخْرُج مِنْ حَلَمَة ثَدْيَيْهِ فَيَتَزَلْزَل ) الْحَدِيث.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فَخُرُوج الرَّضْف مِنْ حَلَمَة ثَدْيه إِلَى نُغْض كَتِفه لِتَعْذِيبِ قَلْبه وَبَاطِنه حِين اِمْتَلَأَ بِالْفَرَحِ بِالْكَثْرَةِ فِي الْمَال وَالسُّرُور فِي الدُّنْيَا، فَعُوقِبَ فِي الْآخِرَة بِالْهَمّ وَالْعَذَاب.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : ظَاهِر الْآيَة تَعْلِيق الْوَعِيد عَلَى مَنْ كَنَزَ وَلَا يُنْفِق فِي سَبِيل اللَّه وَيَتَعَرَّض لِلْوَاجِبِ وَغَيْره، غَيْر أَنَّ صِفَة الْكَنْز لَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُون مُعْتَبَرَة، فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَكْنِز وَمَنَعَ الْإِنْفَاق فِي سَبِيل اللَّه فَلَا بُدّ وَأَنْ يَكُون كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّ الَّذِي يُخَبَّأ تَحْت الْأَرْض هُوَ الَّذِي يُمْنَع إِنْفَاقه فِي الْوَاجِبَات عُرْفًا، فَلِذَلِكَ خَصَّ الْوَعِيد بِهِ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ
" يَوْم " ظَرْف، وَالتَّقْدِير يُعَذَّبُونَ يَوْم يُحْمَى.
وَلَا يَصِحّ أَنْ يَكُون عَلَى تَقْدِير : فَبَشِّرْهُمْ يَوْم يُحْمَى عَلَيْهَا، لِأَنَّ الْبِشَارَة لَا تَكُون حِينَئِذٍ.
يُقَال : أُحْمِيَتْ الْحَدِيدَة فِي النَّار، أَيْ أُوقِدَتْ عَلَيْهَا.
وَيُقَال : أَحْمَيْته، وَلَا يُقَال : أَحْمَيْت عَلَيْهِ.
وَهَاهُنَا قَالَ عَلَيْهَا، لِأَنَّهُ جَعَلَ " عَلَى " مِنْ صِلَة مَعْنَى الْإِحْمَاء، وَمَعْنَى الْإِحْمَاء الْإِيقَاد.
أَيْ يُوقَد عَلَيْهَا فَتُكْوَى.
الْكَيّ : إِلْصَاق الْحَارّ مِنْ الْحَدِيد وَالنَّار بِالْعُضْوِ حَتَّى يَحْتَرِق الْجِلْد.
وَالْجِبَاه جَمْع الْجَبْهَة، وَهُوَ مُسْتَوَى مَا بَيْن الْحَاجِب إِلَى النَّاصِيَة.
وَجَبَهْت فُلَانًا بِكَذَا، أَيْ اِسْتَقْبَلْته بِهِ وَضَرَبْت جَبْهَته.
وَالْجُنُوب جَمْع الْجَنْب.
وَالْكَيّ فِي الْوَجْه أَشْهَر وَأَشْنَع، وَفِي الْجَنْب وَالظَّهْر آلَم وَأَوْجَع، فَلِذَلِكَ خَصَّهَا بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْن سَائِر الْأَعْضَاء.
وَقَالَ عُلَمَاء الصُّوفِيَّة : لَمَّا طَلَبُوا الْمَال وَالْجَاه شَانَ اللَّه وُجُوههمْ، وَلَمَّا طَوَوْا كَشْحًا عَنْ الْفَقِير إِذَا جَالَسَهُمْ كُوِيَتْ جُنُوبهمْ، وَلَمَّا أَسْنَدُوا ظُهُورهمْ إِلَى أَمْوَالهمْ ثِقَة بِهَا وَاعْتِمَادًا عَلَيْهَا كُوِيَتْ ظُهُورهمْ.
وَقَالَ عُلَمَاء الظَّاهِر : إِنَّمَا خَصَّ هَذِهِ الْأَعْضَاء لِأَنَّ الْغَنِيّ إِذَا رَأَى الْفَقِير زَوَى مَا بَيْن عَيْنَيْهِ وَقَبَضَ وَجْهه.
كَمَا قَالَ :
يَزِيد يَغُضّ الطَّرْف عَنِّي كَأَنَّمَا... زَوَى بَيْن عَيْنَيْهِ عَلَيَّ الْمَحَاجِم
فَلَا يَنْبَسِط مِنْ بَيْن عَيْنَيْك مَا اِنْزَوَى... وَلَا تَلْقَنِي إِلَّا وَأَنْفك رَاغِم
وَإِذَا سَأَلَهُ طَوَى كَشْحه، وَإِذَا زَادَهُ فِي السُّؤَال وَأَكْثَر عَلَيْهِ وَلَّاهُ ظَهْره.
فَرَتَّبَ اللَّه الْعُقُوبَة عَلَى حَال الْمَعْصِيَة.
وَاخْتَلَفَتْ الْآثَار فِي كَيْفِيَّة الْكَيّ بِذَلِكَ، فَفِي صَحِيح مُسْلِم مِنْ حَدِيث أَبِي ذَرّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ ذِكْر الرَّضْف.
وَفِيهِ مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( مَا مِنْ صَاحِب ذَهَب وَلَا فِضَّة لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقّهَا إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِح مِنْ نَار فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَار جَهَنَّم فَيُكْوَى بِهَا جَنْبه وَجَبِينه وَظَهْره كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ فِي يَوْم كَانَ مِقْدَاره خَمْسِينَ أَلْف سَنَة حَتَّى يُقْضَى بَيْن الْعِبَاد فَيَرَى سَبِيله إِمَّا إِلَى الْجَنَّة وَإِمَّا إِلَى النَّار... ).
الْحَدِيث.
وَفِي الْبُخَارِيّ : أَنَّهُ يُمَثَّل لَهُ كَنْزه شُجَاعًا أَقْرَع.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي غَيْر الصَّحِيح عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود أَنَّهُ قَالَ :( مَنْ كَانَ لَهُ مَال فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاته طُوِّقَهُ يَوْم الْقِيَامَة شُجَاعًا أَقْرَع يَنْقُر رَأْسه... )
قُلْت : وَلَعَلَّ هَذَا يَكُون فِي مَوَاطِن : مَوْطِن يُمَثَّل الْمَال فِيهِ ثُعْبَانًا، وَمَوْطِن يَكُون صَفَائِح وَمَوْطِن يَكُون رَضْفًا.
فَتَتَغَيَّر الصِّفَات وَالْجِسْمِيَّة وَاحِدَة، فَالشُّجَاع جِسْم وَالْمَال جِسْم.
وَهَذَا التَّمْثِيل حَقِيقَة، بِخِلَافِ قَوْله :( يُؤْتَى بِالْمَوْتِ كَأَنَّهُ كَبْش أَمْلَح ) فَإِنَّ تِلْكَ طَرِيقَة أُخْرَى، وَلِلَّهِ سُبْحَانه وَتَعَالَى أَنْ يَفْعَل مَا يَشَاء.
وَخَصَّ الشُّجَاع بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ الْعَدُوّ الثَّانِي لِلْخَلْقِ.
وَالشُّجَاع مِنْ الْحَيَّات هُوَ الْحَيَّة الذَّكَر الَّذِي يُوَاثِب الْفَارِس وَالرَّاجِل، وَيَقُوم عَلَى ذَنَبه وَرُبَّمَا بَلَغَ الْفَارِس، وَيَكُون فِي الصَّحَارِي.
وَقِيلَ : هُوَ الثُّعْبَان.
قَالَ اللِّحْيَانِيّ : يُقَال لِلْحَيَّةِ شُجَاع، وَثَلَاثَة أَشْجِعَة، ثُمَّ شُجْعَان.
وَالْأَقْرَع مِنْ الْحَيَّات هُوَ الَّذِي تَمَعَّطَ رَأْسه وَابْيَضَّ مِنْ السُّمّ.
فِي الْمُوَطَّإِ : لَهُ زَبِيبَتَانِ، أَيْ نُقْطَتَانِ مُنْتَفِخَتَانِ فِي شِدْقَيْهِ كَالرَّغْوَتَيْنِ.
وَيَكُون ذَلِكَ فِي شِدْقَيْ الْإِنْسَان إِذَا غَضِبَ وَأَكْثَرَ مِنْ الْكَلَام.
قَالَتْ أُمّ غَيْلَان بِنْت جَرِير رُبَّمَا أَنْشَدْت أَبِي حَتَّى يَتَزَبَّب شِدْقَايَ.
ضُرِبَ مَثَلًا لِلشُّجَاعِ الَّذِي كَثُرَ سُمّه فَيُمَثَّل الْمَال بِهَذَا الْحَيَوَان فَيَلْقَى صَاحِبه غَضْبَان.
وَقَالَ اِبْن دُرَيْد : نُقْطَتَانِ سَوْدَاوَانِ فَوْق عَيْنَيْهِ.
فِي رِوَايَة : مُثِّلَ لَهُ شُجَاع يَتْبَعهُ فَيَضْطَرّهُ فَيُعْطِيه يَده فَيَقْضِمهَا كَمَا يَقْضِم الْفَحْل.
وَقَالَ اِبْن مَسْعُود :( وَاَللَّه لَا يُعَذِّب اللَّه أَحَدًا بِكَنْزٍ فَيَمَسّ دِرْهَم دِرْهَمًا وَلَا دِينَار دِينَارًا، وَلَكِنْ يُوَسِّع جِلْده حَتَّى يُوضَع كُلّ دِرْهَم وَدِينَار عَلَى حِدَته ) وَهَذَا إِنَّمَا يَصِحّ فِي الْكَافِر - كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيث - لَا فِي الْمُؤْمِن.
وَاَللَّه أَعْلَم.
أَسْنَدَ الطَّبَرِيّ إِلَى أَبِي أُمَامَة الْبَاهِلِيّ قَالَ : مَاتَ رَجُل مِنْ أَهْل الصُّفَّة فَوُجِدَ فِي بُرْدَته دِينَار.
فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( كَيَّة ).
ثُمَّ مَاتَ آخَر فَوُجِدَ لَهُ دِينَارَانِ.
فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( كَيَّتَانِ ).
وَهَذَا إِمَّا لِأَنَّهُمَا كَانَا يَعِيشَانِ مِنْ الصَّدَقَة وَعِنْدهمَا التِّبْر، وَإِمَّا لِأَنَّ هَذَا كَانَ فِي صَدْر الْإِسْلَام، ثُمَّ قَرَّرَ الشَّرْع ضَبْط الْمَال وَأَدَاء حَقّه.
وَلَوْ كَانَ ضَبْط الْمَال مَمْنُوعًا لَكَانَ حَقّه أَنْ يُخْرَج كُلّه، وَلَيْسَ فِي الْأُمَّة مَنْ يُلْزَم هَذَا.
وَحَسْبك حَال الصَّحَابَة وَأَمْوَالهمْ رِضْوَان اللَّه عَلَيْهِمْ.
وَأَمَّا مَا ذُكِرَ عَنْ أَبِي ذَرّ فَهُوَ مَذْهَب لَهُ، رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
وَقَدْ رَوَى مُوسَى بْن عُبَيْدَة عَنْ عِمْرَان بْن أَبِي أَنَس عَنْ مَالِك بْن أَوْس بْن الْحَدَثَانِ عَنْ أَبِي ذَرّ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( مَنْ جَمَعَ دِينَارًا أَوْ دِرْهَمًا أَوْ تِبْرًا أَوْ فِضَّة وَلَا يَعُدّهُ لِغَرِيمٍ وَلَا يُنْفِقهُ فِي سَبِيل اللَّه فَهُوَ كَنْز يُكْوَى بِهِ يَوْم الْقِيَامَة ).
قُلْت : هَذَا الَّذِي يَلِيق بِأَبِي ذَرّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنْ يَقُول بِهِ، وَأَنَّ مَا فَضَلَ عَنْ الْحَاجَة فَلَيْسَ بِكَنْزٍ إِذَا كَانَ مُعَدًّا لِسَبِيلِ اللَّه.
وَقَالَ أَبُو أُمَامَة : مَنْ خَلَّفَ بِيضًا أَوْ صُفْرًا كُوِيَ بِهَا مَغْفُورًا لَهُ أَوْ غَيْر مَغْفُور لَهُ، أَلَا إِنَّ حِلْيَة السَّيْف مِنْ ذَلِكَ.
وَرَوَى ثَوْبَان أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( مَا مِنْ رَجُل يَمُوت وَعِنْده أَحْمَر أَوْ أَبْيَض إِلَّا جَعَلَ اللَّه لَهُ بِكُلِّ قِيرَاط صَفِيحَة يُكْوَى بِهَا مِنْ فَرْقه إِلَى قَدَمه مَغْفُورًا لَهُ بَعْد ذَلِكَ أَوْ مُعَذَّبًا ).
قُلْت : وَهَذَا مَحْمُول عَلَى مَا لَمْ تُؤَدَّ زَكَاته بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْآيَة قَبْل هَذَا.
فَيَكُون التَّقْدِير : وَعِنْده أَحْمَر أَوْ أَبْيَض لَمْ يُؤَدِّ زَكَاته.
وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : مَنْ تَرَكَ عَشَرَة آلَاف جُعِلَتْ صَفَائِح يُعَذَّب بِهَا صَاحِبهَا يَوْم الْقِيَامَة.
أَيْ إِنْ لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتهَا، لِئَلَّا تَتَنَاقَض الْأَحَادِيث.
وَاَللَّه أَعْلَم.
هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ
أَيْ يُقَال لَهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ، فَحَذَفَ.
فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ
أَيْ عَذَاب مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ.
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ
جَمْع شَهْر.
فَإِذَا قَالَ الرَّجُل لِأَخِيهِ : لَا أُكَلِّمك الشُّهُور، وَحَلَفَ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يُكَلِّمهُ حَوْلًا، قَالَهُ بَعْض الْعُلَمَاء.
وَقِيلَ : لَا يُكَلِّمهُ أَبَدًا.
اِبْن الْعَرَبِيّ : وَأَرَى إِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّة أَنْ يَقْتَضِي ذَلِكَ ثَلَاثَة أَشْهُر لِأَنَّهُ أَقَلّ الْجَمْع الَّذِي يَقْتَضِيه صِيغَة فُعُول فِي جَمْع فَعْل.
عِنْدَ اللَّهِ
أَيْ فِي حُكْم اللَّه وَفِيمَا كَتَبَ فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ.
اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا
أُعْرِبَتْ " اِثْنَا عَشَر شَهْرًا " دُون نَظَائِرهَا، لِأَنَّ فِيهَا حَرْف الْإِعْرَاب وَدَلِيله.
وَقَرَأَ الْعَامَّة " عَشَر " بِفَتْحِ الْعَيْن وَالشِّين.
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر " عَشْر " بِجَزْمِ الشِّين.
فِي كِتَابِ اللَّهِ
يُرِيد اللَّوْح الْمَحْفُوظ.
وَأَعَادَهُ بَعْد أَنْ قَالَ " عِنْد اللَّه " لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأَشْيَاء يُوصَف بِأَنَّهُ عِنْد اللَّه، وَلَا يُقَال إِنَّهُ مَكْتُوب فِي كِتَاب اللَّه، كَقَوْلِهِ :" إِنَّ اللَّه عِنْده عِلْم السَّاعَة " [ لُقْمَان : ٣٤ ].
يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
إِنَّمَا قَالَ " يَوْم خَلَقَ السَّمَوَات وَالْأَرْض " لِيُبَيِّن أَنَّ قَضَاءَهُ وَقَدَره كَانَ قَبْل ذَلِكَ، وَأَنَّهُ سُبْحَانه وَضَعَ هَذِهِ الشُّهُور وَسَمَّاهَا بِأَسْمَائِهَا عَلَى مَا رَتَّبَهَا عَلَيْهِ يَوْم خَلَقَ السَّمَوَات وَالْأَرْض، وَأَنْزَلَ ذَلِكَ عَلَى أَنْبِيَائِهِ فِي كُتُبه الْمُنَزَّلَة.
وَهُوَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى :" إِنَّ عِدَّة الشُّهُور عِنْد اللَّه اِثْنَا عَشَر شَهْرًا ".
وَحُكْمهَا بَاقٍ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ لَمْ يُزِلْهَا عَنْ تَرْتِيبهَا تَغْيِير الْمُشْرِكِينَ لِأَسْمَائِهَا، وَتَقْدِيم الْمُقَدَّم فِي الِاسْم مِنْهَا.
وَالْمَقْصُود مِنْ ذَلِكَ اِتِّبَاع أَمْر اللَّه فِيهَا وَرَفْض مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْل الْجَاهِلِيَّة مِنْ تَأْخِير أَسْمَاء الشُّهُور وَتَقْدِيمهَا، وَتَعْلِيق الْأَحْكَام عَلَى الْأَسْمَاء الَّتِي رَتَّبُوهَا عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام فِي خُطْبَته فِي حَجَّة الْوَدَاع :( أَيّهَا النَّاس إِنَّ الزَّمَان قَدْ اِسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْم خَلَقَ اللَّه السَّمَوَات وَالْأَرْض.
) عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه.
وَأَنَّ الَّذِي فَعَلَ أَهْل الْجَاهِلِيَّة مِنْ جَعْل الْمُحَرَّم صَفَرًا وَصَفَر مُحَرَّمًا لَيْسَ يَتَغَيَّر بِهِ مَا وَصَفَهُ اللَّه تَعَالَى.
وَالْعَامِل فِي " يَوْم " الْمَصْدَر الَّذِي هُوَ " فِي كِتَاب اللَّه " وَلَيْسَ يَعْنِي بِهِ وَاحِد الْكُتُب، لِأَنَّ الْأَعْيَان لَا تَعْمَل فِي الظُّرُوف.
وَالتَّقْدِير : فِيمَا كَتَبَ اللَّه يَوْم خَلَقَ السَّمَوَات وَالْأَرْض.
و " عِنْد " مُتَعَلِّق بِالْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ الْعِدَّة، وَهُوَ الْعَامِل فِيهِ.
و " فِي " مِنْ قَوْله :" فِي كِتَاب اللَّه " مُتَعَلِّقَة بِمَحْذُوفٍ، هُوَ صِفَة لِقَوْلِهِ :" اِثْنَا عَشَر ".
وَالتَّقْدِير : اِثْنَا عَشَر شَهْرًا مَعْدُودَة أَوْ مَكْتُوبَة فِي كِتَاب اللَّه.
وَلَا يَجُوز أَنْ تَتَعَلَّق بِعِدَّةٍ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّفْرِقَة بَيْن الصِّلَة وَالْمَوْصُول بِخَبَرِ إِنَّ.
هَذِهِ الْآيَة تَدُلّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِب تَعْلِيق الْأَحْكَام مِنْ الْعِبَادَات وَغَيْرهَا إِنَّمَا يَكُون بِالشُّهُورِ وَالسِّنِينَ الَّتِي تَعْرِفهَا الْعَرَب، دُون الشُّهُور الَّتِي تَعْتَبِرهَا الْعَجَم وَالرُّوم وَالْقِبْط وَإِنْ لَمْ تَزِدْ عَلَى اِثْنَيْ عَشَر شَهْرًا، لِأَنَّهَا مُخْتَلِفَة الْأَعْدَاد، مِنْهَا مَا يَزِيد عَلَى ثَلَاثِينَ وَمِنْهَا مَا يَنْقُص، وَشُهُور الْعَرَب لَا تَزِيد عَلَى ثَلَاثِينَ وَإِنْ كَانَ مِنْهَا مَا يَنْقُص، وَاَلَّذِي يَنْقُص لَيْسَ يَتَعَيَّن لَهُ شَهْر، وَإِنَّمَا تَفَاوُتهَا فِي النُّقْصَان وَالتَّمَام عَلَى حَسَب اِخْتِلَاف سَيْر الْقَمَر فِي الْبُرُوج.
مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ
الْأَشْهُر الْحُرُم الْمَذْكُورَة فِي هَذِهِ الْآيَة ذُو الْقِعْدَة وَذُو الْحِجَّة وَالْمُحَرَّم وَرَجَب الَّذِي بَيْن جُمَادَى الْآخِرَة وَشَعْبَان، وَهُوَ رَجَب مُضَر، وَقِيلَ لَهُ رَجَب مُضَر لِأَنَّ رَبِيعَة بْن نِزَار كَانُوا يُحَرِّمُونَ شَهْر رَمَضَان وَيُسَمُّونَهُ رَجَبًا.
وَكَانَتْ مُضَر تُحَرِّم رَجَبًا نَفْسه، فَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ :( الَّذِي بَيْن جُمَادَى وَشَعْبَان ) وَرَفَعَ مَا وَقَعَ فِي اِسْمه مِنْ الِاخْتِلَال بِالْبَيَانِ.
وَكَانَتْ الْعَرَب أَيْضًا تُسَمِّيه مُنْصِل الْأَسِنَّة، رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ أَبِي رَجَاء الْعُطَارِدِيّ - وَاسْمه عِمْرَان بْن مِلْحَان وَقِيلَ عِمْرَان بْن تَيْم - قَالَ : كُنَّا نَعْبُد الْحَجَر، فَإِذَا وَجَدْنَا حَجَرًا هُوَ خَيْر مِنْهُ أَلْقَيْنَاهُ وَأَخَذْنَا الْآخَر، فَإِذَا لَمْ نَجِد حَجَرًا جَمَعْنَا حَثْوَة مِنْ تُرَاب ثُمَّ جِئْنَا بِالشَّاءِ فَحَلَبْنَا عَلَيْهِ ثُمَّ طُفْنَا بِهِ فَإِذَا دَخَلَ شَهْر رَجَب قُلْنَا مُنْصِل الْأَسِنَّة، فَلَمْ نَدَع رُمْحًا فِيهِ حَدِيدَة وَلَا سَهْمًا فِيهِ حَدِيدَة إِلَّا نَزَعْنَاهَا فَأَلْقَيْنَاهُ.
ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ
أَيْ الْحِسَاب الصَّحِيح وَالْعَدَد الْمُسْتَوْفَى.
وَرَوَى عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة عَنْ اِبْن عَبَّاس :" ذَلِكَ الدِّين " أَيْ ذَلِكَ الْقَضَاء.
مُقَاتِل : الْحَقّ.
اِبْن عَطِيَّة : وَالْأَصْوَب عِنْدِي أَنْ يَكُون الدِّين هَاهُنَا عَلَى أَشْهَر وُجُوهه، أَيْ ذَلِكَ الشَّرْع وَالطَّاعَة.
" الْقَيِّم " أَيْ الْقَائِم الْمُسْتَقِيم، مِنْ قَامَ يَقُوم.
بِمَنْزِلَةِ سَيِّد، مَنْ سَادَ يَسُود.
أَصْله قَيُّوم.
فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ
عَلَى قَوْل اِبْن عَبَّاس رَاجِعٌ إِلَى جَمِيع الشُّهُور.
وَعَلَى قَوْل بَعْضهمْ إِلَى الْأَشْهُر الْحُرُم خَاصَّة، لِأَنَّهُ إِلَيْهَا أَقْرَب وَلَهَا مَزِيَّة فِي تَعْظِيم الظُّلْم، لِقَوْلِهِ تَعَالَى :" فَلَا رَفَث وَلَا فُسُوق وَلَا جِدَال فِي الْحَجّ " [ الْبَقَرَة : ١٩٧ ] لَا أَنَّ الظُّلْم فِي غَيْر هَذِهِ الْأَيَّام جَائِز عَلَى مَا نُبَيِّنهُ.
ثُمَّ قِيلَ : فِي الظُّلْم قَوْلَانِ : أَحَدهمَا لَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسكُمْ بِالْقِتَالِ، ثُمَّ نُسِخَ بِإِبَاحَةِ الْقِتَال فِي جَمِيع الشُّهُور، قَالَهُ قَتَادَة وَعَطَاء الْخُرَاسَانِيّ وَالزُّهْرِيّ وَسُفْيَان الثَّوْرِيّ.
وَقَالَ اِبْن جُرَيْج : حَلَفَ بِاَللَّهِ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح أَنَّهُ مَا يَحِلّ لِلنَّاسِ أَنْ يَغْزُوا فِي الْحَرَم وَلَا فِي الْأَشْهُر الْحُرُم إِلَّا أَنْ يُقَاتَلُوا فِيهَا، وَمَا نُسِخَتْ.
وَالصَّحِيح الْأَوَّل، لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزَا هَوَازِن بِحُنَيْنٍ وَثَقِيفًا بِالطَّائِفِ، وَحَاصَرَهُمْ فِي شَوَّال وَبَعْض ذِي الْقِعْدَة.
وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْبَقَرَة.
الثَّانِي - لَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسكُمْ بِارْتِكَابِ الذُّنُوب، لِأَنَّ اللَّه سُبْحَانه إِذَا عَظَّمَ شَيْئًا مِنْ جِهَة وَاحِدَة صَارَتْ لَهُ حُرْمَة وَاحِدَة وَإِذَا عَظَّمَهُ مِنْ جِهَتَيْنِ أَوْ جِهَات صَارَتْ حُرْمَته مُتَعَدِّدَة فَيُضَاعَف فِيهِ الْعِقَاب بِالْعَمَلِ السَّيِّئ كَمَا يُضَاعَف الثَّوَاب بِالْعَمَلِ الصَّالِح.
فَإِنَّ مَنْ أَطَاعَ اللَّه فِي الشَّهْر الْحَرَام فِي الْبَلَد الْحَرَام لَيْسَ ثَوَابه ثَوَاب مَنْ أَطَاعَهُ فِي الشَّهْر الْحَلَال فِي الْبَلَد الْحَرَام.
وَمَنْ أَطَاعَهُ فِي الشَّهْر الْحَلَال فِي الْبَلَد الْحَرَام لَيْسَ ثَوَابه ثَوَاب مَنْ أَطَاعَهُ فِي شَهْر حَلَال فِي بَلَد حَلَال.
وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى :" يَا نِسَاء النَّبِيّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَة يُضَاعَف لَهَا الْعَذَاب ضِعْفَيْنِ " [ الْأَحْزَاب : ٣٠ ].
وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء مِنْ هَذَا الْمَعْنَى فِيمَنْ قَتَلَ فِي الشَّهْر الْحَرَام خَطَأ، هَلْ تُغَلَّظ عَلَيْهِ الدِّيَة أَمْ لَا، فَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ : الْقَتْل فِي الشَّهْر الْحَرَام تُغَلَّظ فِيهِ الدِّيَة فِيمَا بَلَغَنَا وَفِي الْحَرَم فَتُجْعَل دِيَة وَثُلُثًا.
وَيُزَاد فِي شَبَه الْعَمْد فِي أَسْنَان الْإِبِل.
قَالَ الشَّافِعِيّ : تُغَلَّظ الدِّيَة فِي النَّفْس وَفِي الْجِرَاح فِي الشَّهْر الْحَرَام وَفِي الْبَلَد الْحَرَام وَذَوِي الرَّحِم.
وَرُوِيَ عَنْ الْقَاسِم بْن مُحَمَّد وَسَالِم بْن عَبْد اللَّه وَابْن شِهَاب وَأَبَان بْن عُثْمَان : مَنْ قَتَلَ فِي الشَّهْر الْحَرَام أَوْ فِي الْحَرَم زِيدَ عَلَى دِيَته مِثْل ثُلُثهَا.
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَان بْن عَفَّان أَيْضًا.
وَقَالَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابهمَا وَابْن أَبِي لَيْلَى : الْقَتْل فِي الْحِلّ وَالْحَرَم سَوَاء، وَفِي الشَّهْر الْحَرَام وَغَيْره سَوَاء، وَهُوَ قَوْل جَمَاعَة مِنْ التَّابِعِينَ.
وَهُوَ الصَّحِيح، لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَّ الدِّيَات وَلَمْ يَذْكُر فِيهَا الْحَرَم وَلَا الشَّهْر الْحَرَام.
وَأَجْمَعُوا أَنَّ الْكَفَّارَة عَلَى مَنْ قَتَلَ خَطَأ فِي الشَّهْر الْحَرَام وَغَيْره سَوَاء.
فَالْقِيَاس أَنْ تَكُون الدِّيَة كَذَلِكَ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
خَصَّ اللَّه تَعَالَى الْأَرْبَعَة الْأَشْهُر الْحُرُم بِالذِّكْرِ، وَنَهَى عَنْ الظُّلْم فِيهَا تَشْرِيفًا لَهَا وَإِنْ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ فِي كُلّ الزَّمَان.
كَمَا قَالَ :" فَلَا رَفَث وَلَا فُسُوق وَلَا جِدَال فِي الْحَجّ " [ الْبَقَرَة : ١٩٧ ] عَلَى هَذَا أَكْثَر أَهْل التَّأْوِيل.
أَيْ لَا تَظْلِمُوا فِي الْأَرْبَعَة الْأَشْهُر أَنْفُسكُمْ.
وَرَوَى حَمَّاد بْن سَلَمَة عَنْ عَلِيّ بْن زَيْد عَنْ يُوسُف بْن مِهْرَان عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ :" فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسكُمْ " فِي الِاثْنَيْ عَشَر.
وَرَوَى قَيْس بْن مُسْلِم عَنْ الْحَسَن عَنْ مُحَمَّد اِبْن الْحَنَفِيَّة قَالَ : فِيهِنَّ كُلّهنَّ.
فَإِنْ قِيلَ عَلَى الْقَوْل الْأَوَّل : لِمَ قَالَ فِيهِنَّ وَلَمْ يَقُلْ فِيهَا ؟ وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَب يَقُولُونَ لِمَا بَيْن الثَّلَاثَة إِلَى الْعَشَرَة : هُنَّ وَهَؤُلَاءِ فَإِذَا جَاوَزُوا الْعَشَرَة قَالُوا : هِيَ وَهَذِهِ، إِرَادَة أَنْ تُعْرَف تَسْمِيَة الْقَلِيل مِنْ الْكَثِير.
وَرُوِيَ عَنْ الْكِسَائِيّ أَنَّهُ قَالَ : إِنِّي لَأَتَعَجَّب مِنْ فِعْل الْعَرَب هَذَا.
وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ فِيمَا دُون الْعَشَرَة مِنْ اللَّيَالِي : خَلَوْنَ.
وَفِيمَا فَوْقهَا خَلَتْ.
لَا يُقَال : كَيْفَ جَعَلَ بَعْض الْأَزْمِنَة أَعْظَم حُرْمَة مِنْ بَعْض، فَإِنَّا نَقُول : لِلْبَارِئ تَعَالَى أَنْ يَفْعَل مَا يَشَاء، وَيَخُصّ بِالْفَضِيلَةِ مَا يَشَاء، لَيْسَ لِعَمَلِهِ عِلَّة وَلَا عَلَيْهِ حَجْر، بَلْ يَفْعَل مَا يُرِيد بِحِكْمَتِهِ، وَقَدْ تَظْهَر فِيهِ الْحِكْمَة وَقَدْ تَخْفَى.
وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ
" قَاتِلُوا " أَمْر بِالْقِتَالِ.
و " كَافَّة " مَعْنَاهُ جَمِيعًا، وَهُوَ مَصْدَر فِي مَوْضِع الْحَال.
أَيْ مُحِيطِينَ بِهِمْ وَمُجْتَمَعِينَ.
قَالَ الزَّجَّاج : مِثْل هَذَا مِنْ الْمَصَادِر عَافَاهُ اللَّه عَافِيَة وَعَاقَبَهُ عَاقِبَة.
وَلَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَع، وَكَذَا عَامَّة وَخَاصَّة.
قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : كَانَ الْغَرَض بِهَذِهِ الْآيَة قَدْ تَوَجَّهَ عَلَى الْأَعْيَان ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ وَجُعِلَ فَرْض كِفَايَة.
قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ لَمْ يُعْلَم قَطُّ مِنْ شَرْع النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَلْزَمَ الْأُمَّة جَمِيعًا النَّفْر، وَإِنَّمَا مَعْنَى هَذِهِ الْآيَة الْحَضّ عَلَى قِتَالهمْ وَالتَّحَزُّب عَلَيْهِمْ وَجَمَعَ الْكَلِمَة ثُمَّ قَيَّدَهَا بِقَوْلِهِ :" كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّة " فَبِحَسَبِ قِتَالهمْ وَاجْتِمَاعهمْ لَنَا يَكُون فَرْض اِجْتِمَاعنَا لَهُمْ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
إِنَّمَا النَّسِيءُ
هَكَذَا يَقْرَأ أَكْثَر الْأَئِمَّة.
قَالَ النَّحَّاس : وَلَمْ يَرْوِ أَحَد عَنْ نَافِع فِيمَا عَلِمْنَاهُ " إِنَّمَا النَّسْي " بِلَا هَمْز إِلَّا وَرْشٌ وَحْده.
وَهُوَ مُشْتَقّ مِنْ نَسَأَهُ وَأَنْسَأَهُ إِذَا أَخَّرَهُ، حَكَى اللُّغَتَيْنِ الْكِسَائِيّ.
الْجَوْهَرِيّ : النَّسِيء فَعِيل بِمَعْنَى مَفْعُول، مِنْ قَوْلك : نَسَأْت الشَّيْء فَهُوَ مَنْسُوء إِذَا أَخَّرْته.
ثُمَّ يُحَوَّل مَنْسُوء إِلَى نَسِيء كَمَا يُحَوَّل مَقْتُول إِلَى قَتِيل.
وَرَجُل نَاسِئ وَقَوْم نَسَأَة، مِثْل فَاسِق وَفَسَقَة.
قَالَ الطَّبَرِيّ : النَّسِيء بِالْهَمْزَةِ مَعْنَاهُ الزِّيَادَة نَسَأَ يَنْسَأ إِذَا زَادَ.
قَالَ : وَلَا يَكُون بِتَرْكِ الْهَمْز إِلَّا مِنْ النِّسْيَان، كَمَا قَالَ تَعَالَى :" نَسُوا اللَّه فَنَسِيَهُمْ " [ التَّوْبَة : ٦٧ ]، وَرَدَّ عَلَى نَافِع قِرَاءَته، وَاحْتَجَّ بِأَنْ قَالَ : إِنَّهُ يَتَعَدَّى بِحَرْفِ الْجَرّ يُقَال : نَسَأَ اللَّه فِي أَجَلك كَمَا تَقُول زَادَ اللَّه فِي أَجَلك، وَمِنْهُ قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام :( مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَط لَهُ فِي رِزْقه وَيُنْسَأ لَهُ فِي أَثَره فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ ).
قَالَ الْأَزْهَرِيّ : أَنْسَأْت الشَّيْء إِنْسَاء وَنَسِيئًا اِسْم وُضِعَ مَوْضِع الْمَصْدَر الْحَقِيقِيّ.
وَكَانُوا يُحَرِّمُونَ الْقِتَال فِي الْمُحَرَّم فَإِذَا اِحْتَاجُوا إِلَى ذَلِكَ حَرَّمُوا صَفَرًا بَدَله وَقَاتَلُوا فِي الْمُحَرَّم.
وَسَبَب ذَلِكَ أَنَّ الْعَرَب كَانَتْ أَصْحَاب حُرُوب وَغَارَات فَكَانَ يَشُقّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَمْكُثُوا ثَلَاثَة أَشْهُر مُتَوَالِيَة لَا يُغِيرُونَ فِيهَا، وَقَالُوا : لَئِنْ تَوَالَتْ عَلَيْنَا ثَلَاثَة أَشْهُر لَا نُصِيب فِيهَا شَيْئًا لَنَهْلِكَنَّ.
فَكَانُوا إِذَا صَدَرُوا عَنْ مِنًى يَقُوم مِنْ بَنِي كِنَانَة، ثُمَّ مِنْ بَنِي فُقَيْم مِنْهُمْ رَجُل يُقَال لَهُ الْقَلَمَّس، فَيَقُول أَنَا الَّذِي لَا يُرَدّ لِي قَضَاء.
فَيَقُولُونَ : أَنْسِئْنَا شَهْرًا، أَيْ أَخِّرْ عَنَّا حُرْمَة الْمُحَرَّم وَاجْعَلْهَا فِي صَفَر، فَيُحِلّ لَهُمْ الْمُحَرَّم.
فَكَانُوا كَذَلِكَ شَهْرًا فَشَهْرًا حَتَّى اِسْتَدَارَ التَّحْرِيم عَلَى السَّنَة كُلّهَا.
فَقَامَ الْإِسْلَام وَقَدْ رَجَعَ الْمُحَرَّم إِلَى مَوْضِعه الَّذِي وَضَعَهُ اللَّه فِيهِ.
وَهَذَا مَعْنَى قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام :( إِنَّ الزَّمَان قَدْ اِسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْم خَلَقَ اللَّه السَّمَوَات وَالْأَرْض ).
وَقَالَ مُجَاهِد : كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَحُجُّونَ فِي كُلّ شَهْر عَامَيْنِ، فَحَجُّوا فِي ذِي الْحِجَّة عَامَيْنِ، ثُمَّ حَجُّوا فِي الْمُحَرَّم عَامَيْنِ، ثُمَّ حَجُّوا فِي صَفَر عَامَيْنِ، وَكَذَلِكَ فِي الشُّهُور كُلّهَا حَتَّى وَافَقَتْ حَجَّة أَبِي بَكْر الَّتِي حَجَّهَا قَبْل حَجَّة الْوَدَاع ذَا الْقِعْدَة مِنْ السَّنَة التَّاسِعَة.
ثُمَّ حَجَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَام الْمُقْبِل حَجَّة الْوَدَاع فَوَافَقَتْ ذَا الْحِجَّة، فَذَلِكَ قَوْله فِي خُطْبَته :( إِنَّ الزَّمَان قَدْ اِسْتَدَارَ... ) الْحَدِيث.
أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ أَشْهُر الْحَجّ رَجَعَتْ إِلَى مَوَاضِعهَا، وَعَادَ الْحَجّ إِلَى ذِي الْحِجَّة وَبَطَلَ النَّسِيء.
وَقَوْل ثَالِث.
قَالَ إِيَاس بْن مُعَاوِيَة : كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَحْسِبُونَ السَّنَة اِثْنَيْ عَشَر شَهْرًا وَخَمْسَة عَشَر يَوْمًا، فَكَانَ الْحَجّ يَكُون فِي رَمَضَان وَفِي ذِي الْقِعْدَة، وَفِي كُلّ شَهْر مِنْ السَّنَة بِحُكْمِ اِسْتِدَارَة الشَّهْر بِزِيَادَةِ الْخَمْسَة عَشَر يَوْمًا فَحَجَّ أَبُو بَكْر سَنَة تِسْع فِي ذِي الْقِعْدَة بِحُكْمِ الِاسْتِدَارَة، وَلَمْ يَحُجَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَام الْمُقْبِل وَافَقَ الْحَجّ ذَا الْحِجَّة فِي الْعَشْر، وَوَافَقَ ذَلِكَ الْأَهِلَّة.
وَهَذَا الْقَوْل أَشْبَه بِقَوْلِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( إِنَّ الزَّمَان قَدْ اِسْتَدَارَ... ) أَيْ زَمَان الْحَجّ عَادَ إِلَى وَقْته الْأَصْلِيّ الَّذِي عَيَّنَهُ اللَّه يَوْم خَلَقَ السَّمَوَات وَالْأَرْض بِأَصْلِ الْمَشْرُوعِيَّة الَّتِي سَبَقَ بِهَا عِلْمه، وَنَفَذَ بِهَا حُكْمه.
ثُمَّ قَالَ : السَّنَة اِثْنَا عَشَر شَهْرًا.
يَنْفِي بِذَلِكَ الزِّيَادَة الَّتِي زَادُوهَا فِي السَّنَة - وَهِيَ الْخَمْسَة عَشَر يَوْمًا - بِتَحَكُّمِهِمْ، فَتَعَيَّنَ الْوَقْت الْأَصْلِيّ وَبَطَلَ التَّحَكُّم الْجَهْلِيّ.
وَحَكَى الْإِمَام الْمَازِرِيّ عَنْ الْخَوَارِزِمِيّ أَنَّهُ قَالَ : أَوَّل مَا خَلَقَ اللَّه الشَّمْس أَجْرَاهَا فِي بُرْج الْحَمَل، وَكَانَ الزَّمَان الَّذِي أَشَارَ بِهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَادَفَ حُلُول الشَّمْس بُرْج الْحَمَل.
وَهَذَا يَحْتَاج إِلَى تَوْقِيف، فَإِنَّهُ لَا يُتَوَصَّل إِلَيْهِ إِلَّا بِالنَّقْلِ عَنْ الْأَنْبِيَاء، وَلَا نَقْل صَحِيحًا عَنْهُمْ بِذَلِكَ، وَمَنْ اِدَّعَاهُ فَلْيُسْنِدْهُ.
ثُمَّ إِنَّ الْعَقْل يُجَوِّز خِلَاف مَا قَالَ، وَهُوَ أَنْ يَخْلُق اللَّه الشَّمْس قَبْل الْبُرُوج، وَيَجُوز أَنْ يَخْلُق ذَلِكَ كُلّه دَفْعَة وَاحِدَة.
ثُمَّ إِنَّ عُلَمَاء التَّعْدِيل قَدْ اِخْتَبَرُوا ذَلِكَ فَوَجَدُوا الشَّمْس فِي بُرْج الْحُوت وَقْت قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام :( إِنَّ الزَّمَان قَدْ اِسْتَدَارَ... ) بَيْنهَا وَبَيْن الْحَمَل عِشْرُونَ دَرَجَة.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ عَشْر دَرَجَات.
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَاخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي أَوَّل مَنْ نَسَأَ، فَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك : بَنُو مَالِك بْن كِنَانَة، وَكَانُوا ثَلَاثَة.
وَرَوَى جُوَيْبِر عَنْ الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ أَوَّل مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَمْرو بْن لُحَيّ بْن قَمَعَة بْن خِنْدِف.
وَقَالَ الْكَلْبِيّ : أَوَّل مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ رَجُل مِنْ بَنِي كِنَانَة يُقَال لَهُ نُعَيْم بْن ثَعْلَبَة، ثُمَّ كَانَ بَعْده رَجُل يُقَال لَهُ : جُنَادَة بْن عَوْف، وَهُوَ الَّذِي أَدْرَكَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ الزُّهْرِيّ : حَيّ مِنْ بَنِي كِنَانَة ثُمَّ مِنْ بَنِي فُقَيْم مِنْهُمْ رَجُل يُقَال لَهُ الْقَلَمَّس وَاسْمه حُذَيْفَة بْن عُبَيْد.
وَفِي رِوَايَة : مَالِك بْن كِنَانَة.
وَكَانَ الَّذِي يَلِي النَّسِيء يَظْفَر بِالرِّيَاسَةِ لِتَرَيُّسِ الْعَرَب إِيَّاهُ.
وَفِي ذَلِكَ يَقُول شَاعِرهمْ :
وَمِنَّا نَاسِئ الشَّهْر الْقَلَمَّس
وَقَالَ الْكُمَيْت :
أَلَسْنَا النَّاسِئِينَ عَلَى مَعَدٍّ... شُهُور الْحِلّ نَجْعَلهَا حَرَامًا
زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ
بَيَان لِمَا فَعَلَتْهُ الْعَرَب مِنْ جَمْعهَا مِنْ أَنْوَاع الْكُفْر فَإِنَّهَا أَنْكَرَتْ وُجُود الْبَارِئ تَعَالَى فَقَالَتْ :" وَمَا الرَّحْمَن " [ الْفُرْقَان : ٦٠ ] فِي أَصَحّ الْوُجُوه.
وَأَنْكَرَتْ الْبَعْث فَقَالَتْ :" قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَام وَهِيَ رَمِيم " [ يس : ٧٨ ].
وَأَنْكَرَتْ بَعْثَة الرُّسُل فَقَالُوا :" أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعهُ " [ الْقَمَر : ٢٤ ].
وَزَعَمَتْ أَنَّ التَّحْلِيل وَالتَّحْرِيم إِلَيْهَا، فَابْتَدَعَتْهُ مِنْ ذَاتهَا مُقْتَفِيَة لِشَهَوَاتِهَا فَأَحَلَّتْ مَا حَرَّمَ اللَّه.
وَلَا مُبَدِّل لِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ.
يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ
فِيهِ ثَلَاث قِرَاءَات.
قَرَأَ أَهْل الْحَرَمَيْنِ وَأَبُو عَمْرو " يَضِلّ " وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ " يُضَلّ " عَلَى الْفِعْل الْمَجْهُول.
وَقَرَأَ الْحَسَن وَأَبُو رَجَاء " يُضِلّ " وَالْقِرَاءَات الثَّلَاث كُلّ وَاحِدَة مِنْهَا تُؤَدِّي عَنْ مَعْنًى، إِلَّا أَنَّ الْقِرَاءَة الثَّالِثَة حُذِفَ مِنْهَا الْمَفْعُول.
وَالتَّقْدِير : وَيُضِلّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا مَنْ يَقْبَل مِنْهُمْ.
و " الَّذِينَ " فِي مَحَلّ رَفْع.
وَيَجُوز أَنْ يَكُون الضَّمِير رَاجِعًا إِلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ.
التَّقْدِير : يُضِلّ اللَّه بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى :" يُضِلّ مَنْ يَشَاء " [ الرَّعْد : ٢٧ ]، وَكَقَوْلِهِ فِي آخِر الْآيَة :" وَاَللَّه لَا يَهْدِي الْقَوْم الْكَافِرِينَ ".
وَالْقِرَاءَة الثَّانِيَة " يُضَلّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا " يَعْنِي الْمَحْسُوب لَهُمْ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَة أَبُو عُبَيْد، لِقَوْلِهِ تَعَالَى :" زُيِّنَ لَهُمْ سُوء أَعْمَالهمْ ".
وَالْقِرَاءَة الْأُولَى اِخْتَارَهَا أَبُو حَاتِم ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا ضَالِّينَ بِهِ أَيْ بِالنَّسِيءِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَحْسِبُونَهُ فَيَضِلُّونَ بِهِ.
وَالْهَاء فِي " يُحِلُّونَهُ " تَرْجِع إِلَى النَّسِيء.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي رَجَاء " يَضَلّ " بِفَتْحِ الْيَاء وَالضَّاد.
وَهِيَ لُغَة، يُقَال : ضَلِلْت أَضَلّ، وَضَلَلْت أَضِلّ.
" لِيُوَاطِئُوا " نُصِبَ بِلَامِ كَيْ أَيْ لِيُوَافِقُوا.
تَوَاطَأَ الْقَوْم عَلَى كَذَا أَيْ اِجْتَمَعُوا عَلَيْهِ، أَيْ لَمْ يُحِلُّوا شَهْرًا إِلَّا حَرَّمُوا شَهْرًا لِتَبْقَى الْأَشْهُر الْحُرُم أَرْبَعَة.
وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، لَا مَا يُذْكَر أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْأَشْهُر خَمْسَة.
قَالَ قَتَادَة : إِنَّهُمْ عَمَدُوا إِلَى صَفَر فَزَادُوهُ فِي الْأَشْهُر الْحُرُم، وَقَرَنُوهُ بِالْمُحَرَّمِ فِي التَّحْرِيم، وَقَالَهُ عَنْهُ قُطْرُب وَالطَّبَرِيّ.
وَعَلَيْهِ يَكُون النَّسِيء بِمَعْنَى الزِّيَادَة.
وَاَللَّه أَعْلَم.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ
" مَا " حَرْف اِسْتِفْهَام مَعْنَاهُ التَّقْرِير وَالتَّوْبِيخ التَّقْدِير : أَيّ شَيْء يَمْنَعكُمْ عَنْ كَذَا كَمَا تَقُول : مَا لَك عَنْ فُلَان مُعْرِضًا.
وَلَا خِلَاف أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ عِتَابًا عَلَى تَخَلُّف مَنْ تَخَلَّفَ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَة تَبُوك، وَكَانَتْ سَنَة تِسْع مِنْ الْهِجْرَة بَعْد الْفَتْح بِعَامٍ، وَسَيَأْتِي ذِكْرهَا فِي آخِر السُّورَة إِنْ شَاءَ اللَّه.
وَالنَّفْر : هُوَ التَّنَقُّل بِسُرْعَةٍ مِنْ مَكَان إِلَى مَكَان لِأَمْرٍ يَحْدُث، يُقَال فِي اِبْن آدَم : نَفَرَ إِلَى الْأَمْر يَنْفِر نُفُورًا.
وَقَوْم نُفُور، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى :" وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارهمْ نُفُورًا " [ الْإِسْرَاء : ٤٦ ].
وَيُقَال فِي الدَّابَّة : نَفَرَتْ تَنْفُر - بِضَمِّ الْفَاء وَكَسْرهَا - نِفَارًا وَنُفُورًا.
يُقَال : فِي الدَّابَّة نِفَار، وَهُوَ اِسْم مِثْل الْحِرَان.
وَنَفَرَ الْحَاجّ مِنْ مِنًى نَفْرًا.
اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : مَعْنَاهُ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى نَعِيم الْأَرْض، أَوْ إِلَى الْإِقَامَة بِالْأَرْضِ.
وَهُوَ تَوْبِيخ عَلَى تَرْك الْجِهَاد وَعِتَاب عَلَى التَّقَاعُد عَنْ الْمُبَادَرَة إِلَى الْخُرُوج، وَهُوَ نَحْو مِنْ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْض.
وَأَصْله تَثَاقَلْتُمْ، أُدْغِمَتْ التَّاء فِي الثَّاء لِقُرْبِهَا مِنْهَا، وَاحْتَاجَتْ إِلَى أَلِف الْوَصْل لِتَصِل إِلَى النُّطْق بِالسَّاكِنِ، وَمِثْله " ادَّارَكُوا " [ الْأَعْرَاف : ٣٨ ] و " اِدَّارَأْتُمْ " [ الْبَقَرَة : ٧٢ ] و " اِطَّيَّرْنَا " [ النَّمْل : ٤٧ ] و " اِزَّيَّنَتْ " [ يُونُس : ٢٤ ].
وَأَنْشَدَ الْكِسَائِيّ :
تُولِي الضَّجِيع إِذَا مَا اِسْتَافَهَا خَصِرًا عَذْب الْمَذَاق إِذَا مَا اتَّابَعَ الْقُبَل
وَقَرَأَ الْأَعْمَش " تَثَاقَلْتُمْ " عَلَى الْأَصْل.
حَكَاهُ الْمَهْدَوِيّ.
وَكَانَتْ تَبُوك - وَدَعَا النَّاس إِلَيْهَا - فِي حَرَارَة الْقَيْظ وَطِيب الثِّمَار وَبَرْد الظِّلَال - كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيث الصَّحِيح عَلَى مَا يَأْتِي - فَاسْتَوْلَى عَلَى النَّاس الْكَسَل فَتَقَاعَدُوا وَتَثَاقَلُوا فَوَبَّخَهُمْ اللَّه بِقَوْلِهِ هَذَا وَعَابَ عَلَيْهِمْ الْإِيثَار لِلدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَة.
الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا
أَيْ بَدَلًا، التَّقْدِير : أَرَضِيتُمْ بِنَعِيمِ الدُّنْيَا بَدَلًا مِنْ نَعِيم الْآخِرَة ف " مِنْ " تَتَضَمَّن مَعْنَى الْبَدَل، كَقَوْلِهِ تَعَالَى :" وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَة فِي الْأَرْض يَخْلُفُونَ " [ الزُّخْرُف : ٦٠ ] أَيْ بَدَلًا مِنْكُمْ.
وَقَالَ الشَّاعِر :
فَلَيْتَ لَنَا مِنْ مَاء زَمْزَم شَرْبَة مُبَرَّدَة بَاتَتْ عَلَى طَهَيَان
وَيُرْوَى مِنْ مَاء حَمْنَان.
أَرَادَ : لَيْتَ لَنَا بَدَلًا مِنْ مَاء زَمْزَم شَرْبَة مُبَرَّدَة.
وَالطَّهَيَان : عُود يُنْصَب فِي نَاحِيَة الدَّار لِلْهَوَاءِ، يُعَلَّق عَلَيْهِ الْمَاء حَتَّى يَبْرُد.
عَاتَبَهُمْ اللَّه عَلَى إِيثَار الرَّاحَة فِي الدُّنْيَا عَلَى الرَّاحَة فِي الْآخِرَة، إِذْ لَا تُنَال رَاحَة الْآخِرَة إِلَّا بِنَصَبِ الدُّنْيَا.
قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَة وَقَدْ طَافَتْ رَاكِبَة :( أَجْرك عَلَى قَدْر نَصَبك ).
خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ.
إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ
" إِلَّا تَنْفِرُوا " شَرْط، فَلِذَلِكَ حُذِفَتْ مِنْهُ النُّون.
وَالْجَوَاب " يُعَذِّبكُمْ "، " وَيَسْتَبْدِل قَوْمًا غَيْركُمْ " وَهَذَا تَهْدِيد شَدِيد وَوَعِيد مُؤَكَّد فِي تَرْك النَّفِير.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَمِنْ مُحَقَّقَات الْأُصُول أَنَّ الْأَمْر إِذَا وَرَدَ فَلَيْسَ فِي وُرُوده أَكْثَر مِنْ اِقْتِضَاء الْفِعْل.
فَأَمَّا الْعِقَاب عِنْد التَّرْك فَلَا يُؤْخَذ مِنْ نَفْس الْأَمْر وَلَا يَقْتَضِيه الِاقْتِضَاء، وَإِنَّمَا يَكُون الْعِقَاب بِالْخَبَرِ عَنْهُ، كَقَوْلِهِ : إِنْ لَمْ تَفْعَل كَذَا عَذَّبْتُك بِكَذَا، كَمَا وَرَدَ فِي هَذِهِ الْآيَة.
فَوَجَبَ بِمُقْتَضَاهَا النَّفِير لِلْجِهَادِ وَالْخُرُوج إِلَى الْكُفَّار لِمُقَاتَلَتِهِمْ عَلَى أَنْ تَكُون كَلِمَة اللَّه هِيَ الْعُلْيَا.
رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ :" إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا " و " مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَة - إِلَى قَوْله - يَعْمَلُونَ " [ التَّوْبَة : ١٢٠ ] نَسَخَتْهَا الْآيَة الَّتِي تَلِيهَا :" وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّة " [ التَّوْبَة : ١٢٢ ].
وَهُوَ قَوْل الضَّحَّاك وَالْحَسَن وَعِكْرِمَة.
" يُعَذِّبكُمْ " قَالَ اِبْن عَبَّاس : هُوَ حَبْس الْمَطَر عَنْهُمْ.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْهُ فَهُوَ أَعْلَم مِنْ أَيْنَ قَالَهُ، وَإِلَّا فَالْعَذَاب الْأَلِيم هُوَ فِي الدُّنْيَا بِاسْتِيلَاءِ الْعَدُوّ وَبِالنَّارِ فِي الْآخِرَة.
قُلْت : قَوْل اِبْن عَبَّاس خَرَّجَهُ الْإِمَام أَبُو دَاوُد فِي سُنَنه عَنْ اِبْن نُفَيْع قَالَ : سَأَلْت اِبْن عَبَّاس عَنْ هَذِهِ الْآيَة " إِنْ تَنْفِرُوا يُعَذِّبكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا " قَالَ : فَأَمْسَكَ عَنْهُمْ الْمَطَر فَكَانَ عَذَابهمْ.
وَذَكَرَهُ الْإِمَام أَبُو مُحَمَّد بْن عَطِيَّة مَرْفُوعًا عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : اِسْتَنْفَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبِيلَة مِنْ الْقَبَائِل فَقَعَدَتْ، فَأَمْسَكَ اللَّه عَنْهُمْ الْمَطَر وَعَذَّبَهَا بِهِ.
عَذَابًا أَلِيمًا
بِمَعْنَى مُؤْلِم، أَيْ مُوجِع.
وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ
تَوَعَّدَ بِأَنْ يُبَدِّل لِرَسُولِهِ قَوْمًا لَا يَقْعُدُونَ عِنْد اِسْتِنْفَاره إِيَّاهُمْ.
قِيلَ : أَبْنَاء فَارِس.
وَقِيلَ : أَهْل الْيَمَن.
وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
عَطْف.
وَالْهَاء قِيلَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالتَّثَاقُل عَنْ الْجِهَاد مَعَ إِظْهَار الْكَرَاهَة حَرَام عَلَى كُلّ أَحَد.
فَأَمَّا مِنْ غَيْر كَرَاهَة فَمَنْ عَيَّنَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرُمَ عَلَيْهِ التَّثَاقُل وَإِنْ أَمِنَ مِنْهُمَا فَالْفَرْض فَرْض كِفَايَة، ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيّ.
وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ الْمُرَاد بِهَذِهِ الْآيَة وُجُوب النَّفِير عِنْد الْحَاجَة وَظُهُور الْكَفَرَة وَاشْتِدَاد شَوْكَتهمْ.
وَظَاهِر الْآيَة يَدُلّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ عَلَى وَجْه الِاسْتِدْعَاء فَعَلَى هَذَا لَا يَتَّجِه الْحَمْل عَلَى وَقْت ظُهُور الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّ وُجُوب ذَلِكَ لَا يَخْتَصّ بِالِاسْتِدْعَاءِ، لِأَنَّهُ مُتَعَيِّن.
وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَالِاسْتِدْعَاء وَالِاسْتِنْفَار يَبْعُد أَنْ يَكُون مُوجِبًا شَيْئًا لَمْ يَجِب مِنْ قَبْل إِلَّا أَنَّ الْإِمَام إِذَا عَيَّنَ قَوْمًا وَنَدَبَهُمْ إِلَى الْجِهَاد لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَتَثَاقَلُوا عِنْد التَّعْيِين وَيَصِير بِتَعْيِينِهِ فَرْضًا عَلَى مَنْ عَيَّنَهُ لَا لِمَكَانِ الْجِهَاد وَلَكِنْ لِطَاعَةِ الْإِمَام.
وَاَللَّه أَعْلَم.
إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ
يَقُول : تُعِينُوهُ بِالنَّفْرِ مَعَهُ فِي غَزْوَة تَبُوك.
عَاتَبَهُمْ اللَّه بَعْد اِنْصِرَاف نَبِيّه عَلَيْهِ السَّلَام مِنْ تَبُوك.
قَالَ النَّقَّاش : هَذِهِ أَوَّل آيَة نَزَلَتْ مِنْ سُورَة [ بَرَاءَة ] وَالْمَعْنَى : إِنْ تَرَكْتُمْ نَصْره فَاَللَّه يَتَكَفَّل بِهِ، إِذْ قَدْ نَصَرَهُ اللَّه فِي مَوَاطِن الْقِلَّة وَأَظْهَرَهُ عَلَى عَدُوّهُ بِالْغَلَبَةِ وَالْعِزَّة.
وَقِيلَ : فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّه بِصَاحِبِهِ فِي الْغَار بِتَأْنِيسِهِ لَهُ وَحَمْله عَلَى عُنُقه، وَبِوَفَاتِهِ وَوِقَايَته لَهُ بِنَفْسِهِ وَمُوَاسَاته لَهُ بِمَالِهِ.
قَالَ اللَّيْث بْن سَعْد : مَا صَحِبَ الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِمْ السَّلَام مِثْل أَبِي بَكْر الصِّدِّيق.
وَقَالَ سُفْيَان بْن عُيَيْنَة.
خَرَجَ أَبُو بَكْر بِهَذِهِ الْآيَة مِنْ الْمُعَاتَبَة الَّتِي فِي قَوْله :" إِلَّا تَنْصُرُوهُ "
إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا
وَهُوَ خَرَجَ بِنَفْسِهِ فَارًّا، لَكِنْ بِإِلْجَائِهِمْ إِلَى ذَلِكَ حَتَّى فَعَلَهُ، فَنَسَبَ الْفِعْل إِلَيْهِمْ وَرَتَّبَ الْحُكْم فِيهِ عَلَيْهِمْ، فَلِهَذَا يُقْتَل الْمُكْرِه عَلَى الْقَتْل وَيَضْمَن الْمَال الْمُتْلَف بِالْإِكْرَاهِ، لِإِلْجَائِهِ الْقَاتِل وَالْمُتْلِف إِلَى الْقَتْل وَالْإِتْلَاف.
ثَانِيَ اثْنَيْنِ
أَيْ أَحَد اِثْنَيْنِ.
وَهَذَا كَثَالِثِ ثَلَاثَة وَرَابِع أَرْبَعَة.
فَإِذَا اِخْتَلَفَ اللَّفْظ فَقُلْت رَابِع ثَلَاثَة وَخَامِس أَرْبَعَة، فَالْمَعْنَى صَيَّرَ الثَّلَاثَة أَرْبَعَة بِنَفْسِهِ وَالْأَرْبَعَة خَمْسَة.
وَهُوَ مَنْصُوب عَلَى الْحَال، أَيْ أَخْرَجُوهُ مُنْفَرِدًا مِنْ جَمِيع النَّاس إِلَّا مِنْ أَبِي بَكْر.
وَالْعَامِل فِيهَا " نَصَرَهُ اللَّه " أَيْ نَصَرَهُ مُنْفَرِدًا وَنَصَرَهُ أَحَد اِثْنَيْنِ.
وَقَالَ عَلِيّ بْن سُلَيْمَان : التَّقْدِير فَخَرَجَ ثَانِي اِثْنَيْنِ، مِثْل " وَاَللَّه أَنْبَتَكُمْ مِنْ الْأَرْض نَبَاتًا " [ نُوح : ١٧ ].
وَقَرَأَ جُمْهُور النَّاس " ثَانِيَ " بِنَصْبِ الْيَاء.
قَالَ أَبُو حَاتِم : لَا يُعْرَف غَيْر هَذَا.
وَقَرَأَتْ فِرْقَة " ثَانِي " بِسُكُونِ الْيَاء.
قَالَ اِبْن جِنِّي : حَكَاهَا أَبُو عَمْرو بْن الْعَلَاء وَوَجْهه أَنَّهُ سَكَّنَ الْيَاء تَشْبِيهًا لَهَا بِالْأَلِفِ.
قَالَ اِبْن عَطِيَّة : فَهِيَ كَقِرَاءَةِ الْحَسَن " مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا " وَكَقَوْلِ جَرِير :
إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ
الْغَار : ثُقْب فِي الْجَبَل، يَعْنِي غَار ثَوْر.
وَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْش أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ صَارُوا إِلَى الْمَدِينَة قَالُوا : هَذَا شَرّ شَاغِل لَا يُطَاق، فَأَجْمَعُوا أَمْرهمْ عَلَى قَتْل رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَيَّتُوهُ وَرَصَدُوهُ عَلَى بَاب مَنْزِله طُول لَيْلَتهمْ لِيَقْتُلُوهُ إِذَا خَرَجَ، فَأَمَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب أَنْ يَنَام عَلَى فِرَاشه، وَدَعَا اللَّه أَنْ يُعَمِّي عَلَيْهِمْ أَثَره، فَطَمَسَ اللَّه عَلَى أَبْصَارهمْ فَخَرَجَ وَقَدْ غَشِيَهُمْ النَّوْم، فَوَضَعَ عَلَى رُءُوسهمْ تُرَابًا وَنَهَضَ فَلَمَّا أَصْبَحُوا خَرَجَ عَلَيْهِمْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَأَخْبَرَهُمْ أَنْ لَيْسَ فِي الدَّار أَحَد فَعَلِمُوا أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ فَاتَ وَنَجَا وَتَوَاعَدَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَبِي بَكْر الصِّدِّيق لِلْهِجْرَةِ، فَدَفَعَا رَاحِلَتَيْهِمَا إِلَى عَبْد اللَّه بْن أَرْقَط.
وَيُقَال اِبْن أُرَيْقِط، وَكَانَ كَافِرًا لَكِنَّهُمَا وَثِقَا بِهِ، وَكَانَ دَلِيلًا بِالطُّرُقِ فَاسْتَأْجَرَاهُ لِيَدُلّ بِهِمَا إِلَى الْمَدِينَة وَخَرَجَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَوْخَة فِي ظَهْر دَار أَبِي بَكْر الَّتِي فِي بَنِي جُمَح وَنَهَضَا نَحْو الْغَار فِي جَبَل ثَوْر، وَأَمَرَ أَبُو بَكْر اِبْنه عَبْد اللَّه أَنْ يَسْتَمِع مَا يَقُول النَّاس، وَأَمَرَ مَوْلَاهُ عَامِر بْن فُهَيْرَة أَنْ يَرْعَى غَنَمه وَيُرِيحهَا عَلَيْهِمَا لَيْلًا فَيَأْخُذ مِنْهَا حَاجَتهمَا.
ثُمَّ نَهَضَا فَدَخَلَا الْغَار.
وَكَانَتْ أَسْمَاء بِنْت أَبِي بَكْر الصِّدِّيق تَأْتِيهِمَا بِالطَّعَامِ وَيَأْتِيهِمَا عَبْد اللَّه بْن أَبِي بَكْر بِالْأَخْبَارِ، ثُمَّ يَتْلُوهُمَا عَامِر بْن فُهَيْرَة بِالْغَنَمِ فَيُعَفِّي آثَارهمَا.
فَلَمَّا فَقَدَتْهُ قُرَيْش جَعَلَتْ تَطْلُبهُ بِقَائِفٍ مَعْرُوف بِقِفَاءِ الْأَثَر، حَتَّى وَقَفَ عَلَى الْغَار فَقَالَ : هُنَا اِنْقَطَعَ الْأَثَر.
فَنَظَرُوا فَإِذَا بِالْعَنْكَبُوتِ قَدْ نَسَجَ عَلَى فَم الْغَار مِنْ سَاعَته، وَلِهَذَا نَهَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْله فَلَمَّا رَأَوْا نَسْج الْعَنْكَبُوت أَيْقَنُوا أَنْ لَا أَحَد فِيهِ فَرَجَعُوا وَجَعَلُوا فِي النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِائَة نَاقَة لِمَنْ رَدَّهُ عَلَيْهِمْ الْخَبَر مَشْهُور، وَقِصَّة سُرَاقَة بْن مَالِك بْن جُعْشُم فِي ذَلِكَ مَذْكُورَة.
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيث أَبِي الدَّرْدَاء وَثَوْبَان رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا : أَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ حَمَامَة فَبَاضَتْ عَلَى نَسْج الْعَنْكَبُوت، وَجَعَلَتْ تَرْقُد عَلَى بِيضهَا، فَلَمَّا نَظَرَ الْكُفَّار إِلَيْهَا رَدَّهُمْ ذَلِكَ عَنْ الْغَار.
رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ عَائِشَة قَالَتْ : اِسْتَأْجَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْر رَجُلًا مِنْ بَنِي الدَّيْل هَادِيًا خِرِّيتًا وَهُوَ عَلَى دِين كُفَّار قُرَيْش فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا وَوَاعَدَاهُ غَار ثَوْر بَعْد ثَلَاث لَيَالٍ فَأَتَاهُمَا بِرَاحِلَتَيْهِمَا صَبِيحَة ثَلَاث فَارْتَحَلَا وَارْتَحَلَ مَعَهُمَا عَامِر بْن فُهَيْرَة وَالدَّلِيل الدَّيْلِيّ فَأَخَذَ بِهِمْ طَرِيق السَّاحِل.
قَالَ الْمُهَلِّب : فِيهِ مِنْ الْفِقْه اِئْتِمَان أَهْل الشِّرْك عَلَى السِّرّ وَالْمَال إِذَا عُلِمَ مِنْهُمْ وَفَاء وَمُرُوءَة كَمَا اِئْتَمَنَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْمُشْرِك عَلَى سِرّه فِي الْخُرُوج مِنْ مَكَّة وَعَلَى النَّاقَتَيْنِ.
وَقَالَ اِبْن الْمُنْذِر : فِيهِ اِسْتِئْجَار الْمُسْلِمِينَ الْكُفَّار عَلَى هِدَايَة الطَّرِيق.
وَقَالَ الْبُخَارِيّ فِي تَرْجَمَته :[ بَاب اِسْتِئْجَار الْمُشْرِكِينَ عِنْد الضَّرُورَة أَوْ إِذَا لَمْ يُوجَد أَهْل الْإِسْلَام ] قَالَ اِبْن بَطَّال : إِنَّمَا قَالَ الْبُخَارِيّ فِي تَرْجَمَته [ أَوْ إِذَا لَمْ يُوجَد أَهْل الْإِسْلَام ] مِنْ أَجْل أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا عَامَلَ أَهْل خَيْبَر عَلَى الْعَمَل فِي أَرْضهَا إِذْ لَمْ يُوجَد مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَنُوب مَنَابهمْ فِي عَمَل الْأَرْض، حَتَّى قَوِيَ الْإِسْلَام وَاسْتُغْنِيَ عَنْهُمْ أَجْلَاهُمْ عُمَر.
وَعَامَّة الْفُقَهَاء يُجِيزُونَ اِسْتِئْجَارهمْ عِنْد الضَّرُورَة وَغَيْرهَا.
وَفِيهِ : اِسْتِئْجَار الرَّجُلَيْنِ الرَّجُل الْوَاحِد عَلَى عَمَل وَاحِد لَهُمَا.
وَفِيهِ : دَلِيل عَلَى جَوَاز الْفِرَار بِالدَّيْنِ خَوْفًا مِنْ الْعَدُوّ، وَالِاسْتِخْفَاء فِي الْغِيرَان وَغَيْرهَا أَلَّا يُلْقِي الْإِنْسَان بِيَدِهِ إِلَى الْعَدُوّ تَوَكُّلًا عَلَى اللَّه وَاسْتِسْلَامًا لَهُ.
وَلَوْ شَاءَ رَبّكُمْ لَعَصَمَهُ مَعَ كَوْنه مَعَهُمْ وَلَكِنَّهَا سُنَّة اللَّه فِي الْأَنْبِيَاء وَغَيْرهمْ، وَلَنْ تَجِد لِسُنَّةِ اللَّه تَبْدِيلًا.
وَهَذَا أَدَلّ دَلِيل عَلَى فَسَاد مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ وَقَالَ : مَنْ خَافَ مَعَ اللَّه سِوَاهُ كَانَ ذَلِكَ نَقْصًا فِي تَوَكُّله، وَلَمْ يُؤْمِن بِالْقَدَرِ.
وَهَذَا كُلّه فِي مَعْنَى الْآيَة، وَلِلَّهِ الْحَمْد وَالْهِدَايَة
إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا
هَذِهِ الْآيَة تَضَمَّنَتْ فَضَائِل الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
رَوَى أَصْبَغ وَأَبُو زَيْد عَنْ اِبْن الْقَاسِم عَنْ مَالِك " ثَانِيَ اِثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَار إِذْ يَقُول لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَن إِنَّ اللَّه مَعَنَا " هُوَ الصِّدِّيق.
فَحَقَّقَ اللَّه تَعَالَى قَوْله لَهُ بِكَلَامِهِ وَوَصَفَ الصُّحْبَة فِي كِتَابه.
قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُون عُمَر وَعُثْمَان أَوْ أَحَد مِنْ الصَّحَابَة صَاحِب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ كَذَّاب مُبْتَدِع.
وَمَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُون أَبُو بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ صَاحِب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ كَافِر، لِأَنَّهُ رَدَّ نَصَّ الْقُرْآن.
وَمَعْنَى " إِنَّ اللَّه مَعَنَا " أَيْ بِالنَّصْرِ وَالرِّعَايَة وَالْحِفْظ وَالْكِلَاءَة.
رَوَى التِّرْمِذِيّ وَالْحَارِث بْن أَبِي أُسَامَة قَالَا : حَدَّثَنَا عَفَّان قَالَ حَدَّثَنَا هَمَّام قَالَ أَخْبَرَنَا ثَابِت عَنْ أَنَس أَنَّ أَبَا بَكْر حَدَّثَهُ قَالَ : قُلْت لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِي الْغَار : لَوْ أَنَّ أَحَدهمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا تَحْت قَدَمَيْهِ، فَقَالَ :( يَا أَبَا بَكْر مَا ظَنّك بِاثْنَيْنِ اللَّه ثَالِثهمَا ).
قَالَ الْمُحَاسِبِيّ : يَعْنِي مَعَهُمَا بِالنَّصْرِ وَالدِّفَاع، لَا عَلَى مَعْنَى مَا عَمَّ بِهِ الْخَلَائِق، فَقَالَ :" مَا يَكُون مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَة إِلَّا هُوَ رَابِعهمْ " [ الْمُجَادَلَة : ٧ ].
فَمَعْنَاهُ الْعُمُوم أَنَّهُ يَسْمَع وَيَرَى مِنْ الْكُفَّار وَالْمُؤْمِنِينَ.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : قَالَتْ الْإِمَامِيَّة قَبَّحَهَا اللَّه : حُزْن أَبِي بَكْر فِي الْغَار دَلِيل عَلَى جَهْله وَنَقْصه وَضَعْف قَلْبه وَخَرَقه.
وَأَجَابَ عُلَمَاؤُنَا عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ إِضَافَة الْحُزْن إِلَيْهِ لَيْسَ بِنَقْصٍ، كَمَا لَمْ يَنْقُص إِبْرَاهِيم حِين قَالَ عَنْهُ :" نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَة قَالُوا لَا تَخَفْ " [ هُود : ٧٠ ].
وَلَمْ يَنْقُص مُوسَى قَوْله :" فَأَوْجَسَ فِي نَفْسه خِيفَة مُوسَى.
قُلْنَا لَا تَخَفْ " [ طَه ٦٧، ٦٨ ].
وَفِي لُوط :" وَلَا تَحْزَن إِنَّا مُنَجُّوك وَأَهْلك " [ الْعَنْكَبُوت : ٣٣ ].
فَهَؤُلَاءِ الْعُظَمَاء صَلَوَات اللَّه عَلَيْهِمْ قَدْ وُجِدَتْ عِنْدهمْ التَّقِيَّة نَصًّا وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طَعْنًا عَلَيْهِمْ وَوَصْفًا لَهُمْ بِالنَّقْصِ، وَكَذَلِكَ فِي أَبِي بَكْر.
ثُمَّ هِيَ عِنْد الصِّدِّيق اِحْتِمَال، فَإِنَّهُ قَالَ : لَوْ أَنَّ أَحَدهمْ نَظَرَ تَحْت قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا.
جَوَاب ثَانٍ - إِنَّ حُزْن الصِّدِّيق إِنَّمَا كَانَ خَوْفًا عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَصِل إِلَيْهِ ضَرَر، وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ الْوَقْت مَعْصُومًا وَإِنَّمَا نَزَلَ عَلَيْهِ " وَاَللَّه يَعْصِمك مِنْ النَّاس " [ الْمَائِدَة : ٦٧ ] بِالْمَدِينَةِ.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : قَالَ لَنَا أَبُو الْفَضَائِل الْعَدْل قَالَ لَنَا جَمَال الْإِسْلَام أَبُو الْقَاسِم قَالَ مُوسَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :" كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ " [ الشُّعَرَاء : ٦٢ ] وَقَالَ فِي مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :" لَا تَحْزَن إِنَّ اللَّه مَعَنَا " لَا جَرَمَ لَمَّا كَانَ اللَّه مَعَ مُوسَى وَحْده اِرْتَدَّ أَصْحَابه بَعْده، فَرَجَعَ مِنْ عِنْد رَبّه وَوَجَدَهُمْ يَعْبُدُونَ الْعِجْل.
وَلَمَّا قَالَ فِي مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا تَحْزَن إِنَّ اللَّه مَعَنَا " بَقِيَ أَبُو بَكْر مُهْتَدِيًا مُوَحِّدًا عَالِمًا جَازِمًا قَائِمًا بِالْأَمْرِ وَلَمْ يَتَطَرَّق إِلَيْهِ اِخْتِلَال.
خَرَّجَ التِّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيث نُبَيْط بْن شُرَيْط عَنْ سَالِم بْن عُبَيْد - لَهُ صُحْبَة - قَالَ : أُغْمِيَ عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ... ، الْحَدِيث.
وَفِيهِ : وَاجْتَمَعَ الْمُهَاجِرُونَ يَتَشَاوَرُونَ فَقَالُوا : اِنْطَلِقُوا بِنَا إِلَى إِخْوَاننَا مِنْ الْأَنْصَار نُدْخِلهُمْ مَعَنَا فِي هَذَا الْأَمْر.
فَقَالَتْ الْأَنْصَار : مِنَّا أَمِير وَمِنْكُمْ أَمِير.
فَقَالَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : مَنْ لَهُ مِثْل هَذِهِ الثَّلَاث " ثَانِي اِثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَار إِذْ يَقُول لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَن إِنَّ اللَّه مَعَنَا " مَنْ هُمَا ؟ قَالَ : ثُمَّ بَسَطَ يَده فَبَايَعَهُ وَبَايَعَهُ النَّاس بَيْعَة حَسَنَة جَمِيلَة.
قُلْت : وَلِهَذَا قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : فِي قَوْله تَعَالَى :" ثَانِي اِثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَار " مَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْخَلِيفَة بَعْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو بَكْر الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، لِأَنَّ الْخَلِيفَة لَا يَكُون أَبَدًا إِلَّا ثَانِيًا.
وَسَمِعْت شَيْخنَا الْإِمَام أَبَا الْعَبَّاس أَحْمَد بْن عُمَر يَقُول : إِنَّمَا اِسْتَحَقَّ الصِّدِّيق أَنْ يُقَال لَهُ ثَانِي اِثْنَيْنِ لِقِيَامِهِ بَعْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَمْرِ، كَقِيَامِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ أَوَّلًا.
وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا مَاتَ اِرْتَدَّتْ الْعَرَب كُلّهَا، وَلَمْ يَبْقَ الْإِسْلَام إِلَّا بِالْمَدِينَةِ وَمَكَّة وَجُوَاثَا، فَقَامَ أَبُو بَكْر يَدْعُو النَّاس إِلَى الْإِسْلَام وَيُقَاتِلهُمْ عَلَى الدُّخُول فِي الدِّين كَمَا فَعَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَحَقَّ مِنْ هَذِهِ الْجِهَة أَنْ يُقَال فِي حَقّه ثَانِي اِثْنَيْنِ.
قُلْت : وَقَدْ جَاءَ فِي السُّنَّة أَحَادِيث صَحِيحَة، يَدُلّ ظَاهِرهَا عَلَى أَنَّهُ الْخَلِيفَة بَعْده، وَقَدْ اِنْعَقَدَ الْإِجْمَاع عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ مُخَالِف.
وَالْقَادِح فِي خِلَافَته مَقْطُوع بِخَطَئِهِ وَتَفْسِيقه.
وَهَلْ يَكْفُر أَمْ لَا، يُخْتَلَفُ فِيهِ، وَالْأَظْهَر تَكْفِيره.
وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْمَعْنَى مَزِيد بَيَان فِي سُورَة [ الْفَتْح ] إِنْ شَاءَ اللَّه.
وَاَلَّذِي يُقْطَع بِهِ مِنْ الْكِتَاب وَالسُّنَّة وَأَقْوَال عُلَمَاء الْأُمَّة وَيَجِب أَنْ تُؤْمِن بِهِ الْقُلُوب وَالْأَفْئِدَة فَضْل الصِّدِّيق عَلَى جَمِيع الصَّحَابَة.
وَلَا مُبَالَاة بِأَقْوَالِ أَهْل الشِّيَع وَلَا أَهْل الْبِدَع، فَإِنَّهُمْ بَيْن مُكَفَّر تُضْرَب رَقَبَته، وَبَيْن مُبْتَدِع مُفَسَّق لَا تُقْبَل كَلِمَته.
ثُمَّ بَعْد الصِّدِّيق عُمَر الْفَارُوق، ثُمَّ بَعْده عُثْمَان.
رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ : كُنَّا نُخَيِّر بَيْن النَّاس فِي زَمَن رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنُخَيِّر أَبَا بَكْر ثُمَّ عُمَر ثُمَّ عُثْمَان.
وَاخْتَلَفَ أَئِمَّة أَهْل السَّلَف فِي عُثْمَان وَعَلِيّ، فَالْجُمْهُور مِنْهُمْ عَلَى تَقْدِيم عُثْمَان.
وَرُوِيَ عَنْ مَالِك أَنَّهُ تَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ رَجَعَ إِلَى مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُور.
وَهُوَ الْأَصَحّ إِنْ شَاءَ اللَّه.
فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ
فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدهمَا : عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالثَّانِي : عَلَى أَبِي بَكْر.
اِبْن الْعَرَبِيّ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا وَهُوَ الْأَقْوَى، لِأَنَّهُ خَافَ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْقَوْم فَأَنْزَلَ اللَّه سَكِينَته عَلَيْهِ بِتَأْمِينِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَكَنَ جَأْشه وَذَهَبَ رَوْعه وَحَصَلَ الْأَمْن وَأَنْبَتَ اللَّه سُبْحَانه ثُمَامَة، وَأَلْهَمَ الْوَكْر هُنَاكَ حَمَامَة وَأَرْسَلَ الْعَنْكَبُوت فَنَسَجَتْ بَيْتًا عَلَيْهِ.
فَمَا أَضْعَف هَذِهِ الْجُنُود فِي ظَاهِر الْحِسّ وَمَا أَقْوَاهَا فِي بَاطِن الْمَعْنَى وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَر حِين تَغَامَرَ مَعَ الصِّدِّيق :( هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي إِنَّ النَّاس كُلّهمْ قَالُوا كَذَبْت وَقَالَ أَبُو بَكْر صَدَقْت ) رَوَاهُ أَبُو الدَّرْدَاء.
وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا
أَيْ مِنْ الْمَلَائِكَة.
وَالْكِنَايَة فِي قَوْله " وَأَيَّدَهُ " تَرْجِع إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالضَّمِيرَانِ يَخْتَلِفَانِ، وَهَذَا كَثِير فِي الْقُرْآن وَفِي كَلَام الْعَرَب.
وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى
أَيْ كَلِمَة الشِّرْك.
وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
قِيلَ : لَا إِلَه إِلَّا اللَّه.
وَقِيلَ : وَعْد النَّصْر.
وَقَرَأَ الْأَعْمَش وَيَعْقُوب " وَكَلِمَة اللَّه " بِالنَّصْبِ حَمْلًا عَلَى " جَعَلَ " وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَاف.
وَزَعَمَ الْفَرَّاء أَنَّ قِرَاءَة النَّصْب بَعِيدَة، قَالَ : لِأَنَّك تَقُول أَعْتَقَ فُلَان غُلَام أَبِيهِ، وَلَا تَقُول غُلَام أَبِي فُلَان.
وَقَالَ أَبُو حَاتِم نَحْوًا مِنْ هَذَا.
قَالَ : كَانَ يَجِب أَنْ يُقَال وَكَلِمَته هِيَ الْعُلْيَا.
قَالَ النَّحَّاس : الَّذِي ذَكَرَهُ الْفَرَّاء لَا يُشْبِه الْآيَة، وَلَكِنْ يُشْبِههَا مَا أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ : ش لَا أَرَى الْمَوْت يَسْبِق الْمَوْت شَيْء و نَغَّصَ الْمَوْت ذَا الْغِنَى وَالْفَقِيرَا ش فَهَذَا حَسَن جَيِّد لَا إِشْكَال فِيهِ، بَلْ يَقُول النَّحْوِيُّونَ الْحُذَّاق : فِي إِعَادَة الذِّكْر فِي مِثْل هَذَا فَائِدَة وَهِيَ أَنَّ فِيهِ مَعْنَى التَّعْظِيم، قَالَ اللَّه تَعَالَى :" إِذَا زُلْزِلَتْ الْأَرْض زِلْزَالهَا.
وَأَخْرَجَتْ الْأَرْض أَثْقَالهَا " [ الزَّلْزَلَة : ٢، ١ ] فَهَذَا لَا إِشْكَال فِيهِ.
وَجَمْع الْكَلِمَة كَلِم.
وَتَمِيم تَقُول : هِيَ كِلْمَة بِكَسْرِ الْكَاف.
وَحَكَى الْفَرَّاء فِيهَا ثَلَاث لُغَات : كَلِمَة وَكِلْمَة وَكَلْمَة مِثْل كَبِد وَكِبْد وَكَبْد، وَوَرِق وَوِرْق وَوَرْق.
وَالْكَلِمَة أَيْضًا الْقَصِيدَة بِطُولِهَا، قَالَهُ الْجَوْهَرِيّ.
انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا
رَوَى سُفْيَان عَنْ حُصَيْن بْن عَبْد الرَّحْمَن عَنْ أَبِي مَالِك الْغِفَارِيّ قَالَ : أَوَّل مَا نَزَلَ مِنْ سُورَة بَرَاءَة " اِنْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا ".
وَقَالَ أَبُو الضَّحَّاك كَذَلِكَ أَيْضًا.
قَالَ : ثُمَّ نَزَلَ أَوَّلهَا وَآخِرهَا.
" اِنْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا " نُصِبَ عَلَى الْحَال،
وَفِيهِ عَشَرَة أَقْوَال
[ الْأَوَّل ] يُذْكَر عَنْ اِبْن عَبَّاس " اِنْفِرُوا ثُبَات " [ النِّسَاء : ٧١ ] : سَرَايَا مُتَفَرِّقِينَ.
[ الثَّانِي ] رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا وَقَتَادَة : نِشَاطًا وَغَيْر نِشَاط.
[ الثَّالِث ] الْخَفِيف : الْغَنِيّ، وَالثَّقِيل : الْفَقِير، قَالَهُ مُجَاهِد.
[ الرَّابِع ] الْخَفِيف : الشَّابّ، وَالثَّقِيل : الشَّيْخ، قَالَهُ الْحَسَن.
[ الْخَامِس ] مَشَاغِيل وَغَيْر مَشَاغِيل، قَالَهُ زَيْد بْن عَلِيّ وَالْحَكَم بْن عُتَيْبَة.
[ السَّادِس ] الثَّقِيل : الَّذِي لَهُ عِيَال، وَالْخَفِيف : الَّذِي لَا عِيَال لَهُ، قَالَهُ زَيْد بْن أَسْلَم.
[ السَّابِع ] الثَّقِيل : الَّذِي لَهُ ضَيْعَة يَكْرَه أَنْ يَدَعهَا، وَالْخَفِيف : الَّذِي لَا ضَيْعَة لَهُ، قَالَهُ اِبْن زَيْد.
[ الثَّامِن ] الْخِفَاف : الرِّجَال، وَالثِّقَال : الْفُرْسَان، قَالَهُ الْأَوْزَاعِيّ.
[ التَّاسِع ] الْخِفَاف : الَّذِينَ يَسْبِقُونَ إِلَى الْحَرْب كَالطَّلِيعَةِ وَهُوَ مُقَدَّم الْجَيْش وَالثِّقَال : الْجَيْش بِأَثَرِهِ [ الْعَاشِر ] الْخَفِيف : الشُّجَاع، وَالثَّقِيل : الْجَبَان، حَكَاهُ النَّقَّاش.
وَالصَّحِيح فِي مَعْنَى الْآيَة أَنَّ النَّاس أُمِرُوا جُمْلَة أَيْ اِنْفِرُوا خَفَّتْ عَلَيْكُمْ الْحَرَكَة أَوْ ثَقُلَتْ.
وَرُوِيَ أَنَّ اِبْن أُمّ مَكْتُوم جَاءَ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لَهُ : أَعَلَيَّ أَنْ أَنْفِر ؟ فَقَالَ :( نَعَمْ ) حَتَّى أَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى " لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَج " [ النُّور : ٦١ ].
وَهَذِهِ الْأَقْوَال إِنَّمَا هِيَ عَلَى مَعْنَى الْمِثَال فِي الثِّقَل وَالْخِفَّة.
وَاخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْآيَة، فَقِيلَ إِنَّهَا مَنْسُوخَة بِقَوْلِهِ تَعَالَى :" لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلَا عَلَى الْمَرْضَى " [ التَّوْبَة : ٩١ ].
وَقِيلَ : النَّاسِخ لَهَا قَوْله :" فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلّ فِرْقَة مِنْهُمْ طَائِفَة " [ التَّوْبَة : ١٢٢ ].
وَالصَّحِيح أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ.
رَوَى اِبْن عَبَّاس عَنْ أَبِي طَلْحَة فِي قَوْله تَعَالَى :" اِنْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا " قَالَ شُبَّانًا وَكُهُولًا، مَا سَمِعَ اللَّه عُذْر أَحَد.
فَخَرَجَ إِلَى الشَّام فَجَاهَدَ حَتَّى مَاتَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
وَرَوَى حَمَّاد عَنْ ثَابِت وَعَلِيّ بْن زَيْد عَنْ أَنَس أَنَّ أَبَا طَلْحَة قَرَأَ سُورَة [ بَرَاءَة ] فَأَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَة " اِنْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا " فَقَالَ : أَيْ بَنِيَّ جَهِّزُونِي جَهِّزُونِي فَقَالَ بَنُوهُ : يَرْحَمك اللَّه لَقَدْ غَزَوْت مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى مَاتَ وَمَعَ أَبِي بَكْر حَتَّى مَاتَ وَمَعَ عُمَر حَتَّى مَاتَ فَنَحْنُ نَغْزُو عَنْك.
قَالَ : لَا، جَهِّزُونِي.
فَغَزَا فِي الْبَحْر فَمَاتَ فِي الْبَحْر، فَلَمْ يَجِدُوا لَهُ جَزِيرَة يَدْفِنُونَهُ فِيهَا إِلَّا بَعْد سَبْعَة أَيَّام فَدَفَنُوهُ فِيهَا، وَلَمْ يَتَغَيَّر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
وَأَسْنَدَ الطَّبَرِيّ عَمَّنْ رَأَى الْمِقْدَاد بْن الْأَسْوَد بِحِمْص عَلَى تَابُوت صَرَّاف، وَقَدْ فَضَلَ عَلَى التَّابُوت مِنْ سِمَنه وَهُوَ يَتَجَهَّز لِلْغَزْوِ.
فَقِيلَ لَهُ : لَقَدْ عَذَرَك اللَّه.
فَقَالَ : أَتَتْ عَلَيْنَا سُورَة الْبَعُوث " اِنْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا ".
وَقَالَ الزُّهْرِيّ : خَرَجَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب إِلَى الْغَزْو وَقَدْ ذَهَبَتْ إِحْدَى عَيْنَيْهِ.
فَقِيلَ لَهُ : إِنَّك عَلِيل.
فَقَالَ : اِسْتَنْفَرَ اللَّهُ الْخَفِيف وَالثَّقِيل، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنِّي الْحَرْب كَثَّرْت السَّوَاد وَحَفِظْت الْمَتَاع.
وَرُوِيَ أَنَّ بَعْض النَّاس رَأَى فِي غَزَوَات الشَّام رَجُلًا قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ مِنْ الْكِبَر، فَقَالَ لَهُ : يَا عَمّ إِنَّ اللَّه قَدْ عَذَرَك فَقَالَ : يَا ابْن أَخِي، قَدْ أُمِرْنَا بِالنَّفْرِ خِفَافًا وَثِقَالًا.
وَلَقَدْ قَالَ اِبْن أُمّ مَكْتُوم رَضِيَ اللَّه عَنْهُ - وَاسْمه عَمْرو - يَوْم أُحُد : أَنَا رَجُل أَعْمَى، فَسَلِّمُوا لِي اللِّوَاء، فَإِنَّهُ إِذَا اِنْهَزَمَ حَامِل اللِّوَاء اِنْهَزَمَ الْجَيْش، وَأَنَا مَا أَدْرِي مَنْ يَقْصِدنِي بِسَيْفِهِ فَمَا أَبْرَح فَأَخَذَ اللِّوَاء يَوْمئِذٍ مُصْعَب بْن عُمَيْر عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي [ آل عِمْرَان ] بَيَانه.
فَلِهَذَا وَمَا كَانَ مِثْله مِمَّا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ،
قُلْنَا : إِنَّ النَّسْخ لَا يَصِحّ.
وَقَدْ تَكُون حَالَة يَجِب فِيهَا نَفِير الْكُلّ وَذَلِكَ إِذَا تَعَيَّنَ الْجِهَاد بِغَلَبَةِ الْعَدُوّ عَلَى قُطْر مِنْ الْأَقْطَار، أَوْ بِحُلُولِهِ بِالْعُقْرِ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَى جَمِيع أَهْل تِلْكَ الدَّار أَنْ يَنْفِرُوا وَيَخْرُجُوا إِلَيْهِ خِفَافًا وَثِقَالًا، شَبَابًا وَشُيُوخًا، كُلّ عَلَى قَدْر طَاقَته، مَنْ كَانَ لَهُ أَب بِغَيْرِ إِذْنه وَمَنْ لَا أَب لَهُ، وَلَا يَتَخَلَّف أَحَد يَقْدِر عَلَى الْخُرُوج، مِنْ مُقَاتِل أَوْ مُكَثِّر.
فَإِنْ عَجَزَ أَهْل تِلْكَ الْبَلْدَة عَنْ الْقِيَام بِعَدُوِّهِمْ كَانَ عَلَى مَنْ قَارَبَهُمْ وَجَاوَرَهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا عَلَى حَسَب مَا لَزِمَ أَهْل تِلْكَ الْبَلْدَة، حَتَّى يَعْلَمُوا أَنَّ فِيهِمْ طَاقَة عَلَى الْقِيَام بِهِمْ وَمُدَافَعَتهمْ.
وَكَذَلِكَ كُلّ مَنْ عَلِمَ بِضَعْفِهِمْ عَنْ عَدُوّهُمْ وَعَلِمَ أَنَّهُ يُدْرِكهُمْ وَيُمْكِنهُ غِيَاثهمْ لَزِمَهُ أَيْضًا الْخُرُوج إِلَيْهِمْ، فَالْمُسْلِمُونَ كُلّهمْ يَد عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، حَتَّى إِذَا قَامَ بِدَفْعِ الْعَدُوّ أَهْل النَّاحِيَة الَّتِي نَزَلَ الْعَدُوّ عَلَيْهَا وَاحْتَلَّ بِهَا سَقَطَ الْفَرْض عَنْ الْآخَرِينَ.
وَلَوْ قَارَبَ الْعَدُوّ دَار الْإِسْلَام وَلَمْ يَدْخُلُوهَا لَزِمَهُمْ أَيْضًا الْخُرُوج إِلَيْهِ، حَتَّى يَظْهَر دِين اللَّه وَتُحْمَى الْبَيْضَة وَتُحْفَظ الْحَوْزَة وَيُخْزَى الْعَدُوّ، وَلَا خِلَاف فِي هَذَا.
وَقِسْم ثَانٍ مِنْ وَاجِب الْجِهَاد - فَرْض أَيْضًا عَلَى الْإِمَام إِغْزَاء طَائِفَة إِلَى الْعَدُوّ كُلّ سَنَة مَرَّة يَخْرُج مَعَهُمْ بِنَفْسِهِ أَوْ يُخْرِج مَنْ يَثِق بِهِ لِيَدْعُوَهُمْ إِلَى الْإِسْلَام وَيُرَغِّبهُمْ، وَيَكُفّ أَذَاهُمْ وَيُظْهِر دِين اللَّه عَلَيْهِمْ حَتَّى يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَام أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَة عَنْ يَد.
وَمِنْ الْجِهَاد أَيْضًا مَا هُوَ نَافِلَة وَهُوَ إِخْرَاج الْإِمَام طَائِفَة بَعْد طَائِفَة وَبَعْث السَّرَايَا فِي أَوْقَات الْغِرَّة وَعِنْد إِمْكَان الْفُرْصَة وَالْإِرْصَاد لَهُمْ بِالرِّبَاطِ فِي مَوْضِع الْخَوْف وَإِظْهَار الْقُوَّة.
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يَصْنَع الْوَاحِد إِذَا قَصَّرَ الْجَمِيع،
قِيلَ لَهُ : يَعْمِد إِلَى أَسِير وَاحِد فَيَفْدِيه، فَإِنَّهُ إِذَا فَدَى الْوَاحِد فَقَدْ أَدَّى فِي الْوَاحِد أَكْثَر مِمَّا كَانَ يَلْزَمهُ فِي الْجَمَاعَة، فَإِنَّ الْأَغْنِيَاء لَوْ اِقْتَسَمُوا فِدَاء الْأُسَارَى مَا أَدَّى كُلّ وَاحِد مِنْهُمْ إِلَّا أَقَلّ مِنْ دِرْهَم.
وَيَغْزُو بِنَفْسِهِ إِنْ قَدَرَ وَإِلَّا جَهَّزَ غَازِيًا.
قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فَقَدْ غَزَا وَمَنْ خَلَفَهُ فِي أَهْله بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا ) أَخْرَجَهُ الصَّحِيح.
وَذَلِكَ لِأَنَّ مَكَانه لَا يُغْنِي وَمَاله لَا يَكْفِي.
رُوِيَ أَنَّ بَعْض الْمُلُوك عَاهَدَ كُفَّارًا عَلَى أَلَّا يَحْبِسُوا أَسِيرًا، فَدَخَلَ رَجُل مِنْ الْمُسْلِمِينَ جِهَة بِلَادهمْ فَمَرَّ عَلَى بَيْت مُغْلَق، فَنَادَتْهُ اِمْرَأَة إِنِّي أَسِيرَة فَأَبْلِغْ صَاحِبك خَبَرِي فَلَمَّا اِجْتَمَعَ بِهِ وَاسْتَطْعَمَهُ عِنْده وَتَجَاذَبَا ذَيْل الْحَدِيث اِنْتَهَى الْخَبَر إِلَى هَذِهِ الْمُعَذَّبَة فَمَا أَكْمَلَ حَدِيثه حَتَّى قَامَ الْأَمِير عَلَى قَدَمَيْهِ وَخَرَجَ غَازِيًا مِنْ فَوْره وَمَشَى إِلَى الثَّغْر حَتَّى أَخْرَجَ الْأَسِيرَة وَاسْتَوْلَى عَلَى الْمَوْضِع رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
ذَكَرَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ وَقَالَ : وَلَقَدْ نَزَلَ بِنَا الْعَدُوّ - قَصَمَهُ اللَّه - سَنَة سَبْع وَعِشْرِينَ وَخَمْسمِائَةٍ فَجَاسَ دِيَارنَا وَأَسَرَ خِيرَتنَا وَتَوَسَّطَ بِلَادنَا فِي عَدَد هَالَ النَّاسَ عَدَدُهُ وَكَانَ كَثِيرًا وَإِنْ لَمْ يَبْلُغ مَا حَدَّدُوهُ.
فَقُلْت لِلْوَالِي وَالْمَوْلَى عَلَيْهِ : هَذَا عَدُوّ اللَّه قَدْ حَصَلَ فِي الشَّرَك وَالشَّبْكَة فَلْتَكُنْ عِنْدكُمْ بَرَكَة، وَلِتَظْهَر مِنْكُمْ إِلَى نُصْرَة الدِّين الْمُتَعَيِّنَة عَلَيْكُمْ حَرَكَة فَلْيَخْرُجْ إِلَيْهِ جَمِيع النَّاس حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُمْ أَحَد فِي جَمِيع الْأَقْطَار فَيُحَاط بِهِ فَإِنَّهُ هَالِك لَا مَحَالَة إِنْ يَسَّرَكُمْ اللَّه لَهُ فَغَلَبَتْ الذُّنُوب وَرَجَفَتْ الْقُلُوب بِالْمَعَاصِي وَصَارَ كُلّ أَحَد مِنْ النَّاس ثَعْلَبًا يَأْوِي إِلَى وَجَاره وَإِنْ رَأَى الْمَكِيدَة بِجَارِهِ.
فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَحَسْبنَا اللَّه وَنِعْمَ الْوَكِيل ).
وَجَاهِدُوا
أَمْر بِالْجِهَادِ، وَهُوَ مُشْتَقّ مِنْ الْجَهْد
بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَنَس أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسكُمْ وَأَلْسِنَتكُمْ ).
وَهَذَا وَصْف لِأَكْمَل مَا يَكُون مِنْ الْجِهَاد وَأَنْفَعهُ عِنْد اللَّه تَعَالَى.
فَحَضَّ عَلَى كَمَالِ الْأَوْصَاف، وَقَدَّمَ الْأَمْوَال فِي الذِّكْر إِذْ هِيَ أَوَّل مَصْرِف وَقْت التَّجْهِيز.
فَرَتَّبَ الْأَمْر كَمَا هُوَ نَفْسه.
لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ
لَمَّا رَجَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَة تَبُوك أَظْهَرَ اللَّه نِفَاق قَوْم.
وَالْعَرَض : مَا يُعْرَض مِنْ مَنَافِع الدُّنْيَا.
وَالْمَعْنَى : غَنِيمَة قَرِيبَة.
أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَوْ دُعُوا إِلَى غَنِيمَة لَاتَّبَعُوهُ.
" عَرَضًا " خَبَر كَانَ.
" قَرِيبًا " نَعْته.
" وَسَفَرًا قَاصِدًا " عَطْف عَلَيْهِ.
وَحُذِفَ اِسْم كَانَ لِدَلَالَةِ الْكَلَام عَلَيْهِ.
التَّقْدِير : لَوْ كَانَ الْمَدْعُوّ إِلَيْهِ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا - أَيْ سَهْلًا مَعْلُوم الطُّرُق - لَاتَّبَعُوك.
وَهَذِهِ الْكِنَايَة لِلْمُنَافِقِينَ كَمَا ذَكَرْنَا، لِأَنَّهُمْ دَاخِلُونَ فِي جُمْلَة مَنْ خُوطِبَ بِالنَّفِيرِ.
وَهَذَا مَوْجُود فِي كَلَام الْعَرَب يَذْكُرُونَ الْجُمْلَة ثُمَّ يَأْتُونَ بِالْإِضْمَارِ عَائِدًا عَلَى بَعْضهَا، كَمَا قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى :" وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدهَا " [ مَرْيَم : ٧١ ] أَنَّهَا الْقِيَامَة.
ثُمَّ قَالَ جَلَّ وَعَزَّ :" ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اِتَّقَوْا وَنَذَر الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا " [ مَرْيَم : ٧٢ ] يَعْنِي جَلَّ وَعَزَّ جَهَنَّم.
وَنَظِير هَذِهِ الْآيَة مِنْ السُّنَّة فِي الْمَعْنَى قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام :( لَوْ يَعْلَم أَحَدهمْ أَنَّهُ يَجِد عَظْمًا سَمِينًا أَوْ مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ لَشَهِدَ الْعِشَاء ).
يَقُول : لَوْ عَلِمَ أَحَدهمْ أَنَّهُ يَجِد شَيْئًا حَاضِرًا مُعَجَّلًا يَأْخُذهُ لَأَتَى الْمَسْجِد مِنْ أَجْله.
وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ
حَكَى أَبُو عُبَيْدَة وَغَيْره أَنَّ الشُّقَّة السَّفَر إِلَى أَرْض بَعِيدَة.
يُقَال : مِنْهُ شُقَّة شَاقَّة.
وَالْمُرَاد بِذَلِكَ كُلّه غَزْوَة تَبُوك.
وَحَكَى الْكِسَائِيّ أَنَّهُ يُقَال : شُقَّة وَشِقَّة.
قَالَ الْجَوْهَرِيّ : الشُّقَّة بِالضَّمِّ مِنْ الثِّيَاب، وَالشُّقَّة أَيْضًا السَّفَر الْبَعِيد وَرُبَّمَا قَالُوهُ بِالْكَسْرِ.
وَالشِّقَّة شَظِيَّة تُشْظَى مِنْ لَوْح أَوْ خَشَبَة.
يُقَال لِلْغَضْبَانِ : اِحْتَدَّ فَطَارَتْ مِنْهُ شِقَّة، بِالْكَسْرِ.
وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا
أَيْ لَوْ كَانَ لَنَا سَعَة فِي الظَّهْر وَالْمَال.
لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ
نَظِيره " وَلِلَّهِ عَلَى النَّاس حِجّ الْبَيْت مَنْ اِسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا " [ آل عِمْرَان : ٩٧ ] فَسَّرَهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ :( زَاد وَرَاحِلَة ) وَقَدْ تَقَدَّمَ.
يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ
أَيْ بِالْكَذِبِ وَالنِّفَاق.
وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
فِي الِاعْتِلَال.
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ
قِيلَ : هُوَ اِفْتِتَاح كَلَام، كَمَا تَقُول : أَصْلَحَك اللَّه وَأَعَزَّك وَرَحِمَك كَانَ كَذَا وَكَذَا.
وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيل يَحْسُن الْوَقْف عَلَى قَوْله :" عَفَا اللَّه عَنْك "، حَكَاهُ مَكِّيّ وَالْمَهْدَوِيّ وَالنَّحَّاس.
وَأَخْبَرَهُ بِالْعَفْوِ قَبْل الذَّنْب لِئَلَّا يَطِير قَلْبه فَرَقًا.
وَقِيلَ : الْمَعْنَى عَفَا اللَّه عَنْك مَا كَانَ مِنْ ذَنْبك فِي أَنْ أَذِنْت لَهُمْ، فَلَا يَحْسُن الْوَقْف عَلَى قَوْله :" عَفَا اللَّه عَنْك " عَلَى هَذَا التَّقْدِير، حَكَاهُ الْمَهْدَوِيّ وَاخْتَارَهُ النَّحَّاس.
ثُمَّ قِيلَ : فِي الْإِذْن قَوْلَانِ :[ الْأَوَّل ] " لِمَ أَذِنْت لَهُمْ " فِي الْخُرُوج مَعَك، وَفِي خُرُوجهمْ بِلَا عِدَّة وَنِيَّة صَادِقَة فَسَاد.
[ الثَّانِي ] - " لِمَ أَذِنْت لَهُمْ " فِي الْقُعُود لَمَّا اِعْتَلُّوا بِأَعْذَارٍ، ذَكَرَهَا الْقُشَيْرِيّ قَالَ : وَهَذَا عِتَاب تَلَطُّف إِذْ قَالَ :" عَفَا اللَّه عَنْك ".
وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَام أَذِنَ مِنْ غَيْر وَحْي نَزَلَ فِيهِ.
قَالَ قَتَادَة وَعَمْرو بْن مَيْمُون : ثِنْتَانِ فَعَلَهُمَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُؤْمَر بِهِمَا : إِذْنه لِطَائِفَةٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ فِي التَّخَلُّف عَنْهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُمْضِي شَيْئًا إِلَّا بِوَحْيٍ وَأَخْذه مِنْ الْأُسَارَى الْفِدْيَة فَعَاتَبَهُ اللَّه كَمَا تَسْمَعُونَ.
قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : إِنَّمَا بَدَرَ مِنْهُ تَرْك الْأَوْلَى فَقَدَّمَ اللَّه الْعَفْو عَلَى الْخِطَاب الَّذِي هُوَ فِي صُورَة الْعِتَاب.
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ
أَيْ لِيَتَبَيَّن لَك مَنْ صَدَقَ مِمَّنْ نَافَقَ.
قَالَ اِبْن عَبَّاس : وَذَلِكَ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَوْمئِذٍ يَعْرِف الْمُنَافِقِينَ وَإِنَّمَا عَرَفَهُمْ بَعْد نُزُول سُورَة [ التَّوْبَة ].
وَقَالَ مُجَاهِد : هَؤُلَاءِ قَوْم قَالُوا : نَسْتَأْذِن فِي الْجُلُوس فَإِنْ أَذِنَ لَنَا جَلَسْنَا وَإِنْ لَمْ يُؤْذَن لَنَا جَلَسْنَا.
وَقَالَ قَتَادَة : نَسَخَ هَذِهِ الْآيَة بِقَوْلِهِ فِي سُورَة " النُّور " :" فَإِذَا اِسْتَأْذَنُوك لِبَعْضِ شَأْنهمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْت مِنْهُمْ " [ النُّور : ٦٢ ].
ذَكَرَهُ النَّحَّاس فِي مَعَانِي الْقُرْآن لَهُ.
لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ
أَيْ فِي الْقُعُود وَلَا فِي الْخُرُوج، بَلْ إِذَا أَمَرْت بِشَيْءٍ اِبْتَدَرُوهُ، فَكَانَ الِاسْتِئْذَان فِي ذَلِكَ الْوَقْت مِنْ عَلَامَات النِّفَاق لِغَيْرِ عُذْر، " أَنْ يُجَاهِدُوا " فِي مَوْضِع نَصْب بِإِضْمَارِ فِي، عَنْ الزَّجَّاج.
وَقِيلَ : التَّقْدِير كَرَاهِيَة أَنْ يُجَاهِدُوا، كَقَوْلِهِ :" يُبَيِّن اللَّه لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا " [ النِّسَاء : ١٧٦ ].
إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ :" لَا يَسْتَأْذِنك الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ " نَسَخَتْهَا الَّتِي فِي [ النُّور ] " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاَللَّهِ وَرَسُوله - إِلَى قَوْله - غَفُور رَحِيم " [ النُّور : ٦٢ ]
وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ
شَكَّتْ فِي الدِّين.
فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ
أَيْ فِي شَكّهمْ يَذْهَبُونَ وَيَرْجِعُونَ.
وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً
أَيْ لَوْ أَرَادُوا الْجِهَاد لَتَأَهَّبُوا أُهْبَة السَّفَر.
فَتَرْكهمْ الِاسْتِعْدَاد دَلِيل عَلَى إِرَادَتهمْ التَّخَلُّف.
وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ
أَيْ خُرُوجهمْ مَعَك.
فَثَبَّطَهُمْ
أَيْ حَبَسَهُمْ عَنْك وَخَذَلَهُمْ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا : إِنْ لَمْ يُؤْذَن لَنَا فِي الْجُلُوس أَفْسَدْنَا وَحَرَّضْنَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.
وَيَدُلّ عَلَى هَذَا أَنَّ بَعْده " لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا ".
وَقِيلَ اقْعُدُوا
قِيلَ : هُوَ مِنْ قَوْل بَعْضهمْ لِبَعْضٍ.
وَقِيلَ : هُوَ مِنْ قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَكُون هَذَا هُوَ الْإِذْن الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْره.
قِيلَ : قَالَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَضَبًا فَأَخَذُوا بِظَاهِرِ لَفْظه وَقَالُوا قَدْ أَذِنَ لَنَا.
وَقِيلَ : هُوَ عِبَارَة عَنْ الْخِذْلَان، أَيْ أَوْقَعَ اللَّه فِي قُلُوبهمْ الْقُعُود.
مَعَ الْقَاعِدِينَ
أَيْ مَعَ أُولِي الضَّرَر وَالْعُمْيَان وَالزَّمْنَى وَالنِّسْوَانِ وَالصِّبْيَان.
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا
هُوَ تَسْلِيَة لِلْمُؤْمِنِينَ فِي تَخَلُّف الْمُنَافِقِينَ عَنْهُمْ.
وَالْخَبَال : الْفَسَاد وَالنَّمِيمَة وَإِيقَاع الِاخْتِلَاف وَالْأَرَاجِيف.
وَهَذَا اِسْتِثْنَاء مُنْقَطِع، أَيْ مَا زَادُوكُمْ قُوَّة وَلَكِنْ طَلَبُوا الْخَبَال.
وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَا يَزِيدُونَكُمْ فِيمَا يَتَرَدَّدُونَ فِيهِ مِنْ الرَّأْي إِلَّا خَبَالًا، فَلَا يَكُون الِاسْتِثْنَاء مُنْقَطِعًا.
وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ
الْمَعْنَى لَأَسْرَعُوا فِيمَا بَيْنكُمْ بِالْإِفْسَادِ.
وَالْإِيضَاع، سُرْعَة السَّيْر.
وَقَالَ الرَّاجِز :
هُوَ الْخَلِيفَة فَارْضَوْا مَا رَضِيَ لَكُمُ مَاضِي الْعَزِيمَة مَا فِي حُكْمه جَنَفَ
يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعْ أَخُبّ فِيهَا وَأَضَعْ
يُقَال : وَضَعَ الْبَعِير إِذَا عَدَا، يَضَع وَضْعًا وَوُضُوعًا إِذَا أَسْرَعَ السَّيْر.
وَأَوْضَعْته حَمَلْته عَلَى الْعَدْوِ.
وَقِيلَ : الْإِيضَاع سَيْر مِثْل الْخَبَب.
وَالْخَلَل الْفُرْجَة بَيْن الشَّيْئَيْنِ، وَالْجَمْع الْخِلَال، أَيْ الْفُرَج الَّتِي تَكُون بَيْن الصُّفُوف.
أَيْ لَأَوْضَعُوا خِلَالكُمْ بِالنَّمِيمَةِ وَإِفْسَاد ذَات الْبَيْن.
يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ
مَفْعُول ثَانٍ.
وَالْمَعْنَى يَطْلُبُونَ لَكُمْ الْفِتْنَة، أَيْ الْإِفْسَاد وَالتَّحْرِيض.
وَيُقَال : أَبْغَيْته كَذَا أَعَنْته عَلَى طَلَبه، وَبَغَيْته كَذَا طَلَبْته لَهُ.
وَقِيلَ : الْفِتْنَة هُنَا الشِّرْك.
وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ
أَيْ عُيُون لَهُمْ يَنْقُلُونَ إِلَيْهِمْ الْأَخْبَار مِنْكُمْ.
قَتَادَة : وَفِيكُمْ مَنْ يَقْبَل مِنْهُمْ قَوْلهمْ وَيُطِيعهُمْ.
النَّحَّاس : الْقَوْل الْأَوَّل أَوْلَى، لِأَنَّهُ الْأَغْلَب مِنْ مَعْنَيَيْهِ أَنَّ مَعْنَى سَمَّاع يَسْمَع الْكَلَام، وَمِثْله " سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ " [ الْمَائِدَة : ٤١ ].
وَالْقَوْل الثَّانِي : لَا يَكَاد يُقَال فِيهِ إِلَّا سَامِع، مِثْل قَائِل.
لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ
أَيْ لَقَدْ طَلَبُوا الْإِفْسَاد وَالْخَبَال مِنْ قَبْل أَنْ يَظْهَر أَمْرهمْ، وَيَنْزِل الْوَحْي بِمَا أَسَرُّوهُ وَبِمَا سَيَفْعَلُونَهُ.
وَقَالَ اِبْن جُرَيْج : أَرَادَ اِثْنَيْ عَشَر رَجُلًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ، وَقَفُوا عَلَى ثَنِيَّة الْوَدَاع لَيْلَة الْعَقَبَة لِيَفْتِكُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ
أَيْ صَرَفُوهَا وَأَجَالُوا الرَّأْي فِي إِبْطَال مَا جِئْت بِهِ
حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ
أَيْ دِينه " وَهُمْ كَارِهُونَ "
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي
مِنْ أَذِنَ يَأْذَن.
وَإِذَا أَمَرْت زِدْت هَمْزَة مَكْسُورَة وَبَعْدهَا هَمْزَة هِيَ فَاء الْفِعْل، وَلَا يَجْتَمِع هَمْزَتَانِ، فَأُبْدِلَتْ مِنْ الثَّانِيَة يَاء لِكِسْرَةِ مَا قَبْلهَا فَقُلْت إِيذَنْ.
فَإِذَا وَصَلْت زَالَتْ الْعِلَّة فِي الْجَمْع بَيْن هَمْزَتَيْنِ، ثُمَّ هَمَزْت فَقُلْت :" وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُول اِئْذَنْ لِي " وَرَوَى وَرْش عَنْ نَافِع " وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُول اوْذَنْ لِي " خَفَّفَ الْهَمْزَة.
قَالَ النَّحَّاس : يُقَال إِيذَنْ لِفُلَانٍ ثُمَّ إِيذَنْ لَهُ هِجَاء الْأُولَى وَالثَّانِيَة وَاحِد بِأَلِفٍ وَيَاء قَبْل الذَّال فِي الْخَطّ.
فَإِنْ قُلْت : إِيذَنْ لِفُلَانٍ وَأَذَنْ لِغَيْرِهِ كَانَ الثَّانِي بِغَيْرِ يَاء وَكَذَا الْفَاء.
وَالْفَرْق بَيْن ثُمَّ وَالْوَاو أَنَّ ثُمَّ يُوقَف عَلَيْهَا وَتَنْفَصِل، وَالْوَاو وَالْفَاء لَا يُوقَف عَلَيْهِمَا وَلَا يَنْفَصِلَانِ.
قَالَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْجَدِّ بْن قَيْس أَخِي بَنِي سَلِمَة لَمَّا أَرَادَ الْخُرُوج إِلَى تَبُوك :( يَا جَدّ، هَلْ لَك فِي جِلَاد بَنِي الْأَصْفَر تَتَّخِذ مِنْهُمْ سَرَارِيّ وَوُصَفَاء ) فَقَالَ الْجَدّ : قَدْ عَرَفَ قَوْمِي أَنِّي مُغَرَم بِالنِّسَاءِ، وَإِنِّي أَخْشَى إِنْ رَأَيْت بَنِي الْأَصْفَر أَلَّا أَصْبِر عَنْهُنَّ فَلَا تَفْتِنِّي وَأْذَنْ لِي فِي الْقُعُود وَأُعِينك بِمَالِي فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ :( قَدْ أَذِنْت لَك ) فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة.
أَيْ لَا تَفْتِنِّي بِصَبَاحَةِ وُجُوههمْ، وَلَمْ يَكُنْ بِهِ عِلَّة إِلَّا النِّفَاق.
قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَالْأَصْفَر رَجُل مِنْ الْحَبَشَة كَانَتْ لَهُ بَنَات لَمْ يَكُنْ فِي وَقْتهنَّ أَجْمَل مِنْهُنَّ وَكَانَ بِبِلَادِ الرُّوم.
وَقِيلَ : سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّ الْحَبَشَة غَلَبَتْ عَلَى الرُّوم، وَوَلَدَتْ لَهُمْ بَنَات فَأَخَذْنَ مِنْ بَيَاض الرُّوم وَسَوَاد الْحَبَشَة، فَكُنَّ صُفْرًا لُعْسًا.
قَالَ اِبْن عَطِيَّة : فِي قَوْل اِبْن أَبِي إِسْحَاق فُتُور.
وَأَسْنَدَ الطَّبَرِيّ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( اُغْزُوا تَغْنَمُوا بَنَات الْأَصْفَر ) فَقَالَ لَهُ الْجَدّ : إِيذَنْ لَنَا وَلَا تَفْتِنَّا بِالنِّسَاءِ.
وَهَذَا مَنْزَع غَيْر الْأَوَّل، وَهُوَ أَشْبَه بِالنِّفَاقِ وَالْمُحَادَّة.
وَلَمَّا نَزَلَتْ قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَنِي سَلِمَة - وَكَانَ الْجَدّ بْن قَيْس مِنْهُمْ :( مَنْ سَيِّدكُمْ يَا بَنِي سَلِمَة ) ؟ قَالُوا : جَدّ بْن قَيْس، غَيْر أَنَّهُ بَخِيل جَبَان.
فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( وَأَيّ دَاء أَدْوَى مِنْ الْبُخْل بَلْ سَيِّدكُمْ الْفَتَى الْأَبْيَض بِشْر بْن الْبَرَاء بْن مَعْرُور ).
فَقَالَ حَسَّان بْن ثَابِت الْأَنْصَارِيّ فِيهِ :
أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا
أَيْ فِي الْإِثْم وَالْمَعْصِيَة وَقَعُوا.
وَهِيَ النِّفَاق وَالتَّخَلُّف عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ
أَيْ مَسِيرهمْ إِلَى النَّار، فَهِيَ تُحْدِق بِهِمْ.
إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ
شَرْط وَمُجَازَاة، وَكَذَا " وَإِنْ تُصِبْك مُصِيبَة يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرنَا مِنْ قَبْل " عَطْف عَلَيْهِ.
وَالْحَسَنَة : الْغَنِيمَة وَالظَّفَر.
وَالْمُصِيبَة الِانْهِزَام.
يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ
أَيْ اِحْتَطْنَا لِأَنْفُسِنَا، وَأَخَذْنَا بِالْحَزْمِ فَلَمْ نَخْرُج إِلَى الْقِتَال.
وَيَتَوَلَّوْا
أَيْ عَنْ الْإِيمَان.
وَهُمْ فَرِحُونَ
أَيْ مُعْجَبُونَ بِذَلِكَ.
قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا
قِيلَ : فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ.
وَقِيلَ : مَا أَخْبَرَنَا بِهِ فِي كِتَابه مِنْ أَنَّا إِمَّا أَنْ نَظْفَر فَيَكُون الظَّفَر حُسْنَى لَنَا، وَإِمَّا أَنْ نُقْتَل فَتَكُون الشَّهَادَة أَعْظَم حُسْنَى لَنَا.
وَالْمَعْنَى كُلّ شَيْء بِقَضَاءٍ وَقَدَر.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي [ الْأَعْرَاف ] أَنَّ الْعِلْم وَالْقَدَر وَالْكِتَاب سَوَاء وَقِرَاءَة الْجُمْهُور " يُصِيبنَا " نُصِبَ بِلَنْ.
وَحَكَى أَبُو عُبَيْدَة أَنَّ مِنْ الْعَرَب مَنْ يَجْزِم بِهَا.
وَقَرَأَ طَلْحَة بْن مُصَرِّف " هَلْ يُصِيبُنَا " وَحُكِيَ عَنْ أَعْيَن قَاضِي الرَّيّ أَنَّهُ قَرَأَ ( قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا ) بِنُونٍ مُشَدَّدَة.
وَهَذَا لَحْن، لَا يُؤَكَّد بِالنُّونِ مَا كَانَ خَبَرًا، وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي قِرَاءَة طَلْحَة لَجَازَ.
قَالَ اللَّه تَعَالَى :" هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْده مَا يَغِيظ " [ الْحَجّ : ١٥ ].
هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ
أَيْ نَاصِرنَا.
وَالتَّوَكُّل تَفْوِيض الْأَمْر إِلَيْهِ.
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ
" قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا " وَالْكُوفِيُّونَ يُدْغِمُونَ اللَّام فِي التَّاء.
فَأَمَّا لَام الْمَعْرِفَة فَلَا يَجُوز إِلَّا الْإِدْغَام، كَمَا قَالَ جَلَّ وَعَزَّ :" التَّائِبُونَ " [ التَّوْبَة : ١١٢ ] لِكَثْرَةِ لَام الْمَعْرِفَة فِي كَلَامهمْ وَلَا يَجُوز الْإِدْغَام فِي قَوْله :" قُلْ تَعَالَوْا " [ الْأَنْعَام : ١٥١ ] لِأَنَّ " قُلْ " مُعْتَلّ، فَلَمْ يَجْمَعُوا عَلَيْهِ عِلَّتَيْنِ.
وَالتَّرَبُّص الِانْتِظَار.
يُقَال : تَرَبَّصَ بِالطَّعَامِ أَيْ اِنْتَظَرَ بِهِ إِلَى حِين الْغَلَاء.
وَالْحُسْنَى تَأْنِيث الْأَحْسَن.
وَوَاحِد الْحُسْنَيَيْنِ حُسْنَى، وَالْجَمْع الْحُسْنَى.
وَلَا يَجُوز أَنْ يَنْطِق بِهِ إِلَّا مُعَرَّفًا.
لَا يُقَال : رَأَيْت اِمْرَأَة حُسْنَى.
وَالْمُرَاد بِالْحُسْنَيَيْنِ الْغَنِيمَة وَالشَّهَادَة، عَنْ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَغَيْرهمَا.
وَاللَّفْظ اِسْتِفْهَام وَالْمَعْنَى تَوْبِيخ.
وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ
أَيْ عُقُوبَة تُهْلِككُمْ كَمَا أَصَابَ الْأُمَم الْخَالِيَة مِنْ قَبْلكُمْ.
أَوْ بِأَيْدِينَا
أَيْ يُؤْذَن لَنَا فِي قِتَالكُمْ.
فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ
تَهْدِيد وَوَعِيد.
أَيْ اِنْتَظِرُوا مَوَاعِد الشَّيْطَان إِنَّا مُنْتَظِرُونَ مَوَاعِد اللَّه.
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ
فِيهِ أَرْبَع مَسَائِل
[ الْأُولَى ] قَالَ اِبْن عَبَّاس : نَزَلَتْ فِي الْجَدّ بْن قَيْس إِذْ قَالَ اِئْذَنْ لِي فِي الْقُعُود وَهَذَا مَالِي أُعِينك بِهِ.
وَلَفْظ " أَنْفِقُوا " أَمْر، وَمَعْنَاهُ الشَّرْط وَالْجَزَاء.
وَهَكَذَا تَسْتَعْمِل الْعَرَب فِي مِثْل هَذَا تَأْتِي بِأَوْ كَمَا قَالَ الشَّاعِر :
وَسُوِّدَ بِشْر بْن الْبَرَاء لِجُودِهِ وَحُقّ لِبِشْرِ بْن الْبَرَا أَنْ يُسَوَّدَا
إِذَا مَا أَتَاهُ الْوَفْد أَذْهَبَ مَاله وَقَالَ خُذُوهُ إِنَّنِي عَائِد غَدَا
أَسِيئِي بِنَا أَوْ أَحْسِنِي لَا مَلُومَة لَدَيْنَا وَلَا مَقْلِيَّة إِنْ تَقَلَّت
وَالْمَعْنَى إِنْ أَسَأْت أَوْ أَحْسَنْت فَنَحْنُ عَلَى مَا تَعْرِفِينَ.
وَمَعْنَى الْآيَة : إِنْ أَنْفَقْتُمْ طَائِعِينَ أَوْ مُكْرَهِينَ فَلَنْ يُقْبَل مِنْكُمْ.
[ الثَّانِيَة ] ثُمَّ بَيَّنَ جَلَّ وَعَزَّ لِمَ لَا يُقْبَل مِنْهُمْ فَقَالَ :" وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَل مِنْهُمْ نَفَقَاتهمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاَللَّهِ وَبِرَسُولِهِ " [ التَّوْبَة : ٥٤ ] فَكَانَ فِي هَذَا أَدَلّ دَلِيل عَلَى أَنَّ أَفْعَال الْكَافِر إِذَا كَانَتْ بِرًّا كَصِلَةِ الْقَرَابَة وَجَبْر الْكَسِير وَإِغَاثَة الْمَلْهُوف لَا يُثَاب عَلَيْهَا وَلَا يَنْتَفِع بِهَا فِي الْآخِرَة، بَيْد أَنَّهُ يُطْعَم بِهَا فِي الدُّنْيَا.
دَلِيله مَا رَوَاهُ مُسْلِم عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ : قُلْت يَا رَسُول اللَّه، اِبْن جُدْعَان كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة يَصِل الرَّحِم وَيُطْعِم الْمِسْكِين فَهَلْ ذَلِكَ نَافِعه ؟ قَالَ :( لَا يَنْفَعهُ، إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا رَبّ اِغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْم الدِّين ).
وَرُوِيَ عَنْ أَنَس قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( إِنَّ اللَّه لَا يَظْلِم مُؤْمِنًا حَسَنَة يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الْآخِرَة وَأَمَّا الْكَافِر فَيُطْعَم بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ لِلَّهِ بِهَا فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الْآخِرَة لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَة يُجْزَى بِهَا ).
وَهَذَا نَصّ.
ثُمَّ قِيلَ : هَلْ بِحُكْمِ هَذَا الْوَعْد الصَّادِق لَا بُدّ أَنْ يُطْعَم الْكَافِر وَيُعْطَى بِحَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا أَوْ ذَلِكَ مُقَيَّد بِمَشِيئَةِ اللَّه الْمَذْكُورَة فِي قَوْله :" عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَنْ نُرِيد " [ الْإِسْرَاء : ١٨ ] وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح مِنْ الْقَوْلَيْنِ، وَاَللَّه أَعْلَم.
وَتَسْمِيَة مَا يَصْدُر عَنْ الْكَافِر حَسَنَة إِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ ظَنّ الْكَافِر، وَإِلَّا فَلَا يَصِحّ مِنْهُ قُرْبَة، لِعَدَمِ شَرْطهَا الْمُصَحِّح لَهَا وَهُوَ الْإِيمَان.
أَوْ سُمِّيَتْ حَسَنَة لِأَنَّهَا تُشْبِه صُورَة حَسَنَة الْمُؤْمِن ظَاهِرًا.
قَوْلَانِ أَيْضًا.
[ الثَّالِثَة ] فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رَوَى مُسْلِم عَنْ حَكِيم بْن حِزَام أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيْ رَسُول اللَّه، أَرَأَيْت أُمُورًا كُنْت أَتَحَنَّث بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّة مِنْ صَدَقَة أَوْ عَتَاقَة أَوْ صِلَة رَحِم أَفِيهَا أَجْر ؟ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْر ) قُلْنَا قَوْله :( أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْر ) مُخَالِف ظَاهِره لِلْأُصُولِ، لِأَنَّ الْكَافِر لَا يَصِحّ مِنْهُ التَّقَرُّب لِلَّهِ تَعَالَى فَيَكُون مُثَابًا عَلَى طَاعَته، لِأَنَّ مِنْ شَرْط الْمُتَقَرِّب أَنْ يَكُون عَارِفًا بِالْمُتَقَرَّبِ إِلَيْهِ، فَإِذَا عَدِمَ الشَّرْط اِنْتَفَى صِحَّة الْمَشْرُوط.
فَكَانَ الْمَعْنَى فِي الْحَدِيث : إِنَّك اِكْتَسَبَتْ طِبَاعًا جَمِيلَة فِي الْجَاهِلِيَّة أَكْسَبَتْك عَادَة جَمِيلَة فِي الْإِسْلَام.
وَذَلِكَ أَنَّ حَكِيمًا رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَاشَ مِائَة وَعِشْرِينَ سَنَة، سِتِّينَ فِي الْإِسْلَام وَسِتِّينَ فِي الْجَاهِلِيَّة، فَأَعْتَقَ فِي الْجَاهِلِيَّة مِائَة رَقَبَة وَحَمَلَ عَلَى مِائَة بَعِير ؟ وَكَذَلِكَ فَعَلَ فِي الْإِسْلَام.
وَهَذَا وَاضِح.
وَقَدْ قِيلَ : لَا يَبْعُد فِي كَرَم اللَّه أَنْ يُثِيبهُ عَلَى فِعْله ذَلِكَ بِالْإِسْلَامِ، كَمَا يُسْقِط عَنْهُ مَا اِرْتَكَبَهُ فِي حَال كُفْره مِنْ الْآثَام.
وَإِنَّمَا لَا يُثَاب مَنْ لَمْ يُسْلِم وَلَا تَابَ، وَمَاتَ كَافِرًا.
وَهَذَا ظَاهِر الْحَدِيث.
وَهُوَ الصَّحِيح إِنْ شَاءَ اللَّه.
وَلَيْسَ عَدَم شَرْط الْإِيمَان فِي عَدَم ثَوَاب مَا يَفْعَلهُ مِنْ الْخَيْر ثُمَّ أَسْلَمَ وَمَاتَ مُسْلِمًا بِشَرْطٍ عَقْلِيّ لَا يَتَبَدَّل، وَاَللَّه أَكْرَم مِنْ أَنْ يُضِيع عَمَله إِذَا حَسُنَ إِسْلَامه.
وَقَدْ تَأَوَّلَ الْحَرْبِيّ الْحَدِيث عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ :( أَسْلَمْت عَلَى مَا أَسْلَفْت )، أَيْ مَا تَقَدَّمَ لَك مِنْ خَيْر عَمِلْته فَذَلِكَ لَك.
كَمَا تَقُول : أَسْلَمْت عَلَى أَلْف دِرْهَم، أَيْ عَلَى أَنْ أَحْرَزَهَا لِنَفْسِهِ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
[ الرَّابِعَة ] فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رَوَى مُسْلِم عَنْ الْعَبَّاس قَالَ : قُلْت يَا رَسُول اللَّه إِنَّ أَبَا طَالِب كَانَ يَحُوطك وَيَنْصُرك، فَهَلْ نَفَعَهُ ذَلِكَ ؟ قَالَ :( نَعَمْ وَجَدْته فِي غَمَرَات مِنْ النَّار فَأَخْرَجْته إِلَى ضَحْضَاح ).
قِيلَ لَهُ : لَا يَبْعُد أَنْ يُخَفَّف عَنْ الْكَافِر بَعْض الْعَذَاب بِمَا عَمِلَ مِنْ الْخَيْر، لَكِنْ مَعَ اِنْضِمَام شَفَاعَة، كَمَا جَاءَ فِي أَبِي طَالِب.
فَأَمَّا غَيْره فَقَدْ أَخْبَرَ التَّنْزِيل بِقَوْلِهِ :" فَمَا تَنْفَعهُمْ شَفَاعَة الشَّافِعِينَ " [ الْمُدَّثِّر : ٤٨ ].
وَقَالَ مُخْبِرًا عَنْ الْكَافِرِينَ :" فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ.
وَلَا صَدِيق حَمِيم " [ الشُّعَرَاء : ١٠٠، ١٠١ ] وَقَدْ رَوَى مُسْلِم عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ عِنْده عَمّه أَبُو طَالِب فَقَالَ :( لَعَلَّهُ تَنْفَعهُ شَفَاعَتِي يَوْم الْقِيَامَة فَيُجْعَل فِي ضَحْضَاح مِنْ النَّار يَبْلُغ كَعْبَيْهِ يَغْلِي مِنْهُ دِمَاغه ).
مِنْ حَدِيث الْعَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ :( وَلَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرْك الْأَسْفَل مِنْ النَّار ).
إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ
أَيْ كَافِرِينَ.
وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ
" أَنْ " الْأُولَى فِي مَوْضِع نَصْب، وَالثَّانِيَة فِي مَوْضِع رَفْع.
وَالْمَعْنَى : وَمَا مَنَعَهُمْ مِنْ أَنْ تُقْبَل مِنْهُمْ نَفَقَاتهمْ إِلَّا كُفْرهمْ وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ " أَنْ يَقْبَل مِنْهُمْ " بِالْيَاءِ، لِأَنَّ النَّفَقَات وَالْإِنْفَاق وَاحِد.
وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى
قَالَ اِبْن عَبَّاس : إِنْ كَانَ فِي جَمَاعَة صَلَّى وَإِنْ اِنْفَرَدَ لَمْ يُصَلِّ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَرْجُو عَلَى الصَّلَاة ثَوَابًا وَلَا يَخْشَى فِي تَرْكهَا عِقَابًا.
فَالنِّفَاق يُورِث الْكَسَل فِي الْعِبَادَة لَا مَحَالَة.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي [ النِّسَاء ] الْقَوْل فِي هَذَا كُلّه.
وَقَدْ ذَكَرْنَا هُنَاكَ حَدِيث الْعَلَاء مُوعَبًا.
وَالْحَمْد لِلَّهِ.
وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ
لِأَنَّهُمْ يَعُدُّونَهَا مَغْرَمًا وَمَنْعهَا مَغْنَمًا وَإِذَا كَانَ الْأَمْر كَذَلِكَ فَهِيَ غَيْر مُتَقَبَّلَة وَلَا مُثَاب عَلَيْهَا حَسْب مَا تَقَدَّمَ.
فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
أَيْ لَا تَسْتَحْسِن مَا أَعْطَيْنَاهُمْ وَلَا تَمِلْ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ اِسْتِدْرَاج " إِنَّمَا يُرِيد اللَّه لِيُعَذِّبهُمْ بِهَا " قَالَ الْحَسَن : الْمَعْنَى بِإِخْرَاجِ الزَّكَاة وَالْإِنْفَاق فِي سَبِيل اللَّه.
وَهَذَا اِخْتِيَار الطَّبَرِيّ.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَقَتَادَة : فِي الْكَلَام تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَالْمَعْنَى فَلَا تُعْجِبك أَمْوَالهمْ وَلَا أَوْلَادهمْ فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا إِنَّمَا يَرِيد اللَّه لِيُعَذِّبهُمْ بِهَا فِي الْآخِرَة.
وَهَذَا قَوْل أَكْثَر أَهْل الْعَرَبِيَّة، ذَكَرَهُ النَّحَّاس.
وَقِيلَ : يُعَذِّبهُمْ بِالتَّعَبِ فِي الْجَمْع.
وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيل وَقَوْل الْحَسَن لَا تَقْدِيم فِيهِ وَلَا تَأْخِير، وَهُوَ حَسَن.
وَقِيلَ : الْمَعْنَى فَلَا تُعْجِبك أَمْوَالهمْ وَلَا أَوْلَادهمْ إِنَّمَا يُرِيد اللَّه لِيُعَذِّبهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا لِأَنَّهُمْ مُنَافِقُونَ، فَهُمْ يُنْفِقُونَ كَارِهِينَ فَيُعَذَّبُونَ بِمَا يُنْفِقُونَ.
وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ
نَصّ فِي أَنَّ اللَّه يُرِيد أَنْ يَمُوتُوا كَافِرِينَ، سَبَقَ بِذَلِكَ الْقَضَاء.
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ
بَيَّنَ أَنَّ مِنْ أَخْلَاق الْمُنَافِقِينَ الْحَلِف بِأَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ.
نَظِيره " إِذَا جَاءَك الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَد إِنَّك لَرَسُول اللَّه " [ الْمُنَافِقُونَ : ١ ] الْآيَة.
وَالْفَرَق الْخَوْف، أَيْ يَخَافُونَ أَنْ يُظْهِرُوا مَا هُمْ عَلَيْهِ فَيُقْتَلُوا.
لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً
كَذَا الْوَقْف عَلَيْهِ.
وَفِي الْخَطّ بِأَلِفَيْنِ : الْأُولَى هَمْزَة، وَالثَّانِيَة عِوَض مِنْ التَّنْوِين، وَكَذَا رَأَيْت جُزْءًا.
وَالْمَلْجَأ الْحِصْن، عَنْ قَتَادَة وَغَيْره.
اِبْن عَبَّاس : الْحِرْز، وَهُمَا سَوَاء.
يُقَال : لَجَأْت إِلَيْهِ لَجَأ ( بِالتَّحْرِيكِ ) وَمَلْجَأ وَالْتَجَأْت إِلَيْهِ بِمَعْنًى.
وَالْمَوْضِع أَيْضًا لَجَأَ وَمَلْجَأ.
وَالتَّلْجِئَة الْإِكْرَاه.
وَأَلْجَأْته إِلَى الشَّيْء اِضْطَرَرْته إِلَيْهِ.
وَأَلْجَأْت أَمْرِي إِلَى اللَّه أَسْنَدْته.
وَعَمْرو بْن لَجَأَ التَّمِيمِيّ الشَّاعِر عَنْ الْجَوْهَرِيّ.
أَوْ مَغَارَاتٍ
جَمْع مَغَارَة، مِنْ غَارَ يَغِير.
قَالَ الْأَخْفَش : وَيَجُوز أَنْ يَكُون مِنْ أَغَارَ يُغِير، كَمَا قَالَ الشَّاعِر :
الْحَمْد لِلَّهِ مُمْسَانَا وَمُصْبَحَنَا
قَالَ اِبْن عَبَّاس : الْمَغَارَات الْغِيرَان وَالسَّرَادِيب، وَهِيَ الْمَوَاضِع الَّتِي يَسْتَتِر فِيهَا، وَمِنْهُ غَارَ الْمَاء وَغَارَتْ الْعَيْن.
أَوْ مُدَّخَلًا
مُفْتَعَل مِنْ الدُّخُول، أَيْ مَسْلَكًا نَخْتَفِي بِالدُّخُولِ فِيهِ، وَأَعَادَهُ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظ.
قَالَ النَّحَّاس : الْأَصْل فِيهِ مُدْتَخَل، قُلِبَتْ التَّاء دَالًا، لِأَنَّ الدَّال مَجْهُورَة وَالتَّاء مَهْمُوسَة وَهُمَا مِنْ مَخْرَج وَاحِد.
وَقِيلَ : الْأَصْل فِيهِ مُتَدَخَّل عَلَى مُتَفَعَّل، كَمَا فِي قِرَاءَة أُبَيّ :" أَوْ مُتَدَخَّلًا " وَمَعْنَاهُ دُخُول بَعْد دُخُول، أَيْ قَوْمًا يَدْخُلُونَ مَعَهُمْ.
الْمَهْدَوِيّ : مُتَدَخِّلًا مِنْ تَدَخَّلَ مِثْل تَفَعَّلَ إِذَا تَكَلَّفَ الدُّخُول.
وَعَنْ أُبَيّ أَيْضًا : مُنْدَخَلًا مِنْ انْدَخَلَ، وَهُوَ شَاذّ، لِأَنَّ ثُلَاثِيّه غَيْر مُتَعَدٍّ عِنْد سِيبَوَيْهِ وَأَصْحَابه.
وَقَرَأَ الْحَسَن وَابْن أَبِي إِسْحَاق وَابْن مُحَيْصِن :" أَوْ مَدْخَلًا " بِفَتْحِ الْمِيم وَإِسْكَان الدَّال.
قَالَ الزَّجَّاج : وَيَقْرَأ " أَوْ مُدْخَلًا " بِضَمِّ الْمِيم وَإِسْكَان الدَّال.
الْأَوَّل مِنْ دَخَلَ يَدْخُل.
وَالثَّانِي مِنْ أَدْخَلَ يُدْخِل.
كَذَا الْمَصْدَر وَالْمَكَان وَالزَّمَان كَمَا أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ : مُغَار اِبْن هَمَّام عَلَى حَيّ خَثْعَمَا
وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَة وَعِيسَى وَالْأَعْمَش " أَوْ مُدَّخَّلًا " بِتَشْدِيدِ الدَّال وَالْخَاء.
وَالْجُمْهُور بِتَشْدِيدِ الدَّال وَحْدهَا، أَيْ مَكَانًا يُدْخِلُونَ فِيهِ أَنْفُسهمْ.
فَهَذِهِ سِتّ قِرَاءَات.
لَوَلَّوْا إِلَيْهِ
أَيْ لَرَجَعُوا إِلَيْهِ.
وَهُمْ يَجْمَحُونَ
أَيْ يُسْرِعُونَ، لَا يَرُدّ وُجُوههمْ شَيْء.
مِنْ جَمَحَ الْفَرَس إِذَا لَمْ يَرُدّهُ اللِّجَام.
قَالَ الشَّاعِر :
سَبُوحًا جَمُوحًا وَإِحْضَارهَا كَمَعْمَعَةِ السَّعَف الْمُوقَد
وَالْمَعْنَى : لَوْ وَجَدُوا شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاء الْمَذْكُورَة لَوَلَّوْا إِلَيْهِ مُسْرِعِينَ هَرَبًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ
" وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزمك فِي الصَّدَقَات " أَيْ يَطْعَن عَلَيْك، عَنْ قَتَادَة.
الْحَسَن : يَعِيبك.
وَقَالَ مُجَاهِد : أَيْ يَرُوزك وَيَسْأَلك.
النَّحَّاس : وَالْقَوْل عِنْد أَهْل اللُّغَة قَوْل قَتَادَة وَالْحَسَن.
يُقَال : لَمَزَهُ يَلْمِزهُ إِذَا عَابَهُ.
وَاللَّمْز فِي اللُّغَة الْعَيْب فِي السِّرّ.
قَالَ الْجَوْهَرِيّ : اللَّمْز الْعَيْب، وَأَصْله الْإِشَارَة بِالْعَيْنِ وَنَحْوهَا، وَقَدْ لَمَزَهُ يَلْمِزهُ وَيَلْمُزهُ وَقُرِئَ بِهِمَا " وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزك فِي الصَّدَقَات ".
وَرَجُل لَمَّاز وَلُمَزَة أَيْ عَيَّاب.
وَيُقَال أَيْضًا : لَمَزَهُ يَلْمِزهُ إِذَا دَفَعَهُ وَضَرَبَهُ.
وَالْهَمْز مِثْل اللَّمْز.
وَالْهَامِز وَالْهَمَّاز الْعَيَّاب، وَالْهُمَزَة مِثْله.
يُقَال : رَجُل هُمَزَة وَامْرَأَة هُمَزَة أَيْضًا.
وَهَمَزَهُ أَيْ دَفَعَهُ وَضَرَبَهُ.
ثُمَّ قِيلَ : اللَّمْز فِي الْوَجْه، وَالْهَمْز بِظَهْرِ الْغَيْب.
وَصَفَ اللَّه قَوْمًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّهُمْ عَابُوا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَفْرِيق الصَّدَقَات، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ فُقَرَاء لِيُعْطِيَهُمْ.
قَالَ أَبُو سَعِيد الْخُدْرِيّ : بَيْنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِم مَالًا إِذْ جَاءَهُ حُرْقُوص بْن زُهَيْر أَصْل الْخَوَارِج، وَيُقَال لَهُ ذُو الْخُوَيْصِرَة التَّمِيمِيّ، فَقَالَ : اِعْدِلْ يَا رَسُول اللَّه.
فَقَالَ :( وَيْلك وَمَنْ يَعْدِل إِذَا لَمْ أَعْدِل ) فَنَزَلَتْ الْآيَة.
حَدِيث صَحِيح أَخْرَجَهُ مُسْلِم بِمَعْنَاهُ.
وَعِنْدهَا قَالَ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : دَعْنِي يَا رَسُول اللَّه فَأَقْتُل هَذَا الْمُنَافِق.
فَقَالَ :( مَعَاذ اللَّه أَنْ يَتَحَدَّث النَّاس أَنِّي أَقْتُل أَصْحَابِي إِنَّ هَذَا وَأَصْحَابه يَقْرَءُونَ الْقُرْآن لَا يُجَاوِز حَنَاجِرهمْ يَمْرُقُونَ مِنْهُ كَمَا يَمْرُق السَّهْم مِنْ الرَّمِيَّة ).
وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ
" وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّه " جَوَاب " لَوْ " مَحْذُوف، التَّقْدِير لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ.
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ
خَصَّ اللَّه سُبْحَانه بَعْض النَّاس بِالْأَمْوَالِ دُون بَعْض نِعْمَة مِنْهُ عَلَيْهِمْ، وَجَعَلَ شُكْر ذَلِكَ مِنْهُمْ إِخْرَاج سَهْم يُؤَدُّونَهُ إِلَى مَنْ لَا مَال لَهُ، نِيَابَة عَنْهُ سُبْحَانه فِيمَا ضَمِنَهُ بِقَوْلِهِ :" وَمَا مِنْ دَابَّة فِي الْأَرْض إِلَّا عَلَى اللَّه رِزْقهَا " [ هُود : ٦ ].
" لِلْفُقَرَاءِ " تَبْيِين لِمَصَارِف الصَّدَقَات وَالْمَحَلّ، حَتَّى لَا تَخْرُج عَنْهُمْ.
ثُمَّ الِاخْتِيَار إِلَى مَنْ يُقْسَم، هَذَا قَوْل مَالِك وَأَبِي حَنِيفَة وَأَصْحَابهمَا.
كَمَا يُقَال : السَّرْج لِلدَّابَّةِ وَالْبَاب لِلدَّارِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيّ : اللَّام لَام التَّمْلِيك، كَقَوْلِك : الْمَال لِزَيْدٍ وَعَمْرو وَبَكْر، فَلَا بُدّ مِنْ التَّسْوِيَة بَيْن الْمَذْكُورِينَ.
قَالَ الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه : وَهَذَا كَمَا لَوْ أَوْصَى لِأَصْنَافٍ مُعَيَّنِينَ أَوْ لِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ.
وَاحْتَجُّوا بِلَفْظَةِ " إِنَّمَا " وَأَنَّهَا تَقْتَضِي الْحَصْر فِي وُقُوف الصَّدَقَات عَلَى الثَّمَانِيَة الْأَصْنَاف وَعَضَّدُوا هَذَا بِحَدِيثِ زِيَاد بْن الْحَارِث الصُّدَائِيّ قَالَ : أَتَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَبْعَث إِلَى قَوْمِي جَيْشًا فَقُلْت : يَا رَسُول اللَّه اِحْبِسْ جَيْشك فَأَنَا لَك بِإِسْلَامِهِمْ وَطَاعَتهمْ، وَكَتَبْت إِلَى قَوْمِي فَجَاءَ إِسْلَامهمْ وَطَاعَتهمْ.
فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( يَا أَخَا صُدَاء الْمُطَاع فِي قَوْمه ).
قَالَ : قُلْت بَلْ مَنَّ اللَّه عَلَيْهِمْ وَهَدَاهُمْ، قَالَ : ثُمَّ جَاءَهُ رَجُل يَسْأَلهُ عَنْ الصَّدَقَات، فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( إِنَّ اللَّه لَمْ يَرْضَ فِي الصَّدَقَات بِحُكْمِ نَبِيّ وَلَا غَيْره حَتَّى جَزَّأَهَا ثَمَانِيَة أَجْزَاء فَإِنْ كُنْت مِنْ أَهْل تِلْكَ الْأَجْزَاء أَعْطَيْتُك ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ.
وَاللَّفْظ لِلدَّارَقُطْنِيّ.
وَحُكِيَ عَنْ زَيْن الْعَابِدِينَ أَنَّهُ قَالَ : إِنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ قَدْر مَا يُدْفَع مِنْ الزَّكَاة وَمَا تَقَع بِهِ الْكِفَايَة لِهَذِهِ الْأَصْنَاف، وَجَعَلَهُ حَقًّا لِجَمِيعِهِمْ، فَمَنْ مَنَعَهُمْ ذَلِكَ فَهُوَ الظَّالِم لَهُمْ رِزْقهمْ.
وَتَمَسَّكَ عُلَمَاؤُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى :" إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَات فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْر لَكُمْ " [ الْبَقَرَة : ٢٧١ ].
وَالصَّدَقَة مَتَى أُطْلِقَتْ فِي الْقُرْآن فَهِيَ صَدَقَة الْفَرْض.
وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( أُمِرْتُ أَنْ آخُذ الصَّدَقَة مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وَأَرُدّهَا عَلَى فُقَرَائِكُمْ ).
وَهَذَا نَصّ فِي ذِكْر أَحَد الْأَصْنَاف الثَّمَانِيَة قُرْآنًا وَسُنَّة، وَهُوَ قَوْل عُمَر بْن الْخَطَّاب وَعَلِيّ وَابْن عَبَّاس وَحُذَيْفَة.
وَقَالَ بِهِ مِنْ التَّابِعِينَ جَمَاعَة.
قَالُوا : جَائِز أَنْ يَدْفَعهَا إِلَى الْأَصْنَاف الثَّمَانِيَة، وَإِلَى أَيّ صِنْف مِنْهَا دُفِعَتْ جَازَ.
رَوَى الْمِنْهَال بْن عَمْرو عَنْ زِرّ بْن حُبَيْش عَنْ حُذَيْفَة فِي قَوْله :" إِنَّمَا الصَّدَقَات لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِين " قَالَ : إِنَّمَا ذَكَرَ اللَّه هَذِهِ الصَّدَقَات لِتَعْرِف وَأَيّ صِنْف مِنْهَا أَعْطَيْت أَجْزَأَك.
وَرَوَى سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس " إِنَّمَا الصَّدَقَات لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِين " قَالَ : فِي أَيّهَا وَضَعْت أَجْزَأَ عَنْك.
وَهُوَ قَوْل الْحَسَن وَإِبْرَاهِيم وَغَيْرهمَا.
قَالَ إِلْكِيَا الطَّبَرِيّ : حَتَّى اِدَّعَى مَالِك الْإِجْمَاع عَلَى ذَلِكَ.
قُلْت : يُرِيد إِجْمَاع الصَّحَابَة، فَإِنَّهُ لَا يُعْلَم لَهُمْ مُخَالِف مِنْهُمْ عَلَى مَا قَالَ أَبُو عُمَر، وَاَللَّه أَعْلَم.
اِبْن الْعَرَبِيّ : وَاَلَّذِي جَعَلْنَاهُ فَيْصَلًا بَيْننَا وَبَيْنهمْ أَنَّ الْأُمَّة اِتَّفَقَتْ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أُعْطِيَ كُلّ صِنْف حَظّه لَمْ يَجِب تَعْمِيمه، فَكَذَلِكَ تَعْمِيم الْأَصْنَاف مِثْله.
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَاخْتَلَفَ عُلَمَاء اللُّغَة وَأَهْل الْفِقْه فِي الْفَرْق بَيْن الْفَقِير وَالْمِسْكِين عَلَى تِسْعَة أَقْوَال : فَذَهَبَ يَعْقُوب بْن السِّكِّيت وَالْقُتَبِيّ وَيُونُس بْن حَبِيب إِلَى أَنَّ الْفَقِير أَحْسَن حَالًا مِنْ الْمِسْكِين.
قَالُوا : الْفَقِير هُوَ الَّذِي لَهُ بَعْض مَا يَكْفِيه وَيُقِيمهُ، وَالْمِسْكِين الَّذِي لَا شَيْء لَهُ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ الرَّاعِي : ش أَمَّا الْفَقِير الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَته و وَفْق الْعِيَال فَلَمْ يُتْرَك لَهُ سَبَد ش وَذَهَبَ إِلَى هَذَا قَوْم مِنْ أَهْل اللُّغَة وَالْحَدِيث مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَة وَالْقَاضِي عَبْد الْوَهَّاب، وَالْوَفْق مِنْ الْمُوَافَقَة بَيْن الشَّيْئَيْنِ كَالِالْتِحَامِ، يُقَال : حَلُوبَته وَفْق عِيَاله أَيْ لَهَا لَبَن قَدْر كِفَايَتهمْ لَا فَضْل فِيهِ، عَنْ الْجَوْهَرِيّ.
وَقَالَ آخَرُونَ بِالْعَكْسِ، فَجَعَلُوا الْمِسْكِين أَحْسَن حَالًا مِنْ الْفَقِير.
وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى :" أَمَّا السَّفِينَة فَكَانَتْ لِمَسَاكِين يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْر " [ الْكَهْف : ٧٩ ].
فَأَخْبَرَ أَنَّ لَهُمْ سَفِينَة مِنْ سُفُن الْبَحْر.
وَرُبَّمَا سَاوَتْ جُمْلَة مِنْ الْمَال.
وَعَضَّدُوهُ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ تَعَوَّذَ مِنْ الْفَقْر.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ :" اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا ".
فَلَوْ كَانَ الْمِسْكِين أَسْوَأ حَالًا مِنْ الْفَقِير لَتَنَاقَضَ الْخَبَرَانِ، إِذْ يَسْتَحِيل أَنْ يَتَعَوَّذ مِنْ الْفَقْر ثُمَّ يَسْأَل مَا هُوَ أَسْوَأ حَالًا مِنْهُ، وَقَدْ اِسْتَجَابَ اللَّه دُعَاءَهُ وَقَبَضَهُ وَلَهُ مِمَّا أَفَاءَ اللَّه عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ تَمَام الْكِفَايَة، وَلِذَلِكَ رَهَنَ دِرْعه.
قَالُوا : وَأَمَّا بَيْت الرَّاعِي فَلَا حُجَّة فِيهِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا ذَكَرَ أَنَّ الْفَقِير كَانَتْ لَهُ حَلُوبَة فِي حَال.
قَالُوا : وَالْفَقِير مَعْنَاهُ فِي كَلَام الْعَرَب الْمَفْقُور الَّذِي نُزِعَتْ فِقَره مِنْ ظَهْره مِنْ شِدَّة الْفَقْر فَلَا حَال أَشَدّ مِنْ هَذِهِ.
وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّه عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ " لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْض " [ الْبَقَرَة : ٢٧٣ ].
وَاسْتَشْهَدُوا بِقَوْلِ الشَّاعِر :
لَمَّا رَأَى لُبَد النُّسُور تَطَايَرَتْ رَفَعَ الْقَوَادِم كَالْفَقِيرِ الْأَعْزَل
أَيْ لَمْ يُطِقْ الطَّيَرَان فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ اِنْقَطَعَ صُلْبه وَلَصِقَ بِالْأَرْضِ.
ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْأَصْمَعِيّ وَغَيْره، وَحَكَاهُ الطَّحَاوِيّ عَنْ الْكُوفِيِّينَ.
وَهُوَ أَحَد قَوْلَيْ الشَّافِعِيّ وَأَكْثَر أَصْحَابه.
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْل آخَر : أَنَّ الْفَقِير وَالْمِسْكِين سَوَاء، لَا فَرْق بَيْنهمَا فِي الْمَعْنَى وَإِنْ اِفْتَرَقَا فِي الِاسْم، وَهُوَ الْقَوْل الثَّالِث.
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ اِبْن الْقَاسِم وَسَائِر أَصْحَاب مَالِك، وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُف.
قُلْت : ظَاهِر اللَّفْظ يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْمِسْكِين غَيْر الْفَقِير، وَأَنَّهُمَا صِنْفَانِ، إِلَّا أَنَّ أَحَد الصِّنْفَيْنِ أَشَدّ حَاجَة مِنْ الْآخَر، فَمِنْ هَذَا الْوَجْه يَقْرَب قَوْل مَنْ جَعَلَهُمَا صِنْفًا وَاحِدًا، وَاَللَّه أَعْلَم.
وَلَا حُجَّة فِي قَوْل مَنْ اِحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :" أَمَّا السَّفِينَة فَكَانَتْ لِمَسَاكِين " [ الْكَهْف : ٧٩ ] لِأَنَّهُ يَحْتَمِل أَنْ تَكُون مُسْتَأْجَرَة لَهُمْ، كَمَا يُقَال : هَذِهِ دَار فُلَان إِذَا كَانَ سَاكِنهَا وَإِنْ كَانَتْ لِغَيْرِهِ.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي وَصْف أَهْل النَّار :" وَلَهُمْ مَقَامِع مِنْ حَدِيد " [ الْحَجّ : ٢١ ] فَأَضَافَهَا إِلَيْهِمْ.
وَقَالَ تَعَالَى :" وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاء أَمْوَالكُمْ " [ النِّسَاء : ٥ ].
وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
( مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَال ) وَهُوَ كَثِير جِدًّا يُضَاف الشَّيْء إِلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُ.
وَمِنْهُ قَوْلهمْ : بَاب الدَّار.
وَجُلّ الدَّابَّة، وَسَرْج الْفَرَس، وَشَبَهه.
وَيَجُوز أَنْ يُسَمُّوا مَسَاكِين عَلَى جِهَة الرَّحْمَة وَالِاسْتِعْطَاف، كَمَا يُقَال لِمَنْ اُمْتُحِنَ بِنَكْبَةٍ أَوْ دُفِعَ إِلَى بَلِيَّة مِسْكِين.
وَفِي الْحَدِيث ( مَسَاكِين أَهْل النَّار ) وَقَالَ الشَّاعِر :
مَسَاكِين أَهْل الْحُبّ حَتَّى قُبُورهمْ عَلَيْهَا تُرَاب الذُّلّ بَيْن الْمَقَابِر
وَأَمَّا مَا تَأَوَّلُوهُ مِنْ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام :( اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا ) الْحَدِيث.
رَوَاهُ أَنَس، فَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى هَاهُنَا : التَّوَاضُع لِلَّهِ الَّذِي لَا جَبَرُوت فِيهِ وَلَا نَخْوَة، وَلَا كِبْر وَلَا بَطَر، وَلَا تَكَبُّر وَلَا أَشَر.
وَلَقَدْ أَحْسَن أَبُو الْعَتَاهِيَة حَيْثُ قَالَ :
إِذَا أَرَدْت شَرِيف الْقَوْم كُلّهمْ فَانْظُرْ إِلَى مَلِك فِي زِيّ مِسْكِين
ذَاكَ الَّذِي عَظُمَتْ فِي اللَّه رَغْبَته وَذَاكَ يَصْلُح لِلدُّنْيَا وَلِلدِّينِ
وَلَيْسَ بِالسَّائِلِ، لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَرِهَ السُّؤَال وَنَهَى عَنْهُ، وَقَالَ فِي اِمْرَأَة سَوْدَاء أَبَتْ أَنْ تَزُول لَهُ عَنْ الطَّرِيق :( دَعُوهَا فَإِنَّهَا جَبَّارَة ) وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى :" لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أَحُصِرُوا فِي سَبِيل اللَّه لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْض " [ الْبَقَرَة : ٢٧٣ ] فَلَا يَمْتَنِع أَنْ يَكُون لَهُمْ شَيْء.
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَصْحَاب مَالِك وَالشَّافِعِيّ فِي أَنَّهُمَا سَوَاء حَسَن.
وَيَقْرَب مِنْهُ مَا قَالَهُ مَالِك فِي كِتَاب اِبْن سَحْنُون، قَالَ : الْفَقِير الْمُحْتَاج الْمُتَعَفِّف، وَالْمِسْكِين السَّائِل، وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَقَالَهُ الزُّهْرِيّ، وَاخْتَارَهُ اِبْن شَعْبَان وَهُوَ الْقَوْل الرَّابِع.
وَقَوْل خَامِس : قَالَ مُحَمَّد بْن مَسْلَمَة : الْفَقِير الَّذِي لَهُ الْمَسْكَن وَالْخَادِم إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَل مِنْ ذَلِكَ.
وَالْمِسْكِين الَّذِي لَا مَال لَهُ.
قُلْت : وَهَذَا الْقَوْل عَكْس مَا ثَبَتَ فِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو، وَسَأَلَهُ رَجُل فَقَالَ : أَلَسْنَا مِنْ فُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ ؟ فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّه : أَلَك اِمْرَأَة تَأْوِي إِلَيْهَا ؟ قَالَ نَعَمْ.
قَالَ : أَلَك مَسْكَن تَسْكُنهُ ؟ قَالَ نَعَمْ.
قَالَ : فَأَنْتَ مِنْ الْأَغْنِيَاء.
قَالَ : فَإِنَّ لِي خَادِمًا قَالَ : فَأَنْتَ مِنْ الْمُلُوك.
وَقَوْل سَادِس : رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : الْفُقَرَاء مِنْ الْمُهَاجِرِينَ، وَالْمَسَاكِين مِنْ الْأَعْرَاب الَّذِينَ لَمْ يُهَاجِرُوا وَقَالَهُ الضَّحَّاك.
وَقَوْل سَابِع : وَهُوَ أَنَّ الْمِسْكِين الَّذِي يَخْشَع وَيَسْتَكِنّ وَإِنْ لَمْ يَسْأَل.
وَالْفَقِير الَّذِي يَتَحَمَّل وَيَقْبَل الشَّيْء سِرًّا وَلَا يَخْشَع، قَالَهُ عُبَيْد اللَّه بْن الْحَسَن.
وَقَوْل ثَامِن قَالَهُ مُجَاهِد وَعِكْرِمَة وَالزُّهْرِيّ - الْمَسَاكِين الطَّوَّافُونَ، وَالْفُقَرَاء فُقَرَاء الْمُسْلِمِينَ.
وَقَوْل تَاسِع قَالَهُ عِكْرِمَة أَيْضًا - أَنَّ الْفُقَرَاء فُقَرَاء الْمُسْلِمِينَ، وَالْمَسَاكِين فُقَرَاء أَهْل الْكِتَاب.
وَسَيَأْتِي.
وَهِيَ فَائِدَة الْخِلَاف فِي الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين، هَلْ هُمَا صِنْف وَاحِد أَوْ أَكْثَر تَظْهَر فِيمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَاله لِفُلَانٍ وَلِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِين، فَمَنْ قَالَ هُمَا صِنْف وَاحِد قَالَ : يَكُون لِفُلَانٍ نِصْف الثُّلُث وَلِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِين نِصْف الثُّلُث الثَّانِي.
وَمَنْ قَالَ هُمَا صِنْفَانِ يَقْسِم الثُّلُث بَيْنهمْ أَثْلَاثًا.
وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي حَدّ الْفَقْر الَّذِي يَجُوز مَعَهُ الْأَخْذ - بَعْد إِجْمَاع أَكْثَر مَنْ يُحْفَظ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْم - أَنَّ مَنْ لَهُ دَارًا وَخَادِمًا لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُمَا أَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذ مِنْ الزَّكَاة، وَلِلْمُعْطِي أَنْ يُعْطِيه.
وَكَانَ مَالِك يَقُول : إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ثَمَن الدَّار وَالْخَادِم فَضْلَة عَمَّا يَحْتَاج إِلَيْهِ مِنْهُمَا جَازَ لَهُ الْأَخْذ وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ، ذَكَرَهُ اِبْن الْمُنْذِر.
وَبِقَوْلِ مَالِك قَالَ النَّخَعِيّ وَالثَّوْرِيّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : مَنْ مَعَهُ عِشْرُونَ دِينَارًا أَوْ مِائَتَا دِرْهَم فَلَا يَأْخُذ مِنْ الزَّكَاة.
فَاعْتَبَرَ النِّصَاب لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام :( أُمِرْت أَنْ آخُذ الصَّدَقَة مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وَأَرُدّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ ).
وَهَذَا وَاضِح، وَرَوَاهُ الْمُغِيرَة عَنْ مَالِك.
وَقَالَ الثَّوْرِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَغَيْرهمْ : لَا يَأْخُذ مَنْ لَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ قَدْرهَا مِنْ الذَّهَب، وَلَا يُعْطِي مِنْهَا أَكْثَر مِنْ خَمْسِينَ دِرْهَمًا إِلَّا أَنْ يَكُون غَارِمًا، قَالَهُ أَحْمَد وَإِسْحَاق.
وَحُجَّة هَذَا الْقَوْل مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( لَا تَحِلّ الصَّدَقَة لِرَجُلٍ لَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا ).
فِي إِسْنَاده عَبْد الرَّحْمَن بْن إِسْحَاق ضَعِيف، وَعَنْهُ بَكْر بْن خُنَيْس ضَعِيف أَيْضًا.
وَرَوَاهُ حَكِيم بْن جُبَيْر عَنْ مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن يَزِيد عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْد اللَّه عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوه، وَقَالَ :( خَمْسُونَ دِرْهَمًا ) وَحَكِيم بْن جُبَيْر ضَعِيف تَرَكَهُ شُعْبَة وَغَيْره، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ رَحِمَهُ اللَّه.
وَقَالَ أَبُو عُمَر : هَذَا الْحَدِيث يَدُور عَلَى حَكِيم بْن جُبَيْر وَهُوَ مَتْرُوك.
وَعَنْ عَلِيّ وَعَبْد اللَّه قَالَا : لَا تَحِلّ الصَّدَقَة لِمَنْ لَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ قِيمَتهَا مِنْ الذَّهَب، ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ : لَا يَأْخُذ مَنْ لَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا.
وَرَوَاهُ الْوَاقِدِيّ عَنْ مَالِك.
وَحُجَّة هَذَا الْقَوْل مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود قَالَ : سَمِعْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول :( مَنْ سَأَلَ النَّاس وَهُوَ غَنِيّ جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة وَفِي وَجْهه كُدُوح وَخُدُوش ).
فَقِيلَ : يَا رَسُول اللَّه وَمَا غِنَاؤُهُ ؟ قَالَ :( أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا ).
وَفِي حَدِيث مَالِك عَنْ زَيْد بْن أَسْلَم عَنْ عَطَاء بْن يَسَار عَنْ رَجُل مِنْ بَنِي أَسَد فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :" مَنْ سَأَلَ مِنْكُمْ وَلَهُ أُوقِيَّة أَوْ عَدْلهَا فَقَدْ سَأَلَ إِلْحَافًا وَالْأُوقِيَّة أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا ).
وَالْمَشْهُور عَنْ مَالِك مَا رَوَاهُ اِبْن الْقَاسِم عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ : هَلْ يُعْطَى مِنْ الزَّكَاة مَنْ لَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا ؟ قَالَ نَعَمْ.
قَالَ أَبُو عُمَر : يَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْأَوَّل قَوِيًّا عَلَى الِاكْتِسَاب حَسَن التَّصَرُّف.
وَالثَّانِي ضَعِيفًا عَنْ الِاكْتِسَاب، أَوْ مَنْ لَهُ عِيَال.
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر.
مَنْ كَانَ قَوِيًّا عَلَى الْكَسْب وَالتَّحَرُّف مَعَ قُوَّة الْبَدَن وَحُسْن التَّصَرُّف حَتَّى يُغْنِيه ذَلِكَ عَنْ النَّاس فَالصَّدَقَة عَلَيْهِ حَرَام.
وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( لَا تَحِلّ الصَّدَقَة لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّة سَوِيّ ) رَوَاهُ عَبْد اللَّه بْن عُمَر، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ.
وَرَوَى جَابِر قَالَ : جَاءَتْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَة فَرَكِبَهُ النَّاس، فَقَالَ :( إِنَّهَا لَا تَصْلُح لِغَنِيٍّ وَلَا لِصَحِيحٍ وَلَا لِعَامِلٍ ) أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ.
وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ عُبَيْد اللَّه بْن عَدِيّ بْن الْخِيَار قَالَ : أَخْبَرَنِي رَجُلَانِ أَنَّهُمَا أَتَيَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّة الْوَدَاع وَهُوَ يَقْسِم الصَّدَقَة فَسَأَلَاهُ مِنْهَا، فَرَفَعَ فِينَا النَّظَر وَخَفَضَهُ، فَرَآنَا جَلْدَيْنِ فَقَالَ :( إِنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا وَلَا حَظّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِب ).
وَلِأَنَّهُ قَدْ صَارَ غَنِيًّا بِكَسْبِهِ كَغِنَى غَيْره بِمَالِهِ فَصَارَ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا غَنِيًّا عَنْ الْمَسْأَلَة.
وَقَالَهُ اِبْن خُوَيْز مِنْدَاد، وَحَكَاهُ عَنْ الْمَذْهَب.
وَهَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّل عَلَيْهِ، فَإِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعْطِيهَا الْفُقَرَاء وَوُقُوفهَا عَلَى الزَّمِن بَاطِل.
قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ فِي جَامِعه : إِذَا كَانَ الرَّجُل قَوِيًّا مُحْتَاجًا وَلَمْ يَكُنْ عِنْده شَيْء فَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ أَجْزَأَ عَنْ الْمُتَصَدِّق عِنْد أَهْل الْعِلْم.
وَوَجْه الْحَدِيث عِنْد بَعْض أَهْل الْعِلْم عَلَى الْمَسْأَلَة.
وَقَالَ إِلْكِيَا الطَّبَرِيّ : وَالظَّاهِر يَقْتَضِي جَوَاز ذَلِكَ، لِأَنَّهُ فَقِير مَعَ قُوَّته وَصِحَّة بَدَنه.
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه.
وَقَالَ عُبَيْد اللَّه بْن الْحَسَن : مَنْ لَا يَكُون لَهُ مَا يَكْفِيه وَيُقِيمهُ سَنَة فَإِنَّهُ يُعْطَى الزَّكَاة.
وَحُجَّته مَا رَوَاهُ اِبْن شِهَاب عَنْ مَالِك بْن أَوْس بْن الْحَدَثَانِ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدَّخِر مِمَّا أَفَاءَ اللَّه عَلَيْهِ قُوت سَنَة، ثُمَّ يَجْعَل مَا سِوَى ذَلِكَ فِي الْكُرَاع وَالسِّلَاح مَعَ قَوْله تَعَالَى :" وَوَجَدَك عَائِلًا فَأَغْنَى " [ الضُّحَى : ٨ ].
وَقَالَ بَعْض أَهْل الْعِلْم : لِكُلِّ وَاحِد أَنْ يَأْخُذ مِنْ الصَّدَقَة فِيمَا لَا بُدّ لَهُ مِنْهُ.
وَقَالَ قَوْم : مَنْ عِنْده عَشَاء لَيْلَة فَهُوَ غَنِيّ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ.
وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ عَلِيّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :( مَنْ سَأَلَ مَسْأَلَة عَنْ ظَهْر غِنًى اِسْتَكْثَرَ بِهَا مِنْ رَضْف جَهَنَّم ) قَالُوا : يَا رَسُول اللَّه، وَمَا ظَهْر الْغِنَى ؟ قَالَ :( عَشَاء لَيْلَة ) أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ : فِي إِسْنَاده عَمْرو بْن خَالِد وَهُوَ مَتْرُوك.
وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ سَهْل بْن الْحَنْظَلِيَّة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيهِ :( مَنْ سَأَلَ وَعِنْده مَا يُغْنِيه فَإِنَّمَا يَسْتَكْثِر مِنْ النَّار ).
وَقَالَ النُّفَيْلِيّ فِي مَوْضِع آخَر ( مِنْ جَمْر جَهَنَّم ).
فَقَالُوا : يَا رَسُول اللَّه وَمَا يُغْنِيه ؟ وَقَالَ النُّفَيْلِيّ فِي مَوْضِع آخَر : وَمَا الْغِنَى الَّذِي لَا تَنْبَغِي مَعَهُ الْمَسْأَلَة ؟ قَالَ :( قَدْر مَا يُغَدِّيه وَيُعَشِّيه ).
وَقَالَ النُّفَيْلِيّ فِي مَوْضِع آخَر :( أَنْ يَكُون لَهُ شِبَع يَوْم وَلَيْلَة أَوْ لَيْلَة وَيَوْم ).
قُلْت : فَهَذَا مَا جَاءَ فِي بَيَان الْفَقْر الَّذِي يَجُوز مَعَهُ الْأَخْذ.
وَمُطْلَق لَفْظ الْفُقَرَاء لَا يَقْتَضِي الِاخْتِصَاص بِالْمُسْلِمِينَ دُون أَهْل الذِّمَّة، وَلَكِنْ تَظَاهَرَتْ الْأَخْبَار فِي أَنَّ الصَّدَقَات تُؤْخَذ مِنْ أَغْنِيَاء الْمُسْلِمِينَ فَتُرَدّ فِي فُقَرَائِهِمْ.
وَقَالَ عِكْرِمَة : الْفُقَرَاء فُقَرَاء الْمُسْلِمِينَ، وَالْمَسَاكِين فُقَرَاء أَهْل الْكِتَاب.
وَقَالَ أَبُو بَكْر الْعَبْسِيّ : رَأَى عُمَر بْن الْخَطَّاب ذِمِّيًّا مَكْفُوفًا مَطْرُوحًا عَلَى بَاب الْمَدِينَة فَقَالَ لَهُ عُمَر : مَا لَك ؟ قَالَ : اسْتَكْرُونِي فِي هَذِهِ الْجِزْيَة، حَتَّى إِذَا كُفَّ بَصَرِي تَرَكُونِي وَلَيْسَ لِي أَحَد يَعُود عَلَيَّ بِشَيْءٍ.
فَقَالَ عُمَر : مَا أُنْصِفْت إِذًا، فَأَمَرَ لَهُ بِقُوتِهِ وَمَا يُصْلِحهُ.
ثُمَّ قَالَ :( هَذَا مِنْ الَّذِينَ قَالَ اللَّه تَعَالَى فِيهِمْ :" إِنَّمَا الصَّدَقَات لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِين " الْآيَة.
وَهُمْ زَمْنَى أَهْل الْكِتَاب ) وَلَمَّا قَالَ تَعَالَى :" إِنَّمَا الصَّدَقَات لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِين " الْآيَة، وَقَابَلَ الْجُمْلَة بِالْجُمْلَةِ وَهِيَ جُمْلَة الصَّدَقَة بِجُمْلَةِ الْمَصْرِف بَيَّنَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ، فَقَالَ لِمُعَاذٍ حِين أَرْسَلَهُ إِلَى الْيَمَن :( أَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّه اِفْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَة تُؤْخَذ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدّ فِي فُقَرَائِهِمْ ).
فَاخْتَصَّ أَهْل كُلّ بَلَد بِزَكَاةِ بَلَده.
وَرَوَى أَبُو دَاوُد أَنَّ زِيَادًا أَوْ بَعْض الْأُمَرَاء بَعَثَ عِمْرَان بْن حُصَيْن عَلَى الصَّدَقَة، فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ لِعِمْرَان : أَيْنَ الْمَال ؟ قَالَ : وَلِلْمَالِ أَرْسَلَتْنِي أَخَذْنَاهَا مِنْ حَيْثُ كُنَّا نَأْخُذهَا عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَضَعْنَاهَا حَيْثُ كُنَّا نَضَعهَا عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ وَالتِّرْمِذِيّ عَنْ عَوْن بْن أَبِي جُحَيْفَة عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قَدِمَ عَلَيْنَا مُصَدِّق النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ الصَّدَقَة مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَجَعَلَهَا فِي فُقَرَائِنَا فَكُنْت غُلَامًا يَتِيمًا فَأَعْطَانِي مِنْهَا قَلُوصًا.
قَالَ التِّرْمِذِيّ : وَفِي الْبَاب عَنْ اِبْن عَبَّاس حَدِيث اِبْن أَبِي جُحَيْفَة حَدِيث حَسَن.
اِعْلَمْ أَنَّ قَوْله تَعَالَى :" لِلْفُقَرَاءِ " مُطْلَق لَيْسَ فِيهِ شَرْط وَتَقْيِيد، بَلْ فِيهِ دَلَالَة عَلَى جَوَاز الصَّرْف إِلَى جُمْلَة الْفُقَرَاء كَانُوا مِنْ بَنِي هَاشِم أَوْ غَيْرهمْ، إِلَّا أَنَّ السُّنَّة وَرَدَتْ بِاعْتِبَارِ شُرُوط : مِنْهَا أَلَّا يَكُونُوا مِنْ بَنِي هَاشِم وَأَلَّا يَكُونُوا مِمَّنْ تَلْزَم الْمُتَصَدِّقَ نَفَقَتُهُ.
وَهَذَا لَا خِلَاف فِيهِ.
وَشَرْط ثَالِث أَلَّا يَكُون قَوِيًّا عَلَى الِاكْتِسَاب، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ :( لَا تَحِلّ الصَّدَقَة لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّة سَوِيّ ).
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْل فِيهِ.
وَلَا خِلَاف بَيْن عُلَمَاء الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الصَّدَقَة الْمَفْرُوضَة لَا تَحِلّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا لِبَنِي هَاشِم وَلَا لِمَوَالِيهِمْ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُف جَوَاز صَرْف صَدَقَة الْهَاشِمِيّ لِلْهَاشِمِيِّ، حَكَاهُ إِلْكِيَا الطَّبَرِيّ.
وَشَذَّ بَعْض أَهْل الْعِلْم فَقَالَ : إِنَّ مَوَالِي بَنِي هَاشِم لَا يَحْرُم عَلَيْهِمْ شَيْء مِنْ الصَّدَقَات.
وَهَذَا خِلَاف الثَّابِت عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ قَالَ لِأَبِي رَافِع مَوْلَاهُ :( وَإِنَّ مَوْلَى الْقَوْم مِنْهُمْ )
وَقَدْ اِخْتَلَفَتْ الْعُلَمَاء فِي نَقْل الزَّكَاة عَنْ مَوْضِعهَا عَلَى
ثَلَاثَة أَقْوَال
[ الْأَوَّل ] لَا تُنْقَل، قَالَهُ سَحْنُون وَابْن الْقَاسِم، وَهُوَ الصَّحِيح لِمَا ذَكَرْنَاهُ.
قَالَ اِبْن الْقَاسِم أَيْضًا : وَإِنْ نُقِلَ بَعْضهَا لِضَرُورَةٍ رَأَيْته صَوَابًا.
وَرُوِيَ عَنْ سَحْنُون أَنَّهُ قَالَ : وَلَوْ بَلَغَ الْإِمَام أَنَّ بِبَعْضِ الْبِلَاد حَاجَة شَدِيدَة جَازَ لَهُ نَقْل بَعْض الصَّدَقَة الْمُسْتَحَقَّة لِغَيْرِهِ إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْحَاجَة إِذَا نَزَلَتْ وَجَبَ تَقْدِيمهَا عَلَى مَنْ لَيْسَ بِمُحْتَاجٍ ( وَالْمُسْلِم أَخُو الْمُسْلِم لَا يُسْلِمهُ وَلَا يَظْلِمهُ ).
[ وَالْقَوْل الثَّانِي ] تُنْقَل.
وَقَالَهُ مَالِك أَيْضًا.
وَحُجَّة هَذَا الْقَوْل مَا رُوِيَ أَنَّ مُعَاذًا قَالَ لِأَهْلِ الْيَمَن : ايتُونِي بِخَمِيسٍ أَوْ لَبِيس آخُذهُ مِنْكُمْ مَكَان الذُّرَة وَالشَّعِير فِي الصَّدَقَة فَإِنَّهُ أَيْسَر عَلَيْكُمْ وَأَنْفَع لِلْمُهَاجِرِينَ بِالْمَدِينَةِ.
أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيْره.
وَالْخَمِيس لَفْظ مُشْتَرَك، وَهُوَ هُنَا الثَّوْب طُوله خَمْس أَذْرُع.
وَيُقَال : سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ أَوَّل مَنْ عَمِلَهُ الْخِمْس مَلِك مِنْ مُلُوك الْيَمَن، ذَكَرَهُ اِبْن فَارِس فِي الْمُجْمَل وَالْجَوْهَرِيّ أَيْضًا.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلِيلَانِ : أَحَدهمَا : مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ نَقْل الزَّكَاة مِنْ الْيَمَن إِلَى الْمَدِينَة، فَيَتَوَلَّى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِسْمَتهَا.
وَيَعْضُد هَذَا قَوْله تَعَالَى :" إِنَّمَا الصَّدَقَات لِلْفُقَرَاءِ " وَلَمْ يَفْصِل بَيْن فَقِير بَلَد وَفَقِير آخَر.
وَاَللَّه أَعْلَم.
الثَّانِي : أَخْذ الْقِيمَة فِي الزَّكَاة.
وَقَدْ اِخْتَلَفَتْ الرِّوَايَة عَنْ مَالِك فِي إِخْرَاج الْقِيَم فِي الزَّكَاة، فَأَجَازَ ذَلِكَ مَرَّة وَمَنَعَ مِنْهُ أُخْرَى، فَوَجْه الْجَوَاز - وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَة - هَذَا الْحَدِيث.
وَثَبَتَ فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ مِنْ حَدِيث أَنَس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( مَنْ بَلَغَتْ عِنْده مِنْ الْإِبِل صَدَقَة الْجَذَعَة وَلَيْسَتْ عِنْده جَذَعَة وَعِنْده حِقَّة فَإِنَّهُ تُؤْخَذ مِنْهُ وَمَا اسْتَيْسَرْنَا مِنْ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا... ).
الْحَدِيث.
وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( اغْنُوهُمْ عَنْ سُؤَال هَذَا الْيَوْم ) يَعْنِي يَوْم الْفِطْر.
وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يُغْنَوْا بِمَا يَسُدّ حَاجَتهمْ، فَأَيّ شَيْء سَدَّ حَاجَتهمْ جَازَ.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى :" خُذْ مِنْ أَمْوَالهمْ صَدَقَة " [ التَّوْبَة : ١٠٣ ] وَلَمْ يَخُصّ شَيْئًا مِنْ شَيْء.
وَلَا يَدْفَع عِنْد أَبِي حَنِيفَة سُكْنَى دَار بَدَل الزَّكَاة، مِثْل أَنْ يَجِب عَلَيْهِ خَمْسَة دَرَاهِم فَأَسْكَنَ فِيهَا فَقِيرًا شَهْرًا فَإِنَّهُ لَا يَجُوز.
قَالَ : لِأَنَّ السُّكْنَى لَيْسَ بِمَالٍ.
وَوَجْه قَوْله : لَا تَجْزِي الْقِيَم - وَهُوَ ظَاهِر الْمَذْهَب - فَلِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( فِي خَمْس مِنْ الْإِبِل شَاة وَفِي أَرْبَعِينَ شَاة شَاة ) فَنَصَّ عَلَى الشَّاة، فَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِهَا لَمْ يَأْتِ بِمَأْمُورٍ بِهِ، وَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ فَالْأَمْر بَاقٍ عَلَيْهِ.
[ الْقَوْل الثَّالِث ] وَهُوَ أَنَّ سَهْم الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين يُقْسَم فِي الْمَوْضِع، وَسَائِر السِّهَام تُنْقَل بِاجْتِهَادِ الْإِمَام.
وَالْقَوْل الْأَوَّل أَصَحّ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَهَلْ الْمُعْتَبَر مَكَان الْمَال وَقْت تَمَام الْحَوْل فَتُفَرَّق الصَّدَقَة فِيهِ، أَوْ مَكَان الْمَالِك إِذْ هُوَ الْمُخَاطَب، قَوْلَانِ.
وَاخْتَارَ الثَّانِي أَبُو عَبْد اللَّه مُحَمَّد بْن خُوَيْز مِنْدَاد فِي أَحْكَامه قَالَ : لِأَنَّ الْإِنْسَان هُوَ الْمُخَاطَب بِإِخْرَاجِهَا فَصَارَ الْمَال تَبَعًا لَهُ، فَيَجِب أَنْ يَكُون الْحُكْم فِيهِ بِحَيْثُ الْمُخَاطَب.
كَابْنِ السَّبِيل فَإِنَّهُ يَكُون غَنِيًّا فِي بَلَده فَقِيرًا فِي بَلَد آخَر، فَيَكُون الْحُكْم لَهُ حَيْثُ هُوَ.
مَسْأَلَة : وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَة عَنْ مَالِك فِيمَنْ أَعْطَى فَقِيرًا مُسْلِمًا فَانْكَشَفَ فِي ثَانِي حَال أَنَّهُ أَعْطَى عَبْدًا أَوْ كَافِرًا أَوْ غَنِيًّا، فَقَالَ مَرَّة : تَجْزِيه وَمَرَّة لَا تَجْزِيه.
وَجْه الْجَوَاز - وَهُوَ الْأَصَحّ - مَا رَوَاهُ مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( قَالَ رَجُل لَأَتَصَدَّقَنَّ اللَّيْلَة بِصَدَقَةٍ فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَد زَانِيَة فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّق اللَّيْلَة عَلَى زَانِيَة قَالَ اللَّهُمَّ لَك الْحَمْد عَلَى زَانِيَة لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَد غَنِيّ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّق عَلَى غَنِيّ قَالَ اللَّهُمَّ لَك الْحَمْد عَلَى غَنِيّ لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَد سَارِق فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّق عَلَى سَارِق فَقَالَ اللَّهُمَّ لَك الْحَمْد عَلَى زَانِيَة وَعَلَى غَنِيّ وَعَلَى سَارِق فَأُتِيَ فَقِيلَ لَهُ أَمَّا صَدَقَتك فَقَدْ قُبِلَتْ أَمَّا الزَّانِيَة فَلَعَلَّهَا تَسْتَعِفّ بِهَا عَنْ زِنَاهَا وَلَعَلَّ الْغَنِيّ يَعْتَبِر فَيُنْفِق مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّه وَلَعَلَّ السَّارِق يَسْتَعِفّ بِهَا عَنْ سَرِقَته ).
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَخْرَجَ زَكَاة مَاله فَأَعْطَاهَا أَبَاهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ عَلِمَ بِذَلِكَ، فَسَأَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ :( قَدْ كُتِبَ لَك أَجْر زَكَاتك وَأَجْر صِلَة الرَّحِم فَلَك أَجْرَانِ ).
وَمِنْ جِهَة الْمَعْنَى أَنَّهُ سَوَّغَ لَهُ الِاجْتِهَاد فِي الْمُعْطَى، فَإِذَا اجْتَهَدَ وَأَعْطَى مَنْ يَظُنّهُ مِنْ أَهْلهَا فَقَدْ أَتَى بِالْوَاجِبِ عَلَيْهِ.
وَوَجْه قَوْله : لَا يَجْزِي.
أَنَّهُ لَمْ يَضَعهَا فِي مُسْتَحَقّهَا، فَأَشْبَهَ الْعَمْد، وَلِأَنَّ الْعَمْد وَالْخَطَأ فِي ضَمَان الْأَمْوَال وَاحِد فَوَجَبَ أَنْ يَضْمَن مَا أَتْلَفَ عَلَى الْمَسَاكِين حَتَّى يُوصِلهُ إِلَيْهِمْ.
فَإِنْ أَخْرَجَ الزَّكَاة عِنْد مَحِلّهَا فَهَلَكَتْ مِنْ غَيْر تَفْرِيط لَمْ يَضْمَن، لِأَنَّهُ وَكِيل لِلْفُقَرَاءِ.
فَإِنْ أَخْرَجَهَا بَعْد ذَلِكَ بِمُدَّةٍ فَهَلَكَتْ ضَمِنَ، لِتَأْخِيرِهَا عَنْ مَحَلّهَا فَتَعَلَّقَتْ بِذِمَّتِهِ فَلِذَلِكَ ضَمِنَ وَاَللَّه أَعْلَم.
وَإِذَا كَانَ الْإِمَام يَعْدِل فِي الْأَخْذ وَالصَّرْف لَمْ يَسُغْ لِلْمَالِكِ أَنْ يَتَوَلَّى الصَّرْف بِنَفْسِهِ فِي النَّاضّ وَلَا فِي غَيْره.
وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ زَكَاة النَّاضّ عَلَى أَرْبَابه.
وَقَالَ اِبْن الْمَاجِشُون : ذَلِكَ إِذَا كَانَ الصَّرْف لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِين خَاصَّة، فَإِنْ اُحْتِيجَ إِلَى صَرْفهَا لِغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَصْنَاف فَلَا يُفَرِّق عَلَيْهِمْ إِلَّا الْإِمَام.
وَفُرُوع هَذَا الْبَاب كَثِيرَة، هَذِهِ أُمَّهَاتهَا.
وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا
يَعْنِي السُّعَاة وَالْجُبَاة الَّذِينَ يَبْعَثهُمْ الْإِمَام لِتَحْصِيلِ الزَّكَاة بِالتَّوْكِيلِ عَلَى ذَلِكَ.
رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ أَبِي حُمَيْد السَّاعِدِيّ قَالَ : اِسْتَعْمَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنْ الْأَسْد عَلَى صَدَقَات بَنِي سُلَيْم يُدْعَى اِبْن اللُّتْبِيَّة، فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْمِقْدَار الَّذِي يَأْخُذُونَهُ عَلَى ثَلَاثَة أَقْوَال : قَالَ مُجَاهِد وَالشَّافِعِيّ : هُوَ الثُّمُن.
اِبْن عُمَر وَمَالك : يُعْطَوْنَ قَدْر عَمَلهمْ مِنْ الْأُجْرَة، وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَة وَأَصْحَابه.
قَالُوا : لِأَنَّهُ عَطَّلَ نَفْسه لِمَصْلَحَةِ الْفُقَرَاء، فَكَانَتْ كِفَايَته وَكِفَايَة أَعْوَانه فِي مَالهمْ، كَالْمَرْأَةِ لَمَّا عَطَّلَتْ نَفْسهَا لِحَقِّ الزَّوْج كَانَتْ نَفَقَتهَا وَنَفَقَة أَتْبَاعهَا مِنْ خَادِم أَوْ خَادِمَيْنِ عَلَى زَوْجهَا.
وَلَا تُقَدَّر بِالثَّمَنِ، بَلْ تُعْتَبَر الْكِفَايَة ثَمَنًا كَانَ أَوْ أَكْثَر، كَرِزْقِ الْقَاضِي.
وَلَا تُعْتَبَر كِفَايَة الْأَعْوَان فِي زَمَاننَا لِأَنَّهُ إِسْرَاف مَحْض.
الْقَوْل الثَّالِث - يُعْطَوْنَ مِنْ بَيْت الْمَال.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا قَوْل صَحِيح عَنْ مَالِك بْن أَنَس مِنْ رِوَايَة اِبْن أَبِي أُوَيْس وَدَاوُد بْن سَعِيد بْن زنبوعة، وَهُوَ ضَعِيف دَلِيلًا، فَإِنَّ اللَّه سُبْحَانه قَدْ أَخْبَرَ بِسَهْمِهِمْ فِيهَا نَصًّا فَكَيْفَ يُخْلَفُونَ عَنْهُ اِسْتِقْرَاء وَسَبْرًا.
وَالصَّحِيح الِاجْتِهَاد فِي قَدْر الْأُجْرَة، لِأَنَّ الْبَيَان فِي تَعْدِيد الْأَصْنَاف إِنَّمَا كَانَ لِلْمَحَلِّ لَا لِلْمُسْتَحَقِّ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْعَامِل إِذَا كَانَ هَاشِمِيًّا، فَمَنَعَهُ أَبُو حَنِيفَة لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام :( إِنَّ الصَّدَقَة لَا تَحِلّ لِآلِ مُحَمَّد إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخ النَّاس ).
وَهَذِهِ صَدَقَة مِنْ وَجْه، لِأَنَّهَا جُزْء مِنْ الصَّدَقَة فَتَلْحَق بِالصَّدَقَةِ مِنْ كُلّ وَجْه كَرَامَة وَتَنْزِيهًا لِقَرَابَةِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ غُسَالَة النَّاس.
وَأَجَازَ عَمَله مَالِك وَالشَّافِعِيّ، وَيُعْطَى أَجْر عِمَالَته، لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب مُصَدِّقًا، وَبَعَثَهُ عَامِلًا إِلَى الْيَمَن عَلَى الزَّكَاة، وَوَلَّى جَمَاعَة مِنْ بَنِي هَاشِم وَوَلَّى الْخُلَفَاء بَعْده كَذَلِكَ.
وَلِأَنَّهُ أَجِير عَلَى عَمَل مُبَاح فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِي فِيهِ الْهَاشِمِيّ وَغَيْره اِعْتِبَارًا بِسَائِرِ الصِّنَاعَات.
قَالَتْ الْحَنَفِيَّة : حَدِيث عَلِيّ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ فَرَضَ لَهُ مِنْ الصَّدَقَة، فَإِنْ فَرَضَ لَهُ مِنْ غَيْرهَا جَازَ.
وَرُوِيَ عَنْ مَالِك.
وَدَلَّ قَوْله تَعَالَى :" وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا " عَلَى أَنَّ كُلّ مَا كَانَ مِنْ فُرُوض الْكِفَايَات كَالسَّاعِي وَالْكَاتِب وَالْقَسَّام وَالْعَاشِر وَغَيْرهمْ فَالْقَائِم بِهِ يَجُوز لَهُ أَخْذ الْأُجْرَة عَلَيْهِ.
وَمِنْ ذَلِكَ الْإِمَامَة، فَإِنَّ الصَّلَاة وَإِنْ كَانَتْ مُتَوَجِّهَة عَلَى جَمِيع الْخَلْق فَإِنَّ تَقَدُّم بَعْضهمْ بِهِمْ مِنْ فُرُوض الْكِفَايَات، فَلَا جَرَمَ يَجُوز أَخْذ الْأُجْرَة عَلَيْهَا.
وَهَذَا أَصْل الْبَاب، وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ :( مَا تَرَكْت بَعْد نَفَقَة نِسَائِي وَمُؤْنَة عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَة ) قَالَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ.
وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ
لَا ذِكْر لِلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبهمْ فِي التَّنْزِيل فِي غَيْر قَسْم الصَّدَقَات، وَهُمْ قَوْم كَانُوا فِي صَدْر الْإِسْلَام مِمَّنْ يُظْهِر الْإِسْلَام، يَتَأَلَّفُونَ بِدَفْعِ سَهْم مِنْ الصَّدَقَة إِلَيْهِمْ لِضَعْفِ يَقِينهمْ.
قَالَ الزُّهْرِيّ : الْمُؤَلَّفَة مَنْ أَسْلَمَ مِنْ يَهُودِيّ أَوْ نَصْرَانِيّ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا.
وَقَالَ بَعْض الْمُتَأَخِّرِينَ : اُخْتُلِفَ فِي صِفَتهمْ، فَقِيلَ : هُمْ صِنْف مِنْ الْكُفَّار يُعْطَوْنَ لِيَتَأَلَّفُوا عَلَى الْإِسْلَام، وَكَانُوا لَا يُسْلِمُونَ بِالْقَهْرِ وَالسَّيْف، وَلَكِنْ يُسْلِمُونَ بِالْعَطَاءِ وَالْإِحْسَان.
وَقِيلَ : هُمْ قَوْم أَسْلَمُوا فِي الظَّاهِر وَلَمْ تَسْتَيْقِن قُلُوبهمْ، فَيُعْطَوْنَ لِيَتَمَكَّن الْإِسْلَام فِي صُدُورهمْ.
وَقِيلَ : هُمْ قَوْم مِنْ عُظَمَاء الْمُشْرِكِينَ لَهُمْ أَتْبَاع يُعْطَوْنَ لِيَتَأَلَّفُوا أَتْبَاعهمْ عَلَى الْإِسْلَام.
قَالَ : وَهَذِهِ الْأَقْوَال مُتَقَارِبَة وَالْقَصْد بِجَمِيعِهَا الْإِعْطَاء لِمَنْ لَا يَتَمَكَّن إِسْلَامه حَقِيقَة إِلَّا بِالْعَطَاءِ، فَكَأَنَّهُ ضَرْب مِنْ الْجِهَاد.
وَالْمُشْرِكُونَ ثَلَاثَة أَصْنَاف : صِنْف يَرْجِع بِإِقَامَةِ الْبُرْهَان.
وَصِنْف بِالْقَهْرِ.
وَصِنْف بِالْإِحْسَانِ.
وَالْإِمَام النَّاظِر لِلْمُسْلِمِينَ يَسْتَعْمِل مَعَ كُلّ صِنْف مَا يَرَاهُ سَبَبًا لِنَجَاتِهِ وَتَخْلِيصه مِنْ الْكُفْر.
وَفِي صَحِيح مُسْلِم مِنْ حَدِيث أَنَس، فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْنِي لِلْأَنْصَارِ - :( فَإِنِّي أُعْطِي رِجَالًا حَدِيثِي عَهْد بِكُفْرٍ أَتَأَلَّفهُمْ... ) الْحَدِيث.
قَالَ اِبْن إِسْحَاق : أَعْطَاهُمْ يَتَأَلَّفهُمْ وَيَتَأَلَّف بِهِمْ قَوْمهمْ.
وَكَانُوا أَشْرَافًا، فَأَعْطَى أَبَا سُفْيَان بْن حَرْب مِائَة بَعِير، وَأَعْطَى اِبْنه مِائَة بَعِير، وَأَعْطَى حَكِيم بْن حِزَام مِائَة بَعِير، وَأَعْطَى الْحَارِث بْن هِشَام مِائَة بَعِير، وَأَعْطَى سُهَيْل بْن عَمْرو مِائَة بَعِير، وَأَعْطَى حُوَيْطِب بْن عَبْد الْعُزَّى مِائَة بَعِير، وَأَعْطَى صَفْوَان بْن أُمَيَّة مِائَة بَعِير.
وَكَذَلِكَ أَعْطَى مَالِك بْن عَوْف وَالْعَلَاء بْن جَارِيَة.
قَالَ : فَهَؤُلَاءِ أَصْحَاب الْمِئِين.
وَأَعْطَى رِجَالًا مِنْ قُرَيْش دُون الْمِائَة مِنْهُمْ مَخْرَمَة بْن نَوْفَل الزُّهْرِيّ وَعُمَيْر بْن وَهْب الْجُمَحِيّ، وَهِشَام بْن عَمْرو الْعَامِرِيّ.
قَالَ اِبْن إِسْحَاق : فَهَؤُلَاءِ لَا أَعْرِف مَا أَعْطَاهُمْ.
وَأَعْطَى سَعِيد بْن يَرْبُوع خَمْسِينَ بَعِيرًا، وَأَعْطَى عَبَّاس بْن مِرْدَاس السُّلَمِيّ أَبَاعِر قَلِيلَة فَسَخِطَهَا.
فَقَالَ فِي ذَلِكَ :
كَانَتْ نِهَابًا تَلَافَيْتهَا... بِكَرِّي عَلَى الْمُهْر فِي الْأَجْرَع
وَإِيقَاظِي الْقَوْم أَنْ يَرْقُدُوا... إِذَا هَجَعَ النَّاس لَمْ أَهْجَع
فَأَصْبَحَ نَهْبِي وَنَهْب الْعُبَيْد... بَيْن عُيَيْنَة وَالْأَقْرَع
وَقَدْ كُنْت فِي الْحَرْب ذَا تُدْرَإٍ... فَلَمْ أُعْطَ شَيْئًا وَلَمْ أَمْنَع
إِلَّا أَفَائِل أُعْطِيتهَا... عَدِيد قَوَائِمه الْأَرْبَع
وَمَا كَانَ حِصْن وَلَا حَابِس... يَفُوقَانِ مِرْدَاس فِي الْمَجْمَع
وَمَا كُنْت دُون اِمْرِئٍ مِنْهُمَا... وَمَنْ تَضَع الْيَوْم لَا يُرْفَع
فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( اِذْهَبُوا فَاقْطَعُوا عَنِّي لِسَانه ) فَأَعْطَوْهُ حَتَّى رَضِيَ، فَكَانَ ذَلِكَ قَطْع لِسَانه.
قَالَ أَبُو عُمَر : وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْمُؤَلَّفَة قُلُوبهمْ النُّضَيْر بْن الْحَارِث بْن عَلْقَمَة بْن كِلْدَة، أَخُو النَّضْر بْن الْحَارِث الْمَقْتُول بِبَدْرٍ صَبْرًا.
وَذَكَرَ آخَرُونَ أَنَّهُ فِيمَنْ هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَة، فَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ فَمُحَال أَنْ يَكُون مِنْ الْمُؤَلَّفَة قُلُوبهمْ، وَمَنْ هَاجَرَ إِلَى أَرْض الْحَبَشَة فَهُوَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ مِمَّنْ رَسَخَ الْإِيمَان فِي قَلْبه وَقَاتَلَ دُونه، وَلَيْسَ مِمَّنْ يُؤَلَّف عَلَيْهِ.
قَالَ أَبُو عُمَر : وَاسْتَعْمَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَالِك بْن عَوْف بْن سَعْد بْن يَرْبُوع النَّصْرِيّ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنْ قَوْمه مِنْ قَبَائِل قَيْس، وَأَمَرَهُ بِمُغَاوَرَةِ ثَقِيف فَفَعَلَ وَضَيَّقَ عَلَيْهِمْ، وَحَسُنَ إِسْلَامه وَإِسْلَام الْمُؤَلَّفَة قُلُوبهمْ، حَاشَا عُيَيْنَة بْن حِصْن فَلَمْ يَزَلْ مَغْمُورًا عَلَيْهِ.
وَسَائِر الْمُؤَلَّفَة مُتَفَاضِلُونَ، مِنْهُمْ الْخَيِّر الْفَاضِل الْمُجْتَمَع عَلَى فَضْله، كَالْحَارِثِ بْن هِشَام، وَحَكِيم بْن حِزَام، وَعِكْرِمَة بْن أَبِي جَهْل، وَسُهَيْل بْن عَمْرو، وَمِنْهُمْ دُون هَؤُلَاءِ.
وَقَدْ فَضَّلَ اللَّه النَّبِيِّينَ وَسَائِر عِبَاده الْمُؤْمِنِينَ بَعْضهمْ عَلَى بَعْض وَهُوَ أَعْلَم بِهِمْ.
قَالَ مَالِك : بَلَغَنِي أَنَّ حَكِيم بْن حِزَام أَخْرَجَ مَا كَانَ أَعْطَاهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُؤَلَّفَة قُلُوبهمْ فَتَصَدَّقَ بِهِ بَعْد ذَلِكَ.
قُلْت : حَكِيم بْن حِزَام وَحُوَيْطِب بْن عَبْد الْعُزَّى عَاشَ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا مِائَة وَعِشْرِينَ سَنَة سِتِّينَ فِي الْإِسْلَام وَسِتِّينَ فِي الْجَاهِلِيَّة.
وَسَمِعْت الْإِمَام شَيْخنَا الْحَافِظ أَبَا مُحَمَّد عَبْد الْعَظِيم يَقُول : شَخْصَانِ مِنْ الصَّحَابَة عَاشَا فِي الْجَاهِلِيَّة سِتِّينَ سَنَة وَفِي الْإِسْلَام سِتِّينَ سَنَة، وَمَاتَا بِالْمَدِينَةِ سَنَة أَرْبَع وَخَمْسِينَ، أَحَدهمَا حَكِيم بْن حِزَام، وَكَانَ مَوْلِده فِي جَوْف الْكَعْبَة قَبْل عَام الْفِيل بِثَلَاث عَشْرَة سَنَة.
وَالثَّانِي حَسَّان بْن ثَابِت بْن الْمُنْذِر بْن حَرَام الْأَنْصَارِيّ.
وَذَكَرَ هَذَا أَيْضًا أَبُو عُمَر وَعُثْمَان الشَّهْرُزُورِيّ فِي كِتَاب مَعْرِفَة أَنْوَاع عِلْم الْحَدِيث لَهُ، وَلَمْ يَذْكُرَا غَيْرهمَا.
وَحُوَيْطِب ذَكَرَهُ أَبُو الْفَرَج الْجَوْزِيّ فِي كِتَاب الْوَفَا فِي شَرَف الْمُصْطَفَى.
وَذَكَرَهُ أَبُو عُمَر فِي كِتَاب الصَّحَابَة أَنَّهُ أَدْرَكَ الْإِسْلَام وَهُوَ اِبْن سِتِّينَ سَنَة، وَمَاتَ وَهُوَ اِبْن مِائَة وَعِشْرِينَ سَنَة.
وَذَكَرَ أَيْضًا حَمْنَن بْن عَوْف أَخُو عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف، أَنَّهُ عَاشَ فِي الْإِسْلَام سِتِّينَ سَنَة وَفِي الْجَاهِلِيَّة سِتِّينَ سَنَة.
وَقَدْ عُدَّ فِي الْمُؤَلَّفَة قُلُوبهمْ مُعَاوِيَة وَأَبُوهُ أَبُو سُفْيَان بْن حَرْب.
أَمَّا مُعَاوِيَة فَبَعِيد أَنْ يَكُون مِنْهُمْ، فَكَيْفَ يَكُون مِنْهُمْ وَقَدْ اِئْتَمَنَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَحْي اللَّه وَقِرَاءَته وَخَلَطَهُ بِنَفْسِهِ.
وَأَمَّا حَاله فِي أَيَّام أَبِي بَكْر فَأَشْهَر مِنْ هَذَا وَأَظْهَر.
وَأَمَّا أَبُوهُ فَلَا كَلَام فِيهِ أَنَّهُ كَانَ مِنْهُمْ.
وَفِي عَدَدهمْ اِخْتِلَاف، وَبِالْجُمْلَةِ فَكُلّهمْ مُؤْمِن وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ كَافِر عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَاَللَّه أَعْلَم وَأَحْكَم.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي بَقَائِهِمْ، فَقَالَ عُمَر وَالْحَسَن وَالشَّعْبِيّ وَغَيْرهمْ : اِنْقَطَعَ هَذَا الصِّنْف بِعِزِّ الْإِسْلَام وَظُهُوره.
وَهَذَا مَشْهُور مِنْ مَذْهَب مَالِك وَأَصْحَاب الرَّأْي.
قَالَ بَعْض عُلَمَاء الْحَنَفِيَّة : لَمَّا أَعَزَّ اللَّه الْإِسْلَام وَأَهْله وَقَطَعَ دَابِر الْكَافِرِينَ - لَعَنَهُمْ اللَّه - اِجْتَمَعَتْ الصَّحَابَة رِضْوَان اللَّه عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ فِي خِلَافَة أَبِي بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَلَى سُقُوط سَهْمهمْ.
وَقَالَ جَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء : هُمْ بَاقُونَ ; لِأَنَّ الْإِمَام رُبَّمَا اِحْتَاجَ أَنْ يَسْتَأْلِف عَلَى الْإِسْلَام.
وَإِنَّمَا قَطَعَهُمْ عُمَر لَمَّا رَأَى مِنْ إِعْزَاز الدِّين.
قَالَ يُونُس : سَأَلْت الزُّهْرِيّ عَنْهُمْ فَقَالَ : لَا أَعْلَم نَسْخًا فِي ذَلِكَ.
قَالَ أَبُو جَعْفَر النَّحَّاس : فَعَلَى هَذَا الْحُكْمُ فِيهِمْ ثَابِتٌ، فَإِنْ كَانَ أَحَد يُحْتَاج إِلَى تَأَلُّفه وَيُخَاف أَنْ تَلْحَق الْمُسْلِمِينَ مِنْهُ آفَة أَوْ يُرْجَى أَنْ يَحْسُن إِسْلَامه بَعْدُ دُفِعَ إِلَيْهِ.
قَالَ الْقَاضِي عَبْد الْوَهَّاب : إِنْ اُحْتِيجَ إِلَيْهِمْ فِي بَعْض الْأَوْقَات أُعْطُوا مِنْ الصَّدَقَة.
وَقَالَ الْقَاضِي اِبْن الْعَرَبِيّ : الَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ إِنْ قَوِيَ الْإِسْلَام زَالُوا، وَإِنْ اُحْتِيجَ إِلَيْهِمْ أُعْطُوا سَهْمهمْ كَمَا كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِيهِمْ، فَإِنَّ فِي الصَّحِيح :( بَدَأَ الْإِسْلَام غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ ).
فَإِذَا فَرَّعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُرَدّ إِلَيْهِمْ سَهْمهمْ فَإِنَّهُ يَرْجِع إِلَى سَائِر الْأَصْنَاف أَوْ مَا يَرَاهُ الْإِمَام.
وَقَالَ الزُّهْرِيّ : يُعْطَى نِصْف سَهْمهمْ لِعُمَّارِ الْمَسَاجِد.
وَهَذَا مِمَّا يَدُلّك عَلَى أَنَّ الْأَصْنَاف الثَّمَانِيَة مَحَلّ لَا مُسْتَحِقُّونَ تَسْوِيَة، وَلَوْ كَانُوا مُسْتَحِقِّينَ لَسَقَطَ سَهْمهمْ بِسُقُوطِهِمْ وَلَمْ يَرْجِع إِلَى غَيْرهمْ، كَمَا لَوْ أَوْصَى لِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ فَمَاتَ أَحَدهمْ لَمْ يَرْجِع نَصِيبه إِلَى مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَفِي الرِّقَابِ
أَيْ فِي فَكّ الرِّقَاب، قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَابْن عُمَر، وَهُوَ مَذْهَب مَالِك وَغَيْره.
فَيَجُوز لِلْإِمَامِ أَنْ يَشْتَرِي رِقَابًا مِنْ مَال الصَّدَقَة يُعْتِقهَا عَنْ الْمُسْلِمِينَ، وَيَكُون وَلَاؤُهُمْ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ.
وَإِنْ اِشْتَرَاهُمْ صَاحِب الزَّكَاة وَأَعْتَقَهُمْ جَازَ.
هَذَا تَحْصِيل مَذْهَب مَالِك، وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَالْحَسَن، وَبِهِ قَالَ أَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبُو عُبَيْد.
وَقَالَ أَبُو ثَوْر : لَا يَبْتَاع مِنْهَا صَاحِب الزَّكَاة نَسَمَة يَعْتِقهَا بِجَرِّ وَلَاء.
وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ وَأَصْحَاب الرَّأْي وَرِوَايَة عَنْ مَالِك.
وَالصَّحِيح الْأَوَّل، لِأَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَالَ :" وَفِي الرِّقَاب " فَإِذَا كَانَ لِلرِّقَابِ سَهْم مِنْ الصَّدَقَات كَانَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِي رَقَبَة فَيَعْتِقهَا.
وَلَا خِلَاف بَيْن أَهْل الْعِلْم أَنَّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَشْتَرِي الْفَرَس فَيَحْمِل عَلَيْهِ فِي سَبِيل اللَّه.
فَإِذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِي فَرَسًا بِالْكَمَالِ مِنْ الزَّكَاة جَازَ أَنْ يَشْتَرِي رَقَبَة بِالْكَمَالِ، لَا فَرْق بَيْن ذَلِكَ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
الْأَصْل فِي الْوَلَاء، قَالَ مَالِك : هِيَ الرَّقَبَة تُعْتَق وَوَلَاؤُهَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ إِنْ أَعْتَقَهَا الْإِمَام.
وَقَدْ نَهَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْع الْوَلَاء وَعَنْ هِبَته.
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام :( الْوَلَاء لُحْمَة كَلُحْمَةِ النَّسَب لَا يُبَاع وَلَا يُوهَب ).
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام :( الْوَلَاء لِمَنْ أَعْتَقَ ).
وَلَا تَرِث النِّسَاء مِنْ الْوَلَاء شَيْئًا، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام :( لَا تَرِث النِّسَاء مِنْ الْوَلَاء شَيْئًا إِلَّا مَا أَعْتَقْنَ أَوْ أَعْتَقَ مَنْ أَعْتَقْنَ ) وَقَدْ وَرَّثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِبْنَةَ حَمْزَة مِنْ مَوْلًى لَهَا النِّصْفَ وَلِابْنَتِهِ النِّصْفَ.
فَإِذَا تَرَكَ الْمُعْتِق أَوْلَادًا ذُكُورًا وَإِنَاثًا فَالْوَلَاء لِلذُّكُورِ مِنْ وَلَده دُون الْإِنَاث.
وَهُوَ إِجْمَاع الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ.
وَالْوَلَاء إِنَّمَا يُورَث بِالتَّعْصِيبِ الْمَحْض، وَالنِّسَاء لَا تَعْصِيب فِيهِنَّ فَلَمْ يَرِثْنَ مِنْ الْوَلَاء شَيْئًا.
فَافْهَمْ تُصِبْ.
وَاخْتُلِفَ هَلْ يُعَان مِنْهَا الْمُكَاتَب، فَقِيلَ لَا.
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِك، لِأَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ذَكَرَ الرَّقَبَة دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الْعِتْق الْكَامِل، وَأَمَّا الْمُكَاتَب فَإِنَّمَا هُوَ دَاخِل فِي كَلِمَة الْغَارِمِينَ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ دَيْن الْكِتَابَة، فَلَا يَدْخُل فِي الرِّقَاب.
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِك مِنْ رِوَايَة الْمَدَنِيِّينَ وَزِيَاد عَنْهُ : أَنَّهُ يُعَان مِنْهَا الْمُكَاتَب فِي آخِر كِتَابَته بِمَا يُعْتَق.
وَعَلَى هَذَا جُمْهُور الْعُلَمَاء فِي تَأْوِيل قَوْل اللَّه تَعَالَى :" وَفِي الرِّقَاب ".
وَبِهِ قَالَ اِبْن وَهْب وَالشَّافِعِيّ وَاللَّيْث وَالنَّخَعِيّ وَغَيْرهمْ وَحَكَى عَلِيّ بْن مُوسَى الْقُمِّيّ الْحَنَفِيّ فِي أَحْكَامه : أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُكَاتَب مُرَاد.
وَاخْتَلَفُوا فِي عِتْق الرِّقَاب، قَالَ إِلْكِيَا الطَّبَرِيّ : وَذَكَرَ وَجْهًا بَيَّنَهُ فِي مَنْع ذَلِكَ فَقَالَ : إِنَّ الْعِتْق إِبْطَال مِلْك وَلَيْسَ بِتَمْلِيكٍ، وَمَا يُدْفَع إِلَى الْمُكَاتَب تَمْلِيك، وَمِنْ حَقّ الصَّدَقَة أَلَّا تَجْزِي إِلَّا إِذَا جَرَى فِيهَا التَّمْلِيك.
وَقَوَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَوْ دَفَعَ مِنْ الزَّكَاة عَنْ الْغَارِم فِي دَيْنه بِغَيْرِ أَمْره لَمْ يَجْزِهِ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَمْلِك فَلَأَنْ لَا يَجْزِي ذَلِكَ فِي الْعِتْق أَوْلَى.
وَذُكِرَ أَنَّ فِي الْعِتْق جَرّ الْوَلَاء إِلَى نَفْسه وَذَلِكَ لَا يَحْصُل فِي دَفْعه لِلْمُكَاتَبِ.
وَذُكِرَ أَنَّ ثَمَن الْعَبْد إِذَا دَفَعَهُ إِلَى الْعَبْد لَمْ يَمْلِكهُ الْعَبْد، وَإِنْ دَفَعَهُ إِلَى سَيِّده فَقَدْ مَلَّكَهُ الْعِتْق.
وَإِنْ دَفَعَهُ بَعْد الشِّرَاء وَالْعِتْق فَهُوَ قَاضٍ دَيْنًا وَذَلِكَ لَا يَجْزِي فِي الزَّكَاة.
قُلْت : قَدْ وَرَدَ حَدِيث يَنُصّ عَلَى مَعْنَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ جَوَاز عِتْق الرَّقَبَة وَإِعَانَة الْمَكَاتِب مَعًا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ الْبَرَاء قَالَ : جَاءَ رَجُل إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : دُلَّنِي عَلَى عَمَل يُقَرِّبنِي مِنْ الْجَنَّة وَيُبَاعِدنِي مِنْ النَّار.
قَالَ :( لَئِنْ كُنْت أَقَصَرْت الْخُطْبَة لَقَدْ أَعْرَضْت الْمَسْأَلَة أَعْتِقْ النَّسَمَة وَفُكّ الرَّقَبَة ).
فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه، أَوَلَيْسَتَا وَاحِدًا ؟ قَالَ :( لَا، عِتْق النَّسَمَة أَنْ تَنْفَرِد بِعِتْقِهَا وَفَكّ الرَّقَبَة أَنْ تُعِين فِي ثَمَنهَا... ) وَذَكَرَ الْحَدِيث.
وَاخْتَلَفُوا فِي فَكّ الْأُسَارَى مِنْهَا، فَقَالَ أَصْبَغ : لَا يَجُوز.
وَهُوَ قَوْل اِبْن قَاسِم.
وَقَالَ اِبْن حَبِيب : يَجُوز، لِأَنَّهَا رَقَبَة مُلِكَتْ بِمِلْكِ الرِّقّ فَهِيَ تَخْرُج مِنْ رَقِّ إِلَى عِتْق، وَكَانَ ذَلِكَ أَحَقّ وَأَوْلَى مِنْ فِكَاك الرِّقَاب الَّذِي بِأَيْدِينَا، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ فَكّ الْمُسْلِم عَنْ رَقِّ الْمُسْلِم عِبَادَة وَجَائِزًا مِنْ الصَّدَقَة، فَأَحْرَى وَأَوْلَى أَنْ يَكُون ذَلِكَ فِي فَكّ الْمُسْلِم عَنْ رَقِّ الْكَافِر وَذُلّه.
وَالْغَارِمِينَ
هُمْ الَّذِينَ رَكِبَهُمْ الدَّيْن وَلَا وَفَاء عِنْدهمْ بِهِ، وَلَا خِلَاف فِيهِ.
اللَّهُمَّ إِلَّا مَنْ اِدَّانَ فِي سَفَاهَة فَإِنَّهُ لَا يُعْطَى مِنْهَا وَلَا مِنْ غَيْرهَا إِلَّا أَنْ يَتُوب.
وَيُعْطَى مِنْهَا مَنْ لَهُ مَال وَعَلَيْهِ دَيْن مُحِيط بِهِ مَا يَقْضِي بِهِ دَيْنه، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَال وَعَلَيْهِ دَيْن فَهُوَ فَقِير وَغَارِم فَيُعْطَى بِالْوَصْفَيْنِ.
رَوَى مُسْلِم عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ : أُصِيبَ رَجُل فِي عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثِمَار اِبْتَاعَهَا فَكَثُرَ دَيْنه.
فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ ).
فَتَصَدَّقَ النَّاس عَلَيْهِ فَلَمْ يَبْلُغ ذَلِكَ وَفَاء دَيْنه.
فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِغُرَمَائِهِ :( خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ وَلَيْسَ لَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ ).
وَيَجُوز لِلْمُتَحَمِّلِ فِي صَلَاح وَبِرّ أَنْ يُعْطَى مِنْ الصَّدَقَة مَا يُؤَدِّي مَا تَحَمَّلَ بِهِ إِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا، إِذَا كَانَ ذَلِكَ يُجْحِف بِمَالِهِ كَالْغَرِيمِ.
وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه وَأَحْمَد بْن حَنْبَل وَغَيْرهمْ.
وَاحْتَجَّ مَنْ ذَهَبَ هَذَا الْمَذْهَب بِحَدِيثِ قَبِيصَة بْن مُخَارِق قَالَ : تَحَمَّلْت حَمَالَة فَأَتَيْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْأَلهُ فِيهَا فَقَالَ :( أَقِمْ حَتَّى تَأْتِينَا الصَّدَقَة فَنَأْمُر لَك بِهَا - ثُمَّ قَالَ - يَا قَبِيصَة إِنَّ الْمَسْأَلَة لَا تَحِلّ إِلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَة رَجُل تَحَمَّلَ حَمَالَة فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَة حَتَّى يُصِيبهَا ثُمَّ يُمْسِك وَرَجُل أَصَابَتْهُ جَائِحَة اِجْتَاحَتْ مَاله فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَة حَتَّى يُصِيب قِوَامًا مِنْ عَيْش - أَوْ قَالَ سِدَادًا مِنْ عَيْش - وَرَجُل أَصَابَتْهُ فَاقَة حَتَّى يَقُول ثَلَاثَة مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمه لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَة فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَة حَتَّى يُصِيب قِوَامًا مِنْ عَيْش - أَوْ قَالَ سِدَادًا مِنْ عَيْش - فَمَا سِوَاهُنَّ مِنْ الْمَسْأَلَة يَا قَبِيصَة سُحْتًا يَأْكُلهَا صَاحِبهَا سُحْتًا ).
فَقَوْله :( ثُمَّ يُمْسِك ) دَلِيل عَلَى أَنَّهُ غَنِيّ، لِأَنَّ الْفَقِير لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُمْسِك.
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَام أَنَّهُ قَالَ :( إِنَّ الْمَسْأَلَة لَا تَحِلّ إِلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَة لِذِي فَقْر مُدْقِع أَوْ لِذِي غُرْم مُفْظِع أَوْ لِذِي دَم مُوجِع ).
وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَام :( لَا تَحِلّ الصَّدَقَة لِغَنِيٍّ إِلَّا لِخَمْسَةٍ... ) الْحَدِيث.
وَسَيَأْتِي.
وَاخْتَلَفُوا، هَلْ يُقْضَى مِنْهَا دَيْن الْمَيِّت أَمْ لَا، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : لَا يُؤَدَّى مِنْ الصَّدَقَة دَيْن مَيِّت.
وَهُوَ قَوْل اِبْن الْمَوَّاز.
قَالَ أَبُو حَنِيفَة : وَلَا يُعْطَى مِنْهَا مَنْ عَلَيْهِ كَفَّارَة وَنَحْو ذَلِكَ مِنْ حُقُوق اللَّه تَعَالَى، وَإِنَّمَا الْغَارِم مَنْ عَلَيْهِ دَيْن يُسْجَن فِيهِ.
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا وَغَيْرهمْ : يُقْضَى مِنْهَا دَيْن الْمَيِّت لِأَنَّهُ مِنْ الْغَارِمِينَ، قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِن مِنْ نَفْسه مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِأَهْلِهِ وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَإِلَيَّ وَعَلَيَّ ).
وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَهُمْ الْغُزَاة وَمَوْضِع الرِّبَاط، يُعْطَوْنَ مَا يُنْفِقُونَ فِي غَزْوِهِمْ كَانُوا أَغْنِيَاء أَوْ فُقَرَاء.
وَهَذَا قَوْل أَكْثَر الْعُلَمَاء، وَهُوَ تَحْصِيل مَذْهَب مَالِك رَحِمَهُ اللَّه.
وَقَالَ اِبْن عُمَر : الْحُجَّاج وَالْعُمَّار.
وَيُؤْثَر عَنْ أَحْمَد وَإِسْحَاق رَحِمهمَا اللَّه أَنَّهُمَا قَالَا : سَبِيل اللَّه الْحَجّ.
وَفِي الْبُخَارِيّ : وَيُذْكَر عَنْ أَبِي لَاسٍ : حَمَلَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِبِل الصَّدَقَة لِلْحَجِّ، وَيُذْكَر عَنْ اِبْن عَبَّاس : يَعْتِق مِنْ زَكَاة مَاله وَيُعْطِي فِي الْحَجّ.
خَرَّجَ أَبُو مُحَمَّد عَبْد الْغَنِيّ الْحَافِظ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مُحَمَّد الْخَيَّاش حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّان مَالِك بْن يَحْيَى حَدَّثَنَا يَزِيد بْن هَارُون أَخْبَرَنَا مَهْدِيّ بْن مَيْمُون عَنْ مُحَمَّد بْن أَبِي يَعْقُوب عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي نُعْم وَيُكَنَّى أَبَا الْحَكَم قَالَ : كُنْت جَالِسًا مَعَ عَبْد اللَّه بْن عُمَر فَأَتَتْهُ اِمْرَأَة فَقَالَتْ لَهُ : يَا أَبَا عَبْد الرَّحْمَن، إِنَّ زَوْجِي أَوْصَى بِمَالِهِ فِي سَبِيل اللَّه.
قَالَ اِبْن عُمَر : فَهُوَ كَمَا قَالَ فِي سَبِيل اللَّه.
فَقُلْت لَهُ : مَا زِدْتهَا فِيمَا سَأَلْت عَنْهُ إِلَّا غَمًّا.
قَالَ : فَمَا تَأْمُرنِي يَا اِبْن أَبِي نُعْم، آمُرهَا أَنْ تَدْفَعهُ إِلَى هَؤُلَاءِ الْجُيُوش الَّذِينَ يَخْرُجُونَ فَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْض وَيَقْطَعُونَ السَّبِيل، قَالَ : قُلْت فَمَا تَأْمُرهَا.
قَالَ : آمُرهَا أَنْ تَدْفَعهُ إِلَى قَوْم صَالِحِينَ، إِلَى حُجَّاج بَيْت اللَّه الْحَرَام، أُولَئِكَ وَفْد الرَّحْمَن، أُولَئِكَ وَفْد الرَّحْمَن، أُولَئِكَ وَفْد الرَّحْمَن، لَيْسُوا كَوَفْدِ الشَّيْطَان، ثَلَاثًا يَقُولهَا.
قُلْت : يَا أَبَا عَبْد الرَّحْمَن، وَمَا وَفْد الشَّيْطَان ؟ قَالَ : قَوْم يَدْخُلُونَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْأُمَرَاء فَيُنَمُّونَ إِلَيْهِمْ الْحَدِيث، وَيَسْعَوْنَ فِي الْمُسْلِمِينَ بِالْكَذِبِ، فَيُجَازُونَ الْجَوَائِز وَيُعْطَوْنَ عَلَيْهِ الْعَطَايَا.
وَقَالَ مُحَمَّد بْن عَبْد الْحَكَم : وَيُعْطَى مِنْ الصَّدَقَة فِي الْكُرَاع وَالسِّلَاح وَمَا يُحْتَاج إِلَيْهِ مِنْ آلَات الْحَرْب، وَكَفّ الْعَدُوّ عَنْ الْحَوْزَة، لِأَنَّهُ كُلّه مِنْ سَبِيل الْغَزْو وَمَنْفَعَته.
وَقَدْ أَعْطَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِائَة نَاقَة فِي نَازِلَة سَهْل بْن أَبِي حَثْمَة إِطْفَاء لِلثَّائِرَةِ.
قُلْت : أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيث أَبُو دَاوُد عَنْ بَشِير بْن يَسَار، أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَار يُقَال لَهُ سَهْل بْن أَبِي حَثْمَة أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَاهُ مِائَة مِنْ إِبِل الصَّدَقَة، يَعْنِي دِيَة الْأَنْصَارِيّ الَّذِي قُتِلَ بِخَيْبَر، وَقَالَ عِيسَى بْن دِينَار : تَحِلّ الصَّدَقَة لِغَازٍ فِي سَبِيل اللَّه، قَدْ اِحْتَاجَ فِي غَزْوَته وَغَابَ عَنْهُ غَنَاؤُهُ وَوَفْره.
قَالَ : وَلَا تَحِلّ لِمَنْ كَانَ مَعَهُ مَاله مِنْ الْغُزَاة، إِنَّمَا تَحِلّ لِمَنْ كَانَ مَاله غَائِبًا عَنْهُ مِنْهُمْ.
وَهَذَا مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَجُمْهُور أَهْل الْعِلْم.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَصَاحِبَاهُ : لَا يُعْطَى الْغَازِي إِلَّا إِذَا كَانَ فَقِيرًا مُنْقَطِعًا بِهِ.
وَهَذِهِ زِيَادَة عَلَى النَّصّ، وَالزِّيَادَة عِنْده عَلَى النَّصّ نَسْخ، وَالنَّسْخ لَا يَكُون إِلَّا بِقُرْآنٍ أَوْ خَبَر مُتَوَاتِر، وَذَلِكَ مَعْدُوم هُنَا، بَلْ فِي صَحِيح السُّنَّة خِلَاف ذَلِكَ مِنْ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام :( لَا تَحِلّ الصَّدَقَة لِغَنِيٍّ إِلَّا لِخَمْسَةٍ لِغَازٍ فِي سَبِيل اللَّه أَوْ لِعَامِلٍ عَلَيْهَا أَوْ لِغَارِمٍ أَوْ لِرَجُلٍ اِشْتَرَاهَا بِمَالِهِ أَوْ لِرَجُلٍ لَهُ جَار مِسْكِين فَتَصَدَّقَ عَلَى الْمِسْكِين فَأَهْدَى الْمِسْكِين لِلْغَنِيِّ ).
رَوَاهُ مَالِك مُرْسَلًا عَنْ زَيْد بْن أَسْلَم عَنْ عَطَاء بْن يَسَار.
وَرَفَعَهُ مَعْمَر عَنْ زَيْد بْن أَسْلَم عَنْ عَطَاء بْن يَسَار عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ هَذَا الْحَدِيث مُفَسِّرًا لِمَعْنَى الْآيَة، وَأَنَّهُ يَجُوز لِبَعْضِ الْأَغْنِيَاء أَخْذهَا، وَمُفَسِّرًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام :( لَا تَحِلّ الصَّدَقَة لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّة سَوِيّ ) لِأَنَّ قَوْله هَذَا مُجْمَل لَيْسَ عَلَى عُمُومه بِدَلِيلِ الْخَمْسَة الْأَغْنِيَاء الْمَذْكُورِينَ.
وَكَانَ اِبْن الْقَاسِم يَقُول : لَا يَجُوز لِغَنِيٍّ أَنْ يَأْخُذ مِنْ الصَّدَقَة مَا يَسْتَعِين بِهِ عَلَى الْجِهَاد وَيُنْفِقهُ فِي سَبِيل اللَّه، وَإِنَّمَا يَجُوز ذَلِكَ لِفَقِيرٍ.
قَالَ : وَكَذَلِكَ الْغَارِم لَا يَجُوز لَهُ أَنْ يَأْخُذ مِنْ الصَّدَقَة مَا يَقِي بِهِ مَاله وَيُؤَدِّي مِنْهَا دَيْنه وَهُوَ عَنْهَا غَنِيّ.
قَالَ : وَإِذَا اِحْتَاجَ الْغَازِي فِي غَزْوَته وَهُوَ غَنِيّ لَهُ مَال غَابَ عَنْهُ لَمْ يَأْخُذ مِنْ الصَّدَقَة شَيْئًا يَسْتَقْرِض، فَإِذَا بَلَغَ بَلَده أَدَّى ذَلِكَ مِنْ مَاله.
هَذَا كُلّه ذَكَرَهُ اِبْن حَبِيب عَنْ اِبْن الْقَاسِم، وَزَعَمَ أَنَّ اِبْن نَافِع وَغَيْره خَالَفُوهُ فِي ذَلِكَ.
وَرَوَى أَبُو زَيْد وَغَيْره عَنْ اِبْن الْقَاسِم أَنَّهُ قَالَ : يُعْطَى مِنْ الزَّكَاة الْغَازِي وَإِنْ كَانَ مَعَهُ فِي غَزَاته مَا يَكْفِيه مِنْ مَاله وَهُوَ غَنِيّ فِي بَلَده.
وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، لِظَاهِرِ الْحَدِيث :( لَا تَحِلّ الصَّدَقَة لِغَنِيٍّ إِلَّا لِخَمْسَةٍ... ).
وَرَوَى اِبْن وَهْب عَنْ مَالِك أَنَّهُ يُعْطَى مِنْهَا الْغُزَاة وَمَوَاضِع الرِّبَاط فُقَرَاء كَانُوا أَوْ أَغْنِيَاء.
وَابْنِ السَّبِيلِ
السَّبِيل الطَّرِيق، وَنُسِبَ الْمُسَافِر إِلَيْهَا لِمُلَازَمَتِهِ إِيَّاهَا وَمُرُوره عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ الشَّاعِر :
إِنْ تَسْأَلُونِي عَنْ الْهَوَى فَأَنَا الْهَوَى وَابْن الْهَوَى وَأَخُو الْهَوَى وَأَبُوهُ
وَالْمُرَاد الَّذِي اِنْقَطَعَتْ بِهِ الْأَسْبَاب فِي سَفَره عَنْ بَلَده وَمُسْتَقَرّه وَمَاله، فَإِنَّهُ يُعْطَى مِنْهَا وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فِي بَلَده، وَلَا يَلْزَمهُ أَنْ يَشْغَل ذِمَّته بِالسَّلَفِ.
وَقَالَ مَالِك فِي كِتَاب اِبْن سَحْنُون : إِذَا وَجَدَ مَنْ يُسَلِّفهُ فَلَا يُعْطَى.
وَالْأَوَّل أَصَحّ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمهُ أَنْ يَدْخُل تَحْت مِنَّة أَحَد وَقَدْ وَجَدَ مِنَّة اللَّه تَعَالَى.
فَإِنْ كَانَ لَهُ مَا يُغْنِيه فَفِي جَوَاز الْأَخْذ لَهُ لِكَوْنِهِ اِبْن السَّبِيل رِوَايَتَانِ : الْمَشْهُور أَنَّهُ لَا يُعْطَى، فَإِنْ أَخَذَ فَلَا يَلْزَمهُ رَدّه إِذَا صَارَ إِلَى بَلَده وَلَا إِخْرَاجه.
فَإِنْ جَاءَ وَادَّعَى وَصْفًا مِنْ الْأَوْصَاف، هَلْ يُقْبَل قَوْله أَمْ لَا وَيُقَال لَهُ أَثْبِتْ مَا تَقُول.
فَأَمَّا الدَّيْن فَلَا بُدّ أَنْ يُثْبِتهُ، وَأَمَّا سَائِر الصِّفَات فَظَاهِر الْحَال يَشْهَد لَهُ وَيُكْتَفَى بِهِ فِيهَا.
وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ أَخْرَجَهُمَا أَهْل الصَّحِيح، وَهُوَ ظَاهِر الْقُرْآن.
رَوَى مُسْلِم عَنْ جَرِير عَنْ أَبِيهِ قَالَ : كُنَّا عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَدْر النَّهَار، قَالَ : فَجَاءَهُ قَوْم حُفَاة عُرَاة مُجْتَابِي النِّمَار أَوْ الْعَبَاء مُتَقَلِّدِي السُّيُوف، عَامَّتهمْ مِنْ مُضَر بَلْ كُلّهمْ مِنْ مُضَر، فَتَمَعَّرَ وَجْه رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى بِهِمْ مِنْ الْفَاقَة، فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ فَصَلَّى، ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ :" يَا أَيّهَا النَّاس اِتَّقُوا رَبّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ - الْآيَة إِلَى قَوْله - رَقِيبًا " [ النِّسَاء : ١ ] وَالْآيَة الَّتِي فِي الْحَشْر " وَلْتَنْظُرْ نَفْس مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ " [ الْحَشْر : ١٨ ] تَصَدَّقَ رَجُل مِنْ دِينَاره مِنْ ثَوْبه مِنْ صَاع بُرّه - حَتَّى قَالَ - وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَة.
قَالَ : فَجَاءَ رَجُل مِنْ الْأَنْصَار بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفّه تَعْجِز عَنْهَا بَلْ قَدْ عَجَزَتْ، قَالَ : ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاس حَتَّى رَأَيْت كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَام وَثِيَاب، حَتَّى رَأَيْت وَجْه رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَهَلَّل كَأَنَّهُ مُذْهَبَة فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَام سُنَّة حَسَنَة فَلَهُ أَجْرهَا وَأَجْر مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْده مِنْ غَيْر أَنْ يَنْقُص مِنْ أُجُورهمْ شَيْء وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَام سُنَّة سَيِّئَة كَانَ عَلَيْهِ وِزْرهَا وَوِزْر مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْده مِنْ غَيْر أَنْ يَنْقُص مِنْ أَوْزَارهمْ شَيْء ).
فَاكْتَفَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِظَاهِرِ حَالهمْ وَحَثَّ عَلَى الصَّدَقَة، وَلَمْ يَطْلُب مِنْهُمْ بَيِّنَة، وَلَا اِسْتَقْصَى هَلْ عِنْدهمْ مَال أَمْ لَا.
وَمِثْله حَدِيث أَبْرَص وَأَقْرَع وَأَعْمَى أَخْرَجَهُ مُسْلِم وَغَيْره.
وَهَذَا لَفْظه : عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّهُ سَمِعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول :( إِنَّ فِي بَنِي إِسْرَائِيل أَبْرَص وَأَقْرَع وَأَعْمَى فَأَرَادَ اللَّه أَنْ يَبْتَلِيهِمْ فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا فَأَتَى الْأَبْرَص فَقَالَ أَيّ شَيْء أَحَبّ إِلَيْك فَقَالَ لَوْن حَسَن وَجِلْد حَسَن وَيَذْهَب عَنِّي الَّذِي قَدْ قَذِرَنِي النَّاس قَالَ فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ قَذَره وَأُعْطِيَ لَوْنًا حَسَنًا وَجِلْدًا حَسَنًا قَالَ فَأَيّ الْمَال أَحَبّ إِلَيْك قَالَ الْإِبِل - أَوْ قَالَ الْبَقَر، شَكَّ إِسْحَاق، إِلَّا أَنَّ الْأَبْرَص أَوْ الْأَقْرَع قَالَ أَحَدهمَا الْإِبِل وَقَالَ الْآخَر الْبَقَر - قَالَ فَأُعْطِيَ نَاقَة عُشَرَاء قَالَ بَارَكَ اللَّه لَك فِيهَا قَالَ فَأَتَى الْأَقْرَع فَقَالَ أَيّ شَيْء أَحَبّ إِلَيْك قَالَ شَعْر حَسَن وَيَذْهَب عَنِّي هَذَا الَّذِي قَدْ قَذِرَنِي النَّاس قَالَ فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ قَالَ فَأُعْطِيَ شَعْرًا حَسَنًا قَالَ فَأَيّ الْمَال أَحَبّ إِلَيْك قَالَ الْبَقَر فَأُعْطِيَ بَقَرَة حَامِلًا قَالَ بَارَكَ اللَّه لَك فِيهَا قَالَ فَأَتَى الْأَعْمَى فَقَالَ أَيّ شَيْء أَحَبّ إِلَيْك قَالَ أَنْ يَرُدّ اللَّه إِلَيَّ بَصَرِي فَأُبْصِرَ بِهِ النَّاس قَالَ فَمَسَحَهُ فَرَدَّ اللَّه إِلَيْهِ بَصَره قَالَ فَأَيّ الْمَال أَحَبّ إِلَيْك قَالَ الْغَنَم فَأُعْطِيَ شَاة وَالِدًا فَأُنْتِجَ هَذَانِ وَوَلَّدَ هَذَا قَالَ فَكَانَ لِهَذَا وَادٍ مِنْ الْإِبِل وَلِهَذَا وَادٍ مِنْ الْبَقَر وَلِهَذَا وَادٍ مِنْ الْغَنَم قَالَ ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الْأَبْرَص فِي صُورَته وَهَيْئَته فَقَالَ رَجُل مِسْكِين قَدْ اِنْقَطَعَتْ بِي الْحِبَال فِي سَفَرِي فَلَا بَلَاغ لِي الْيَوْم إِلَّا بِاَللَّهِ وَبِك أَسْأَلك بِاَلَّذِي أَعْطَاك اللَّوْن الْحَسَن وَالْجِلْد الْحَسَن وَالْمَال بَعِيرًا أَتَبَلَّغ عَلَيْهِ فِي سَفَرِي فَقَالَ لَهُ الْحُقُوق كَثِيرَة فَقَالَ لَهُ كَأَنِّي أَعْرِفك أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَص يَقْذَرُك النَّاس فَقِيرًا فَأَعْطَاك اللَّه فَقَالَ إِنَّمَا وَرِثْت هَذَا الْمَال كَابِرًا عَنْ كَابِر فَقَالَ إِنْ كُنْت كَاذِبًا فَصَيَّرَك اللَّه إِلَى مَا كُنْت فَقَالَ وَأَتَى الْأَقْرَع فِي صُورَته فَقَالَ لَهُ مِثْل مَا قَالَ لِهَذَا وَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْل مَا رَدَّ عَلَى هَذَا فَقَالَ إِنْ كُنْت كَاذِبًا فَصَيَّرَك اللَّه إِلَى مَا كُنْت قَالَ وَأَتَى الْأَعْمَى فِي صُورَته وَهَيْئَته فَقَالَ رَجُل مِسْكِين وَابْن سَبِيل اِنْقَطَعَتْ بِي الْحِبَال فِي سَفَرِي فَلَا بَلَاغ لِي الْيَوْم إِلَّا بِاَللَّهِ ثُمَّ بِك أَسْأَلك بِاَلَّذِي رَدَّ عَلَيْك بَصَرك شَاة أَتَبَلَّغ بِهَا فِي سَفَرِي فَقَالَ قَدْ كُنْت أَعْمَى فَرَدَّ اللَّه إِلَيَّ بَصَرِي فَخُذْ مَا شِئْت وَدَعْ مَا شِئْت فَوَاَللَّهِ لَا أَجْهَدك الْيَوْم شَيْئًا أَخَذْته لِلَّهِ فَقَالَ أَمْسِكْ مَالَك فَإِنَّمَا اُبْتُلِيتُمْ فَقَدْ رُضِيَ عَنْك وَسُخِطَ عَلَى صَاحِبَيْك ).
وَفِي هَذَا أَدَلّ دَلِيل عَلَى أَنَّ مَنْ اِدَّعَى زِيَادَة عَلَى فَقْره مِنْ عِيَال أَوْ غَيْره لَا يُكْشَف عَنْهُ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ يُكْشَف عَنْهُ إِنْ قُدِرَ، فَإِنَّ فِي الْحَدِيث ( فَقَالَ رَجُل مِسْكِين وَابْن سَبِيل أَسْأَلك شَاة ) وَلَمْ يُكَلِّفهُ إِثْبَات السَّفَر.
فَأَمَّا الْمُكَاتَب فَإِنَّهُ يُكَلَّف إِثْبَات الْكِتَابَة لِأَنَّ الرِّقّ هُوَ الْأَصْل حَتَّى تَثْبُت الْحُرِّيَّة.
وَلَا يَجُوز أَنْ يُعْطِي مِنْ الزَّكَاة مِنْ تَلْزَمهُ نَفَقَته وَهُمْ الْوَالِدَانِ وَالْوَلَد وَالزَّوْجَة.
وَإِنْ أَعْطَى الْإِمَام صَدَقَة الرَّجُل لِوَلَدِهِ وَوَالِده وَزَوْجَته جَازَ.
وَأَمَّا أَنْ يَتَنَاوَل ذَلِكَ هُوَ بِنَفْسِهِ فَلَا، لِأَنَّهُ يُسْقِط بِهَا عَنْ نَفْسه فَرْضًا.
قَالَ أَبُو حَنِيفَة : وَلَا يُعْطَى مِنْهَا وَلَد اِبْنه وَلَا وَلَد اِبْنَته، وَلَا يُعْطِي مِنْهَا مُكَاتَبه وَلَا مُدَّبَّره وَلَا أُمّ وَلَده وَلَا عَبْدًا أَعْتَقَ نِصْفه، لِأَنَّهُ مَأْمُور بِالْإِيتَاءِ وَالْإِخْرَاج إِلَى اللَّه تَعَالَى بِوَاسِطَةِ كَفّ الْفَقِير، وَمَنَافِع الْأَمْلَاك مُشْتَرَكَة بَيْنه وَبَيْن هَؤُلَاءِ، وَلِهَذَا لَا تُقْبَل شَهَادَة بَعْضهمْ لِبَعْضٍ.
قَالَ : وَالْمُكَاتَب عَبْد مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَم وَرُبَّمَا يَعْجِز فَيَصِير الْكَسْب لَهُ.
وَمُعْتَق الْبَعْض عِنْد أَبِي حَنِيفَة بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَب.
وَعِنْد صَاحِبَيْهِ أَبِي يُوسُف وَمُحَمَّد بِمَنْزِلَةِ حُرّ عَلَيْهِ دَيْن فَيَجُوز أَدَاؤُهَا إِلَيْهِ.
فَإِنْ أَعْطَاهَا لِمَنْ لَا تَلْزَمهُ نَفَقَتهمْ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَهُ.
قَالَ مَالِك : خَوْف الْمَحْمَدَة.
وَحَكَى مُطَرِّف أَنَّهُ قَالَ : رَأَيْت مَالِكًا يُعْطِي زَكَاته لِأَقَارِبِهِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيّ قَالَ مَالِك : أَفْضَل مَنْ وَضَعْت فِيهِ زَكَاتك قَرَابَتك الَّذِينَ لَا تَعُول.
وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِزَوْجَةِ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود :( لَك أَجْرَانِ أَجْر الْقَرَابَة وَأَجْر الصَّدَقَة ).
وَاخْتَلَفُوا فِي إِعْطَاء الْمَرْأَة زَكَاتهَا لِزَوْجِهَا، فَذُكِرَ عَنْ اِبْن حَبِيب أَنَّهُ كَانَ يَسْتَعِين بِالنَّفَقَةِ عَلَيْهَا بِمَا تُعْطِيه.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : لَا يَجُوز، وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ فَقَالَا : يَجُوز.
وَهُوَ الْأَصَحّ لِمَا ثَبَتَ أَنَّ زَيْنَب اِمْرَأَة عَبْد اللَّه أَتَتْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : إِنِّي أُرِيد أَنْ أَتَصَدَّق عَلَى زَوْجِي أَيَجْزِينِي ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام :( نَعَمْ لَك أَجْرَانِ أَجْر الصَّدَقَة وَأَجْر الْقَرَابَة ).
وَالصَّدَقَة الْمُطْلَقَة هِيَ الزَّكَاة، وَلِأَنَّهُ لَا نَفَقَة لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيّ.
اِعْتَلَّ أَبُو حَنِيفَة فَقَالَ : مَنَافِع الْأَمْلَاك بَيْنهمَا مُشْتَرَكَة، حَتَّى لَا تُقْبَل شَهَادَة أَحَدهمَا لِصَاحِبِهِ.
وَالْحَدِيث مَحْمُول عَلَى التَّطَوُّع.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر وَأَشْهَب إِلَى إِجَازَة ذَلِكَ، إِذَا لَمْ يَصْرِفهُ إِلَيْهَا فِيمَا يَلْزَمهُ لَهَا، وَإِنَّمَا يَصْرِف مَا يَأْخُذهُ مِنْهَا فِي نَفَقَته وَكِسْوَته عَلَى نَفْسه وَيُنْفِق عَلَيْهَا مِنْ مَاله.
وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي قَدْر الْمُعْطَى، فَالْغَارِم يُعْطَى قَدْر دَيْنه، وَالْفَقِير وَالْمِسْكِين يُعْطَيَانِ كِفَايَتهمَا وَكِفَايَة عِيَالهمَا.
وَفِي جَوَاز إِعْطَاء النِّصَاب أَوْ أَقَلّ مِنْهُ خِلَاف يَنْبَنِي عَلَى الْخِلَاف الْمُتَقَدِّم فِي حَدّ الْفَقْر الَّذِي يَجُوز مَعَهُ الْأَخْذ.
وَرَوَى عَلِيّ بْن زِيَاد وَابْن نَافِع : لَيْسَ فِي ذَلِكَ حَدّ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اِجْتِهَاد الْوَالِي.
وَقَدْ تَقِلّ الْمَسَاكِين وَتَكْثُر الصَّدَقَة فَيُعْطَى الْفَقِير قُوت سَنَة.
وَرَوَى الْمُغِيرَة : يُعْطَى دُون النِّصَاب وَلَا يَبْلُغهُ.
وَقَالَ بَعْض الْمُتَأَخِّرِينَ : إِنْ كَانَ فِي الْبَلَد زَكَاتَانِ نَقْد وَحَرْث أَخَذَ مَا يُبَلِّغهُ إِلَى الْأُخْرَى.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : الَّذِي أَرَاهُ أَنْ يُعْطَى نِصَابًا، وَإِنْ كَانَ فِي الْبَلَد زَكَاتَانِ أَوْ أَكْثَر، فَإِنَّ الْغَرَض إِغْنَاء الْفَقِير حَتَّى يَصِير غَنِيًّا.
فَإِذَا أَخَذَ ذَلِكَ فَإِنْ حَضَرَتْ الزَّكَاة الْأُخْرَى وَعِنْده مَا يَكْفِيه أَخَذَهَا غَيْره.
قُلْت : هَذَا مَذْهَب أَصْحَاب الرَّأْي فِي إِعْطَاء النِّصَاب.
وَقَدْ كَرِهَ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَة مَعَ الْجَوَاز، وَأَجَازَهُ أَبُو يُوسُف، قَالَ : لِأَنَّ بَعْضه لِحَاجَتِهِ مَشْغُول لِلْحَالِ، فَكَانَ الْفَاضِل عَنْ حَاجَته لِلْحَالِ دُون الْمِائَتَيْنِ، وَإِذَا أَعْطَاهُ أَكْثَر مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَم جُمْلَة كَانَ الْفَاضِل عَنْ حَاجَته لِلْحَالِ قَدْر الْمِائَتَيْنِ فَلَا يَجُوز.
وَمِنْ مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّة مَنْ قَالَ : هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عِيَال وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْن، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْن فَلَا بَأْس أَنْ يُعْطِيه مِائَتَيْ دِرْهَم أَوْ أَكْثَر، مِقْدَار مَا لَوْ قَضَى بِهِ دَيْنه يَبْقَى لَهُ دُون الْمِائَتَيْنِ.
وَإِنْ كَانَ مُعِيلًا لَا بَأْس بِأَنْ يُعْطِيه مِقْدَار مَا لَوْ وُزِّعَ عَلَى عِيَاله أَصَابَ كُلّ وَاحِد مِنْهُمْ دُون الْمِائَتَيْنِ، لِأَنَّ التَّصَدُّق عَلَيْهِ فِي الْمَعْنَى تَصَدُّق عَلَيْهِ وَعَلَى عِيَاله.
وَهَذَا قَوْل حَسَن.
وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَاز صَدَقَة التَّطَوُّع لِبَنِي هَاشِم، فَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُور أَهْل الْعِلْم - وَهُوَ الصَّحِيح - أَنَّ صَدَقَة التَّطَوُّع لَا بَأْس بِهَا لِبَنِي هَاشِم وَمَوَالِيهمْ، لِأَنَّ عَلِيًّا وَالْعَبَّاس وَفَاطِمَة رِضْوَان اللَّه عَلَيْهِمْ تَصَدَّقُوا وَأَوْقَفُوا أَوْقَافًا عَلَى جَمَاعَة مِنْ بَنِي هَاشِم، وَصَدَقَاتهمْ الْمَوْقُوفَة مَعْرُوفَة مَشْهُورَة.
وَقَالَ اِبْن الْمَاجِشُون وَمُطَرِّف وَأَصْبَغ وَابْن حَبِيب : لَا يُعْطَى بَنُو هَاشِم مِنْ الصَّدَقَة الْمَفْرُوضَة وَلَا مِنْ التَّطَوُّع.
وَقَالَ اِبْن الْقَاسِم : يُعْطَى بَنُو هَاشِم مِنْ صَدَقَة التَّطَوُّع.
قَالَ اِبْن الْقَاسِم : وَالْحَدِيث الَّذِي جَاءَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( لَا تَحِلّ الصَّدَقَة لِآلِ مُحَمَّد ) إِنَّمَا ذَلِكَ فِي الزَّكَاة لَا فِي التَّطَوُّع.
وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْل اِبْن خُوَيْز مِنْدَاد، وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمَّد.
قَالَ اِبْن الْقَاسِم : وَيُعْطَى مَوَالِيهمْ مِنْ الصَّدَقَتَيْنِ.
وَقَالَ مَالِك فِي الْوَاضِحَة : لَا يُعْطَى لِآلِ مُحَمَّد مِنْ التَّطَوُّع.
قَالَ اِبْن الْقَاسِم :- قِيلَ لَهُ يَعْنِي مَالِكًا - فَمَوَالِيهمْ ؟ قَالَ : لَا أَدْرِي مَا الْمَوَالِي.
فَاحْتَجَجْت عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام :( مَوْلَى الْقَوْم مِنْهُمْ ).
فَقَالَ قَدْ قَالَ :( اِبْن أُخْت الْقَوْم مِنْهُمْ ).
قَالَ أَصْبَغ : وَذَلِكَ فِي الْبِرّ وَالْحُرْمَة.
فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَصْدَر عِنْد سِيبَوَيْهِ.
أَيْ فَرَضَ اللَّه الصَّدَقَات فَرِيضَة.
وَيَجُوز الرَّفْع عَلَى الْقَطْع فِي قَوْل الْكِسَائِيّ، أَيْ هُنَّ فَرِيضَة.
قَالَ الزَّجَّاج : وَلَا أَعْلَم أَنَّهُ قُرِئَ بِهِ.
قُلْت : قَرَأَ بِهَا إِبْرَاهِيم بْن أَبِي عَبْلَة، جَعَلَهَا خَبَرًا، كَمَا تَقُول : إِنَّمَا زَيْد خَارِج.
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ
بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ فِي الْمُنَافِقِينَ مَنْ كَانَ يَبْسُط لِسَانه بِالْوَقِيعَةِ فِي أَذِيَّة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقُول : إِنْ عَاتَبَنِي حَلَفْت لَهُ بِأَنِّي مَا قُلْت هَذَا فَيَقْبَلهُ، فَإِنَّهُ أُذُن سَامِعَة.
قَالَ الْجَوْهَرِيّ : يُقَال رَجُل أُذُن إِذَا كَانَ يَسْمَع مَقَال كُلّ أَحَد، يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِد وَالْجَمْع.
وَرَوَى عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى :" هُوَ أُذُن " قَالَ : مُسْتَمِع وَقَابِل.
وَهَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي عَتَّاب بْن قُشَيْر، قَالَ : إِنَّمَا مُحَمَّد أُذُن يَقْبَل كُلّ مَا قِيلَ لَهُ.
وَقِيلَ : هُوَ نَبْتَل بْن الْحَارِث، قَالَهُ اِبْن إِسْحَاق.
وَكَانَ نَبْتَل رَجُلًا جَسِيمًا ثَائِر شَعْر الرَّأْس وَاللِّحْيَة، آدَم أَحْمَر الْعَيْنَيْنِ أَسَفْع الْخَدَّيْنِ مُشَوَّه الْخِلْقَة، وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُر إِلَى الشَّيْطَان فَلْيَنْظُرْ إِلَى نَبْتَل بْن الْحَارِث ).
السُّفْعَة بِالضَّمِّ : سَوَاد مُشْرَب بِحُمْرَةٍ.
وَالرَّجُل أَسَفْع، عِنْد الْجَوْهَرِيّ.
وَقُرِئَ " أُذُن " بِضَمِّ الذَّال وَسُكُونهَا.
قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
أَيْ هُوَ أُذُن خَيْر لَا أُذُن شَرّ، أَيْ يَسْمَع الْخَيْر وَلَا يَسْمَع الشَّرّ.
وَقَرَأَ " قُلْ أُذُن خَيْر لَكُمْ " بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِين، الْحَسَن وَعَاصِم فِي رِوَايَة أَبِي بَكْر.
وَالْبَاقُونَ بِالْإِضَافَةِ، وَقَرَأَ حَمْزَة " وَرَحْمَة " بِالْخَفْضِ.
وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ عَطْف عَلَى " أُذُن "، وَالتَّقْدِير : قُلْ هُوَ أُذُن خَيْر وَهُوَ رَحْمَة، أَيْ هُوَ مُسْتَمِع خَيْر لَا مُسْتَمِع شَرّ، أَيْ هُوَ مُسْتَمِع مَا يُحِبّ اِسْتِمَاعه، وَهُوَ رَحْمَة.
وَمَنْ خَفَضَ فَعَلَى الْعَطْف عَلَى " خَيْر ".
قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا عِنْد أَهْل الْعَرَبِيَّة بَعِيد، لِأَنَّهُ قَدْ تَبَاعَدَ مَا بَيْن الِاسْمَيْنِ، وَهَذَا يُقَبَّح فِي الْمَخْفُوض.
الْمَهْدَوِيّ : وَمَنْ جَرّ الرَّحْمَة فَعَلَى الْعَطْف عَلَى " خَيْر " وَالْمَعْنَى مُسْتَمِع خَيْر وَمُسْتَمِع رَحْمَة، لِأَنَّ الرَّحْمَة مِنْ الْخَيْر.
وَلَا يَصِحّ عَطْف الرَّحْمَة عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ الْمَعْنَى يُصَدِّق بِاَللَّهِ وَيُصَدِّق الْمُؤْمِنِينَ ; فَاللَّام زَائِدَة فِي قَوْل الْكُوفِيِّينَ.
وَمِثْله " لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ " [ الْأَعْرَاف : ١٥٤ ] أَيْ يَرْهَبُونَ رَبّهمْ.
وَقَالَ أَبُو عَلِيّ : كَقَوْلِهِ " رَدِفَ لَكُمْ " [ النَّمْل : ٧٢ ] وَهِيَ عِنْد الْمُبَرِّد مُتَعَلِّقَة بِمَصْدَرِ دَلَّ عَلَيْهِ الْفِعْل، التَّقْدِير : إِيمَانه لِلْمُؤْمِنِينَ، أَيْ تَصْدِيقه لِلْمُؤْمِنِينَ لَا لِلْكُفَّارِ.
أَوْ يَكُون مَحْمُولًا عَلَى الْمَعْنَى، فَإِنَّ مَعْنَى يُؤْمِن يُصَدِّق، فَعُدِّيَ بِاللَّامِ كَمَا عُدِّيَ فِي قَوْله تَعَالَى :" مُصَدِّقًا لِمَا بَيْن يَدَيْهِ " [ الْمَائِدَة : ٤٦ ].
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ
رُوِيَ أَنَّ قَوْمًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ اِجْتَمَعُوا، فِيهِمْ الْجُلَاس بْن سُوَيْد وَوَدِيعَة بْن ثَابِت، وَفِيهِمْ غُلَام مِنْ الْأَنْصَار يُدْعَى عَامِر بْن قَيْس، فَحَقَّرُوهُ فَتَكَلَّمُوا وَقَالُوا : إِنْ كَانَ مَا يَقُول مُحَمَّد حَقًّا لَنَحْنُ شَرّ مِنْ الْحَمِير.
فَغَضِبَ الْغُلَام وَقَالَ : وَاَللَّه إِنَّ مَا يَقُول حَقّ وَأَنْتُمْ شَرّ مِنْ الْحَمِير، فَأَخْبَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِمْ، فَحَلَفُوا أَنَّ عَامِرًا كَاذِب، فَقَالَ عَامِر : هُمْ الْكَذَبَة، وَحَلَفَ عَلَى ذَلِكَ وَقَالَ : اللَّهُمَّ لَا تُفَرِّق بَيْننَا حَتَّى يَتَبَيَّن صِدْق الصَّادِق وَكَذِب الْكَاذِب.
فَأَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَة وَفِيهَا " يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ ".
وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ
اِبْتِدَاء وَخَبَر.
وَمَذْهَب سِيبَوَيْهِ أَنَّ التَّقْدِير : وَاَللَّه أَحَقّ أَنْ يُرْضُوهُ وَرَسُوله أَحَقّ أَنْ يُرْضُوهُ، ثُمَّ حَذَفَ، كَمَا قَالَ بَعْضهمْ :
نَحْنُ بِمَا عِنْدنَا وَأَنْتَ بِمَا عِنْدك رَاضٍ وَالرَّأْي مُخْتَلِف
وَقَالَ مُحَمَّد بْن يَزِيد : لَيْسَ فِي الْكَلَام مَحْذُوف، وَالتَّقْدِير، وَاَللَّه أَحَقّ أَنْ يُرْضُوهُ وَرَسُوله، عَلَى التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير.
وَقَالَ الْفَرَّاء : الْمَعْنَى وَرَسُوله أَحَقّ أَنْ يُرْضُوهُ، وَاَللَّه اِفْتِتَاح كَلَام، كَمَا تَقُول : مَا شَاءَ اللَّه وَشِئْت.
قَالَ النَّحَّاس : قَوْل سِيبَوَيْهِ أَوْلَاهَا، لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّهْي عَنْ أَنْ يُقَال : مَا شَاءَ اللَّه وَشِئْت، وَلَا يُقَدَّر فِي شَيْء تَقْدِيم وَلَا تَأْخِير، وَمَعْنَاهُ صَحِيح.
قُلْت : وَقِيلَ إِنَّ اللَّه سُبْحَانه جَعَلَ رِضَاهُ فِي رِضَاهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ :" مَنْ يُطِعْ الرَّسُول فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه " [ النِّسَاء ٨٠ ].
وَكَانَ الرَّبِيع بْن خَيْثَم إِذَا مَرَّ بِهَذِهِ الْآيَة وَقَفَ، ثُمَّ يَقُول : حَرْف وَأَيّمَا حَرْف فُوِّضَ إِلَيْهِ فَلَا يَأْمُرنَا إِلَّا بِخَيْرٍ.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَة قَبُول يَمِين الْحَالِف وَإِنْ لَمْ يَلْزَم الْمَحْلُوف لَهُ الرِّضَا.
وَالْيَمِين حَقّ لِلْمُدَّعِي.
وَتَضَمَّنَتْ أَنْ يَكُون الْيَمِين بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَسْب مَا تَقَدَّمَ.
وَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( مَنْ حَلَفَ فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُت وَمَنْ حُلِفَ لَهُ فَلْيُصَدِّقْ ).
وَقَدْ مَضَى الْقَوْل فِي الْأَيْمَان وَالِاسْتِثْنَاء فِيهَا مُسْتَوْفًى فِي الْمَائِدَة.
أَلَمْ يَعْلَمُوا
يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ.
وَقَرَأَ اِبْن هُرْمُز وَالْحَسَن " تَعْلَمُوا " بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَاب.
أَنَّهُ
فِي مَوْضِع نَصْب ب " يَعْلَمُوا "، وَالْهَاء كِنَايَة عَنْ الْحَدِيث.
مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
فِي مَوْضِع رَفْع بِالِابْتِدَاءِ.
وَالْمُحَادَّة : وُقُوع هَذَا فِي حَدّ وَذَاكَ فِي حَدّ، كَالْمُشَاقَّةِ.
يُقَال : حَادّ فُلَان فُلَانًا أَيْ صَارَ فِي حَدّ غَيْر حَدّه.
فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ
يُقَال : مَا بَعْد الْفَاء فِي الشَّرْط مُبْتَدَأ، فَكَانَ يَجِب أَنْ يَكُون " فَإِنَّ " بِكَسْرِ الْهَمْزَة.
وَقَدْ أَجَازَ الْخَلِيل وَسِيبَوَيْهِ " فَإِنَّ لَهُ نَار جَهَنَّم " بِالْكَسْرِ.
قَالَ سِيبَوَيْهِ : وَهُوَ جَيِّد وَأَنْشَدَ :
وَعِلْمِي بِأَسْدَامِ الْمِيَاه فَلَمْ تَزَلْ قَلَائِص تَخْدِي فِي طَرِيق طَلَائِح
وَأَنِّي إِذَا مَلَّتْ رِكَابِي مُنَاخهَا فَإِنِّي عَلَى حَظِّي مِنْ الْأَمْر جَامِح
إِلَّا أَنَّ قِرَاءَة الْعَامَّة " فَأَنَّ " بِفَتْحِ الْهَمْزَة.
فَقَالَ الْخَلِيل أَيْضًا وَسِيبَوَيْهِ : إِنَّ " أَنَّ " الثَّانِيَة مُبْدَلَة مِنْ الْأُولَى.
وَزَعَمَ الْمُبَرِّد أَنَّ هَذَا الْقَوْل مَرْدُود، وَأَنَّ الصَّحِيح مَا قَالَهُ الْجَرْمِيّ، قَالَ : إِنَّ الثَّانِيَة مُكَرَّرَة لِلتَّوْكِيدِ لَمَّا طَالَ الْكَلَام، وَنَظِيره " وَهُمْ فِي الْآخِرَة هُمْ الْأَخْسَرُونَ " [ النَّمْل : ٥ ].
وَكَذَا " فَكَانَ عَاقِبَتهمَا أَنَّهُمَا فِي النَّار خَالِدَيْنِ فِيهَا " [ الْحَشْر : ١٧ ].
وَقَالَ الْأَخْفَش : الْمَعْنَى فَوُجُوب النَّار لَهُ.
وَأَنْكَرَهُ الْمُبَرِّد وَقَالَ : هَذَا خَطَأ مِنْ أَجْل أَنَّ " أَنَّ " الْمَفْتُوحَة الْمُشَدَّدَة لَا يُبْتَدَأ بِهَا وَيُضْمَر الْخَبَر.
وَقَالَ عَلِيّ بْن سُلَيْمَان : الْمَعْنَى فَالْوَاجِب أَنَّ لَهُ نَار جَهَنَّم، فَإِنَّ الثَّانِيَة خَبَر اِبْتِدَاء مَحْذُوف.
وَقِيلَ : التَّقْدِير فَلَهُ أَنَّ لَهُ نَار جَهَنَّم.
فَإِنَّ مَرْفُوعَة بِالِاسْتِقْرَارِ عَلَى إِضْمَار الْمَجْرُور بَيْن الْفَاء وَأَنَّ.
يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ
خَبَر وَلَيْسَ بِأَمْرٍ.
وَيَدُلّ عَلَى أَنَّهُ خَبَر أَنَّ مَا بَعْده " إِنَّ اللَّه مُخْرِج مَا تَحْذَرُونَ " لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا عِنَادًا.
وَقَالَ السُّدِّيّ : قَالَ بَعْض الْمُنَافِقِينَ وَاَللَّه وَدِدْت لَوْ أَنِّي قُدِّمْت فَجُلِدْت مِائَة وَلَا يَنْزِل فِينَا شَيْء يَفْضَحنَا، فَنَزَلَتْ الْآيَة.
" يَحْذَر " أَيْ يَتَحَرَّز.
وَقَالَ الزَّجَّاج : مَعْنَاهُ لِيَحْذَر، فَهُوَ أَمْر، كَمَا يُقَال : يَفْعَل ذَلِكَ.
أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ
" أَنْ " فِي مَوْضِع نَصْب، أَيْ مِنْ أَنْ تُنَزَّل.
وَيَجُوز عَلَى قَوْل سِيبَوَيْهِ أَنْ تَكُون فِي مَوْضِع خَفْض عَلَى حَذْف مِنْ.
وَيَجُوز أَنْ تَكُون فِي مَوْضِع نَصْب مَفْعُولَة لِيَحْذَر، لِأَنَّ سِيبَوَيْهِ أَجَازَ : حَذِرْت زَيْدًا، وَأَنْشَدَ :
حَذِر أُمُورًا لَا تَضِير وَآمِن مَا لَيْسَ مُنْجِيه مِنْ الْأَقْدَار
وَلَمْ يُجِزْهُ الْمُبَرِّد، لِأَنَّ الْحَذَر شَيْء فِي الْهَيْئَة.
وَمَعْنَى " عَلَيْهِمْ " أَيْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ
فِي شَأْن الْمُنَافِقِينَ تُخْبِرهُمْ بِمَخَازِيهِمْ وَمَسَاوِيهِمْ وَمَثَالِبهمْ، وَلِهَذَا سُمِّيَتْ الْفَاضِحَة وَالْمُثِيرَة وَالْمُبَعْثِرَة، كَمَا تَقَدَّمَ أَوَّل السُّورَة.
وَقَالَ الْحَسَن : كَانَ الْمُسْلِمُونَ يُسَمُّونَ هَذِهِ السُّورَة الْحَفَّارَة لِأَنَّهَا حَفَرَتْ مَا فِي قُلُوب الْمُنَافِقِينَ فَأَظْهَرَتْهُ.
قُلِ اسْتَهْزِئُوا
هَذَا أَمْر وَعِيد وَتَهْدِيد.
إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ
أَيْ مُظْهِر " مَا تَحْذَرُونَ " ظُهُوره.
قَالَ اِبْن عَبَّاس : أَنْزَلَ اللَّه أَسْمَاء الْمُنَافِقِينَ وَكَانُوا سَبْعِينَ رَجُلًا، ثُمَّ نَسَخَ تِلْكَ الْأَسْمَاء مِنْ الْقُرْآن رَأْفَة مِنْهُ وَرَحْمَة، لِأَنَّ أَوْلَادهمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ وَالنَّاس يُعَيِّر بَعْضهمْ بَعْضًا.
فَعَلَى هَذَا قَدْ أَنْجَزَ اللَّه وَعْده بِإِظْهَارِهِ ذَلِكَ إِذْ قَالَ :" إِنَّ اللَّه مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ ".
وَقِيلَ : إِخْرَاج اللَّه أَنَّهُ عَرَّفَ نَبِيّه عَلَيْهِ السَّلَام أَحْوَالهمْ وَأَسْمَاءَهُمْ لَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْقُرْآن، وَلَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى :" وَلَتَعْرِفَنَّهُم فِي لَحْن الْقَوْل " [ مُحَمَّد : ٣٠ ] وَهُوَ نَوْع إِلْهَام.
وَكَانَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ مَنْ يَتَرَدَّد وَلَا يَقْطَع بِتَكْذِيبِ مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام وَلَا بِصِدْقِهِ.
وَكَانَ فِيهِمْ مَنْ يَعْرِف صِدْقه وَيُعَانِد.
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ
فِيهِ ثَلَاث مَسَائِل : الْأُولَى : هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي غَزْوَة تَبُوك.
قَالَ الطَّبَرِيّ وَغَيْره عَنْ قَتَادَة : بَيْنَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسِير فِي غَزْوَة تَبُوك وَرَكْب مِنْ الْمُنَافِقِينَ يَسِيرُونَ بَيْن يَدَيْهِ فَقَالُوا : اُنْظُرُوا، هَذَا يَفْتَح قُصُور الشَّام وَيَأْخُذ حُصُون بَنِي الْأَصْفَر ! فَأَطْلَعَهُ اللَّه سُبْحَانه عَلَى مَا فِي قُلُوبهمْ وَمَا يَتَحَدَّثُونَ بِهِ، فَقَالَ :( اِحْبِسُوا عَلَيَّ الرَّكْب - ثُمَّ أَتَاهُمْ فَقَالَ - قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا ) فَحَلَفُوا : مَا كُنَّا إِلَّا نَخُوض وَنَلْعَب، يُرِيدُونَ كُنَّا غَيْر مُجِدِّينَ.
وَذَكَرَ الطَّبَرِيّ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عُمَر قَالَ : رَأَيْت قَائِل هَذِهِ الْمَقَالَة وَدِيعَة بْن ثَابِت مُتَعَلِّقًا بِحَقَبِ نَاقَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُمَاشِيهَا وَالْحِجَارَة تُنَكِّبهُ وَهُوَ يَقُول : إِنَّمَا كُنَّا نَخُوض وَنَلْعَب.
وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول :" أَبِاَللَّهِ وَآيَاته وَرَسُوله كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ".
وَذَكَرَ النَّقَّاش أَنَّ هَذَا الْمُتَعَلِّق كَانَ عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ ابْن سَلُول.
وَكَذَا ذَكَرَ الْقُشَيْرِيّ عَنْ اِبْن عُمَر.
قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَذَلِكَ خَطَأ، لِأَنَّهُ لَمْ يَشْهَد تَبُوك.
قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَقِيلَ إِنَّمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام هَذَا لِوَدِيعَة بْن ثَابِت وَكَانَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَكَانَ فِي غَزْوَة تَبُوك.
وَالْخَوْض : الدُّخُول فِي الْمَاء، ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ فِي كُلّ دُخُول فِيهِ تَلْوِيث وَأَذًى.
الثَّانِيَة : قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ : لَا يَخْلُو أَنْ يَكُون مَا قَالُوهُ مِنْ ذَلِكَ جِدًّا أَوْ هَزْلًا، وَهُوَ كَيْفَمَا كَانَ كُفْر، فَإِنَّ الْهَزْل بِالْكُفْرِ كُفْر لَا خِلَاف فِيهِ بَيْن الْأُمَّة.
فَإِنَّ التَّحْقِيق أَخُو الْعِلْم وَالْحَقّ، وَالْهَزْل أَخُو الْبَاطِل وَالْجَهْل.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : اُنْظُرْ إِلَى قَوْله :" أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذ بِاَللَّهِ أَنْ أَكُون مِنْ الْجَاهِلِينَ " [ الْبَقَرَة : ٦٧ ].
الثَّالِثَة : وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْهَزْل فِي سَائِر الْأَحْكَام كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاح وَالطَّلَاق عَلَى ثَلَاثَة أَقْوَال : لَا يَلْزَم مُطْلَقًا.
يَلْزَم مُطْلَقًا.
التَّفْرِقَة بَيْن الْبَيْع وَغَيْره.
فَيَلْزَم فِي النِّكَاح وَالطَّلَاق، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ فِي الطَّلَاق قَوْلًا وَاحِدًا.
وَلَا يَلْزَم فِي الْبَيْع.
قَالَ مَالِك فِي كِتَاب مُحَمَّد : يَلْزَم نِكَاح الْهَازِل.
وَقَالَ أَبُو زَيْد عَنْ اِبْن الْقَاسِم فِي الْعُتْبِيَّة : لَا يَلْزَم.
وَقَالَ عَلِيّ بْن زِيَاد : يُفْسَخ قَبْل وَبَعْد.
وَلِلشَّافِعِيِّ فِي بَيْع الْهَازِل قَوْلَانِ.
وَكَذَلِكَ يَخْرُج مِنْ قَوْل عُلَمَائِنَا الْقَوْلَانِ.
وَحَكَى اِبْن الْمُنْذِر الْإِجْمَاع فِي أَنَّ جِدّ الطَّلَاق وَهَزْله سَوَاء.
وَقَالَ بَعْض الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابنَا : إِنْ اِتَّفَقَا عَلَى الْهَزْل فِي النِّكَاح وَالْبَيْع لَمْ يَلْزَم، وَإِنْ اِخْتَلَفَا غَلَبَ الْجِدّ الْهَزْل.
وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( ثَلَاث جِدّهنَّ جِدّ وَهَزْلهنَّ جِدّ النِّكَاح وَالطَّلَاق وَالرَّجْعَة ).
قَالَ التِّرْمِذِيّ : حَدِيث حَسَن غَرِيب، وَالْعَمَل عَلَى هَذَا عِنْد أَهْل الْعِلْم مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرهمْ.
قُلْت : كَذَا فِي الْحَدِيث ( وَالرَّجْعَة ) وَفِي مُوَطَّإِ مَالِك عَنْ يَحْيَى بْن سَعِيد عَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب قَالَ : ثَلَاث لَيْسَ فِيهِمْ لَعِب النِّكَاح وَالطَّلَاق وَالْعِتْق.
وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَعَبْد اللَّه بْن مَسْعُود وَأَبِي الدَّرْدَاء، كُلّهمْ قَالَ :( ثَلَاث لَا لَعِب فِيهِنَّ وَلَا رُجُوع فِيهِنَّ وَاللَّاعِب فِيهِنَّ جَادّ النِّكَاح وَالطَّلَاق وَالْعِتْق ) وَعَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب عَنْ عُمَر قَالَ :( أَرْبَع جَائِزَات عَلَى كُلّ أَحَد الْعِتْق وَالطَّلَاق وَالنِّكَاح وَالنُّذُور ) وَعَنْ الضَّحَّاك قَالَ : ثَلَاث لَا لَعِب فِيهِنَّ، النِّكَاح وَالطَّلَاق وَالنُّذُور.
لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ
عَلَى جِهَة التَّوْبِيخ، كَأَنَّهُ يَقُول : لَا تَفْعَلُوا مَا لَا يَنْفَع، ثُمَّ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ وَعَدَم الِاعْتِذَار مِنْ الذَّنْب.
وَاعْتَذَرَ بِمَعْنَى أَعْذَرَ، أَيْ صَارَ ذَا عُذْر.
قَالَ لَبِيد :
وَمَنْ يَبْكِ حَوْلًا كَامِلًا فَقَدْ اِعْتَذَرَ
وَالِاعْتِذَار : مَحْو أَثَر الْمَوْجِدَة، يُقَال : اِعْتَذَرَتْ الْمَنَازِل دَرَسَتْ.
وَالِاعْتِذَار الدُّرُوس.
قَالَ الشَّاعِر :
أَمْ كُنْت تَعْرِف آيَات فَقَدْ جَعَلَتْ أَطْلَال إِلْفك بِالْوَدْكَاءِ تَعْتَذِر
وَقَالَ اِبْن الْأَعْرَابِيّ : أَصْله الْقَطْع.
وَاعْتَذَرْت إِلَيْهِ قَطَعْت مَا فِي قَلْبه مِنْ الْمَوْجِدَة.
وَمِنْهُ عُذْرَة الْغُلَام وَهُوَ مَا يُقْطَع مِنْهُ عِنْد الْخِتَان.
وَمِنْهُ عُذْرَة الْجَارِيَة لِأَنَّهُ يَقْطَع خَاتَم عُذْرَتهَا.
إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ
قِيلَ : كَانُوا ثَلَاثَة نَفَر، هَزِئَ اِثْنَانِ وَضَحِكَ وَاحِد، فَالْمَعْفُوّ عَنْهُ هُوَ الَّذِي ضَحِكَ وَلَمْ يَتَكَلَّم.
وَالطَّائِفَة الْجَمَاعَة، وَيُقَال لِلْوَاحِدِ عَلَى مَعْنَى نَفْس طَائِفَة.
وَقَالَ اِبْن الْأَنْبَارِيّ : يُطْلَق لَفْظ الْجَمْع عَلَى الْوَاحِد، كَقَوْلِك : خَرَجَ فُلَان عَلَى الْبِغَال.
قَالَ : وَيَجُوز أَنْ تَكُون الطَّائِفَة إِذَا أُرِيدَ بِهَا الْوَاحِد طَائِفًا، وَالْهَاء لِلْمُبَالَغَةِ.
وَاخْتُلِفَ فِي اِسْم هَذَا الرَّجُل الَّذِي عُفِيَ عَنْهُ عَلَى أَقْوَال.
فَقِيلَ : مَخْشِيّ بْن حُمَيِّر، قَالَهُ اِبْن إِسْحَاق.
وَقَالَ اِبْن هِشَام : وَيُقَال فِيهِ اِبْن مَخْشِيّ.
وَقَالَ خَلِيفَة بْن خَيَّاط فِي تَارِيخه : اِسْمه مُخَاشِن بْن حُمَيِّر.
وَذَكَرَ اِبْن عَبْد الْبَرّ مُخَاشِن الْحِمْيَرِيّ وَذَكَرَ السُّهَيْلِيّ مُخَشِّن بْن خُمَيِّر.
وَذَكَرَ جَمِيعهمْ أَنَّهُ اُسْتُشْهِدَ بِالْيَمَامَةِ، وَكَانَ تَابَ وَسُمِّيَ عَبْد الرَّحْمَن، فَدَعَا اللَّه أَنْ يُقْتَل شَهِيدًا وَلَا يُعْلَم بِقَبْرِهِ.
وَاخْتُلِفَ هَلْ كَانَ مُنَافِقًا أَوْ مُسْلِمًا.
فَقِيلَ : كَانَ مُنَافِقًا ثُمَّ تَابَ تَوْبَة نَصُوحًا.
وَقِيلَ : كَانَ مُسْلِمًا، إِلَّا أَنَّهُ سَمِعَ الْمُنَافِقِينَ فَضَحِكَ لَهُمْ وَلَمْ يُنْكِر عَلَيْهِمْ.
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ
" الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَات " اِبْتِدَاء.
" بَعْضهمْ " اِبْتِدَاء ثَانٍ.
وَيَجُوز أَنْ يَكُون بَدَلًا، وَيَكُون الْخَبَر " مِنْ بَعْض ".
وَمَعْنَى " بَعْضهمْ مِنْ بَعْض " أَيْ هُمْ كَالشَّيْءِ الْوَاحِد فِي الْخُرُوج عَنْ الدِّين.
وَقَالَ الزَّجَّاج، هَذَا مُتَّصِل بِقَوْلِهِ :" يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ " [ التَّوْبَة : ٥٦ ] أَيْ لَيْسُوا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَكِنَّ بَعْضهمْ مِنْ بَعْض،
يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
أَيْ مُتَشَابِهُونَ فِي الْأَمْر بِالْمُنْكَرِ وَالنَّهْي عَنْ الْمَعْرُوف.
وَقَبْض أَيْدِيهمْ عِبَارَة عَنْ تَرْك الْجِهَاد، وَفِيمَا يَجِب عَلَيْهِمْ مِنْ حَقّ.
وَالنِّسْيَان : التَّرْك هُنَا، أَيْ تَرَكُوا مَا أَمَرَهُمْ اللَّه بِهِ فَتَرَكَهُمْ فِي الشَّكّ.
وَقِيلَ : إِنَّهُمْ تَرَكُوا أَمْره حَتَّى صَارَ كَالْمَنْسِيِّ فَصَيَّرَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمَنْسِيّ مِنْ ثَوَابه.
وَقَالَ قَتَادَة :" نَسِيَهُمْ " أَيْ مِنْ الْخَيْر، فَأَمَّا مِنْ الشَّرّ فَلَمْ يَنْسَهُمْ.
وَالْفِسْق : الْخُرُوج عَنْ الطَّاعَة وَالدِّين.
وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا
يُقَال : وَعَدَ اللَّه بِالْخَيْرِ وَعْدًا.
وَوَعَدَ بِالشَّرِّ وَعِيدًا " خَالِدِينَ " نُصِبَ عَلَى الْحَال وَالْعَامِل مَحْذُوف، أَيْ يَصْلَوْنَهَا خَالِدِينَ.
هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ
اِبْتِدَاء وَخَبَر، أَيْ هِيَ كِفَايَة وَوَفَاء لِجَزَاءِ أَعْمَالهمْ.
وَاللَّعْن : الْبُعْد، أَيْ مِنْ رَحْمَة اللَّه، وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ
أَيْ وَاصِب دَائِم.
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ
" كَاَلَّذِينَ مِنْ قَبْلكُمْ " قَالَ الزَّجَّاج : الْكَاف فِي مَوْضِع نَصْب، أَيْ وَعَدَ اللَّه الْكُفَّار نَار جَهَنَّم وَعْدًا كَمَا وَعَدَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلهمْ.
وَقِيلَ : الْمَعْنَى فَعَلْتُمْ كَأَفْعَالِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلكُمْ فِي الْأَمْر بِالْمُنْكَرِ وَالنَّهْي عَنْ الْمَعْرُوف، فَحَذَفَ الْمُضَاف.
وَقِيلَ : أَيْ أَنْتُمْ كَاَلَّذِينَ مِنْ قَبْلكُمْ، فَالْكَاف فِي مَحَلّ رَفْع لِأَنَّهُ خَبَر اِبْتِدَاء مَحْذُوف.
وَلَمْ يَنْصَرِف " أَشَدّ " لِأَنَّهُ أَفْعَل صِفَة.
وَالْأَصْل فِيهِ أَشْدَد، أَيْ كَانُوا أَشَدّ مِنْكُمْ قُوَّة فَلَمْ يَتَهَيَّأ لَهُمْ وَلَا أَمْكَنَهُمْ رَفْع عَذَاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ.
رَوَى سَعِيد عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ( تَأْخُذُونَ كَمَا أَخَذَتْ الْأُمَم قَبْلكُمْ ذِرَاعًا بِذِرَاعٍ وَشِبْرًا بِشِبْرٍ وَبَاعًا بِبَاعٍ حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدًا مِنْ أُولَئِكَ دَخَلَ جُحْر ضَبّ لَدَخَلْتُمُوهُ ).
قَالَ أَبُو هُرَيْرَة : وَإِنْ شِئْتُمْ فَاقْرَءُوا الْقُرْآن :" كَاَلَّذِينَ مِنْ قَبْلكُمْ كَانُوا أَشَدّ مِنْكُمْ قُوَّة وَأَكْثَر أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ " قَالَ أَبُو هُرَيْرَة : وَالْخَلَاق، الدِّين " فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اِسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلكُمْ بِخَلَاقِهِمْ " حَتَّى فَرَغَ مِنْ الْآيَة.
قَالُوا : يَا نَبِيّ اللَّه، فَمَا صَنَعَتْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى ؟ قَالَ :( وَمَا النَّاس إِلَّا هُمْ ).
وَفِي الصَّحِيح عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( لَتَتَّبِعُنَّ سَنَن مَنْ قَبْلكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْر ضَبّ لَدَخَلْتُمُوهُ ) قَالُوا : يَا رَسُول اللَّه، الْيَهُود وَالنَّصَارَى ؟ قَالَ :( فَمَنْ ) ؟ وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : مَا أَشْبَهَ اللَّيْلَة بِالْبَارِحَةِ، هَؤُلَاءِ بَنُو إِسْرَائِيل شُبِّهْنَا بِهِمْ.
وَنَحْوه عَنْ اِبْن مَسْعُود.
" فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ " أَيْ اِنْتَفَعُوا بِنَصِيبِهِمْ مِنْ الدِّين كَمَا فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلهمْ.
وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا
" وَخُضْتُمْ " خُرُوج مِنْ الْغَيْبَة إِلَى الْخِطَاب.
" كَاَلَّذِي خَاضُوا " أَيْ كَخَوْضِهِمْ.
فَالْكَاف فِي مَوْضِع نَصْب نَعْت لِمَصْدَرٍ مَحْذُوف، أَيْ وَخُضْتُمْ خَوْضًا كَاَلَّذِينَ خَاضُوا.
و " الَّذِي " اِسْم نَاقِص مِثْل مَنْ، يُعَبَّر بِهِ عَنْ الْوَاحِد وَالْجَمْع.
وَقَدْ مَضَى فِي [ الْبَقَرَة ] وَيُقَال : خُضْت الْمَاء أَخُوضهُ خَوْضًا وَخِيَاضًا.
وَالْمَوْضِع مَخَاضَة، وَهُوَ مَا جَازَ النَّاس فِيهَا مُشَاة وَرُكْبَانًا.
وَجَمْعهَا الْمَخَاض وَالْمَخَاوِض أَيْضًا، عَنْ أَبِي زَيْد.
وَأَخَضْت دَابَّتِي فِي الْمَاء.
وَأَخَاضَ الْقَوْم، أَيْ خَاضَتْ خَيْلهمْ.
وَخُضْت الْغَمَرَات : اِقْتَحَمْتهَا.
وَيُقَال : خَاضَهُ بِالسَّيْفِ، أَيْ حَرَّكَ سَيْفه فِي الْمَضْرُوب.
وَخَوَّضَ فِي نَجِيعه شَدَّدَ لِلْمُبَالَغَةِ.
وَالْمِخْوَض لِلشَّرَابِ كَالْمِجْدَعِ لِلسَّوِيقِ، يُقَال مِنْهُ : خُضْت الشَّرَاب.
وَخَاضَ الْقَوْم فِي الْحَدِيث وَتَخَاوَضُوا أَيْ تَفَاوَضُوا فِيهِ، فَالْمَعْنَى : خُضْتُمْ فِي أَسْبَاب الدُّنْيَا بِاللَّهْوِ وَاللَّعِب.
وَقِيلَ : فِي أَمْر مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّكْذِيبِ.
أُولَئِكَ حَبِطَتْ
بَطَلَتْ وَفَسَدَتْ وَمِنْهُ الْحَبَط وَهُوَ فَسَاد يَلْحَق الْمَوَاشِي فِي بُطُونهَا مِنْ كَثْرَة أَكْلهَا الْكَلَأ فَتَنْتَفِخ.
أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ
حَسَنَاتهمْ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا.
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ
أَيْ خَبَر
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
الْأَلِف لِمَعْنَى التَّقْرِير وَالتَّحْذِير، أَيْ أَلَمْ يَسْمَعُوا إِهْلَاكنَا الْكُفَّار مِنْ قَبْل.
قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ
بَدَل مِنْ الَّذِينَ.
وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ
أَيْ نُمْرُود بْن كَنْعَان وَقَوْمه.
وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ
مَدْيَن اِسْم لِلْبَلَدِ الَّذِي كَانَ فِيهِ شُعَيْب، أُهْلِكُوا بِعَذَابِ يَوْم الظُّلَّة.
وَالْمُؤْتَفِكَاتِ
قِيلَ : يُرَاد بِهِ قَوْم لُوط، لِأَنَّ أَرْضهمْ اِئْتَفَكَتْ بِهِمْ، أَيْ اِنْقَلَبَتْ، قَالَهُ قَتَادَة.
وَقِيلَ : الْمُؤْتَفِكَات كُلّ مَنْ أُهْلِكَ، كَمَا يُقَال : اِنْقَلَبَتْ عَلَيْهِمْ الدُّنْيَا.
أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ
يَعْنِي جَمِيع الْأَنْبِيَاء.
وَقِيلَ : أَتَتْ أَصْحَاب الْمُؤْتَفِكَات رُسُلهمْ، فَعَلَى هَذَا رَسُولهمْ لُوط وَحْده، وَلَكِنَّهُ بَعَثَ فِي كُلّ قَرْيَة رَسُولًا، وَكَانَتْ ثَلَاث قَرَيَات، وَقِيلَ أَرْبَع.
وَقَوْله تَعَالَى فِي مَوْضِع آخَر :" وَالْمُؤْتَفِكَة " [ النَّجْم : ٥٣ ] عَلَى طَرِيق الْجِنْس.
وَقِيلَ : أَرَادَ بِالرُّسُلِ الْوَاحِد، كَقَوْلِهِ " يَا أَيّهَا الرُّسُل كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَات " [ الْمُؤْمِنُونَ : ٥١ ] وَلَمْ يَكُنْ فِي عَصْره غَيْره.
قُلْت : وَهَذَا فِيهِ نَظَر، لِلْحَدِيثِ الصَّحِيح عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( إِنَّ اللَّه خَاطَبَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ ) الْحَدِيث.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة ".
وَالْمُرَاد جَمِيع الرُّسُل، وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله تَعَالَى :
فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ
أَيْ لِيُهْلِكهُمْ حَتَّى يَبْعَث إِلَيْهِمْ الْأَنْبِيَاء.
وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسهمْ بَعْد قِيَام الْحُجَّة عَلَيْهِمْ.
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ
أَيْ قُلُوبهمْ مُتَّحِدَة فِي التَّوَادّ وَالتَّحَابّ وَالتَّعَاطُف.
وَقَالَ فِي الْمُنَافِقِينَ " بَعْضهمْ مِنْ بَعْض " لِأَنَّ قُلُوبهمْ مُخْتَلِفَة وَلَكِنْ يَضُمّ بَعْضهمْ إِلَى بَعْض فِي الْحُكْم.
يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
أَيْ بِعِبَادَةِ اللَّه تَعَالَى وَتَوْحِيده، وَكُلّ مَا أَتْبَع ذَلِكَ.
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ
عَنْ عِبَادَة الْأَوْثَان وَكُلّ مَا أَتْبَع ذَلِكَ.
وَذَكَرَ الطَّبَرِيّ عَنْ أَبِي الْعَالِيَة أَنَّهُ قَالَ : كُلّ مَا ذَكَرَ اللَّه فِي الْقُرْآن مِنْ الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر فَهُوَ النَّهْي عَنْ عِبَادَة الْأَوْثَان وَالشَّيَاطِين.
وَقَدْ مَضَى الْقَوْل فِي الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر فِي سُورَة [ الْمَائِدَة ] و [ آل عِمْرَان ] وَالْحَمْد لِلَّهِ.
وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ
تَقَدَّمَ فِي أَوَّل " الْبَقَرَة " الْقَوْل فِيهِ.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : هِيَ الصَّلَوَات الْخَمْس، وَبِحَسَبِ هَذَا تَكُون الزَّكَاة هُنَا الْمَفْرُوضَة.
اِبْن عَطِيَّة : وَالْمَدْح عِنْدِي بِالنَّوَافِلِ أَبْلَغ ; إِذْ مَنْ يُقِيم النَّوَافِل أَحْرَى بِإِقَامَةِ الْفَرَائِض.
وَيُطِيعُونَ اللَّهَ
فِي الْفَرَائِض
وَرَسُولَهُ
فِيمَا سَنَّ لَهُمْ.
أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ
وَالسِّين فِي قَوْله :" سَيَرْحَمُهُمْ اللَّه " مُدْخِلَة فِي الْوَعْد مُهْلَةً لِتَكُونَ النُّفُوس تَتَنَعَّم بِرَجَائِهِ ; وَفَضْله تَعَالَى زَعِيم بِالْإِنْجَازِ.
إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ
" وَالْعَزِيز " مَعْنَاهُ الْمَنِيع الَّذِي لَا يُنَال وَلَا يُغَالَب.
وَقَالَ اِبْن كَيْسَان : مَعْنَاهُ الَّذِي لَا يُعْجِزهُ شَيْء ; دَلِيله :" وَمَا كَانَ اللَّه لِيُعْجِزهُ مِنْ شَيْء فِي السَّمَاوَات وَلَا فِي الْأَرْض ".
[ فَاطِر : ٤٤ ].
الْكِسَائِيّ :" الْعَزِيز " الْغَالِب ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى :" وَعَزَّنِي فِي الْخِطَاب " [ ص : ٢٣ ] وَفِي الْمَثَل :" مَنْ عَزَّ بَزَّ " أَيْ مَنْ غَلَبَ سَلَبَ.
وَقِيلَ :" الْعَزِيز " الَّذِي لَا مِثْل لَهُ ; بَيَانه " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء " [ الشُّورَى : ١١ ].
وَقَدْ زِدْنَا هَذَا الْمَعْنَى بَيَانًا فِي اِسْمه الْعَزِيز فِي كِتَاب " الْأَسْنَى فِي شَرْح أَسْمَاء اللَّه الْحُسْنَى "،
حَكِيمٌ
مُحْكَم لِمَا يُرِيدهُ مِنْ أُمُور عِبَاده
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ
أَيْ بَسَاتِين
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
أَيْ مِنْ تَحْت أَشْجَارهَا وَغُرَفهَا الْأَنْهَار.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " أَنَّهَا تَجْرِي مُنْضَبِطَة بِالْقُدْرَةِ فِي غَيْر أُخْدُود.
خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً
قُصُور مِنْ الزَّبَرْجَد وَالدُّرّ وَالْيَاقُوت يَفُوح طِيبهَا مِنْ مَسِيرَة خَمْسمِائَةِ عَام.
فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ
أَيْ فِي دَار إِقَامَة.
يُقَال : عَدَنَ بِالْمَكَانِ إِذَا أَقَامَ بِهِ ; وَمِنْهُ الْمَعْدِن.
وَقَالَ عَطَاء الْخُرَاسَانِيّ :" جَنَّات عَدْن " هِيَ قَصَبَة الْجَنَّة، وَسَقْفهَا عَرْش الرَّحْمَن جَلَّ وَعَزَّ.
وَقَالَ اِبْن مَسْعُود : هِيَ بَطْنَانِ الْجَنَّة، أَيْ وَسَطهَا.
وَقَالَ الْحَسَن : هِيَ قَصْر مِنْ ذَهَب لَا يَدْخُلهَا إِلَّا نَبِيّ أَوْ صِدِّيق أَوْ شَهِيد أَوْ حَكَم عَدْل ; وَنَحْوه عَنْ الضَّحَّاك.
وَقَالَ مُقَاتِل وَالْكَلْبِيّ : عَدْن أَعْلَى دَرَجَة فِي الْجَنَّة، وَفِيهَا عَيْن التَّسْنِيم، وَالْجِنَان حَوْلهَا مَحْفُوفَة بِهَا، وَهِيَ مُغَطَّاة مِنْ يَوْم خَلَقَهَا اللَّه حَتَّى يَنْزِلهَا الْأَنْبِيَاء وَالصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحُونَ وَمَنْ يَشَاء اللَّه.
وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ
أَيْ أَكْبَر مِنْ ذَلِكَ.
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ
الْخِطَاب لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَدْخُل فِيهِ أُمَّته مِنْ بَعْده.
قِيلَ : الْمُرَاد جَاهِدْ بِالْمُؤْمِنِينَ الْكُفَّار.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : أُمِرَ بِالْجِهَادِ مَعَ الْكُفَّار بِالسَّيْفِ، وَمَعَ الْمُنَافِقِينَ بِاللِّسَانِ وَشِدَّة الزَّجْر وَالتَّغْلِيظ.
وَرُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود أَنَّهُ قَالَ : جَاهِدْ الْمُنَافِقِينَ بِيَدِك، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِك، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَاكْفَهِرَّ فِي وُجُوههمْ.
وَقَالَ الْحَسَن : جَاهِدْ الْمُنَافِقِينَ بِإِقَامَةِ الْحُدُود عَلَيْهِمْ وَبِاللِّسَانِ - وَاخْتَارَ قَتَادَة - وَكَانُوا أَكْثَر مَنْ يُصِيب الْحُدُود.
اِبْن الْعَرَبِيّ : أَمَّا إِقَامَة الْحُجَّة بِاللِّسَانِ فَكَانَتْ دَائِمَة وَأَمَّا بِالْحُدُودِ لِأَنَّ أَكْثَر إِصَابَة الْحُدُود كَانَتْ عِنْدهمْ فَدَعْوَى لَا بُرْهَان عَلَيْهَا وَلَيْسَ الْعَاصِي بِمُنَافِقٍ إِنَّمَا الْمُنَافِق بِمَا يَكُون فِي قَلْبه مِنْ النِّفَاق كَامِنًا لَا بِمَا تَتَلَبَّس بِهِ الْجَوَارِح ظَاهِرًا وَأَخْبَار الْمَحْدُودِينَ يَشْهَد سِيَاقهَا أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُنَافِقِينَ.
وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ
الْغِلَظ : نَقِيض الرَّأْفَة، وَهِيَ شِدَّة الْقَلْب عَلَى إِحْلَال الْأَمْر بِصَاحِبِهِ.
وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي اللِّسَان ; فَإِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :" إِذَا زَنَتْ أَمَة أَحَدكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدّ وَلَا يُثَرِّب عَلَيْهَا ).
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى :" وَلَوْ كُنْت فَظًّا غَلِيظ الْقَلْب لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلك " [ آل عِمْرَان : ١٥٩ ].
وَمِنْهُ قَوْل النِّسْوَة لِعُمَر : أَنْتَ أَفَظّ وَأَغْلَظ مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعْنَى الْغِلَظ خُشُونَة الْجَانِب.
فَهِيَ ضِدّ قَوْله تَعَالَى :" وَاخْفِضْ جَنَاحك لِمَنْ اِتَّبَعَك مِنْ الْمُؤْمِنِينَ " [ الشُّعَرَاء : ٢١٥ ].
" وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاح الذُّلّ مِنْ الرَّحْمَة " [ الْإِسْرَاء : ٢٤ ].
وَهَذِهِ الْآيَة نَسَخَتْ كُلّ شَيْء مِنْ الْعَفْو وَالصُّلْح وَالصَّفْح.
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا
رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي الْجُلَاس بْن سُوَيْد بْن الصَّامِت، وَوَدِيعَة بْن ثَابِت ; وَقَعُوا فِي النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا : وَاَللَّه لَئِنْ كَانَ مُحَمَّد صَادِقًا عَلَى إِخْوَاننَا الَّذِينَ هُمْ سَادَاتنَا وَخِيَارنَا لَنَحْنُ شَرّ مِنْ الْحَمِير.
فَقَالَ لَهُ عَامِر بْن قَيْس : أَجَل وَاَللَّه إِنَّ مُحَمَّدًا لَصَادِق مُصَدَّق ; وَإِنَّك لَشَرّ مِنْ حِمَار.
وَأَخْبَرَ عَامِر بِذَلِكَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَجَاءَ الْجُلَاس فَحَلَفَ بِاَللَّهِ عِنْد مِنْبَر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ عَامِرًا لَكَاذِب.
وَحَلَفَ عَامِر لَقَدْ قَالَ، وَقَالَ : اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَى نَبِيّك الصَّادِق شَيْئًا، فَنَزَلَتْ.
وَقِيلَ : إِنَّ الَّذِي سَمِعَهُ عَاصِم بْن عَدِيّ.
وَقِيلَ حُذَيْفَة.
وَقِيلَ : بَلْ سَمِعَهُ وَلَد اِمْرَأَته وَاسْمه عُمَيْر بْن سَعْد ; فِيمَا قَالَ اِبْن إِسْحَاق.
وَقَالَ غَيْره : اِسْمه مُصْعَب.
فَهَمَّ الْجُلَاس بِقَتْلِهِ لِئَلَّا يُخْبِر بِخَبَرِهِ ; فَفِيهِ نَزَلَ :" وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا ".
قَالَ مُجَاهِد : وَكَانَ الْجُلَاس لَمَّا قَالَ لَهُ صَاحِبه إِنِّي سَأُخْبِرُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِك هَمَّ بِقَتْلِهِ، ثُمَّ لَمْ يَفْعَل، عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ.
قَالَ، ذَلِكَ هِيَ الْإِشَارَة بِقَوْلِهِ " وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا ".
وَقِيلَ : إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ، رَأَى رَجُلًا مِنْ غِفَار يَتَقَاتَل مَعَ رَجُل مِنْ جُهَيْنَة، وَكَانَتْ جُهَيْنَة حُلَفَاء الْأَنْصَار، فَعَلَا الْغِفَارِيّ الْجُهَنِيّ.
فَقَالَ اِبْن أُبَيّ : يَا بَنِي الْأَوْس وَالْخَزْرَج، اُنْصُرُوا أَخَاكُمْ فَوَاَللَّهِ مَا مَثَلنَا وَمَثَل مُحَمَّد إِلَّا كَمَا قَالَ الْقَائِل : سَمِّنْ كَلْبَك يَأْكُلك، وَلَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَة لِيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ.
فَأُخْبِرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَجَاءَهُ عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ فَحَلَفَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْهُ ; قَالَهُ قَتَادَة.
وَقَوْل ثَالِث أَنَّهُ قَوْل جَمِيع الْمُنَافِقِينَ ; قَالَهُ الْحَسَن.
اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهُوَ الصَّحِيح ; لِعُمُومِ الْقَوْل وَوُجُود الْمَعْنَى فِيهِ وَفِيهِمْ، وَجُمْلَة ذَلِكَ اِعْتِقَادهمْ فِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِنَبِيٍّ.
وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ
قَالَ النَّقَّاش : تَكْذِيبهمْ بِمَا وَعَدَ اللَّه مِنْ الْفَتْح.
وَقِيلَ :" كَلِمَة الْكُفْر " قَوْل الْجُلَاس : إِنْ كَانَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّد حَقًّا لَنَحْنُ أَشَرّ مِنْ الْحَمِير.
وَقَوْل عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ : لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَة لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزّ مِنْهَا الْأَذَلّ.
قَالَ الْقُشَيْرِيّ : كَلِمَة الْكُفْر سَبّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالطَّعْن فِي الْإِسْلَام.
وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ
أَيْ بَعْد الْحُكْم بِإِسْلَامِهِمْ.
فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كُفَّار، وَفِي قَوْله تَعَالَى :" ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا " [ الْمُنَافِقُونَ : ٣ ] دَلِيل قَاطِع.
وَدَلَّتْ الْآيَة أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْكُفْر يَكُون بِكُلِّ مَا يُنَاقِض التَّصْدِيق وَالْمَعْرِفَة ; وَإِنْ كَانَ الْإِيمَان لَا يَكُون إِلَّا بِلَا إِلَه إِلَّا اللَّه دُون غَيْره مِنْ الْأَقْوَال وَالْأَفْعَال إِلَّا فِي الصَّلَاة.
قَالَ إِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ : وَلَقَدْ أَجْمَعُوا فِي الصَّلَاة عَلَى شَيْء لَمْ يُجْمِعُوا عَلَيْهِ فِي سَائِر الشَّرَائِع ; لِأَنَّهُمْ بِأَجْمَعِهِمْ قَالُوا : مَنْ عُرِفَ بِالْكُفْرِ ثُمَّ رَأَوْهُ يُصَلِّي الصَّلَاة فِي وَقْتهَا حَتَّى صَلَّى صَلَوَات كَثِيرَة.
وَلَمْ يَعْلَمُوا مِنْهُ إِقْرَارًا بِاللِّسَانِ أَنَّهُ يُحْكَم لَهُ بِالْإِيمَانِ، وَلَمْ يَحْكُمُوا لَهُ فِي الصَّوْم وَالزَّكَاة بِمِثْلِ ذَلِكَ.
وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا
يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ مِنْ قَتْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَة الْعَقَبَة فِي غَزْوَة تَبُوك، وَكَانُوا اِثْنَيْ عَشَر رَجُلًا.
قَالَ حُذَيْفَة : سَمَّاهُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى عَدَّهُمْ كُلّهمْ.
فَقُلْت : أَلَا تَبْعَث إِلَيْهِمْ فَتَقْتُلهُمْ ؟ فَقَالَ :( أَكْرَه أَنْ تَقُول الْعَرَب لَمَّا ظَفِرَ بِأَصْحَابِهِ أَقْبَلَ يَقْتُلهُمْ بَلْ يَكْفِيهِمْ اللَّه بِالدُّبَيْلَةِ ).
قِيلَ : يَا رَسُول اللَّه وَمَا الدُّبَيْلَة ؟ قَالَ :( شِهَاب مِنْ جَهَنَّم يَجْعَلهُ عَلَى نِيَاط فُؤَاد أَحَدهمْ حَتَّى تَزْهَق نَفْسه ).
فَكَانَ كَذَلِكَ.
خَرَّجَهُ مُسْلِم بِمَعْنَاهُ.
وَقِيلَ هَمُّوا بِعَقْدِ التَّاج عَلَى رَأْس اِبْن أُبَيّ لِيَجْتَمِعُوا عَلَيْهِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْل مُجَاهِد فِي هَذَا.
وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ
أَيْ لَيْسَ يَنْقِمُونَ شَيْئًا ; كَمَا قَالَ النَّابِغَة :
وَلَا عَيْب فِيهِمْ غَيْر أَنَّ سُيُوفهمْ بِهِنَّ فُلُول مِنْ قِرَاع الْكَتَائِب
وَيُقَال : نَقَمَ يَنْقِم، وَنَقِمَ يَنْقَم ; قَالَ الشَّاعِر فِي الْكَسْر :
مَا نَقِمُوا مِنْ بَنِي أُمَيَّة إِلَّا أَنَّهُمْ يَحْلُمُونَ إِنْ غَضِبُوا
وَقَالَ زُهَيْر :
يُؤَخَّر فَيُوضَع فِي كِتَاب فَيُدَّخَر لِيَوْمِ الْحِسَاب أَوْ يُعَجَّل فَيَنْقِمَ
يُنْشَد بِكَسْرِ الْقَاف وَفَتْحهَا.
قَالَ الشَّعْبِيّ : كَانُوا يَطْلُبُونَ دِيَة فَيَقْضِي لَهُمْ بِهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَغْنَوْا.
ذَكَرَ عِكْرِمَة أَنَّهَا كَانَتْ اِثْنَيْ عَشَر أَلْفًا.
وَيُقَال : إِنَّ الْقَتِيل كَانَ مَوْلَى الْجُلَاس.
وَقَالَ الْكَلْبِيّ : كَانُوا قَبْل قُدُوم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ضَنْك مِنْ الْعَيْش، لَا يَرْكَبُونَ الْخَيْل وَلَا يَحُوزُونَ الْغَنِيمَة، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِسْتَغْنَوْا بِالْغَنَائِمِ.
وَهَذَا الْمَثَل مَشْهُور : اِتَّقِ شَرّ مَنْ أَحْسَنْت إِلَيْهِ.
قَالَ الْقُشَيْرِيّ أَبُو نَصْر : قِيلَ لِلْبَجَلِيِّ أَتَجِدُ فِي كِتَاب اللَّه تَعَالَى اِتَّقِ شَرّ مَنْ أَحْسَنْت إِلَيْهِ ؟ قَالَ نَعَمْ، " وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمْ اللَّه وَرَسُوله مِنْ فَضْله ".
فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ
رُوِيَ أَنَّ الْجُلَاس قَامَ حِين نَزَلَتْ الْآيَة فَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ.
فَدَلَّ هَذَا عَلَى تَوْبَة الْكَافِر الَّذِي يُسِرّ الْكُفْر وَيُظْهِر الْإِيمَان ; وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيه الْفُقَهَاء الزِّنْدِيق.
وَقَدْ اِخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ الْعُلَمَاء ; فَقَالَ الشَّافِعِيّ : تُقْبَل تَوْبَته.
وَقَالَ مَالِك : تَوْبَة الزِّنْدِيق لَا تُعْرَف ; لِأَنَّهُ كَانَ يُظْهِر الْإِيمَان وَيُسِرّ الْكُفْر، وَلَا يَعْلَم إِيمَانه إِلَّا بِقَوْلِهِ.
وَكَذَلِكَ يَفْعَل الْآن فِي كُلّ حِين، يَقُول : أَنَا مُؤْمِن وَهُوَ يُضْمِر خِلَاف مَا يُظْهِر ; فَإِذَا عُثِرَ عَلَيْهِ وَقَالَ : تُبْتُ، لَمْ يَتَغَيَّر حَاله عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ.
فَإِذَا جَاءَنَا تَائِبًا مِنْ قِبَل نَفْسه قَبْل أَنْ يُعْثَر عَلَيْهِ قُبِلَتْ تَوْبَته ; وَهُوَ الْمُرَاد بِالْآيَةِ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَإِنْ يَتَوَلَّوْا
أَيْ يُعْرِضُوا عَنْ الْإِيمَان وَالتَّوْبَة
يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ، وَفِي الْآخِرَة بِالنَّارِ.
وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ
أَيْ مَانِع يَمْنَعهُمْ
وَلَا نَصِيرٍ
أَيْ مُعِين.
وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ
قَالَ قَتَادَة : هَذَا رَجُل مِنْ الْأَنْصَار قَالَ : لَئِنْ رَزَقَنِي اللَّه شَيْئًا لَأُؤَدِّيَنَّ فِيهِ حَقّه وَلَأَتَصَدَّقَنَّ ; فَلَمَّا آتَاهُ اللَّه ذَلِكَ فَعَلَ مَا نَصَّ عَلَيْكُمْ، فَاحْذَرُوا الْكَذِب فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الْفُجُور.
وَرَوَى عَلِيّ بْن يَزِيد عَنْ الْقَاسِم عَنْ أَبِي أُمَامَة الْبَاهِلِيّ أَنَّ ثَعْلَبَة بْن حَاطِب الْأَنْصَارِيّ - فَسَمَّاهُ - قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اُدْعُ اللَّه أَنْ يَرْزُقنِي مَالًا.
فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام ( وَيْحك يَا ثَعْلَبَة قَلِيل تُؤَدِّي شُكْره خَيْر مِنْ كَثِير لَا تُطِيقهُ ) ثُمَّ عَاوَدَ ثَانِيًا فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُون مِثْل نَبِيّ اللَّه لَوْ شِئْت أَنْ تَسِير مَعِي الْجِبَال ذَهَبًا لَسَارَتْ ) فَقَالَ : وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَئِنْ دَعَوْت اللَّه فَرَزَقَنِي مَالًا لَأُعْطِيَنَّ كُلّ ذِي حَقّ حَقّه.
فَدَعَا لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَاتَّخَذَ غَنَمًا فَنَمَتْ كَمَا تَنْمِي الدُّود، فَضَاقَتْ عَلَيْهِ الْمَدِينَة فَتَنَحَّى عَنْهَا وَنَزَلَ وَادِيًا مِنْ أَوْدِيَتهَا حَتَّى جَعَلَ يُصَلِّي الظُّهْر وَالْعَصْر فِي جَمَاعَة، وَتَرَك مَا سِوَاهُمَا.
ثُمَّ نَمَتْ وَكَثُرَتْ حَتَّى تَرَكَ الصَّلَوَات إِلَّا الْجُمُعَة، وَهِيَ تَنْمِي حَتَّى تَرَكَ الْجُمُعَة أَيْضًا فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( يَا وَيْح ثَعْلَبَة ) ثَلَاثًا.
ثُمَّ نَزَلَ " خُذْ مِنْ أَمْوَالهمْ صَدَقَة " [ التَّوْبَة : ١٠٣ ].
فَبَعَثَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَيْنِ عَلَى الصَّدَقَة، وَقَالَ لَهُمَا :( مُرَّا بِثَعْلَبَةَ وَبِفُلَانٍ - رَجُل مِنْ بَنِي سُلَيْم - فَخُذَا صَدَقَاتهمَا ) فَأَتَيَا ثَعْلَبَة وَأَقْرَآهُ كِتَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ : مَا هَذِهِ إِلَّا أُخْت الْجِزْيَة اِنْطَلِقَا حَتَّى تَفْرُغَا ثُمَّ تَعُودَا.
الْحَدِيث، وَهُوَ مَشْهُور.
وَقِيلَ : سَبَب غَنَاء ثَعْلَبَة أَنَّهُ وَرِثَ اِبْن عَمّ لَهُ.
قَالَهُ اِبْن عَبْد الْبَرّ : قِيلَ إِنَّ ثَعْلَبَة بْن حَاطِب هُوَ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ " وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّه... " الْآيَة ; إِذْ مَنَعَ الزَّكَاة، فَاَللَّه أَعْلَم.
وَمَا جَاءَ فِيمَنْ شَاهَدَ بَدْرًا يُعَارِضهُ قَوْله تَعَالَى فِي الْآيَة :" فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبهمْ... " الْآيَة.
قُلْت : وَذُكِرَ عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي سَبَب نُزُول الْآيَة أَنَّ حَاطِب بْن أَبِي بَلْتَعَة أَبْطَأَ عَنْهُ مَاله بِالشَّامِ فَحَلَفَ فِي مَجْلِس مِنْ مَجَالِس الْأَنْصَار : إِنْ سَلِمَ ذَلِكَ لَأَتَصَدَّقَنَّ مِنْهُ وَلَأَصِلَنَّ مِنْهُ.
فَلَمَّا سَلَّمَ بَخِلَ بِذَلِكَ فَنَزَلَتْ.
قُلْت : وَثَعْلَبَة بَدْرِيّ أَنْصَارِيّ وَمِمَّنْ شَهِدَ اللَّه لَهُ وَرَسُوله بِالْإِيمَانِ ; حَسَب مَا يَأْتِي بَيَانه فِي أَوَّل الْمُمْتَحَنَة فَمَا رُوِيَ عَنْهُ غَيْر صَحِيح.
قَالَ أَبُو عُمَر : وَلَعَلَّ قَوْل مَنْ قَالَ فِي ثَعْلَبَة أَنَّهُ مَانِع الزَّكَاة الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ الْآيَة غَيْر صَحِيح، وَاَللَّه أَعْلَم.
وَقَالَ الضَّحَّاك : إِنَّ الْآيَة نَزَلَتْ فِي رِجَال مِنْ الْمُنَافِقِينَ نَبْتَل بْن الْحَارِث وَجَدّ بْن قَيْس وَمُعَتِّب بْن قُشَيْر.
قُلْت : وَهَذَا أَشْبَهُ بِنُزُولِ الْآيَة فِيهِمْ ; إِلَّا أَنَّ قَوْله " فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا " يَدُلّ عَلَى أَنَّ الَّذِي عَاهَدَ اللَّه لَمْ يَكُنْ مُنَافِقًا مِنْ قَبْل، إِلَّا أَنْ يَكُون الْمَعْنَى : زَادَهُمْ نِفَاقًا ثَبَتُوا عَلَيْهِ إِلَى الْمَمَات، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى :" إِلَى يَوْم يَلْقَوْنَهُ " عَلَى مَا يَأْتِي.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَمَّا قَالَ اللَّه تَعَالَى :" وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّه " اِحْتَمَلَ أَنْ يَكُون عَاهَدَ اللَّه بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَعْتَقِدهُ بِقَلْبِهِ.
وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُون عَاهَدَ اللَّه بِهِمَا ثُمَّ أَدْرَكَتْهُ سُوء الْخَاتِمَة ; فَإِنَّ الْأَعْمَال بِخَوَاتِيمِهَا وَالْأَيَّام بِعَوَاقِبِهَا.
و " مَنْ " رَفْع بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَر فِي الْمَجْرُور.
وَلَفْظ الْيَمِين وَرَدَ فِي الْحَدِيث وَلَيْسَ فِي ظَاهِر الْقُرْآن يَمِين إِلَّا بِمُجَرَّدِ الِارْتِبَاط وَالِالْتِزَام، أَمَّا إِنَّهُ فِي صِيغَة الْقَسَم فِي الْمَعْنَى فَإِنَّ اللَّام تَدُلّ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَتَى بِلَامَيْنِ الْأُولَى لِلْقَسَمِ وَالثَّانِيَة لَام الْجَوَاب، وَكِلَاهُمَا لِلتَّأْكِيدِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إِنَّهُمَا لَامَا الْقَسَم ; وَالْأَوَّل أَظْهَر، وَاَللَّه أَعْلَم.
الْعَهْد وَالطَّلَاق وَكُلّ حُكْم يَنْفَرِد بِهِ الْمَرْء وَلَا يَفْتَقِر إِلَى غَيْره فِيهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمهُ مِنْهُ مَا يَلْتَزِمهُ بِقَصْدِهِ وَإِنْ لَمْ يَلْفِظ بِهِ ; قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة : لَا يَلْزَم أَحَدًا حُكْم إِلَّا بَعْد أَنْ يَلْفِظ بِهِ وَهُوَ الْقَوْل الْآخَر لِعُلَمَائِنَا.
اِبْن الْعَرَبِيّ : وَالدَّلِيل عَلَى صِحَّة مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مَا رَوَاهُ أَشْهَب عَنْ مَالِك، وَقَدْ سُئِلَ : إِذَا نَوَى الرَّجُل الطَّلَاق بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَلْفِظ بِهِ بِلِسَانِهِ فَقَالَ : يَلْزَمهُ ; كَمَا يَكُون مُؤْمِنًا بِقَلْبِهِ، وَكَافِرًا بِقَلْبِهِ.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا أَصْل بَدِيع، وَتَحْرِيره أَنْ يُقَال : عَقْد لَا يَفْتَقِر فِيهِ الْمَرْء إِلَى غَيْره فِي اِلْتِزَامه فَانْعَقَدَ عَلَيْهِ بِنِيَّةٍ.
أَصْله الْإِيمَان وَالْكُفْر.
قُلْت : وَحُجَّة الْقَوْل الثَّانِي مَا رَوَاهُ مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( إِنَّ اللَّه تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسهَا مَا لَمْ تَعْمَل أَوْ تَتَكَلَّم بِهِ ) وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَقَالَ : حَدِيث حَسَن صَحِيح، وَالْعَمَل عَلَى هَذَا عِنْد أَهْل الْعِلْم إِذَا حَدَّثَ نَفْسه بِالطَّلَاقِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا حَتَّى يَتَكَلَّم بِهِ.
قَالَ أَبُو عُمَر : وَمَنْ اِعْتَقَدَ بِقَلْبِهِ الطَّلَاق وَلَمْ يَنْطِق بِهِ لِسَانه فَلَيْسَ بِشَيْءٍ.
هَذَا هُوَ الْأَشْهَر عَنْ مَالِك.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَلْزَمهُ الطَّلَاق إِذَا نَوَاهُ بِقَلْبِهِ ; كَمَا يَكْفُر بِقَلْبِهِ وَإِنْ لَمْ يَنْطِق بِهِ لِسَانه.
وَالْأَوَّل أَصَحّ فِي النَّظَر وَطَرِيق الْأَثَر ; لِقَوْلِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( تَجَاوَزَ اللَّه لِأُمَّتِي عَمَّا وَسْوَسَتْ بِهِ نُفُوسهَا مَا لَمْ يَنْطِق بِهِ لِسَان أَوْ تَعْمَلهُ يَد ).
إِنْ كَانَ نَذْرًا فَالْوَفَاء بِالنَّذْرِ وَاجِب مِنْ غَيْر خِلَاف وَتَرْكه مَعْصِيَة.
وَإِنْ كَانَتْ يَمِينًا فَلَيْسَ الْوَفَاء بِالْيَمِينِ وَاجِبًا بِاتِّفَاقِ.
بَيْد أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ إِنْ كَانَ الرَّجُل فَقِيرًا لَا يَتَعَيَّن عَلَيْهِ فَرْض الزَّكَاة ; فَسَأَلَ اللَّه مَالًا تَلْزَمهُ فِيهِ الزَّكَاة وَيُؤَدِّي مَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ مِنْ فَرْضه، فَلَمَّا آتَاهُ اللَّه مَا شَاءَ مِنْ ذَلِكَ تَرَكَ مَا اِلْتَزَمَ مِمَّا كَانَ يَلْزَمهُ فِي أَصْل الدِّين لَوْ لَمْ يَلْتَزِمهُ، لَكِنَّ التَّعَاطِي بِطَلَبِ الْمَال لِأَدَاءِ الْحُقُوق هُوَ الَّذِي أَوْرَطَهُ إِذْ كَانَ طَلَبه مِنْ اللَّه تَعَالَى بِغَيْرِ نِيَّة خَالِصَة، أَوْ نِيَّة لَكِنْ سَبَقَتْ فِيهِ الْبِدَايَة الْمَكْتُوب عَلَيْهِ فِيهَا الشَّقَاوَة.
نَعُوذ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ.
قُلْت : وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام :( إِذَا تَمَنَّى أَحَدكُمْ فَلْيَنْظُرْ مَا يَتَمَنَّى فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي مَا كُتِبَ لَهُ فِي غَيْب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مِنْ أُمْنِيَته ) أَيْ مِنْ عَاقِبَتهَا، فَرُبَّ أُمْنِيَة يَفْتَتِن بِهَا أَوْ يَطْغَى فَتَكُون سَبَبًا لِلْهَلَاكِ دُنْيَا وَأُخْرَى، لِأَنَّ أُمُور الدُّنْيَا مُبْهَمَة عَوَاقِبهَا خَطِرَة غَائِلَتهَا.
وَأَمَّا تَمَّنِي أُمُور الدِّين وَالْأُخْرَى فَتَمَنِّيهَا مَحْمُود الْعَاقِبَة مَحْضُوض عَلَيْهَا مَنْدُوب إِلَيْهَا.
لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ
دَلِيل عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ : إِنْ مَلَكْت كَذَا وَكَذَا فَهُوَ صَدَقَة فَإِنَّهُ يَلْزَمهُ ; وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَة : وَقَالَ الشَّافِعِيّ : لَا يَلْزَمهُ.
وَالْخِلَاف فِي الطَّلَاق مِثْله، وَكَذَلِكَ فِي الْعِتْق.
وَقَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل : يَلْزَمهُ ذَلِكَ فِي الْعِتْق وَلَا يَلْزَمهُ فِي الطَّلَاق ; لِأَنَّ الْعِتْق قُرْبَة وَهِيَ تَثْبُت فِي الذِّمَّة بِالنَّذْرِ ; بِخِلَافِ الطَّلَاق فَإِنَّهُ تَصَرُّف فِي مَحَلّ، وَهُوَ لَا يَثْبُت فِي الذِّمَّة.
اِحْتَجَّ الشَّافِعِيّ بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَغَيْرهمَا عَنْ عَمْرو بْن شُعَيْب عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( لَا نَذْر لِابْنِ آدَم فِيمَا لَا يَمْلِك وَلَا عِتْق لَهُ فِيمَا لَا يَمْلِك وَلَا طَلَاق لَهُ فِيمَا لَا يَمْلِك ) لَفْظ التِّرْمِذِيّ.
وَقَالَ : وَفِي الْبَاب عَنْ عَلِيّ وَمُعَاذ وَجَابِر وَابْن عَبَّاس وَعَائِشَة حَدِيث عَبْد اللَّه بْن عَمْرو حَدِيث حَسَن، وَهُوَ أَحْسَن شَيْء رُوِيَ فِي هَذَا الْبَاب.
وَهُوَ قَوْل أَكْثَر أَهْل الْعِلْم مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرهمْ.
اِبْن الْعَرَبِيّ : وَسَرَدَ أَصْحَاب الشَّافِعِيّ فِي هَذَا الْبَاب أَحَادِيث كَثِيرَة لَمْ يَصِحّ مِنْهَا شَيْء فَلَا يُعَوَّل عَلَيْهَا، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا ظَاهِر الْآيَة.
فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ
أَيْ أَعْطَاهُمْ.
بَخِلُوا بِهِ
أَيْ بِإِعْطَاءِ الصَّدَقَة وَبِإِنْفَاقِ الْمَال فِي الْخَيْر، وَبِالْوَفَاءِ بِمَا ضَمِنُوا وَالْتَزَمُوا.
وَقَدْ مَضَى الْبُخْل فِي [ آل عِمْرَان ]
وَتَوَلَّوْا
أَيْ عَنْ طَاعَة اللَّه.
وَهُمْ مُعْرِضُونَ
أَيْ عَنْ الْإِسْلَام، أَيْ مُظْهِرُونَ لِلْإِعْرَاضِ عَنْهُ.
فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ
مَفْعُولَانِ أَيْ أَعْقَبَهُمْ اللَّه تَعَالَى نِفَاقًا فِي قُلُوبهمْ.
وَقِيلَ : أَيْ أَعْقَبَهُمْ الْبُخْل نِفَاقًا ; وَلِهَذَا قَالَ :" بَخِلُوا بِهِ ".
" نِفَاقًا " النِّفَاق إِذَا كَانَ فِي الْقَلْب فَهُوَ الْكُفْر.
فَأَمَّا إِذَا كَانَ فِي الْأَعْمَال فَهُوَ مَعْصِيَة.
قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( أَرْبَع مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَة مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَة مِنْ النِّفَاق حَتَّى يَدَعهَا.
إِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ ) خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ.
وَقَدْ مَضَى فِي [ الْبَقَرَة ] اِشْتِقَاق هَذِهِ الْكَلِمَة، فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهَا.
وَاخْتَلَفَ النَّاس فِي تَأْوِيل هَذَا الْحَدِيث ; فَقَالَتْ طَائِفَة : إِنَّمَا ذَلِكَ لِمَنْ يُحَدِّث بِحَدِيثٍ يَعْلَم أَنَّهُ كَذِب، وَيَعْهَد عَهْدًا لَا يَعْتَقِد الْوَفَاء بِهِ، وَيَنْتَظِر الْأَمَانَة لِلْخِيَانَةِ فِيهَا.
وَتَعَلَّقُوا بِحَدِيثٍ ضَعِيف الْإِسْنَاد، وَأَنَّ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لَقِيَ أَبَا بَكْر وَعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا خَارِجَيْنِ مِنْ عِنْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمَا ثَقِيلَانِ فَقَالَ عَلِيّ : مَا لِي أَرَاكُمَا ثَقِيلَيْنِ ؟ قَالَا حَدِيثًا سَمِعْنَاهُ مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خِلَال الْمُنَافِقِينَ ( إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ) فَقَالَ عَلِيّ : أَفَلَا سَأَلْتُمَاهُ ؟ فَقَالَا : هِبْنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَكِنِّي سَأَسْأَلُهُ ; فَدَخَلَ عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه، خَرَجَ أَبُو بَكْر وَعُمَر وَهُمَا ثَقِيلَانِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا قَالَاهُ، فَقَالَ :( قَدْ حَدَّثْتهمَا وَلَمْ أَضَعهُ عَلَى الْوَضْع الَّذِي وَضَعَاهُ وَلَكِنَّ الْمُنَافِق إِذَا حَدَّثَ وَهُوَ يُحَدِّث نَفْسه أَنَّهُ يَكْذِب وَإِذَا وَعَدَ وَهُوَ يُحَدِّث نَفْسه أَنَّهُ يُخْلِف وَإِذَا اُؤْتُمِنَ وَهُوَ يُحَدِّث نَفْسه أَنَّهُ يَخُون ) اِبْن الْعَرَبِيّ : قَدْ قَامَ الدَّلِيل الْوَاضِح عَلَى أَنَّ مُتَعَمِّد هَذِهِ الْخِصَال لَا يَكُون كَافِرًا، وَإِنَّمَا يَكُون كَافِرًا بِاعْتِقَادٍ يَعُود إِلَى الْجَهْل بِاَللَّهِ وَصِفَاته أَوْ تَكْذِيب لَهُ تَعَالَى اللَّه وَتَقَدَّسَ عَنْ اِعْتِقَاد الْجَاهِلِينَ وَعَنْ زَيْغ الزَّائِغِينَ.
وَقَالَتْ طَائِفَة : ذَلِكَ مَخْصُوص بِالْمُنَافِقِينَ زَمَان رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَتَعَلَّقُوا بِمَا رَوَاهُ مُقَاتِل بْن حَيَّان عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عُمَر وَابْن عَبَّاس قَالَا : أَتَيْنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُنَاس مِنْ أَصْحَابه فَقُلْنَا : يَا رَسُول اللَّه، إِنَّك قُلْت ( ثَلَاث مَنْ كُنَّ فِيهِ فَهُوَ مُنَافِق وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُؤْمِن إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَة مِنْهُنَّ فَفِيهِ ثُلُث النِّفَاق ) فَظَنَنَّا أَنَّا لَمْ نَسْلَم مِنْهُنَّ أَوْ مِنْ بَعْضهنَّ وَلَمْ يَسْلَم مِنْهُنَّ كَثِير مِنْ النَّاس ; قَالَ : فَضَحِكَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ :( مَا لَكُمْ وَلَهُنَّ إِنَّمَا خَصَّصْت بِهِنَّ الْمُنَافِقِينَ كَمَا خَصَّهُمْ اللَّه فِي كِتَابه أَمَّا قَوْلِي إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ فَذَلِكَ قَوْله عَزَّ وَجَلَّ " إِذَا جَاءَك الْمُنَافِقُونَ... " [ الْمُنَافِقُونَ : ١ ] - الْآيَة - ( أَفَأَنْتُمْ كَذَلِكَ ) ؟ قُلْنَا : لَا.
قَالَ :( لَا عَلَيْكُمْ أَنْتُمْ مِنْ ذَلِكَ بُرَآء وَأَمَّا قَوْلِي إِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ فَذَلِكَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَيَّ " وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّه لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْله... " - الْآيَات الثَّلَاث - ( أَفَأَنْتُمْ كَذَلِكَ ) ؟ قُلْنَا لَا، وَاَللَّه لَوْ عَاهَدْنَا اللَّه عَلَى شَيْء أَوْفَيْنَا بِهِ.
قَالَ :( لَا عَلَيْكُمْ أَنْتُمْ مِنْ ذَلِكَ بُرَآء وَأَمَّا قَوْلِي وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ فَذَلِكَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَيَّ " إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَة عَلَى السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال... " [ الْأَحْزَاب : ٧٢ ] - الْآيَة - ( فَكُلّ إِنْسَان مُؤْتَمَن عَلَى دِينه فَالْمُؤْمِن يَغْتَسِل مِنْ الْجَنَابَة فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة وَالْمُنَافِق لَا يَفْعَل ذَلِكَ إِلَّا فِي الْعَلَانِيَة أَفَأَنْتُمْ كَذَلِكَ ) ؟ قُلْنَا لَا قَالَ :( لَا عَلَيْكُمْ أَنْتُمْ مِنْ ذَلِكَ بُرَآء ).
وَإِلَى هَذَا صَارَ كَثِير مِنْ التَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّة.
قَالَتْ طَائِفَة : هَذَا فِيمَنْ كَانَ الْغَالِب عَلَيْهِ هَذِهِ الْخِصَال.
وَيَظْهَر مِنْ مَذْهَب الْبُخَارِيّ وَغَيْره مِنْ أَهْل الْعِلْم أَنَّ هَذِهِ الْخِلَال الذَّمِيمَة مُنَافِق مَنْ اِتَّصَفَ بِهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ لَوْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الْمَعَاصِي مَا كَانَ بِهَا كَافِرًا مَا لَمْ يُؤَثِّر فِي الِاعْتِقَاد.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إِنَّ إِخْوَة يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام عَاهَدُوا أَبَاهُمْ فَأَخْلَفُوهُ، وَحَدَّثُوهُ فَكَذَبُوهُ، وَائْتَمَنَهُمْ عَلَى يُوسُف فَخَانُوهُ وَمَا كَانُوا مُنَافِقِينَ.
قَالَ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح : قَدْ فَعَلَ هَذِهِ الْخِلَال إِخْوَة يُوسُف وَلَمْ يَكُونُوا مُنَافِقِينَ بَلْ كَانُوا أَنْبِيَاء.
وَقَالَ الْحَسَن بْن أَبِي الْحَسَن الْبَصْرِيّ : النِّفَاق نِفَاقَان، نِفَاق الْكَذِب وَنِفَاق الْعَمَل ; فَأَمَّا نِفَاق الْكَذِب فَكَانَ عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا نِفَاق الْعَمَل فَلَا يَنْقَطِع إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.
وَرَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ حُذَيْفَة أَنَّ النِّفَاق كَانَ عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَّا الْيَوْم فَإِنَّمَا هُوَ الْكُفْر بَعْد الْإِيمَان.
إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ
فِي مَوْضِع خَفْض ; أَيْ يَلْقَوْنَ بُخْلهمْ، أَيْ جَزَاء بُخْلهمْ ; كَمَا يُقَال : أَنْتَ تَلْقَى غَدًا عَمَلك.
وَقِيلَ :" إِلَى يَوْم يَلْقَوْنَهُ " أَيْ يَلْقَوْنَ اللَّه.
وَفِي هَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّهُ مَاتَ مُنَافِقًا.
وَهُوَ يَبْعُد أَنْ يَكُون الْمُنَزَّل فِيهِ ثَعْلَبَة أَوْ حَاطِب ; لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعُمَر :( وَمَا يُدْرِيك لَعَلَّ اللَّه اِطَّلَعَ عَلَى أَهْل بَدْر فَقَالَ اِعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ ) وَثَعْلَبَة وَحَاطِب مِمَّنْ حَضَرَ بَدْرًا وَشَهِدَهَا.
بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ
كَذِبهمْ نَقْضهمْ الْعَهْد وَتَرْكهمْ الْوَفَاء بِمَا اِلْتَزَمُوهُ مِنْ ذَلِكَ.
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ
هَذَا تَوْبِيخ، وَإِذَا كَانَ عَالِمًا فَإِنَّهُ سَيُجَازِيهِمْ.
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
هَذَا أَيْضًا مِنْ صِفَات الْمُنَافِقِينَ.
قَالَ قَتَادَة :" يَلْمِزُونَ " يَعِيبُونَ.
قَالَ : وَذَلِكَ أَنَّ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف تَصَدَّقَ بِنِصْفِ مَاله، وَكَانَ مَاله ثَمَانِيَة آلَاف فَتَصَدَّقَ مِنْهَا بِأَرْبَعَةِ آلَاف.
فَقَالَ قَوْم : مَا أَعْظَم رِيَاءَهُ ; فَأَنْزَلَ اللَّه :" الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَات ".
وَجَاءَ رَجُل مِنْ الْأَنْصَار بِنِصْفِ صُبْرَة مِنْ تَمْره فَقَالُوا : مَا أَغْنَى اللَّه عَنْ هَذَا ; فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ " وَاَلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدهمْ " الْآيَة.
وَخَرَّجَ مُسْلِم عَنْ أَبِي مَسْعُود قَالَ : أُمِرْنَا بِالصَّدَقَةِ - قَالَ : كُنَّا نُحَامِل، فِي رِوَايَة : عَلَى ظُهُورنَا - قَالَ : فَتَصَدَّقَ أَبُو عَقِيل بِنِصْفِ صَاع.
قَالَ : وَجَاءَ إِنْسَان بِشَيْءٍ أَكْثَر مِنْهُ فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ : إِنَّ اللَّه لَغَنِيّ عَنْ صَدَقَة هَذَا، وَمَا فَعَلَ هَذَا الْآخَر إِلَّا رِيَاء : فَنَزَلَتْ " الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَات وَاَلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدهمْ ".
يَعْنِي أَبَا عَقِيل، وَاسْمه الْحَبْحَاب.
وَالْجُهْد : شَيْء قَلِيل يَعِيش بِهِ الْمُقِلّ.
وَالْجُهْد وَالْجَهْد بِمَعْنًى وَاحِد.
وَقَدْ تَقَدَّمَ.
و " يَلْمِزُونَ " يَعِيبُونَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ.
و " الْمُطَّوِّعِينَ " أَصْله الْمُتَطَوِّعِينَ أُدْغِمَتْ التَّاء فِي الطَّاء ; وَهُمْ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ الشَّيْء تَبَرُّعًا مِنْ غَيْر أَنْ يَجِب عَلَيْهِمْ.
" وَاَلَّذِينَ " فِي مَوْضِع خَفْض عَطْف عَلَى " الْمُؤْمِنِينَ ".
وَلَا يَجُوز أَنْ يَكُون عَطْفًا عَلَى الِاسْم قَبْل تَمَامه.
و " فَيَسْخَرُونَ " عَطْف عَلَى " يَلْمِزُونَ ".
" سَخِرَ اللَّه مِنْهُمْ " خَبَر الِابْتِدَاء، وَهُوَ دُعَاء عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : هُوَ خَبَر ; أَيْ سَخِرَ مِنْهُمْ حَيْثُ صَارُوا إِلَى النَّار.
وَمَعْنَى سَخِرَ اللَّه مُجَازَاتهمْ عَلَى سُخْرِيَتهمْ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة ".
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ
" اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ " الْآيَة.
بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ وَإِنْ اِسْتَغْفَرَ لَهُمْ لَمْ يَنْفَعهُمْ ذَلِكَ وَإِنْ أَكْثَر مِنْ الِاسْتِغْفَار.
قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَلَمْ يَثْبُت مَا يُرْوَى أَنَّهُ قَالَ :[ لَأَزِيدَنَّ عَلَى السَّبْعِينَ ].
قُلْت : وَهَذَا خِلَاف مَا يَثْبُت فِي حَدِيث اِبْن عُمَر [ وَسَأَزِيدُ عَلَى سَبْعِينَ ] وَفِي حَدِيث اِبْن عَبَّاس ( لَوْ أَعْلَم أَنِّي زِدْت عَلَى السَّبْعِينَ يُغْفَر لَهُمْ لَزِدْت عَلَيْهَا ].
قَالَ : فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي تَأْوِيل قَوْله :" اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ " هَلْ هُوَ إِيَاس أَوْ تَخْيِير، فَقَالَتْ طَائِفَة : الْمَقْصُود بِهِ الْيَأْس بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى :" فَلَنْ يَغْفِر اللَّه لَهُمْ " [ التَّوْبَة : ٨٠ ].
وَذِكْر السَّبْعِينَ وِفَاق جَرَى، أَوْ هُوَ عَادَتهمْ فِي الْعِبَارَة عَنْ الْكَثْرَة وَالْإِغْيَاء.
فَإِذَا قَالَ قَائِلهمْ : لَا أُكَلِّمهُ سَبْعِينَ سَنَة صَارَ عِنْدهمْ بِمَنْزِلَةِ قَوْله.
لَا أُكَلِّمهُ أَبَدًا.
وَمِثْله فِي الْإِغْيَاء قَوْله تَعَالَى :" فِي سِلْسِلَة ذَرْعهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا " [ الْحَاقَّة : ٣٢ ] وَقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام :[ مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيل اللَّه بَاعَدَ اللَّه وَجْهه عَنْ النَّار سَبْعِينَ خَرِيفًا ].
وَقَالَتْ طَائِفَة : هُوَ تَخْيِير - مِنْهُمْ الْحَسَن وَقَتَادَة وَعُرْوَة - إِنْ شِئْت اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَإِنْ شِئْت لَا تَسْتَغْفِر.
وَلِهَذَا لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّي عَلَى اِبْن أُبَيّ قَالَ عُمَر : أَتُصَلِّي عَلَى عَدُوّ اللَّه، الْقَائِل يَوْم كَذَا كَذَا وَكَذَا ؟ فَقَالَ :[ إِنِّي خُيِّرْت فَاخْتَرْت ].
قَالُوا ثُمَّ نُسِخَ هَذَا لَمَّا نَزَلَ " سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْت لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِر لَهُمْ " [ الْمُنَافِقُونَ : ٦ ] " ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا " [ التَّوْبَة : ٨٠ ] أَيْ لَا يَغْفِر اللَّه لَهُمْ لِكُفْرِهِمْ.
قَوْله تَعَالَى :" مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ " [ التَّوْبَة : ١١٣ ] الْآيَة.
وَهَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ بِمَكَّة عِنْد مَوْت أَبِي طَالِب، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه.
وَهَذَا يُفْهَم مِنْهُ النَّهْي عَنْ الِاسْتِغْفَار لِمَنْ مَاتَ كَافِرًا.
وَهُوَ مُتَقَدِّم عَلَى هَذِهِ الْآيَة الَّتِي فَهِمَ مِنْهَا التَّخْيِير بِقَوْلِهِ :[ إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللَّه ] وَهَذَا مُشْكِل.
فَقِيلَ : إِنَّ اِسْتِغْفَاره لِعَمِّهِ إِنَّمَا كَانَ مَقْصُوده اِسْتِغْفَارًا مَرْجُوّ الْإِجَابَة حَتَّى تَحْصُل لَهُ الْمَغْفِرَة.
وَفِي هَذَا الِاسْتِغْفَار اِسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ السَّلَام رَبّه فِي أَنْ يَأْذَن لَهُ فِيهِ لِأُمِّهِ فَلَمْ يَأْذَن لَهُ فِيهِ.
وَأَمَّا الِاسْتِغْفَار لِلْمُنَافِقِينَ الَّذِي خُيِّرَ فِيهِ فَهُوَ اِسْتِغْفَار لِسَانِيّ لَا يَنْفَع، وَغَايَته تَطْيِيب قُلُوب بَعْض الْأَحْيَاء مِنْ قَرَابَات الْمُسْتَغْفَر لَهُ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ
أَيْ بِقُعُودِهِمْ.
قَعَدَ قُعُودًا وَمَقْعَدًا ; أَيْ جَلَسَ.
وَأَقْعَدَهُ غَيْره ; عَنْ الْجَوْهَرِيّ.
وَالْمُخَلَّف الْمَتْرُوك ; أَيْ خَلَّفَهُمْ اللَّه وَثَبَّطَهُمْ، أَوْ خَلَّفَهُمْ رَسُول اللَّه وَالْمُؤْمِنُونَ لَمَّا عَلِمُوا تَثَاقُلهمْ عَنْ الْجِهَاد ; قَوْلَانِ، وَكَانَ هَذَا فِي غَزْوَة تَبُوك.
خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
مَفْعُول مِنْ أَجْله، وَإِنْ شِئْت كَانَ مَصْدَرًا.
وَالْخِلَاف الْمُخَالَفَة.
وَمَنْ قَرَأَ " خَلْف رَسُول اللَّه " أَرَادَ التَّأَخُّر عَنْ الْجِهَاد.
وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ
أَيْ قَالَ بَعْضهمْ لِبَعْضٍ ذَلِكَ.
قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ
قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّد نَار جَهَنَّم.
أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ
اِبْتِدَاء وَخَبَر.
" حَرًّا " نُصِبَ عَلَى الْبَيَان ; أَيْ مَنْ تَرَكَ أَمْر اللَّه تَعَرَّضَ لِتِلْكَ النَّار.
فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ
" فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا " أَمْر، مَعْنَاهُ مَعْنَى التَّهْدِيد وَلَيْسَ أَمْرًا بِالضَّحِكِ.
وَالْأَصْل أَنْ تَكُون اللَّام مَكْسُورَة فَحُذِفَتْ الْكَسْرَة لِثِقَلِهَا.
قَالَ الْحَسَن :" فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا " فِي الدُّنْيَا " وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا " فِي جَهَنَّم.
وَقِيلَ : هُوَ أَمْر بِمَعْنَى الْخَبَر.
أَيْ إِنَّهُمْ سَيَضْحَكُونَ قَلِيلًا وَيَبْكُونَ كَثِيرًا.
" جَزَاء " مَفْعُول مِنْ أَجْله ; أَيْ لِلْجَزَاءِ.
مِنْ النَّاس مَنْ كَانَ لَا يَضْحَك اِهْتِمَامًا بِنَفْسِهِ وَفَسَاد حَاله فِي اِعْتِقَاده مِنْ شِدَّة الْخَوْف، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا صَالِحًا.
قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( وَاَللَّه لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَم لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَات تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّه تَعَالَى لَوَدِدْت أَنِّي كُنْت شَجَرَة تُعْضَد ) خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ.
وَكَانَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ مِمَّنْ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْحُزْن فَكَانَ لَا يَضْحَك.
وَكَانَ اِبْن سِيرِينَ يَضْحَك وَيَحْتَجّ عَلَى الْحَسَن وَيَقُول : اللَّه أَضْحَك وَأَبْكَى.
وَكَانَ الصَّحَابَة يَضْحَكُونَ ; إِلَّا أَنَّ الْإِكْثَار مِنْهُ وَمُلَازَمَته حَتَّى يَغْلِب عَلَى صَاحِبه مَذْمُوم مَنْهِيّ عَنْهُ، وَهُوَ مِنْ فِعْل السُّفَهَاء وَالْبَطَّالَة.
وَفِي الْخَبَر :( أَنَّ كَثْرَته تُمِيت الْقَلْب ) وَأَمَّا الْبُكَاء مِنْ خَوْف اللَّه وَعَذَابه وَشِدَّة عِقَابه فَمَحْمُود ; قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام :( اِبْكُوا فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا فَإِنَّ أَهْل النَّار يَبْكُونَ حَتَّى تَسِيل دُمُوعهمْ فِي وُجُوههمْ كَأَنَّهَا جَدَاوِل حَتَّى تَنْقَطِع الدُّمُوع فَتَسِيل الدِّمَاء فَتَقَرَّح الْعُيُون فَلَوْ أَنَّ سُفُنًا أُجْرِيَتْ فِيهَا لَجَرَتْ ) خَرَّجَهُ اِبْن الْمُبَارَك مِنْ حَدِيث أَنَس وَابْن مَاجَهْ أَيْضًا.
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ
أَيْ الْمُنَافِقِينَ.
وَإِنَّمَا قَالَ :" إِلَى طَائِفَة " لِأَنَّ جَمِيع مَنْ أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ مَا كَانُوا مُنَافِقِينَ، بَلْ كَانَ فِيهِمْ مَعْذُورُونَ وَمَنْ لَا عُذْر لَهُ، ثُمَّ عَفَا وَتَابَ عَلَيْهِمْ ; كَالثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا.
وَسَيَأْتِي.
فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا
أَيْ عَاقَبَهُمْ بِأَلَّا تَصْحَبهُمْ أَبَدًا.
وَهُوَ كَمَا قَالَ فِي " سُورَة الْفَتْح " :" قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا " [ الْفَتْح : ١٥ ].
إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ
و " الْخَالِفِينَ " جَمْع خَالِف ; كَأَنَّهُمْ خُلِّفُوا الْخَارِجِينَ.
قَالَ اِبْن عَبَّاس :" الْخَالِفِينَ " مَنْ تَخَلَّفَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ.
وَقَالَ الْحَسَن : مَعَ النِّسَاء وَالضُّعَفَاء مِنْ الرِّجَال، فَغُلِّبَ الْمُذَكَّر.
وَقِيلَ : الْمَعْنَى فَاقْعُدُوا مَعَ الْفَاسِدِينَ ; مِنْ قَوْلهمْ فُلَان خَالِفَة أَهْل بَيْته إِذَا كَانَ فَاسِدًا فِيهِمْ ; مِنْ خُلُوف فَم الصَّائِم.
وَمِنْ قَوْلك : خَلَفَ اللَّبَن ; أَيْ فَسَدَ بِطُولِ الْمُكْث فِي السِّقَاء ; فَعَلَى هَذَا يَعْنِي فَاقْعُدُوا مَعَ الْفَاسِدِينَ.
وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ اِسْتِصْحَاب الْمُخَذِّل فِي الْغَزَوَات لَا يَجُوز.
وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ
رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي شَأْن عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ ابْن سَلُول وَصَلَاة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ.
ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرهمَا.
وَتَظَاهَرَتْ الرِّوَايَات بِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَيْهِ، وَأَنَّ الْآيَة نَزَلَتْ بَعْد ذَلِكَ.
وَرُوِيَ عَنْ أَنَس بْن مَالِك أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تَقَدَّمَ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ جَاءَهُ جِبْرِيل فَجَبَذَ ثَوْبه وَتَلَا عَلَيْهِ " وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَد مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا " الْآيَة ; فَانْصَرَفَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ.
وَالرِّوَايَات الثَّابِتَة عَلَى خِلَاف هَذَا، فَفِي الْبُخَارِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ اِنْصَرَفَ ; فَلَمْ يَمْكُث إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى نَزَلَتْ الْآيَتَانِ مِنْ [ بَرَاءَة ] " وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَد مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا " وَنَحْوه عَنْ اِبْن عُمَر ; خَرَّجَهُ مُسْلِم.
قَالَ اِبْن عُمَر : لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ ابْن سَلُول جَاءَ اِبْنه عَبْد اللَّه إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ أَنْ يُعْطِيه قَمِيصه يُكَفِّن فِيهِ أَبَاهُ فَأَعْطَاهُ ثُمَّ سَأَلَهُ أَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِ، فَقَامَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَقَامَ عُمَر وَأَخَذَ بِثَوْبِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه، أَتُصَلِّي عَلَيْهِ وَقَدْ نَهَاك اللَّه أَنْ تُصَلِّي عَلَيْهِ ؟ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللَّه تَعَالَى فَقَالَ :" اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِر لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِر لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّة " [ التَّوْبَة : ٨٠ ] وَسَأَزِيدُ عَلَى سَبْعِينَ ) قَالَ : إِنَّهُ مُنَافِق.
فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ " وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَد مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْره " فَتَرَكَ الصَّلَاة عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : إِنَّمَا صَلَّى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ بِنَاء عَلَى الظَّاهِر مِنْ لَفْظ إِسْلَامه.
ثُمَّ لَمْ يَكُنْ يَفْعَل ذَلِكَ لَمَّا نُهِيَ عَنْهُ.
إِنْ قَالَ قَائِل فَكَيْفَ قَالَ عُمَر : أَتُصَلِّي عَلَيْهِ وَقَدْ نَهَاك اللَّه أَنْ تُصَلِّي عَلَيْهِ ; وَلَمْ يَكُنْ تَقَدَّمَ نَهْي عَنْ الصَّلَاة عَلَيْهِمْ.
قِيلَ لَهُ : يَحْتَمِل أَنْ يَكُون ذَلِكَ وَقَعَ لَهُ فِي خَاطِره، وَيَكُون مِنْ قَبِيل الْإِلْهَام وَالتَّحَدُّث الَّذِي شَهِدَ لَهُ بِهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ كَانَ الْقُرْآن يَنْزِل عَلَى مُرَاده، كَمَا قَالَ : وَافَقْت رَبِّي فِي ثَلَاث.
وَجَاءَ : فِي أَرْبَع.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَة.
فَيَكُون هَذَا مِنْ ذَلِكَ.
وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون فَهِمَ ذَلِكَ مِنْ قَوْله تَعَالَى :" اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِر لَهُمْ " [ التَّوْبَة : ٨٠ ] الْآيَة.
لَا أَنَّهُ كَانَ تَقَدَّمَ نَهْي عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيث الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم.
وَاَللَّه أَعْلَم.
قُلْت : وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون فَهِمَهُ مِنْ قَوْله تَعَالَى :" مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ " [ التَّوْبَة : ١١٣ ] لِأَنَّهَا نَزَلَتْ بِمَكَّة.
وَسَيَأْتِي الْقَوْل فِيهَا.
وَاخْتُلِفَ فِي إِعْطَاء النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَمِيصه لِعَبْدِ اللَّه ; فَقِيلَ : إِنَّمَا أَعْطَاهُ لِأَنَّ عَبْد اللَّه كَانَ قَدْ أَعْطَى الْعَبَّاس عَمّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَمِيصه يَوْم بَدْر.
وَذَلِكَ أَنَّ الْعَبَّاس لَمَّا أُسِرَ يَوْم بَدْر - عَلَى مَا تَقَدَّمَ - وَسُلِبَ ثَوْبه رَآهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ فَأَشْفَقَ عَلَيْهِ، فَطَلَبَ لَهُ قَمِيصًا فَمَا وَجَدَ لَهُ قَمِيص يُقَادِرهُ إِلَّا قَمِيص عَبْد اللَّه، لِتَقَارُبِهِمَا فِي طُول الْقَامَة ; فَأَرَادَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِعْطَاءِ الْقَمِيص أَنْ يَرْفَع الْيَد عَنْهُ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى لَا يَلْقَاهُ فِي الْآخِرَة وَلَهُ عَلَيْهِ يَد يُكَافِئهُ بِهَا، وَقِيلَ : إِنَّمَا أَعْطَاهُ الْقَمِيص إِكْرَامًا لِابْنِهِ وَإِسْعَافًا لَهُ فِي طُلْبَته وَتَطْيِيبًا لِقَلْبِهِ.
وَالْأَوَّل أَصَحّ ; خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ عَنْ جَابِر بْن عَبْد اللَّه قَالَ : لَمَّا كَانَ يَوْم بَدْر أُتِيَ بِأُسَارَى وَأُتِيَ بِالْعَبَّاسِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ثَوْب ; فَطَلَبَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ قَمِيصًا فَوَجَدُوا قَمِيص عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ يَقْدِر عَلَيْهِ، فَكَسَاهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُ ; فَلِذَلِكَ نَزَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَمِيصه الَّذِي أَلْبَسَهُ.
وَفِي الْحَدِيث أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :[ إِنَّ قَمِيصِي لَا يُغْنِي عَنْهُ مِنْ اللَّه شَيْئًا وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يُسْلِم بِفِعْلِي هَذَا أَلْف رَجُل مِنْ قَوْمِي ] كَذَا فِي بَعْض الرِّوَايَات ( مِنْ قَوْمِي ) يُرِيد مِنْ مُنَافِقِي الْعَرَب.
وَالصَّحِيح أَنَّهُ قَالَ :( رِجَال مِنْ قَوْمه ).
وَوَقَعَ فِي مَغَازِي اِبْن إِسْحَاق وَفِي بَعْض كُتُب التَّفْسِير : فَأَسْلَمَ وَتَابَ لِهَذِهِ الْفَعْلَة مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْف رَجُل مِنْ الْخَزْرَج.
لَمَّا قَالَ تَعَالَى :" وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَد مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا " قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا نَصّ فِي الِامْتِنَاع مِنْ الصَّلَاة عَلَى الْكُفَّار، وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيل عَلَى الصَّلَاة عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.
وَاخْتُلِفَ هَلْ يُؤْخَذ مِنْ مَفْهُومه وُجُوب الصَّلَاة عَلَى الْمُؤْمِنِينَ عَلَى قَوْلَيْنِ.
يُؤْخَذ لِأَنَّهُ عَلَّلَ الْمَنْع مِنْ الصَّلَاة عَلَى الْكُفَّار لِكُفْرِهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى :" إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاَللَّهِ وَرَسُوله " فَإِذَا زَالَ الْكُفْر وَجَبَتْ الصَّلَاة.
وَيَكُون هَذَا نَحْو قَوْله تَعَالَى :" كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبّهمْ يَوْمئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ " [ الْمُطَفِّفِينَ : ١٥ ] يَعْنِي الْكُفَّار ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّ غَيْر الْكُفَّار يَرَوْنَهُ وَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ ; فَذَلِكَ مِثْله.
وَاَللَّه أَعْلَم.
أَوْ تُؤْخَذ الصَّلَاة مِنْ دَلِيل خَارِج عَنْ الْآيَة، وَهِيَ الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي الْبَاب، وَالْإِجْمَاع.
وَمَنْشَأ الْخِلَاف الْقَوْل بِدَلِيلِ الْخِطَاب وَتَرْكه.
رَوَى مُسْلِم عَنْ جَابِر بْن عَبْد اللَّه قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( إِنَّ أَخًا لَكُمْ قَدْ مَاتَ فَقُومُوا فَصَلُّوا عَلَيْهِ ) قَالَ : فَقُمْنَا فَصَفَفْنَا صَفَّيْنِ ; يَعْنِي النَّجَاشِيّ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَى لِلنَّاسِ النَّجَاشِيّ فِي الْيَوْم الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى الْمُصَلَّى وَكَبَّرَ أَرْبَع تَكْبِيرَات.
وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوز تَرْك الصَّلَاة عَلَى جَنَائِز الْمُسْلِمِينَ، مِنْ أَهْل الْكَبَائِر كَانُوا أَوْ صَالِحِينَ، وِرَاثَة عَنْ نَبِيّهمْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلًا وَعَمَلًا.
وَالْحَمْد لِلَّهِ.
وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى ذَلِكَ إِلَّا فِي الشَّهِيد كَمَا تَقَدَّمَ ; وَإِلَّا فِي أَهْل الْبِدَع وَالْبُغَاة.
وَالْجُمْهُور مِنْ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ التَّكْبِير أَرْبَع.
قَالَ اِبْن سِيرِينَ : كَانَ التَّكْبِير ثَلَاثًا فَزَادُوا وَاحِدَة.
وَقَالَتْ طَائِفَة : يُكَبِّر خَمْسًا ; وَرُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود وَزَيْد بْن أَرْقَم.
وَعَنْ عَلِيّ : سِتّ تَكْبِيرَات.
وَعَنْ اِبْن عَبَّاس وَأَنَس بْن مَالِك وَجَابِر بْن زَيْد : ثَلَاث تَكْبِيرَات وَالْمُعَوَّل عَلَيْهِ أَرْبَع.
رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ أُبَيّ بْن كَعْب أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( إِنَّ الْمَلَائِكَة صَلَّتْ عَلَى آدَم فَكَبَّرَتْ عَلَيْهِ أَرْبَعًا وَقَالُوا هَذِهِ سُنَّتكُمْ يَا بَنِي آدَم ).
وَلَا قِرَاءَة فِي هَذِهِ الصَّلَاة فِي الْمَشْهُور مِنْ مَذْهَب مَالِك، وَكَذَلِكَ أَبُو حَنِيفَة وَالثَّوْرِيّ ; لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( إِذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى الْمَيِّت فَأَخْلِصُوا لَهُ الدُّعَاء ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَمُحَمَّد بْن مَسْلَمَة وَأَشْهَب مِنْ عُلَمَائِنَا وَدَاوُد إِلَى أَنَّهُ يَقْرَأ بِالْفَاتِحَةِ ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام :( لَا صَلَاة إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَاب ) حَمْلًا لَهُ عَلَى عُمُومه.
وَبِمَا خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَصَلَّى عَلَى جِنَازَة فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَاب وَقَالَ : لِتَعْلَمُوا أَنَّهَا سُنَّة.
وَخَرَّجَ النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيث أَبِي أُمَامَة قَالَ : السُّنَّة فِي الصَّلَاة عَلَى الْجَنَائِز أَنْ يَقْرَأ فِي التَّكْبِيرَة الْأُولَى بِأُمِّ الْقُرْآن مُخَافَتَة، ثُمَّ يُكَبِّر ثَلَاثًا، وَالتَّسْلِيم عِنْد الْآخِرَة.
وَذَكَرَ مُحَمَّد بْن نَصْر الْمَرْوَزِيّ عَنْ أَبِي أُمَامَة أَيْضًا قَالَ : السُّنَّة فِي الصَّلَاة عَلَى الْجَنَائِز أَنْ تُكَبِّر، ثُمَّ تَقْرَأ بِأُمِّ الْقُرْآن، ثُمَّ تُصَلِّي عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ تُخْلِص الدُّعَاء لِلْمَيِّتِ.
وَلَا يَقْرَأ إِلَّا فِي التَّكْبِيرَة الْأُولَى ثُمَّ يُسَلِّم.
قَالَ شَيْخنَا أَبُو الْعَبَّاس : وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ صَحِيحَانِ، وَهُمَا مُلْحَقَانِ عِنْد الْأُصُولِيِّينَ بِالْمُسْنَدِ.
وَالْعَمَل عَلَى حَدِيث أَبِي أُمَامَة أَوْلَى ; إِذْ فِيهِ جَمْع بَيْن قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام :( لَا صَلَاة ) وَبَيْن إِخْلَاص الدُّعَاء لِلْمَيِّتِ.
وَقِرَاءَة الْفَاتِحَة فِيهَا إِنَّمَا هِيَ اِسْتِفْتَاح لِلدُّعَاءِ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَسُنَّة الْإِمَام أَنْ يَقُوم عِنْد رَأْس الرَّجُل وَعَجِيزَة الْمَرْأَة، لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ أَنَس وَصَلَّى عَلَى جِنَازَة فَقَالَ لَهُ الْعَلَاء بْن زِيَاد : يَا أَبَا حَمْزَة، هَكَذَا كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَى الْجَنَائِز كَصَلَاتِك يُكَبِّر أَرْبَعًا وَيَقُوم عِنْد رَأْس الرَّجُل وَعَجِيزَة الْمَرْأَة ؟ قَالَ : نَعَمْ.
وَرَوَاهُ مُسْلِم عَنْ سَمُرَة بْن جُنْدُب قَالَ : صَلَّيْت خَلْف النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَلَّى عَلَى أُمّ كَعْب مَاتَتْ وَهِيَ نُفَسَاء، فَقَامَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهَا وَسَطهَا.
" وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْره " كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَفَنَ الْمَيِّت وَقَفَ عَلَى قَبْره وَدَعَا لَهُ بِالتَّثْبِيتِ، عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ [ فِي التَّذْكِرَة ] وَالْحَمْد لِلَّهِ.
وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ
كَرَّرَهُ تَأْكِيدًا.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَام فِيهِ.
وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ
اِنْتَدَبَ الْمُؤْمِنُونَ إِلَى الْإِجَابَة وَتَعَلَّلَ الْمُنَافِقُونَ.
فَالْأَمْر لِلْمُؤْمِنِينَ بِاسْتِدَامَةِ الْإِيمَان وَلِلْمُنَافِقِينَ بِابْتِدَاءِ الْإِيمَان.
و " أَنْ " فِي مَوْضِع نَصْب ; أَيْ بِأَنْ آمِنُوا.
و " الطَّوْل " الْغِنَى ; وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَخَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ مَنْ لَا طَوْل لَهُ لَا يَحْتَاج إِلَى إِذْن لِأَنَّهُ مَعْذُور.
" وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ " أَيْ الْعَاجِزِينَ عَنْ الْخُرُوج.
رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ
" الْخَوَالِف " جَمْع خَالِفَة ; أَيْ مَعَ النِّسَاء وَالصِّبْيَان وَأَصْحَاب الْأَعْذَار مِنْ الرِّجَال.
وَقَدْ يُقَال لِلرَّجُلِ : خَالِفَة وَخَالِف أَيْضًا إِذَا كَانَ غَيْر نَجِيب ; عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
يُقَال : فُلَان خَالِفَة أَهْله إِذَا كَانَ دُونهمْ.
قَالَ النَّحَّاس : وَأَصْله مِنْ خَلَفَ اللَّبَن يَخْلُف إِذَا حَمُضَ مِنْ طُول مُكْثه.
وَخَلَفَ فَم الصَّائِم إِذَا تَغَيَّرَ رِيحه ; وَمِنْهُ فُلَان خَلْف سَوْء ; إِلَّا أَنَّ فَوَاعِل جَمْع فَاعِلَة وَلَا يُجْمَع فَاعِل صِفَة عَلَى فَوَاعِل إِلَّا فِي الشِّعْر ; إِلَّا فِي حَرْفَيْنِ، وَهُمَا فَارِس وَهَالِك.
لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
وَقَوْله تَعَالَى فِي وَصْف الْمُجَاهِدِينَ :" وَأُولَئِكَ لَهُمْ الْخَيْرَات " قِيلَ : النِّسَاء الْحِسَان ; عَنْ الْحَسَن.
دَلِيله قَوْله عَزَّ وَجَلَّ :" فِيهِنَّ خَيْرَات حِسَان " [ الرَّحْمَن : ٧٠ ].
وَيُقَال : هِيَ خَيْرَة النِّسَاء.
وَالْأَصْل خَيِّرَة فَخُفِّفَ ; مِثْل هَيِّنَة وَهَيْنَة.
وَقِيلَ : جَمْع خَيْر.
فَالْمَعْنَى لَهُمْ مَنَافِع الدَّارَيْنِ.
" وَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ " " هُمْ " يَجُوز أَنْ يَكُون مُبْتَدَأ ثَانِيًا وَخَبَره " الْمُفْلِحُونَ "، وَالثَّانِي وَخَبَره خَبَر الْأَوَّل، وَيَجُوز أَنْ تَكُون " هُمْ " زَائِدَة يُسَمِّيهَا الْبَصْرِيُّونَ فَاصِلَة وَالْكُوفِيُّونَ عِمَادًا - و " الْمُفْلِحُونَ " خَبَر " أُولَئِكَ ".
وَالْفَلْح أَصْله فِي اللُّغَة الشَّقّ وَالْقَطْع ; قَالَ الشَّاعِر :
إِنَّ الْحَدِيد بِالْحَدِيدِ يُفْلَح
أَيْ يُشَقّ وَمِنْهُ فِلَاحَة الْأَرَضِينَ إِنَّمَا هُوَ شَقّهَا لِلْحَرْثِ، قَالَ أَبُو عُبَيْد.
وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْأَكَّار فَلَّاحًا.
وَيُقَال لِلَّذِي شُقَّتْ شَفَته السُّفْلَى أَفْلَح، وَهُوَ بَيِّن الْفَلَحَة، فَكَأَنَّ الْمُفْلِح قَدْ قَطَعَ الْمَصَاعِب حَتَّى نَالَ مَطْلُوبه.
وَقَدْ يُسْتَعْمَل فِي الْفَوْز وَالْبَقَاء، وَهُوَ أَصْله أَيْضًا فِي اللُّغَة، وَمِنْهُ قَوْل الرَّجُل لِامْرَأَتِهِ : اِسْتَفْلِحِي بِأَمْرِك، مَعْنَاهُ فُوزِي بِأَمْرِك، وَقَالَ الشَّاعِر :
لَوْ كَانَ حَيّ مُدْرِك الْفَلَاح أَدْرَكَهُ مُلَاعِب الرِّمَاح
وَقَالَ الْأَضْبَط بْن قُرَيْع السَّعْدِيّ فِي الْجَاهِلِيَّة الْجُهَلَاء :
لِكُلِّ هَمّ مِنْ الْهُمُوم سَعَه وَالْمَسِيّ وَالصُّبْح لَا فَلَاح مَعَهُ
يَقُول : لَيْسَ مَعَ كَرّ اللَّيْل وَالنَّهَار بَقَاء.
وَقَالَ آخَر :
نَحُلّ بِلَادًا كُلّهَا حُلّ قَبْلَنَا وَنَرْجُو الْفَلَاح بَعْد عَاد وَحِمْيَر
أَيْ الْبَقَاء : وَقَالَ عُبَيْد :
أَفْلِحْ بِمَا شِئْت فَقَدْ يُدْرَك بِالضَّعْفِ وَقَدْ يُخَدَّع الْأَرِيب
أَيْ اِبْقَ بِمَا شِئْت مِنْ كَيْس وَحُمْق فَقَدْ يُرْزَق الْأَحْمَق وَيُحْرَم الْعَاقِل.
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
وَالْجَنَّات : الْبَسَاتِين.
وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
" وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنْ الْأَعْرَاب " قَرَأَ الْأَعْرَج وَالضَّحَّاك " الْمُعْذَرُونَ " مُخَفَّفًا.
وَرَوَاهَا أَبُو كُرَيْب عَنْ أَبِي بَكْر عَنْ عَاصِم، وَرَوَاهَا أَصْحَاب الْقِرَاءَات عَنْ اِبْن عَبَّاس.
قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَكَانَ اِبْن عَبَّاس يَقْرَأ " وَجَاءَ الْمُعْذَرُونَ " مُخَفَّفَة، مِنْ أَعْذَرَ.
وَيَقُول : وَاَللَّه لَهَكَذَا أُنْزِلَتْ.
قَالَ النَّحَّاس : إِلَّا أَنَّ مَدَارهَا عَنْ الْكَلْبِيّ، وَهِيَ مِنْ أَعْذَرَ ; وَمِنْهُ قَدْ أَعْذَرَ مَنْ أَنْذَرَ ; أَيْ قَدْ بَالَغَ فِي الْعُذْر مَنْ تَقَدَّمَ إِلَيْك فَأَنْذَرَك.
وَأَمَّا " الْمُعَذِّرُونَ " بِالتَّشْدِيدِ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدهمَا أَنَّهُ يَكُون الْمُحِقّ ; فَهُوَ فِي الْمَعْنَى الْمُعْتَذِر، لِأَنَّ لَهُ عُذْرًا.
فَيَكُون " الْمُعَذِّرُونَ " عَلَى هَذِهِ أَصْله الْمُعْتَذِرُونَ، وَلَكِنَّ التَّاء قُلِبَتْ ذَالًا فَأُدْغِمَتْ فِيهَا وَجُعِلَتْ حَرَكَتهَا عَلَى الْعَيْن ; كَمَا قُرِئَ " يَخَصِّمُونَ " [ يس : ٤٩ ] بِفَتْحِ الْخَاء.
وَيَجُوز " الْمُعِذِّرُونَ " بِكَسْرِ الْعَيْن لِاجْتِمَاعِ السَّاكِنَيْنِ.
وَيَجُوز ضَمّهَا اِتِّبَاعًا لِلْمِيمِ.
ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيّ وَالنَّحَّاس.
إِلَّا أَنَّ النَّحَّاس حَكَاهُ عَنْ الْأَخْفَش وَالْفَرَّاء وَأَبِي حَاتِم وَأَبِي عُبَيْد.
وَيَجُوز أَنْ يَكُون الْأَصْل الْمُعْتَذِرُونَ، ثُمَّ أُدْغِمَتْ التَّاء فِي الذَّال ; وَيَكُونُونَ الَّذِينَ لَهُمْ عُذْر.
قَالَ لَبِيد :
إِلَى الْحَوْل ثُمَّ اِسْم السَّلَام عَلَيْكُمَا وَمَنْ يَبْكِ حَوْلًا كَامِلًا فَقَدْ اِعْتَذَرَ
وَالْقَوْل الْآخَر : أَنَّ الْمُعَذِّر قَدْ يَكُون غَيْر مُحِقّ، وَهُوَ الَّذِي يَعْتَذِر وَلَا عُذْر لَهُ.
قَالَ الْجَوْهَرِيّ : فَهُوَ الْمُعَذِّر عَلَى جِهَة الْمُفَعِّل ; لِأَنَّهُ الْمُمَرِّض وَالْمُقَصِّر يَعْتَذِر بِغَيْرِ عُذْر.
قَالَ غَيْره : يُقَال عُذِرَ فُلَان فِي أَمْر كَذَا تَعْذِيرًا ; أَيْ قَصَّرَ وَلَمْ يُبَالِغ فِيهِ.
وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ اِعْتَذَرُوا بِالْكَذِبِ.
قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَكَانَ اِبْن عَبَّاس يَقُول : لَعَنَ اللَّه الْمُعَذِّرِينَ.
كَأَنَّ الْأَمْر عِنْده أَنَّ الْمُعَذِّر بِالتَّشْدِيدِ هُوَ الْمُظْهِر لِلْعُذْرِ، اِعْتِلَالًا مِنْ غَيْر حَقِيقَة لَهُ فِي الْعُذْر.
النَّحَّاس : قَالَ أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بْن يَزِيد وَلَا يَجُوز أَنْ يَكُون الْأَصْل فِيهِ الْمُعْتَذِرِينَ، وَلَا يَجُوز الْإِدْغَام فَيَقَع اللَّبْس.
ذَكَرَ إِسْمَاعِيل بْن إِسْحَاق أَنَّ الْإِدْغَام مُجْتَنَب عَلَى قَوْل الْخَلِيل وَسِيبَوَيْهِ، بَعْد أَنْ كَانَ سِيَاق الْكَلَام يَدُلّ عَلَى أَنَّهُمْ مَذْمُومُونَ لَا عُذْر لَهُمْ، قَالَ : لِأَنَّهُمْ جَاءُوا لِيُؤْذَن لَهُمْ وَلَوْ كَانُوا مِنْ الضُّعَفَاء وَالْمَرْضَى وَاَلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ لَمْ يَحْتَاجُوا أَنْ يَسْتَأْذِنُوا.
قَالَ النَّحَّاس : وَأَصْل الْمَعْذِرَة وَالْإِعْذَار وَالتَّعْذِير مِنْ شَيْء وَاحِد وَهُوَ مِمَّا يَصْعُب وَيَتَعَذَّر.
وَقَوْل الْعَرَب : مَنْ عَذِيرِي مِنْ فُلَان، مَعْنَاهُ قَدْ أَتَى أَمْرًا عَظِيمًا يَسْتَحِقّ أَنْ أُعَاقِبهُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَعْلَم النَّاس بِهِ ; فَمَنْ يَعْذِرنِي إِنْ عَاقَبْته.
فَعَلَى قِرَاءَة التَّخْفِيف قَالَ اِبْن عَبَّاس : هُمْ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا بِعُذْرٍ فَأَذِنَ لَهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقِيلَ : هُمْ رَهْط عَامِر بْن الطُّفَيْل قَالُوا : يَا رَسُول اللَّه، لَوْ غَزَوْنَا مَعَك أَغَارَتْ أَعْرَاب طَيِّء عَلَى حَلَائِلنَا وَأَوْلَادنَا وَمَوَاشِينَا ; فَعَذَرَهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَعَلَى قِرَاءَة التَّشْدِيد فِي الْقَوْل الثَّانِي، هُمْ قَوْم مِنْ غِفَار اِعْتَذَرُوا فَلَمْ يَعْذُرهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِعِلْمِهِ أَنَّهُمْ غَيْر مُحِقِّينَ، وَاَللَّه أَعْلَم.
وَقَعَدَ قَوْم بِغَيْرِ عُذْر أَظْهَرُوهُ جُرْأَة عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمْ الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ فَقَالَ :" وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّه وَرَسُوله " وَالْمُرَاد بِكَذِبِهِمْ قَوْلهمْ : إِنَّا مُؤْمِنُونَ.
و " لِيُؤْذَن " نُصِبَ بِلَامِ كَيْ.
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ
قَوْله تَعَالَى :" لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء " الْآيَة.
أَصْل فِي سُقُوط التَّكْلِيف عَنْ الْعَاجِز ; فَكُلّ مَنْ عَجَزَ عَنْ شَيْء سَقَطَ عَنْهُ، فَتَارَة إِلَى بَدَل هُوَ فِعْل، وَتَارَة إِلَى بَدَل هُوَ غُرْم، وَلَا فَرْق بَيْن الْعَجْز مِنْ جِهَة الْقُوَّة أَوْ الْعَجْز مِنْ جِهَة الْمَال ; وَنَظِير هَذِهِ الْآيَة قَوْله تَعَالَى :" لَا يُكَلِّف اللَّه نَفْسًا إِلَّا وُسْعهَا " [ الْبَقَرَة : ٢٨٦ ] وَقَوْله :" لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَج وَلَا عَلَى الْأَعْرَج حَرَج وَلَا عَلَى الْمَرِيض حَرَج " [ النُّور : ٦١ ].
وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَنَس أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( لَقَدْ تَرَكْتُمْ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَة وَلَا قَطَعْتُمْ مِنْ وَادٍ إِلَّا وَهُمْ مَعَكُمْ فِيهِ ).
قَالُوا : يَا رَسُول اللَّه، وَكَيْفَ يَكُونُونَ مَعَنَا وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ ؟ قَالَ :( حَبَسَهُمْ الْعُذْر ).
فَبَيَّنَتْ هَذِهِ الْآيَة مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ نَظَائِرهَا أَنَّهُ لَا حَرَج عَلَى الْمَعْذُورِينَ، وَهُمْ قَوْم عُرِفَ عُذْرهمْ كَأَرْبَابِ الزَّمَانَة وَالْهَرَم وَالْعَمَى وَالْعَرَج، وَأَقْوَام لَمْ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ; فَقَالَ : لَيْسَ عَلَى هَؤُلَاءِ حَرَج.
إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ
إِذَا عَرَفُوا الْحَقّ وَأَحَبُّوا أَوْلِيَاءَهُ وَأَبْغَضُوا أَعْدَاءَهُ قَالَ الْعُلَمَاء : فَعَذَرَ الْحَقّ سُبْحَانه أَصْحَاب الْأَعْذَار، وَمَا صَبَرَتْ الْقُلُوب ; فَخَرَجَ اِبْن أُمّ مَكْتُوم إِلَى أُحُد وَطَلَبَ أَنْ يُعْطَى اللِّوَاء فَأَخَذَهُ مُصْعَب بْن عُمَيْر، فَجَاءَ رَجُل مِنْ الْكُفَّار فَضَرَبَ يَده الَّتِي فِيهَا اللِّوَاء فَقَطَعَهَا، فَأَمْسَكَهُ بِالْيَدِ الْأُخْرَى فَضَرَبَ الْيَد الْأُخْرَى فَأَمْسَكَهُ بِصَدْرِهِ وَقَرَأَ " وَمَا مُحَمَّد إِلَّا رَسُول قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْله الرُّسُل " [ آل عِمْرَان : ١٤٤ ].
هَذِهِ عَزَائِم الْقَوْم.
وَالْحَقّ يَقُول :" لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَج " [ النُّور : ٦١ ] وَهُوَ فِي الْأَوَّل.
" وَلَا عَلَى الْأَعْرَج حَرَج " [ النُّور : ٦١ ] وَعَمْرو بْن الْجَمُوح مِنْ نُقَبَاء الْأَنْصَار أَعْرَج وَهُوَ فِي أَوَّل الْجَيْش.
قَالَ لَهُ الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام :( إِنَّ اللَّه قَدْ عَذَرَك ) فَقَالَ : وَاَللَّه لَأَحْفِرَنَّ بِعَرْجَتِي هَذِهِ فِي الْجَنَّة ; إِلَى أَمْثَالهمْ حَسْب مَا تَقَدَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَة مِنْ ذِكْرهمْ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ.
وَقَالَ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود : وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُل يُؤْتَى بِهِ يُهَادَى بَيْن الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَام فِي الصَّفّ.
قَوْله تَعَالَى :" إِذَا نَصَحُوا " النُّصْح إِخْلَاص الْعَمَل مِنْ الْغِشّ.
وَمِنْهُ التَّوْبَة النَّصُوح.
قَالَ نَفْطَوَيْهِ : نَصَحَ الشَّيْء إِذَا خَلَصَ.
وَنَصَحَ لَهُ الْقَوْل أَيْ أَخْلَصَهُ لَهُ.
وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ تَمِيم الدَّارِيّ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( الدِّين النَّصِيحَة ) ثَلَاثًا.
قُلْنَا لِمَنْ ؟ قَالَ :( لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتهمْ "
قَالَ الْعُلَمَاء : النَّصِيحَة لِلَّهِ إِخْلَاص الِاعْتِقَاد فِي الْوَحْدَانِيَّة، وَوَصْفه بِصِفَاتِ الْأُلُوهِيَّة، وَتَنْزِيهه عَنْ النَّقَائِص وَالرَّغْبَة فِي مَحَابّه وَالْبُعْد مِنْ مَسَاخِطه.
وَالنَّصِيحَة لِرَسُولِهِ : التَّصْدِيق بِنُبُوَّتِهِ، وَالْتِزَام طَاعَته فِي أَمْره وَنَهْيه، وَمُوَالَاة مَنْ وَالَاهُ وَمُعَادَاة مَنْ عَادَاهُ، وَتَوْقِيره، وَمَحَبَّته وَمَحَبَّة آل بَيْته، وَتَعْظِيمه وَتَعْظِيم سُنَّته، وَإِحْيَاؤُهَا بَعْد مَوْته بِالْبَحْثِ عَنْهَا، وَالتَّفَقُّه فِيهَا وَالذَّبّ عَنْهَا وَنَشْرهَا وَالدُّعَاء إِلَيْهَا، وَالتَّخَلُّق بِأَخْلَاقِهِ الْكَرِيمَة صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَكَذَا النُّصْح لِكِتَابِ اللَّه : قِرَاءَته وَالتَّفَقُّه فِيهِ، وَالذَّبّ عَنْهُ وَتَعْلِيمه وَإِكْرَامه وَالتَّخَلُّق بِهِ.
وَالنُّصْح لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ : تَرْك الْخُرُوج عَلَيْهِمْ، وَإِرْشَادهمْ إِلَى الْحَقّ وَتَنْبِيههمْ فِيمَا أَغْفَلُوهُ مِنْ أُمُور الْمُسْلِمِينَ، وَلُزُوم طَاعَتهمْ وَالْقِيَام بِوَاجِبِ حَقّهمْ.
وَالنُّصْح لِلْعَامَّةِ : تَرْك مُعَادَاتهمْ، وَإِرْشَادهمْ وَحُبّ الصَّالِحِينَ مِنْهُمْ، وَالدُّعَاء لِجَمِيعِهِمْ وَإِرَادَة الْخَيْر لِكَافَّتِهِمْ.
وَفِي الْحَدِيث الصَّحِيح ( مَثَل الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادّهمْ وَتَرَاحُمهمْ وَتَعَاطُفهمْ مَثَل الْجَسَد إِذَا اِشْتَكَى مِنْهُ عُضْو تَدَاعَى لَهُ سَائِر الْجَسَد بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى ).
مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
" مِنْ سَبِيل " فِي مَوْضِع رَفْع اِسْم " مَا " أَيْ مِنْ طَرِيق إِلَى الْعُقُوبَة.
وَهَذِهِ الْآيَة أَصْل فِي رَفْع الْعِقَاب عَنْ كُلّ مُحْسِن.
وَلِهَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا فِي الَّذِي يَقْتَصّ مِنْ قَاطِع يَده فَيُفْضِي ذَلِكَ فِي السِّرَايَة إِلَى إِتْلَاف نَفْسه : إِنَّهُ لَا دِيَة لَهُ ; لِأَنَّهُ مُحْسِن فِي اِقْتِصَاصه مِنْ الْمُعْتَدِي عَلَيْهِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : تَلْزَمهُ الدِّيَة.
وَكَذَلِكَ إِذَا صَالَ فَحْل عَلَى رَجُل فَقَتَلَهُ فِي دَفْعه عَنْ نَفْسه فَلَا ضَمَان عَلَيْهِ ; وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : تَلْزَمهُ لِمَالِكِهِ الْقِيمَة.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَكَذَلِكَ الْقَوْل فِي مَسَائِل الشَّرِيعَة كُلّهَا.
وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ
رُوِيَ أَنَّ الْآيَة نَزَلَتْ فِي عِرْبَاض بْن سَارِيَة.
وَقِيلَ : نَزَلَتْ فِي عَائِذ بْن عَمْرو.
وَقِيلَ : نَزَلَتْ فِي بَنِي مُقَرِّن - وَعَلَى هَذَا جُمْهُور الْمُفَسِّرِينَ - وَكَانُوا سَبْعَة إِخْوَة، كُلّهمْ صَحِبُوا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ فِي الصَّحَابَة سَبْعَة إِخْوَة غَيْرهمْ، وَهُمْ النُّعْمَان وَمَعْقِل وَعَقِيل وَسُوَيْد وَسِنَان وَسَابِع لَمْ يُسَمَّ بَنُو مُقَرِّن الْمُزَنِيُّونَ سَبْعَة إِخْوَة هَاجَرُوا وَصَحِبُوا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُشَارِكهُمْ - فِيمَا ذَكَرَهُ اِبْن عَبْد الْبَرّ وَجَمَاعَة - فِي هَذِهِ الْمَكْرُمَة غَيْرهمْ.
وَقَدْ قِيلَ : إِنَّهُمْ شَهِدُوا الْخَنْدَق كُلّهمْ.
وَقِيلَ : نَزَلَتْ فِي سَبْعَة نَفَر مِنْ بُطُون شَتَّى، وَهُمْ الْبَكَّاءُونَ أَتَوْا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَة تَبُوك لِيَحْمِلهُمْ، فَلَمْ يَجِد مَا يَحْمِلهُمْ عَلَيْهِ ; ف " تَوَلَّوْا وَأَعْيُنهمْ تَفِيض مِنْ الدَّمْع حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ " فَسُمُّوا الْبَكَّائِينَ.
وَهُمْ سَالِم بْن عُمَيْر مِنْ بَنِي عَمْرو بْن عَوْف وَعُلْبَة بْن زَيْد أَخُو بَنِي حَارِثَة.
وَأَبُو لَيْلَى عَبْد الرَّحْمَن بْن كَعْب مِنْ بَنِي مَازِن بْن النَّجَّار.
وَعَمْرو بْن الْحُمَام مِنْ بَنِي سَلَمَة.
وَعَبْد اللَّه بْن الْمُغَفَّل الْمُزَنِيّ، وَقِيلَ : بَلْ هُوَ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو الْمُزَنِيّ.
وَهَرَمِيّ بْن عَبْد اللَّه أَخُو بَنِي وَاقِف، وَعِرْبَاض بْن سَارِيَة الْفَزَارِيّ، هَكَذَا سَمَّاهُمْ أَبُو عُمَر فِي كِتَاب الدُّرَر لَهُ.
وَفِيهِمْ اِخْتِلَاف.
قَالَ الْقُشَيْرِيّ : مَعْقِل بْن يَسَار وَصَخْر بْن خَنْسَاء وَعَبْد اللَّه بْن كَعْب الْأَنْصَارِيّ، وَسَالِم بْن عُمَيْر، وَثَعْلَبَة بْن غَنَمَة، وَعَبْد اللَّه بْن مُغَفَّل وَآخَر.
قَالُوا : يَا نَبِيّ اللَّه، قَدْ نَدَبْتَنَا لِلْخُرُوجِ مَعَك، فَاحْمِلْنَا عَلَى الْخِفَاف الْمَرْفُوعَة وَالنِّعَال الْمَخْصُوفَة نَغْزُ مَعَك.
فَقَالَ :" لَا أَجِد مَا أَحْمِلكُمْ عَلَيْهِ " فَتَوَلَّوْا وَهُمْ يَبْكُونَ.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : سَأَلُوهُ أَنْ يَحْمِلهُمْ عَلَى الدَّوَابّ، وَكَانَ الرَّجُل يَحْتَاج إِلَى بَعِيرَيْنِ، بَعِير يَرْكَبهُ وَبَعِير يَحْمِل مَاءَهُ وَزَادَهُ لِبُعْدِ الطَّرِيق.
وَقَالَ الْحَسَن : نَزَلَتْ فِي أَبِي مُوسَى وَأَصْحَابه أَتَوْا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْتَحْمِلُوهُ، وَوَافَقَ ذَلِكَ مِنْهُ غَضَبًا فَقَالَ :" وَاَللَّه لَا أَحْمِلكُمْ وَلَا أَجِد مَا أَحْمِلكُمْ عَلَيْهِ فَتَوَلَّوْا يَبْكُونَ ; فَدَعَاهُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْطَاهُمْ ذَوْدًا.
فَقَالَ أَبُو مُوسَى : أَلَسْت حَلَفْت يَا رَسُول اللَّه ؟ فَقَالَ :( إِنِّي إِنْ شَاءَ اللَّه لَا أَحْلِف عَلَى يَمِين فَأَرَى غَيْرهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا أَتَيْت الَّذِي هُوَ خَيْر وَكَفَّرْت عَنْ يَمِينِي ).
قُلْت : وَهَذَا حَدِيث صَحِيح أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ.
وَفِي مُسْلِم : فَدَعَا بِنَا فَأَمَرَ لَنَا بِخَمْسِ ذَوْد غُرّ الذُّرَى... ) الْحَدِيث.
وَفِي آخِره :( فَانْطَلِقُوا فَإِنَّمَا حَمَلَكُمْ اللَّه ).
وَقَالَ الْحَسَن أَيْضًا وَبَكْر بْن عَبْد اللَّه : نَزَلَتْ فِي عَبْد اللَّه بْن مُغَفَّل الْمُزَنِيّ، أَتَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَحْمِلهُ.
قَالَ الْجُرْجَانِيّ : التَّقْدِير أَيْ وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْك لِتَحْمِلهُمْ وَقُلْت لَا أَجِد.
فَهُوَ مُبْتَدَأ مَعْطُوف عَلَى مَا قَبْله بِغَيْرِ وَاو، وَالْجَوَاب " تَوَلَّوْا ".
تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ
الْجُمْلَة فِي مَوْضِع نَصْب عَلَى الْحَال.
" حَزَنًا " مَصْدَر.
" أَلَّا يَجِدُوا " نُصِبَ بِأَنْ.
وَقَالَ النَّحَّاس : قَالَ الْفَرَّاء يَجُوز أَنْ لَا يَجِدُونَ ; يُجْعَل لَا بِمَعْنَى لَيْسَ.
وَهُوَ عِنْد الْبَصْرِيِّينَ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ.
وَالْجُمْهُور مِنْ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ مَنْ لَا يَجِد مَا يُنْفِقهُ فِي غَزْوه أَنَّهُ لَا يَجِب عَلَيْهِ.
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : إِذَا كَانَتْ عَادَته الْمَسْأَلَة لَزِمَهُ كَالْحَجِّ وَخَرَجَ عَلَى الْعَادَة لِأَنَّ حَاله إِذَا لَمْ تَتَغَيَّر يَتَوَجَّه الْفَرْض عَلَيْهِ كَتَوَجُّهِهِ عَلَى الْوَاجِد.
وَاَللَّه أَعْلَم.
فِي قَوْله تَعَالَى :" وَأَعْيُنهمْ تَفِيض مِنْ الدَّمْع " مَا يُسْتَدَلّ بِهِ عَلَى قَرَائِن الْأَحْوَال.
ثُمَّ مِنْهَا مَا يُفِيد الْعِلْم الضَّرُورِيّ، وَمِنْهَا مَا يَحْتَمِل التَّرْدِيد.
فَالْأَوَّل كَمَنْ يَمُرّ عَلَى دَار قَدْ عَلَا فِيهَا النَّعْي وَخُمِشَتْ الْخُدُود وَحُلِقَتْ الشُّعُور وَسُلِقَتْ الْأَصْوَات وَخُرِقَتْ الْجُيُوب وَنَادَوْا عَلَى صَاحِب الدَّار بِالثُّبُورِ ; فَيَعْلَم أَنَّهُ قَدْ مَاتَ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَكَدُمُوعِ الْأَيْتَام عَلَى أَبْوَاب الْحُكَّام ; قَالَ اللَّه تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ إِخْوَة يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام :" وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ " [ يُوسُف : ١٦ ].
وَهُمْ الْكَاذِبُونَ ; قَالَ اللَّه تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْهُمْ :" وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصه بِدَمٍ كَذِب " [ يُوسُف : ١٨ ].
وَمَعَ هَذَا فَإِنَّهَا قَرَائِن يُسْتَدَلّ بِهَا فِي الْغَالِب فَتُبْنَى عَلَيْهَا الشَّهَادَات بِنَاء عَلَى ظَوَاهِر الْأَحْوَال وَغَالِبهَا.
وَقَالَ الشَّاعِر :
إِذَا اِشْتَبَكَتْ دُمُوع فِي خُدُود تَبَيَّنَ مَنْ بَكَى مِمَّنْ تَبَاكَى
وَسَيَأْتِي هَذَا الْمَعْنَى فِي " يُوسُف " مُسْتَوْفًى إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
إِنَّمَا السَّبِيلُ
أَيْ الْعُقُوبَة وَالْمَأْثَم.
عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ
وَالْمُرَاد الْمُنَافِقُونَ.
كَرَّرَ ذِكْرهمْ لِلتَّأْكِيدِ فِي التَّحْذِير مِنْ سُوء أَفْعَالهمْ.
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ
يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ.
قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ
أَيْ لَنْ نُصَدِّقكُمْ.
قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ
أَيْ أَخْبَرَنَا بِسَرَائِرِكُمْ.
وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ
فِيمَا تَسْتَأْنِفُونَ.
ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
أَيْ يُجَازِيكُمْ بِعَمَلِكُمْ.
وَقَدْ مَضَى هَذَا كُلّه مُسْتَوْفًى.
سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ
أَيْ مِنْ تَبُوك.
وَالْمَحْلُوف عَلَيْهِ مَحْذُوف ; أَيْ يَحْلِفُونَ أَنَّهُمْ مَا قَدَرُوا عَلَى الْخُرُوج.
لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ
أَيْ لِتَصْفَحُوا عَنْ لَوْمهمْ.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : أَيْ لَا تُكَلِّمُوهُمْ.
وَفِي الْخَبَر أَنَّهُ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام لَمَّا قَدِمَ مِنْ تَبُوك :( وَلَا تُجَالِسُوهُمْ وَلَا تُكَلِّمُوهُمْ ).
فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ
أَيْ عَمَلهمْ رِجْس ; وَالتَّقْدِير : إِنَّهُمْ ذَوُو رِجْس ; أَيْ عَمَلهمْ قَبِيح.
وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ
أَيْ مَنْزِلهمْ وَمَكَانهمْ.
قَالَ الْجَوْهَرِيّ : الْمَأْوَى كُلّ مَكَان يَأْوِي إِلَيْهِ شَيْء لَيْلًا أَوْ نَهَارًا.
وَقَدْ أَوَى فُلَان إِلَى مَنْزِله يَأْوِي أَوِيًّا، عَلَى فَعُول، وَإِوَاء.
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى :" سَآوِي إِلَى جَبَل يَعْصِمنِي مِنْ الْمَاء " [ هُود : ٤٣ ].
وَآوَيْته أَنَا إِيوَاء.
وَأَوَيْته إِذَا أَنْزَلْته بِك ; فَعَلْت وَأَفْعَلْت، بِمَعْنًى ; عَنْ أَبَى زَيْد.
وَمَأْوِي الْإِبِل " بِكَسْرِ الْوَاو " لُغَة فِي مَأْوَى الْإِبِل خَاصَّة، وَهُوَ شَاذّ.
يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ
حَلَفَ عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ أَلَّا يَتَخَلَّف عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْد ذَلِكَ وَطَلَبَ أَنْ يَرْضَى عَنْهُ.
الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا
لَمَّا ذَكَرَ جَلَّ وَعَزَّ أَحْوَال الْمُنَافِقِينَ بِالْمَدِينَةِ ذَكَرَ مَنْ كَانَ خَارِجًا مِنْهَا وَنَائِيًا عَنْهَا مِنْ الْأَعْرَاب ; فَقَالَ كُفْرهمْ أَشَدّ.
قَالَ قَتَادَة : لِأَنَّهُمْ أَبْعَد عَنْ مَعْرِفَة السُّنَن.
وَقِيلَ : لِأَنَّهُمْ أَقْسَى قَلْبًا وَأَجْفَى قَوْلًا وَأَغْلَظ طَبْعًا وَأَبْعَد عَنْ سَمَاع التَّنْزِيل.
وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ وَدَلَّ عَلَى نَقْصهمْ وَحَطّهمْ عَنْ الْمَرْتَبَة الْكَامِلَة عَنْ سِوَاهُمْ تَرَتَّبَتْ عَلَى ذَلِكَ أَحْكَام ثَلَاثَة : أَوَّلهَا : لَا حَقّ لَهُمْ فِي الْفَيْء وَالْغَنِيمَة ; كَمَا قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَحِيح مُسْلِم مِنْ حَدِيث بُرَيْدَة، وَفِيهِ :( ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّل مِنْ دَارهمْ إِلَى دَار الْمُهَاجِرِينَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا عَنْهَا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْم اللَّه الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَكُون لَهُمْ فِي الْغَنِيمَة وَالْفَيْء شَيْء إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ ).
وَثَانِيهَا : إِسْقَاط شَهَادَة أَهْل الْبَادِيَة عَنْ الْحَاضِرَة ; لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَحَقُّق التُّهْمَة.
وَأَجَازَهَا أَبُو حَنِيفَة قَالَ : لِأَنَّهَا لَا تُرَاعَى كُلّ تُهْمَة، وَالْمُسْلِمُونَ كُلّهمْ عِنْده عَلَى الْعَدَالَة.
وَأَجَازَهَا الشَّافِعِيّ إِذَا كَانَ عَدْلًا مَرْضِيًّا ; وَهُوَ الصَّحِيح لِمَا بَيَّنَّاهُ فِي [ الْبَقَرَة ].
وَقَدْ وَصَفَ اللَّه تَعَالَى الْأَعْرَاب هُنَا أَوْصَافًا ثَلَاثَة : أَحَدهَا : بِالْكُفْرِ وَالنِّفَاق.
وَالثَّانِي : بِأَنَّهُ يَتَّخِذ مَا يُنْفِق مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّص بِكُمْ الدَّوَائِر.
وَالثَّالِث : بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِر وَيَتَّخِذ مَا يُنْفِق قُرُبَات عِنْد اللَّه وَصَلَوَات الرَّسُول ; فَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَته فَبَعِيد أَلَّا تُقْبَل شَهَادَته فَيُلْحَق بِالثَّانِي وَالْأَوَّل، وَذَلِكَ بَاطِل.
وَقَدْ مَضَى الْكَلَام فِي هَذَا فِي [ النِّسَاء ].
وَثَالِثهَا : أَنَّ إِمَامَتهمْ بِأَهْلِ الْحَاضِرَة مَمْنُوعَة لِجَهْلِهِمْ بِالسُّنَّةِ وَتَرْكهمْ الْجُمْعَة.
وَكَرِهَ أَبُو مِجْلَز إِمَامَة الْأَعْرَابِيّ.
وَقَالَ مَالِك : لَا يَؤُمّ وَإِنْ كَانَ أَقْرَأهُمْ.
وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْرِيّ وَالشَّافِعِيّ وَإِسْحَاق وَأَصْحَاب الرَّأْي : الصَّلَاة خَلْف الْأَعْرَابِيّ جَائِزَة.
وَاخْتَارَهُ اِبْن الْمُنْذِر إِذَا أَقَامَ حُدُود الصَّلَاة.
قَوْله تَعَالَى :" أَشَدّ " أَصْله أَشْدَد ; وَقَدْ تَقَدَّمَ.
" كُفْرًا " نُصِبَ عَلَى الْبَيَان.
" وَنِفَاقًا " عُطِفَ عَلَيْهِ.
وَالْعَرَب : جِيل مِنْ النَّاس، وَالنِّسْبَة إِلَيْهِمْ عَرَبِيّ بَيِّن الْعُرُوبَة، وَهُمْ أَهْل الْأَمْصَار.
وَالْأَعْرَاب مِنْهُمْ سُكَّان الْبَادِيَة خَاصَّة.
وَجَاءَ فِي الشِّعْر الْفَصِيح أَعَارِيب.
وَالنِّسْبَة إِلَى الْأَعْرَاب أَعْرَابِيّ لِأَنَّهُ لَا وَاحِد لَهُ، وَلَيْسَ الْأَعْرَاب جَمْعًا لِلْعَرَبِ كَمَا كَانَ الْأَنْبَاط جَمْعًا لِنَبَطٍ ; وَإِنَّمَا الْعَرَب اِسْم جِنْس.
وَالْعَرَب الْعَارِبَة هُمْ الْخُلَّص مِنْهُمْ، وَأُخِذَ مِنْ لَفْظه وَأُكِّدَ بِهِ ; كَقَوْلِك : لَيْل لَائِل.
وَرُبَّمَا قَالُوا : الْعَرَب الْعَرْبَاء.
وَتَعَرَّبَ أَيْ تَشَبَّهَ بِالْعَرَبِ.
وَتَعَرَّبَ بَعْد هِجْرَته أَيْ صَارَ أَعْرَابِيًّا.
وَالْعَرَب الْمُسْتَعْرِبَة هُمْ الَّذِينَ لَيْسُوا بِخُلَّصٍ، وَكَذَلِكَ الْمُتَعَرِّبَة، وَالْعَرَبِيَّة هِيَ هَذِهِ اللُّغَة.
وَيَعْرُب بْن قَحْطَان أَوَّل مَنْ تَكَلَّمَ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَهُوَ أَبُو الْيَمَن كُلّهمْ.
وَالْعَرَب وَالْعُرْب وَاحِد ; مِثْل الْعَجَم وَالْعُجْم.
وَالْعُرَيْب تَصْغِير الْعَرَب ; قَالَ الشَّاعِر :
وَمَكْن الضِّبَاب طَعَام الْعُرَيْب وَلَا تَشْتَهِيه نُفُوس الْعَجَم
إِنَّمَا صَغَّرَهُمْ تَعْظِيمًا ; كَمَا قَالَ : أَنَا جُذَيْلهَا الْمُحَكَّك، وَعُذَيْقهَا الْمُرَجَّب كُلّه عَنْ الْجَوْهَرِيّ.
وَحَكَى الْقُشَيْرِيّ وَجَمْع الْعَرَبِيّ الْعَرَب، وَجَمْع الْأَعْرَابِيّ أَعْرَاب وَأَعَارِيب.
وَالْأَعْرَابِيّ إِذَا قِيلَ لَهُ يَا عَرَبِيّ فَرِحَ، وَالْعَرَبِيّ إِذَا قِيلَ لَهُ يَا أَعْرَابِيّ غَضِبَ.
وَالْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَار عَرَب لَا أَعْرَاب.
وَسُمِّيَتْ الْعَرَب عَرَبًا لِأَنَّ وَلَد إِسْمَاعِيل نَشَئُوا مِنْ عَرَبَة وَهِيَ مِنْ تِهَامَة فَنُسِبُوا إِلَيْهَا.
وَأَقَامَتْ قُرَيْش بِعَرَبَة وَهِيَ مَكَّة، وَانْتَشَرَ سَائِر الْعَرَب فِي جَزِيرَتهَا.
وَأَجْدَرُ
وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّه تَعَالَى فِي حَقّهمْ :" وَأَجْدَر " أَيْ أَخْلَق.
" وَأَجْدَر " عَطْف عَلَى أَشَدّ، وَمَعْنَاهُ أَخْلَق ; يُقَال : فُلَان جَدِير بِكَذَا أَيْ خَلِيق بِهِ، وَأَنْتَ جَدِير أَنْ تَفْعَل كَذَا، وَالْجَمْع جُدَرَاء وَجَدِيرُونَ.
وَأَصْله مِنْ جُدُر الْحَائِط وَهُوَ رَفْعه بِالْبِنَاءِ.
فَقَوْله : هُوَ أَجْدَر بِكَذَا أَيْ أَقْرَب إِلَيْهِ وَأَحَقّ بِهِ.
أَلَّا يَعْلَمُوا
" أَنْ " فِي مَوْضِع نَصْب بِحَذْفِ الْبَاء ; تَقُول : أَنْتَ جَدِير بِأَنْ تَفْعَل وَأَنْ تَفْعَل ; فَإِذَا حُذِفَتْ الْبَاء لَمْ يَصْلُح إِلَّا ب " أَنْ " وَإِنْ أَتَيْت بِالْبَاءِ صَلُحَ ب " أَنْ " وَغَيْره ; تَقُول : أَنْتَ جَدِير أَنْ تَقُوم، وَجَدِير بِالْقِيَامِ.
وَلَوْ قُلْت : أَنْتَ جَدِير الْقِيَام كَانَ خَطَأ.
وَإِنَّمَا صَلُحَ مَعَ " أَنْ " لِأَنَّ أَنْ يَدُلّ عَلَى الِاسْتِقْبَال فَكَأَنَّهَا عِوَض مِنْ الْمَحْذُوف.
و " أَلَّا يَعْلَمُوا " أَيْ بِأَلَّا يَعْلَمُوا.
حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
أَيْ فَرَائِض الشَّرْع.
وَقِيلَ : حُجَج اللَّه فِي الرُّبُوبِيَّة وَبَعْثَة الرُّسُل لِقِلَّةِ نَظَرهمْ.
وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا
" مَنْ " فِي مَوْضِع رَفْع بِالِابْتِدَاءِ.
" مَا يُنْفِق مَغْرَمًا " مَفْعُولَانِ ; وَالتَّقْدِير يُنْفِقهُ، فَحُذِفَتْ الْهَاء لِطُولِ الِاسْم.
" مَغْرَمًا " مَعْنَاهُ غُرْمًا وَخُسْرَانًا ; وَأَصْله لُزُوم الشَّيْء ; وَمِنْهُ :" إِنَّ عَذَابهَا كَانَ غَرَامًا " [ الْفُرْقَان : ٦٥ ] أَيْ لَازِمًا، أَيْ يَرَوْنَ مَا يُنْفِقُونَهُ فِي جِهَاد وَصَدَقَة غُرْمًا وَلَا يَرْجُونَ عَلَيْهِ ثَوَابًا.
وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ
التَّرَبُّص الِانْتِظَار ; وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَالدَّوَائِر جَمْع دَائِرَة، وَهِيَ الْحَالَة الْمُنْقَلِبَة عَنْ النِّعْمَة إِلَى الْبَلِيَّة، أَيْ يَجْمَعُونَ إِلَى الْجَهْل بِالْإِنْفَاقِ سُوء الدَّخْلَة وَخُبْث الْقَلْب.
عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
قَرَأَهُ اِبْن كَثِير وَأَبُو عَمْرو بِضَمِّ السِّين هُنَا وَفِي الْفَتْح، وَفَتَحَهَا الْبَاقُونَ.
وَأَجْمَعُوا عَلَى فَتْح السِّين فِي قَوْله :" مَا كَانَ أَبُوك اِمْرَأَ سَوْء " [ مَرْيَم : ٢٨ ].
وَالْفَرْق بَيْنهمَا أَنَّ السُّوء بِالضَّمِّ الْمَكْرُوه.
قَالَ الْأَخْفَش : أَيْ عَلَيْهِمْ دَائِرَة الْهَزِيمَة وَالشَّرّ.
وَقَالَ الْفَرَّاء : أَيْ عَلَيْهِمْ دَائِرَة الْعَذَاب وَالْبَلَاء.
قَالَا : وَلَا يَجُوز اِمْرَأَ سُوء بِالضَّمِّ ; كَمَا لَا يُقَال : هُوَ اِمْرُؤُ عَذَاب وَلَا شَرّ.
وَحُكِيَ عَنْ مُحَمَّد بْن يَزِيد قَالَ : السَّوْء بِالْفَتْحِ الرَّدَاءَة.
قَالَ سِيبَوَيْهِ : مَرَرْت بِرَجُلِ صِدْق، وَمَعْنَاهُ بِرَجُلِ صَلَاح.
وَلَيْسَ مِنْ صِدْق اللِّسَان، وَلَوْ كَانَ مِنْ صِدْق اللِّسَان لَمَا قُلْت : مَرَرْت بِثَوْبِ صِدْق.
وَمَرَرْت بِرَجُلِ سَوْء لَيْسَ هُوَ مِنْ سُؤْته، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ مَرَرْت بِرَجُلِ فَسَاد.
وَقَالَ الْفَرَّاء : السَّوْء بِالْفَتْحِ مَصْدَر سُؤْته سَوْءًا وَمَسَاءَة وَسُوَائِيَّة.
قَالَ غَيْره : وَالْفِعْل مِنْهُ سَاءَ يَسُوء.
وَالسُّوء بِالضَّمِّ اِسْم لَا مَصْدَر ; وَهُوَ كَقَوْلِك : عَلَيْهِمْ دَائِرَة الْبَلَاء وَالْمَكْرُوه.
وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
" وَمِنْ الْأَعْرَاب مَنْ يُؤْمِن بِاَللَّهِ " أَيْ صَدَّقَ.
وَالْمُرَاد بَنُو مُقَرِّن مِنْ مُزَيْنَة ; ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيّ.
وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ
" قُرُبَات " جَمْع قُرْبَة، وَهِيَ مَا يُتَقَرَّب بِهِ إِلَى اللَّه تَعَالَى ; وَالْجَمْع قُرَب وَقُرُبَات وَقَرَبَات وَقُرْبَات ; حَكَاهُ النَّحَّاس.
وَالْقُرُبَات بِالضَّمِّ مَا تُقَرِّب بِهِ إِلَى اللَّه تَعَالَى ; تَقُول مِنْهُ : قَرَّبْت لِلَّهِ قُرْبَانًا.
وَالْقِرْبَة بِكَسْرِ الْقَاف مَا يُسْتَقَى فِيهِ الْمَاء ; وَالْجَمْع فِي أَدْنَى الْعَدَد قُرُبَات وَقَرَبَات وَقُرْبَات، وَلِلْكَثِيرِ قُرُب.
وَكَذَلِكَ جَمْع كُلّ مَا كَانَ عَلَى فِعْلَة ; مِثْل سِدْرَة وَفِقْرَة، لَك أَنْ تَفْتَح الْعَيْن وَتَكْسِر وَتُسَكِّن ; حَكَاهُ الْجَوْهَرِيّ.
وَقَرَأَ نَافِع فِي رِوَايَة وَرْش " قُرُبَة " بِضَمِّ الرَّاء وَهِيَ الْأَصْل.
وَالْبَاقُونَ بِسُكُونِهَا تَخْفِيفًا ; مِثْل كُتُب وَرُسُل، وَلَا خِلَاف فِي قُرُبَات.
وَحَكَى اِبْن سَعْدَان أَنَّ يَزِيد بْن الْقَعْقَاع قَرَأَ " أَلَا إِنَّهَا قُرْبَة لَهُمْ ".
وَمَعْنَى " وَصَلَوَات الرَّسُول " اِسْتِغْفَاره وَدُعَاؤُهُ.
وَالصَّلَاة تَقَع عَلَى ضُرُوب ; فَالصَّلَاة مِنْ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ الرَّحْمَة وَالْخَيْر وَالْبَرَكَة ; قَالَ اللَّه تَعَالَى :" هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَته " [ الْأَحْزَاب : ٤٣ ] وَالصَّلَاة مِنْ الْمَلَائِكَة الدُّعَاء، وَكَذَلِكَ هِيَ مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; كَمَا قَالَ :" وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتك سَكَن لَهُمْ " [ التَّوْبَة : ١٠٣ ] أَيْ دُعَاؤُك تَثْبِيت لَهُمْ وَطُمَأْنِينَة.
أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
أَيْ تُقَرِّبهُمْ مِنْ رَحْمَة اللَّه، يَعْنِي نَفَقَاتهمْ.
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ
لَمَّا ذَكَرَ جَلَّ وَعَزَّ أَصْنَاف الْأَعْرَاب ذَكَرَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَار، وَبَيَّنَ أَنَّ مِنْهُمْ السَّابِقِينَ إِلَى الْهِجْرَة وَأَنَّ مِنْهُمْ التَّابِعِينَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ.
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي عَدَد طَبَقَاتهمْ وَأَصْنَافهمْ.
وَنَحْنُ نَذْكُر مِنْ ذَلِكَ طَرَفًا نُبَيِّن الْغَرَض فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
وَرَوَى عُمَر بْن الْخَطَّاب أَنَّهُ قَرَأَ " وَالْأَنْصَار " رَفْعًا عَطْفًا عَلَى السَّابِقِينَ.
قَالَ الْأَخْفَش : الْخَفْض فِي الْأَنْصَار الْوَجْه ; لِأَنَّ السَّابِقِينَ مِنْهُمَا.
وَالْأَنْصَار اِسْم إِسْلَامِيّ.
قِيلَ لِأَنَسِ بْن مَالِك : أَرَأَيْت قَوْل النَّاس لَكُمْ : الْأَنْصَار، اِسْم سَمَّاكُمْ اللَّه بِهِ أَمْ كُنْتُمْ تُدْعَوْنَ بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّة ؟ قَالَ : بَلْ اِسْم سَمَّانَا اللَّه بِهِ فِي الْقُرْآن ; ذَكَرَهُ أَبُو عُمَر فِي الِاسْتِذْكَار.
نَصّ الْقُرْآن عَلَى تَفْضِيل السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَار وَهُمْ الَّذِينَ صَلَّوْا إِلَى الْقِبْلَتَيْنِ ; فِي قَوْل سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَطَائِفَة.
وَفِي قَوْل أَصْحَاب الشَّافِعِيّ هُمْ الَّذِينَ شَهِدُوا بَيْعَة الرِّضْوَان، وَهِيَ بَيْعَة الْحُدَيْبِيَة، وَقَالَهُ الشَّعْبِيّ.
وَعَنْ مُحَمَّد بْن كَعْب وَعَطَاء بْن يَسَار : هُمْ أَهْل بَدْر.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْ هَاجَرَ قَبْل تَحْوِيل الْقِبْلَة فَهُوَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ غَيْر خِلَاف بَيْنهمْ.
أَمَّا أَفْضَلهمْ فَقَالَ أَبُو مَنْصُور الْبَغْدَادِيّ التَّمِيمِيّ : أَصْحَابنَا مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ أَفْضَلهمْ الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة، ثُمَّ السِّتَّة الْبَاقُونَ إِلَى تَمَام الْعَشَرَة، ثُمَّ الْبَدْرِيُّونَ ثُمَّ أَصْحَاب أُحُد ثُمَّ أَهْل بَيْعَة الرِّضْوَان بِالْحُدَيْبِيَةِ.
وَأَمَّا أَوَّلهمْ إِسْلَامًا فَرَوَى مُجَالِد عَنْ الشَّعْبِيّ قَالَ : سَأَلْت اِبْن عَبَّاس مَنْ أَوَّل النَّاس إِسْلَامًا ؟ قَالَ أَبُو بَكْر، أَوَمَا سَمِعْت قَوْل حَسَّان :
إِذَا تَذَكَّرْت شَجْوًا مِنْ أَخِي ثِقَة فَاذْكُرْ أَخَاك أَبَا بَكْر بِمَا فَعَلَا
خَيْر الْبَرِيَّة أَتْقَاهَا وَأَعْدَلهَا بَعْد النَّبِيّ وَأَوْفَاهَا بِمَا حَمَلَا
الثَّانِي التَّالِي الْمَحْمُود مَشْهَده وَأَوَّل النَّاس مِنْهُمْ صَدَّقَ الرُّسُلَا
وَذَكَرَ أَبُو الْفَرَج ابْنُ الْجَوْزِيّ عَنْ يُوسُف بْن يَعْقُوب بْن الْمَاجِشُون أَنَّهُ قَالَ : أَدْرَكْت أَبِي وَشَيْخنَا مُحَمَّد بْن الْمُنْكَدِر وَرَبِيعَة بْن أَبِي عَبْد الرَّحْمَن وَصَالِح بْن كَيْسَان وَسَعْد بْن إِبْرَاهِيم وَعُثْمَان بْن مُحَمَّد الْأَخْنَسِيّ وَهُمْ لَا يَشُكُّونَ أَنَّ أَوَّل الْقَوْم إِسْلَامًا أَبُو بَكْر ; وَهُوَ قَوْل اِبْن عَبَّاس وَحَسَّان وَأَسْمَاء بِنْت أَبِي بَكْر، وَبِهِ قَالَ إِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ.
وَقِيلَ : أَوَّل مَنْ أَسْلَمَ عَلِيّ ; رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ زَيْد بْن أَرْقَم وَأَبِي ذَرّ وَالْمِقْدَاد وَغَيْرهمْ.
قَالَ الْحَاكِم أَبُو عَبْد اللَّه : لَا أَعْلَم خِلَافًا بَيْن أَصْحَاب التَّوَارِيخ أَنَّ عَلِيًّا أَوَّلهمْ إِسْلَامًا.
وَقِيلَ : أَوَّل مَنْ أَسْلَمَ زَيْد بْن حَارِثَة.
وَذَكَرَ مَعْمَر نَحْو ذَلِكَ عَنْ الزُّهْرِيّ.
وَهُوَ قَوْل سُلَيْمَان بْن يَسَار وَعُرْوَة بْن الزُّبَيْر وَعِمْرَان بْن أَبِي أَنَس.
وَقِيلَ : أَوَّل مَنْ أَسْلَمَ خَدِيجَة أُمّ الْمُؤْمِنِينَ ; رُوِيَ ذَلِكَ مِنْ وُجُوه عَنْ الزُّهْرِيّ، وَهُوَ قَوْل قَتَادَة وَمُحَمَّد بْن إِسْحَاق بْن يَسَار وَجَمَاعَة، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ اِبْن عَبَّاس.
وَادَّعَى الثَّعْلَبِيّ الْمُفَسِّر اِتِّفَاق الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ أَوَّل مَنْ أَسْلَمَ خَدِيجَة، وَأَنَّ اِخْتِلَافهمْ إِنَّمَا هُوَ فِيمَنْ أَسْلَمَ بَعْدهَا.
وَكَانَ إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم بْن رَاهْوَيْهِ الْحَنْظَلِيّ يَجْمَع بَيْن هَذِهِ الْأَخْبَار، فَكَانَ يَقُول : أَوَّل مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الرِّجَال أَبُو بَكْر، وَمِنْ النِّسَاء خَدِيجَة، وَمِنْ الصِّبْيَان عَلِيّ، وَمِنْ الْمَوَالِي زَيْد بْن حَارِثَة، وَمِنْ الْعَبِيد بِلَال.
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَذَكَرَ مُحَمَّد بْن سَعْد قَالَ : أَخْبَرَنِي مُصْعَب بْن ثَابِت قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو الْأَسْوَد مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن نَوْفَل قَالَ : كَانَ إِسْلَام الزُّبَيْر بَعْد أَبِي بَكْر وَكَانَ رَابِعًا أَوْ خَامِسًا.
قَالَ اللَّيْث بْن سَعْد وَحَدَّثَنِي أَبُو الْأَسْوَد قَالَ : أَسْلَمَ الزُّبَيْر وَهُوَ اِبْن ثَمَان سِنِينَ.
وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا أَسْلَمَ اِبْن سَبْع سِنِينَ.
وَقِيلَ : اِبْن عَشْر.
وَالْمَعْرُوف عَنْ طَرِيقَة أَهْل الْحَدِيث أَنَّ كُلّ مُسْلِم رَأَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مِنْ أَصْحَابه.
قَالَ الْبُخَارِيّ فِي صَحِيحه : مَنْ صَحِبَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ رَآهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ مِنْ أَصْحَابه.
وَرُوِيَ عَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب أَنَّهُ كَانَ لَا يَعُدّ الصَّحَابِيّ إِلَّا مَنْ أَقَامَ مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَة أَوْ سَنَتَيْنِ، وَغَزَا مَعَهُ غَزْوَة أَوْ غَزْوَتَيْنِ.
وَهَذَا الْقَوْل إِنْ صَحَّ عَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب يُوجِب أَلَّا يُعَدّ مِنْ الصَّحَابَة جَرِير بْن عَبْد اللَّه الْبَجَلِيّ أَوْ مَنْ شَارَكَهُ فِي فَقْد ظَاهِر مَا اِشْتَرَطَهُ فِيهِمْ مِمَّنْ لَا نَعْرِف خِلَافًا فِي عَدّه مِنْ الصَّحَابَة.
لَا خِلَاف أَنَّ أَوَّل السَّابِقِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ أَبُو بَكْر الصِّدِّيق.
وَقَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : السَّبْق يَكُون بِثَلَاثَةِ أَشْيَاء : الصِّفَة وَهُوَ الْإِيمَان، وَالزَّمَان، وَالْمَكَان.
وَأَفْضَل هَذِهِ الْوُجُوه سَبْق الصِّفَات ; وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيح :( نَحْنُ الْآخِرُونَ الْأَوَّلُونَ بَيْد أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَاب مِنْ قَبْلنَا وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدهمْ فَهَذَا يَوْمهمْ الَّذِي اِخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّه لَهُ فَالْيَهُود غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْد غَد ).
فَأَخْبَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مَنْ سَبَقْنَا مِنْ الْأُمَم بِالزَّمَانِ سَبَقْنَاهُمْ بِالْإِيمَانِ وَالِامْتِثَال لِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى وَالِانْقِيَاد إِلَيْهِ، وَالِاسْتِسْلَام لِأَمْرِهِ وَالرِّضَا بِتَكْلِيفِهِ وَالِاحْتِمَال لِوَظَائِفِهِ، لَا نَعْتَرِض عَلَيْهِ وَلَا نَخْتَار مَعَهُ، وَلَا نُبَدِّل بِالرَّأْيِ شَرِيعَته كَمَا فَعَلَ أَهْل الْكِتَاب ; وَذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللَّه لِمَا قَضَاهُ، وَبِتَيْسِيرِهِ لِمَا يَرْضَاهُ ; وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّه.
قَالَ اِبْن خُوَيْز مِنْدَاد : تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَة تَفْضِيل السَّابِقِينَ إِلَى كُلّ مَنْقَبَة مِنْ مَنَاقِب الشَّرِيعَة، فِي عِلْم أَوْ دِين أَوْ شَجَاعَة أَوْ غَيْر ذَلِكَ، مِنْ الْعَطَاء فِي الْمَال وَالرُّتْبَة فِي الْإِكْرَام.
وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة خِلَاف بَيْن أَبِي بَكْر وَعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي تَفْضِيل السَّابِقِينَ بِالْعَطَاءِ عَلَى غَيْرهمْ ; فَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْر الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يُفَضِّل بَيْن النَّاس فِي الْعَطَاء بَعْضهمْ عَلَى بَعْض بِحَسَبِ السَّابِقَة.
وَكَانَ عُمَر يَقُول لَهُ : أَتَجْعَلُ ذَا السَّابِقَة كَمَنْ لَا سَابِقَة لَهُ ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْر : إِنَّمَا عَمِلُوا لِلَّهِ وَأَجْرهمْ عَلَيْهِ.
وَكَانَ عُمَر يُفَضِّل فِي خِلَافَته ; ثُمَّ قَالَ عِنْد وَفَاته : لَئِنْ عِشْت إِلَى غَد لَأُلْحِقَنَّ أَسْفَل النَّاس بِأَعْلَاهُمْ ; فَمَاتَ مِنْ لَيْلَته.
وَالْخِلَافَة إِلَى يَوْمنَا هَذَا عَلَى هَذَا الْخِلَاف.
وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ : الْأُولَى : قَرَأَ عُمَر " وَالْأَنْصَارُ " رَفْعًا.
" الَّذِينَ " بِإِسْقَاطِ الْوَاو نَعْتًا لِلْأَنْصَارِ ; فَرَاجَعَهُ زَيْد بْن ثَابِت، فَسَأَلَ عُمَر أُبَيّ بْن كَعْب فَصَدَّقَ زَيْدًا ; فَرَجَعَ إِلَيْهِ عُمَر وَقَالَ : مَا كُنَّا نَرَى إِلَّا أَنَّا رُفِعْنَا رِفْعَة لَا يَنَالهَا مَعَنَا أَحَد.
فَقَالَ أُبَيّ : إِنِّي أَجِد مِصْدَاق ذَلِكَ فِي كِتَاب اللَّه فِي أَوَّل سُورَة الْجُمُعَة :" وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ " [ الْجُمُعَة : ٣ ] وَفِي سُورَة الْحَشْر :" وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدهمْ يَقُولُونَ رَبّنَا اِغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ " [ الْحَشْر : ١٠ ].
وَفِي سُورَة الْأَنْفَال بِقَوْلِهِ :" وَاَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْد وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ " [ الْأَنْفَال : ٧٤ ].
فَثَبَتَتْ الْقِرَاءَة بِالْوَاوِ.
وَبَيَّنَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ :" بِإِحْسَانٍ " مَا يَتَّبِعُونَ فِيهِ مِنْ أَفْعَالهمْ وَأَقْوَالهمْ، لَا فِيمَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنْ الْهَفَوَات وَالزَّلَّات ; إِذْ لَمْ يَكُونُوا مَعْصُومِينَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ.
الثَّانِيَة : وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي التَّابِعِينَ وَمَرَاتِبهمْ ; فَقَالَ الْخَطِيب الْحَافِظ : التَّابِعِيّ مَنْ صَحِبَ الصَّحَابِيّ ; وَيُقَال لِلْوَاحِدِ مِنْهُمْ : تَابِع وَتَابِعِيّ.
وَكَلَام الْحَاكِم أَبِي عَبْد اللَّه وَغَيْره مُشْعِر بِأَنَّهُ يَكْفِي فِيهِ أَنْ يَسْمَع مِنْ الصَّحَابِيّ أَوْ يَلْقَاهُ وَإِنْ لَمْ تُوجَد الصُّحْبَة الْعُرْفِيَّة.
وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ اِسْم التَّابِعِينَ يَنْطَلِق عَلَى مَنْ أَسْلَمَ بَعْد الْحُدَيْبِيَة ; كَخَالِدِ بْن الْوَلِيد وَعَمْرو بْن الْعَاص وَمَنْ دَانَاهُمْ مِنْ مُسْلِمَة الْفَتْح ; لِمَا ثَبَتَ أَنَّ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف شَكَا إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِد بْن الْوَلِيد ; فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَالِد :( دَعُوا لِي أَصْحَابِي فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقَ أَحَدكُمْ كُلّ يَوْم مِثْل أُحُد ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدهمْ وَلَا نَصِيفه ).
وَمِنْ الْعَجَب عَدّ الْحَاكِم أَبُو عَبْد اللَّه النُّعْمَان وَسُوَيْدًا اِبْنَيْ مُقَرِّن الْمُزَنِيّ فِي التَّابِعِينَ عِنْدَمَا ذَكَرَ الْإِخْوَة مِنْ التَّابِعِينَ، وَهُمَا صَحَابِيَّانِ مَعْرُوفَانِ مَذْكُورَانِ فِي الصَّحَابَة، وَقَدْ شَهِدَا الْخَنْدَق كَمَا تَقَدَّمَ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَكْبَر التَّابِعِينَ الْفُقَهَاء السَّبْعَة مِنْ أَهْل الْمَدِينَة، وَهُمْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب، وَالْقَاسِم بْن مُحَمَّد ; وَعُرْوَة بْن الزُّبَيْر، وَخَارِجَة بْن زَيْد، وَأَبُو سَلَمَة بْن عَبْد الرَّحْمَن، وَعَبْد اللَّه بْن عُتْبَة بْن مَسْعُود، وَسُلَيْمَان بْن يَسَار.
وَقَدْ نَظَمَهُمْ بَعْض الْأَجِلَّة فِي بَيْت وَاحِد فَقَالَ :
وَقَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل : أَفْضَل التَّابِعِينَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب ; فَقِيلَ لَهُ : فَعَلْقَمَة وَالْأَسْوَد.
فَقَالَ : سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَعَلْقَمَة وَالْأَسْوَد.
وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ : أَفْضَل التَّابِعِينَ قَيْس وَأَبُو عُثْمَان وَعَلْقَمَة وَمَسْرُوق ; هَؤُلَاءِ كَانُوا فَاضِلِينَ وَمِنْ عِلْيَة التَّابِعِينَ.
وَقَالَ أَيْضًا : كَانَ عَطَاء مُفْتِي مَكَّة وَالْحَسَن مُفْتِي الْبَصْرَة فَهَذَانِ أَثَرَ النَّاس عَنْهُمْ ; وَأَبْهَمَ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْر بْن أَبِي دَاوُد قَالَ : سَيِّدَتَا التَّابِعِينَ مِنْ النِّسَاء حَفْصَة بِنْت سِيرِينَ وَعَمْرَة بِنْت عَبْد الرَّحْمَن، وَثَالِثَتهمَا - وَلَيْسَتْ كَهُمَا - أُمّ الدَّرْدَاء.
وَرُوِيَ عَنْ الْحَاكِم أَبِي عَبْد اللَّه قَالَ : طَبَقَة تُعَدّ فِي التَّابِعِينَ وَلَمْ يَصِحّ سَمَاع أَحَد مِنْهُمْ مِنْ الصَّحَابَة ; مِنْهُمْ إِبْرَاهِيم بْن سُوَيْد النَّخَعِيّ وَلَيْسَ بِإِبْرَاهِيم بْن يَزِيد النَّخَعِيّ الْفَقِيه.
وَبُكَيْر بْن أَبِي السَّمِيط، وَبُكَيْر بْن عَبْد اللَّه الْأَشَجّ.
وَذَكَرَ غَيْرهمْ قَالَ : وَطَبَقَة عِدَادهمْ عِنْد النَّاس فِي أَتْبَاع التَّابِعِينَ.
وَقَدْ لَقُوا الصَّحَابَة مِنْهُمْ أَبُو الزِّنَاد عَبْد اللَّه بْن ذَكْوَان، لَقِيَ عَبْد اللَّه بْن عُمَر وَأَنَسًا.
وَهِشَام بْن عُرْوَة، وَقَدْ أُدْخِلَ عَلَى عَبْد اللَّه بْن عُمَر، وَجَابِر بْن عَبْد اللَّه وَمُوسَى بْن عُقْبَة، وَقَدْ أَدْرَكَ أَنَس بْن مَالِك.
وَأُمّ خَالِد بِنْت خَالِد بْن سَعِيد.
وَفِي التَّابِعِينَ طَبَقَة تُسَمَّى بِالْمُخَضْرَمِينَ، وَهُمْ الَّذِينَ أَدْرَكُوا الْجَاهِلِيَّة وَحَيَاة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَسْلَمُوا وَلَا صُحْبَة لَهُمْ.
وَاحِدهمْ مُخَضْرَم بِفَتْحِ الرَّاء كَأَنَّهُ خَضْرَمَ، أَيْ قُطِعَ عَنْ نُظَرَائِهِ الَّذِينَ أَدْرَكُوا الصُّحْبَة وَغَيْرهَا.
وَذَكَرَهُمْ مُسْلِم فَبَلَغَ بِهِمْ عِشْرِينَ نَفْسًا، مِنْهُمْ أَبُو عَمْرو الشَّيْبَانِيّ، وَسُوَيْد بْن غَفَلَة الْكِنْدِيّ، وَعَمْرو بْن مَيْمُون الْأَوْدِيّ، وَأَبُو عُثْمَان النَّهْدِيّ وَعَبْد خَيْر بْن يَزِيد الْخَيْرَانِيّ بِفَتْحِ الْخَاء، بَطْن مِنْ هَمْدَان، وَعَبْد الرَّحْمَن بْن مُلّ.
وَأَبُو الْحَلَال الْعَتَكِيّ رَبِيعَة بْن زُرَارَة.
وَمِمَّنْ لَمْ يَذْكُرهُ مُسْلِم ; مِنْهُمْ أَبُو مُسْلِم الْخَوْلَانِيّ عَبْد اللَّه بْن ثُوَب، وَالْأَحْنَف بْن قَيْس.
فَهَذِهِ نُبْذَة مِنْ مَعْرِفَة الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ الَّذِينَ نَطَقَ بِفَضْلِهِمْ الْقُرْآن الْكَرِيم، رِضْوَان اللَّه عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
وَكَفَانَا نَحْنُ قَوْله جَلَّ وَعَزَّ :" كُنْتُمْ خَيْر أُمَّة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ " [ آل عِمْرَان : ١١٠ ] عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَقَوْله عَزَّ وَجَلَّ :" وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة وَسَطًا " [ الْبَقَرَة : ١٤٣ ] الْآيَة.
وَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( وَدِدْت أَنَّا لَوْ رَأَيْنَا إِخْوَاننَا... ).
الْحَدِيث.
فَجَعَلَنَا إِخْوَانه ; إِنْ اِتَّقَيْنَا اللَّه وَاقْتَفَيْنَا آثَاره حَشَرَنَا اللَّه فِي زُمْرَته وَلَا حَادَ بِنَا عَنْ طَرِيقَته وَمِلَّته بِحَقِّ مُحَمَّد وَآله.
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ
اِبْتِدَاء وَخَبَر.
أَيْ قَوْم مُنَافِقُونَ ; يَعْنِي مُزَيْنَة وَجُهَيْنَة وَأَسْلَم وَغِفَار وَأَشْجَع.
وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ
أَيْ قَوْم مَرَدُوا عَلَى النِّفَاق.
وَقِيلَ :" مَرَدُوا " مِنْ نَعْت الْمُنَافِقِينَ ; فَيَكُون فِي الْكَلَام تَقْدِيم وَتَأْخِير، الْمَعْنَى.
وَمِنْ حَوْلكُمْ مِنْ الْأَعْرَاب مُنَافِقُونَ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاق، وَمِنْ أَهْل الْمَدِينَة مِثْل ذَلِكَ.
وَمَعْنَى :" مَرَدُوا " أَقَامُوا وَلَمْ يَتُوبُوا ; عَنْ اِبْن زَيْد.
وَقَالَ غَيْره : لَجُّوا فِيهِ وَأَبَوْا غَيْره ; وَالْمَعْنَى مُتَقَارِب.
وَأَصْل الْكَلِمَة مِنْ اللِّين وَالْمُلَامَسَة وَالتَّجَرُّد.
فَكَأَنَّهُمْ تَجَرَّدُوا لِلنِّفَاقِ.
وَمِنْهُ رَمْلَة مَرْدَاء لَا نَبْت فِيهَا.
وَغُصْن أَمْرَد لَا وَرَق عَلَيْهِ.
وَفَرَس أَمْرَد لَا شَعْر عَلَى ثُنَّته.
وَغُلَام أَمْرَد بَيِّن الْمَرَد ; وَلَا يُقَال : جَارِيَة مَرْدَاء.
وَتَمْرِيد الْبِنَاء تَمْلِيسه ; وَمِنْهُ قَوْله :" صَرْح مُمَرَّد " [ النَّمْل : ٤٤ ].
وَتَمْرِيد الْغُصْن تَجْرِيده مِنْ الْوَرَق ; يُقَال : مَرَدَ يَمْرُد مُرُودًا وَمُرَادَة.
لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ
هُوَ مِثْل قَوْله :" لَا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّه يَعْلَمهُمْ " [ الْأَنْفَال : ٦٠ ] عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَا تَعْلَم يَا مُحَمَّد عَاقِبَة أُمُورهمْ وَإِنَّمَا نَخْتَصّ نَحْنُ بِعِلْمِهَا ; وَهَذَا يَمْنَع أَنْ يُحْكَم عَلَى أَحَد بِجَنَّةٍ أَوْ نَار.
سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ
" قَالَ اِبْن عَبَّاس : بِالْأَمْرَاضِ فِي الدُّنْيَا وَعَذَاب الْآخِرَة.
فَمَرَض الْمُؤْمِن كَفَّارَة، وَمَرَض الْكَافِر عُقُوبَة.
وَقِيلَ : الْعَذَاب الْأَوَّل الْفَضِيحَة بِاطِّلَاعِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ ; عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي الْمُنَافِقِينَ.
وَالْعَذَاب الثَّانِي عَذَاب الْقَبْر.
الْحَسَن وَقَتَادَة : عَذَاب الدُّنْيَا وَعَذَاب الْقَبْر.
اِبْن زَيْد : الْأَوَّل بِالْمَصَائِبِ فِي أَمْوَالهمْ وَأَوْلَادهمْ، وَالثَّانِي عَذَاب الْقَبْر.
مُجَاهِد : الْجُوع وَالْقَتْل.
الْفَرَّاء : الْقَتْل وَعَذَاب الْقَبْر.
وَقِيلَ : السَّبَاء وَالْقَتْل.
وَقِيلَ : الْأَوَّل أَخْذ الزَّكَاة مِنْ أَمْوَالهمْ وَإِجْرَاء الْحُدُود عَلَيْهِمْ، وَالثَّانِي عَذَاب الْقَبْر.
وَقِيلَ : أَحَد الْعَذَابَيْنِ مَا قَالَ تَعَالَى :" فَلَا تُعْجِبك أَمْوَالهمْ - إِلَى قَوْله - إِنَّمَا يُرِيد اللَّه لِيُعَذِّبهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا " [ التَّوْبَة : ٥٥ ].
وَالْغَرَض مِنْ الْآيَة اِتِّبَاع الْعَذَاب، أَوْ تَضْعِيف الْعَذَاب عَلَيْهِمْ.
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
أَيْ وَمِنْ أَهْل الْمَدِينَة وَمِمَّنْ حَوْلكُمْ قَوْم أَقَرُّوا بِذُنُوبِهِمْ، وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّه يَحْكُم فِيهِمْ بِمَا يُرِيد.
فَالصِّنْف الْأَوَّل يَحْتَمِل أَنَّهُمْ كَانُوا مُنَافِقِينَ وَمَا مَرَدُوا عَلَى النِّفَاق، وَيَحْتَمِل أَنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : نَزَلَتْ فِي عَشَرَة تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَة تَبُوك فَأَوْثَقَ سَبْعَة مِنْهُمْ أَنْفُسهمْ فِي سَوَارِي الْمَسْجِد.
وَقَالَ بِنَحْوِهِ قَتَادَة وَقَالَ : وَفِيهِمْ نَزَلَ " خُذْ مِنْ أَمْوَالهمْ صَدَقَة " [ التَّوْبَة : ١٠٣ ] ; ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيّ.
وَقَالَ زَيْد بْن أَسْلَم : كَانُوا ثَمَانِيَة.
وَقِيلَ : كَانُوا سِتَّة.
وَقِيلَ : خَمْسَة.
وَقَالَ مُجَاهِد : نَزَلَتْ الْآيَة فِي أَبِي لُبَابَة الْأَنْصَارِيّ خَاصَّة فِي شَأْنه مَعَ بَنِي قُرَيْظَة ; وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَلَّمُوهُ فِي النُّزُول عَلَى حُكْم اللَّه وَرَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَشَارَ لَهُمْ إِلَى حَلْقه.
يُرِيد أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْبَحهُمْ إِنْ نَزَلُوا، فَلَمَّا اِفْتَضَحَ تَابَ وَنَدِمَ وَرَبَطَ نَفْسه فِي سَارِيَة مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِد، وَأَقْسَمَ أَلَّا يَطْعَم وَلَا يَشْرَب حَتَّى يَعْفُو اللَّه عَنْهُ أَوْ يَمُوت ; فَمَكَثَ كَذَلِكَ حَتَّى عَفَا اللَّه عَنْهُ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة، وَأَمَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَلِّهِ ; ذَكَرَهُ الطَّبَرِيّ عَنْ مُجَاهِد، وَذَكَرَهُ اِبْن إِسْحَاق فِي السِّيرَة أَوْعَبَ مِنْ هَذَا.
وَقَالَ أَشْهَب عَنْ مَالِك : نَزَلَتْ " وَآخَرُونَ " فِي شَأْن أَبِي لُبَابَة وَأَصْحَابه، وَقَالَ حِين أَصَابَ الذَّنْب : يَا رَسُول اللَّه، أُجَاوِرك وَأَنْخَلِع مِنْ مَالِي ؟ فَقَالَ :( يَجْزِيك مِنْ ذَلِكَ الثُّلُث وَقَدْ قَالَ تَعَالَى :" خُذْ مِنْ أَمْوَالهمْ صَدَقَة تُطَهِّرهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا " [ التَّوْبَة ١٠٣ ] وَرَوَاهُ اِبْن الْقَاسِم وَابْن وَهْب عَنْ مَالِك.
وَالْجُمْهُور أَنَّ الْآيَة نَزَلَتْ فِي شَأْن الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ غَزْوَة تَبُوك، وَكَانُوا رَبَطُوا أَنْفُسهمْ كَمَا فَعَلَ أَبُو لُبَابَة، وَعَاهَدُوا اللَّه أَلَّا يُطْلِقُوا أَنْفُسهمْ حَتَّى يَكُون رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي يُطْلِقهُمْ وَيَرْضَى عَنْهُمْ، فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( وَأَنَا أُقْسِم بِاَللَّهِ لَا أُطْلِقهُمْ وَلَا أَعْذِرهُمْ حَتَّى أُومِرَ بِإِطْلَاقِهِمْ رَغِبُوا عَنِّي وَتَخَلَّفُوا عَنْ الْغَزْو مَعَ الْمُسْلِمِينَ ) فَأَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَة ; فَلَمَّا نَزَلَتْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَطْلَقَهُمْ وَعَذَرَهُمْ.
فَلَمَّا أُطْلِقُوا قَالُوا : يَا رَسُول اللَّه، هَذِهِ أَمْوَالنَا الَّتِي خَلَّفَتْنَا عَنْك، فَتَصَدَّقْ بِهَا عَنَّا وَطَهِّرْنَا وَاسْتَغْفِرْ لَنَا.
فَقَالَ :( مَا أُمِرْت أَنْ آخُذ مِنْ أَمْوَالكُمْ شَيْئًا ) فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى :" خُذْ مِنْ أَمْوَالهمْ صَدَقَة " [ التَّوْبَة : ١٠٣ ] الْآيَة.
قَالَ اِبْن عَبَّاس : كَانُوا عَشَرَة أَنْفُس مِنْهُمْ أَبُو لُبَابَة ; فَأَخَذَ ثُلُث أَمْوَالهمْ وَكَانَتْ كَفَّارَة الذُّنُوب الَّتِي أَصَابُوهَا.
فَكَانَ عَمَلهمْ السَّيِّئ التَّخَلُّف بِإِجْمَاعٍ مِنْ أَهْل هَذِهِ الْمَقَالَة.
وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّالِح ; فَقَالَ الطَّبَرِيّ وَغَيْره : الِاعْتِرَاف وَالتَّوْبَة وَالنَّدَم.
وَقِيلَ : عَمَلهمْ الصَّالِح الَّذِي عَمِلُوهُ أَنَّهُمْ لَحِقُوا بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَبَطُوا أَنْفُسهمْ بِسَوَارِي الْمَسْجِد وَقَالُوا : لَا نَقْرَب أَهْلًا وَلَا وَلَدًا حَتَّى يُنْزِل اللَّه عُذْرنَا.
وَقَالَتْ فِرْقَة : بَلْ الْعَمَل الصَّالِح غَزْوهمْ فِيمَا سَلَف مِنْ غَزْو النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَهَذِهِ الْآيَة وَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ فِي أَعْرَاب فَهِيَ عَامَّة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة فِيمَنْ لَهُ أَعْمَال صَالِحَة وَسَيِّئَة ; فَهِيَ تُرْجَى.
ذَكَرَ الطَّبَرِيّ عَنْ حَجَّاج بْن أَبِي زَيْنَب قَالَ : سَمِعْت أَبَا عُثْمَان يَقُول : مَا فِي الْقُرْآن آيَة أَرْجَى عِنْدِي لِهَذِهِ الْأُمَّة مِنْ قَوْله تَعَالَى :" وَآخَرُونَ اِعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَر سَيِّئًا ".
وَفِي الْبُخَارِيّ عَنْ سَمُرَة بْن جُنْدُب قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنَا :( أَتَانِي اللَّيْلَة آتِيَانِ فَابْتَعَثَانِي فَانْتَهَيْنَا إِلَى مَدِينَة مَبْنِيَّة بِلَبِنٍ ذَهَب وَلَبِنٍ فِضَّة فَتَلَقَّانَا رِجَال شَطْر مِنْ خَلْقهمْ كَأَحْسَن مَا أَنْتَ رَاءٍ وَشَطْر كَأَقْبَح مَا أَنْتَ رَاءٍ قَالَا لَهُمْ : أَذْهَبُوا فَقَعُوا فِي ذَلِكَ النَّهَر فَوَقَعُوا فِيهِ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَيْنَا قَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ السُّوء عَنْهُمْ فَصَارُوا فِي أَحْسَن صُورَة قَالَا لِي هَذِهِ جَنَّة عَدْن وَهَذَاك مَنْزِلك قَالَا : أَمَّا الْقَوْم الَّذِي كَانُوا شَطْر مِنْهُمْ حَسَن وَشَطْر مِنْهُمْ قَبِيح فَإِنَّهُمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَر سَيِّئًا تَجَاوَزَ اللَّه عَنْهُمْ ).
وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيّ مِنْ حَدِيث الرَّبِيع بْن أَنَس عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيث الْإِسْرَاء وَفِيهِ قَالَ :( ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاء... ) ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيث إِلَى أَنْ ذَكَرَ صُعُوده إِلَى السَّمَاء السَّابِعَة فَقَالُوا :( حَيَّاهُ اللَّه مِنْ أَخ وَخَلِيفَة، فَنِعْمَ الْأَخ وَنِعْمَ الْخَلِيفَة وَنِعْمَ الْمَجِيء جَاءَ فَإِذَا بِرَجُلٍ أَشْمَط جَالِس عَلَى كُرْسِيّ عِنْد بَاب الْجَنَّة وَعِنْده قَوْم بِيض الْوُجُوه وَقَوْم سُود الْوُجُوه وَفِي أَلْوَانهمْ شَيْء فَأَتَوْا نَهَرًا فَاغْتَسَلُوا فِيهِ فَخَرَجُوا مِنْهُ وَقَدْ خَلَصَ مِنْ أَلْوَانهمْ شَيْء ثُمَّ إِنَّهُمْ أَتَوْا نَهَرًا آخَر فَاغْتَسَلُوا فِيهِ فَخَرَجُوا مِنْهُ وَقَدْ خَلَصَ مِنْ أَلْوَانهمْ شَيْء ثُمَّ دَخَلُوا النَّهَر الثَّالِث فَخَرَجُوا مِنْهُ وَقَدْ خَلَصَتْ أَلْوَانهمْ مِثْل أَلْوَان أَصْحَابهمْ فَجَلَسُوا إِلَى أَصْحَابهمْ فَقَالَ يَا جِبْرِيل مِنْ هَؤُلَاءِ بِيض الْوُجُوه وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ فِي أَلْوَانهمْ شَيْء فَدَخَلُوا النَّهَر وَقَدْ خَلَصَتْ أَلْوَانهمْ فَقَالَ هَذَا أَبُوك إِبْرَاهِيم هُوَ أَوَّل رَجُل شَمَط عَلَى وَجْه الْأَرْض وَهَؤُلَاءِ بِيض الْوُجُوه قَوْم لَمْ يَلْبَسُوا إِيمَانهمْ بِظُلْمٍ - قَالَ - وَأَمَّا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ فِي أَلْوَانهمْ شَيْء خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَر سَيِّئًا فَتَابُوا فَتَابَ اللَّه عَلَيْهِمْ.
فَأَمَّا النَّهَر الْأَوَّل فَرَحْمَة اللَّه وَأَمَّا النَّهَر الثَّانِي فَنِعْمَة اللَّه.
وَأَمَّا النَّهَر الثَّالِث فَسَقَاهُمْ رَبّهمْ شَرَابًا طَهُورًا ) وَذَكَرَ الْحَدِيث.
وَالْوَاو فِي قَوْله :" وَآخَر سَيِّئًا " قِيلَ : هِيَ بِمَعْنَى الْبَاء، وَقِيلَ : بِمَعْنَى مَعَ ; كَقَوْلِك اِسْتَوَى الْمَاء وَالْخَشَبَة.
وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْكُوفِيُّونَ وَقَالُوا : لِأَنَّ الْخَشَبَة لَا يَجُوز تَقْدِيمهَا عَلَى الْمَاء، و " آخَر " فِي الْآيَة يَجُوز تَقْدِيمه عَلَى الْأَوَّل ; فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ خَلَطْت الْمَاء بِاللَّبَنِ.
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا
اُخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الصَّدَقَة الْمَأْمُور بِهَا ; فَقِيلَ : هِيَ صَدَقَة الْفَرْض ; قَالَهُ جُوَيْبِر عَنْ اِبْن عَبَّاس، وَهُوَ قَوْل عِكْرِمَة فِيمَا ذَكَرَ الْقُشَيْرِيّ.
وَقِيلَ : هُوَ مَخْصُوص بِمَنْ نَزَلَتْ فِيهِ ; فَإِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ مِنْهُمْ ثُلُث أَمْوَالهمْ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة فِي شَيْء ; وَلِهَذَا قَالَ مَالِك : إِذَا تَصَدَّقَ الرَّجُل بِجَمِيعِ مَاله أَجْزَأَهُ إِخْرَاج الثُّلُث ; مُتَمَسِّكًا بِحَدِيثِ أَبِي لُبَابَة.
وَعَلَى الْقَوْل الْأَوَّل فَهُوَ خِطَاب لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ اِقْتِصَاره عَلَيْهِ فَلَا يَأْخُذ الصَّدَقَة سِوَاهُ، وَيَلْزَم عَلَى هَذَا سُقُوطهَا بِسُقُوطِهِ وَزَوَالهَا بِمَوْتِهِ.
وَبِهَذَا تَعَلَّقَ مَانِعُو الزَّكَاة عَلَى أَبِي بَكْر الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَقَالُوا : إِنَّهُ كَانَ يُعْطِينَا عِوَضًا مِنْهَا التَّطْهِير وَالتَّزْكِيَة وَالصَّلَاة عَلَيْنَا وَقَدْ عَدِمْنَاهَا مِنْ غَيْره.
وَنَظَمَ فِي ذَلِكَ شَاعِرهمْ فَقَالَ :
فَخُذْهُمْ عُبَيْدُ اللَّه عُرْوَةُ قَاسِمٌ سَعِيدٌ أَبُو بَكْر سُلَيْمَانُ خَارِجَهْ
أَطَعْنَا رَسُول اللَّه مَا كَانَ بَيْننَا فَيَا عَجَبًا مَا بَال مُلْك أَبِي بَكْر
وَإِنَّ الَّذِي سَأَلُوكُمْ فَمَنَعْتُمُ لَكَالتَّمْر أَوْ أَحْلَى لَدَيْهِمْ مِنْ التَّمْر
سَنَمْنَعُهُمْ مَا دَامَ فِينَا بَقِيَّة كِرَام عَلَى الضَّرَّاء فِي الْعُسْر وَالْيُسْر
وَهَذَا صِنْف مِنْ الْقَائِمِينَ عَلَى أَبِي بَكْر أَمْثَلهمْ طَرِيقَة، وَفِي حَقّهمْ قَالَ أَبُو بَكْر :( وَاَللَّه لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْن الصَّلَاة وَالزَّكَاة ).
اِبْن الْعَرَبِيّ : أَمَّا قَوْلهمْ إِنَّ هَذَا خِطَاب لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَلْتَحِق بِهِ غَيْره فَهُوَ كَلَام جَاهِل بِالْقُرْآنِ غَافِل عَنْ مَأْخَذ الشَّرِيعَة مُتَلَاعِب بِالدِّينِ ; فَإِنَّ الْخِطَاب فِي الْقُرْآن لَمْ يَرِد بَابًا وَاحِدًا وَلَكِنْ اِخْتَلَفَتْ مَوَارِده عَلَى وُجُوه، فَمِنْهَا خِطَاب تَوَجَّهَ إِلَى جَمِيع الْأُمَّة كَقَوْلِهِ :" يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاة " [ الْمَائِدَة : ٦ ] وَقَوْله :" يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَام " [ الْبَقَرَة : ١٨٣ ] وَنَحْوه.
وَمِنْهَا خِطَاب خُصَّ بِهِ وَلَمْ يَشْرِكْهُ فِيهِ غَيْره لَفْظًا وَلَا مَعْنًى كَقَوْلِهِ :" وَمِنْ اللَّيْل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَة لَك " [ الْإِسْرَاء : ٧٩ ] وَقَوْله :" خَالِصَة لَك " [ الْأَحْزَاب : ٥٠ ].
وَمِنْهَا خِطَاب خُصَّ بِهِ لَفْظًا وَشَرَكَهُ جَمِيع الْأُمَّة مَعْنًى وَفِعْلًا ; كَقَوْلِهِ " أَقِمْ الصَّلَاة لِدُلُوكِ الشَّمْس " [ الْإِسْرَاء : ٧٨ ] الْآيَة.
وَقَوْله :" فَإِذَا قَرَأْت الْقُرْآن فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ " [ النَّحْل : ٩٨ ] وَقَوْله :" وَإِذَا كُنْت فِيهِمْ فَأَقَمْت لَهُمْ الصَّلَاة " [ النِّسَاء : ١٠٢ ] فَكُلّ مَنْ دَلَكَتْ عَلَيْهِ الشَّمْس مُخَاطَب بِالصَّلَاةِ.
وَكَذَلِكَ كُلّ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآن مُخَاطَب بِالِاسْتِعَاذَةِ.
وَكَذَلِكَ كُلّ مَنْ خَافَ يُقِيم الصَّلَاة بِتِلْكَ الصِّفَة.
وَمِنْ هَذَا الْقَبِيل قَوْله تَعَالَى :" خُذْ مِنْ أَمْوَالهمْ صَدَقَة تُطَهِّرهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ".
وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى جَاءَ قَوْله تَعَالَى :" يَا أَيّهَا النَّبِيّ اِتَّقِ اللَّه " [ الْأَحْزَاب : ١ ] و " يَا أَيّهَا النَّبِيّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاء " [ الطَّلَاق : ١ ].
" مِنْ أَمْوَالهمْ " ذَهَبَ بَعْض الْعَرَب وَهُمْ دَوْس : إِلَى أَنَّ الْمَال الثِّيَابُ وَالْمَتَاعُ وَالْعُرُوضُ.
وَلَا تُسَمِّي الْعَيْن مَالًا.
وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْمَعْنَى فِي السُّنَّة الثَّابِتَة مِنْ رِوَايَة مَالِك عَنْ ثَوْر بْن زَيْد الدَّيْلِيّ عَنْ أَبِي الْغَيْث سَالِم مَوْلَى اِبْن مُطِيع عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : خَرَجْنَا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَام خَيْبَر فَلَمْ نَغْنَم ذَهَبًا وَلَا وَرِقًا إِلَّا الْأَمْوَال الثِّيَاب وَالْمَتَاع.
الْحَدِيث.
وَذَهَبَ غَيْرهمْ إِلَى أَنَّ الْمَال الصَّامِت مِنْ الذَّهَب وَالْوَرِق.
وَقِيلَ : الْإِبِل خَاصَّة ; وَمِنْهُ قَوْلهمْ : الْمَال الْإِبِل.
وَقِيلَ : جَمِيع الْمَاشِيَة.
وَذَكَرَ اِبْن الْأَنْبَارِيّ عَنْ أَحْمَد بْن يَحْيَى ثَعْلَب النَّحْوِيّ قَالَ : مَا قَصُرَ عَنْ بُلُوغ مَا تَجِب فِيهِ الزَّكَاة مِنْ الذَّهَب وَالْوَرِق فَلَيْسَ بِمَالٍ ; وَأَنْشَدَ :
وَاَللَّه مَا بَلَغَتْ لِي قَطُّ مَاشِيَة حَدّ الزَّكَاة وَلَا إِبِل وَلَا مَال
قَالَ أَبُو عُمَر : وَالْمَعْرُوف مِنْ كَلَام الْعَرَب أَنَّ كُلّ مَا تُمُوِّلَ وَتُمُلِّكَ هُوَ مَال ; لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( يَقُول اِبْن آدَم مَالِي مَالِي وَإِنَّمَا لَهُ مِنْ مَاله مَا أَكَلَ فَأَفْنَى أَوْ لَبِسَ فَأَبْلَى أَوْ تَصَدَّقَ فَأَمْضَى ).
وَقَالَ أَبُو قَتَادَة : فَأَعْطَانِي الدِّرْع فَابْتَعْت بِهِ مَخْرَفًا فِي بَنِي سَلِمَة ; فَإِنَّهُ لَأَوَّل مَال تَأَثَّلْته فِي الْإِسْلَام.
فَمَنْ حَلَفَ بِصَدَقَةِ مَاله كُلّه فَذَلِكَ عَلَى كُلّ نَوْع مِنْ مَاله، سَوَاء كَانَ مِمَّا تَجِب فِيهِ الزَّكَاة أَوْ لَمْ يَكُنْ ; إِلَّا أَنْ يَنْوِي شَيْئًا بِعَيْنِهِ فَيَكُون عَلَى مَا نَوَاهُ.
وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ ذَلِكَ عَلَى أَمْوَال الزَّكَاة.
وَالْعِلْم مُحِيط وَاللِّسَان شَاهِد بِأَنَّ مَا تُمُلِّكَ يُسَمَّى مَالًا.
وَاَللَّه أَعْلَم.
" خُذْ مِنْ أَمْوَالهمْ صَدَقَة " مُطْلَق غَيْر مُقَيَّد بِشَرْطٍ فِي الْمَأْخُوذ وَالْمَأْخُوذ مِنْهُ، وَلَا تَبْيِين مِقْدَار الْمَأْخُوذ وَلَا الْمَأْخُوذ مِنْهُ.
وَإِنَّمَا بَيَان ذَلِكَ فِي السُّنَّة وَالْإِجْمَاع.
حَسْب مَا نَذْكُرهُ فَتُؤْخَذ الزَّكَاة مِنْ جَمِيع الْأَمْوَال.
وَقَدْ أَوْجَبَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزَّكَاة فِي الْمَوَاشِي وَالْحُبُوب وَالْعَيْن، وَهَذَا مَا لَا خِلَاف فِيهِ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ كَالْخَيْلِ وَسَائِر الْعُرُوض.
وَسَيَأْتِي ذِكْر الْخَيْل وَالْعَسَل فِي [ النَّحْل ] إِنْ شَاءَ اللَّه.
رَوَى الْأَئِمَّة عَنْ أَبِي سَعِيد عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :( لَيْسَ فِيمَا دُون خَمْسَة أَوْسُق مِنْ التَّمْر صَدَقَة وَلَيْسَ فِيمَا دُون خَمْس أَوَاقٍ مِنْ الْوَرِق صَدَقَة وَلَيْسَ فِيمَا دُون خَمْس ذَوْد مِنْ الْإِبِل صَدَقَة ).
وَقَدْ مَضَى الْكَلَام فِي [ الْأَنْعَام ] فِي زَكَاة الْحُبُوب وَمَا تُنْبِتهُ الْأَرْض مُسْتَوْفًى.
وَفِي الْمَعَادِن فِي [ الْبَقَرَة ] وَفِي الْحُلِيّ فِي هَذِهِ السُّورَة.
وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْأُوقِيَّة أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا ; فَإِذَا مَلَكَ الْحُرّ الْمُسْلِم مِائَتَيْ دِرْهَم مِنْ فِضَّة مَضْرُوبَة - وَهِيَ الْخَمْس أَوَاقٍ الْمَنْصُوصَة فِي الْحَدِيث - حَوْلًا كَامِلًا فَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ صَدَقَتهَا، وَذَلِكَ رُبْع عُشْرهَا خَمْسَة دَرَاهِم.
وَإِنَّمَا اِشْتَرَطَ الْحَوْل لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام :( لَيْسَ فِي مَال زَكَاة حَتَّى يَحُول عَلَيْهِ الْحَوْل ).
أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ.
وَمَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْ دِرْهَم مِنْ الْوَرِق فَبِحِسَابِ ذَلِكَ مِنْ كُلّ شَيْء مِنْهُ رُبْع عُشْره قَلَّ أَوْ كَثُرَ ; هَذَا قَوْل مَالِك وَاللَّيْث وَالشَّافِعِيّ وَأَكْثَر أَصْحَاب أَبِي حَنِيفَة وَابْن أَبِي لَيْلَى وَالثَّوْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَأَحْمَد بْن حَنْبَل وَأَبِي ثَوْر وَإِسْحَاق وَأَبِي عُبَيْد.
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيّ وَابْن عُمَر.
وَقَالَتْ طَائِفَة : لَا شَيْء فِيمَا زَادَ عَلَى مِائَتَيْ دِرْهَم حَتَّى تَبْلُغ الزِّيَادَة أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا ; فَإِذَا بَلَغَتْهَا كَانَ فِيهَا دِرْهَم وَذَلِكَ رُبْع عُشْرهَا.
هَذَا قَوْل سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَالْحَسَن وَعَطَاء وَطَاوُس وَالشَّعْبِيّ وَالزُّهْرِيّ وَمَكْحُول وَعَمْرو بْن دِينَار وَأَبِي حَنِيفَة.
وَأَمَّا زَكَاة الذَّهَب فَالْجُمْهُور مِنْ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الذَّهَب إِذَا كَانَ عِشْرِينَ دِينَارًا قِيمَتهَا مِائَتَا دِرْهَم فَمَا زَادَ أَنَّ الزَّكَاة فِيهَا وَاجِبَة ; عَلَى حَدِيث عَلِيّ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ عَنْ ضَمْرَة وَالْحَارِث عَنْ عَلِيّ.
قَالَ التِّرْمِذِيّ : سَأَلْت مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل عَنْ هَذَا الْحَدِيث فَقَالَ كِلَاهُمَا عِنْدِي صَحِيح عَنْ أَبِي إِسْحَاق، يَحْتَمِل أَنْ يَكُون عَنْهُمَا جَمِيعًا.
وَقَالَ الْبَاجِيّ فِي الْمُنْتَقَى : وَهَذَا الْحَدِيث لَيْسَ إِسْنَاده هُنَاكَ، غَيْر أَنَّ اِتِّفَاق الْعُلَمَاء عَلَى الْأَخْذ بِهِ دَلِيل عَلَى صِحَّة حُكْمه، وَاَللَّه أَعْلَم.
وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَن وَالثَّوْرِيّ، وَإِلَيْهِ مَالَ بَعْض أَصْحَاب دَاوُد بْن عَلِيّ عَلَى أَنَّ الذَّهَب لَا زَكَاة فِيهِ حَتَّى يَبْلُغ أَرْبَعِينَ دِينَارًا.
وَهَذَا يَرُدّهُ حَدِيث عَلِيّ وَحَدِيث اِبْن عُمَر وَعَائِشَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْخُذ مِنْ كُلّ عِشْرِينَ دِينَارًا نِصْف دِينَار، وَمِنْ الْأَرْبَعِينَ دِينَارًا دِينَارًا ; عَلَى هَذَا جَمَاعَة أَهْل الْعِلْم إِلَّا مَنْ ذُكِرَ.
اِتَّفَقَتْ الْأُمَّة عَلَى أَنَّ مَا كَانَ دُون خَمْس ذَوْد مِنْ الْإِبِل فَلَا زَكَاة فِيهِ.
فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا فَفِيهَا شَاة.
وَالشَّاة تَقَع عَلَى وَاحِدَة مِنْ الْغَنَم، وَالْغَنَم الضَّأْن وَالْمَعْز جَمِيعًا.
وَهَذَا أَيْضًا اِتِّفَاق مِنْ الْعُلَمَاء أَنَّهُ لَيْسَ فِي خَمْس إِلَّا شَاة وَاحِدَة ; وَهِيَ فَرِيضَتهَا.
وَصَدَقَة الْمَوَاشِي مُبَيَّنَة فِي الْكِتَاب الَّذِي كَتَبَهُ الصِّدِّيق لِأَنَسٍ لَمَّا وَجَّهَهُ إِلَى الْبَحْرَيْنِ ; أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَهْ وَغَيْرهمْ، وَكُلّه مُتَّفَق عَلَيْهِ.
وَالْخِلَاف فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدهمَا فِي زَكَاة الْإِبِل، وَهِيَ إِذَا بَلَغَتْ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَة فَقَالَ مَالِك : الْمُصَدِّق بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَخَذَ ثَلَاث بَنَات لَبُون، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ حِقَّتَيْنِ.
وَقَالَ اِبْن الْقَاسِم : وَقَالَ اِبْن شِهَاب : فِيهَا ثَلَاث بَنَات لَبُون إِلَى أَنْ تَبْلُغ ثَلَاثِينَ وَمِائَة فَتَكُون فِيهَا حِقَّة وَابْنَتَا لَبُون.
قَالَ اِبْن الْقَاسِم : وَرَأْيِي عَلَى قَوْل اِبْن شِهَاب.
وَذَكَرَ اِبْن حَبِيب أَنَّ عَبْد الْعَزِيز بْن أَبِي سَلَمَة وَعَبْد الْعَزِيز بْن أَبِي حَازِم وَابْن دِينَار يَقُولُونَ بِقَوْلِ مَالِك.
وَأَمَّا الْمَوْضِع الثَّانِي فَهُوَ فِي صَدَقَة الْغَنَم، وَهِيَ إِذَا زَادَتْ عَلَى ثَلَثمِائَةِ شَاة وَشَاة ; فَإِنَّ الْحَسَن بْن صَالِح بْن حَيّ قَالَ : فِيهَا أَرْبَع شِيَاه.
وَإِذَا كَانَتْ أَرْبَعمِائَةِ شَاة وَشَاة فَفِيهَا خَمْس شِيَاه ; وَهَكَذَا كُلَّمَا زَادَتْ، فِي كُلّ مِائَة شَاة.
وَرُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ مِثْله.
وَقَالَ الْجُمْهُور : فِي مِائَتَيْ شَاة وَشَاة ثَلَاث شِيَاه، ثُمَّ لَا شَيْء فِيهَا إِلَى أَرْبَعمِائَةٍ فَيَكُون فِيهَا أَرْبَع شِيَاه ; ثُمَّ كُلَّمَا زَادَتْ مِائَة فَفِيهَا شَاة ; إِجْمَاعًا وَاتِّفَاقًا.
قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : وَهَذِهِ مَسْأَلَة وَهِمَ فِيهَا اِبْن الْمُنْذِر، وَحَكَى فِيهَا عَنْ الْعُلَمَاء الْخَطَأ، وَخَلَّطَ وَأَكْثَرَ الْغَلَط.
لَمْ يَذْكُر الْبُخَارِيّ وَلَا مُسْلِم فِي صَحِيحهمَا تَفْصِيل زَكَاة الْبَقَر.
وَخَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَمَالِك فِي مُوَطَّئِهِ وَهِيَ مُرْسَلَة وَمَقْطُوعَة وَمَوْقُوفَة.
قَالَ أَبُو عُمَر : وَقَدْ رَوَاهُ قَوْم عَنْ طَاوُس عَنْ مُعَاذ، إِلَّا أَنَّ الَّذِينَ أَرْسَلُوهُ أَثْبَت مِنْ الَّذِينَ أَسْنَدُوهُ.
وَمِمَّنْ أَسْنَدَهُ بَقِيَّة عَنْ الْمَسْعُودِيّ عَنْ الْحَكَم عَنْ طَاوُس.
وَقَدْ اِخْتَلَفُوا فِيمَا يَنْفَرِد بِهِ بَقِيَّة عَنْ الثِّقَات.
وَرَوَاهُ الْحَسَن بْن عُمَارَة عَنْ الْحَكَم كَمَا رَوَاهُ بَقِيَّة عَنْ الْمَسْعُودِيّ عَنْ الْحَكَم، وَالْحَسَن مُجْتَمَع عَلَى ضَعْفه.
وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْخَبَر بِإِسْنَادٍ مُتَّصِل صَحِيح ثَابِت مِنْ غَيْر رِوَايَة طَاوُس ; ذَكَرَهُ عَبْد الرَّزَّاق قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَر وَالثَّوْرِيّ عَنْ الْأَعْمَش عَنْ أَبِي وَائِل عَنْ مَسْرُوق عَنْ مُعَاذ بْن جَبَل قَالَ : بَعَثَنِي رَسُول اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَمَن فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذ مِنْ كُلّ ثَلَاثِينَ بَقَرَة تَبِيعًا أَوْ تَبِيعَة، وَمِنْ أَرْبَعِينَ مُسِنَّة، وَمِنْ كُلّ حَالِم دِينَارًا أَوْ عَدْله مَعَافِر ; ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَأَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ وَصَحَّحَهُ.
قَالَ أَبُو عُمَر.
وَلَا خِلَاف بَيْن الْعُلَمَاء أَنَّ الزَّكَاة فِي زَكَاة الْبَقَر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه مَا قَالَ مُعَاذ بْن جَبَل : فِي ثَلَاثِينَ بَقَرَة تَبِيع، وَفِي أَرْبَعِينَ مُسِنَّة إِلَّا شَيْء رُوِيَ عَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَأَبِي قِلَابَة وَالزُّهْرِيّ وَقَتَادَة ; فَإِنَّهُمْ يُوجِبُونَ فِي كُلّ خَمْس مِنْ الْبَقَر شَاة إِلَى ثَلَاثِينَ.
فَهَذِهِ جُمْلَة مِنْ تَفْصِيل الزَّكَاة بِأُصُولِهَا وَفُرُوعهَا فِي كُتُب الْفِقْه.
وَيَأْتِي ذِكْر الْخُلْطَة فِي سُورَة [ ص ] إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
" صَدَقَة " مَأْخُوذ مِنْ الصِّدْق ; إِذْ هِيَ دَلِيل عَلَى صِحَّة إِيمَانه، وَصِدْق بَاطِنه مَعَ ظَاهِره، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَات.
" تُطَهِّرهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا " حَالَيْنِ لِلْمُخَاطَبِ ; التَّقْدِير : خُذْهَا مُطَهِّرًا لَهُمْ وَمُزَكِّيًا لَهُمْ بِهَا.
وَيَجُوز أَنْ يَجْعَلهُمَا صِفَتَيْنِ لِلصَّدَقَةِ ; أَيْ صَدَقَة مُطَهِّرَة لَهُمْ مُزَكِّيَة، وَيَكُون فَاعِل تُزَكِّيهِمْ الْمُخَاطَب، وَيَعُود الضَّمِير الَّذِي فِي " بِهَا " عَلَى الْمَوْصُوف الْمُنَكَّر.
وَحَكَى النَّحَّاس وَمَكِّيّ أَنَّ " تُطَهِّرهُمْ " مِنْ صِفَة الصَّدَقَة " وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا " حَال مِنْ الضَّمِير فِي " خُذْ " وَهُوَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَيَحْتَمِل أَنْ تَكُون حَالًا مِنْ الصَّدَقَة، وَذَلِكَ ضَعِيف لِأَنَّهَا حَال مِنْ نَكِرَة.
وَقَالَ الزَّجَّاج : وَالْأَجْوَد أَنْ تَكُون الْمُخَاطَبَة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; أَيْ فَإِنَّك تُطَهِّرهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا، عَلَى الْقَطْع وَالِاسْتِئْنَاف.
وَيَجُوز الْجَزْم عَلَى جَوَاب الْأَمْر، وَالْمَعْنَى : إِنْ تَأْخُذ مِنْ أَمْوَالهمْ صَدَقَة تُطَهِّرهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ ; وَمِنْهُ قَوْل اِمْرِئِ الْقَيْس :
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيب وَمَنْزِل
وَقَرَأَ الْحَسَن تُطُهِرهُمْ " بِسُكُونِ الطَّاء " وَهُوَ مَنْقُول بِالْهَمْزَةِ مِنْ طَهَرَ وَأَطْهَرْته، مِثْل ظَهَرَ وَأَظْهَرْته.
وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
أَصْل فِي فِعْل كُلّ إِمَام يَأْخُذ الصَّدَقَة أَنْ يَدْعُو لِلْمُتَصَدِّقِ بِالْبَرَكَةِ.
رَوَى مُسْلِم عَنْ عَبْد اللَّه بْن أَبِي أَوْفَى قَالَ : كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَتَاهُ قَوْم بِصَدَقَتِهِمْ قَالَ :( اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِمْ ) فَأَتَاهُ اِبْن أَبِي أَوْفَى بِصَدَقَتِهِ فَقَالَ :( اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آل أَبِي أَوْفَى ).
ذَهَبَ قَوْم إِلَى هَذَا، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ هَذَا مَنْسُوخ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :" وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَد مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا " [ التَّوْبَة : ٨٤ ].
قَالُوا : فَلَا يَجُوز أَنْ يُصَلَّى عَلَى أَحَد إِلَّا عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْده خَاصَّة ; لِأَنَّهُ خُصَّ بِذَلِكَ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى :" لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُول بَيْنكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضكُمْ بَعْضًا " [ النُّور : ٦٣ ] الْآيَة.
وَبِأَنَّ عَبْد اللَّه بْن عَبَّاس كَانَ يَقُول : لَا يُصَلَّى عَلَى أَحَد إِلَّا عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْأَوَّل أَصَحّ ; فَإِنَّ الْخِطَاب لَيْسَ مَقْصُورًا عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ ; وَيَأْتِي فِي الْآيَة بَعْد هَذَا.
فَيَجِب الِاقْتِدَاء بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالتَّأَسِّي بِهِ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَمْتَثِل قَوْله :" وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتك سَكَن لَهُمْ " أَيْ إِذَا دَعَوْت لَهُمْ حِين يَأْتُونَ بِصَدَقَاتِهِمْ سَكَّنَ ذَلِكَ قُلُوبهمْ وَفَرِحُوا بِهِ.
وَقَدْ رَوَى جَابِر بْن عَبْد اللَّه قَالَ : أَتَانِي النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت لِامْرَأَتِي : لَا تَسْأَلِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا ; فَقَالَتْ : يَخْرُج رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدنَا وَلَا نَسْأَلهُ شَيْئًا ! فَقَالَتْ : يَا رَسُول اللَّه ; صَلِّ عَلَى زَوْجِي.
فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( صَلَّى اللَّه عَلَيْك وَعَلَى زَوْجك ).
وَالصَّلَاة هُنَا الرَّحْمَة وَالتَّرَحُّم.
قَالَ النَّحَّاس : وَحَكَى أَهْل اللُّغَة جَمِيعًا فِيمَا عَلِمْنَاهُ أَنَّ الصَّلَاة فِي كَلَام الْعَرَب الدُّعَاء ; وَمِنْهُ الصَّلَاة عَلَى الْجَنَائِز.
وَقَرَأَ حَفْص وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ :" إِنَّ صَلَاتك " بِالتَّوْحِيدِ.
وَجَمَعَ الْبَاقُونَ.
وَكَذَلِكَ الِاخْتِلَاف فِي " أَصَلَاتك تَأْمُرك " [ هُود : ٨٧ ] وَقُرِئَ " سَكْن " بِسُكُونِ الْكَاف.
قَالَ قَتَادَة : مَعْنَاهُ وَقَار لَهُمْ.
وَالسَّكَن : مَا تَسْكُن بِهِ النُّفُوس وَتَطْمَئِنّ بِهِ الْقُلُوب.
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ
قِيلَ : قَالَ الَّذِينَ لَمْ يَتُوبُوا مِنْ الْمُتَخَلِّفِينَ : هَؤُلَاءِ كَانُوا مَعَنَا بِالْأَمْسِ، لَا يُكَلَّمُونَ وَلَا يُجَالَسُونَ، فَمَا لَهُمْ الْآن ؟ وَمَا هَذِهِ الْخَاصَّة الَّتِي خُصُّوا بِهَا دُوننَا ; فَنَزَلَتْ :" أَلَمْ يَعْلَمُوا " فَالضَّمِير فِي " يَعْلَمُوا " عَائِد إِلَى الَّذِينَ لَمْ يَتُوبُوا مِنْ الْمُتَخَلِّفِينَ.
قَالَ مَعْنَاهُ اِبْن زَيْد.
وَيَحْتَمِل أَنْ يَعُود إِلَى الَّذِينَ تَابُوا وَرَبَطُوا أَنْفُسهمْ.
وَقَوْله تَعَالَى :" هُوَ " تَأْكِيد لِانْفِرَادِ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى بِهَذِهِ الْأُمُور.
وَتَحْقِيق ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ : إِنَّ اللَّه يَقْبَل التَّوْبَة لَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُون قَبُول رَسُوله قَبُولًا مِنْهُ ; فَبَيَّنَتْ الْآيَة أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَصِل إِلَيْهِ نَبِيّ وَلَا مَلَك.
وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
" وَيَأْخُذ الصَّدَقَات " هَذَا نَصّ صَرِيح فِي أَنَّ اللَّه تَعَالَى هُوَ الْآخِذ لَهَا وَالْمُثِيب عَلَيْهَا وَأَنَّ الْحَقّ لَهُ جَلَّ وَعَزَّ، وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسِطَة، فَإِنْ تُوُفِّيَ فَعَامِله هُوَ الْوَاسِطَة بَعْده، وَاَللَّه عَزَّ وَجَلَّ حَيّ لَا يَمُوت.
وَهَذَا يُبَيِّن أَنَّ قَوْله سُبْحَانه وَتَعَالَى :" خُذْ مِنْ أَمْوَالهمْ صَدَقَة " لَيْسَ مَقْصُورًا عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : رَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( إِنَّ اللَّه يَقْبَل الصَّدَقَة وَيَأْخُذهَا بِيَمِينِهِ فَيُرْبِيهَا لِأَحَدِكُمْ كَمَا يُرْبِي أَحَدكُمْ مُهْره حَتَّى أَنَّ اللُّقْمَة لَتَصِير مِثْل أُحُد وَتَصْدِيق ذَلِكَ فِي كِتَاب اللَّه " وَهُوَ الَّذِي يَقْبَل التَّوْبَة عَنْ عِبَاده وَيَأْخُذ الصَّدَقَات " وَ " يَمْحَق اللَّه الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَات ".
قَالَ : هَذَا حَدِيث حَسَن صَحِيح.
وَفِي صَحِيح مُسْلِم :( لَا يَتَصَدَّق أَحَد بِتَمْرَةٍ مِنْ كَسْب طَيِّب إِلَّا أَخَذَهَا اللَّه بِيَمِينِهِ - فِي رِوَايَة - فَتَرْبُو فِي كَفّ الرَّحْمَن حَتَّى تَكُون أَعْظَم مِنْ الْجَبَل ) الْحَدِيث.
وَرُوِيَ ( إِنَّ الصَّدَقَة لَتَقَع فِي كَفّ الرَّحْمَن قَبْل أَنْ تَقَع فِي كَفّ السَّائِل فَيُرْبِيهَا كَمَا يُرْبِي أَحَدكُمْ فَلُوّهُ أَوْ فَصِيله وَاَللَّه يُضَاعِف لِمَنْ يَشَاء ).
قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَة اللَّه عَلَيْهِمْ فِي تَأْوِيل هَذِهِ الْأَحَادِيث : إِنَّ هَذَا كِنَايَة عَنْ الْقَبُول وَالْجَزَاء عَلَيْهَا ; كَمَا كَنَّى بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَة الْمُقَدَّسَة عَنْ الْمَرِيض تَعَطُّفًا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ :( يَا اِبْن آدَم مَرِضْت فَلَمْ تَعُدْنِي... ) الْحَدِيث.
وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي [ الْبَقَرَة ].
وَخُصَّ الْيَمِين وَالْكَفّ بِالذِّكْرِ إِذْ كُلّ قَابِل لِشَيْءٍ إِنَّمَا يَأْخُذهُ بِكَفِّهِ وَبِيَمِينِهِ أَوْ يُوضَع لَهُ فِيهِ ; فَخَرَجَ عَلَى مَا يَعْرِفُونَهُ، وَاَللَّه جَلَّ وَعَزَّ مُنَزَّه عَنْ الْجَارِحَة.
وَقَدْ جَاءَتْ الْيَمِين فِي كَلَام الْعَرَب بِغَيْرِ مَعْنَى الْجَارِحَة ; كَمَا قَالَ الشَّاعِر :
إِذَا مَا رَايَة رُفِعَتْ لِمَجْدٍ... تَلَقَّاهَا عَرَابَة بِالْيَمِينِ
أَيْ هُوَ مُؤَهَّل لِلْمَجْدِ وَالشَّرَف، وَلَمْ يَرِد بِهَا يَمِين الْجَارِحَة، لِأَنَّ الْمَجْد مَعْنًى فَالْيَمِين الَّتِي تَتَلَقَّى بِهِ رَايَته مَعْنًى.
وَكَذَلِكَ الْيَمِين فِي حَقّ اللَّه تَعَالَى.
وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ مَعْنَى ( تَرْبُو فِي كَفّ الرَّحْمَن ) عِبَارَة عَنْ كِفَّة الْمِيزَان الَّتِي تُوزَن فِيهَا الْأَعْمَال، فَيَكُون مِنْ بَاب حَذْف الْمُضَاف ; كَأَنَّهُ قَالَ.
فَتَرْبُو كِفَّة مِيزَان الرَّحْمَن.
وَرُوِيَ عَنْ مَالِك وَالثَّوْرِيّ وَابْن الْمُبَارَك أَنَّهُمْ قَالُوا فِي تَأْوِيل هَذِهِ الْأَحَادِيث وَمَا شَابَهَهَا : أَمِرُّوهَا بِلَا كَيْفَ ; قَالَهُ التِّرْمِذِيّ وَغَيْره.
وَهَكَذَا قَوْل أَهْل الْعِلْم مِنْ أَهْل السُّنَّة وَالْجَمَاعَة.
وَقُلِ اعْمَلُوا
خِطَاب لِلْجَمِيعِ.
فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
أَيْ بِإِطْلَاعِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى أَعْمَالكُمْ.
وَفِي الْخَبَر :( لَوْ أَنَّ رَجُلًا عَمِلَ فِي صَخْرَة لَا بَاب لَهَا وَلَا كُوَّة لَخَرَجَ عَمَله إِلَى النَّاس كَائِنًا مَا كَانَ ).
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
نَزَلَتْ فِي الثَّلَاثَة الَّذِينَ تِيبَ عَلَيْهِمْ : كَعْب بْن مَالِك وَهِلَال بْن أُمَيَّة مِنْ بَنِي وَاقِف وَمُرَارَة بْن الرَّبِيع ; وَقِيلَ : اِبْن رِبْعِيّ الْعُمَرِيّ ; ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيّ.
كَانُوا قَدْ تَخَلَّفُوا عَنْ تَبُوك وَكَانُوا مَيَاسِر ; عَلَى مَا يَأْتِي مِنْ ذِكْرهمْ.
وَالتَّقْدِير : وَمِنْهُمْ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ ; مِنْ أَرْجَأْته أَيْ أَخَّرْته.
وَمِنْهُ قِيلَ : مُرْجِئَة ; لِأَنَّهُمْ أَخَّرُوا الْعَمَل.
وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكِسَائِيّ " مُرْجَوْنَ " بِغَيْرِ هَمْز ; فَقِيلَ : هُوَ مِنْ أَرْجَيْته أَيْ أَخَّرْته.
وَقَالَ الْمُبَرِّد : لَا يُقَال أَرْجَيْته بِمَعْنَى أَخَّرْته، وَلَكِنْ يَكُون مِنْ الرَّجَاء.
" إِمَّا يُعَذِّبهُمْ وَإِمَّا يَتُوب عَلَيْهِمْ " " إِمَّا " فِي الْعَرَبِيَّة لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ، وَاَللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَالِم بِمَصِيرِ الْأَشْيَاء، وَلَكِنَّ الْمُخَاطَبَة لِلْعِبَادِ عَلَى مَا يَعْرِفُونَ ; أَيْ لِيَكُنْ أَمْرهمْ عِنْدكُمْ عَلَى الرَّجَاء لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْعِبَادِ أَكْثَر مِنْ هَذَا.
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا
" وَاَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا مَسْجِدًا " مَعْطُوف، أَيْ وَمِنْهُمْ الَّذِينَ اِتَّخَذُوا مَسْجِدًا، عَطْف جُمْلَة عَلَى جُمْلَة.
وَيَجُوز أَنْ يَكُون رَفْعًا بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَر مَحْذُوف كَإِنَّهُمْ " يُعَذَّبُونَ " أَوْ نَحْوه.
وَمَنْ قَرَأَ " الَّذِينَ " بِغَيْرِ وَاو وَهِيَ قِرَاءَة الْمَدَنِيِّينَ فَهِيَ عِنْده رَفْع بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَر " لَا تَقُمْ " التَّقْدِير : الَّذِينَ اِتَّخَذُوا مَسْجِدًا لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ; أَيْ لَا تَقُمْ فِي مَسْجِدهمْ ; قَالَهُ الْكِسَائِيّ.
وَقَالَ النَّحَّاس : يَكُون خَبَر الِابْتِدَاء " لَا يَزَال بُنْيَانهمْ الَّذِي بَنَوْا رِيبَة فِي قُلُوبهمْ " [ التَّوْبَة : ١١٠ ].
وَقِيلَ : الْخَبَر " يُعَذَّبُونَ " كَمَا تَقَدَّمَ.
وَنَزَلَتْ الْآيَة فِيمَا رُوِيَ فِي أَبُو عَامِر الرَّاهِب ; لِأَنَّهُ كَانَ خَرَجَ إِلَى قَيْصَر وَتَنَصَّرَ وَوَعَدَهُمْ قَيْصَر أَنَّهُ سَيَأْتِيهِمْ، فَبَنَوْا مَسْجِد الضِّرَار يَرْصُدُونَ مَجِيئَهُ فِيهِ ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَقَتَادَة وَغَيْرهمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ قِصَّته فِي الْأَعْرَاف وَقَالَ أَهْل التَّفْسِير : إِنَّ بَنِي عَمْرو بْن عَوْف اِتَّخَذُوا مَسْجِد قُبَاء وَبَعَثُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْتِيهِمْ فَأَتَاهُمْ فَصَلَّى فِيهِ ; فَحَسَدَهُمْ إِخْوَانهمْ بَنُو غُنْم بْن عَوْف وَقَالُوا : نَبْنِي مَسْجِدًا وَنَبْعَث إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِينَا فَيُصَلِّي لَنَا كَمَا صَلَّى فِي مَسْجِد إِخْوَاننَا، وَيُصَلِّي فِيهِ أَبُو عَامِر إِذَا قَدِمَ مِنْ الشَّام ; فَأَتَوْا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَتَجَهَّز إِلَى تَبُوك فَقَالُوا : يَا رَسُول اللَّه، قَدْ بَنَيْنَا مَسْجِدًا لِذِي الْحَاجَة، وَالْعِلَّة وَاللَّيْلَة الْمَطِيرَة، وَنُحِبّ أَنْ تُصَلِّي لَنَا فِيهِ وَتَدْعُو بِالْبَرَكَةِ ; فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( إِنِّي عَلَى سَفَر وَحَال شُغْل فَلَوْ قَدِمْنَا لَأَتَيْنَاكُمْ وَصَلَّيْنَا لَكُمْ فِيهِ ) فَلَمَّا اِنْصَرَفَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَبُوك أَتَوْهُ وَقَدْ فَرَغُوا مِنْهُ وَصَلَّوْا فِيهِ الْجُمُعَة وَالسَّبْت وَالْأَحَد، فَدَعَا بِقَمِيصِهِ لِيَلْبَسهُ وَيَأْتِيهِمْ فَنَزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآن بِخَبَرِ مَسْجِد الضِّرَار ; فَدَعَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَالِك بْن الدُّخْشُم وَمَعْن بْن عَدِيّ وَعَامِر بْن السَّكَن وَوَحْشِيًّا قَاتِل حَمْزَة، فَقَالَ :( اِنْطَلِقُوا إِلَى هَذَا الْمَسْجِد الظَّالِم أَهْله فَاهْدِمُوهُ وَأَحْرِقُوهُ ) فَخَرَجُوا مُسْرِعِينَ، وَأَخْرَجَ مَالِك بْن الدُّخْشُم مِنْ مَنْزِله شُعْلَة نَار، وَنَهَضُوا فَأَحْرَقُوا الْمَسْجِد وَهَدَمُوهُ، وَكَانَ الَّذِينَ بَنَوْهُ اِثْنَيْ عَشَر رَجُلًا : خِذَام بْن خَالِد مِنْ بَنِي عُبَيْد بْن زَيْد أَحَد بَنِي عَمْرو بْن عَوْف وَمِنْ دَاره أُخْرِجَ مَسْجِد الضِّرَار، وَمُعَتِّب بْن قُشَيْر، وَأَبُو حَبِيبَة بْن الْأَزْعَر، وَعَبَّاد بْن الْأَزْعَر، وَعَبَّادَة بْن حُنَيْف أَخُو سَهْل بْن حُنَيْف مِنْ بَنِي عَمْرو بْن عَوْف.
وَجَارِيَة بْن عَامِر، وَابْنَاهُ مُجَمِّع وَزَيْد اِبْنَا جَارِيَة، وَنَبْتَل بْن الْحَارِث، وَبَحْزَج، وَبِجَاد بْن عُثْمَان، وَوَدِيعَة بْن ثَابِت، وَثَعْلَبَة بْن حَاطِب مَذْكُور فِيهِمْ.
قَالَ أَبُو عُمَر بْن عَبْد الْبَرّ : وَفِيهِ نَظَر ; لِأَنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا.
وَقَالَ عِكْرِمَة : سَأَلَ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَجُلًا مِنْهُمْ بِمَاذَا أَعَنْت فِي هَذَا الْمَسْجِد ؟ فَقَالَ : أَعَنْت فِيهِ بِسَارِيَةٍ.
فَقَالَ : أَبْشِرْ بِهَا سَارِيَة فِي عُنُقك مِنْ نَار جَهَنَّم.
" ضِرَارًا " مَصْدَر مَفْعُول مِنْ أَجْله.
" وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْن الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا " عَطْف كُلّه.
وَقَالَ أَهْل التَّأْوِيل : ضِرَارًا بِالْمَسْجِدِ، وَلَيْسَ لِلْمَسْجِدِ ضِرَار، إِنَّمَا هُوَ لِأَهْلِهِ.
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( لَا ضَرَر وَلَا ضِرَار مَنْ ضَارَّ ضَارَّ اللَّه بِهِ وَمَنْ شَاقَّ شَاقَّ اللَّه عَلَيْهِ ).
قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : الضَّرَر : الَّذِي لَك بِهِ مَنْفَعَة وَعَلَى جَارك فِيهِ مَضَرَّة.
وَالضِّرَار : الَّذِي لَيْسَ لَك فِيهِ مَنْفَعَة وَعَلَى جَارك فِيهِ الْمَضَرَّة.
وَقَدْ قِيلَ : هُمَا بِمَعْنًى وَاحِد، تَكَلَّمَ بِهِمَا جَمِيعًا عَلَى جِهَة التَّأْكِيد.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَا يَجُوز أَنْ يُبْنَى مَسْجِد إِلَى جَنْب مَسْجِد، وَيَجِب هَدْمه ; وَالْمَنْع مِنْ بِنَائِهِ لِئَلَّا يَنْصَرِف أَهْل الْمَسْجِد الْأَوَّل فَيَبْقَى شَاغِرًا، إِلَّا أَنْ تَكُون الْمَحَلَّة كَبِيرَة فَلَا يَكْفِي أَهْلهَا مَسْجِد وَاحِد فَيُبْنَى حِينَئِذٍ.
وَكَذَلِكَ قَالُوا.
لَا يَنْبَغِي أَنْ يُبْنَى فِي الْمِصْر الْوَاحِد جَامِعَانِ وَثَلَاثَة، وَيَجِب مَنْع الثَّانِي، وَمَنْ صَلَّى فِيهِ الْجُمُعَة لَمْ تُجْزِهِ.
وَقَدْ أَحْرَقَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسْجِد الضِّرَار وَهَدَمَهُ.
وَأَسْنَدَ الطَّبَرِيّ عَنْ شَقِيق أَنَّهُ جَاءَ لِيُصَلِّيَ فِي مَسْجِد بَنِي غَاضِرَة فَوَجَدَ الصَّلَاة قَدْ فَاتَتْهُ، فَقِيلَ لَهُ : إِنَّ مَسْجِد بَنِي فُلَان لَمْ يُصَلَّ فِيهِ بَعْد ; فَقَالَ : لَا أُحِبّ أَنْ أُصَلِّي فِيهِ ; لِأَنَّهُ بُنِيَ عَلَى ضِرَار.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَكُلّ مَسْجِد بُنِيَ عَلَى ضِرَار أَوْ رِيَاء وَسُمْعَة فَهُوَ فِي حُكْم مَسْجِد الضِّرَار لَا تَجُوز الصَّلَاة فِيهِ.
وَقَالَ النَّقَّاش : يَلْزَم مِنْ هَذَا أَلَّا يُصَلَّى فِي كَنِيسَة وَنَحْوهَا ; لِأَنَّهَا بُنِيَتْ عَلَى شَرّ.
قُلْت : هَذَا لَا يَلْزَم ; لِأَنَّ الْكَنِيسَة لَمْ يُقْصَد بِبِنَائِهَا الضَّرَر بِالْغَيْرِ، وَإِنْ كَانَ أَصْل بِنَائِهَا عَلَى شَرّ، وَإِنَّمَا اِتَّخَذَ النَّصَارَى الْكَنِيسَة وَالْيَهُود الْبِيعَة مَوْضِعًا يَتَعَبَّدُونَ فِيهِ بِزَعْمِهِمْ كَالْمَسْجِدِ لَنَا فَافْتَرَقَا.
وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ مَنْ صَلَّى فِي كَنِيسَة أَوْ بِيعَة عَلَى مَوْضِع طَاهِر أَنَّ صَلَاته مَاضِيَة جَائِزَة.
وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيّ أَنَّ اِبْن عَبَّاس كَانَ يُصَلِّي فِي الْبِيعَة إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا تَمَاثِيل.
وَذَكَرَ أَبُو دَاوُد عَنْ عُثْمَان بْن أَبِي الْعَاص أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يَجْعَل مَسْجِد الطَّائِف حَيْثُ كَانَتْ طَوَاغِيتهمْ.
قَالَ الْعُلَمَاء : إِنَّ مَنْ كَانَ إِمَامًا لِظَالِمٍ لَا يُصَلَّى وَرَاءَهُ إِلَّا أَنْ يَظْهَر عُذْره أَوْ يَتُوب فَإِنَّ بَنِي عَمْرو بْن عَوْف الَّذِينَ بَنَوْا مَسْجِد قُبَاء سَأَلُوا عُمَر بْن الْخَطَّاب فِي خِلَافَته لِيَأْذَن لِمُجَمِّعِ بْن جَارِيَة أَنْ يُصَلِّي بِهِمْ فِي مَسْجِدهمْ ; فَقَالَ : لَا وَلَا نِعْمَة عَيْن أَلَيْسَ بِإِمَامِ مَسْجِد الضِّرَار فَقَالَ لَهُ مُجَمِّع : يَا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، لَا تَعْجَل عَلَيَّ فَوَاَللَّهِ لَقَدْ صَلَّيْت فِيهِ وَأَنَا لَا أَعْلَم مَا قَدْ أَضْمَرُوا عَلَيْهِ وَلَوْ عَلِمْت مَا صَلَّيْت بِهِمْ فِيهِ كُنْت غُلَامًا قَارِئًا لِلْقُرْآنِ وَكَانُوا شُيُوخًا قَدْ عَاشُوا عَلَى جَاهِلِيَّتهمْ وَكَانُوا لَا يَقْرَءُونَ مِنْ الْقُرْآن شَيْئًا فَصَلَّيْت وَلَا أَحْسِب مَا صَنَعْت إِثْمًا وَلَا أَعْلَم بِمَا فِي أَنْفُسهمْ فَعَذَرَهُ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَصَدَّقَهُ وَأَمَرَهُ بِالصَّلَاةِ فِي مَسْجِد قُبَاء.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَة اللَّه عَلَيْهِمْ : وَإِذَا كَانَ الْمَسْجِد الَّذِي يُتَّخَذ لِلْعِبَادَةِ وَحَضَّ الشَّرْع عَلَى بِنَائِهِ فَقَالَ :( مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَوْ كَمَفْحَصِ قَطَاة بَنَى اللَّه لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّة ) يُهْدَم وَيُنْزَع إِذَا كَانَ فِيهِ ضَرَر بِغَيْرِهِ، فَمَا ظَنّك بِسِوَاهُ بَلْ هُوَ أَحْرَى أَنْ يُزَال وَيُهْدَم حَتَّى لَا يَدْخُل ضَرَر عَلَى الْأَقْدَم.
وَذَلِكَ كَمَنْ بَنَى فُرْنًا أَوْ رَحًى أَوْ حَفَرَ بِئْرًا أَوْ غَيْر ذَلِكَ مِمَّا يُدْخِل بِهِ الضَّرَر عَلَى الْغَيْر.
وَضَابِط هَذَا الْبَاب : أَنَّ مَنْ أَدْخَلَ عَلَى أَخِيهِ ضَرَرًا مُنِعَ.
فَإِنْ أَدْخَلَ عَلَى أَخِيهِ ضَرَرًا بِفِعْلِ مَا كَانَ لَهُ فِعْله فِي مَاله فَأَضَرَّ ذَلِكَ بِجَارِهِ أَوْ غَيْر جَاره نُظِرَ إِلَى ذَلِكَ الْفِعْل ; فَإِنْ كَانَ تَرْكه أَكْبَر ضَرَرًا مِنْ الضَّرَر الدَّاخِل عَلَى الْفَاعِل قُطِعَ أَكْبَر الضَّرَرَيْنِ وَأَعْظَمهمَا حُرْمَة فِي الْأُصُول.
مِثَال ذَلِكَ : رَجُل فَتَحَ كُوَّة فِي مَنْزِله يَطَّلِع مِنْهَا عَلَى دَار أَخِيهِ وَفِيهَا الْعِيَال وَالْأَهْل، وَمِنْ شَأْن النِّسَاء فِي بُيُوتهنَّ إِلْقَاء بَعْض ثِيَابهنَّ وَالِانْتِشَار فِي حَوَائِجهنَّ، وَمَعْلُوم أَنَّ الِاطِّلَاع عَلَى الْعَوْرَات مُحَرَّم وَقَدْ وَرَدَ النَّهْي فِيهِ فَلِحُرْمَةِ الِاطِّلَاع عَلَى الْعَوْرَات رَأَى الْعُلَمَاء أَنْ يُغْلِقُوا عَلَى فَاتِح الْبَاب وَالْكُوَّة مَا فَتَحَ مِمَّا لَهُ فِيهِ مَنْفَعَة وَرَاحَة وَفِي غَلْقه عَلَيْهِ ضَرَر لِأَنَّهُمْ قَصَدُوا إِلَى قَطْع أَعْظَم الضَّرَرَيْنِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ بُدّ مِنْ قَطْع أَحَدهمَا وَهَكَذَا الْحُكْم فِي هَذَا الْبَاب، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ.
قَالَ أَصْحَاب الشَّافِعِيّ : لَوْ حَفَرَ رَجُل فِي مِلْكه بِئْرًا وَحَفَرَ آخَر فِي مِلْكه بِئْرًا يَسْرِق مِنْهَا مَاء الْبِئْر الْأَوَّلَة جَازَ ; لِأَنَّ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا حَفَرَ فِي مِلْكه فَلَا يُمْنَع مِنْ ذَلِكَ.
وَمِثْله عِنْدهمْ : لَوْ حَفَرَ إِلَى جَنْب بِئْر جَاره كَنِيفًا يُفْسِدهُ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعه ; لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكه.
وَالْقُرْآن وَالسُّنَّة يَرُدَّانِ هَذَا الْقَوْل.
وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق.
وَمِنْ هَذَا الْبَاب وَجْه آخَر مِنْ الضَّرَر مَنَعَ الْعُلَمَاء مِنْهُ، كَدُخَانِ الْفُرْن وَالْحَمَّام وَغُبَار الْأَنْدَر وَالدُّود الْمُتَوَلِّد مِنْ الزِّبْل الْمَبْسُوط فِي الرِّحَاب، وَمَا كَانَ مِثْل هَذَا فَإِنَّهُ يُقْطَع مِنْهُ مَا بَانَ ضَرَره وَخُشِيَ تَمَادِيهِ.
وَأَمَّا مَا كَانَ سَاعَة خَفِيفَة مِثْل نَفْض الثِّيَاب وَالْحُصْر عِنْد الْأَبْوَاب ; فَإِنَّ هَذَا مِمَّا لَا غِنَى بِالنَّاسِ عَنْهُ، وَلَيْسَ مِمَّا يُسْتَحَقّ بِهِ شَيْء ; فَنَفْي الضَّرَر فِي مَنْع مِثْل هَذَا أَعْظَم وَأَكْبَر مِنْ الصَّبْر عَلَى ذَلِكَ سَاعَة خَفِيفَة.
وَلِلْجَارِ عَلَى جَاره فِي أَدَب السُّنَّة أَنْ يَصْبِر عَلَى أَذَاهُ عَلَى مَا يَقْدِر كَمَا عَلَيْهِ أَلَّا يُؤْذِيه وَأَنْ يُحْسِن إِلَيْهِ.
وَمِمَّا يَدْخُل فِي هَذَا الْبَاب مَسْأَلَة ذَكَرَهَا إِسْمَاعِيل بْن أَبِي أُوَيْس عَنْ مَالِك أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ اِمْرَأَة عَرَضَ لَهَا، يَعْنِي مَسًّا مِنْ الْجِنّ، فَكَانَتْ إِذَا أَصَابَهَا زَوْجهَا وَأَجْنَبَتْ أَوْ دَنَا مِنْهَا يَشْتَدّ ذَلِكَ بِهَا.
فَقَالَ مَالِك : لَا أَرَى أَنْ يَقْرَبهَا، وَأَرَى لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَحُول بَيْنه وَبَيْنهَا.
وَكُفْرًا
لَمَّا كَانَ اِعْتِقَادهمْ أَنَّهُ لَا حُرْمَة لِمَسْجِدِ قُبَاء وَلَا لِمَسْجِدِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَرُوا بِهَذَا الِاعْتِقَاد ; قَالَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ.
وَقِيلَ :" وَكُفْرًا " أَيْ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ ; قَالَهُ الْقُشَيْرِيّ وَغَيْره.
وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ
أَيْ يُفَرِّقُونَ بِهِ جَمَاعَتهمْ لِيَتَخَلَّف أَقْوَام عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَهَذَا يَدُلّك عَلَى أَنَّ الْمَقْصِد الْأَكْبَر وَالْغَرَض الْأَظْهَر مِنْ وَضْع الْجَمَاعَة تَأْلِيف الْقُلُوب وَالْكَلِمَة عَلَى الطَّاعَة، وَعَقْد الذِّمَام وَالْحُرْمَة بِفِعْلِ الدِّيَانَة حَتَّى يَقَع الْأُنْس بِالْمُخَالَطَةِ، وَتَصْفُو الْقُلُوب مِنْ وَضَر الْأَحْقَاد.
تَفَطَّنَ مَالِك رَحِمَهُ اللَّه مِنْ هَذِهِ الْآيَة فَقَالَ : لَا تُصَلِّي جَمَاعَتَانِ فِي مَسْجِد وَاحِد بِإِمَامَيْنِ ; خِلَافًا لِسَائِرِ الْعُلَمَاء.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الشَّافِعِيّ الْمَنْع ; حَيْثُ كَانَ تَشْتِيتًا لِلْكَلِمَةِ وَإِبْطَالًا لِهَذِهِ الْحِكْمَة وَذَرِيعَة إِلَى أَنْ نَقُول : مَنْ يُرِيد الِانْفِرَاد عَنْ الْجَمَاعَة كَانَ لَهُ عُذْر فَيُقِيم جَمَاعَته وَيُقَدِّم إِمَامَته فَيَقَع الْخِلَاف وَيَبْطُل النِّظَام، وَخَفِيَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا كَانَ شَأْنه مَعَهُمْ، وَهُوَ أَثْبَت قَدَمًا مِنْهُمْ فِي الْحِكْمَة وَأَعْلَم بِمَقَاطِع الشَّرِيعَة.
وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
يَعْنِي أَبَا عَامِر الرَّاهِب ; وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ يَتَعَبَّد وَيَلْتَمِس الْعِلْم فَمَاتَ كَافِرًا بِقِنِّسْرِينَ بِدَعْوَةِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَإِنَّهُ كَانَ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا أَجِد قَوْمًا يُقَاتِلُونَك إِلَّا قَاتَلْتُك مَعَهُمْ ; فَلَمْ يَزَلْ يُقَاتِلهُ إِلَى يَوْم حُنَيْن.
فَلَمَّا اِنْهَزَمَتْ هَوَازِن خَرَجَ إِلَى الرُّوم يَسْتَنْصِر، وَأَرْسَلَ إِلَى الْمُنَافِقِينَ وَقَالَ : اِسْتَعِدُّوا بِمَا اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّة وَسِلَاح، وَابْنُوا مَسْجِدًا فَإِنِّي ذَاهِب إِلَى قَيْصَر فَآتٍ بِجُنْدٍ مِنْ الرُّوم لِأُخْرِجَ مُحَمَّدًا مِنْ الْمَدِينَة ; فَبَنَوْا مَسْجِد الضِّرَار.
وَأَبُو عَامِر هَذَا هُوَ وَالِد حَنْظَلَة غَسِيل الْمَلَائِكَة.
وَالْإِرْصَاد : الِانْتِظَار ; تَقُول : أَرْصَدْت كَذَا إِذَا أَعْدَدْته مُرْتَقِبًا لَهُ بِهِ.
قَالَ أَبُو زَيْد : يُقَال رَصَدْته وَأَرْصَدْته فِي الْخَيْر، وَأَرْصَدْت لَهُ فِي الشَّرّ.
وَقَالَ اِبْن الْأَعْرَابِيّ : لَا يُقَال إِلَّا أَرْصَدْت، وَمَعْنَاهُ اِرْتَقَبْت.
مِنْ قَبْلُ
أَيْ مِنْ قَبْل بِنَاء مَسْجِد الضِّرَار.
وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
أَيْ مَا أَرَدْنَا بِبِنَائِهِ إِلَّا الْفِعْلَة الْحُسْنَى، وَهِيَ الرِّفْق بِالْمُسْلِمِينَ كَمَا ذَكَرُوا لِذِي الْعِلَّة وَالْحَاجَة.
وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْأَفْعَال تَخْتَلِف بِالْمَقْصُودِ وَالْإِرَادَات ; وَلِذَلِكَ قَالَ :" وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى ".
" وَاَللَّه يَشْهَد إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ " أَيْ يَعْلَم خُبْث ضَمَائِرهمْ وَكَذِبهمْ فِيمَا يَحْلِفُونَ عَلَيْهِ.
لَا تَقُمْ فِيهِ
يَعْنِي مَسْجِد الضِّرَار ; أَيْ لَا تَقُمْ فِيهِ لِلصَّلَاةِ.
وَقَدْ يُعَبَّر عَنْ الصَّلَاة بِالْقِيَامِ ; يُقَال : فُلَان يَقُوم اللَّيْل أَيْ يُصَلِّي ; وَمِنْهُ الْحَدِيث الصَّحِيح :( مَنْ قَامَ رَمَضَان إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبه ).
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ... ، فَذَكَرَهُ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة كَانَ لَا يَمُرّ بِالطَّرِيقِ الَّتِي فِيهَا الْمَسْجِد، وَأَمَرَ بِمَوْضِعِهِ أَنْ يُتَّخَذ كُنَاسَة تُلْقَى فِيهَا الْجِيَف وَالْأَقْذَار وَالْقُمَامَات.
أَبَدًا
" أَبَدًا " ظَرْف زَمَان.
وَظَرْف الزَّمَان عَلَى قِسْمَيْنِ : ظَرْف مُقَدَّر كَالْيَوْمِ، وَظَرْف مُبْهَم كَالْحِينِ وَالْوَقْت ; وَالْأَبَد مِنْ هَذَا الْقَسَم، وَكَذَلِكَ الدَّهْر.
وَتَنْشَأ هُنَا مَسْأَلَة أُصُولِيَّة، وَهِيَ أَنَّ " أَبَدًا " وَإِنْ كَانَتْ ظَرْفًا مُبْهَمًا لَا عُمُوم فِيهِ وَلَكِنَّهُ إِذَا اِتَّصَلَ بِلَا النَّافِيَة أَفَادَ الْعُمُوم، فَلَوْ قَالَ : لَا تَقُمْ، لَكَفَى فِي الِانْكِفَاف الْمُطْلَق.
فَإِذَا قَالَ :" أَبَدًا " فَكَأَنَّهُ قَالَ فِي وَقْت مِنْ الْأَوْقَات وَلَا فِي حِين مِنْ الْأَحْيَان.
فَأَمَّا النَّكِرَة فِي الْإِثْبَات إِذَا كَانَتْ خَبَرًا عَنْ وَاقِع لَمْ تَعُمّ، وَقَدْ فَهِمَ ذَلِكَ أَهْل اللِّسَان وَقَضَى بِهِ فُقَهَاء الْإِسْلَام فَقَالُوا : لَوْ قَالَ رَجُل لِامْرَأَتِهِ أَنْت طَالِق أَبَدًا طَُلُقَتْ طَلْقَة وَاحِدَة.
لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى
أَيْ بُنِيَتْ جُدُره وَرُفِعَتْ قَوَاعِده.
وَالْأُسّ أَصْل الْبِنَاء ; وَكَذَلِكَ الْأَسَاس.
وَالْأُسُس مَقْصُور مِنْهُ.
وَجَمْع الْأُسّ إِسَاس ; مِثْل عُسّ وَعِسَاس.
وَجَمْع الْأَسَاس أُسُس ; مِثْل قَذَال وَقُذُل.
وَجَمْع الْأُسُس آسَاس ; مِثْل سَبَب وَأَسْبَاب.
وَقَدْ أَسَّسْت الْبِنَاء تَأْسِيسًا.
وَقَوْلهمْ : كَانَ ذَلِكَ عَلَى أُسّ الدَّهْر، وَأَسّ الدَّهْر، وَإِسّ الدَّهْر ; ثَلَاث لُغَات ; أَيْ عَلَى قِدَم الدَّهْر وَوَجْه الدَّهْر.
وَاللَّام فِي قَوْله " لَمَسْجِد " لَام قَسَم.
وَقِيلَ لَام الِابْتِدَاء ; كَمَا تَقُول : لَزَيْد أَحْسَن النَّاس فِعْلًا ; وَهِيَ مُقْتَضِيَة تَأْكِيدًا.
" أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى " نَعْت لِمَسْجِدٍ.
" أَحَقّ " خَبَر الِابْتِدَاء الَّذِي هُوَ " لَمَسْجِد " وَمَعْنَى التَّقْوَى هُنَا الْخِصَال الَّتِي تُتَّقَى بِهَا الْعُقُوبَة، وَهِيَ فَعْلَى مِنْ وَقَيْت، وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْمَسْجِد الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى ; فَقَالَتْ طَائِفَة : هُوَ مَسْجِد قُبَاء ; يُرْوَى عَنْ اِبْن عَبَّاس وَالضَّحَّاك وَالْحَسَن.
وَتَعَلَّقُوا بِقَوْلِهِ :" مِنْ أَوَّل يَوْم "، وَمَسْجِد قُبَاء كَانَ أُسِّسَ بِالْمَدِينَةِ أَوَّل يَوْم ; فَإِنَّهُ بُنِيَ قَبْل مَسْجِد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; قَالَهُ اِبْن عُمَر وَابْن الْمُسَيِّب، وَمَالِك فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ اِبْن وَهْب وَأَشْهَب وَابْن الْقَاسِم.
وَرَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ : قَالَ تَمَارَى رَجُلَانِ فِي الْمَسْجِد الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّل يَوْم ; فَقَالَ رَجُل هُوَ مَسْجِد قُبَاء، وَقَالَ آخَر هُوَ مَسْجِد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( هُوَ مَسْجِدِي هَذَا ).
قَالَ حَدِيث صَحِيح.
وَالْقَوْل الْأَوَّل أَلْيَق بِالْقِصَّةِ ; لِقَوْلِهِ :" فِيهِ " وَضَمِير الظَّرْف يَقْتَضِي الرِّجَال الْمُتَطَهِّرِينَ ; فَهُوَ مَسْجِد قُبَاء.
وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة فِي أَهْل قُبَاء " فِيهِ رِجَال يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاَللَّه يُحِبّ الْمُطَّهِّرِينَ " قَالَ : كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَة.
قَالَ الشَّعْبِيّ : هُمْ أَهْل مَسْجِد قُبَاء، أَنْزَلَ اللَّه فِيهِمْ هَذَا.
وَقَالَ قَتَادَة : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ قُبَاء :( إِنَّ اللَّه سُبْحَانه قَدْ أَحْسَنَ عَلَيْكُمْ الثَّنَاء فِي التَّطَهُّر فَمَا تَصْنَعُونَ ) ؟ قَالُوا : إِنَّا نَغْسِل أَثَر الْغَائِط وَالْبَوْل بِالْمَاءِ ; رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ طَلْحَة بْن نَافِع قَالَ : حَدَّثَنِي أَبُو أَيُّوب وَجَابِر بْن عَبْد اللَّه وَأَنَس بْن مَالِك الْأَنْصَارِيُّونَ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَة " فِيهِ رِجَال يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاَللَّه يُحِبّ الْمُطَّهِّرِينَ " فَقَالَ :( يَا مَعْشَر الْأَنْصَار إِنَّ اللَّه قَدْ أَثْنَى عَلَيْكُمْ خَيْرًا فِي الطَّهُور فَمَا طَهُوركُمْ هَذَا ) ؟ قَالُوا : يَا رَسُول اللَّه، نَتَوَضَّأ لِلصَّلَاةِ وَنَغْتَسِل مِنْ الْجَنَابَة.
فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( فَهَلْ مَعَ ذَلِكَ مِنْ غَيْره ) ؟ فَقَالُوا : لَا غَيْر، إِنَّ أَحَدنَا إِذَا خَرَجَ مِنْ الْغَائِط أَحَبَّ أَنْ يَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ.
قَالَ :( هُوَ ذَاكَ فَعَلَيْكُمُوهُ ) وَهَذَا الْحَدِيث يَقْتَضِي أَنَّ الْمَسْجِد الْمَذْكُور فِي الْآيَة هُوَ مَسْجِد قُبَاء، إِلَّا أَنَّ حَدِيث أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ نَصَّ فِيهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّهُ مَسْجِده فَلَا نَظَر مَعَهُ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو كُرَيْب قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَة قَالَ حَدَّثَنَا صَالِح بْن حَيَّان قَالَ حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن بُرَيْدَة فِي قَوْله عَزَّ وَجَلَّ :" فِي بُيُوت أَذِنَ اللَّه أَنْ تُرْفَع وَيُذْكَر فِيهَا اِسْمه " [ النُّور : ٣٦ ] قَالَ : إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَة مَسَاجِد لَمْ يَبْنِهِنَّ إِلَّا نَبِيّ : الْكَعْبَة بَنَاهَا إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل عَلَيْهِمَا السَّلَام، وَبَيْت أَرِيحَا بَيْت الْمَقْدِس بَنَاهُ دَاوُد وَسُلَيْمَان عَلَيْهِمَا السَّلَام، وَمَسْجِد الْمَدِينَة وَمَسْجِد قُبَاء اللَّذَيْنِ أُسِّسَا عَلَى التَّقْوَى، بَنَاهُمَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ
" " مِنْ " عِنْد النَّحْوِيِّينَ مُقَابِلَة مُنْذُ ; فَمُنْذُ فِي الزَّمَان بِمَنْزِلَةِ مِنْ فِي الْمَكَان.
فَقِيلَ : إِنَّ مَعْنَاهَا هُنَا مَعْنَى مُنْذُ ; وَالتَّقْدِير : مُنْذُ أَوَّل يَوْم اُبْتُدِئَ بُنْيَانه.
وَقِيلَ : الْمَعْنَى مِنْ تَأْسِيس أَوَّل الْأَيَّام، فَدَخَلَتْ عَلَى مَصْدَر الْفِعْل الَّذِي هُوَ أُسِّسَ ; كَمَا قَالَ :
لِمَنْ الدِّيَار بِقُنَّةِ الْحِجْر أَقْوَيْنَ مِنْ حِجَج وَمِنْ دَهْر
أَيْ مِنْ مَرّ حِجَج وَمِنْ مَرّ دَهْر.
وَإِنَّمَا دَعَا إِلَى هَذَا أَنَّ مِنْ أُصُول النَّحْوِيِّينَ أَنَّ " مِنْ " لَا يُجَرّ بِهَا الْأَزْمَان، وَإِنَّمَا تُجَرّ الْأَزْمَان بِمُنْذُ، تَقُول مَا رَأَيْته مُنْذُ شَهْر أَوْ سَنَة أَوْ يَوْم، وَلَا تَقُول : مِنْ شَهْر وَلَا مِنْ سَنَة وَلَا مِنْ يَوْم.
فَإِذَا وَقَعَتْ فِي الْكَلَام وَهِيَ يَلِيهَا زَمَن فَيُقَدَّر مُضْمَر يَلِيق أَنْ يُجَرّ بِمِنْ ; كَمَا ذَكَرْنَا فِي تَقْدِير الْبَيْت.
اِبْن عَطِيَّة.
وَيَحْسُن عِنْدِي أَنْ يُسْتَغْنَى فِي هَذِهِ الْآيَة عَنْ تَقْدِير، وَأَنْ تَكُون " مِنْ " تَجُرّ لَفْظَة " أَوَّل " لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الْبُدَاءَة ; كَأَنَّهُ قَالَ : مِنْ مُبْتَدَأ الْأَيَّام.
أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ
أَيْ بِأَنْ تَقُوم ; فَهُوَ فِي مَوْضِع نَصْب.
و " أَحَقّ " هُوَ أَفْعَل مِنْ الْحَقّ، وَأَفْعَل لَا يَدْخُل إِلَّا بَيْن شَيْئَيْنِ مُشْتَرِكَيْنِ، لِأَحَدِهِمَا فِي الْمَعْنَى الَّذِي اِشْتَرَكَا فِيهِ مَزِيَّة.
عَلَى الْآخَر ; فَمَسْجِد الضِّرَار وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا لَا حَقّ فِيهِ، فَقَدْ اِشْتَرَكَا فِي الْحَقّ مِنْ جِهَة اِعْتِقَاد بَانِيه، أَوْ مِنْ جِهَة اِعْتِقَاد مَنْ كَانَ يَظُنّ أَنَّ الْقِيَام فِيهِ جَائِز لِلْمَسْجِدِيَّةِ ; لَكِنَّ أَحَد الِاعْتِقَادَيْنِ بَاطِل بَاطِنًا عِنْد اللَّه، وَالْآخَر حَقّ بَاطِنًا وَظَاهِرًا ; وَمِثْل هَذَا قَوْله تَعَالَى :" أَصْحَاب الْجَنَّة يَوْمئِذٍ خَيْر مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَن مَقِيلًا " [ الْفُرْقَان : ٢٤ ] وَمَعْلُوم أَنَّ الْخَيْرِيَّة مِنْ النَّار مَبْعُودَة، وَلَكِنَّهُ جَرَى عَلَى اِعْتِقَاد كُلّ فِرْقَة أَنَّهَا عَلَى خَيْر وَأَنَّ مَصِيرهَا إِلَيْهِ خَيْر ; إِذْ كُلّ حِزْب بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ.
وَلَيْسَ هَذَا مِنْ قَبِيل : الْعَسَل أَحْلَى مِنْ الْخَلّ ; فَإِنَّ الْعَسَل وَإِنْ كَانَ حُلْوًا فَكُلّ شَيْء مُلَائِم فَهُوَ حُلْو ; أَلَا تَرَى أَنَّ مِنْ النَّاس مَنْ يُقَدِّم الْخَلّ عَلَى الْعَسَل مُفْرَدًا بِمُفْرَدٍ وَمُضَافًا إِلَى غَيْره بِمُضَافٍ.
فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ
مَنْ قَالَ : إِنَّ الْمَسْجِد يُرَاد بِهِ مَسْجِد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْهَاء فِي " أَحَقّ أَنْ تَقُوم فِيهِ " عَائِد إِلَيْهِ.
و " فِيهِ رِجَال " لَهُ أَيْضًا.
وَمَنْ قَالَ : إِنَّهُ مَسْجِد قُبَاء، فَالضَّمِير فِي " فِيهِ " عَائِد إِلَيْهِ عَلَى الْخِلَاف الْمُتَقَدِّم.
وَقَالَ قَتَادَة : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ قُبَاء :( إِنَّ اللَّه سُبْحَانه قَدْ أَحْسَنَ عَلَيْكُمْ الثَّنَاء فِي التَّطَهُّر فَمَا تَصْنَعُونَ ) ؟ قَالُوا : إِنَّا نَغْسِل أَثَر الْغَائِط وَالْبَوْل بِالْمَاءِ ; رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ طَلْحَة بْن نَافِع قَالَ : حَدَّثَنِي أَبُو أَيُّوب وَجَابِر بْن عَبْد اللَّه وَأَنَس بْن مَالِك الْأَنْصَارِيُّونَ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَة " فِيهِ رِجَال يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاَللَّه يُحِبّ الْمُطَّهِّرِينَ " فَقَالَ :( يَا مَعْشَر الْأَنْصَار إِنَّ اللَّه قَدْ أَثْنَى عَلَيْكُمْ خَيْرًا فِي الطَّهُور فَمَا طَهُوركُمْ هَذَا ) ؟ قَالُوا : يَا رَسُول اللَّه، نَتَوَضَّأ لِلصَّلَاةِ وَنَغْتَسِل مِنْ الْجَنَابَة.
فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( فَهَلْ مَعَ ذَلِكَ مِنْ غَيْره ) ؟ فَقَالُوا : لَا غَيْر، إِنَّ أَحَدنَا إِذَا خَرَجَ مِنْ الْغَائِط أَحَبَّ أَنْ يَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ.
قَالَ :( هُوَ ذَاكَ فَعَلَيْكُمُوهُ )
أَثْنَى اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَة عَلَى مَنْ أَحَبَّ الطَّهَارَة وَآثَرَ النَّظَافَة، وَهِيَ مُرُوءَة آدَمِيَّة وَوَظِيفَة شَرْعِيَّة ; وَفِي التِّرْمِذِيّ عَنْ عَائِشَة رِضْوَان اللَّه عَلَيْهَا أَنَّهَا قَالَتْ :( مُرْنَ أَزْوَاجكُنَّ أَنْ يَسْتَطِيبُوا بِالْمَاءِ فَإِنِّي أَسْتَحْيِيهِمْ ).
قَالَ : حَدِيث صَحِيح.
وَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( كَانَ يَحْمِل الْمَاء مَعَهُ فِي الِاسْتِنْجَاء ) ; فَكَانَ يَسْتَعْمِل الْحِجَارَة تَخْفِيفًا وَالْمَاء تَطْهِيرًا.
اِبْن الْعَرَبِيّ : وَقَدْ كَانَ عُلَمَاء الْقَيْرَوَان يَتَّخِذُونَ فِي مُتَوَضَّآتهمْ أَحْجَارًا فِي تُرَاب يُنَقَّوْنَ بِهَا ثُمَّ يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ.
اللَّازِم مِنْ نَجَاسَة الْمَخْرَج التَّخْفِيف، وَفِي نَجَاسَة سَائِر الْبَدَن وَالثَّوْب التَّطْهِير.
وَذَلِكَ رُخْصَة مِنْ اللَّه لِعِبَادِهِ فِي حَالَتَيْ وُجُود الْمَاء وَعَدَمه ; وَبِهِ قَالَ عَامَّة الْعُلَمَاء.
وَشَذَّ اِبْن حَبِيب فَقَالَ : لَا يُسْتَجْمَر بِالْأَحْجَارِ إِلَّا عِنْد عَدَم الْمَاء.
وَالْأَخْبَار الثَّابِتَة فِي الِاسْتِجْمَار بِالْأَحْجَارِ مَعَ وُجُود الْمَاء تَرُدّهُ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء مِنْ هَذَا الْبَاب فِي إِزَالَة النَّجَاسَة مِنْ الْأَبْدَان وَالثِّيَاب، بَعْد إِجْمَاعهمْ عَلَى التَّجَاوُز وَالْعَفْو عَنْ دَم الْبَرَاغِيث مَا لَمْ يُتَفَاحَش عَلَى ثَلَاثَة أَقْوَال : الْأَوَّل : أَنَّهُ وَاجِب فَرْض، وَلَا تَجُوز صَلَاة مَنْ صَلَّى بِثَوْبٍ نَجِس عَالِمًا كَانَ بِذَلِكَ أَوْ سَاهِيًا ; رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَالْحَسَن وَابْن سِيرِينَ، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَأَبِي ثَوْر، وَرَوَاهُ اِبْن وَهْب عَنْ مَالِك، وَهُوَ قَوْل أَبِي الْفَرَج الْمَالِكِيّ وَالطَّبَرِيّ ; إِلَّا أَنَّ الطَّبَرِيّ قَالَ : إِنْ كَانَتْ النَّجَاسَة قَدْر الدِّرْهَم أَعَادَ الصَّلَاة.
وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَة وَأَبِي يُوسُف فِي مُرَاعَاة قَدْر الدِّرْهَم قِيَاسًا عَلَى حَلْقَة الدُّبُر.
وَقَالَتْ طَائِفَة : إِزَالَة النَّجَاسَة وَاجِبَة بِالسُّنَّةِ مِنْ الثِّيَاب وَالْأَبْدَان، وُجُوب سُنَّة وَلَيْسَ بِفَرْضٍ.
قَالُوا : وَمَنْ صَلَّى بِثَوْبٍ نَجِس أَعَادَ الصَّلَاة فِي الْوَقْت فَإِنْ خَرَجَ الْوَقْت فَلَا شَيْء عَلَيْهِ ; هَذَا قَوْل مَالِك وَأَصْحَابه إِلَّا أَبَا الْفَرَج، وَرِوَايَة اِبْن وَهْب عَنْهُ.
وَقَالَ مَالِك فِي يَسِير الدَّم : لَا تُعَاد مِنْهُ الصَّلَاة فِي الْوَقْت وَلَا بَعْده، وَتُعَاد مِنْ يَسِير الْبَوْل وَالْغَائِط ; وَنَحْو هَذَا كُلّه مِنْ مَذْهَب مَالِك قَوْل اللَّيْث.
وَقَالَ اِبْن الْقَاسِم عَنْهُ : تَجِب إِزَالَتهَا فِي حَالَة الذِّكْر دُون النِّسْيَان ; وَهِيَ مِنْ مُفْرَدَاته.
وَالْقَوْل الْأَوَّل أَصَحّ إِنْ شَاءَ اللَّه ; لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى قَبْرَيْنِ فَقَالَ :( إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِير أَمَّا أَحَدهمَا فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ وَأَمَّا الْآخَر فَكَانَ لَا يَسْتَتِر مِنْ بَوْله... ).
الْحَدِيث، خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم، وَحَسْبك.
وَسَيَأْتِي فِي سُورَة [ سُبْحَان ] [ الْإِسْرَاء : ١ ].
قَالُوا : وَلَا يُعَذَّب الْإِنْسَان إِلَّا عَلَى تَرْك وَاجِب ; وَهَذَا ظَاهِر.
وَرَوَى أَبُو بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( أَكْثَر عَذَاب الْقَبْر مِنْ الْبَوْل ).
اِحْتَجَّ الْآخَرُونَ ( بِخَلْعِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعْلَيْهِ فِي الصَّلَاة لَمَّا أَعْلَمَهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام أَنَّ فِيهِمَا قَذِرًا وَأَذًى... ) الْحَدِيث.
خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْره مِنْ حَدِيث أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ، وَسَيَأْتِي فِي سُورَة [ طَه ] إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
قَالُوا : وَلَمَّا لَمْ يُعِدْ مَا صَلَّى دَلَّ عَلَى أَنَّ إِزَالَتهَا سُنَّة وَصَلَاته صَحِيحَة، وَيُعِيد مَا دَامَ فِي الْوَقْت طَلَبًا لِلْكَمَالِ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ : وَأَمَّا الْفَرْق بَيْن الْقَلِيل وَالْكَثِير بِقَدْرِ الدِّرْهَم الْبَغْلِيّ ; يَعْنِي كِبَار الدَّرَاهِم الَّتِي هِيَ عَلَى قَدْر اِسْتِدَارَة الدِّينَار قِيَاسًا عَلَى الْمَسْرُبَة فَفَاسِد مِنْ وَجْهَيْنِ ; أَحَدهمَا : أَنَّ الْمُقَدَّرَات لَا تَثْبُت قِيَاسًا فَلَا يُقْبَل هَذَا التَّقْدِير.
الثَّانِي : أَنَّ هَذَا الَّذِي خَفَّفَ عَنْهُ فِي الْمَسْرُبَة رُخْصَة لِلضَّرُورَةِ، وَالْحَاجَة وَالرُّخَص لَا يُقَاسَ عَلَيْهَا ; لِأَنَّهَا خَارِجَة عَنْ الْقِيَاس فَلَا تَرِد إِلَيْهِ.
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ
أَيْ أَصْل، وَهُوَ اِسْتِفْهَام مَعْنَاهُ التَّقْرِير.
و " مَنْ " بِمَعْنَى الَّذِي، وَهِيَ فِي مَوْضِع رَفْع بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبَره " خَيْر ".
وَقَرَأَ نَافِع وَابْن عَامِر وَجَمَاعَة " أَسَّسَ بُنْيَانه " عَلَى بِنَاء أُسِّسَ لِلْمَفْعُولِ وَرَفْع بُنْيَان فِيهِمَا.
وَقَرَأَ اِبْن كَثِير وَأَبُو عَمْرو وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ وَجَمَاعَة " أَسَّسَ بُنْيَانه " عَلَى بِنَاء الْفِعْل لِلْفَاعِلِ وَنَصْب بُنْيَانه فِيهِمَا.
وَهِيَ اِخْتِيَار أَبِي عُبَيْد لِكَثْرَةِ مَنْ قَرَأَ بِهِ، وَأَنَّ الْفَاعِل سُمِّيَ فِيهِ.
وَقَرَأَ نَصْر بْن عَاصِم بْن عَلِيّ " أَفَمَنْ أَسَسُ " بِالرَّفْعِ " بُنْيَانِهِ " بِالْخَفْضِ.
وَعَنْهُ أَيْضًا " أَسَاس بُنْيَانه " وَعَنْهُ أَيْضًا " أَسُّ بُنْيَانِهِ " بِالْخَفْضِ.
وَالْمُرَاد أُصُول الْبِنَاء كَمَا تَقَدَّمَ.
وَحَكَى أَبُو حَاتِم قِرَاءَة سَادِسَة وَهِيَ " أَفَمَنْ آسَاس بُنْيَانه " قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا جَمْع أُسّ ; كَمَا يُقَال : خُفّ وَأَخْفَاف، وَالْكَثِير " إِسَاس " مِثْل خِفَاف.
قَالَ الشَّاعِر :
عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ
قِرَاءَة عِيسَى بْن عُمَر - فِيمَا حَكَى سِيبَوَيْهِ - بِالتَّنْوِينِ، وَالْأَلِف أَلِف إِلْحَاق كَأَلِفِ تَتْرَى فِيمَا نُوِّنَ، وَقَالَ الشَّاعِر :
يَسْتَنّ فِي عَلْقًى وَفِي مُكُور
وَأَنْكَرَ سِيبَوَيْهِ التَّنْوِين، وَقَالَ : لَا أَدْرِي مَا وَجْهه.
فِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى أَنَّ كُلّ شَيْء اُبْتُدِئَ بِنِيَّةِ تَقْوَى اللَّه تَعَالَى وَالْقَصْد لِوَجْهِهِ الْكَرِيم فَهُوَ الَّذِي يَبْقَى وَيَسْعَد بِهِ صَاحِبه وَيَصْعَد إِلَى اللَّه وَيُرْفَع إِلَيْهِ، وَيُخْبَر عَنْهُ بِقَوْلِهِ :" وَيَبْقَى وَجْه رَبّك ذُو الْجَلَال وَالْإِكْرَام " [ الرَّحْمَن : ٢٧ ] عَلَى أَحَد الْوَجْهَيْنِ.
وَيُخْبَر عَنْهُ أَيْضًا بِقَوْلِهِ :" وَالْبَاقِيَات الصَّالِحَات " [ الْكَهْف : ٤٦ ] عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
" عَلَى شَفَا " الشَّفَا : الْحَرْف وَالْحَدّ، وَقَدْ مَضَى فِي [ آل عِمْرَان ] مُسْتَوْفًى.
و " جُرُف " قُرِئَ بِرَفْعِ الرَّاء، وَأَبُو بَكْر وَحَمْزَة بِإِسْكَانِهَا ; مِثْل الشُّغُل وَالشُّغْل، وَالرُّسُل وَالرُّسْل، يَعْنِي جُرُفًا لَيْسَ لَهُ أَصْل.
وَالْجُرُف : مَا يَتَجَرَّف بِالسُّيُولِ مِنْ الْأَوْدِيَة، وَهُوَ جَوَانِبه الَّتِي تَنْحَفِر بِالْمَاءِ، وَأَصْله مِنْ الْجَرْف وَالِاجْتِرَاف ; وَهُوَ اِقْتِلَاع الشَّيْء مِنْ أَصْله.
" هَارٍ " سَاقِط ; يُقَال.
تَهَوَّرَ الْبِنَاء إِذَا سَقَطَ، وَأَصْله هَائِر، فَهُوَ مِنْ الْمَقْلُوب يُقْلَب وَتُؤَخَّر يَاؤُهَا، فَيُقَال : هَار وَهَائِر، قَالَهُ الزَّجَّاج.
وَمِثْله لَاثَ الشَّيْء بِهِ إِذَا دَارَ ; فَهُوَ لَاثٍ أَيْ لَائِث.
وَكَمَا قَالُوا : شَاكِي السِّلَاح وَشَائِك السِّلَاح.
قَالَ الْعَجَّاج :
لَاثَ بِهِ الْأَشَاء وَالْعُبْرِيّ
الْأَشَاء النَّخْل، وَالْعُبْرِي السِّدْر الَّذِي عَلَى شَاطِئ الْأَنْهَار.
وَمَعْنَى لَاث بِهِ مُطِيف بِهِ.
وَزَعَمَ أَبُو حَاتِم أَنَّ الْأَصْل فِيهِ هَاوِر، ثُمَّ يُقَال هَائِر مِثْل صَائِم، ثُمَّ يُقْلَب فَيُقَال هَار.
وَزَعَمَ الْكِسَائِيّ أَنَّهُ مِنْ ذَوَات الْوَاو وَمِنْ ذَوَات الْيَاء، وَأَنَّهُ يُقَال : تَهَوَّرَ وَتَهَيَّرَ.
قُلْت : وَلِهَذَا يُمَال وَيُفْتَح.
" فَانْهَارَ بِهِ فِي نَار جَهَنَّم " فَاعِل اِنْهَارَ الْجُرُف ; كَأَنَّهُ قَالَ : فَانْهَارَ الْجُرُف بِالْبُنْيَانِ فِي النَّار ; لِأَنَّ الْجُرُف مُذَكَّر.
وَيَجُوز أَنْ يَكُون الضَّمِير فِي بِهِ يَعُود عَلَى " مَنْ " وَهُوَ الْبَانِي ; وَالتَّقْدِير : فَانْهَارَ مِنْ أُسُس بُنْيَانه عَلَى غَيْر تَقْوًى.
وَهَذِهِ الْآيَة ضَرْب مَثَل لَهُمْ، أَيْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانه عَلَى الْإِسْلَام خَيْر أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانه عَلَى الشِّرْك وَالنِّفَاق.
وَبَيَّنَ أَنَّ بِنَاء الْكَافِر كَبِنَاءٍ عَلَى جُرُف جَهَنَّم يَتَهَوَّر بِأَهْلِهِ فِيهَا.
وَالشَّفَا : الشَّفِير.
وَأَشْفَى عَلَى كَذَا أَيْ دَنَا مِنْهُ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي قَوْل تَعَالَى :" فَانْهَارَ بِهِ فِي نَار جَهَنَّم " هَلْ ذَلِكَ حَقِيقَة أَوْ مَجَاز عَلَى قَوْلَيْنِ ; [ الْأَوَّل ] أَنَّ ذَلِكَ حَقِيقَة وَأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فَهُدِمَ رُئِيَ الدُّخَان يَخْرُج مِنْهُ ; مِنْ رِوَايَة سَعِيد بْن جُبَيْر.
وَقَالَ بَعْضهمْ : كَانَ الرَّجُل يُدْخِل فِيهِ سَعْفَة مِنْ سَعَف النَّخْل فَيُخْرِجهَا سَوْدَاء مُحْتَرِقَة.
وَذَكَرَ أَهْل التَّفْسِير أَنَّهُ كَانَ يَحْفِر ذَلِكَ الْمَوْضِع الَّذِي اِنْهَارَ فَيَخْرُج مِنْهُ دُخَان.
وَرَوَى عَاصِم بْن أَبِي النَّجُود عَنْ زِرّ بْن حُبَيْش عَنْ اِبْن مَسْعُود أَنَّهُ قَالَ : جَهَنَّم فِي الْأَرْض، ثُمَّ تَلَا " فَانْهَارَ بِهِ فِي نَار جَهَنَّم ".
وَقَالَ جَابِر بْن عَبْد اللَّه : أَنَا رَأَيْت الدُّخَان يَخْرُج مِنْهُ عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[ وَالثَّانِي ] أَنَّ ذَلِكَ مَجَاز، وَالْمَعْنَى : صَارَ الْبِنَاء فِي نَار جَهَنَّم، فَكَأَنَّهُ اِنْهَارَ إِلَيْهِ وَهَوَى فِيهِ ; وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى :" فَأُمّه هَاوِيَة " [ الْقَارِعَة : ٩ ].
وَالظَّاهِر الْأَوَّل، إِذْ لَا إِحَالَة فِي ذَلِكَ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا
يَعْنِي مَسْجِد الضِّرَار.
رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ
أَيْ شَكًّا فِي قُلُوبهمْ وَنِفَاقًا ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك.
وَقَالَ النَّابِغَة :
أَصْبَحَ الْمُلْك ثَابِت الْأَسَاس فِي الْبَهَالِيل مِنْ بَنِي الْعَبَّاس
حَلَفْت فَلَمْ أَتْرُك لِنَفْسِك رِيبَة وَلَيْسَ وَرَاء اللَّه لِلْمَرْءِ مَذْهَب
وَقَالَ الْكَلْبِيّ : حَسْرَة وَنَدَامَة ; لِأَنَّهُمْ نَدِمُوا عَلَى بُنْيَانه.
وَقَالَ السُّدِّيّ وَحَبِيب وَالْمُبَرِّد :" رِيبَة " أَيْ حَزَازَة وَغَيْظًا.
إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
قَالَ اِبْن عَبَّاس : أَيْ تَنْصَدِع قُلُوبهمْ فَيَمُوتُوا ; كَقَوْلِهِ :" لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِين " [ الْحَاقَّة : ٤٦ ] لِأَنَّ الْحَيَاة تَنْقَطِع بِانْقِطَاعِ الْوَتِين ; وَقَالَهُ قَتَادَة وَالضَّحَّاك وَمُجَاهِد.
وَقَالَ سُفْيَان : إِلَّا أَنْ يَتُوبُوا.
عِكْرِمَة : إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبهمْ فِي قُبُورهمْ، وَكَانَ أَصْحَاب عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود يَقْرَءُونَهَا :" رِيبَة فِي قُلُوبهمْ وَلَوْ تَقَطَّعَتْ قُلُوبهمْ ".
وَقَرَأَ الْحَسَن وَيَعْقُوب وَأَبُو حَاتِم " إِلَى أَنْ تَقَطَّعَ " عَلَى الْغَايَة، أَيْ لَا يَزَالُونَ فِي شَكّ مِنْهُ إِلَى أَنْ يَمُوتُوا فَيَسْتَيْقِنُوا وَيَتَبَيَّنُوا.
وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاء فِي قَوْله " تَقَطَّعَ " فَالْجُمْهُور " تُقَطَّعَ " بِضَمِّ التَّاء وَفَتْح الْقَاف وَشَدّ الطَّاء عَلَى الْفِعْل الْمَجْهُول.
وَقَرَأَ اِبْن عَامِر وَحَمْزَة وَحَفْص وَيَعْقُوب كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُمْ فَتَحُوا التَّاء.
وَرُوِيَ عَنْ يَعْقُوب وَأَبِي عَبْد الرَّحْمَن " تُقْطَعَ " عَلَى الْفِعْل الْمَجْهُول مُخَفَّف الْقَاف.
وَرُوِيَ عَنْ شِبْل وَابْن كَثِير " تَقَطَّعَ " خَفِيفَة الْقَاف " قُلُوبهمْ " نَصْبًا، أَيْ أَنْتَ تَفْعَل ذَلِكَ بِهِمْ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا قِرَاءَة أَصْحَاب عَبْد اللَّه.
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ
قِيلَ : هَذَا تَمْثِيل ; مِثْل قَوْله تَعَالَى :" أُولَئِكَ الَّذِينَ اِشْتَرَوْا الضَّلَالَة بِالْهُدَى " [ الْبَقَرَة : ١٦ ].
وَنَزَلَتْ الْآيَة فِي الْبَيْعَة الثَّانِيَة، وَهِيَ بَيْعَة الْعَقَبَة الْكُبْرَى، وَهِيَ الَّتِي أَنَافَ فِيهَا رِجَال الْأَنْصَار عَلَى السَّبْعِينَ، وَكَانَ أَصْغَرهمْ سِنًّا عُقْبَة بْن عَمْرو ; وَذَلِكَ أَنَّهُمْ اِجْتَمَعُوا إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْد الْعَقَبَة، فَقَالَ عَبْد اللَّه بْن رَوَاحَة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اِشْتَرِطْ لِرَبِّك وَلِنَفْسِك مَا شِئْت ; فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( أَشْتَرِط لِرَبِّي أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَأَشْتَرِط لِنَفْسِي أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسكُمْ وَأَمْوَالكُمْ ).
قَالُوا : فَإِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ فَمَا لَنَا ؟ قَالَ :( الْجَنَّة ) قَالُوا : رَبِحَ الْبَيْع، لَا نُقِيل وَلَا نَسْتَقِيل ; فَنَزَلَتْ :" إِنَّ اللَّه اِشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسهمْ وَأَمْوَالهمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّة " الْآيَة.
ثُمَّ هِيَ بَعْد ذَلِكَ عَامَّة فِي كُلّ مُجَاهِد فِي سَبِيل اللَّه مِنْ أُمَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.
هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى جَوَاز مُعَامَلَة السَّيِّد مَعَ عَبْده، وَإِنْ كَانَ الْكُلّ لِلسَّيِّدِ لَكِنْ إِذَا مَلَّكَهُ عَامِله فِيمَا جَعَلَ إِلَيْهِ.
وَجَائِز بَيْن السَّيِّد وَعَبْده مَا لَا يَجُوز بَيْنه وَبَيْن غَيْره ; لِأَنَّ مَاله لَهُ وَلَهُ اِنْتِزَاعه.
أَصْل الشِّرَاء بَيْن الْخَلْق أَنْ يُعَوَّضُوا عَمَّا خَرَجَ مِنْ أَيْدِيهمْ مَا كَانَ أَنْفَع لَهُمْ أَوْ مِثْل مَا خَرَجَ عَنْهُمْ فِي النَّفْع ; فَاشْتَرَى اللَّه سُبْحَانه مِنْ الْعِبَاد إِتْلَاف أَنْفُسهمْ وَأَمْوَالهمْ فِي طَاعَته، وَإِهْلَاكهَا فِي مَرْضَاته، وَأَعْطَاهُمْ سُبْحَانه الْجَنَّة عِوَضًا عَنْهَا إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ.
وَهُوَ عِوَض عَظِيم لَا يُدَانِيه الْمُعَوَّض وَلَا يُقَاسَ بِهِ، فَأَجْرَى ذَلِكَ عَلَى مَجَاز مَا يَتَعَارَفُونَهُ فِي الْبَيْع وَالشِّرَاء فَمِنْ الْعَبْد تَسْلِيم النَّفْس وَالْمَال، وَمِنْ اللَّه الثَّوَاب وَالنَّوَال فَسُمِّيَ هَذَا شِرَاء.
وَرَوَى الْحَسَن قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( إِنَّ فَوْق كُلّ بِرٍّ بِرٌّ حَتَّى يَبْذُل الْعَبْدُ دَمَهُ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَلَا بِرَّ فَوْق ذَلِكَ ).
وَقَالَ الشَّاعِر فِي مَعْنَى الْبِرّ :
الْجُود بِالْمَاءِ جُود فِيهِ مَكْرُمَة وَالْجُود بِالنَّفْسِ أَقْصَى غَايَة الْجُود
وَأَنْشَدَ الْأَصْمَعِيّ لِجَعْفَر الصَّادِق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ :
قَالَ الْحَسَن : وَمَرَّ أَعْرَابِيّ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْرَأ هَذِهِ الْآيَة :" إِنَّ اللَّه اِشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسهمْ " فَقَالَ : كَلَامُ مَنْ هَذَا ؟ قَالَ :( كَلَام اللَّه ) قَالَ : بَيْعٌ وَاَللَّهِ مُرْبِحٌ لَا نُقِيلهُ وَلَا نَسْتَقِيلهُ.
فَخَرَجَ إِلَى الْغَزْو وَاسْتُشْهِدَ.
قَالَ الْعُلَمَاء : كَمَا اِشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْبَالِغِينَ الْمُكَلَّفِينَ كَذَلِكَ اِشْتَرَى مِنْ الْأَطْفَال فَآلَمَهُمْ وَأَسْقَمَهُمْ ; لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَصْلَحَة وَمَا فِيهِ مِنْ الِاعْتِبَار لِلْبَالِغِينَ، فَإِنَّهُمْ لَا يَكُونُونَ عِنْد شَيْء أَكْثَر صَلَاحًا وَأَقَلّ فَسَادًا مِنْهُمْ عِنْد أَلَم الْأَطْفَال، وَمَا يَحْصُل لِلْوَالِدَيْنِ الْكَافِلَيْنِ مِنْ الثَّوَاب فِيمَا يَنَالهُمْ مِنْ الْهَمّ وَيَتَعَلَّق بِهِمْ مِنْ التَّرْبِيَة وَالْكَفَالَة.
ثُمَّ هُوَ عَزَّ وَجَلَّ يُعَوِّض هَؤُلَاءِ الْأَطْفَال عِوَضًا إِذَا صَارُوا إِلَيْهِ.
وَنَظِير هَذَا فِي الشَّاهِد أَنَّك تَكْتَرِي الْأَجِير لِيَبْنِيَ وَيَنْقُل التُّرَاب وَفِي كُلّ ذَلِكَ لَهُ أَلَم وَأَذًى، وَلَكِنَّ ذَلِكَ جَائِز لِمَا فِي عَمَله مِنْ الْمَصْلَحَة وَلِمَا يَصِل إِلَيْهِ مِنْ الْأَجْر.
يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
بَيَان لِمَا يُقَاتِل لَهُ وَعَلَيْهِ ; وَقَدْ تَقَدَّمَ.
فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ
قَرَأَ النَّخَعِيّ وَالْأَعْمَش وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ وَخَلَف بِتَقْدِيمِ الْمَفْعُول عَلَى الْفَاعِل ; وَمِنْهُ قَوْل اِمْرِئِ الْقَيْس :
فَإِنْ تَقْتُلُونَا نَقْتُلكُمْ.
أَيْ إِنْ تَقْتُلُوا بَعْضنَا يَقْتُلكُمْ بَعْضنَا.
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِتَقْدِيمِ الْفَاعِل عَلَى الْمَفْعُول.
وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ
إِخْبَار مِنْ اللَّه تَعَالَى أَنَّ هَذَا كَانَ فِي هَذِهِ الْكُتُب، وَأَنَّ الْجِهَاد وَمُقَاوَمَة الْأَعْدَاء أَصْله مِنْ عَهْد مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام.
و " وَعْدًا " و " حَقًّا " مَصْدَرَانِ مُوَكِّدَانِ.
وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ
أَيْ لَا أَحَد أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّه.
وَهُوَ يَتَضَمَّن الْوَفَاء بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيد، وَلَا يَتَضَمَّن وَفَاء الْبَارِئ بِالْكُلِّ ; فَأَمَّا وَعْده فَلِلْجَمِيعِ، وَأَمَّا وَعِيده فَمَخْصُوص بِبَعْضِ الْمُذْنِبِينَ وَبِبَعْضِ الذُّنُوب وَفِي بَعْض الْأَحْوَال.
وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى مُسْتَوْفًى.
فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ
أَيْ أَظْهِرُوا السُّرُور بِذَلِكَ.
وَالْبِشَارَة إِظْهَار السُّرُور فِي الْبَشَرَة.
وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَقَالَ الْحَسَن : وَاَللَّه مَا عَلَى الْأَرْض مُؤْمِن إِلَّا يَدْخُل فِي هَذِهِ الْبَيْعَة.
وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
أَيْ الظَّفَر بِالْجَنَّةِ وَالْخُلُود فِيهَا.
التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ
" التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ " التَّائِبُونَ هُمْ الرَّاجِعُونَ عَنْ الْحَالَة الْمَذْمُومَة فِي مَعْصِيَة اللَّه إِلَى الْحَالَة الْمَحْمُودَة فِي طَاعَة اللَّه.
وَالتَّائِب هُوَ الرَّاجِع.
وَالرَّاجِع إِلَى الطَّاعَة هُوَ أَفْضَل مِنْ الرَّاجِع عَنْ الْمَعْصِيَة لِجَمْعِهِ بَيْن الْأَمْرَيْنِ.
" الْعَابِدُونَ " أَيْ الْمُطِيعُونَ الَّذِينَ قَصَدُوا بِطَاعَتِهِمْ اللَّه سُبْحَانه.
" الْحَامِدُونَ " أَيْ الرَّاضُونَ بِقَضَائِهِ الْمُصَرِّفُونَ نِعْمَته فِي طَاعَته، الَّذِينَ يَحْمَدُونَ اللَّه عَلَى كُلّ حَال.
" السَّائِحُونَ " الصَّائِمُونَ ; عَنْ اِبْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَغَيْرهمَا.
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى :" عَابِدَات سَائِحَات " [ التَّحْرِيم : ٥ ].
وَقَالَ سُفْيَان بْن عُيَيْنَة : إِنَّمَا قِيلَ لِلصَّائِمِ سَائِح لِأَنَّهُ يَتْرُك اللَّذَّات كُلّهَا مِنْ الْمَطْعَم وَالْمَشْرَب وَالْمَنْكَح.
وَقَالَ أَبُو طَالِب :
أُثَامِنُ بِالنَّفْسِ النَّفِيسَة رَبّهَا وَلَيْسَ لَهَا فِي الْخَلْق كُلّهمْ ثَمَن
بِهَا تُشْتَرَى الْجَنَّات إِنْ أَنَا بِعْتهَا بِشَيْءٍ سِوَاهَا إِنَّ ذَلِكُمُ غَبَن
لَئِنْ ذَهَبَتْ نَفْسِي بِدُنْيَا أَصَبْتهَا لَقَدْ ذَهَبَتْ نَفْسِي وَقَدْ ذَهَبَ الثَّمَن
وَبِالسَّائِحِينَ لَا يَذُوقُونَ قَطْرَة لِرَبِّهِمْ وَالذَّاكِرَات الْعَوَامِل
وَقَالَ آخَر :
بَرًّا يُصَلِّي لَيْله وَنَهَاره يَظَلّ كَثِير الذِّكْر لِلَّهِ سَائِحَا
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَة أَنَّهَا قَالَتْ : سِيَاحَة هَذِهِ الْأُمَّة الصِّيَام ; أَسْنَدَهُ الطَّبَرِيّ.
وَرَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة مَرْفُوعًا عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :( سِيَاحَة أُمَّتِي الصِّيَام ).
قَالَ الزَّجَّاج : وَمَذْهَب الْحَسَن أَنَّهُمْ الَّذِينَ يَصُومُونَ الْفَرْض.
وَقَدْ قِيلَ : إِنَّهُمْ الَّذِينَ يُدِيمُونَ الصِّيَام.
وَقَالَ عَطَاء : السَّائِحُونَ الْمُجَاهِدُونَ.
وَرَوَى أَبُو أُمَامَة أَنَّ رَجُلًا اِسْتَأْذَنَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السِّيَاحَة فَقَالَ :( إِنَّ سِيَاحَة أُمَّتِي الْجِهَاد فِي سَبِيل اللَّه ).
صَحَّحَهُ أَبُو مُحَمَّد عَبْد الْحَقّ.
وَقِيلَ : السَّائِحُونَ الْمُهَاجِرُونَ قَالَهُ عَبْد الرَّحْمَن بْن زَيْد.
وَقِيلَ : هُمْ الَّذِينَ يُسَافِرُونَ لِطَلَبِ الْحَدِيث وَالْعِلْم ; قَالَهُ عِكْرِمَة.
وَقِيلَ : هُمْ الْجَائِلُونَ بِأَفْكَارِهِمْ فِي تَوْحِيد رَبّهمْ وَمَلَكُوته وَمَا خَلَقَ مِنْ الْعِبَر وَالْعَلَامَات الدَّالَّة عَلَى تَوْحِيده وَتَعْظِيمه حَكَاهُ النَّقَّاش وَحُكِيَ أَنَّ بَعْض الْعُبَّاد أَخَذَ الْقَدَح لِيَتَوَضَّأ لِصَلَاةِ اللَّيْل فَأَدْخَلَ أُصْبُعه فِي أُذُن الْقَدَح وَقَعَدَ يَتَفَكَّر حَتَّى طَلَعَ الْفَجْر فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ : أَدْخَلْت أُصْبُعِي فِي أُذُن الْقَدَح فَتَذَكَّرْت قَوْل اللَّه تَعَالَى :" إِذْ الْأَغْلَال فِي أَعْنَاقهمْ وَالسَّلَاسِل " [ غَافِر : ٧١ ] وَذَكَرْت كَيْفَ أَتَلَقَّى الْغُلّ وَبَقِيت لَيْلِي فِي ذَلِكَ أَجْمَع.
قُلْت : لَفْظ " س ي ح " يَدُلّ عَلَى صِحَّة هَذِهِ الْأَقْوَال فَإِنَّ السِّيَاحَة أَصْلهَا الذَّهَاب عَلَى وَجْه الْأَرْض كَمَا يَسِيح الْمَاء ; فَالصَّائِم مُسْتَمِرّ عَلَى الطَّاعَة فِي تَرْك مَا يَتْرُكهُ مِنْ الطَّعَام وَغَيْره فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ السَّائِح.
وَالْمُتَفَكِّرُونَ تَجُول قُلُوبهمْ فِيمَا ذَكَرُوا.
وَفِي الْحَدِيث :( إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَة سَيَّاحِينَ مَشَّائِينَ فِي الْآفَاق يُبَلِّغُونَنِي صَلَاة أُمَّتِي ) وَيُرْوَى " صَيَّاحِينَ " بِالصَّادِ، مِنْ الصِّيَاح.
" الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ " يَعْنِي فِي الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة وَغَيْرهَا.
" الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ " أَيْ بِالسُّنَّةِ، وَقِيلَ : بِالْإِيمَانِ.
" وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنْكَر " قِيلَ : عَنْ الْبِدْعَة.
وَقِيلَ : عَنْ الْكُفْر.
وَقِيلَ : هُوَ عُمُوم فِي كُلّ مَعْرُوف وَمُنْكَر.
" وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّه " أَيْ الْقَائِمُونَ بِمَا أَمَرَ بِهِ وَالْمُنْتَهُونَ عَمَّا نَهَى عَنْهُ.
وَاخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي هَذِهِ الْآيَة هَلْ هِيَ مُتَّصِلَة بِمَا قَبْل أَوْ مُنْفَصِلَة فَقَالَ جَمَاعَة : الْآيَة الْأُولَى مُسْتَقِلَّة بِنَفْسِهَا يَقَع تَحْت تِلْكَ الْمُبَايَعَة كُلّ مُوَحِّد قَاتَلَ فِي سَبِيل اللَّه لِتَكُونَ كَلِمَة اللَّه هِيَ الْعُلْيَا وَإِنْ لَمْ يَتَّصِف بِهَذِهِ الصِّفَات فِي هَذِهِ الْآيَة الثَّانِيَة أَوْ بِأَكْثَرِهَا.
وَقَالَتْ فِرْقَة : هَذِهِ الْأَوْصَاف جَاءَتْ عَلَى جِهَة الشَّرْط وَالْآيَتَانِ مُرْتَبِطَتَانِ فَلَا يَدْخُل تَحْت الْمُبَايَعَة إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى هَذِهِ الْأَوْصَاف وَيَبْذُلُونَ أَنْفُسهمْ فِي سَبِيل اللَّه قَالَهُ الضَّحَّاك.
قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا الْقَوْل تَحْرِيج وَتَضْيِيق وَمَعْنَى الْآيَة عَلَى مَا تَقْتَضِيه أَقْوَال الْعُلَمَاء وَالشَّرْع أَنَّهَا أَوْصَاف الْكَمَلَة مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ذَكَرَهَا اللَّه لِيَسْتَبِق إِلَيْهَا أَهْل التَّوْحِيد حَتَّى يَكُونُوا فِي أَعْلَى مَرْتَبَة.
وَقَالَ الزَّجَّاج : الَّذِي عِنْدِي أَنَّ قَوْله :" التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ " رَفْع بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَره مُضْمِر ; أَيْ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ - إِلَى آخِر الْآيَة - لَهُمْ الْجَنَّة أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يُجَاهِدُوا إِذْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ عِنَاد وَقَصْد إِلَى تَرْك الْجِهَاد لِأَنَّ بَعْض الْمُسْلِمِينَ يَجْزِي عَنْ بَعْض فِي الْجِهَاد.
وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْل الْقُشَيْرِيّ وَقَالَ : وَهَذَا حَسَن إِذْ لَوْ كَانَ صِفَة لِلْمُؤْمِنِينَ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْله :" اِشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ " لَكَانَ الْوَعْد خَاصًّا لِلْمُجَاهِدِينَ.
وَفِي مُصْحَف عَبْد اللَّه " التَّائِبِينَ الْعَابِدِينَ " إِلَى آخِرهَا ; وَلِذَلِكَ وَجْهَانِ : أَحَدهمَا الصِّفَة لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْإِتْبَاع.
وَالثَّانِي النَّصْب عَلَى الْمَدْح.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْوَاو فِي قَوْله :" وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنْكَر " فَقِيلَ : دَخَلَتْ فِي صِفَة النَّاهِينَ كَمَا دَخَلَتْ فِي قَوْله تَعَالَى :" حم.
تَنْزِيل الْكِتَاب مِنْ اللَّه الْعَزِيز الْعَلِيم.
غَافِر الذَّنْب.
وَقَابِل التَّوْب " [ غَافِر :
١ -
٢ - ٣ ] فَذَكَرَ بَعْضهَا بِالْوَاوِ وَالْبَعْض بِغَيْرِهَا.
وَهَذَا سَائِغ مُعْتَاد فِي الْكَلَام وَلَا يُطْلَب لِمِثْلِهِ حِكْمَة وَلَا عِلَّة.
وَقِيلَ : دَخَلَتْ لِمُصَاحَبَةِ النَّاهِي عَنْ الْمُنْكَر الْآمِر بِالْمَعْرُوفِ فَلَا يَكَاد يُذْكَر وَاحِد مِنْهُمَا مُفْرَدًا.
وَكَذَلِكَ قَوْله :" ثَيِّبَات وَأَبْكَارًا " [ التَّحْرِيم : ٥ ].
وَدَخَلَتْ فِي قَوْله :" وَالْحَافِظُونَ " لِقُرْبِهِ مِنْ الْمَعْطُوف.
وَقَدْ قِيلَ : إِنَّهَا زَائِدَة، وَهَذَا ضَعِيف لَا مَعْنَى لَهُ.
وَقِيلَ : هِيَ وَاو الثَّمَانِيَة لِأَنَّ السَّبْعَة عِنْد الْعَرَب عَدَد كَامِل صَحِيح.
وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي قَوْله :" ثَيِّبَات وَأَبْكَارًا " [ التَّحْرِيم : ٥ ].
وَقَوْله فِي أَبْوَاب الْجَنَّة :" وَفُتِحَتْ أَبْوَابهَا " [ الزُّمَر : ٧٣ ] وَقَوْله :" وَيَقُولُونَ سَبْعَة وَثَامِنهمْ كَلْبهمْ " [ الْكَهْف : ٢٢ ] وَقَدْ ذَكَرَهَا اِبْن خَالَوَيْهِ فِي مُنَاظَرَته لِأَبِي عَلِيّ الْفَارِسِيّ فِي مَعْنَى قَوْله :" وَفُتِحَتْ أَبْوَابهَا " [ الزُّمَر : ٧٣ ] وَأَنْكَرَهَا أَبُو عَلِيّ.
قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَحَدَّثَنِي أَبِي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَنْ الْأُسْتَاذ النَّحْوِيّ أَبِي عَبْد اللَّه الْكَفِيف الْمَالِقِيّ، وَكَانَ مِمَّنْ اِسْتَوْطَنَ غَرْنَاطَة وَأَقْرَأَ فِيهَا فِي مُدَّة اِبْن حَبُوس أَنَّهُ قَالَ : هِيَ لُغَة فَصِيحَة لِبَعْضِ الْعَرَب مِنْ شَأْنهمْ أَنْ يَقُولُوا إِذَا عَدُّوا : وَاحِد اِثْنَانِ ثَلَاثَة أَرْبَعَة خَمْسَة سِتَّة سَبْعَة وَثَمَانِيَة تِسْعَة عَشَرَة وَهَكَذَا هِيَ لُغَتهمْ.
وَمَتَى جَاءَ فِي كَلَامهمْ أَمْر ثَمَانِيَة أَدْخَلُوا الْوَاو.
قُلْت : هِيَ لُغَة قُرَيْش.
وَسَيَأْتِي بَيَانه وَنَقْضه فِي سُورَة [ الْكَهْف ] إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى وَفِي [ الزُّمَر ] أَيْضًا بِحَوْلِ اللَّه تَعَالَى.
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ
فِيهِ ثَلَاث مَسَائِل : الْأُولَى : رَوَى مُسْلِم عَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب عَنْ أَبِيهِ قَالَ : لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِب الْوَفَاة جَاءَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَ عِنْده أَبَا جَهْل وَعَبْد اللَّه بْن أَبِي أُمَيَّة بْن الْمُغِيرَة، فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( يَا عَمّ قُلْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه كَلِمَة أَشْهَد لَك بِهَا عِنْد اللَّه ) فَقَالَ أَبُو جَهْل وَعَبْد اللَّه بْن أُمَيَّة : يَا أَبَا طَالِب أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّة عَبْد الْمُطَّلِب.
فَلَمْ يَزَلْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضهَا عَلَيْهِ وَيُعِيد لَهُ تِلْكَ الْمَقَالَة حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِب آخِر مَا كَلَّمَهُمْ : هُوَ عَلَى مِلَّة عَبْد الْمُطَّلِب وَأَبَى أَنْ يَقُول لَا إِلَه إِلَّا اللَّه.
فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( أَمَا وَاَللَّه لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَك مَا لَمْ أُنْهَ عَنْك ) فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ :" مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْد مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَاب الْجَحِيم " وَأَنْزَلَ اللَّه فِي أَبِي طَالِب فَقَالَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :" إِنَّك لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْت وَلَكِنَّ اللَّه يَهْدِي مَنْ يَشَاء وَهُوَ أَعْلَم بِالْمُهْتَدِينَ " [ الْقَصَص : ٥٦ ].
فَالْآيَة عَلَى هَذَا نَاسِخَة لِاسْتِغْفَارِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمِّهِ فَإِنَّهُ اِسْتَغْفَرَ لَهُ بَعْد مَوْته عَلَى مَا رُوِيَ فِي غَيْر الصَّحِيح.
وَقَالَ الْحُسَيْن بْن الْفَضْل : وَهَذَا بَعِيد لِأَنَّ السُّورَة مِنْ آخِر مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآن وَمَاتَ أَبُو طَالِب فِي عُنْفُوَان الْإِسْلَام وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّة.
الثَّانِيَة : هَذِهِ الْآيَة تَضَمَّنَتْ قَطْع مُوَالَاة الْكُفَّار حَيّهمْ وَمَيِّتهمْ فَإِنَّ اللَّه لَمْ يَجْعَل لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ فَطَلَبُ الْغُفْرَان لِلْمُشْرِكِ مِمَّا لَا يَجُوز.
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْم أُحُد حِين كَسَرُوا رَبَاعِيَته وَشَجُّوا وَجْهه :( اللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ) فَكَيْفَ يَجْتَمِع هَذَا مَعَ مَنْع اللَّه تَعَالَى رَسُوله وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ طَلَب الْمَغْفِرَة لِلْمُشْرِكِينَ.
قِيلَ لَهُ : إِنَّ ذَلِكَ الْقَوْل مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا كَانَ عَلَى سَبِيل الْحِكَايَة عَمَّنْ تَقَدَّمَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاء وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ مُسْلِم عَنْ عَبْد اللَّه قَالَ : كَأَنِّي أَنْظُر إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكِي نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاء ضَرَبَهُ قَوْمه وَهُوَ يَمْسَح الدَّم عَنْ وَجْهه وَيَقُول :( رَبّ اِغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ).
وَفِي الْبُخَارِيّ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ نَبِيًّا قَبْله شَجَّهُ قَوْمه فَجَعَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِر عَنْهُ بِأَنَّهُ قَالَ :( اللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ).
قُلْت : وَهَذَا صَرِيح فِي الْحِكَايَة عَمَّنْ قَبْله، لَا أَنَّهُ قَالَهُ اِبْتِدَاء عَنْ نَفْسه كَمَا ظَنَّهُ بَعْضهمْ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَالنَّبِيّ الَّذِي حَكَاهُ هُوَ نُوح عَلَيْهِ السَّلَام ; عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي سُورَة [ هُود ] إِنْ شَاءَ اللَّه.
وَقِيلَ : إِنَّ الْمُرَاد بِالِاسْتِغْفَارِ فِي الْآيَة الصَّلَاة.
قَالَ بَعْضهمْ : مَا كُنْت لِأَدَع الصَّلَاة عَلَى أَحَد مِنْ أَهْل الْقِبْلَة وَلَوْ كَانَتْ حَبَشِيَّة حُبْلَى مِنْ الزِّنَا ; لِأَنِّي لَمْ أَسْمَع اللَّه حَجَبَ الصَّلَاة إِلَّا عَنْ الْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ :" مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ " الْآيَة.
قَالَ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح : الْآيَة فِي النَّهْي عَنْ الصَّلَاة عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَالِاسْتِغْفَار هُنَا يُرَاد بِهِ الصَّلَاة.
جَوَاب ثَالِث : وَهُوَ أَنَّ الِاسْتِغْفَار لِلْأَحْيَاءِ جَائِز ; لِأَنَّهُ مَرْجُوّ إِيمَانهمْ وَيُمْكِن تَأَلُّفَهُمْ بِالْقَوْلِ الْجَمِيل وَتَرْغِيبهمْ فِي الدِّين.
وَقَدْ قَالَ كَثِير مِنْ الْعُلَمَاء : لَا بَأْس أَنْ يَدْعُو الرَّجُل لِأَبَوَيْهِ الْكَافِرَيْنِ وَيَسْتَغْفِر لَهُمَا مَا دَامَا حَيَّيْنِ.
فَأَمَّا مَنْ مَاتَ فَقَدْ اِنْقَطَعَ عَنْهُ الرَّجَاء فَلَا يُدْعَى لَهُ.
قَالَ اِبْن عَبَّاس : كَانُوا يَسْتَغْفِرُونَ لِمَوْتَاهُمْ فَنَزَلَتْ فَأَمْسَكُوا عَنْ الِاسْتِغْفَار وَلَمْ يَنْهَهُمْ أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْأَحْيَاءِ حَتَّى يَمُوتُوا.
الثَّالِثَة : قَالَ أَهْل الْمَعَانِي :" مَا كَانَ " فِي الْقُرْآن يَأْتِي عَلَى وَجْهَيْنِ : عَلَى النَّفْي نَحْو قَوْله :" مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرهَا " [ النَّمْل : ٦٠ ]، " وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوت إِلَّا بِإِذْنِ اللَّه " [ آل عِمْرَان : ١٤٥ ].
وَالْآخَر بِمَعْنَى النَّهْي كَقَوْلِهِ :" وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُول اللَّه " [ الْأَحْزَاب : ٥٣ ]، و " مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ".
وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ
رَوَى النَّسَائِيّ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : سَمِعْت رَجُلًا يَسْتَغْفِر لِأَبَوَيْهِ وَهُمَا مُشْرِكَانِ فَقُلْت : أَتَسْتَغْفِرُ لَهُمَا وَهُمَا مُشْرِكَانِ ؟ فَقَالَ : أَوَلَمْ يَسْتَغْفِر إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام لِأَبِيهِ.
فَأَتَيْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْت ذَلِكَ لَهُ فَنَزَلَتْ :" وَمَا كَانَ اِسْتِغْفَار إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَة وَعَدَهَا إِيَّاهُ ".
وَالْمَعْنَى : لَا حُجَّة لَكُمْ أَيّهَا الْمُؤْمِنُونَ فِي اِسْتِغْفَار إِبْرَاهِيم الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام لِأَبِيهِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا عَنْ عِدَة.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : كَانَ أَبُو إِبْرَاهِيم وَعَدَ إِبْرَاهِيم الْخَلِيل أَنْ يُؤْمِن بِاَللَّهِ وَيَخْلَع الْأَنْدَاد فَلَمَّا مَاتَ عَلَى الْكُفْر عَلِمَ أَنَّهُ عَدُوّ اللَّه فَتَرَك الدُّعَاء لَهُ فَالْكِنَايَة فِي قَوْله :" إِيَّاهُ " تَرْجِع إِلَى إِبْرَاهِيم وَالْوَاعِد أَبُوهُ.
وَقِيلَ : الْوَاعِد إِبْرَاهِيم أَيْ وَعَدَ إِبْرَاهِيم أَبَاهُ أَنْ يَسْتَغْفِر لَهُ فَلَمَّا مَاتَ مُشْرِكًا تَبَرَّأَ مِنْهُ.
وَدَلَّ عَلَى هَذَا الْوَعْد قَوْله :" سَأَسْتَغْفِرُ لَك رَبِّي " [ مَرْيَم : ٤٧ ].
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ : تَعَلَّقَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الِاسْتِغْفَار لِأَبِي طَالِب بِقَوْلِهِ تَعَالَى :" سَأَسْتَغْفِرُ لَك رَبِّي " [ مَرْيَم : ٤٧ ] فَأَخْبَرَهُ اللَّه تَعَالَى أَنَّ اِسْتِغْفَار إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ كَانَ وَعْدًا قَبْل أَنْ يَتَبَيَّن الْكُفْر مِنْهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ الْكُفْر مِنْهُ تَبَرَّأَ مِنْهُ فَكَيْفَ تَسْتَغْفِر أَنْتَ لِعَمِّك يَا مُحَمَّد وَقَدْ شَاهَدْت مَوْته كَافِرًا.
ظَاهِر حَالَة الْمَرْء عِنْد الْمَوْت يَحْكُم عَلَيْهِ بِهَا فَإِنْ مَاتَ عَلَى الْإِيمَان حُكِمَ لَهُ بِهِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْر حُكِمَ لَهُ بِهِ وَرَبّك أَعْلَم بِبَاطِنِ حَاله بَيْد أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ الْعَبَّاس : يَا رَسُول اللَّه هَلْ نَفَعْت عَمّك بِشَيْءٍ ؟ قَالَ :( نَعَمْ ).
وَهَذِهِ شَفَاعَة فِي تَخْفِيف الْعَذَاب لَا فِي الْخُرُوج مِنْ النَّار عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي كِتَاب التَّذْكِرَة.
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ
اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْأَوَّاه عَلَى خَمْسَة عَشَر قَوْلًا :
[ الْأَوَّل ] أَنَّهُ الدَّعَّاء الَّذِي يُكْثِر الدُّعَاء ; قَالَهُ اِبْن مَسْعُود وَعُبَيْد بْن عُمَيْر.
[ الثَّانِي ] أَنَّهُ الرَّحِيم بِعِبَادِ اللَّه قَالَهُ الْحَسَن وَقَتَادَة، وَرُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود.
وَالْأَوَّل أَصَحّ إِسْنَادًا عَنْ اِبْن مَسْعُود قَالَهُ النَّحَّاس.
[ الثَّالِث ] إِنَّهُ الْمُوقِن قَالَهُ عَطَاء وَعِكْرِمَة وَرَوَاهُ أَبُو ظَبْيَان عَنْ اِبْن عَبَّاس.
[ الرَّابِع ] أَنَّهُ الْمُؤْمِن بِلُغَةِ الْحَبَشَة قَالَهُ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا.
[ الْخَامِس ] أَنَّهُ الْمُسَبِّح الَّذِي يَذْكُر اللَّه فِي الْأَرْض الْقَفْر الْمُوحِشَة ; قَالَهُ الْكَلْبِيّ وَسَعِيد بْن الْمُسَيِّب.
[ السَّادِس ] أَنَّهُ الْكَثِير الذِّكْر لِلَّهِ تَعَالَى قَالَهُ عُقْبَة بْن عَامِر وَذُكِرَ عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُل يُكْثِر ذِكْر اللَّه وَيُسَبِّح فَقَالَ :( إِنَّهُ لَأَوَّاه ).
[ السَّابِع ] أَنَّهُ الَّذِي يُكْثِر تِلَاوَة الْقُرْآن.
وَهَذَا مَرْوِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس.
قُلْت : وَهَذِهِ الْأَقْوَال مُتَدَاخِلَة وَتِلَاوَة الْقُرْآن يَجْمَعهَا.
[ الثَّامِن ] أَنَّهُ الْمُتَأَوِّه ; قَالَهُ أَبُو ذَرّ وَكَانَ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام يَقُول :( آهْ مِنْ النَّار قَبْل أَلَّا تَنْفَع آهْ ).
وَقَالَ أَبُو ذَرّ : كَانَ رَجُل يُكْثِر الطَّوَاف بِالْبَيْتِ وَيَقُول فِي دُعَائِهِ : أَوْهِ أَوْهِ ; فَشَكَاهُ أَبُو ذَرّ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ :( دَعْهُ فَإِنَّهُ أَوَّاه ) فَخَرَجْت ذَات لَيْلَة فَإِذَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْفِن ذَلِكَ الرَّجُل لَيْلًا وَمَعَهُ الْمِصْبَاح.
[ التَّاسِع ] أَنَّهُ الْفَقِيه قَالَهُ مُجَاهِد وَالنَّخَعِيّ.
[ الْعَاشِر ] أَنَّهُ الْمُتَضَرِّع الْخَاشِع رَوَاهُ عَبْد اللَّه بْن شَدَّاد بْن الْهَادِ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ أَنَس : تَكَلَّمَتْ اِمْرَأَة عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ كَرِهَهُ فَنَهَاهَا عُمَر فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( دَعُوهَا فَإِنَّهَا أَوَّاهَة ) قِيلَ : يَا رَسُول اللَّه، وَمَا الْأَوَّاهَة ؟ قَالَ :( الْخَاشِعَة ).
[ الْحَادِيَ عَشَر ] أَنَّهُ الَّذِي إِذَا ذَكَرَ خَطَايَاهُ اِسْتَغْفَرَ مِنْهَا قَالَهُ أَبُو أَيُّوب.
[ الثَّانِي عَشَر ] أَنَّهُ الْكَثِير التَّأَوُّه مِنْ الذُّنُوب قَالَهُ الْفَرَّاء.
[ الثَّالِث عَشَر ] أَنَّهُ الْمُعَلِّم لِلْخَيْرِ قَالَهُ سَعِيد بْن جُبَيْر.
[ الرَّابِع عَشَر ] أَنَّهُ الشَّفِيق قَالَهُ عَبْد الْعَزِيز بْن يَحْيَى.
وَكَانَ أَبُو بَكْر الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ يُسَمَّى الْأَوَّاه لِشَفَقَتِهِ وَرَأْفَته.
[ الْخَامِس عَشَر ] أَنَّهُ الرَّاجِع عَنْ كُلّ مَا يَكْرَه اللَّه تَعَالَى قَالَهُ عَطَاء وَأَصْله مِنْ التَّأَوُّه، وَهُوَ أَنْ يُسْمَع لِلصَّدْرِ صَوْت مِنْ تَنَفُّس الصُّعَدَاء.
قَالَ كَعْب : كَانَ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام إِذَا ذَكَرَ النَّار تَأَوَّهَ.
قَالَ الْجَوْهَرِيّ : قَوْلهمْ عِنْد الشِّكَايَة أَوْهِ مِنْ كَذَا سَاكِنَة الْوَاو إِنَّمَا هُوَ تَوَجُّع.
قَالَ الشَّاعِر :
فَأَوْهِ لِذَاكِرِهَا إِذَا مَا ذَكَرْتهَا وَمِنْ بُعْد أَرْض بَيْننَا وَسَمَاء
وَرُبَّمَا قَلَبُوا الْوَاو أَلِفًا فَقَالُوا : آهِ مِنْ كَذَا.
وَرُبَّمَا شَدَّدُوا الْوَاو وَكَسَرُوهَا وَسَكَّنُوا الْهَاء فَقَالُوا : أَوِّهْ مِنْ كَذَا.
وَرُبَّمَا حَذَفُوا مَعَ التَّشْدِيد الْهَاء فَقَالُوا : أَوّ مِنْ كَذَا بِلَا مَدّ.
وَبَعْضهمْ يَقُول : أَوَّهْ بِالْمَدِّ وَالتَّشْدِيد وَفَتْح الْوَاو سَاكِنَة الْهَاء لِتَطْوِيلِ الصَّوْت بِالشِّكَايَةِ.
وَرُبَّمَا أَدْخَلُوا فِيهَا التَّاء فَقَالُوا : أَوَّتَاهُ يُمَدّ وَلَا يُمَدّ.
وَقَدْ أَوَّهَ الرَّجُل تَأْوِيهَا وَتَأَوَّهَ تَأَوُّهًا إِذَا قَالَ أَوَّهْ، وَالِاسْم مِنْهُ الْآهَة بِالْمَدِّ.
قَالَ الْمُثَقِّب الْعَبْدِيّ :
إِذَا مَا قُمْت أَرْحَلهَا بِلَيْلٍ تَأَوَّهُ آهَة الرَّجُل الْحَزِين
وَالْحَلِيم : الْكَثِير الْحِلْم وَهُوَ الَّذِي يَصْفَح عَنْ الذُّنُوب وَيَصْبِر عَلَى الْأَذَى.
وَقِيلَ : الَّذِي لَمْ يُعَاقِب أَحَدًا قَطُّ إِلَّا فِي اللَّه وَلَمْ يَنْتَصِر لِأَحَدٍ إِلَّا لِلَّهِ.
وَكَانَ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام كَذَلِكَ وَكَانَ إِذَا قَامَ يُصَلِّي سُمِعَ وَجِيب قَلْبه عَلَى مِيلَيْنِ.
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ
أَيْ مَا كَانَ اللَّه لِيُوقِع الضَّلَالَة فِي قُلُوبهمْ بَعْد الْهُدَى حَتَّى يُبَيِّن لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ فَلَا يَتَّقُوهُ فَعِنْد ذَلِكَ يَسْتَحِقُّونَ الْإِضْلَال.
قُلْت : فَفِي هَذَا أَدَلّ دَلِيل عَلَى أَنَّ الْمَعَاصِي إِذَا اِرْتُكِبَتْ وَانْتُهِكَ حِجَابهَا كَانَتْ سَبَبًا إِلَى الضَّلَالَة وَالرَّدَى وَسُلَّمًا إِلَى تَرْك الرَّشَاد وَالْهَدْي.
نَسْأَل اللَّه السَّدَاد وَالتَّوْفِيق وَالرَّشَاد بِمَنِّهِ.
حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
قَالَ أَبُو عَمْرو بْن الْعَلَاء رَحِمَهُ اللَّه فِي قَوْله :" حَتَّى يُبَيِّن لَهُمْ " أَيْ حَتَّى يَحْتَجّ عَلَيْهِمْ بِأَمْرِهِ ; كَمَا قَالَ :" وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِك قَرْيَة أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا " [ الْإِسْرَاء : ١٦ ] وَقَالَ مُجَاهِد :" حَتَّى يُبَيِّن لَهُمْ " أَيْ أَمْر إِبْرَاهِيم أَلَّا يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ خَاصَّة وَيُبَيِّن لَهُمْ الطَّاعَة وَالْمَعْصِيَة عَامَّة.
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيم الْخَمْر وَشُدِّدَ فِيهَا سَأَلُوا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّنْ مَاتَ وَهُوَ يَشْرَبهَا فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى :" وَمَا كَانَ اللَّه لِيُضِلّ قَوْمًا بَعْد إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّن لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ " وَهَذِهِ الْآيَة رَدّ عَلَى الْمُعْتَزِلَة وَغَيْرهمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِخَلْقِ هُدَاهُمْ وَإِيمَانهمْ كَمَا تَقَدَّمَ.
لا يوجد تفسير لهذه الأية
لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ
رَوَى التِّرْمِذِيّ : حَدَّثَنَا عَبْد بْن حُمَيْد حَدَّثَنَا عَبْد الرَّزَّاق أَخْبَرَنَا مَعْمَر عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن كَعْب بْن مَالِك عَنْ أَبِيهِ قَالَ : لَمْ أَتَخَلَّف عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَة غَزَاهَا حَتَّى كَانَتْ غَزْوَة تَبُوك إِلَّا بَدْرًا وَلَمْ يُعَاتِب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدًا تَخَلَّفَ عَنْ بَدْر إِنَّمَا خَرَجَ يُرِيد الْعِير فَخَرَجَتْ قُرَيْش مُغْوِثِينَ لِعِيرِهِمْ فَالْتَقَوْا عَنْ غَيْر مَوْعِد كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى وَلَعَمْرِي إِنَّ أَشْرَفَ مَشَاهِد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّاس لَبَدْر وَمَا أُحِبُّ أَنِّي كُنْت شَهِدْتهَا مَكَان بَيْعَتِي لَيْلَة الْعَقَبَة حِين تَوَاثَقْنَا عَلَى الْإِسْلَام ثُمَّ لَمْ أَتَخَلَّف بَعْد عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى كَانَتْ غَزْوَة تَبُوك وَهِيَ آخِر غَزْوَة غَزَاهَا وَآذَنَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرَّحِيلِ فَذَكَرَ الْحَدِيث بِطُولِهِ قَالَ :( فَانْطَلَقْت إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هُوَ جَالِس فِي الْمَسْجِد وَحَوْله الْمُسْلِمُونَ وَهُوَ يَسْتَنِير كَاسْتِنَارَةِ الْقَمَر وَكَانَ إِذَا سُرَّ بِالْأَمْرِ اِسْتَنَارَ فَجِئْت فَجَلَسْت بَيْن يَدَيْهِ فَقَالَ :( أَبْشِرْ يَا كَعْب بْن مَالِك بِخَيْرِ يَوْم أَتَى عَلَيْك مُنْذُ وَلَدَتْك أُمّك ) فَقُلْت : يَا نَبِيّ اللَّه أَمِنْ عِنْد اللَّه أَمْ مِنْ عِنْدك ؟ قَالَ :( بَلْ مِنْ عِنْد اللَّه - ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَة - " لَقَدْ تَابَ اللَّه عَلَى النَّبِيّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَار الَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ فِي سَاعَة الْعُسْرَة - حَتَّى بَلَغَ - إِنَّ اللَّه هُوَ التَّوَّاب الرَّحِيم " قَالَ : وَفِينَا أُنْزِلَتْ أَيْضًا " اِتَّقُوا اللَّه وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ " [ التَّوْبَة : ١١٩ ]... ) وَذَكَرَ الْحَدِيث.
وَسَيَأْتِي بِكَمَالِهِ مِنْ صَحِيح مُسْلِم فِي قِصَّة الثَّلَاثَة إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي هَذِهِ التَّوْبَة الَّتِي تَابَهَا اللَّه عَلَى النَّبِيّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَار عَلَى أَقْوَال فَقَالَ اِبْن عَبَّاس : كَانَتْ التَّوْبَة عَلَى النَّبِيّ لِأَجْلِ إِذْنه لِلْمُنَافِقِينَ فِي الْقُعُود دَلِيله قَوْله :" عَفَا اللَّه عَنْك لِمَ أَذِنْت لَهُمْ " [ التَّوْبَة : ٤٣ ] وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ مَيْل قُلُوب بَعْضهمْ إِلَى التَّخَلُّف عَنْهُ.
وَقِيلَ : تَوْبَة اللَّه عَلَيْهِمْ اِسْتِنْقَاذهمْ مِنْ شِدَّة الْعُسْرَة.
وَقِيلَ : خَلَاصهمْ مِنْ نِكَايَة الْعَدُوّ، وَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالتَّوْبَةِ وَإِنْ خَرَجَ عَنْ عُرْفهَا لِوُجُودِ مَعْنَى التَّوْبَة فِيهِ وَهُوَ الرُّجُوع إِلَى الْحَالَة الْأُولَى.
وَقَالَ أَهْل الْمَعَانِي : إِنَّمَا ذُكِرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّوْبَة لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ سَبَب تَوْبَتهمْ ذُكِرَ مَعَهُمْ كَقَوْلِهِ :" فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسه وَلِلرَّسُولِ " [ الْأَنْفَال : ٤١ ].
الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ
أَيْ فِي وَقْت الْعُسْرَة، وَالْمُرَاد جَمِيع أَوْقَات تِلْكَ الْغَزَاة وَلَمْ يُرِدْ سَاعَة بِعَيْنِهَا.
وَقِيلَ : سَاعَة الْعُسْرَة أَشَدّ السَّاعَات الَّتِي مَرَّتْ بِهِمْ فِي تِلْكَ الْغَزَاة.
وَالْعُسْرَة صُعُوبَة الْأَمْر.
قَالَ جَابِر : اِجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ عُسْرَة الظَّهْر وَعُسْرَة الزَّاد وَعُسْرَة الْمَاء.
قَالَ الْحَسَن : كَانَتْ الْعُسْرَة مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَخْرُجُونَ عَلَى بَعِير يَعْتَقِبُونَهُ بَيْنهمْ وَكَانَ زَادَهُمْ التَّمْر الْمُتَسَوِّس وَالشَّعِير الْمُتَغَيِّر وَالْإِهَالَة الْمُنْتِنَة وَكَانَ النَّفَر يُخْرِجُونَ مَا مَعَهُمْ - إِلَّا التَّمَرَات - بَيْنهمْ فَإِذَا بَلَغَ الْجُوع مِنْ أَحَدهمْ أَخَذَ التَّمْرَة فَلَاكَهَا حَتَّى يَجِد طَعْمهَا ثُمَّ يُعْطِيهَا صَاحِبه حَتَّى يَشْرَب عَلَيْهَا جَرْعَة مِنْ مَاء كَذَلِكَ حَتَّى تَأْتِي عَلَى آخِرهمْ فَلَا يَبْقَى مِنْ التَّمْرَة إِلَّا النَّوَاة فَمَضَوْا مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صِدْقهمْ وَيَقِينهمْ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ.
وَقَالَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ سَاعَة الْعُسْرَة :( خَرَجْنَا فِي قَيْظ شَدِيد فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا أَصَابَنَا فِيهِ عَطَش شَدِيد حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّ رِقَابنَا سَتَنْقَطِعُ مِنْ الْعَطَش، وَحَتَّى أَنَّ الرَّجُل لَيَنْحَر بَعِيره فَيَعْصِر فَرْثه فَيَشْرَبهُ وَيَجْعَل مَا بَقِيَ عَلَى كَبِده.
فَقَالَ أَبُو بَكْر : يَا رَسُول اللَّه، إِنَّ اللَّه قَدْ عَوَّدَك فِي الدُّعَاء خَيْرًا فَادْعُ لَنَا.
قَالَ :( أَتُحِبُّ ذَلِكَ ) ؟ قَالَ : نَعَمْ فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَلَمْ يُرْجِعهُمَا حَتَّى أَظَلَّتْ السَّمَاء ثُمَّ سَكَبَتْ فَمَلَئُوا مَا مَعَهُمْ ثُمَّ ذَهَبْنَا نَنْظُر فَلَمْ نَجِدهَا جَاوَزَتْ الْعَسْكَر ).
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَة وَأَبُو سَعِيد قَالَا : كُنَّا مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَة تَبُوك فَأَصَابَ النَّاس مَجَاعَة وَقَالُوا : يَا رَسُول اللَّه، لَوْ أَذِنْت لَنَا فَنَحَرْنَا نَوَاضِحنَا فَأَكَلْنَا وَادَّهَنَّا.
فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( اِفْعَلُوا ) فَجَاءَ عُمَر وَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه إِنْ فَعَلُوا قَلَّ الظَّهْر وَلَكِنْ اُدْعُهُمْ بِفَضْلِ أَزْوَادهمْ فَادْعُ اللَّه عَلَيْهَا بِالْبَرَكَةِ لَعَلَّ اللَّه أَنْ يَجْعَل فِي ذَلِكَ الْبَرَكَة.
قَالَ :( نَعَمْ ) ثُمَّ دَعَا بِنِطَعٍ فَبُسِطَ ثُمَّ دَعَا بِفَضْلِ الْأَزْوَاد فَجَعَلَ الرَّجُل يَجِيء بِكَفِّ ذُرَة وَيَجِيء الْآخَر بِكَفِّ تَمْر وَيَجِيء الْآخَر بِكِسْرَةٍ حَتَّى اِجْتَمَعَ عَلَى النِّطَع مِنْ ذَلِكَ شَيْء يَسِير.
قَالَ أَبُو هُرَيْرَة : فَحَزَرْته فَإِذَا هُوَ قَدْر رَبْضَة الْعَنْز فَدَعَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَرَكَةِ.
ثُمَّ قَالَ :( خُذُوا فِي أَوْعِيَتكُمْ ) فَأَخَذُوا فِي أَوْعِيَتهمْ حَتَّى - وَاَلَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ - مَا بَقِيَ فِي الْعَسْكَر وِعَاء إِلَّا مَلَئُوهُ، وَأَكَلَ الْقَوْم حَتَّى شَبِعُوا وَفَضَلَتْ فَضْلَة فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( أَشْهَد أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَأَنِّي رَسُول اللَّه لَا يَلْقَى اللَّهَ بِهِمَا عَبْدٌ غَيْر شَاكّ فِيهِمَا فَيُحْجَب عَنْ الْجَنَّة ).
خَرَّجَهُ مُسْلِم فِي صَحِيحه بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ، وَالْحَمْد لِلَّهِ.
وَقَالَ اِبْن عَرَفَة : سُمِّيَ جَيْش تَبُوك جَيْش الْعُسْرَة لِأَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَدَبَ النَّاس إِلَى الْغَزْو فِي حَمَارَة الْقَيْظ، فَغَلَّظَ عَلَيْهِمْ وَعَسَّرَ، وَكَانَ إِبَّان اِبْتِيَاع الثَّمَرَة.
قَالَ : وَإِنَّمَا ضُرِبَ الْمَثَل بِجَيْشِ الْعُسْرَة لِأَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَغْزُ قَبْله فِي عَدَد مِثْله لِأَنَّ أَصْحَابه يَوْم بَدْر كَانُوا ثَلَاثمِائَةٍ وَبِضْعَة عَشَر وَيَوْم أُحُد سَبْعمِائَةٍ وَيَوْم خَيْبَر أَلْفًا وَخَمْسمِائَةٍ وَيَوْم الْفَتْح عَشَرَة آلَاف وَيَوْم حُنَيْن اِثْنَيْ عَشَر أَلْفًا وَكَانَ جَيْشه فِي غَزْوَة تَبُوك ثَلَاثِينَ أَلْفًا وَزِيَادَة، وَهِيَ آخِر مَغَازِيه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَخَرَجَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَجَب وَأَقَامَ بِتَبُوك شَعْبَان وَأَيَّامًا مِنْ رَمَضَان وَبَثَّ سَرَايَاهُ وَصَالَحَ أَقْوَامًا عَلَى الْجِزْيَة.
وَفِي هَذِهِ الْغَزَاة خَلَّفَ عَلِيًّا عَلَى الْمَدِينَة فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ : خَلَّفَهُ بُغْضًا لَهُ ; فَخَرَجَ خَلْفَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَهُ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام :( أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُون مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُون مِنْ مُوسَى ) وَبَيَّنَ أَنَّ قُعُوده بِأَمْرِهِ عَلَيْهِ السَّلَام يُوَازِي فِي الْأَجْر خُرُوجه مَعَهُ ; لِأَنَّ الْمَدَار عَلَى أَمْر الشَّارِع.
وَإِنَّمَا قِيلَ لَهَا : غَزْوَة تَبُوك لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى قَوْمًا مِنْ أَصْحَابه يَبُوكُونَ حِسْي تَبُوك أَيْ يُدْخِلُونَ فِيهِ الْقَدَح وَيُحَرِّكُونَهُ لِيَخْرُج الْمَاء، فَقَالَ :( مَا زِلْتُمْ تَبُوكُونَهَا بَوْكًا ) فَسُمِّيَتْ تِلْكَ الْغَزْوَة غَزْوَة تَبُوك.
الْحِسْي بِالْكَسْرِ مَا تُنَشِّفهُ الْأَرْض مِنْ الرَّمَل فَإِذَا صَارَ إِلَى صَلَابَة أَمْسَكَتْهُ فَتَحْفِر عَنْهُ الرَّمَل فَتَسْتَخْرِجهُ وَهُوَ الِاحْتِسَاء قَالَهُ الْجَوْهَرِيّ.
مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ
" قُلُوبُ " رُفِعَ ب " تَزِيغ " عِنْد سِيبَوَيْهِ.
وَيُضْمَر فِي " كَادَ " الْحَدِيث تَشْبِيهًا بِكَانَ ; لِأَنَّ الْخَبَر يَلْزَمهَا كَمَا يَلْزَم كَانَ.
وَإِنْ شِئْت رَفَعْتهَا بِكَادَ، وَيَكُون التَّقْدِير : مِنْ بَعْد مَا كَانَ قُلُوب فَرِيق مِنْهُمْ تَزِيغ.
وَقَرَأَ الْأَعْمَش وَحَمْزَة وَحَفْص " يَزِيغ " بِالْيَاءِ، وَزَعَمَ أَبُو حَاتِم أَنَّ مَنْ قَرَأَ " يَزِيغ " بِالْيَاءِ فَلَا يَجُوز لَهُ أَنْ يَرْفَع الْقُلُوب بِكَادَ.
قَالَ النَّحَّاس : وَاَلَّذِي لَمْ يُجِزْهُ جَائِز عِنْد غَيْره عَلَى تَذْكِير الْجَمِيع.
حَكَى الْفَرَّاء رَحُبَ الْبِلَاد وَأَرْحَبَتْ، وَرَحُبَتْ لُغَة أَهْل الْحِجَاز وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى تَزِيغ، فَقِيلَ : تَتْلَف بِالْجَهْدِ وَالْمَشَقَّة وَالشِّدَّة.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : تَعْدِل - أَيْ تَمِيل - عَنْ الْحَقّ فِي الْمُمَانَعَة وَالنُّصْرَة.
وَقِيلَ : مِنْ بَعْد مَا هَمَّ فَرِيق مِنْهُمْ بِالتَّخَلُّفِ وَالْعِصْيَان ثُمَّ لَحِقُوا بِهِ وَقِيلَ : هَمُّوا بِالْقُفُولِ فَتَابَ اللَّه عَلَيْهِمْ وَأَمَرَهُمْ بِهِ.
ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ
قِيلَ : تَوْبَته عَلَيْهِمْ أَنْ تَدَارَكَ قُلُوبهمْ حَتَّى لَمْ تَزِغْ، وَكَذَلِكَ سُنَّة الْحَقّ مَعَ أَوْلِيَائِهِ إِذَا أَشْرَفُوا عَلَى الْعَطَب، وَوَطَّنُوا أَنْفُسهمْ عَلَى الْهَلَاك أَمْطَرَ عَلَيْهِمْ سَحَائِب الْجُود فَأَحْيَا قُلُوبهمْ.
وَيُنْشَد :
مِنْك أَرْجُو وَلَسْت أَعْرِف رَبًّا يُرْتَجَى مِنْهُ بَعْض مَا مِنْك أَرْجُو
وَإِذَا اِشْتَدَّتْ الشَّدَائِد فِي الْأَرْ ضِ عَلَى الْخَلْق فَاسْتَغَاثُوا وَعَجُّوا
وَابْتَلَيْت الْعِبَاد بِالْخَوْفِ وَالْجُو عِ وَصَرُّوا عَلَى الذُّنُوب وَلَجُّوا
لَمْ يَكُنْ لِي سِوَاك رَبِّي مَلَاذ فَتَيَقَّنْت أَنَّنِي بِك أَنْجُو
وَقَالَ فِي حَقّ الثَّلَاثَة :" ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا " فَقِيلَ : مَعْنَى " ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ " أَيْ وَفَّقَهُمْ لِلتَّوْبَةِ لِيَتُوبُوا.
وَقِيلَ : الْمَعْنَى تَابَ عَلَيْهِمْ ; أَيْ فَسَّحَ لَهُمْ وَلَمْ يُعَجِّل عِقَابهمْ لِيَتُوبُوا.
وَقِيلَ : تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَثْبُتُوا عَلَى التَّوْبَة.
وَقِيلَ : الْمَعْنَى تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَرْجِعُوا إِلَى حَال الرِّضَا عَنْهُمْ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَلَوْلَا مَا سَبَقَ لَهُمْ فِي عِلْمه أَنَّهُ قَضَى لَهُمْ بِالتَّوْبَةِ مَا تَابُوا ; دَلِيله قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام :( اِعْمَلُوا فَكُلّ مُيَسَّر لِمَا خُلِقَ لَهُ ).
وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا
قِيلَ : عَنْ التَّوْبَة عَنْ مُجَاهِد وَأَبِي مَالِك.
وَقَالَ قَتَادَة : عَنْ غَزْوَة تَبُوك.
وَحُكِيَ عَنْ مُحَمَّد بْن زَيْد مَعْنَى " خُلِّفُوا " تُرِكُوا ; لِأَنَّ مَعْنَى خَلَّفْت فُلَانًا تَرَكْته وَفَارَقْته قَاعِدًا عَمَّا نَهَضْت فِيهِ.
وَقَرَأَ عِكْرِمَة بْن خَالِد " خَلَفُوا " أَيْ أَقَامُوا بِعَقِبِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَرُوِيَ عَنْ جَعْفَر بْن مُحَمَّد أَنَّهُ قَرَأَ " خَالَفُوا ".
وَقِيلَ :" خُلِّفُوا " أَيْ أُرْجِئُوا وَأُخِّرُوا عَنْ الْمُنَافِقِينَ فَلَمْ يَقْضِ فِيهِمْ بِشَيْءٍ.
وَذَلِكَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَمْ تُقْبَل تَوْبَتهمْ، وَاعْتَذَرَ أَقْوَام فَقَبِلَ عُذْرهمْ، وَأَخَّرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة حَتَّى نَزَلَ فِيهِمْ الْقُرْآن.
وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح لِمَا رَوَاهُ مُسْلِم وَالْبُخَارِيّ وَغَيْرهمَا.
وَاللَّفْظ لِمُسْلِمٍ قَالَ كَعْب : كُنَّا خُلِّفْنَا أَيّهَا الثَّلَاثَة عَنْ أَمْر أُولَئِكَ الَّذِينَ قَبِلَ مِنْهُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين حَلَفُوا لَهُ فَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَأَرْجَأَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرنَا حَتَّى قَضَى اللَّه فِيهِ ; فَبِذَلِكَ قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ :" وَعَلَى الثَّلَاثَة الَّذِينَ خُلِّفُوا " وَلَيْسَ الَّذِي ذَكَرَ اللَّه مِمَّا خُلِّفْنَا تَخَلُّفنَا عَنْ الْغَزْو، وَإِنَّمَا هُوَ تَخْلِيفه إِيَّانَا وَإِرْجَاؤُهُ أَمْرنَا عَمَّنْ حَلَفَ لَهُ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَقَبِلَ مِنْهُ.
وَهَذَا الْحَدِيث فِيهِ طُول، هَذَا آخِره.
وَالثَّلَاثَة الَّذِينَ خُلِّفُوا هُمْ : كَعْب بْن مَالِك وَمُرَارَة بْن رَبِيعَة الْعَامِرِيّ وَهِلَال بْن أُمَيَّة الْوَاقِفِيّ وَكُلّهمْ مِنْ الْأَنْصَار.
وَقَدْ خَرَّجَ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم حَدِيثهمْ، فَقَالَ مُسْلِم عَنْ كَعْب بْن مَالِك قَالَ : لَمْ أَتَخَلَّف عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَة غَزَاهَا قَطُّ إِلَّا فِي غَزْوَة تَبُوك غَيْر أَنِّي قَدْ تَخَلَّفْت فِي غَزْوَة بَدْر وَلَمْ يُعَاتِب أَحَدًا تَخَلَّفَ عَنْهُ إِنَّمَا خَرَجَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ يُرِيدُونَ عِير قُرَيْش حَتَّى جَمَعَ اللَّه بَيْنهمْ وَبَيْن عَدُوّهُمْ عَلَى غَيْر مِيعَاد وَلَقَدْ شَهِدْت مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَة الْعَقَبَة حِين تَوَاثَقْنَا عَلَى الْإِسْلَام وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَد بَدْر وَإِنْ كَانَتْ بَدْر أَذْكَر فِي النَّاس مِنْهَا وَكَانَ مِنْ خَبَرِي حِين تَخَلَّفْت عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَة تَبُوك : أَنِّي لَمْ أَكُنْ قَطُّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَر مِنِّي حِين تَخَلَّفْت عَنْهُ فِي تِلْكَ الْغَزْوَة وَاَللَّه مَا جَمَعْت قَبْلهَا رَاحِلَتَيْنِ قَطُّ حَتَّى جَمَعْتهمَا فِي تِلْكَ الْغَزْوَة فَغَزَاهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرّ شَدِيد وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا وَمَفَازًا وَاسْتَقْبَلَ عَدُوًّا كَثِيرًا فَجَلَا لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرهمْ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَة غَزْوهمْ فَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِ الَّذِي يُرِيد وَالْمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِير وَلَا يَجْمَعهُمْ كِتَابُ حَافِظٍ - يُرِيد بِذَلِكَ الدِّيوَان - قَالَ كَعْب : فَقَلَّ رَجُل يُرِيد أَنْ يَتَغَيَّب يَظُنّ أَنَّ ذَلِكَ سَيَخْفَى لَهُ مَا لَمْ يَنْزِل فِيهِ وَحْي مِنْ اللَّه تَعَالَى وَغَزَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ الْغَزْوَة حِين طَابَتْ الثِّمَار وَالظِّلَال فَأَنَا إِلَيْهَا أَصْعَر فَتَجَهَّزَ إِلَيْهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ وَطَفِقْت أَغْدُو لِكَيْ أَتَجَهَّز مَعَهُمْ فَأَرْجِع وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا وَأَقُول فِي نَفْسِي : أَنَا قَادِر عَلَى ذَلِكَ إِذَا أَرَدْت فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَمَادَى بِي حَتَّى اِسْتَمَرَّ بِالنَّاسِ الْجِدّ فَأَصْبَحَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَازِيًا وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جِهَازِي شَيْئًا ثُمَّ غَدَوْت فَرَجَعْت وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ يَتَمَادَى بِي حَتَّى أَسْرَعُوا وَتَفَارَطَ الْغَزْو فَهَمَمْت أَنْ أَتَرَحَّلَ فَأُدْرِكهُمْ فَيَا لَيْتَنِي فَعَلْت ثُمَّ لَمْ يُقَدَّر ذَلِكَ لِي فَطَفِقْت إِذْ خَرَجْت فِي النَّاس بَعْد خُرُوج رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحْزِننِي أَنِّي لَا أَرَى لِي أُسْوَة إِلَّا رَجُلًا مَغْمُوصًا عَلَيْهِ فِي النِّفَاق أَوْ رَجُلًا مِمَّنْ عَذَرَ اللَّه مِنْ الضُّعَفَاء وَلَمْ يَذْكُرنِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ تَبُوك فَقَالَ وَهُوَ جَالِس فِي الْقَوْم بِتَبُوك :( مَا فَعَلَ كَعْب بْن مَالِك ) ؟ فَقَالَ رَجُل مِنْ بَنِي سَلِمَة : يَا رَسُول اللَّه، حَبَسَهُ بُرْدَاهُ وَالنَّظَر فِي عِطْفَيْهِ.
فَقَالَ لَهُ مُعَاذ بْن جَبَل : بِئْسَ مَا قُلْت وَاَللَّه يَا رَسُول اللَّه مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا.
فَسَكَتَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَيْنَمَا هُوَ عَلَى ذَلِكَ رَأَى رَجُلًا مُبْيَضًّا يَزُول بِهِ السَّرَاب فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( كُنْ أَبَا خَيْثَمَة ) فَإِذَا هُوَ أَبُو خَيْثَمَة الْأَنْصَارِيّ وَهُوَ الَّذِي تَصَدَّقَ بِصَاعِ التَّمْر حَتَّى لَمَزَهُ الْمُنَافِقُونَ.
فَقَالَ كَعْب بْن مَالِك : فَلَمَّا بَلَغَنِي أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَوَجَّهَ قَافِلًا مِنْ تَبُوك حَضَرَنِي بَثِّي فَطَفِقْت أَتَذَكَّر الْكَذِب وَأَقُول : بِمَ أَخْرُج مِنْ سَخَطه غَدًا وَأَسْتَعِين عَلَى ذَلِكَ كُلّ ذِي رَأْي مِنْ أَهْلِي فَلَمَّا قِيلَ لِي : إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَظَلّ قَادِمًا زَاحَ عَنِّي الْبَاطِل حَتَّى عَرَفْت أَنِّي لَنْ أَنْجُو مِنْهُ بِشَيْءٍ أَبَدًا، فَأَجْمَعْت صِدْقه، وَصَبَّحَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَادِمًا، وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَر بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَهُ الْمُتَخَلِّفُونَ فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ وَيَحْلِفُونَ لَهُ، وَكَانُوا بِضْعَة وَثَمَانِينَ رَجُلًا فَقَبِلَ مِنْهُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَانِيَتهمْ وَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ وَوَكَّلَ سَرَائِرهمْ إِلَى اللَّه حَتَّى جِئْت فَلَمَّا سَلَّمْت تَبَسَّمَ تَبَسُّم الْمُغْضَب ثُمَّ قَالَ :( تَعَالَ ) فَجِئْت أَمْشِي حَتَّى جَلَسْت بَيْن يَدَيْهِ، فَقَالَ لِي :( مَا خَلَّفَك أَلَمْ تَكُنْ قَدْ اِبْتَعْت ظَهْرك ) ؟ قَالَ : قُلْت : يَا رَسُول اللَّه، إِنِّي وَاَللَّه لَوْ جَلَسْت عِنْد غَيْرك مِنْ أَهْل الدُّنْيَا لَرَأَيْت أَنِّي سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطه بِعُذْرٍ وَلَقَدْ أُعْطِيت جَدَلًا وَلَكِنِّي وَاَللَّه لَقَدْ عَلِمْت لَئِنْ حَدَّثْتُك الْيَوْم حَدِيث كَذِب تَرْضَى بِهِ عَنِّي لَيُوشِكَنَّ اللَّه أَنْ يُسْخِطك عَلَيَّ، وَلَئِنْ حَدَّثْتُك حَدِيث صِدْق تَجِد عَلَيَّ فِيهِ أَنِّي لَأَرْجُو فِيهِ عُقْبَى اللَّه، وَاَللَّه مَا كَانَ لِي عُذْر، وَاَللَّه مَا كُنْت قَطُّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَر مِنِّي حِين تَخَلَّفْت عَنْك.
قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ فَقُمْ حَتَّى يَقْضِي اللَّه فِيك ).
فَقُمْت وَثَارَ رِجَال مِنْ بَنِي سَلِمَة فَاتَّبَعُونِي فَقَالُوا لِي : وَاَللَّه مَا عَلِمْنَاك أَذْنَبْت ذَنْبًا قَبْل هَذَا لَقَدْ عَجَزْت فِي أَلَّا تَكُون اِعْتَذَرْت إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا اِعْتَذَرَ بِهِ إِلَيْهِ الْمُتَخَلِّفُونَ، فَقَدْ كَانَ كَافِيك ذَنْبك اِسْتِغْفَار رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَك قَالَ : فَوَاَللَّهِ مَا زَالُوا يُؤَنِّبُونِي حَتَّى أَرَدْت أَنْ أَرْجِع إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُكَذِّب نَفْسِي.
قَالَ : ثُمَّ قُلْت لَهُمْ هَلْ لَقِيَ هَذَا مَعِي مِنْ أَحَد ؟ قَالُوا : نَعَمْ لَقِيَهُ مَعَك رَجُلَانِ قَالَا مِثْل مَا قُلْت، فَقِيلَ لَهُمَا مِثْل مَا قِيلَ لَك.
قَالَ قُلْت : مَنْ هُمَا ؟ قَالُوا : مُرَارَة بْن رَبِيعَة الْعَامِرِيّ وَهِلَال بْن أُمَيَّة الْوَاقِفِيّ.
قَالَ : فَذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ قَدْ شَهِدَا بَدْرًا فِيهِمَا أُسْوَة ; قَالَ : فَمَضَيْت حِين ذَكَرُوهُمَا لِي.
قَالَ : وَنَهَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلَامنَا أَيّهَا الثَّلَاثَة مِنْ بَيْن مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ.
قَالَ : فَاجْتَنَبَنَا النَّاس.
وَقَالَ : وَتَغَيَّرُوا لَنَا، حَتَّى تَنَكَّرَتْ لِي فِي نَفْسِي الْأَرْض، فَمَا هِيَ بِالْأَرْضِ الَّتِي أَعْرِف، فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَة ; فَأَمَّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانَا وَقَعَدَا فِي بُيُوتهمَا يَبْكِيَانِ، وَأَمَّا أَنَا فَكُنْت أَشَبّ الْقَوْم وَأَجْلَدهمْ، فَكُنْت أَخْرُج فَأَشْهَد الصَّلَاة وَأَطُوف فِي الْأَسْوَاق وَلَا يُكَلِّمنِي أَحَد، وَآتِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُسَلِّم عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَجْلِسه بَعْد الصَّلَاة، فَأَقُول فِي نَفْسِي : هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلَام أَمْ لَا ! ثُمَّ أُصَلِّي قَرِيبًا مِنْهُ وَأُسَارِقهُ النَّظَر، فَإِذَا أَقْبَلْت عَلَى صَلَاتِي نَظَرَ إِلَيَّ وَإِذَا اِلْتَفَتّ نَحْوه أَعْرَضَ عَنِّي حَتَّى إِذَا طَالَ ذَلِكَ عَلَيَّ مِنْ جَفْوَة الْمُسْلِمِينَ مَشَيْت حَتَّى تَسَوَّرْت جِدَار حَائِط أَبِي قَتَادَة، وَهُوَ اِبْن عَمِّي وَأَحَبّ النَّاس إِلَيَّ فَسَلَّمْت عَلَيْهِ، فَوَاَللَّهِ مَا رَدَّ عَلَيَّ السَّلَام، فَقُلْت لَهُ : يَا أَبَا قَتَادَة أَنْشُدك بِاَللَّهِ هَلْ تَعْلَمَنَّ أَنِّي أُحِبّ اللَّه وَرَسُوله ؟ قَالَ : فَسَكَتَ فَعُدْت فَنَاشَدْته فَسَكَتَ، فَعُدْت فَنَاشَدْته فَقَالَ : اللَّه وَرَسُوله أَعْلَم فَفَاضَتْ عَيْنَايَ وَتَوَلَّيْت حَتَّى تَسَوَّرْت الْجِدَار، فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي فِي سُوق الْمَدِينَة إِذَا نَبَطِي مِنْ نَبَط أَهْل الشَّام مِمَّنْ قَدِمَ بِالطَّعَامِ يَبِيعهُ بِالْمَدِينَةِ يَقُول : مَنْ يَدُلّ عَلَى كَعْب بْن مَالِك ؟ قَالَ : فَطَفِقَ النَّاس يُشِيرُونَ لَهُ إِلَيَّ حَتَّى جَاءَنِي فَدَفَعَ إِلَيَّ كِتَابًا مِنْ مَلِك غَسَّان، وَكُنْت كَاتِبًا فَقَرَأْته فَإِذَا فِيهِ : أَمَّا بَعْد فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنَا أَنَّ صَاحِبك قَدْ جَفَاك، وَلَمْ يَجْعَلك اللَّه بِدَارِ هَوَان وَلَا مَضْيَعَة فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِك.
قَالَ فَقُلْت حِين قَرَأْتهَا : وَهَذِهِ أَيْضًا مِنْ الْبَلَاء فَتَيَمَّمْت بِهَا التَّنُّور فَسَجَرْته بِهَا حَتَّى إِذَا مَضَتْ أَرْبَعُونَ مِنْ الْخَمْسِينَ وَاسْتَلْبَثَ الْوَحْي إِذَا رَسُول رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِينِي فَقَالَ : إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرك أَنْ تَعْتَزِل اِمْرَأَتك.
قَالَ فَقُلْت : أُطَلِّقهَا أَمْ مَاذَا أَفْعَل ؟ قَالَ : لَا بَلْ اِعْتَزِلْهَا فَلَا تَقْرَبَنَّهَا.
قَالَ : فَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبِيَّ بِمِثْلِ ذَلِكَ.
قَالَ فَقُلْت لِامْرَأَتِي : اِلْحَقِي بِأَهْلِك فَكُونِي عِنْدهمْ حَتَّى يَقْضِي اللَّه فِي هَذَا الْأَمْر.
قَالَ : فَجَاءَتْ اِمْرَأَة هِلَال بْن أُمَيَّة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ لَهُ : يَا رَسُول اللَّه، إِنَّ هِلَال بْن أُمَيَّة شَيْخ ضَائِع لَيْسَ لَهُ خَادِم، فَهَلْ تَكْرَه أَنْ أَخْدُمهُ ؟ قَالَ :( لَا وَلَكِنْ لَا يَقْرَبَنَّك ) فَقَالَتْ : إِنَّهُ وَاَللَّه مَا بِهِ حَرَكَة إِلَى شَيْء وَوَاللَّه مَا زَالَ يَبْكِي مُنْذُ كَانَ مِنْ أَمْره مَا كَانَ إِلَى يَوْمه هَذَا.
قَالَ : فَقَالَ بَعْض أَهْلِي لَوْ اِسْتَأْذَنْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اِمْرَأَتك فَقَدْ أَذِنَ لِامْرَأَةِ هِلَال بْن أُمَيَّة أَنْ تَخْدُمهُ.
قَالَ فَقُلْت : لَا أَسْتَأْذِن فِيهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يُدْرِينِي مَاذَا يَقُول رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اِسْتَأْذَنْته فِيهَا وَأَنَا رَجُل شَابّ قَالَ : فَلَبِثْت بِذَلِكَ عَشْر لَيَالٍ فَكَمُلَ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَة مِنْ حِين نُهِيَ عَنْ كَلَامنَا.
قَالَ : ثُمَّ صَلَّيْت صَلَاة الْفَجْر صَبَاح خَمْسِينَ لَيْلَة عَلَى ظَهْر بَيْت مِنْ بُيُوتنَا فَبَيْنَا أَنَا جَالِس عَلَى الْحَال الَّتِي ذَكَرَ اللَّه مِنَّا قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسِي وَضَاقَتْ عَلَيَّ الْأَرْض بِمَا رَحُبَتْ سَمِعْت صَوْت صَارِخ أَوْفَى عَلَى سَلْع يَقُول بِأَعْلَى صَوْته : يَا كَعْب بْن مَالِك أَبْشِرْ.
قَالَ : فَخَرَرْت سَاجِدًا وَعَرَفْت أَنْ قَدْ جَاءَ فَرَج.
قَالَ : فَآذَنَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاس بِتَوْبَةِ اللَّه عَلَيْنَا حِين صَلَّى صَلَاة الْفَجْر فَذَهَبَ النَّاس يُبَشِّرُونَنَا فَذَهَبَ قِبَل صَاحِبِيَّ مُبَشِّرُونَ وَرَكَضَ رَجُل إِلَيَّ فَرَسًا وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَم قِبَلِي وَأَوْفَى الْجَبَل فَكَانَ الصَّوْت أَسْرَعَ مِنْ الْفَرَس فَلَمَّا جَاءَنِي الَّذِي سَمِعْت صَوْته يُبَشِّرنِي نَزَعْت لَهُ ثُوبِي فَكَسَوْته إِيَّاهُمَا بِبِشَارَتِهِ، وَاَللَّه مَا أَمْلِك غَيْرهمَا يَوْمئِذٍ، وَاسْتَعَرْت ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتهمَا فَانْطَلَقْت أَتَأَمَّم رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَتَلَقَّانِي النَّاس فَوْجًا فَوْجًا يُهَنِّئُونَنِي بِالتَّوْبَةِ وَيَقُولُونَ : لِتَهْنِئْكَ تَوْبَة اللَّه عَلَيْك حَتَّى دَخَلْت الْمَسْجِد فَإِذَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِس فِي الْمَسْجِد وَحَوْله النَّاس فَقَامَ طَلْحَة بْن عُبَيْد اللَّه يُهَرْوِل حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّأَنِي وَاَللَّه مَا قَامَ رَجُل مِنْ الْمُهَاجِرِينَ غَيْره.
قَالَ : فَكَانَ كَعْب لَا يَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ.
قَالَ كَعْب : فَلَمَّا سَلَّمْت عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَهُوَ يَبْرُق وَجْهه مِنْ السُّرُور وَيَقُول :( أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْم مَرَّ عَلَيْك مُنْذُ وَلَدَتْك أُمّك ).
قَالَ : فَقُلْت أَمِنْ عِنْد اللَّه يَا رَسُول اللَّه أَمْ مِنْ عِنْدك ؟ قَالَ :( لَا بَلْ مِنْ عِنْد اللَّه ).
وَكَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سُرَّ اِسْتَنَارَ وَجْهه حَتَّى كَأَنَّ وَجْهه قِطْعَة قَمَر.
قَالَ : وَكُنَّا نَعْرِف ذَلِكَ.
قَالَ : فَلَمَّا جَلَسْت بَيْن يَدَيْهِ قُلْت : يَا رَسُول اللَّه، إِنَّ مِنْ تَوْبَة اللَّه عَلَيَّ أَنْ أَنْخَلِع مِنْ مَالِي صَدَقَة إِلَى اللَّه وَإِلَى رَسُوله ; فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( أَمْسِكْ عَلَيْك بَعْض مَالِك فَهُوَ خَيْر لَك ).
قَالَ فَقُلْت : فَإِنِّي أُمْسِك سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَر.
قَالَ وَقُلْت : يَا رَسُول اللَّه، إِنَّ اللَّه إِنَّمَا أَنْجَانِي بِالصِّدْقِ، وَإِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَلَّا أُحَدِّث إِلَّا صِدْقًا مَا بَقِيت.
قَالَ : فَوَاَللَّهِ مَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَبْلَاهُ اللَّه فِي صِدْق الْحَدِيث مُنْذُ ذَكَرْت ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَوْمِي هَذَا أَحْسَن مِمَّا أَبْلَانِي اللَّه بِهِ، وَاَللَّه مَا تَعَمَّدْت كَذْبَة مُنْذُ قُلْت ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَوْمِي هَذَا وَإِنِّي لَأَرْجُو اللَّه أَنْ يَحْفَظنِي فِيمَا بَقِيَ فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ :" لَقَدْ تَابَ اللَّه عَلَى النَّبِيّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَار الَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ فِي سَاعَة الْعُسْرَة - حَتَّى بَلَغَ - إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوف رَحِيم.
وَعَلَى الثَّلَاثَة الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الْأَرْض بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسهمْ - حَتَّى بَلَغَ - اِتَّقُوا اللَّه وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ".
قَالَ كَعْب : وَاَللَّه مَا أَنْعَمَ اللَّه عَلَيَّ مِنْ نِعْمَة قَطُّ بَعْد إِذْ هَدَانِي اللَّه لِلْإِسْلَامِ أَعْظَم فِي نَفْسِي مِنْ صِدْقِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَّا أَكُون كَذَبْته فَأَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ الَّذِينَ كَذَبُوا، إِنَّ اللَّه قَالَ لِلَّذِينَ كَذَبُوا حِين أَنْزَلَ الْوَحْي شَرّ مَا قَالَ لِأَحَدٍ، وَقَالَ اللَّه تَعَالَى :" سَيَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ لَكُمْ إِذَا اِنْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْس وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّم جَزَاء بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ.
يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّه لَا يَرْضَى عَنْ الْقَوْم الْفَاسِقِينَ " [ التَّوْبَة :
٩٥ - ٩٦ ].
قَالَ كَعْب : كُنَّا خُلِّفْنَا أَيّهَا الثَّلَاثَة عَنْ أَمْر أُولَئِكَ الَّذِينَ قَبِلَ مِنْهُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين حَلَفُوا لَهُ فَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَأَرْجَأَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرنَا حَتَّى قَضَى اللَّه فِيهِ، فَبِذَلِكَ قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ :" وَعَلَى الثَّلَاثَة " وَلَيْسَ الَّذِي ذَكَرَ اللَّه مِمَّا خُلِّفْنَا تَخَلُّفنَا عَنْ الْغَزْو، وَإِنَّمَا هُوَ تَخْلِيفه إِيَّانَا وَإِرْجَاؤُهُ أَمْرنَا عَمَّنْ حَلَفَ لَهُ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَقَبِلَ مِنْهُ.
حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ
أَيْ بِمَا اِتَّسَعَتْ يُقَال : مَنْزِل رَحْب وَرَحِيب وَرُحَاب.
و " مَا " مَصْدَرِيَّة ; أَيْ ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الْأَرْض بِرَحْبِهَا، لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَهْجُورِينَ لَا يُعَامَلُونَ وَلَا يُكَلَّمُونَ.
وَفِي هَذَا دَلِيل عَلَى هِجْرَان أَهْل الْمَعَاصِي حَتَّى يَتُوبُوا.
وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ
أَيْ ضَاقَتْ صُدُورهمْ بِالْهَمِّ وَالْوَحْشَة، وَبِمَا لَقُوهُ مِنْ الصَّحَابَة مِنْ الْجَفْوَة.
وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ
أَيْ تَيَقَّنُوا أَنْ لَا مَلْجَأ يَلْجَئُونَ إِلَيْهِ فِي الصَّفْح عَنْهُمْ وَقَبُول التَّوْبَة مِنْهُمْ إِلَّا إِلَيْهِ.
قَالَ أَبُو بَكْر الْوَرَّاق.
التَّوْبَة النَّصُوح أَنْ تَضِيق عَلَى التَّائِب الْأَرْض بِمَا رَحُبَتْ، وَتَضِيق عَلَيْهِ نَفْسه ; كَتَوْبَةِ كَعْب وَصَاحِبَيْهِ.
ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
فَبَدَأَ بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ.
قَالَ أَبُو زَيْد : غَلِطْت فِي أَرْبَعَة أَشْيَاء : فِي الِابْتِدَاء مَعَ اللَّه تَعَالَى، ظَنَنْت أَنِّي أُحِبّهُ فَإِذَا هُوَ أَحَبَّنِي ; قَالَ اللَّه تَعَالَى :" يُحِبّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ " [ الْمَائِدَة : ٥٤ ].
وَظَنَنْت أَنِّي أَرْضَى عَنْهُ فَإِذَا هُوَ قَدْ رَضِيَ عَنِّي ; قَالَ اللَّه تَعَالَى :" رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ " [ الْمَائِدَة : ١١٩ ].
وَظَنَنْت أَنِّي أَذْكُرهُ فَإِذَا هُوَ يَذْكُرنِي ; قَالَ اللَّه تَعَالَى :" وَلَذِكْر اللَّه أَكْبَر ".
وَظَنَنْت أَنِّي أَتُوب فَإِذَا هُوَ قَدْ تَابَ عَلَيَّ ; قَالَ اللَّه تَعَالَى :" ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ".
وَقِيلَ : الْمَعْنَى ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَثْبُتُوا عَلَى التَّوْبَة ; كَمَا قَالَ تَعَالَى :" يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا " [ النِّسَاء : ١٣٦ ] وَقِيلَ : أَيْ فَسَّحَ لَهُمْ وَلَمْ يُعَجِّل عِقَابهمْ كَمَا فَعَلَ بِغَيْرِهِمْ ; قَالَ جَلَّ وَعَزَّ :" فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَات أُحِلَّتْ لَهُمْ " [ النِّسَاء : ١٦٠ ].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ : الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :" وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ " هَذَا الْأَمْر بِالْكَوْنِ مَعَ أَهْل الصِّدْق حَسَن بَعْد قِصَّة الثَّلَاثَة حِين نَفَعَهُمْ الصِّدْق وَذَهَبَ بِهِمْ عَنْ مَنَازِل الْمُنَافِقِينَ.
قَالَ مُطَرِّف : سَمِعْت مَالِك بْن أَنَس يَقُول : قَلَّمَا كَانَ رَجُل صَادِقًا لَا يَكْذِب إِلَّا مُتِّعَ بِعَقْلِهِ وَلَمْ يُصِبْهُ مَا يُصِيب غَيْره مِنْ الْهَرَم وَالْخَرَف.
وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَاد هُنَا بِالْمُؤْمِنِينَ وَالصَّادِقِينَ عَلَى أَقْوَال ; فَقِيلَ : هُوَ خِطَاب لِمَنْ آمَنَ مِنْ أَهْل الْكِتَاب.
وَقِيلَ : هُوَ خِطَاب لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ ; أَيْ اِتَّقُوا مُخَالَفَة أَمْر اللَّه.
" وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ " أَيْ مَعَ الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا مَعَ الْمُنَافِقِينَ.
أَيْ كُونُوا ٨ عَلَى مَذْهَب الصَّادِقِينَ وَسَبِيلهمْ.
وَقِيلَ : هُمْ الْأَنْبِيَاء ; أَيْ كُونُوا مَعَهُمْ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَة فِي الْجَنَّة.
وَقِيلَ : هُمْ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ :" لَيْسَ الْبِرّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهكُمْ - الْآيَة إِلَى قَوْله - أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا " [ الْبَقَرَة : ١٧٧ ].
وَقِيلَ : هُمْ الْمُوفُونَ بِمَا عَاهَدُوا ; وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى :" رِجَال صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّه عَلَيْهِ " وَقِيلَ : هُمْ الْمُهَاجِرُونَ ; لِقَوْلِ أَبِي بَكْر يَوْم السَّقِيفَة إِنَّ اللَّه سَمَّانَا الصَّادِقِينَ فَقَالَ :" لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ " [ الْحَشْر : ٨ ] الْآيَة، ثُمَّ سَمَّاكُمْ بِالْمُفْلِحِينَ فَقَالَ :" وَاَلَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّار وَالْإِيمَان " [ الْحَشْر : ٩ ] الْآيَة.
وَقِيلَ : هُمْ الَّذِينَ اِسْتَوَتْ ظَوَاهِرهمْ وَبَوَاطِنهمْ.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا الْقَوْل هُوَ الْحَقِيقَة وَالْغَايَة الَّتِي إِلَيْهَا الْمُنْتَهَى فَإِنَّ هَذِهِ الصِّفَة يَرْتَفِع بِهَا النِّفَاق فِي الْعَقِيدَة وَالْمُخَالَفَة فِي الْفِعْل، وَصَاحِبهَا يُقَال لَهُ الصِّدِّيق كَأَبِي بَكْر وَعُمَر وَعُثْمَان وَمَنْ دُونهمْ عَلَى مَنَازِلهمْ وَأَزْمَانهمْ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إِنَّهُمْ الْمُرَاد بِآيَةِ الْبَقَرَة فَهُوَ مُعْظَم الصِّدْق وَيَتْبَعهُ الْأَقَلّ وَهُوَ مَعْنَى آيَة الْأَحْزَاب.
وَأَمَّا تَفْسِير أَبِي بَكْر الصِّدِّيق فَهُوَ الَّذِي يَعُمّ الْأَقْوَال كُلّهَا فَإِنَّ جَمِيع الصِّفَات فِيهِمْ مَوْجُودَة.
حَقّ مَنْ فَهِمَ عَنْ اللَّه وَعَقَلَ عَنْهُ أَنْ يُلَازِم الصِّدْق فِي الْأَقْوَال، وَالْإِخْلَاص فِي الْأَعْمَال، وَالصَّفَاء فِي الْأَحْوَال، فَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَحِقَ بِالْأَبْرَارِ وَوَصَلَ إِلَى رِضَا الْغَفَّار ; قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْق يَهْدِي إِلَى الْبِرّ وَإِنَّ الْبِرّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّة وَمَا يَزَال الرَّجُل يَصْدُق وَيَتَحَرَّى الصِّدْق حَتَّى يُكْتَب عِنْد اللَّه صِدِّيقًا ).
وَالْكَذِب عَلَى الضِّدّ مِنْ ذَلِكَ ; قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( إِيَّاكُمْ وَالْكَذِب فَإِنَّ الْكَذِب يَهْدِي إِلَى الْفُجُور وَإِنَّ الْفُجُور يَهْدِي إِلَى النَّار وَمَا يَزَال الرَّجُل يَكْذِب وَيَتَحَرَّى الْكَذِب حَتَّى يُكْتَب عِنْد اللَّه كَذَّابًا ) خَرَّجَهُ مُسْلِم.
فَالْكَذِب عَار وَأَهْله مَسْلُوبُو الشَّهَادَة، وَقَدْ رَدَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهَادَة رَجُل فِي كَذِبَة كَذَبَهَا.
قَالَ مَعْمَر : لَا أَدْرِي أَكَذَبَ عَلَى اللَّه أَوْ كَذَبَ عَلَى رَسُوله أَوْ كَذَبَ عَلَى أَحَد مِنْ النَّاس.
وَسُئِلَ شَرِيك بْن عَبْد اللَّه فَقِيلَ لَهُ : يَا أَبَا عَبْد اللَّه، رَجُل سَمِعْته يَكْذِب مُتَعَمِّدًا أَأُصَلِّي خَلْفه ؟ قَالَ لَا.
وَعَنْ اِبْن مَسْعُود قَالَ : إِنَّ الْكَذِب لَا يَصْلُح مِنْهُ جِدّ وَلَا هَزْل، وَلَا أَنْ يَعِدَ أَحَدكُمْ شَيْئًا ثُمَّ لَا يُنْجِزهُ، اِقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ " يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اللَّه وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ " هَلْ تَرَوْنَ فِي الْكَذِب رُخْصَة ؟ وَقَالَ مَالِك : لَا يُقْبَل خَبَر الْكَاذِب فِي حَدِيث النَّاس وَإِنْ صَدَقَ فِي حَدِيث رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ غَيْره : يُقْبَل حَدِيثه.
وَالصَّحِيح أَنَّ الْكَاذِب لَا تُقْبَل شَهَادَته وَلَا خَبَره لِمَا ذَكَرْنَاهُ ; فَإِنَّ الْقَبُول مَرْتَبَة عَظِيمَة وَوِلَايَة شَرِيفَة لَا تَكُون إِلَّا لِمَنْ كَمُلَتْ خِصَاله وَلَا خَصْلَة هِيَ أَشَرّ مِنْ الْكَذِب فَهِيَ تَعْزِل الْوِلَايَات وَتُبْطِل الشَّهَادَات.
مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
ظَاهِره خَبَر وَمَعْنَاهُ أَمْر ; كَقَوْلِهِ :" وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُول اللَّه " [ الْأَحْزَاب : ٥٣ ] وَقَدْ تَقَدَّمَ.
" أَنْ يَتَخَلَّفُوا " فِي مَوْضِع رَفْع اِسْم كَانَ.
وَهَذِهِ مُعَاتَبَة لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْل يَثْرِب وَقَبَائِل الْعَرَب الْمُجَاوِرَة لَهَا ; كَمُزَيْنَة وَجُهَيْنَة وَأَشْجَع وَغِفَار وَأَسْلَم عَلَى التَّخَلُّف عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَة تَبُوك.
وَالْمَعْنَى : مَا كَانَ لِهَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ أَنْ يَتَخَلَّفُوا ; فَإِنَّ النَّفِير كَانَ فِيهِمْ، بِخِلَافِ غَيْرهمْ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُسْتَنْفَرُوا ; فِي قَوْل بَعْضهمْ.
وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الِاسْتِنْفَار فِي كُلّ مُسْلِم، وَخَصَّ هَؤُلَاءِ بِالْعِتَابِ لِقُرْبِهِمْ وَجِوَارهمْ، وَأَنَّهُمْ أَحَقّ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرهمْ.
هَذِهِ الْآيَة مَنْسُوخَة بِقَوْلِهِ تَعَالَى :" وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّة " [ التَّوْبَة : ١٢٢ ] وَأَنَّ حُكْمهَا كَانَ حِين كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي قِلَّة، فَلَمَّا كَثُرُوا نُسِخَتْ وَأَبَاحَ اللَّه التَّخَلُّف لِمَنْ شَاءَ ; قَالَهُ اِبْن زَيْد.
وَقَالَ مُجَاهِد : بَعَثَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمًا إِلَى الْبَوَادِي لِيُعَلِّمُوا النَّاس فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة خَافُوا وَرَجَعُوا ; فَأَنْزَلَ اللَّه :" وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّة ".
وَقَالَ قَتَادَة : كَانَ هَذَا خَاصًّا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا غَزَا بِنَفْسِهِ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَخَلَّف عَنْهُ إِلَّا بِعُذْرٍ ; فَأَمَّا غَيْره مِنْ الْأَئِمَّة الْوُلَاة فَلِمَنْ شَاءَ أَنْ يَتَخَلَّف خَلْفه مِنْ الْمُسْلِمِينَ إِذَا لَمْ يَكُنْ بِالنَّاسِ حَاجَة إِلَيْهِ وَلَا ضَرُورَة.
وَقَوْل ثَالِث : أَنَّهَا مُحْكَمَة ; قَالَ الْوَلِيد بْن مُسْلِم : سَمِعْت الْأَوْزَاعِيّ وَابْن الْمُبَارَك وَالْفَزَارِيّ وَالسَّبِيعِيّ وَسَعِيد بْن عَبْد الْعَزِيز يَقُولُونَ فِي هَذِهِ الْآيَة إِنَّهَا لِأَوَّلِ هَذِهِ الْأُمَّة وَآخِرهَا.
قُلْت : قَوْل قَتَادَة حَسَن ; بِدَلِيلِ غَزَاة تَبُوك، وَاَللَّه أَعْلَم.
وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ
أَيْ لَا يَرْضُوا لِأَنْفُسِهِمْ بِالْخَفْضِ وَالدَّعَة وَرَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَشَقَّة.
يُقَال : رَغِبْت عَنْ كَذَا أَيْ تَرَفَّعْت عَنْهُ.
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ
أَيْ عَطَش.
وَقَرَأَ عُبَيْد بْن عُمَيْر " ظَمَاء " بِالْمَدِّ.
وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْل خَطَأ وَخَطَاء.
وَلَا نَصَبٌ
عَطْف، أَيْ تَعَب، وَلَا زَائِدَة لِلتَّوْكِيدِ.
وَكَذَا
وَلَا مَخْمَصَةٌ
أَيْ مَجَاعَة.
وَأَصْله ضُمُور الْبَطْن ; وَمِنْهُ رَجُل خَمِيص وَامْرَأَة خَمْصَانَة.
وَقَدْ تَقَدَّمَ.
فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أَيْ فِي طَاعَته.
وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا
أَيْ أَرْضًا.
يَغِيظُ الْكُفَّارَ
أَيْ بِوَطْئِهِمْ إِيَّاهَا، وَهُوَ فِي مَوْضِع نَصْب لِأَنَّهُ نَعْت لِلْمَوْطِئِ، أَيْ غَائِظًا.
وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا
أَيْ قَتْلًا وَهَزِيمَة.
وَأَصْله مِنْ نِلْت الشَّيْء أَنَال أَيْ أَصَبْت.
قَالَ الْكِسَائِيّ : هُوَ مِنْ قَوْلهمْ أَمْر مَنِيل مِنْهُ ; وَلَيْسَ هُوَ مِنْ التَّنَاوُل، إِنَّمَا التَّنَاوُل مِنْ نُلْته الْعَطِيَّة.
قَالَ غَيْره : نُلْت أَنُول مِنْ الْعَطِيَّة، مِنْ الْوَاو وَالنَّيْل مِنْ الْيَاء، تَقُول : نِلْته فَأَنَا نَائِل، أَيْ أَدْرَكْته.
اِسْتَدَلَّ بَعْض الْعُلَمَاء بِهَذِهِ الْآيَة عَلَى أَنَّ الْغَنِيمَة تُسْتَحَقُّ بِالْإِدْرَابِ وَالْكَوْن فِي بِلَاد الْعَدُوّ، فَإِنْ مَاتَ بَعْد ذَلِكَ فَلَهُ سَهْمه ; وَهُوَ قَوْل أَشْهَب وَعَبْد الْمَلِك، وَأَحَد قَوْلَيْ الشَّافِعِيّ.
وَقَالَ مَالِك وَابْن الْقَاسِم : لَا شَيْء لَهُ ; لِأَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إِنَّمَا ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَة الْأَجْر وَلَمْ يَذْكُر السَّهْم.
قُلْت : الْأَوَّل أَصَحّ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى : جَعَلَ وَطْء دِيَار الْكُفَّار بِمَثَابَةِ النَّيْل مِنْ أَمْوَالهمْ وَإِخْرَاجهمْ مِنْ دِيَارهمْ، وَهُوَ الَّذِي يَغِيظهُمْ وَيُدْخِل الذُّلّ عَلَيْهِمْ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ نَيْل الْغَنِيمَة وَالْقَتْل وَالْأَسْر ; وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْغَنِيمَة تُسْتَحَقُّ بِالْإِدْرَابِ لَا بِالْحِيَازَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : مَا وُطِئَ قَوْم فِي عُقْر دَارهمْ إِلَّا ذَلُّوا.
وَاَللَّه أَعْلَم.
إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ
قَالَ اِبْن عَبَّاس : بِكُلِّ رَوْعَة تَنَالهُمْ فِي سَبِيل اللَّه سَبْعُونَ أَلْف حَسَنَة.
وَفِي الصَّحِيح :( الْخَيْل ثَلَاثَة.
- وَفِيهِ - وَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَهُ أَجْر فَرَجُل رَبَطَهَا فِي سَبِيل اللَّه لِأَهْلِ الْإِسْلَام فِي مَرْج أَوْ رَوْضَة فَمَا أَكَلَتْ مِنْ ذَلِكَ الْمَرْج أَوْ الرَّوْضَة إِلَّا كُتِبَ لَهُ عَدَد مَا أَكَلَتْ حَسَنَات وَكُتِبَ لَهُ عَدَد أَرْوَاثهَا وَأَبْوَالهَا حَسَنَات... ).
الْحَدِيث.
هَذَا وَهِيَ فِي مَوَاضِعهَا فَكَيْفَ إِذَا أَدْرَبَ بِهَا.
وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
" وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا " الْعَرَب تَقُول : وَادٍ وَأَوْدِيَة، عَلَى غَيْر قِيَاس.
قَالَ النَّحَّاس : وَلَا يُعْرَف فِيمَا عَلِمْت فَاعِل وَأَفْعِلَة سِوَاهُ، وَالْقِيَاس أَنْ يُجْمَع وَوَادِي ; فَاسْتَثْقَلُوا الْجَمْع بَيْن وَاوَيْنِ وَهُمْ قَدْ يَسْتَثْقِلُونَ وَاحِدَة، حَتَّى قَالُوا : أُقِّتَتْ فِي وُقِّتَتْ.
وَحَكَى الْخَلِيل وَسِيبَوَيْهِ فِي تَصْغِير وَاصِل اِسْم رَجُل أَوْ أَوَيْصِل فَلَا يَقُولُونَ غَيْره.
وَحَكَى الْفَرَّاء فِي جَمْع وَادٍ أَوْدَاء.
قُلْت : وَقَدْ جُمِعَ أَوْدَاهُ ; قَالَ جَرِير :
عَرَفْت بِبُرْقَة الْأَوْدَاه رَسْمًا مُحِيلًا طَالَ عَهْدك مِنْ رُسُوم
رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَنَس بْن مَالِك أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( لَقَدْ تَرَكْتُمْ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَة وَلَا قَطَعْتُمْ مِنْ وَادٍ إِلَّا وَهُمْ مَعَكُمْ فِيهِ ) قَالُوا : يَا رَسُول اللَّه، وَكَيْفَ يَكُونُونَ مَعَنَا وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ.
؟ قَالَ :( حَبَسَهُمْ الْعُذْر ).
خَرَّجَهُ مُسْلِم مِنْ حَدِيث جَابِر قَالَ : كُنَّا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزَاة فَقَالَ :( إِنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ حَبَسَهُمْ الْمَرَض ).
فَأَعْطَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمَعْذُورِ مِنْ الْأَجْر مِثْل مَا أَعْطَى لِلْقَوِيِّ الْعَامِل.
وَقَدْ قَالَ بَعْض النَّاس : إِنَّمَا يَكُون الْأَجْر لِلْمَعْذُورِ غَيْر مُضَاعَف، وَيُضَاعَف لِلْعَامِلِ الْمُبَاشِر.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا تَحَكُّم عَلَى اللَّه تَعَالَى وَتَضْيِيق لِسَعَةِ رَحْمَته، وَقَدْ عَابَ بَعْض النَّاس فَقَالَ : إِنَّهُمْ يُعْطَوْنَ الثَّوَاب مُضَاعَفًا قَطْعًا، وَنَحْنُ لَا نَقْطَع بِالتَّضْعِيفِ فِي مَوْضِع فَإِنَّهُ مَبْنِيّ عَلَى مِقْدَار النِّيَّات، وَهَذَا أَمْر مُغَيَّب، وَاَلَّذِي يُقْطَع بِهِ أَنَّ هُنَاكَ تَضْعِيفًا وَرَبّك أَعْلَم بِمَنْ يَسْتَحِقّهُ.
قُلْت : الظَّاهِر مِنْ الْأَحَادِيث وَالْآي الْمُسَاوَاة فِي الْأَجْر ; مِنْهَا قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام :( مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْر فَلَهُ مِثْل أَجْر فَاعِله ) وَقَوْله :( مَنْ تَوَضَّأَ وَخَرَجَ إِلَى الصَّلَاة فَوَجَدَ النَّاس قَدْ صَلَّوْا أَعْطَاهُ اللَّه مِثْل أَجْر مَنْ صَلَّاهَا وَحَضَرَهَا ).
وَهُوَ ظَاهِر قَوْله تَعَالَى :" وَمَنْ يَخْرُج مِنْ بَيْته مُهَاجِرًا إِلَى اللَّه وَرَسُوله ثُمَّ يُدْرِكهُ الْمَوْت فَقَدْ وَقَعَ أَجْره عَلَى اللَّه " [ النِّسَاء : ١٠٠ ] وَبِدَلِيلِ أَنَّ النِّيَّة الصَّادِقَة هِيَ أَصْل الْأَعْمَال، فَإِذَا صَحَّتْ فِي فِعْل طَاعَة فَعَجَزَ عَنْهَا صَاحِبهَا لِمَانِعٍ مَنَعَ مِنْهَا فَلَا بُعْد فِي مُسَاوَاة أَجْر ذَلِكَ الْعَاجِز لِأَجْرِ الْقَادِر الْفَاعِل وَيَزِيد عَلَيْهِ ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام :( نِيَّة الْمُؤْمِن خَيْر مِنْ عَمَله ).
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً
وَهِيَ أَنَّ الْجِهَاد لَيْسَ عَلَى الْأَعْيَان وَأَنَّهُ فَرْض كِفَايَة كَمَا تَقَدَّمَ ; إِذْ لَوْ نَفَرَ الْكُلّ لَضَاعَ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ الْعِيَال، فَلْيَخْرُجْ فَرِيق مِنْهُمْ لِلْجِهَادِ وَلْيُقِمْ فَرِيق يَتَفَقَّهُونَ فِي الدِّين وَيَحْفَظُونَ الْحَرِيم، حَتَّى إِذَا عَادَ النَّافِرُونَ أَعْلَمَهُمْ الْمُقِيمُونَ مَا تَعَلَّمُوهُ مِنْ أَحْكَام الشَّرْع، وَمَا تَجَدَّدَ نُزُوله عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَهَذِهِ الْآيَة نَاسِخَة لِقَوْلِهِ تَعَالَى :" إِلَّا تَنْفِرُوا " [ التَّوْبَة : ٣٩ ] وَلِلْآيَةِ الَّتِي قَبْلهَا ; عَلَى قَوْل مُجَاهِد وَابْن زَيْد.
فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ
هَذِهِ الْآيَة أَصْل فِي وُجُوب طَلَب الْعِلْم ; لِأَنَّ الْمَعْنَى : وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّة وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقِيم لَا يَنْفِر فَيَتْرُكُوهُ وَحْده.
" فَلَوْلَا نَفَرَ " بَعْد مَا عَلِمُوا أَنَّ النَّفِير لَا يَسَع جَمِيعهمْ.
" مِنْ كُلّ فِرْقَة مِنْهُمْ طَائِفَة " وَتَبْقَى بَقِيَّتهَا مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَتَحَمَّلُوا عَنْهُ الدِّين وَيَتَفَقَّهُوا ; فَإِذَا رَجَعَ النَّافِرُونَ إِلَيْهِمْ أَخْبَرُوهُمْ بِمَا سَمِعُوا وَعَلِمُوهُ.
وَفِي هَذَا إِيجَاب التَّفَقُّه فِي الْكِتَاب وَالسُّنَّة، وَأَنَّهُ عَلَى الْكِفَايَة دُون الْأَعْيَان.
وَيَدُلّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى :" فَاسْأَلُوا أَهْل الذِّكْر إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ " [ النَّحْل : ٤٣ ].
فَدَخَلَ فِي هَذَا مَنْ لَا يَعْلَم الْكِتَاب وَالسُّنَن.
" فَلَوْلَا نَفَرَ " قَالَ الْأَخْفَش : أَيْ فَهَلَّا نَفَرَ.
" مِنْ كُلّ فِرْقَة مِنْهُمْ طَائِفَة " الطَّائِفَة فِي اللُّغَة الْجَمَاعَة، وَقَدْ تَقَع عَلَى أَقَلّ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى تَبْلُغ الرَّجُلَيْنِ، وَلِلْوَاحِدِ عَلَى مَعْنَى نَفْس طَائِفَة.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ تَعَالَى :" إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَة مِنْكُمْ نُعَذِّب طَائِفَة " [ التَّوْبَة : ٦٦ ] رَجُل وَاحِد.
وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَاد هُنَا جَمَاعَة لِوَجْهَيْنِ ; أَحَدهمَا عَقْلًا، وَالْآخَر لُغَة.
أَمَّا الْعَقْل فَلِأَنَّ الْعِلْم لَا يَتَحَصَّل بِوَاحِدٍ فِي الْغَالِب، وَأَمَّا اللُّغَة فَقَوْله :" لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّين وَلِيُنْذِرُوا قَوْمهمْ " فَجَاءَ بِضَمِيرِ الْجَمَاعَة.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَالْقَاضِي أَبُو بَكْر وَالشَّيْخ أَبُو الْحَسَن قَبْله يَرَوْنَ أَنَّ الطَّائِفَة هَاهُنَا وَاحِد، وَيَعْتَضِدُونَ فِيهِ بِالدَّلِيلِ عَلَى وُجُوب الْعَمَل بِخَبَرِ الْوَاحِد، وَهُوَ صَحِيح لَا مِنْ جِهَة أَنَّ الطَّائِفَة تَنْطَلِق عَلَى الْوَاحِد وَلَكِنْ مِنْ جِهَة أَنَّ خَبَر الشَّخْص الْوَاحِد أَوْ الْأَشْخَاص خَبَر وَاحِد، وَأَنَّ مُقَابِله وَهُوَ التَّوَاتُر لَا يَنْحَصِر.
قُلْت : أَنَصّ مَا يُسْتَدَلّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْوَاحِد يُقَال لَهُ طَائِفَة قَوْله تَعَالَى :" وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اِقْتَتَلُوا " [ الْحُجُرَات : ٩ ] يَعْنِي نَفْسَيْنِ.
دَلِيله قَوْله تَعَالَى :" فَأَصْلِحُوا بَيْن أَخَوَيْكُمْ " [ الْحُجُرَات : ٩ ] فَجَاءَ بِلَفْظِ التَّثْنِيَة، وَالضَّمِير فِي " اِقْتَتَلُوا " وَإِنْ كَانَ ضَمِير جَمَاعَة فَأَقَلّ الْجَمَاعَة اِثْنَانِ فِي أَحَد الْقَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ.
لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ
الضَّمِير فِي " لِيَتَفَقَّهُوا " لِلْمُقِيمِينَ مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; قَالَهُ قَتَادَة وَمُجَاهِد.
وَقَالَ الْحَسَن : هُمْ لِلْفِرْقَةِ النَّافِرَة ; وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيّ.
وَمَعْنَى " لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّين " أَيْ يَتَبَصَّرُوا وَيَتَيَقَّنُوا بِمَا يُرِيهِمْ اللَّه مِنْ الظُّهُور عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَنُصْرَة الدِّين.
قُلْت : قَوْل مُجَاهِد وَقَتَادَة أَبْيَن، أَيْ لِتَتَفَقَّه الطَّائِفَة الْمُتَأَخِّرَة مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ النُّفُور فِي السَّرَايَا.
وَهَذَا يَقْتَضِي الْحَثّ عَلَى طَلَب الْعِلْم وَالنَّدْب إِلَيْهِ دُون الْوُجُوب وَالْإِلْزَام ; إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ فِي قُوَّة الْكَلَام، وَإِنَّمَا لَزِمَ طَلَب الْعِلْم بِأَدِلَّتِهِ ; قَالَهُ أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ.
طَلَب الْعِلْم يَنْقَسِم قِسْمَيْنِ : فَرْضٌ عَلَى الْأَعْيَان ; كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة وَالصِّيَام.
قُلْت : وَفِي هَذَا الْمَعْنَى جَاءَ الْحَدِيث الْمَرْوِيّ ( إِنَّ طَلَب الْعِلْم فَرِيضَة ).
رَوَى عَبْد الْقُدُّوس بْن حَبِيب : أَبُو سَعِيد الْوُحَاظِيّ عَنْ حَمَّاد بْن أَبِي سُلَيْمَان عَنْ إِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ قَالَ سَمِعْت أَنَس بْن مَالِك يَقُول : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول :( طَلَب الْعِلْم فَرِيضَة عَلَى كُلّ مُسْلِم ).
قَالَ إِبْرَاهِيم : لَمْ أَسْمَع مِنْ أَنَس بْن مَالِك إِلَّا هَذَا الْحَدِيث.
وَفَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَة ; كَتَحْصِيلِ الْحُقُوق وَإِقَامَة الْحُدُود وَالْفَصْل بَيْن الْخُصُوم وَنَحْوه ; إِذْ لَا يَصْلُح أَنْ يَتَعَلَّمهُ جَمِيع النَّاس فَتَضِيع أَحْوَالهمْ وَأَحْوَال سَرَايَاهُمْ وَتَنْقُص أَوْ تَبْطُل مَعَايِشهمْ ; فَتَعَيَّنَ بَيْن الْحَالَيْنِ أَنْ يَقُوم بِهِ الْبَعْض مِنْ غَيْر تَعْيِين، وَذَلِكَ بِحَسَبِ مَا يَسَّرَهُ اللَّه لِعِبَادِهِ وَقَسَمَهُ بَيْنهمْ مِنْ رَحْمَته وَحِكْمَته بِسَابِقِ قُدْرَته وَكَلِمَته.
طَلَب الْعِلْم فَضِيلَة عَظِيمَة وَمَرْتَبَة شَرِيفَة لَا يُوَازِيهَا عَمَل ; رَوَى التِّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيث أَبِي الدَّرْدَاء قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول :( مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِس فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّه بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّة وَإِنَّ الْمَلَائِكَة لَتَضَع أَجْنِحَتهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْم وَإِنَّ الْعَالِم لَيَسْتَغْفِر لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَات وَمَنْ فِي الْأَرْض وَالْحِيتَان فِي جَوْف الْمَاء وَإِنَّ فَضْل الْعَالِم عَلَى الْعَابِد كَفَضْلِ الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر عَلَى سَائِر الْكَوَاكِب وَإِنَّ الْعُلَمَاء وَرَثَة الْأَنْبِيَاء وَإِنَّ الْأَنْبِيَاء لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْم فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِر ).
وَرَوَى الدَّارِمِيّ أَبُو مُحَمَّد فِي مُسْنَده قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَة حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيّ عَنْ الْحَسَن قَالَ سُئِلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَجُلَيْنِ كَانَا فِي بَنِي إِسْرَائِيل، أَحَدهمَا كَانَ عَالِمًا يُصَلِّي الْمَكْتُوبَة ثُمَّ يَجْلِس فَيُعَلِّم النَّاس الْخَيْر.
وَالْآخَر يَصُوم النَّهَار وَيَقُوم اللَّيْل، أَيّهمَا أَفْضَل ؟ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( فَضْل هَذَا الْعَالِم الَّذِي يُصَلِّي الْمَكْتُوبَة ثُمَّ يَجْلِس فَيُعَلِّم النَّاس الْخَيْر عَلَى الْعَابِد الَّذِي يَصُوم النَّهَار وَيَقُوم اللَّيْل كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ ).
أَسْنَدَهُ أَبُو عُمَر فِي كِتَاب ( بَيَان الْعِلْم ) عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( فَضْل الْعَالِم عَلَى الْعَابِد كَفَضْلِي عَلَى أُمَّتِي ).
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : أَفْضَل الْجِهَاد مَنْ بَنَى مَسْجِدًا يُعَلِّم فِيهِ الْقُرْآن وَالْفِقْه وَالسُّنَّة.
رَوَاهُ شَرِيك عَنْ لَيْث بْن أَبِي سُلَيْم عَنْ يَحْيَى بْن أَبِي كَثِير عَنْ عَلِيّ الْأَزْدِيّ قَالَ : أَرَدْت الْجِهَاد فَقَالَ لِي اِبْن عَبَّاس أَلَا أَدُلّك عَلَى مَا هُوَ خَيْر لَك مِنْ الْجِهَاد، تَأْتِي مَسْجِدًا فَتَقْرَأ فِيهِ الْقُرْآن وَتُعَلِّم فِيهِ الْفِقْه.
وَقَالَ الرَّبِيع سَمِعْت الشَّافِعِيّ يَقُول : طَلَب الْعِلْم أَوْجَب مِنْ الصَّلَاة النَّافِلَة.
وَقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام :( إِنَّ الْمَلَائِكَة لَتَضَع أَجْنِحَتهَا... ) الْحَدِيث يَحْتَمِل وَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا : أَنَّهَا تَعْطِف عَلَيْهِ وَتَرْحَمهُ ; كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى فِيمَا وَصَّى بِهِ الْأَوْلَاد مِنْ الْإِحْسَان إِلَى الْوَالِدَيْنِ بِقَوْلِهِ :" وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاح الذُّلّ مِنْ الرَّحْمَة " [ الْإِسْرَاء : ٢٤ ] أَيْ تَوَاضَعْ لَهُمَا.
وَالْوَجْه الْآخَر : أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِوَضْعِ الْأَجْنِحَة فَرْشهَا ; لِأَنَّ فِي بَعْض الرِّوَايَات ( وَإِنَّ الْمَلَائِكَة تَفْرِش أَجْنِحَتهَا ) أَيْ إِنَّ الْمَلَائِكَة إِذَا رَأَتْ طَالِب الْعِلْم يَطْلُبهُ مِنْ وَجْهه اِبْتِغَاء مَرِضَات اللَّه وَكَانَتْ سَائِر أَحْوَاله مُشَاكِلَة لِطَلَبِ الْعِلْم فَرَشَتْ لَهُ أَجْنِحَتهَا فِي رِحْلَته وَحَمَلَتْهُ عَلَيْهَا ; فَمِنْ هُنَاكَ يَسْلَم فَلَا يَحْفَى إِنْ كَانَ مَاشِيًا وَلَا يَعْيَا، وَتُقَرِّب عَلَيْهِ الطَّرِيق الْبَعِيدَة وَلَا يُصِيبهُ مَا يُصِيب الْمُسَافِر مِنْ أَنْوَاع الضَّرَر كَالْمَرَضِ وَذَهَاب الْمَال وَضَلَال الطَّرِيق.
وَقَدْ مَضَى شَيْء مِنْ هَذَا الْمَعْنَى فِي [ آل عِمْرَان ] عِنْد قَوْله تَعَالَى :" شَهِدَ اللَّه... " الْآيَة.
رَوَى عِمْرَان بْن حُصَيْن قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( لَا تَزَال طَائِفَة مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقّ حَتَّى تَقُوم السَّاعَة ).
قَالَ يَزِيد بْن هَارُون : إِنْ لَمْ يَكُونُوا أَصْحَاب الْحَدِيث فَلَا أَدْرِي مَنْ هُمْ ؟.
قُلْت : وَهَذَا قَوْل عَبْد الرَّزَّاق فِي تَأْوِيل الْآيَة، إِنَّهُمْ أَصْحَاب الْحَدِيث ; ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيّ.
سَمِعْت شَيْخنَا الْأُسْتَاذ الْمُقْرِئ النَّحْوِيّ الْمُحَدِّث أَبَا جَعْفَر أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن مُحَمَّد الْقَيْسِيّ الْقُرْطُبِيّ الْمَعْرُوف بِابْنِ أَبِي حَجَّة رَحِمَهُ اللَّه يَقُول فِي تَأْوِيل قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام :( لَا يَزَال أَهْل الْغَرْب ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقّ حَتَّى تَقُوم السَّاعَة ) إِنَّهُمْ الْعُلَمَاء ; قَالَ : وَذَلِكَ أَنَّ الْغَرْب لَفْظ مُشْتَرَك يُطْلَق عَلَى الدَّلْو الْكَبِيرَة وَعَلَى مَغْرِب الشَّمْس، وَيُطْلَق عَلَى فَيْضَة مِنْ الدَّمْع.
فَمَعْنَى ( لَا يَزَال أَهْل الْغَرْب ) أَيْ لَا يَزَال أَهْل فَيْض الدَّمْع مِنْ خَشْيَة اللَّه عَنْ عِلْم بِهِ وَبِأَحْكَامِهِ ظَاهِرِينَ ; الْحَدِيث.
قَالَ اللَّه تَعَالَى :" إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَاده الْعُلَمَاءُ " [ فَاطِر : ٢٨ ].
قُلْت : وَهَذَا التَّأْوِيل يَعْضُدهُ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام فِي صَحِيح مُسْلِم :( مَنْ يُرِدْ اللَّه بِهِ خَيْرًا يُفَقِّههُ فِي الدِّين وَلَا تَزَال عِصَابَة مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقّ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ).
وَظَاهِر هَذَا الْمَسَاق أَنَّ أَوَّله مُرْتَبِط بِآخِرِهِ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ
مِنْ الْكُفَّار.
وَالضَّمِير فِي " لِيُنْذِرُوا " لِلْمُقِيمِينَ مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ قَتَادَة وَمُجَاهِد.
وَقَالَ الْحَسَن : هُمْ لِلْفِرْقَةِ النَّافِرَة ; وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيّ.
إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ
مِنْ الْجِهَاد فَيُخْبِرُونَهُمْ بِنُصْرَةِ اللَّه تَعَالَى نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّهُمْ لَا يَدَانِ لَهُمْ بِقِتَالِهِمْ وَقِتَال النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَيَنْزِل بِهِمْ مَا نَزَلَ بِأَصْحَابِهِمْ مِنْ الْكُفَّار.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ
فِيهِ أَنَّهُ سُبْحَانه عَرَّفَهُمْ كَيْفِيَّة الْجِهَاد وَأَنَّ الِابْتِدَاء بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَب مِنْ الْعَدُوّ وَلِهَذَا بَدَأَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعَرَبِ، فَلَمَّا فَرَغَ قَصَدَ الرُّوم وَكَانُوا بِالشَّامِ.
وَقَالَ الْحَسَن : نَزَلَتْ قَبْل أَنْ يُؤْمَر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ ; فَهِيَ مِنْ التَّدْرِيج الَّذِي كَانَ قَبْل الْإِسْلَام.
وَقَالَ اِبْن زَيْد : الْمُرَاد بِهَذِهِ الْآيَة وَقْت نُزُولهَا الْعَرَب، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُمْ نَزَلَتْ فِي الرُّوم وَغَيْرهمْ :" قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ " [ التَّوْبَة : ٢٩ ].
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر أَنَّ الْمُرَاد بِذَلِكَ الدَّيْلَم.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ بِمَنْ يُبْدَأ بِالرُّومِ أَوْ بِالدَّيْلَمِ ؟ فَقَالَ بِالرُّومِ.
وَقَالَ الْحَسَن : هُوَ قِتَال الدَّيْلَم وَالتُّرْك وَالرُّوم.
وَقَالَ قَتَادَة : الْآيَة عَلَى الْعُمُوم فِي قِتَال الْأَقْرَب فَالْأَقْرَب، وَالْأَدْنَى فَالْأَدْنَى.
قُلْت : قَوْل قَتَادَة هُوَ ظَاهِر الْآيَة، وَاخْتَارَ اِبْن الْعَرَبِيّ أَنْ يُبْدَأ بِالرُّومِ قَبْل الدَّيْلَم ; عَلَى مَا قَالَهُ اِبْن عُمَر لِثَلَاثَةِ أَوْجُه.
[ أَحَدهَا ] أَنَّهُمْ أَهْل كِتَاب، فَالْحُجَّة عَلَيْهِمْ أَكْثَر وَآكَد.
[ الثَّانِي ] أَنَّهُمْ إِلَيْنَا أَقْرَب أَعْنِي أَهْل الْمَدِينَة.
[ الثَّالِث ] أَنَّ بِلَاد الْأَنْبِيَاء فِي بِلَادهمْ أَكْثَر فَاسْتِنْقَاذهَا مِنْهُمْ أَوْجَب.
وَاَللَّه أَعْلَم.
الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ
أَيْ شِدَّة وَقُوَّة وَحَمِيَّة.
وَرَوَى الْفَضْل عَنْ الْأَعْمَش وَعَاصِم " غَلْظَة " بِفَتْحِ الْغَيْن وَإِسْكَان اللَّام.
قَالَ الْفَرَّاء : لُغَة أَهْل الْحِجَاز وَبَنِي أَسَد بِكَسْرِ الْغَيْن، وَلُغَة بَنِي تَمِيم " غُلْظَة " بِضَمِّ الْغَيْن.
وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ
" مَا " صِلَة، وَالْمُرَاد الْمُنَافِقُونَ.
" أَيّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا " قَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْل فِي زِيَادَة الْإِيمَان وَنُقْصَانه فِي سُورَة [ آل عِمْرَان ].
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى السُّورَة فِي مُقَدِّمَة الْكِتَاب، فَلَا مَعْنَى لِلْإِعَادَةِ.
وَكَتَبَ الْحَسَن إِلَى عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز ( إِنَّ لِلْإِيمَانِ سُنَنًا وَفَرَائِض مَنْ اِسْتَكْمَلَهَا فَقَدْ اِسْتَكْمَلَ الْإِيمَان وَمَنْ لَمْ يَسْتَكْمِلهَا لَمْ يَسْتَكْمِل الْإِيمَان ) قَالَ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز :( فَإِنْ أَعِشْ فَسَأُبَيِّنُهَا لَكُمْ وَإِنْ أَمُتْ فَمَا أَنَا عَلَى صُحْبَتكُمْ بِحَرِيصٍ ).
ذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ.
وَقَالَ اِبْن الْمُبَارَك لَمْ أَجِد بُدًّا مِنْ أَنْ أَقُول بِزِيَادَةِ الْإِيمَان وَإِلَّا رَدَدْت الْقُرْآن.
وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
أَيْ شَكّ وَرَيْب وَنِفَاق.
وَقَدْ تَقَدَّمَ.
فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ
أَيْ شَكًّا إِلَى شَكّهمْ وَكُفْرًا إِلَى كُفْرهمْ.
وَقَالَ مُقَاتِل : إِثْمًا إِلَى إِثْمهمْ ; وَالْمَعْنَى مُتَقَارِب
أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ
قِرَاءَة الْعَامَّة بِالْيَاءِ، خَبَرًا عَنْ الْمُنَافِقِينَ.
وَقَرَأَ حَمْزَة وَيَعْقُوب بِالتَّاءِ خَبَرًا عَنْهُمْ وَخِطَابًا لِلْمُؤْمِنِينَ.
وَقَرَأَ الْأَعْمَش " أَوَلَمْ يَرَوْا ".
وَقَرَأَ طَلْحَة بْن مُصَرِّف " أَوَلَا تَرَى " وَهِيَ قِرَاءَة اِبْن مَسْعُود، خِطَابًا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
و " يُفْتَنُونَ " قَالَ الطَّبَرِيّ : يُخْتَبَرُونَ.
قَالَ مُجَاهِد : بِالْقَحْطِ وَالشِّدَّة.
وَقَالَ عَطِيَّة : بِالْأَمْرَاضِ وَالْأَوْجَاع ; وَهِيَ رَوَائِد الْمَوْت.
وَقَالَ قَتَادَة وَالْحَسَن وَمُجَاهِد : بِالْغَزْوِ وَالْجِهَاد مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَرَوْنَ مَا وَعَدَ اللَّه مِنْ النَّصْر " ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ " لِذَلِكَ " وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ ".
وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ
" مَا " صِلَة، وَالْمُرَاد الْمُنَافِقُونَ ; أَيْ إِذَا حَضَرُوا الرَّسُول وَهُوَ يَتْلُو قُرْآنًا أَنْزَلَ فِيهِ فَضِيحَتهمْ أَوْ فَضِيحَة أَحَد مِنْهُمْ جَعَلَ يَنْظُر بَعْضهمْ إِلَى بَعْض نَظَر الرُّعْب عَلَى جِهَة التَّقْرِير ; يَقُول : هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَد إِذَا تَكَلَّمْتُمْ بِهَذَا فَيَنْقُلهُ إِلَى مُحَمَّد ; وَذَلِكَ جَهْل مِنْهُمْ بِنُبُوَّتِهِ عَلَيْهِ السَّلَام، وَأَنَّ اللَّه يُطْلِعهُ عَلَى مَا يَشَاء مِنْ غَيْبه.
وَقِيلَ إِنَّ " نَظَرَ " فِي هَذِهِ الْآيَة بِمَعْنَى أَنْبَأَ.
وَحَكَى الطَّبَرِيّ عَنْ بَعْضهمْ أَنَّهُ قَالَ :" نَظَرَ " فِي هَذِهِ الْآيَة مَوْضِع قَالَ.
ثُمَّ انْصَرَفُوا
أَيْ اِنْصَرَفُوا عَنْ طَرِيق الِاهْتِدَاء.
وَذَلِكَ أَنَّهُمْ حِينَمَا بَيَّنَ لَهُمْ كَشْف أَسْرَارهمْ وَالْإِعْلَام بِمُغَيَّبَاتِ أُمُورهمْ يَقَع لَهُمْ لَا مَحَالَة تَعَجُّبٌ وَتَوَقُّف وَنَظَر، فَلَوْ اِهْتَدَوْا لَكَانَ ذَلِكَ الْوَقْت مَظِنَّة لِإِيمَانِهِمْ ; فَهُمْ إِذْ يُصَمِّمُونَ عَلَى الْكُفْر وَيَرْتَبِكُونَ فِيهِ كَأَنَّهُمْ اِنْصَرَفُوا عَنْ تِلْكَ الْحَال الَّتِي كَانَتْ مَظِنَّة النَّظَر الصَّحِيح وَالِاهْتِدَاء، وَلَمْ يَسْمَعُوا قِرَاءَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَاع مَنْ يَتَدَبَّرهُ وَيَنْظُر فِي آيَاته ; " إِنَّ شَرّ الدَّوَابّ عِنْد اللَّه الصُّمّ الْبُكْم الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ " [ الْأَنْفَال : ٢٢ ].
" أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآن أَمْ عَلَى قُلُوب أَقْفَالهَا " [ مُحَمَّد : ٢٤ ].
صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ
دُعَاء عَلَيْهِمْ ; أَيْ قُولُوا لَهُمْ هَذَا.
وَيَجُوز أَنْ يَكُون خَبَرًا عَنْ صَرْفهَا عَنْ الْخَيْر مُجَازَاة عَلَى فِعْلهمْ.
وَهِيَ كَلِمَة يُدْعَى بِهَا ; كَقَوْلِهِ :" قَاتَلَهُمْ اللَّه " [ التَّوْبَة : ٣٠ ] وَالْبَاء فِي قَوْله :" بِأَنَّهُمْ " صِلَة ل " صَرَفَ ".
قَالَ اِبْن عَبَّاس : يُكْرَه أَنْ يُقَال اِنْصَرَفْنَا مِنْ الصَّلَاة ; لِأَنَّ قَوْمًا اِنْصَرَفُوا فَصَرَفَ اللَّه قُلُوبهمْ، وَلَكِنْ قُولُوا قَضَيْنَا الصَّلَاة ; أَسْنَدَهُ الطَّبَرِيّ عَنْهُ.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا فِيهِ نَظَر وَمَا أَظُنّهُ بِصَحِيحٍ فَإِنَّ نِظَام الْكَلَام أَنْ يُقَال : لَا يَقُلْ أَحَد اِنْصَرَفْنَا مِنْ الصَّلَاة ; فَإِنَّ قَوْمًا قِيلَ فِيهِمْ :" ثُمَّ اِنْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّه قُلُوبهمْ ".
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الْمَلِك الْقَيْسِيّ الْوَاعِظ حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْل الْجَوْهَرِيّ سَمَاعًا مِنْهُ يَقُول : كُنَّا فِي جِنَازَة فَقَالَ الْمُنْذِر بِهَا : اِنْصَرِفُوا رَحِمَكُمْ اللَّه فَقَالَ : لَا يَقُلْ أَحَد اِنْصَرِفُوا فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ فِي قَوْم ذَمَّهُمْ :" ثُمَّ اِنْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّه قُلُوبهمْ " وَلَكِنْ قُولُوا : اِنْقَلِبُوا رَحِمَكُمْ اللَّه فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ فِي قَوْم مَدَحَهُمْ :" فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّه وَفَضْل لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء " [ آل عِمْرَان : ١٧٤ ].
أَخْبَرَ اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَة أَنَّهُ صَارِف الْقُلُوب وَمُصَرِّفهَا وَقَالِبهَا وَمُقَلِّبهَا ; رَدًّا عَلَى الْقَدَرِيَّة فِي اِعْتِقَادهمْ أَنَّ قُلُوب الْخَلْق بِأَيْدِيهِمْ وَجَوَارِحهمْ بِحُكْمِهِمْ، يَتَصَرَّفُونَ بِمَشِيئَتِهِمْ وَيَحْكُمُونَ بِإِرَادَاتِهِمْ وَاخْتِيَارهمْ ; وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِك فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ أَشْهَب : مَا أَبْيَنَ هَذَا فِي الرَّدّ عَلَى الْقَدَرِيَّة " لَا يَزَال بُنْيَانهمْ الَّذِي بَنَوْا رِيبَة فِي قُلُوبهمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبهمْ " [ التَّوْبَة : ١١٠ ].
وَقَوْله عَزَّ وَجَلَّ لِنُوحٍ :" إِنَّهُ لَنْ يُؤْمِن مِنْ قَوْمك إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ " [ هُود : ٣٦ ] فَهَذَا لَا يَكُون أَبَدًا وَلَا يَرْجِع وَلَا يَزُول.
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ
هَاتَانِ الْآيَتَانِ ( ١٢٨، ١٢٩ ) فِي قَوْل أُبَيّ أَقْرَب الْقُرْآن بِالسَّمَاءِ عَهْدًا.
وَفِي قَوْل سَعِيد بْن جُبَيْر : آخِر مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآن " وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّه " [ الْبَقَرَة : ٢٨١ ] عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
فَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون قَوْل أُبَيّ : أَقْرَب الْقُرْآن بِالسَّمَاءِ عَهْدًا بَعْد قَوْله :" وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّه ".
وَاَللَّه أَعْلَم وَالْخِطَاب لِلْعَرَبِ فِي قَوْل الْجُمْهُور، وَهَذَا عَلَى جِهَة تَعْدِيد النِّعْمَة عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ ; إِذْ جَاءَ بِلِسَانِهِمْ وَبِمَا يَفْهَمُونَهُ، وَشَرُفُوا بِهِ غَابِر الْأَيَّام.
وَقَالَ الزَّجَّاج : هِيَ مُخَاطَبَة لِجَمِيعِ الْعَالَم وَالْمَعْنَى : لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُول مِنْ الْبَشَر ; وَالْأَوَّل أَصْوَب.
قَالَ اِبْن عَبَّاس : مَا مِنْ قَبِيلَة مِنْ الْعَرَب إِلَّا وَلَدَتْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَأَنَّهُ قَالَ : يَا مَعْشَر الْعَرَب لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُول مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيل.
وَالْقَوْل الثَّانِي أَوْكَد لِلْحُجَّةِ أَيْ هُوَ بَشَر مِثْلكُمْ لِتَفْهَمُوا عَنْهُ وَتَأْتَمُّوا بِهِ.
" مِنْ أَنْفُسكُمْ " يَقْتَضِي مَدْحًا لِنَسَبِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ مِنْ صَمِيم الْعَرَب وَخَالِصهَا.
وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ وَاثِلَة بْن الْأَسْقَع قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول :( إِنَّ اللَّه اِصْطَفَى كِنَانَة مِنْ وَلَد إِسْمَاعِيل وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَة وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْش بَنِي هَاشِم وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِم ).
وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :( إِنِّي مِنْ نِكَاح وَلَسْت مِنْ سِفَاح ).
مَعْنَاهُ أَنَّ نَسَبه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى آدَم عَلَيْهِ السَّلَام لَمْ يَكُنْ النَّسْل فِيهِ إِلَّا مِنْ نِكَاح وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ زِنًا.
وَقَرَأَ عَبْد اللَّه بْن قُسَيْط الْمَكِّيّ مِنْ " أَنْفَسكُمْ " بِفَتْحِ الْفَاء مِنْ النَّفَاسَة ; وَرُوِيَتْ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ فَاطِمَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أَيْ جَاءَكُمْ رَسُول مِنْ أَشْرَفكُمْ وَأَفْضَلكُمْ مِنْ قَوْلك : شَيْء نَفِيس إِذَا كَانَ مَرْغُوبًا فِيهِ.
وَقِيلَ : مِنْ أَنْفُسكُمْ أَيْ أَكْثَركُمْ طَاعَة.
عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ
أَيْ يَعِزّ عَلَيْهِ مَشَقَّتكُمْ.
وَالْعَنَت : الْمَشَقَّة ; مِنْ قَوْلهمْ : أَكَمَة عَنُوت إِذَا كَانَتْ شَاقَّة مُهْلِكَة.
وَقَالَ اِبْن الْأَنْبَارِيّ : أَصْل التَّعَنُّت التَّشْدِيد ; فَإِذَا قَالَتْ الْعَرَب : فُلَان يَتَعَنَّت فُلَانًا وَيُعْنِتهُ فَمُرَادهمْ يُشَدِّد عَلَيْهِ وَيُلْزِمهُ بِمَا يَصْعُب عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي [ الْبَقَرَة ].
" وَمَا " فِي " مَا عَنِتُّمْ " مَصْدَرِيَّة، وَهِيَ اِبْتِدَاء و " عَزِيز " خَبَر مُقَدَّم.
وَيَجُوز أَنْ يَكُون " مَا عَنِتُّمْ " فَاعِلًا بِعَزِيزٍ، و " عَزِيز " صِفَة لِلرَّسُولِ، وَهُوَ أَصْوَب.
وَكَذَا " حَرِيص عَلَيْكُمْ " وَكَذَا " رَءُوف رَحِيم " رُفِعَ عَلَى الصِّفَة.
قَالَ الْفَرَّاء : وَلَوْ قُرِئَ عَزِيزًا عَلَيْهِ، مَا عَنِتُّمْ حَرِيصًا رَءُوفًا رَحِيمًا، نَصْبًا عَلَى الْحَال جَازَ.
قَالَ أَبُو جَعْفَر النَّحَّاس : وَأَحْسَن مَا قِيلَ فِي مَعْنَاهُ مِمَّا يُوَافِق كَلَام الْعَرَب مَا حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد الْأَزْدِيّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد الْخُزَاعِيّ قَالَ سَمِعْت عَمْرو بْن عَلِيّ يَقُول : سَمِعْت عَبْد اللَّه بْن دَاوُد الْخُرَيْبِيّ يَقُول فِي قَوْله عَزَّ وَجَلَّ :" لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُول مِنْ أَنْفُسكُمْ عَزِيز عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ " قَالَ : أَنْ تَدْخُلُوا النَّار،
حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ
أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّة.
وَقِيلَ : حَرِيص عَلَيْكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا.
وَقَالَ : الْفَرَّاء : شَحِيح بِأَنْ تَدْخُلُوا النَّار.
وَالْحِرْص عَلَى الشَّيْء : الشُّحّ عَلَيْهِ أَنْ يَضِيع وَيَتْلَف.
بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ
الرَّءُوف : الْمُبَالِغ فِي الرَّأْفَة وَالشَّفَقَة.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي [ الْبَقَرَة ] مَعْنَى " رَءُوف رَحِيم " مُسْتَوْفًى.
وَقَالَ الْحُسَيْن بْن الْفَضْل : لَمْ يَجْمَع اللَّه لِأَحَدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاء اِسْمَيْنِ مِنْ أَسْمَائِهِ إِلَّا لِلنَّبِيِّ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَإِنَّهُ قَالَ :" بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوف رَحِيم " وَقَالَ :" إِنَّ اللَّه بِالنَّاسِ لَرَءُوف رَحِيم " [ الْحَجّ : ٦٥ ].
وَقَالَ عَبْد الْعَزِيز بْن يَحْيَى : نَظْم الْآيَة لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُول مِنْ أَنْفُسكُمْ عَزِيز حَرِيص بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوف رَحِيم، عَزِيز عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ لَا يَهُمّهُ إِلَّا شَأْنكُمْ، وَهُوَ الْقَائِم بِالشَّفَاعَةِ لَكُمْ فَلَا تَهْتَمُّوا بِمَا عَنِتُّمْ مَا أَقَمْتُمْ عَلَى سُنَّته ; فَإِنَّهُ لَا يُرْضِيه إِلَّا دُخُولكُمْ الْجَنَّة.
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
أَيْ إِنْ أَعْرَضَ الْكُفَّار يَا مُحَمَّد بَعْد هَذِهِ النِّعَم الَّتِي مِنْ اللَّه عَلَيْهِمْ بِهَا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّه أَيْ كَافِيَّ اللَّه تَعَالَى.
عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ
أَيْ اِعْتَمَدْت وَإِلَيْهِ فَوَّضْت جَمِيع أُمُورِي.
وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ
خَصَّ الْعَرْش لِأَنَّهُ أَعْظَم الْمَخْلُوقَات فَيَدْخُل فِيهِ مَا دُونه إِذَا مَا ذَكَرَهُ.
وَقِرَاءَة الْعَامَّة بِخَفْضِ " الْعَظِيم " نَعْتًا لِلْعَرْشِ.
وَقُرِئَ بِالرَّفْعِ صِفَة لِلرَّبِّ، رُوِيَتْ عَنْ اِبْن كَثِير، وَهِيَ قِرَاءَة اِبْن مُحَيْصِن وَفِي كِتَاب أَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي الدَّرْدَاء قَالَ :( مَنْ قَالَ إِذَا أَصْبَحَ وَإِذَا أَمْسَى حَسْبِيَ اللَّه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْت وَهُوَ رَبّ الْعَرْش الْعَظِيم سَبْع مَرَّات كَفَاهُ اللَّه مَا أَهَمَّهُ صَادِقًا كَانَ بِهَا أَوْ كَاذِبًا ).
وَفِي نَوَادِر الْأُصُول عَنْ بُرَيْدَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( مَنْ قَالَ عَشْر كَلِمَات عِنْد دُبُر كُلّ صَلَاة وَجَدَ اللَّه عِنْدهنَّ مَكْفِيًّا مَجْزِيًّا خَمْس لِلدُّنْيَا وَخَمْس لِلْآخِرَةِ حَسْبِيَ اللَّه لِدِينِي حَسْبِيَ اللَّه لِدُنْيَايَ حَسْبِيَ اللَّه لِمَا أَهَمَّنِي حَسْبِيَ اللَّه لِمَنْ بَغَى عَلَيَّ حَسْبِيَ اللَّه لِمَنْ حَسَدَنِي حَسْبِيَ اللَّه لِمَنْ كَادَنِي بِسُوءٍ حَسْبِيَ اللَّه عِنْد الْمَوْت حَسْبِيَ اللَّه عِنْد الْمَسْأَلَة فِي الْقَبْر حَسْبِيَ اللَّه عِنْد الْمِيزَان حَسْبِيَ اللَّه عِنْد الصِّرَاط حَسْبِيَ اللَّه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْت وَإِلَيْهِ أُنِيب ).
وَحَكَى النَّقَّاش عَنْ أُبَيّ بْن كَعْب أَنَّهُ قَالَ : أَقْرَب الْقُرْآن عَهْدًا بِاَللَّهِ تَعَالَى هَاتَانِ الْآيَتَانِ " لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُول مِنْ أَنْفُسكُمْ " إِلَى آخِر السُّورَة ; وَقَدْ بَيَّنَّاهُ.
وَرَوَى يُوسُف بْن مِهْرَان عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ آخِر مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآن " لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُول مِنْ أَنْفُسكُمْ " وَهَذِهِ الْآيَة ; ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيّ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا عَنْ اِبْن عَبَّاس خِلَافه ; عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي [ الْبَقَرَة ] وَهُوَ أَصَحّ.
وَقَالَ مُقَاتِل : تَقَدَّمَ نُزُولهَا بِمَكَّة.
وَهَذَا فِيهِ بُعْد لِأَنَّ السُّورَة مَدَنِيَّة وَاَللَّه أَعْلَم.
وَقَالَ يَحْيَى بْن جَعْدَة : كَانَ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لَا يُثْبِت آيَة فِي الْمُصْحَف حَتَّى يَشْهَد عَلَيْهَا رَجُلَانِ فَجَاءَهُ رَجُل مِنْ الْأَنْصَار بِالْآيَتَيْنِ مِنْ آخِر سُورَة بَرَاءَة " لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُول مِنْ أَنْفُسكُمْ " فَقَالَ عُمَر : وَاَللَّه لَا أَسْأَلك عَلَيْهِمَا بَيِّنَة كَذَلِكَ كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَثْبَتَهُمَا.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : الرَّجُل هُوَ خُزَيْمَة بْن ثَابِت وَإِنَّمَا أَثْبَتَهُمَا عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ بِشَهَادَتِهِ وَحْده لِقِيَامِ الدَّلِيل عَلَى صِحَّتهَا فِي صِفَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِيَ قَرِينَة تُغْنِي عَنْ طَلَب شَاهِد آخَر بِخِلَافِ آيَة الْأَحْزَاب " رِجَال صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّه عَلَيْهِ " [ الْأَحْزَاب : ٢٣ ] فَإِنَّ تِلْكَ ثَبَتَتْ بِشَهَادَةِ زَيْد وَخُزَيْمَة لِسَمَاعِهِمَا إِيَّاهَا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مُقَدِّمَة الْكِتَاب وَالْحَمْد لِلَّهِ.
Icon