تفسير سورة التوبة

معاني القرآن
تفسير سورة سورة التوبة من كتاب معاني القرآن .
لمؤلفه الفراء . المتوفي سنة 207 هـ
وقوله :﴿ بَرَاءةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾
مرفوعة، يضمر لها ( هذه ) ومثله قوله :﴿ سُورةٌ أنْزَلْناها ﴾. وهكذا كل ما عاينته من اسم معرفة أو نكرة جاز إضمار ( هذا ) و ( هذه ) فتقول إذا نظرت إلى رجل : جميلٌ والله، تريد : هذا جميل.
والمعنى في قوله ( براءة ) أن العرب كانوا قد أخذوا ينقُضُون عهودا كانت بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت عليه آيات من أوّل براءة، أُمر فيها بنَبْذ عهودهم إليهم، وأن يجعل الأجَلَ بينه وبينهم أربعةَ أشهر. فمن كانت مدّته أكثر من أربعة أشهر حطّه إلى أربعة. ومن كانت مدّته أقلّ من أربعة أشهر رفعه إلى أربعة. وبعث في ذلك أبا بكر وعليا رحمهما الله، فقرأها علّى على الناس.
وقوله :﴿ فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ﴾
يقول : تفرقوا آمنين أربعة أشهر مدّتكم.
وقوله :﴿ وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾
تابع لقوله ( براءة ). وجعل لمن لم يكن له عهد خمسين يوما أجلا. وكل ذلك من يوم النحر.
وقوله :﴿ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم ﴾
استثناء في موضع نصب. وهم قوم من بنى كنانة كان قد بقى من أجلهم تسعة أشهر.
قال الله تبارك وتعالى :﴿ فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ ﴾ ؛ يقول : لا تحطّوهم إلى الأربعة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقوله :﴿ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ﴾
في الأشهر الحرم وغيرها في الحلّ والحرم.
وقوله :﴿ وَاحْصُرُوهُمْ ﴾ وحَصْرهم أَن يُمنعوا من البيت الحرام.
وقوله :﴿ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ﴾ يقول : على طُرُقهم إلى البيت ؛ فقام رجل من الناس حين قرئت ( براءة ) فقال : يابن أبى طالب، فمن أراد منا أن يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الأمر بعد انقضاء الأربعة فليس له عهد ؟ قال على : بلى، لأن الله تبارك وتعالى قد أنزل :﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مأمَنَهُ ﴾.

وقوله :﴿ فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ ﴾
عن الذين أجلهم خمسون ليلة. ﴿ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ﴾ ومعنى الأشهر الحرم : المحرّم وحده. وجاز أن يقول : الأشهر الحُرُم للمحرم وحده لأنه متّصل بذي الحجة وذي القعدة وهما حرام ؛ كأنه قال : فإذا انسلخت الثلاثة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقوله :﴿ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ﴾
في الأشهر الحرم وغيرها في الحلّ والحرم.
وقوله :﴿ وَاحْصُرُوهُمْ ﴾ وحَصْرهم أَن يُمنعوا من البيت الحرام.
وقوله :﴿ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ﴾ يقول : على طُرُقهم إلى البيت ؛ فقام رجل من الناس حين قرئت ( براءة ) فقال : يابن أبى طالب، فمن أراد منا أن يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الأمر بعد انقضاء الأربعة فليس له عهد ؟ قال على : بلى، لأن الله تبارك وتعالى قد أنزل :﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مأمَنَهُ ﴾.

وقوله :﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مأمَنَهُ ﴾
يقول : ردّه إلى موضعه ومأمنه.
وقوله :﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ ﴾ في موضع جزم وإن فُرِق بين الجازم والمجزوم ب ( أحد ). وذلك سهل في ( إِنْ ) خاصّة دون حروف الجزاء ؛ لأنها شرط وليست باسم، ولها عودة إلى الفتح فتلقى الاسم والفعل وتدور في الكلام فلا تعمل، فلم يحفِلوا أن يفرقوا بينها وبين المجزوم بالمرفوع والمنصوب. فأما المنصوب فمثل قولك : إنّ أخاك ضربتَ ظلمتَ. والمرفوع مثل قوله :﴿ إِنِ امْرُؤٌ هَلَك لَيْسَ له وَلَدٌ ﴾ ولو حوّلت ( هلك ) إلى ( إنْ يهلك ) لجزمته، وقال الشاعر :
فان أَنْتَ تفْعَلْ فللفاعلي ن أَنْتَ المجيزين تلك الغِمارا
ومن فرق بين الجزاء وما جزم بمرفوع أو منصوب لم يفرق بين جواب الجزاء وبين ما ينصب بتقدمة المنصوب أو المرفوع ؛ تقول : إنْ عبدُ الله يَقُمْ يَقُمْ أبوه، ولا يجوز أبوه يقم، ولا أن تجعل مكان الأب منصوبا بجواب الجزاء. فخطأ أن تقول : إن تأتني زيدا تَضْرِبْ. وكان الكسائي يجيز تقدمة النصب في جواب الجزاء، ولا يجوّز تقدمة المرفوع، ويحتجّ بأن الفعل إذا كان للأول عاد في الفعل راجعُ ذكرِ الأول، فلم يستقم إلغاء الأوّل. وأجازه في النصب ؛ لأن المنصوب لم يعد ذكره فيما نصبه، فقال : كأن المنصوب لم يكن في الكلام. وليس ذلك كما قال ؛ لأن الجزاء له جواب بالفاء. فإن لم يستقبل بالفاء استقبل بجزم مثله ولم يُلْقَ باسم، إلا أَنْ يضمر في ذلك الاسم الفاء. فإذا أضمرت الفاء ارتفع الجواب في منصوب الأسماء ومرفوعها لا غير. واحتجّ بقول الشاعر :
وللخيلِ أَيّامٌ فَمَنْ يَصْطَبِرْ لها ويَعْرِفْ لها أيامَها الْخَيْرَ تُعْقِب
فجعل ( الخير ) منصوبا ب ( تعقب ). ( والخير ) في هذا الموضع نعت للأيام ؛ كأنه قال : ويعرف لها أيامها الصالحة تعقب. ولو أراد أن يجعل ( الخير ) منصوبا ب ( تعقب ) لرفع ( تُعْقب ) لأنه يريد : فالخير تعقبه.
وقوله :﴿ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ ﴾
على التعجب ؛ كما تقول : كيف يُستبقىَ مثلك ؛ أي لا ينبغي أن يستبقى. وهو في قراءة عبد الله ( كيف يكون للمشركين عهد عند الله ولا ذمة ) فجاز دخول ( لا ) مع الواو لأن معنى أوّل الكلمة جحد، وإذا استفهمت بشيء من حروف الاستفهام فلك أن تَدَعه استفهاما، ولك أن تنوى به الجحد. من ذلك قولك : هل أنت إلاّ كواحد منا ؟ ! ومعناه : ما أنت إلا واحد منا، وكذلك تقول : هل أنت بذاهب ؟ فتدخل الباء كما تقول : ما أنت بذاهب. وقال الشاعر :
يقولُ إذا اقْلَوْلَى عليها وأَقْرَدَتْ أَلاَ هَلْ أَخُو عيشٍ لَذِيذٍ بدائم
وقال الشاعر :
فاذهَبْ فَأي فتى في الناس أَحرَزه من يومه ظُلَمٌ دُعْجٌ ولا جَبَل
فقال : ولا جبل، للجحد وأوّله استفهام ونِيَّته الجحد ؛ معناه ليس يحرزه من يومه شيء. وزعم الكسائي أنه سمع العرب تقول : أين كنت لتنجو منى، فهذه اللام إنما تدخل ل ( ما ) التي يراد بها الجحد ؛ كقوله :﴿ ما كانُوا لِيؤمِنوا ﴾، ﴿ وما كنا لِنَهْتَديَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانا الله ﴾.
وقوله :﴿ كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ ﴾
اكتفي ب ( كيف ) ولا فعل معها ؛ لأن المعنى فيها قد تقدّم في قوله :﴿ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ ﴾ وإذا أعيد الحرف وقد مضى معناه استجازوا حذف الفعل ؛ كما قال الشاعر :
وخبر تمانى أَنما الموتُ في القُرَى فكيف وهذى هَضْبَةٌ وكثيب
وقال الحطيئة :
فكيف ولم أَعْلَمْهُمُ خَذَلوكُمُ في مُعْظَِمٍ ولا أَدِيمَكُمُ قدُّوا
وقال آخر :
*** فهل إلى عَيْش يا نصابُ وهل ***
فأفرد الثانية لأنه يريد بها مثل معنى الأوّل.
وقوله :﴿ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ ﴾
ثم قال :﴿ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ﴾ معناه : فهم إخوانكم. يرتفع مثل هذا من الكلام بأن يضمر له اسمه مكنيّا عنه. ومثله ﴿ فإن لَمْ تَعْلَمُوا آباءهُم فإخْوَانُكُم ﴾ أي فهم إخوانكم. وفي قراءة أُبَىّ ( إِن تُعَذِّبْهُم فعِبَادُك ) أي فهم عبادك.
وقوله :﴿ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾
ذلك أن خُزَاعة كانوا حلفاء للنبي صلى الله عليه وسلم، وكانت الدِيل بن بكر حلفاء لبنى عبد شمس، فاقتتلت الدِيل وخزاعة، فأعانت قريش الديل على خزاعة، فذلك قوله :﴿ بَدَءُوكُم ﴾ أي قاتلوا حلفاءكم.
وقوله :﴿ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ ﴾
ثم جزم ثلاثة أفاعيل بعده يجوز في كلهن النصب والجزم والرفع.
ورفع قوله :﴿ ويَتُوبُ اللهُ ﴾ لأن معناه ليس من شروط الجزاء ؛ إنما هو استئناف ؛ كقولك للرجل : ايتنى أُعطك، وأُحِبُّك بعد، وأُكْرِمُكَ، استئناف ليس بشرط للجزاء. ومثله قول الله تبارك وتعالى :﴿ فإن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبك ﴾ تَمَّ الجزاء ها هنا، ثُمّ استأنف فقال :﴿ وَيَمْحُ اللَّهُ الباطلَ ويُحِقُّ الحَقَّ بكلماته ﴾.
وقوله :﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ ﴾
من الاستفهام الذي يتوسّط في الكلام فيجعل ب ( أم ) ليفرق بينه وبين الاستفهام المبتدأ الذي لم يتّصل بكلام. ولو أريد به الابتداء لكان إما بالألف وإما ب ( هل ) كقوله :﴿ هل أَتَى على الإنْسانِ حِينٌ من الدهر ﴾ وأشباهه.
وقوله :﴿ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ﴾ والوليجة : البطانة من المشركين يتّخذونهم فيُفْشون إليهم أسرارهم، ويعلمونهم أمورهم. فنهوا عن ذلك.
وقوله :﴿ ما كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله ﴾
وهو يعنى المسجد الحرام وحده. وقرأها مجاهد وعطاء بن أبى رَبَاح :( مَسْجِد الله ). وربما ذهبت العرب بالواحد إلى الجمع، وبالجمع إلى الواحد ؛ ألا ترى الرجل على البِرذَون فتقول : قد أخذتَ في ركوب البراذين، وترى الرجل كثير الدراهم فتقول : إنه لكثير الدرهم. فأدّى الجماع عن الواحد، والواحد عن الجمع. وكذلك قول العرب : عليه أخلاقُ نعلين وأخلاق ثوب ؛ وأنشدني أبو الجرَّاح العُقَيلىّ :
جاء الشتاء وقمِيصِي أخلاقْ شراذمٌ يضحكُ منه التوّاقْ
وقوله :﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ ﴾
ولم يقل : سُقَاة الحاجّ وعامرى... كمن آمن، فهذا مثل قوله :﴿ ولكِنّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِالله ﴾ يكون المصدر يكفي من الأسماء، والأسماء من المصدر إذا كان المعنى مستدَلاّ عليه بهما ؛ أنشدني الكسائي :
لعمرُك ما الفِتيان أن تنبُت اللِحَى ولكنما الفِتيانُ كلُّ فتى ندِى
فجعل خبر الفتيان ( أن ). وهو كما تقول : إنما السخاء حاتم، وإنما الشعر زُهَير.
وقوله :﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ ﴾
ثم قال :﴿ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ ﴾ فموضع الذين رفع بقوله : " أعظم درجة ". ولو لم يكن فيه ( أعظم ) جاز أن يكون مردودا بالخفض على قوله ( كمن آمن ). والعرب تردّ الاسم إذا كان معرفة على ( من ) يريدون التكرير. ولا يكون نعتا لأن ( من ) قد تكون معرفة، ونكرة، ومجهولة، ولا تكون نعتا ؛ كما أن ( الذي ) قد يكون نعتا للأسماء ؛ فتقول : مررت بأخيك الذي قام، ولا تقول : مررت بأخيك مَن قام. فلما لم تكن نعتا لغيرها من المعرفة لم تكن المعرفة نعتا لها ؛ كقول الشاعر :
لسنا كمن جعلَتْ إيادٍ دارها تكرِيتَ تنظُر حَبَّها أَن تَحْصُدا
إنما أراد تكرير الكاف على إياد ؛ كأنه قال : لسنا كإياد.
وقوله :﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ﴾
نصبت المواطن لأن كلّ جمع كانت فيه ألف قبلها حرفان وبعدها حرفان فهو لا يُجْرَى ؛ مثل صوامع، ومساجد، وقناديل، وتماثيل، ومحاريب. وهذه الياء بعد الألف لا يعتدّ بها ؛ لأنها قد تدخل فيما ليست هي منه، وتخرج مما هي منه، فلم يعتدّوا بها ؛ إذ لم تثبت كما ثبت غيرها. وإنما منعهم من إجرائه أنه مثال لم يأت عليه شيء من الأسماء المفردة، وأنه غاية للجِماع ؛ إذا انتهي الجماع إليه فينبغي له ألاّ يجمع. فذلك أيضا منعه من الانصراف ؛ ألا ترى أنك لا تقول : دراهمات، ولا دنانيرات، ولا مساجدات. وربّما اضطُرَّ إليه الشاعر فجمعه. وليس يوجد في الكلام ما يجوز في الشعر. قال الشاعر :
*** فهنّ يجمعن حدائداتِها ***
فهذا من المرفوض إلا في الشعر.
ونعت ( المواطن ) إذا لم يكن معتلاّ جرى. فلذلك قال :( كثيرةٍ ).
وقوله :﴿ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ﴾ وحُنَين وادٍ بين مكة والطائف. وجرى ( حنين ) لأنه اسم لمذكَّر. وإذا سمَّيت ماء أو واديا أو جبلا باسم مذكّر لا علّة فيه أجريته. من ذلك حنين، وبَدْر، وأُحُد، وحِراء، وثَبِير، ودابِق، وواسط. وإنما سمّي واسطا بالقصر الذي بناه الحجّاج بين الكوفة والبصرة. ولو أراد البلدة أو اسما مؤنّثا لقال : واسطة. وربما جعلت العرب واسط وحُنين وبدر، اسما لبلدته التي هو بها فلا يجرونه ؛ وأنشدني بعضهم :
نصروا نبِيَّهمُ وشَدّوا أَزْرَه بحُنَينَ يوم تواكُلِ الأَبطالِ
وقال الآخر :
ألسنا أكرم الثَّقَليْن رَجْلا وأعظمَه ببطن حِراء نارا
فجعل حراء اسما للبلدة التي هو بها، فكان مذكرا يسمى به مؤنّث فلم يُجْرَ. وقال آخر :
لقد ضاع قوم قلّدوك أمورَهم بدابِقَ إذ قيل العدوّ قريب
رأوا جسدا ضخما فقالوا مقاتل ولم يعلموا أن الفؤاد نخيب
ولو أردت ببدر البلدة لجاز أن تقول مررت ببدْرَ يا هذا.
وقوله :﴿ إِنَّما الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ﴾
لا تكاد العرب تقول : نِجْس إلا وقبلها رِجْس. فإذا أفردوها قالوا : نَجَس لا غير ؛ ولا يجمع ولا يؤنث. وهو مثل دَنَف. ولو أُنِّث هو ومثله كان صوابا ؛ كما قالوا : هي ضيفته وضيفه، وهي أخته سَوْغه وسَوْغته، وزوجه وزوجته.
وقوله :﴿ إِذْ أعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ ﴾. قال يومئذ رجل من المسلمين : والله لا نُغلب، وكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان المسلمون يؤمئذ عشرة آلاف، وقال بعض الناس : اثنى عشر الفا، فهزِموا هزيمة شديدة.
وهو قوله :﴿ وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ﴾ والباء هاهنا بمنزلة في ؛ كما تقول : ضاقت عليكم الأرض في رُحْبها وبرُحْبها. حدّثنا محمد قال حدّثنا الفرَّاء، قال : وحدّثني المفضل عن أبى إسحاق قال قلت للبراء بن عازب : يا أبا عُمارة أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ؟ قال : نعم والله حتى ما بقى معه منا إلا رجلان : أبو سفيان بن الحرث آخذا بلجامه، والعباس بن عبد المطلب عند ركابه آخذا بثَفْره، قال فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم كما قال لهم يوم بدر : شاهت الوجوه،
أنا النبي لا كذب *** أنا ابن عبد المطلب
قال : فمنحنا الله أكتافهم.
وقوله :﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً ﴾
يعنى فقرا. وذلك لما نزلت :﴿ إِنَّما الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هذا ﴾ خاف أهل مكة أن تنقطع عنهم المِيرة والتجارة. فأنزل الله عز وجل :﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً ﴾. فذكروا أن تَبَالة وجُرَش أخصبتا، فأغناهم الله بهما وأطعمهم من جوع وآمنهم من خوف.
وقوله :﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ ﴾
قرأها الثقات بالتنوين وبطرح التنوين. والوجه أن ينوَّن لأن الكلام ناقص ( وابن ) في موضع خبر لعزير. فوجه العمل في ذلك أن تنوِّن ما رأيت الكلام محتاجا إلى ابن. فإن اكتفي دون بن، فوجه الكلام ألا ينون. وذلك مع ظهور اسم أبى الرجل أو كنيته. فإذا جاوزت ذلك فأضفت ( ابن ) إلى مكنّى عنه ؛ مثل ابنك، وابنه، أو قلت : ابن الرجل، أو ابن الصالح، أدخلت النون في التامّ منه والناقص. وذلك أن حذف النون إنما كان في الموضع الذي يُجرى في الكلام كثيرا، فيستخفّ طرحها في الموضع الذي يستعمل. وقد ترى الرجل يذكر بالنسب إلى أبيه كثيرا فيقال : مِن فلان بن فلان إلى فلان بن فلان، فلا يجرى كثيرا بغير ذلك. وربما حذفت النون وإن لم يتمم الكلام لسكون الباء من ابن، ويستثقل النون إذ كانت ساكنة لقيت ساكنا، فحذفت استثقالا لتحريكها. قال : من ذلك قراءة القرّاء :( عُزَيْرُ ابن الله ). وأنشدني بعضهم :
لتجِدَنّي بالأمير بَرّا وبالقناة مِدْعَسا مِكَرَّا
*** إذا غُطَيْفُ السُلَمِىُّ فَرّا ***
وقد سمعت كثيرا من القراء الفصحاء يقرءون :﴿ قُلْ هُوَ اللّهُ أَحدُ اللّهُ الصَّمَدُ ﴾. فيحذفون النون من ( أحد ). وقال آخر :
كيف نومي على الفراش ولما تشمِل الشامَ غارةٌ شعواء
تُذْهل الشيخَ عن بنيه وتُبْدِى عن خِدَامِ العَقِيلةُ العذراء
أراد : عن خدامٍ، فحذف النون للساكن إذا استقبلتها. وربما أدخلوا النون في التمام مع ذكر الأب ؛ أنشدني بعضهم :
جارية من قيس ابن ثعلبة كأنها حلْيَةُ سيف مُذْهَبه
وقال آخر :
وإلا يكن مال يثاب فإنه سيأتي ثنائي زيدا ابنَ مُهَلهِل
وكان سبب قول اليهود : عُزَير ابن الله أن بُخْتَ نَصَّرَ قَتَل كلّ من كان يقرأ التوراة، فأُتِىَ بعُزَير فاستصغره فتركه. فلما أحياه الله أتته اليهود، فأملى عليهم التوراة عن ظهر لسانه. ثم إن رجلا من اليهود قال : إن أبى ذكر أن التوراة مدفونة في بستان له، فاستخرِجت وقوبل بها ما أملَى عزير فلم يغادر منها حرفا. فقالت اليهود : ما جمع الله التوراة في صدر عُزَير وهو غلام إلا وهو ابنه - تعالى الله عما يقولون علوّا كبيرا -.
وقوله :﴿ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ﴾. وذُكِر أن رجلا دخل في النصارى وكان خبيثا منكَرا فلبَّس عليهم، وقال : هو هو. وقال : هو ابنه، وقال : هو ثالث ثلاثة. فقال الله تبارك وتعالى في قولهم ثالث ثلاثة :﴿ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ في قولهم : اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى.
وقوله :﴿ اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ ﴾
قال : لم يعبدوهم، ولكن أطاعوهم فكانت كالربوبية.
وقوله :﴿ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ ﴾
دخلت ( إِلاّ ) لأن في أَبيت طَرَفا من الجحد ؛ ألا ترى أن ( أبيت ) كقولك : لم أفعل، ولا أفعل، فكأنه بمنزلة قولك : ما ذهب إلا زيد. ولولا الجحد إذا ظهر أو أتى الفعل محتمِلا لضميره لم تُجِزْ دخول إلاّ ؛ كما أنك لا تقول : ضربت إلا أخاك، ولا ذهب إلا أخوك. وكذلك قال الشاعر :
وهل لِي أُمّ غيرها إِن تركتها أَبى اللّهُ إِلا أن أكون لها ابنما
وقل الآخر :
إيَاداً وأنمارها الغالبين إلاَّ صدودا وإلا ازوِرارا
أراد : غلبوا إلا صدودا وإلا ازورارا، وقال الآخر :
واعتلّ إلا كل فرع معرق مثلك لا يعرف بالتلهوق
فأدخل ( إلا ) لأن الاعتلال في المنع كالإباء. ولو أراد عِلّة صحيحة لم تدخل إلا ؛ لأنها ليس فيها معنى جحد. والعرب تقول : أعوذ بالله إلا منك ومن مثلك ؛ لأن الاستعاذة كقولك : اللهم لا تفعل ذا بي.
وقوله :﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾
ولم يقل : ينفقونهما. فإن شئت وجَّهت الذهب والفضة إلى الكنوز فكان توحيدها من ذلك. وإن شئت اكتفيت بذكر أحدهما من صاحبه ؛ كما قال :﴿ وإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها ﴾ فجعله للتجارة، وقوله :﴿ وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْما ثُمَّ يَرْمِ بِه بَرِيئاً ﴾ فجعله - والله أعلم - للإثم، وقال الشاعر في مثل ذلك :
نحن بما عندنا وأنت بما عن دك راضٍ والرأي مختلِف
ولم يقل : راضون، وقال الآخر :
إني ضمنت لمن أتاني ما جنى وأبى وكان وكنت غير غدور
ولم يقل : غَدورين، وذلك لاتفاق المعنى يُكتفي بذكر الواحد. وقوله :﴿ والله ورَسُولُهُ أحَقُ أن يُرْضُوهُ ﴾ إن شئت جعلته من ذلك : مما اكتفي ببعضه من بعض، وإن شئت جعلت الله تبارك وتعالى في هذا الموضع ذُكِر لتعظيمه، والمعنى للرسول صلى الله عيه وسلم ؛ كما قال :﴿ وإِذْ تَقُولُ لِلّذِي أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ ﴾ ألا ترى أنك قد تقول لعبدك : قد أعتقك الله وأعتقتك، فبدأتَ بالله تبارك وتعالى تفويضا إليه وتعظيما له، وإنما يقصد قَصْد نفسه.
وقوله :﴿ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلك الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ﴾
جاء التفسير : في الاثنى عشر. وجاء ( فيهن ) : في الأشهر الحرم ؛ وهو أشبه بالصواب - والله أعلم - ليتبين بالنهي فيها عِظَمُ حُرْمتها ؛ كما قال :﴿ حافِظُوا على الصَّلَوَاتِ ﴾ ثم قال :﴿ والصَّلاَةِ الوُسْطَى ﴾ فعظِّمت، ولم يرخص في غيرها بترك المحافظة. ويدلّك على أنه للأربعة - والله أعلم - قوله :( فيهن ) ولم يقل ( فيها ). وكذلك كلام العرب لِما بين الثلاثة إلى العشرة تقول : لثلاث ليال خلون، وثلاثة أيام خلون إلى العشرة، فإذا جُزْت العشرة قالوا : خلت، ومضت. ويقولون لما بين الثلاثة إلى العشرة ( هنّ ) و ( هؤلاء ) فإذا جزت العشرة قالوا ( هي، وهذه ) إرادة أن تعرف سِمة القليل من الكثير. ويجوز في كل واحد ما جاز في صاحبه ؛ أنشدني أبو القمقام الفقعسىّ :
أصبحن في قَرْحٍ وفي داراتها سبع ليال غير معلوفاتها
ولم يقل : معلوفاتهن وهي سبع، وكل ذلك صواب، إلا أن المُؤْثَر ما فسَّرت لك. ومثله :﴿ وقال نِسْوَةٌ في الْمَدِينَة ﴾ فذكَّر الفعل لقلَّة النسوة ووقوع ( هؤلاء ) عليهن كما يقع على الرجال. ومنه قوله :﴿ فإذا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ ﴾ ولم يقل : انسلخت، وكلٌّ صواب. وقال الله تبارك وتعالى :﴿ إِنَّ السّمْعَ والْبَصَرَ والْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ ﴾ لقلّتهن ولم يقل ( تلك ) ولو قيلت كان صوابا.
وقوله :﴿ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً ﴾
يقول : جميعا. والكافّة لا تكون مذكّرة ولا مجموعة على عدد الرجال فتقولَ : كافّين، أو كافّات للنسوة، ولكنها ( كافّة ) بالهاء والتوحيد في كل جهة ؛ لأنها وإن كانت على لفظ ( فاعلة ) فإنها في مذهب مصدر ؛ مثل الخاصَّة، والعاقبة، والعافية. ولذلك لم تُدخل فيها العرب الألف واللام لأنها آخر الكلام مع معنى المصدر. وهي في مذهب قولك : قاموا معا وقاموا جميعا ؛ ألا ترى أن الألف واللام قد رُفِضت في قولك : قاموا معا، وقاموا جميعا، كما رفضوها في أجمعين وأكتعين وكلهم إذ كانت في ذلك المعنى. فإن قلت : فإن العرب قد تدخل الألف واللام في الجميع، فينبغي لها أن تدخل في كافة وما أشبهها، قلت : لأن الجميع على مذهبين، أحدهما مصدر، والآخر اسم، فهو الذي شبّه عليك. فإذا أردت الجميع الذي في معنى الاسم جمعته وأدخلت فيه الألف واللام ؛ مثل قوله :﴿ وإِنا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ ﴾، وقوله :﴿ سَيُهزَمُ الجَمْعُ ويُوَلُّون الدُّبُرَ ﴾ وأما الذي في معنى معا وكافّة فقولك للرجلين : قاما جميعا، وللقوم : قاموا جميعا، وللنسوة : قمن جميعا، فهذا في معنى كلّ وأجمعين، فلا تدخِلْه ألفا ولاما كما لم تدخل في أجمعين.
وقوله :﴿ إِنَّما النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ ﴾
كانت العرب في الجاهلية إذا أرادوا الصَدَر عن مِنىً قام رجل من بنى كنانة يقال له ( نُعَيم بن ثعلبة ) وكان رئيس الموسم، فيقول : أنا الذي لا أعاب ولا أجاب ولا يردّ لي قضاء. فيقولون : صدقت، أنسئنا شهرا، يريدون : أخِّرْ عنا حرمة المحرم واجعلها في صفر، وأحِلّ المحرم، فيفعل ذلك. وإنما دعاهم إلى ذاك توالى ثلاثةِ أشهر حُرُم لا يُغيرون فيها، وإنما كان معاشهم من الإغارة، فيفعل ذلك عاما، ثم يرجع إلى المحرم فيحرِّمه ويحلّ صَفَرا، فذلك الإنساء. تقول إذا أخرت الرجل بدَينه : أنسأته، فإذا زدت في الأجل زيادة يقع عليها تأخير قلت : قد نسأت في أيامك وفي أَجَلك، وكذلك تقول للرجل : نسأ الله في أجلك ؛ لأن الأجل مزيد فيه. ولذلك قيل للَّبن ( نسأته ) لزيادة الماء فيه، ونُسئت المرأة إذا حبِلت أي جعل زيادة الولد فيها كزيادة الماء في اللبن، وللناقة : نسأتها، أي زجرتها ليزداد سيرها. والنسيء المصدر، ويكون المنسوءَ مثل القتيل والمقتول.
وقوله :﴿ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ قرأها ابن مسعود ( يُضَلّ به الذين كفروا ) وقرأها زيد بن ثابت ( يَضِلُّ ) يجعل الفعل لهم، وقرأ الحسن البصري ( يُضِلّ به الذين كفروا )، كأنه جعل الفعل لهم يُضِلّون به الناس وينسئونه لهم.
وقوله :﴿ لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ ﴾ يقول : لا يخرجون من تحريم أربعة.
وقوله :﴿ ما لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ ﴾
معناه والله أعلم :( تثاقلتم ) فإذا وصلتها العرب بكلام أدغموا التاء في الثاء ؛ لأنها مناسبة لها، ويحدثون ألِفا لم يكن ؛ ليبنوا الحرف على الإدغام في الابتداء والوصل. وكأن إحداثهم الألف ليقع بها الابتداء، ولو حذفت لأظهروا التاء لأنها مبتدأة، والمبتدأ لا يكون إلا متحركا. وكذلك قوله :﴿ حتى إِذا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً ﴾، وقوله :﴿ وَازّيّنَتْ ﴾ المعنى - والله أعلم - : تزينت، و﴿ قَالُوا اطَّيّرْنا ﴾ معناه : تطيرنا. والعرب تقول :( حتى إِذا اداركوا ) تجمع بين ساكنين : بين التاء من تداركوا وبين الألف من إذا. وبذلك كان يأخذ أبو عمرو بن العلاء ويردّ الوجه الأوّل، وأنشدني الكسائي :
تُولِى الضجيع إذا ما استافها خَصِرا عَذْبَ المذاق إذا ما اتّابع القْبَل
وقوله :﴿ وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى ﴾
فأوقع ( جعل ) على الكلمة، ثم قال :﴿ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ﴾ على الاستئناف، ولم تُرَد بالفعل. وكلمة الذين كفروا الشرك بالله، وكلمة الله قول ( لا إله إلا الله ). ويجوز ( وكلمةَ الله هي العليا ) ولست أستحبّ ذلك لظهور الله تبارك وتعالى ؛ لأنه لو نصبها - والفعل فعله - كان أجود الكلام أن يقال : " وكلمته هي العليا " ؛ ألا ترى أنك تقول : قد أعتق أبوك غلامه، ولا يكادون يقولون : أعتق أبوك غلام أبيك. وقال الشاعر في إجازة ذلك :
متى تأتِ زيدا قاعدا عِند حوضه لِتهدِم ظلما حوض زيد تقارع
فذكر زيدا مرَّتين ولم يَكْنِ عنه في الثانية، والكناية وجه الكلام.
وقوله :﴿ انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً ﴾
يقول : لينفر منكم ذو العيال والميسرة، فهؤلاء الثقال. والخفاف : ذوو العسرة وقلّة العيال. ويقال :﴿ انْفِرُواْ خِفَافاً ﴾ : نِشاطا ( وثِقالا ) وإن ثقل عليكم الخروج.
وقوله :﴿ لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ ﴾
أي ﴿ لاَ يَسْتَأْذِنُكَ ﴾ بعد غزو تبوك في جهادٍ ﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ ﴾ به.
ثم قال :﴿ إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ ﴾ بعدها ﴿ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾.
وقوله :﴿ ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ ﴾
الإيضاع : السير بين القوم. وكتبت بلام ألف وألف بعد ذلك، ولم يكتب في القرآن لها نظير. وذلك أنهم لا يكادون يستمرون في الكتاب على جهة واحدة ؛ ألا ترى أنهم كتبوا ﴿ فَما تُغْنِ النُّذُرُ ﴾ بغير ياء، ﴿ وما تُغْنِى الآيَاتُ والنُّذُرُ ﴾ بالياء، وهو من سوء هجاء الأوّلين. ﴿ ولأَوْضَعُواْ ﴾ مجتمع عليه في المصاحف. وأما قوله ﴿ أَوْ لاَ أَذْبَحَنَّهُ ﴾ فقد كتبت بالألف وبغير الألف. وقد كان ينبغي للألف أن تحذف من كله ؛ لأنها لام زيدت على ألف ؛ كقوله : لأخوك خير من أبيك ؛ ألا ترى أنه لا ينبغي أن تكتب بألف بعد لام ألف. وأما قوله ﴿ لا انْفِصَامَ لَها ﴾ فتكتب بالألف ؛ لأن ( لا ) في ( انفصام ) تبرئة، والألف من ( انفصام ) خفيفة. والعرب تقول : أوضع الراكب ؛ ووضعت الناقة في سيرها. وربما قالوا للراكب وضع ؛ قال الشاعر :
إني إذا ما كان يوم ذو فزَعْ ألفيتني محتملا بِذي أضع
وقوله :﴿ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ ﴾ المعنى : يبغونها لكم. ولو أعانوهم على بُغائها لقلت : أبغيتك الفتنة. وهو مثل قولك : أَحلِبنى واحلُبنى.
وقوله :﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي... ﴾
وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجدَ بن قيس : هل لك في جِلاد بنى الأصفر ؟ - يعنى الروم - وهي غزوة تبوك، فقال جدّ : لا، بل تأذن لي، فأتخلفُ ؛ فإني رجل كلِف بالنساء أخاف فتنة بنات الأصفر. وإنما سمي الأصفر لأن حبشيا غلب على ناحية الروم وكان له بنات قد أخذن من بياض الروم وسواد الحبشة فكن صفرا لُعسا. فقال الله تبارك وتعالى ﴿ أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ ﴾ في التخلف عنك. وقد عُذِل المسلمون في غزوة تبوك وثقل عليهم الخروج لبعد الشقة، وكان أيضا زمان عسرة وأدرك الثمار وطاب الظل، فأحبّوا الإقامة، فوبَّخهم الله.
فقال عز وجل :( يأيّها الّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ اْنفِرُوا في سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلتُمْ ).
ووصف المنافقين فقال :( لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتَّبعوك ).
وقوله :﴿ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ﴾
الظفرَ أو الشهادة، فهما الحسنيان. والعرب تدغم اللام من ( هل ) و ( بل ) عند التاء خاصة. وهو في كلامهم عالٍ كثير ؛ هَلْ تدرى، وهتَّدْرِي. فقرأها القراء على ذلك، وإنما أستحبُّ في القراءة خاصَّة تبيان ذلك، لأنهما منفصلان ليسا من حرف واحد، وإنما بنى القرآن على الترسّل والترتيل وإشباع الكلام ؛ فتبيانه أحب إلىّ من إدغامه، وقد أدغم القرّاء الكبار، وكلٌّ صواب.
وقوله :﴿ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْها ﴾
وهو أمر في اللفظ وليس بأمر في المعنى ؛ لأنه أخبرهم أنه لن يتقبّل منهم. وهو في الكلام بمنزلة إنْ في الجزاء ؛ كأنك قلت : إنْ أنفقت طوعا أو كرها فليس بمقبول منك. ومثله ﴿ استغفِر لهم أو لا تستغفِر لهم ﴾ ليس بأمر، إنما هو على تأويل الجزاء. ومثله قول الشاعر :
أسِيئ بنا أو أحسنى لا ملومةٌ لدينا ولا مَقْلِيّةٌ إن تقلّتِ
وقوله :﴿ وَما مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ ﴾
( أنهم ) في موضع رفع لأنه اسم للمنع ؛ كأنك قلت : ما منعهم أن تقبل منهم إلا ذاك. و( أن ) الأولى في موضع نصب. وليست بمنزلة قوله :﴿ وَما أرسلنا قَبْلَكَ مِن الْمُرْسَلِينَ إلاّ إنّهُمْ لَيَأْكُلُونَ ﴾ هذه فيها واو مضمرة، وهي مستأنفة ليس لها موضع. ولو لم يكن في جوابها اللام لكانت أيضا مكسورة ؛ كما تقول : ما رأيت منهم رجلا إلا إنه لَيُحْسِن، وإلاّ إنه يحسن. يعرِّف أنها مستأنفة أن تضع ( هو ) في موضعها فتصلح ؛ وذلك قولك : ما رأيت منهم رجلا إلا هو يفعل ذلك. فدلّت ( هو ) على استئناف إنّ.
وقوله :﴿ فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾
معناه : فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا. هذا معناه، ولكنه أخِّر ومعناه التقديم - والله أعلم - لأنه إنما أراد : لا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة. وقوله ﴿ وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾ أي تخرج أنفسهم وهم كفّار. ولو جعلت الحياة الدنيا مؤخّرة وأردت : إنما يريد الله ليعذبهم بالإنفاق كرها ليعذبهم بذلك في الدنيا، لكان وجها حسنا.
وقوله :﴿ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً ﴾ - أي حرزا - ﴿ أَوْ مَغَارَاتٍ ﴾... }
وهي الغِيران ؛ واحدها غار في الجبال ﴿ أَوْ مُدَّخَلاً ﴾ يريد : سَرَبا في الأرض.
﴿ لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ ﴾ مسرعين ؛ الجمح ها هنا : الإسراع.
وقوله :﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ ﴾
يقول : بعيبك، ويقولون : لا يقسم بالسَّوِيَّة.
﴿ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْها رَضُواْ ﴾ فلم يعيبوا.
ثم إن الله تبارك وتعالى بيَّن لهم لمن الصدقات.
وقوله :﴿ إِنَّما الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء ﴾
وهم أهل صُفَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا لا عشائر لهم، كانوا يلتمسون الفضل بالنهار، ثم يأوون إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء الفقراء.
﴿ وَالْمَسَاكِينِ ﴾ : الطوَّافين على الأبواب ﴿ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْها ﴾ وهم السعاة.
﴿ وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ﴾ وهم أشراف العرب، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم ليجترَّ به إسلام قومهم.
﴿ وَفِي الرِّقَابِ ﴾ يعنى المكاتَبين ﴿ وَالْغَارِمِينَ ﴾ : أصحاب الدَّيْن الذين ركِبهم في غير إفساد.
﴿ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ : الجهاد ﴿ وَابْنِ السَّبِيلِ ﴾ : المنقطَع به، أو الضيف.
﴿ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ﴾ نصب على القطع. والرفع في ( فريضة ) جائز لو قرئ به. وهو في الكلام بمنزلة قولك : هو لك هبةً وهبةٌ، وهو عليك صدقةً وصدقةٌ، والمال بينكما نصفين ونصفان، والمال بينكما شِقَّ الشَعرَة وشقٌّ....
وقوله :﴿ وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ ﴾
اجتمع قوم على عَيب النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فيقول رجل منهم : إن هذا يبلِّغ محمدا - صلى الله عليه وسلم - فيقع بنا، ف ﴿ وَيِقُولُونَ ﴾ : إنما ﴿ هُوَ أُذُنٌ ﴾ سامعة إذا أتياناه صدّقَنا، فقولوا ما شئتم. فأنزل الله عز وجل ﴿ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ ﴾ أي كما تقولون، ولكنه لا يصدّقكم، إنما يصدِّق المؤمنين.
وهو قوله :﴿ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ ﴾ : يصدق بالله. ﴿ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ : يصدّق المؤمنين. وهو كقوله :﴿ لِلّذينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ﴾ أي يرهبون ربهم.
وأما قوله :﴿ والّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ فمتصل بما قبله. وقوله ﴿ ورَحْمةٌ للّذِينَ آمَنُوا ﴾ إن شئت خفضتها تتبعها لخير، وإن شئت رفعتها أتبعتها الأذن. وقد يقرأ :( قُلْ أُذُنٌ خَيْرٌ لَكُمْ ) كقوله : قل أذن أفضل لكم ؛ و( خَيْر ) إذا خفض فليس على معنى أفضل ؛ إذا خفضت ( خير ) فكأنك قلت : أذن صلاح لكم، وإذا قلت :( أذنٌ خير لكم )، فإنك قلت : أذن أصلح لكم. ولا تكون الرحمة إذا رفعت ( خير ) إلا رفعا. ولو نصبت الرحمة على غير هذا الوجه كان صوابا :( يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين، ورحمةً ) يفعل ذلك. وهو كقوله :﴿ إِنا زَيّنا السَّماء الدّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ. وَحِفْظاً ﴾.
وقوله :﴿ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ ﴾
وحّدَ ( يرضوه ) ولم يقل : يرضوهما ؛ لأن المعنى - والله أعلم - بمنزلة قولك : ما شاء الله وشئتُ ؛ إنما يقصد بالمشيئة قصدُ الثاني، وقوله : " ما شاء الله " تعظيم لله مقدّم قبل الأفاعيل ؛ كما تقول لعبدك : قد أعتقك الله وأعتقتُك، وإن شئت أردت : يرضوهما فاكتفيت بواحد : كقوله :
نحن بما عندنا وأنت بما عن دك راض والرأي مختلف
ولم يقل : راضون.
وقوله :﴿ إِن نَّعْفُ عَن طَائفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائفَةً ﴾
والطائفة واحد واثنان، وإنما نزل في ثلاثة نفر استهزأ رجلان برسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن، وضحك إليهما آخر، فنزل ﴿ إِن نَّعْفُ عَن طَائفَةٍ ﴾ يعنى الواحد الضحاك ﴿ نُعَذِّبْ طَائفَةً ﴾ يعنى المستهزئَينِ. وقد جاء ﴿ ولْيَشْهَدْ عَذَابَهُما طَائفَةٌ ﴾ يعنى واحدا. ويقرأ : " إن يُعْفَ عن طائفة منكم تُعَذّب طائفةٌ ". و " إن يُعْفَ... يُعَذّب طائفَة ".
وقوله :﴿ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ ﴾
يمسكون عن النفقة على النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله :﴿ كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ﴾
أي فعلتم كأفعال الذين من قبلكم.
وقوله :﴿ فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ ﴾. يقول : رضوا بنصيبهم في الدنيا من أنصبائهم في الآخرة.
وقوله :﴿ فَاسْتَمْتَعْتُمْ ﴾ أي أردتم ما أراد الذين من قبلكم.
وقوله :﴿ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ ﴾ يريد : كخوضهم الذي خاضوا.
وقوله :﴿ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ ﴾
يقال : إنها قَرَيات قوم لوط وهود وصالح. ويقال : إنهم أصحاب لوط خاصَّة. جُمعوا بالتاء على قوله :﴿ والْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى ﴾. وكأنّ جمعهم إذ قيل ﴿ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ ﴾ على الشِيَع والطوائف ؛ كما قيل : قتلت الفُدَيكات، نسبوا إلى رئيسهم أبى فديك.
وقوله :﴿ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾
رفع بالأكبر، وعُدِل عن أن يُنْسَق على ما قبله وهو مما قد وعدهم الله تبارك وتعالى، ولكنه أوثر بالرفع لتفضيله ؛ كما تقول في الكلام : قد وصلتك بالدراهم والثياب، وحُسْنُ رأيي خير لك من ذلك.
وقوله :﴿ وَما نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ ﴾
هذا تعيير لهم ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدِم على أهل المدينة وهم محتاجون، فأَثْرَوا من الغنائم، فقال : وما نقموا إلا الغِنى ف ( أنْ ) في موضع نصب.
وقوله :﴿ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ ﴾
يراد به : المتطوعين فأدغم التاء عند الطاء فصارت طاء مشددة. وكذلك ( ومن يَطَّوَّعْ خَيْرا )، ( والْمُطَّهِّرِينَ ).
ولمزهم إياهم : تنقُّصُهم ؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حثّ الناس على الصدقة، فجاء عمر بصدقة ؛ وعثمان بن عفّان بصدقة عظيمة، وبعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ؛ ثم جاء رجل يقال له أبو عُقَيل بصاع من تمر، فقال المنافقون : ما أخرج هؤلاء صدقاتهم إلا رِياء، وأما أبو عقيل فإنما جاء بصاعه ليُذْكر بنفسه، فأنزل الله تبارك وتعالى :﴿ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ ﴾ يعنى المهاجرين ﴿ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ ﴾. يعنى أبا عُقَيل. والجُهْد لغة أهل الحجاز والوُجْد، ولغة غيرهم الجَهْد والوَجْد.
وقوله :﴿ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ ﴾
من الرجال، خلوف وخالفون، والنساء خوالف : اللاتي يخلُفن في البيت فلا يبرحن. ويقال : عبد خالف، وصاحب خالف : إذا كان مخالفا.
وقوله :﴿ وَجَاء الْمُعَذِّرُونَ ﴾
وهم الذين لهم عُذْر. وهو في المعنى المعتذرون، ولكن التاء أدغمت عند الذال فصارتا جميعا ( ذالا ) مشدّدة، كما قيل يذّكَّرون ويذَّكَّر. وهو مثل ( يخَصِّمونَ ) لمن فتح الخاء، كذلك فتحت العين لأن إعراب التاء صار في العين ؛ كانت - والله أعلم - المعتذرون. وأما المعذِّر على جهة المُفَعِّل فهو الذي يعتذر بغير عذر ؛ حدّثنا محمد قال حدّثنا الفراء قال : وحدّثني أبو بكر بن عَيَّاش عن الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس، وأبو حفص الخرَّاز عن جُوَيبر عن الضحاك عن ابن عباس أنه قرأ :( المُعْذِرون )، وقال : لعن الله المعذِّرين ؛ ذهب إلى من يعتذر بغير عذر، والمُعْذِر : الذي قد بلغ أقصى العذر. والمعتذر قد يكون في معنى المُعْذِر، وقد يكون لا عذر له. قال الله تبارك وتعالى في الذي لا عذر له :﴿ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ ﴾.
وقوله :﴿ حَزَنا أَلاَّ يَجِدُواْ ﴾
( يَجِدُوا ) في موضع نصب بأن، ولو كانت رفعا على أن يجعل ( لا ) في مذهب ( ليس ) كأنك قلت : حزنا أن ليس يجدون ما ينفقون، ومثله. قوله :﴿ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنْ لاَ يَرْجِعُ إلَيْهمْ قَوْلاً ﴾. وقوله :﴿ وحَسِبُوا أَنْ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾.
وكلّ موضع صلحت ( ليس ) فيه في موضع ( لا ) فلك أن ترفع الفعل الذي بعد ( لا ) وتنصبه.
وقوله :﴿ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ ﴾
ثم قال :( لاَ تَعْتَذِرُوا ) لا عذر لكم. وقال لَبِيد في معنى الاعتذار بالأعذار إذا جعلهما واحدا :
وقُوما فقولا بالذي قد علمتما ولا تخمِشا وجها ولا تحلقا الشعر
إلى الحول ثم اسمُ السلام عليكما ومَنْ يبكِ حولا كاملا فقد اعتذر
يريد : فقد أعذر.
وقوله :﴿ الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً ﴾
نزلت في طائفة من أعراب أَسَد وغَطَفان وحاضرى المدينة. و( أجدر ) كقولك : أحرى، وأخلق.
﴿ وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ ﴾ موضع ( أن ) نصب. وكل موضع دخلت فيه ( أن ) والكلام الذي قبلها مكتفٍ بما خَفَضه أو رفعه أو نصبه ف ( أن ) في موضع نصب ؛ كقولك : أتيتك أنّك محسن، وقمت أنك مسيء، وثَبَتُّ عنك أنك صديق وصاحب. وقد تبين لك أن ( أن ) في موضع نصب ؛ لأنك تضع في موضع ( أن ) المصدر فيكون نصبا ؛ ألا ترى أنك تقول : أتيتك إحسانَك، فدلّ الإحسان بنصبه على نصب أن. وكذلك والآخران.
وأما قوله :﴿ وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ ﴾ فإن وضعك المصدر في موضع ( أن ) قبيح ؛ لأن أخلق وأجدر يطلبن الاستقبال من الأفاعيل فكانت ب ( أن ) تبين المستقبل، وإذا وضعت مكان ( أن ) مصدرا لم يتبّين استقباله، فذلك قبح. و( أن ) في موضع نصب على كل حال ؛ ألا ترى أنك تقول : أظن أنك قائم فتقضى على ( أن ) بالنصب، ولا يصلح أن تقول : أظن قيامك، فأظن نظير لخليق ولعسى ( وجدير ) وأجدر وما يتصرف منهن في ( أن ).
وقوله :﴿ وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائرَ ﴾
يعنى : الموت والقتل.
يقول الله تبارك وتعالى :﴿ عَلَيْهِمْ دَائرَةُ السَّوْءِ ﴾ وفتح السين من ( السوء ) هو وجه الكلام، وقراءة أكثر القرَّاء. وقد رفع مجاهد السين في موضعين : ها هنا وفي سورة الفتح، فمن قال : " دائرة السَّوء " فإنه أراد المصدر من سؤته سوءا ومساءة ومَسَائية وسوائية، فهذه مصادر. وَمن رفع السين جعله اسما ؛ كقولك : عليه دائرة البلاء والعذاب. ولا يجوز ضم العين في قوله :﴿ ما كان أبوكِ امرَأَ سَوْء ﴾ ولا في قوله :﴿ وظننتُمْ ظَنَّ السَّوْء ﴾ لأنه ضدّ لقولك : هذا رجلُ صِدق، وثوبُ صدق. فليس للسوء ها هنا معنى في عذاب ولا بلاء، فيضم.
وقوله :﴿ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ ﴾
إن شئت خفضت الأنصار تريد : من المهاجرين ومن الأنصار. وإن شئت رفعت ( الأنصار ) يَتبعهم قوله :( والسابقون )، وقد قرأها الحسن البصري :( والذين أتبعوهم بإحسان ) : من أحسن من بعدهم إلى يوم القيامة. ورفعت ( السابقون والذين اتبعوهم ) بما عاد من ذكرهم في قوله رضي الله عنهم.
وقوله :﴿ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ على النِّفَاقِ ﴾
ومَرَنوا عليهِ مَرُووا عليه ؛ كقولك : تمردوا.
وقوله :﴿ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ﴾. فقال بالقتل وعذاب القبر.
وقوله :﴿ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحا ﴾
يقول : خرجوا إلى بدر فشهدوها. ويقال : العمل الصالح توبتهم من تخلَفهم عن غزوة تَبُوكَ.
﴿ وَآخَرَ سَيِّئاً ﴾ : تخلّفهم يوم تبوك ﴿ عَسَى اللَّهُ ﴾ عسى من الله واجب إن شاء الله. وكان هؤلاء قد أوثقوا أنفسهم بسَوَارِي المسجد، وحلفوا ألا يفارقوا ذلك حتى تنزل توبتهم، فلما نزلت قالوا : يا رسول الله خذ أموالنا شكرا لتوبتنا، فقال : لا أفعل حتى ينزل بذلك علي قرآن. فأنزل الله عز وجل : قوله ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ﴾.
قوله :﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ﴾
فأخذ بعضا.
ثم قال :﴿ تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ﴾ : استغفر فهم، فإن استغفارك لهم تسكن إليه قلوبهم، وتطمئن بأن قد تاب الله عليهم. وقد قرئت ( صلواتك ). والصلاة أكثر.
وقوله :﴿ وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ ﴾
هم ثلاثة نَفَرٍ مسمَّون، تخلَّفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فلما رجع قال : " ما عذركم " ؟ قالوا : لا عذر لنا إلا الخطيئة، فكانوا موقوفين حتى نزلت توبتهم في.
وقوله :﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً ﴾
هم بنو عمرو بن عوف من الأنصار، بنَوا مسجدهم ضرارا لمسجد قُبَاء. ومسجد قباء أول مسجد بنى على التقوى. فلما قدِم النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أمر بإحراق مسجد الشقاق وهدمه.
وقوله :﴿ لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً ﴾
يعنى مسجد بنى عمرو. ثم انقطع الكلام فقال :﴿ لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ على التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ ﴾. ثم قال :( فيه رجال ) الأولى صلة لقوله :( تقوم ) والثانية رَفَعت الرجال.
وقوله :﴿ أُسِّسَ ﴾
و( أُسِّسَ ) ويجوز أساس، وآساس. ويخيَّل إلىّ أنى قد سمعتها في القراءة.
وقوله :﴿ لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ ﴾
يعنى مسجد النفاق ( رِيبَةً ) يقال : شكّا ( إلا أن تَقَطَّع ) و ( تُقَطَّع ) معناه : إلا أن يموتوا. وقرأ الحسن ( إلى أن تَقَطَّع ) بمنزلة حتَّى، أي حتى تَقَطَّع. وهي في قراءة عبد الله ( ولو قُطِّعت قلوبُهم ) حجة لمن قال ( إلا أن تقطع ) بضم التاء.
وقوله :﴿ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ﴾
قراءة أصحاب عبد الله يقدّمون المفعول به قبل الفاعل. وقراءة العوام :( فَيَقْتُلون ويُقْتَلون ).
وقوله :﴿ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً ﴾ خاج من قوله :﴿ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّةَ ﴾ وهو كقولك : على ألف درهم عِدّةً صحيحةً، ويجوز الرفع لو قيل.
وقوله :﴿ التَّائبُونَ الْعَابِدُونَ ﴾
استؤنفت بالرفع لتمام الآية قبلها وانقطاع الكلام، فحسن الاستئناف. وهي في قراءة عبد الله " التائبين العابدين " في موضع خفض ؛ لأنه نعت للمؤمنين : اشترى من المؤمنين التائبين. ويجوز أن يكون ( التائبين ) في موضع نصب على المدح ؛ كما قال :
لا يَبْعَدَنْ قومي الذين هُم سُمّ العُدَاة وآفَةُ الجُزْرِ
النازلين بكل معتَرك والطيّبينَ معاقِدَ الأزْر
وقوله :﴿ وَما كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْما بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ ﴾
سأل المسلمون النبي صلى الله عليه وسلم عمّن مات من المسلمين وهو يصلّى إلى القبلة الأولى، ويستحلّ الخمر قبل تحريمها، فقالوا : يا رسول الله أمات إخواننا ضُلاَّلا ؟ فأنزل الله تبارك وتعالى :﴿ وَما كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْما بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم ما يَتَّقُونَ ﴾ يقول : ليسوا بضلال ولم يصرفوا عن القبلة الأولى، ولم ينزل عليهم تحريم الخمر.
وقوله :﴿ مِن بَعْدِ ما كَادَ يَزِيغُ ﴾
و( كاد تزيغ ). [ من ] قال :( كاد يزيغ ) جعل في ( كاد يزيِغ ) اسما مثل الذي في قوله :﴿ عسى أن يكونوا خيرا منهم ﴾ وجعل ( يزيغ ) به ارتفعت القلوب مذكّرا ؛ كما قال الله تبارك وتعالى :﴿ لن ينالَ اللهَ لحومُها ﴾ و ﴿ لا يحل لك النساء من بعد ﴾ ومن قال ( تزيغ ) جعل فعل القلوب مؤنّثا ؛ كما قال :﴿ نريد أن نأكل مِنها وتطمئن قلوبنا ﴾ وهو وجه الكلام، ولم يقل ( يطمئن ) وكل فعل كان لجماع مذكر أو مؤنث فإن شئت أنّثت فعله إذا قدمته، وإن شئت ذكَّرته.
وقوله :﴿ وَعلى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ ﴾
وهم كعب بن مالك، وبلال بن أُمَيَّة، ومُرَارة.
وقوله :﴿ وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً ﴾
يريد بالموطئ الأرض ﴿ ولا يقطعون واديا ﴾ في ذهابهم ومجيئهم إلا كتب لهم.
وقوله :﴿ وَما كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً ﴾
لما عُيَّر المسلمون بتخلفهم عن غزوة تَبوكَ جعل النبي صلى الله عليه وسلم يبعث السريَّة فينفرون جميعا، ليبقى النبي صلى الله عليه وسلم وحده، فأنزل الله تبارك وتعالى :﴿ وَما كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً ﴾ يعنى : جميعا ويتركوك وحدك.
ثم قال :﴿ فَلَوْلاَ نَفَرَ ﴾ معناه : فهلاَّ نفر ﴿ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائفَةٌ ﴾ ليتفقّه الباقون الذين تخلَّفوا ويحفظوا، قومهم ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن.
﴿ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ ﴾ يقول : ليفقهوهم. وقد قيل فيها : إن أعراب أَسَد قدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فغلت الأسعار وملئوا الطرق بالعَذِرات، فأنزل الله تبارك وتعالى :﴿ فَلَوْلاَ نَفَرَ ﴾ يقول : فهلاّ نفر منهم طائفة ثم رجعوا إلى قومهم فاخبروهم بما تعلّموا.
وقوله :﴿ يَلُونَكُمْ مِّنَ الْكُفَّارِ ﴾
يريد : الأقرب فالأقرب.
وقوله :﴿ وَإِذَا ما أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ﴾
يعني : المنافقين يقول بعضهم لبعض : هل زادتكم هذه إيمانا ؟ فأنزل الله تبارك وتعالى ﴿ فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا... وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رِجْساً إلى رِجسهم ﴾ والمرض ها هنا النفاق.
وقوله :﴿ أَوَلاَ يَرَوْنَ ﴾
( ويّروا ) بالتاء. في قراءة عبد الله " أو لا ترى أَنهم " العرب تقول : أَلا ترى للقوم وللواحد كالتعجب، وكما قيل " ذلك أزكى لهم، وذلكم " وكذلك ( أَلا ترى ) و( الا ترون ).
وقوله :﴿ وَإِذَا ما أُنزِلَتْ سُورَةٌ ﴾
فيها ذكرههم وعَيْبهم قال بعضهم لبعض ﴿ هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ ﴾ أن قمتم، فإن لهم القيام قاموا.
فذلك قوله :﴿ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم ﴾ دعاء عليهم.
وقوله :﴿ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ ﴾
يقول : لم يبق بطن من العرب إلاّ وقد ولدوه. فذلك قوله ﴿ مِّنْ أَنفُسِكُمْ ﴾.
وقوله :﴿ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ ﴾ ( ما ) في موضع رفع ؛ معناه : عزيز عليه عَنَتُكم. ولو كان نصبا : عزيزا عليه ما عنتم حريصا رءوفا رحيما، كان صوابا، على قوله لقد جاءكم كذلك. والحرص الشحيح أن يدخلوا النار.
Icon