مدنية وهي مائة وتسع وعشرون أو مائة وثلاثون آية
عن أبي عطية الهمداني قال : كتب عمر بن الخطاب : تعلموا سورة براءة وعلموا نسائكم سورة النور قلت : لأن في البراءة الحث على الجهاد وفي النور الحث على الحجاب.
وعن عثمان بن عفان قال : كانت البراءة والأنفال تدعيان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم القرينتين فلذلك جمعتهما في السبع الطوال.
ولها أسماء سميت
براءة لأنها براءة عن الكافرين وسورة التوبة لأن فيها توبة على المؤمنين و المقشقشة أخرجه أبو الشيخ وابن مردويه عن زيد بن أسلم عن عبد الله بن عمر لأنها تقشقش أي تبرأ من النفاق، والمبعثرة أخرجه ابن المنذر عن محمد بن إسحاق لما كشفت عن سرائر الناس والبحوث أخرجه ابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه عن أبي رشد الحراني عن المقداد بن الأسود، والمثيرة أخرجه ابن المنذر وأبو الشيخ وابن أبي حاتم عن قتادة لأنها تبعثر النفاق وتبحث عنها وتثيرها وتظهر عوراتهم وتخفر عنها والمنكلة والمدمدمة وسورة العذاب، اخرج ابن أبي شيبة والطبراني وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه عن حذيفة رضي الله عنه قال : التي تسمونها سورة التوبة هي سورة العذاب والله ما تركت أحدا إلا نالت فيه، واخرج سورة العذاب أيضا أبو عوانة وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس عن عمر والفاضحة لكونها فاضحة المنافقين.
قال البغوي قال : سعيد بن جبير : قلت لابن عباس سورة التوبة قال : هي الفاضحة ما زالت تنزل وتنبئهم حتى ظنوا أنها لم تبق أحدا منهم إلا ذكرها فيها قال : قلت : سورة الأنفال قال : تلك بدر، قال قلت سورة الحشر قال : قل سورة النضير.
وفي وجه ترك البسملة عنها
روى البغوي : بسنده واحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم وصححه والترمذي وحسنه عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال : قلت لعثمان رضي الله عنه ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا سطرا بسم الله الرحمان الرحيم وضعتموها في السبع الطوال ؟ فقال : عثمان رضي الله عنه : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد فإذا عليه الشيء يدعوا بعض من كان يكتب عنده فيقول : ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا " وكانت الأنفال مما نزلت بالمدينة، وكانت براءة من آخر ما نزلت، وفي لفظ وكانت الأنفال من أوائل ما نزلت بالمدينة وكانت البراءة من آخر القرآن نزولا وكانت قصتها شبيهة بقصتها وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لها أنها منها فمن ثم قرنت بينهما ولم أكتب سطر بسم الله الرحمان الرحيم ووضعتها في السبع الطوال ١. وقيل : وجه ترك البسملة أنها نزلت لرفع الأمان وبسم الله الرحمان الرحيم أمان كذا أخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال : سألت علي ابن أبي طالب رضي الله عنه لم يكتب بسم الله الرحمان الرحيم في براءة قال : لأن بسم الله الرحمان الرحيم أمان وبراءة نزلت بالسيف.
وقيل : اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : بعضهم : الأنفال وبراءة سورة واحدة نزلت في القتال ويعد السابعة من الطوال وهي سبع، وقال بعضهم : هما سورتان فتركت بينهما فرجة لقول من قال : سورتان وتركت بسم الله الرحمان الرحيم لقول من قال : هما سورة واحدة.
قال البغوي : قال : المفسرون لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك كان المنافقون يرجعون الأراجيف يعني يقولون أقوالا يضطرب بها المسلمون اضطرابا شديد أو جعل المشركون ينقضون عهودا كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت : وذلك لزعمهم أن المسلمين لا يقامون قتال قيصر ملك الشام فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بنقض عهودهم فقال :﴿ براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ( ١ ) فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا إنكم غير معجزي الله وان الله مخزي الكافرين ( ٢ ) وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر إن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وان توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب اليم ( ٣ ) إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين ( ٤ ) فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فان تابوا وأقاموا الصلاة واتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم ( ٥ ) ﴾
قال البغوي : روى عكرمة عن ابن عباس أنه يوم عرفة، قال : وروي : ذلك عن عمر بن الخطاب وابن عمر وابن الزبير رضي الله عنهم وهو قول عطاء وطاووس ومجاهد وسعيد بن المسيب، قلت : ومستند هذا القول قوله صلى الله عليه وسلم :" الحج عرفة " ١ أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم و الدار قطني والبيهقي من حديث بن معمر، واخرج ابن أبي حاتم عن مسعود بن مخرمة أن رسول الله قال :" يوم عرفة وهذا يوم الحج الأكبر "
قال البغوي قال : جماعة : هو يوم النحر، روي عن يحيى بن الخراز قال : خرج علي رضي الله عنه يوم النحر على بغلة بيضاء يريد الجبانة فجاء رجل أخذ بلجام دابة وسأله عن يوم الحج الأكبر فقال : يومك هذا خل سبيلها، أخرج الترمذي عن علي قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يوم الحج الأكبر ؟ قال :" يوم النحر " ٢ ويروي ذلك عن عبد الله بن أبي أوفى والمغيرة بن شعبة وهو قول الشعبي وسعيد بن جبير و السدي، قلت : وأخرج أبو داود والحاكم وصححه من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم وقف يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع فقال :" هذا يوم الحج الأكبر " قال : البغوي وروى ابن جريح عن مجاهد يوم الحج الأكبر حين الحج أيام منى كلها، وكان سفيان الثوري يقول : يوم الحج الأكبر أيام منى كلها مثل يوم صفين ويوم الجمل ويوم بعاث يراد به الحين والزمان فإن هذه الحروب دامت أياما كثيرة ووصف الحج بالأكبر لأن العمرة يسمى بالحج الأصغر كذا قال : الزهري والشعبي وعطاء والله اعلم.
قالوا : هذه الآية تدل على أن ابتداء الأشهر الأربعة يوم الحج الأكبر، قلت : ليس في آية الأذان يوم الحج الأكبر التقييد بأربعة أشهر حتى يدل على أن ابتداء الأشهر من ذلك اليوم بل قال : الله تعالى ﴿ وأذان من الله ورسوله على الناس يوم الحج الأكبر ﴾ ﴿ أن الله ﴾ : أي بأن الله ﴿ بريء من المشركين ورسوله ﴾ قرأ يعقوب ورسوله بالنصب عطفا على اسم أن أو لأن الواو وبمعنى مع، والباقون بالرفع عطفا على المستكن في برئ على الابتداء والخبر محذوف أي : ورسوله بريء وهذا تعميم بعد تخصيص فإن الآية الأولى فيها براءة مختصة بالذين عوهدوا والمراد به الناكثين منهم بدليل الاستثناء الآتي.
وفي هذه الآية براءة عامة إلى المشركين أجمعين عاهدوا ثم نكثوا أو لم يعاهدوا منهم ولذا قال : إلى الناس فلا تكرار غير أن الذين عاهدوا لم ينكثوا خارجون عن هذه البراءة أيضا لقوله تعالى :﴿ فأتموا إليهم عهدهم ﴾ وليس في هذه الآية الأمر بالسياحة أربعة أشهر حتى يلزم اعتبار ابتداء المدة من هذا اليوم، وعندي أن قوله تعالى :﴿ براءة من الله ورسوله ﴾ و ﴿ أن الله برئ ﴾ وإن كانت نازلة في المشركين الموجودين في ذلك الوقت الناكثين عهودهم في غزوة تبوك وغير المعاهدين منهم لكن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص المورد فالآية محكمة ناطقة لوجوب قتال الناكثين وغير المعاهدين أبدا فالمراد بقوله تعالى :﴿ فسيحوا في الأرض ﴾ أربعة أشهر من كل سنة وهي الأشهر الحرم بدليل قوله تعالى ﴿ فإذا انسلخ الأشهر الحرم ﴾ الآية وقوله تعالى ﴿ إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ﴾ ٣ فإن قيل : قال : قوم القتال في الأشهر الحرم كان كبيرا ثم نسخ بقوله تعالى :﴿ أنفسكم المشركين كافة ﴾ ٤ كأنه يقول فيهن وفي غيرهن، وهو قول قتادة وعطاء الخراساني والزهري وسفيان الثوري وقالوا لأن النبي صلى الله عليه وسلم غزا هوازن بحنين و ثقيفا بالطائف وحاصر في شوال وبعض ذي العقدة.
قلنا : هذا القول عندي غير صحيح لأن قوله تعالى :﴿ أنفسكم المشركين كافة ﴾ من تتمة قوله تعالى :﴿ إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ﴾ ولا بد في الناسخ من التراخي والقول بالتخصيص ههنا غير متصور، والقول بان معنى قوله تعالى : قاتلوا المشركين كافة فيهن وفي غيرهن باطل لأنه يدل على تعميم الإفراد دون تعميم الزمان وحصاره صلى الله عليه وسلم الطائف في بعض ذي القعدة ثابت بأحاديث الآحاد ولا يجوز نسخ الكتاب بها كيف وسورة التوبة نزلت بعد غزوة الطائف، وقد قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم النحر في حجة الوداع قبل وفاته بثمانين يوما :" إن الزمان استدار كهيئة يوم خلق السموات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان " ٥ الحديث رواه الشيخان في الصحيحين من حديث أبي بكرة، ويحتمل أن يكون جواز حصار الطائف في ذي القعدة مختصا بالنبي صلى الله عليه وسلم أبيح له القتال فيها كما أبيح له القتال في الحرم قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة :" إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله على يوم القيامة وإنه لم يحل القتال لأحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار " ٦ الحديث متفق عليه من حديث ابن عباس، وفي الصحيحين من حديث أبي شريح العدوي :" فإن أحد ترخص بقتال رسول الله فيها فقولوا له إن الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ".
قصة : لما نزلت هذه في شوال سنة تسع بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا ليقرأها على الناس في الموسم، وروى النسائي عن جابر انه صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر على الحج فأقبلنا معه حتى إذا كنا بالعرج ثوب بالصبح فلما استوى للتكبير سمع الرغوة خلف ظهره ووقف عن التكبير، فقال : هذه رغوة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم الجدعاء لقد بد الرسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج فلعله أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصلي معه فإذا علي عليها، فقال : له أبو بكر أمير أم رسول ؟ قال : لا بل رسول أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة أقرأها على الناس في مواقف الحج فقدمنا مكة، فلما كان قبل يوم التروية بيوم قام أبو بكر فخطب الناس فحدثهم عن مناسكهم حتى إذا فرغ قام علي فقرأ على الناس براءة حتى ختمها ثم خرجنا معه حتى إذا كان يوم عرفة قام أبو بكر فخطب الناس فعلمهم مناسكهم حتى إذا فرغ قام علي فقرأ على الناس براءة حتى ختمها، ثم كان يوم النحر فأفضنا فلما رجع أبو بكر خطب الناس فحدثهم عن إفاضتهم وعن نحرهم وعن مناسكهم فلما فرغ قام علي فقرأ على الناس براءة حتى ختمها، فلما كان يوم النفر الأول قام أبو بكر فخطب الناس فحدثهم كيف ينفرون وكيف يرمون يعلمهم مناسكهم فلما فرغ قام علي فقرأ على الناس براءة حتى ختمها ٧. قال : البغوي : بعث أبا بكر تلك السنة أميرا على الموسم ثم بعث بعده عليا على ناقته العضباء ليقرأ على الناس صدر سورة براءة وأمره أن يؤذن بمكة ومنى وعرفات أن قد برءت ذمة الله وذمة رسوله من كل مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، فرجع أبو بكر فقال : يا رسول الله بأبي أنت وأمي انزل في شأني شيء قال : لا ولكن لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلا رجل من أهلي أما ترضى يا أبا بكر أنك كنت معي في الغار وانك صاحبي على حوضي قال : بلى يا رسول الله، فسار أبو بكر رضي الله عنه أميرا على الحج وعلي رضي الله عنه ليؤذن براءة فلما كان قبل يوم التروية بيوم خطب أبو بكر الناس وورثهم عن مناسكهم وأقام للناس الحج والعرب في تلك السنة على منازلهم التي كانوا عليها في الجاهلية من الحج، حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأذن في الناس بالذي أمر وقرأ عليهم سورة براءة. وقال زيد بن تبغ سألنا عليا بأي شيء أبعثت في الحجة ؟ قال : بعثت بأربع لا يطوف بالبيت عريان ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مدته ومن لم يكن له مدة فأجله أربعة أشهر ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ولا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا.
روى الشيخان في الصحيحين عن حميد بن عبد الرحمان عن أبي هريرة قال : بعثني أبو بكر رضي الله عنه في تلك الحجة في مؤذني يوم النحر يؤذن بمنى ألا لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، قال : حميد بن عبد الرحمان ثم أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا فأمره أن يؤذن ببراءة، قال : أبو هريرة فأذن معنا علي في أهل منى يوم النحر لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ٨.
فائدة : هذه القصة صريح في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعزل أبا بكر عن إمارة الحج وإنما بعث عليا ينادي بهذه الآيات، وكان السبب في هذا أن العرب تعارفوا فيما بينهم في عقد العقود ونقضها أن لا يتولى ذلك إلا سيدهم أو رجل من رهط فبعث عليا إزاحة للعلة لئلا يقولوا هذا خلاف ما نعرفه، فينا في نقص العهود وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم :" لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلا رجل من أهلي " أخرج هذا اللفظ احمد والترمذي وحسنه من حديث أنس رضي الله عنه، وما ذكرناه من القصة بعضها في مسند احمد وبعضها في الدلائل للبيهقي من حديث ابن عباس وبعضها في تفسير ابن مردويه من حديث أبي سعيد الخدري وغيره رضي اله عنهم ﴿ فإن تبتم ﴾ رجعتم من الكفر وأسلمتم ﴿ فهو خير لكم ﴾ في الدنيا والآخرة من كل شيء ﴿ وان توليتم ﴾ عن التوبة والإسلام ﴿ فاعلموا أنكم غير معجزي الله ﴾ لا تفوتونه طلبا ولا تعجزونه هربا وتقدير الكلام وإن توليتم يعذبكم الله في الدنيا والآخرة ﴿ وبشر الذين كفروا بعذاب اليم ﴾ بالقتل والأسر في الدنيا وبالنار في الآخرة
٢ أخرجه الترمذي في كتاب: الحج، باب: ما جاء في يوم الحج الكبر (٩٥٣)..
٣ سورة التوبة، الآية ٦٣..
٤ سورة التوبة، الآية: ٣٦..
٥ أخرجه البخاري في كتاب: الأضاحي، باب: من قال الأضحى يوم النحر (٥٥٥٠). وأخرجه مسلم في كتاب: القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب: تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال (١٦٧٩).
٦ أخرجه البخاري في كتاب: العلم، باب: ليبلغ العلم الشاهد الغائب (١٠٤) وأخرجه مسلم في كتاب: الحج، باب: تحريم مكة وصيدها وخلالها ولقطتها (١٣٠٤)..
٧ أخرجه النسائي في كتاب: مناسك الحج، باب: الخطبة قبل يوم التروية (٢٩٨٤)..
٨ أخرجه البخاري في كتاب: الحج، باب: لا يطوف بالبيت عريان ولا يحج مشرك (١٦٢٢)، وأخرجه مسلم في كتاب: الحج باب: لا يحج بالبيت مشرك ولا يطوف بالبيت عريان (١٣٤٧).
مسألة
القتال في الحرم والشهر الحرام يحل إن بدأ المشركون بالقتال لقوله تعالى :
﴿ الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ﴾٢ الآية وقد ذكرنا في سورة البقرة ﴿ وخذوهم ﴾ أي أسروهم و الأخيذ الأسير ﴿ واحصروهم ﴾قال : ابن عباس يريد إن تحصنوا فاحصروهم أي : امنعوهم من الخروج حتى يضطروا إلى القتل أو الإسلام أو قبول الجزية وقيل : امنعوهم دخول مكة والتصرف في بلاد الإسلام ﴿ واقعدوا لهم كل مرصد ﴾على كل طريق والمرصد الموضع الذي يرصد فيه العدو من رصدت الشيء أرسده إذا ترقبته يريد كونوا لهم رصدا لتأخذوهم من كل وجه توجهوا ولا تتركوهم ينبسطوا في البلاد ويدخلوا مكة ﴿ فان تابوا ﴾ من الشرك ﴿ وأقاموا الصلاة واتوا الزكاة ﴾ يعني قبلوا أقام الصلاة وإيتاء الزكاة ﴿ فخلوا سبيلهم إن الله غفور ﴾ لمن تاب ﴿ رحيم ﴾، قال : الحسن بن فضيل هذه الآية نسخت كل آية في القرآن فيها ذكر الإعراض والصبر على أذى الأعداء.
٢ سورة البقرة، الآية: ١٩٤..
وقال الضحاك : لا ينظروا وقال قطرب : لا يراعوا ﴿ فيكم إلا ﴾ قال : قتادة حلفا وقال ابن عباس والضحاك : قرابة، وقال يمان رحما وقال السدي : وهو العهد وكذلك الذمة إلا أنه كررلاختلاف اللفظين وقيل : ربوبية، قال : البيضاوي : لعله اشتق للحلف من الآل وهو الجواز لأنهم كانوا إذا تحالفوا رفعوا أصواتهم وشهروه ثم استعير للقرابة لأنها لعقد بين الأقارب ما لا يعقد الحلف للربوبية والتربية ولعل اشتقاقة من آل الشيء إذا حدده أو آل البرق إذا لمع، وقال أبو مجيز ومجاهد : الآل هو الله لفظ عبري وكان عبيد بن عمير يقرأ بالتشديد يعني عبد الله وفي الخبر أن ناسا قدموا على أبي بكر من قوم مسيلمة الكذاب فاستقرأهم أبو بكر كتاب مسيلمة فقرؤا فقال : أبو بكر رضي الله عنه : إن هذا الكلام لم يخرج من آل يعني الله عز وجل، والدليل على هذا التأويل قراءة عكرة لا يرقبون في مؤمن إلا يعني الله عز وجل مثل جبرئيل وميكائيل وفي القاموس الإل بالكسر العهد والحلف والجار والقرابة والأصل الجيد والحقد والعداوة والربوبية واسم الله تعالى وكل اسم آخره آل و إيل فمضاف إلى الله تعالى والوحي والأمان والجزع عند المصيبة ﴿ ولا ذمة ﴾ عهدا أو حقا يعاب على إغفاله ﴿ يرضونكم بأفواههم ﴾ أي يقولون أقوالا موجبة مرضائكم نفاقا وتقية من الوعد بالإيمان والطاعة ووفاء العهد ﴿ وتأبى قلوبهم ﴾ وما يتفوهون ويستنبطون الكفر والمعادة بحيث إن ظفروا خالفوا ما تفوهوا به، جملة يرضونكم مستأنفة لبيان أحوالهم المنافية لثباتهم على العهد المقتضية لعدم مراقبتهم عند الظفر، ولا يجوز جعله حالا من فاعل لا يرقبوا فإنهم بعد ظهورهم لا يرضون المؤمنين ﴿ وأكثرهم فاسقون ﴾ المراد بالفسق هاهنا نقض العهد وكان بعض المشركين يوفون العهود ويستنكفون من نقضها ولذلك خصص الفسق بأكثرهم دون كلهم
روى البخاري وغيره عن أبي هريرة قال : لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر وكفر من كفر من العرب فقال : عمر : تقاتل الناس وقد قال : النبي صلى الله عليه وسلم :" أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهد أن لا إله إلا لله فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله " فقال أبو بكر والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها على رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عن منعها، وقال : عمر : فو الله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر فعرفت أنه الحق١.
وعن انس بن مالك قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة وذمة رسوله " ٢ رواه البخاري، وفي الصحيحين " عن ابن عمر قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وان محمد رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله " ٣ إلا أن مسلما لم يذكر " وحسابهم على الله "
٢ أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب: فضل استقبال القبلة (٣٩٢)..
٣ أخرجه البخاري في كتاب: الإيمان، باب: ﴿فإن تابوا وأقاموا الصلاة واتوا الزكاة فخلوا سبيلهم﴾ (٢٥)، وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: المر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله (٢٢).
وهم الذين هموا بإخراج أهلها بعد ﴿ إنهم لا أيمان لهم ﴾ أي : لا عهود لهم جمع يمين يعني لا يجب عليكم وفاء عهودهم بعدما نكثوا وقال قطرب : لا وفاء لهم بالعهد وقرأ لا إيمان لهم بكسرة الهمزة أي : لا تصديق لهم ولا دين لهم وقيل : هو من الأمان أي : لا تؤمنوا بل أقتلوهم حيث وجدتموهم ﴿ لعلهم ينتهون ﴾ متعلق بقاتلوا وجملة أنهم لا إيمان لهم معترضة بينهما أي : ليكن غرضكم في المقاتلة أن ينتهوا عما هم عليه من الشرك والمعاصي لإيصال الأذية بهم كما هو طريقة المؤذين ولا إحراز لمال والملك كما هو أدب السلاطين
ثم لم وبخهم على ترك القتال جرد لهم الأمر به فقال :﴿ قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ﴾
٢ سورة البقرة، الآية ٢١٧.
وفي لما الإشارة صلى الله عليه وسلم :" لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر اللهم وهم على ذلك " ١ متفق عليه من حديث معاوية وروى ابن ماجة بسند صحيح عن أبي هريرة نحوها والحاكم وصححه عن عمر بلفظ :" لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة ﴿ والله خبير بما تعملون ﴾ فيه دفع لما يتوهم من ظاهر قوله تعالى ولما يعلم الله،
قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب مسجد الله على التوحيد والمراد الجنس وقيل : أرد به المسجد الحرام لقوله وعمارة المسجد الحرام ولقوله تعالى :﴿ فلا يقربوا المسجد الحرام ﴾ وذلك هو المراد بصيغة الجمع، قال : الحسن إنما قال : مساجد الله لأنه قبلة المساجد كلها فكان عمارته عمارة الجميع، وقال الفراء ربما ذهبت العرب بالواحد على الجمع وبالجمع إلى الواحد ألا ترى أن الرجل يركب البرذون ويقول : أخذت في ركوب البراذين ويقال : فلان كثير الدرهم والدينار يريد الدراهم والدنانير ﴿ شاهدين على أنفسهم بالكفر ﴾ أي : مظهرين الشرك وتكذيب الرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حال من ضمير يعمروا والمعنى ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين عمارة بيت الله وعبادة غيره، وقال الحسن لم يقولوا نحن كفار ولكن كلامهم بالكفر شاهد عليهم بالكفر.
وقال الضحاك عن ابن عباس شهادتهم على أنفسهم بالكفر سجودهم للأصنام وذلك أن كفار قريش نصبوا الأصنام خارج البيت الحرام عند القواعد وكانوا يطوفون بالبيت عراة كلما طافوا شوطا سجدوا لأصنامهم، وقال السدي شهادتهم على أنفسهم بالكفر هو ان النصراني يسأل فيقال : من أنت فيقول : نصراني واليهودي يقول : يهودي ونحو ذلك ﴿ أولئك حبطت أعمالهم ﴾ التي يفتخرون بها ويزعمونها محاسن من سقاية الحاج وعمارة البيت وفك العاني لأنها ليست لله تعالى خاصا ﴿ وفي النار هم خالدون ﴾ لأجل الكفر والمعاصي وحبط الحسنات
عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد "
وفي لفظ :" يتعاهد المسجد فاشهدوا له بالإيمان فإن الله تعالى قال :﴿ إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر ﴾ ٢ رواه الترمذي وابن ماجة والدرامي و البغوي، وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" من إذا إلى مسجد أو راح أعد الله له منزلة من الجنة كلما غدا أو راح " ٣ وعن أبي هريرة قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" سبعة يظلهم الله ظله يوم لا ظل إلا ظله – وذكر فيهم – رجل قلبه معلق بالمساجد إذا خرج منى حتى يعود فيه " ٤ متفق عليه، وعن سلمان رضي الله عنه قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من توضأ في بيته وأحسن الوضوء ثم أتى المسجد فهو زائير الله حق على المزور أن يكرم زائره " رواه الطبراني وعبد الرزاق وابن جرير في تفسيرها و للبيهقي في " شعب الإيمان " وعن عمرو بن ميمون قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون : إن بيوت الله في الأرض المساجد وإن حقا على الله أن يكرم من زاره فيها رواه البيهقي في " شعب الإيمان " وعبد الرزاق بن جرير في تفسيرها، وعن عمارة المسجد بنائها وتزينيها وتنويرها بالسرج وصيانتها مما لم تبن له، كحديث الدنيا والبيع والشراء وغير ذلك عن محمود بن لبيد أن عثمان بن عفان أراد بناء المسجد فكره الناس وأحبوا أن يدعه قال : عثمان : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" من بنى مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة " وفي رواية :" بنى الله له كهيئته في الجنة " وفي لفظ :" من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة " ٥ رواه أحمد والشيخان في " الصحيحين " والترمذي وصححه وابن ماجة و البغوي وكذا روى ابن ماجة عن علي، وروى أحمد عن ابن عباس بسند صحيح " من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة لبيضها بنى الله له بيتا في الجنة أوسع منه "
وعن أبي هريرة قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا " ٦ رواه مسلم، وعن عائشة قالت : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المسجد في الدور وأن ينظف ويتطيب٧ رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تناشد الأشعار في المسجد وعن البيع و الاشتراء فيه وأن يتحقق الناس قبل الصلاة في المسجد ٨ رواه أبو داود والترمذي، وعن أبي هريرة قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا لا أربح الله تجارتك وإذا رأيتم من ينشد ضالة فقولوا لا رد اله عليك " ٩ رواه الترمذي والدارمي والله اعلم.
﴿ فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين ﴾المتمسكين بطاعة الله التي يؤدي إلى الجنة، ذكر بصيغة التوقع قطعا لأطماع المشركين في الاهتداء والانتفاع بأعمالهم وتوبيخا لهم في القطع بأنهم مهتدون فإن هؤلاء مع كمالهم إذا كان ابتدائهم دائر بين عسى ولعل فما ظنك بأضدادهم ومنعا للمؤمنين بأن يغتروا بأعمالهم ويتكلوا عليها، أخرج أبو نعيم عن علي رضي الله عنه قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل قل لأهل طاعتي من أمتك : أن لا يتكلوا على أعمالهم فغني لا أنا أصيب عبد الحساب يوم القيامة أشاء أعذبه إلا عذبته وقل لهل معصيتي من أمتك : أن لا تلقوا بأيديكم فإني أغفر الذنوب العظيمة ولا أبالي " والله اعلم.
٢ أخرجه الترمذي في كتاب: الإيمان، باب: ما جاء في حرمة الصلاة (٢٦١٧)، وأخرجه ابن ماجة في كتاب: إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: لزوم المساجد وانتظار الصلاة (٨٠٢)..
٣ أخرجه البخاري في كتاب: الأذان، باب: فضل من إذا إلى المسجد وراح (٦٦٢)، وأخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضيع الصلاة، باب: المشي على الصلاة تمحى به الخطايا (٦٦٩).
٤ أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب: من جلس في السجد ينتظر الصلاة وفضل الساجد (٦٦٠)، وأخرجه مسلم في كتاب: الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة (١٠٣١).
٥ أخرجه البخاري في كتاب: الصلاة، باب: من بنى مسجدا (٤٣٩)، وأخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: فضل بناء المساجد والحث عليها (٥٣٣).
٦ أخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضيع الصلاة، باب: النهي عن نشد الضالة في المسجد وما يقوله من سمع الناشد (٥٦٨)..
٧ أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: اتخاذ المساجد في الدور (٤٥٤)، وأخرجه الترمذي في كتاب: الجمعة، باب: ما ذكر في تطييب المساجد (٥٩٠) وأخرجه ابن ماجة في كتاب: المساجد والجماعات، باب: تطهير المساجد وتطييبها(٧٥٨).
٨ أخرجه الترمذي في كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في كراهية البيع والشراء الضالة والشعر في المسجد (٣١٩).
٩ أخرجه الترمذي في كتاب: البيوع، باب: النهي عن البيع في المسجد (١٣٢١).
﴿ أجعلتم سقاية الحاج ﴾ الآية ١ وأخرجه الفريابي وابن سيرين قال : قدم علي بن أبي طالب مكة فقال : لعباس أي عم ألا تهاجر ألا تلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : أعمر المسجد الحرام وأحجب البيت فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قال البغوي : قال : ابن عباس قال : العباس حين أسر يوم بدر لئن سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج فأنزل الله تعالى هذه الآية وأخبر وعمارة المسجد الحرام وقيامهم على السقاية لا ينفعهم مع الشرك بالله والإيمان بالله والجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم مما هم عليه، وقال البغوي قال : الحسن والشعبي ومحمد بن كعب القرظي وكذا أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي أنها نزلت في علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب وطلحة بن شيبة افتخروا فقال : طلحة : أنا صاحب البيت بيدي مفاتيحه وقال العباس : أنا صاحب السقاية والقائم عليها، وقال علي ما أدري ما يقولون لقد صليت إلى القبلة ستة سنة يعني قبل الناس وأنا صاحب الجهاد فأنزل الله :﴿ أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن امن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله ﴾ السقاية والعمارة مصدران من أسقى وعمر فلا بد هاهنا من تقدير أما أن يقال بحذف المضاف في المشبه أو في المشبه به فيقال : أجعلتم أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كم آمن أو يقال أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد كإيمان من آمن بالله وجهاد من جاهد، وإما أن يقال المصدر بمعنى الفاعل يعني ساقي الحاج وعامر المسجد الحرام كقوله تعالى :﴿ العاقبة للمتقين ﴾ ٢ يؤيد قراءة عبد الله بن الزبير أجعلتم سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام. . . على جمع الساقي والعامر، والاستفهام للإنكار فإن كان نزول الآية في اختلاف المؤمنين بالمشركين كما يدل عليه قول ابن عباس ومحمد بن كعب وغيرهما فلا خفاء في إنكار المشابهة بين المشركين وأعمالهم المحبطة بالمؤمنين وأعمالهم المثبتة وغن كان نزولها في اختلاف المؤمنين كما روى مسلم عن النعمان بن بشير، بالمراد بعمارة المساجد بنائها دون إدامة الذكر والصلاة فيها فإن دوام الذكر أفضل الجهاد لقوله صلى الله عليه وسلم :" ما من شيء أنجى من عذاب الله من ذكر الله " ٣ رواه مالك والترمذي وابن ماجة من حديث معاذ بن جبل، ورواه البيهقي في الدعوات الكبير من حديث عبد الله بن عمر وزاد قالوا : ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال :" ولا الجهاد في سبيل الله غلا أن يضرب بسيفه حتى ينقطع " وقوله صلى الله عليه وسلم :" ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم ؟ قالوا : بلى، قال : ذكر الله " ٤ رواه أحمد والترمذي وابن ماجة عن أبي الدرداء ورواه مالك موقوفا على أبي الدرداء، وعن أبي سعيد ان رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي العباد أفضل وأرفع درجة عند الله يوم القيامة ؟ قال الذاكرون الله كثيرا والذاكرات، وقيل : يا رسول الله ومن الغازي في سبيل الله ؟ قال : لو ضرب بسيفه في الكفار حتى ينكسر أو يختضب دما فإن الذاكر لله أفضل منه درجة " ٥ رواه احمد والترمذي وقال : حديث غريب والله اعلم
﴿ لا يستوون عند الله ﴾ تقرير لعدم المشابهة ﴿ والله لا يهدي القوم الظالمين ﴾ هذا يؤيد قول من قال : أن المراد عدم الاستواء بين نعل المؤمنين من الإيمان والجهاد وفعل المشركين من سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، والمعنى والله لا يهدي القوم الظالمين بالشرك فكيف يساوون الذي هداهم الله ووفقهم للحق والصواب، وقيل : المراد بالظالمين الذي يحكمون بالمساواة بينهم وبين المؤمنين والله اعلم.
قصة استقاء من زمزم
روى البخاري وغيره عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : جاء إلى السقاية فاستقى، فقال : العباس : يا فضل اذهب إلى أمك فأت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراب من عندها، فقال : اسقني فقال يا رسول الله إنهم يجعلون أيديهم فيه، قال اسقني فشرب منه ثم أتى زمزم وهم يسقون ويعملون فيها فقال : اعملوا فإنكم على عمل صالح، ثم قال لولا أن تغلبوا لنزلت حتى أضع الحبل على هذه وأشار إلى عاتقه " ٦ وروى مسلم عن بكر بن عبد الله المزني قال : كنت جالسا مع ابن عباس رضي الله عند الكعبة فأتاه أعرابي فقال : مالي أرى بني عمكم يسقون العسل واللبن وانتم تسقون النبيذ أمن حاجة بكم أم من بخل ؟ فقال : ابن عباس رضي الله عنهما : الحمد لله ما بنا من حاجة ولا بخل قدم النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته وخلفه أسامة فقال : أحسنتم وأجملتم كذا فاصغوا فلا نريد أن نغير ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ٧
٢ سورة طه، الآية: ١٣٢..
٣ أخرجه الترمذي موقوفا على معاذ في كتاب: الدعوات (٣٥٩٥)..
٤ أخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات (٣٣٧٧)، وأخرجه ابن ماجة في كتاب: الدب، باب، باب: فضل الذكر (٣٧٩٠).
٥ أخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات (٣٣٧٦)..
٦ أخرجه البخاري في كتاب: الحج، باب: سقاية الحاج (١٦٣٥).
٧ أخرجه مسلم في كتاب: الحج باب: وجوب المبيت بمنى ليالي أيام التشريف والترخيص في تركه لأهل السقاية (١٣١٦)، وأخرجه أبو داود في كتاب: المناسك، باب: في نبيذ السقاية (٢٠٢١)..
فنزلت :﴿ قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين ( ٢٤ ) ﴾
انكس كه تراشناخت جان راجه كند | فرزند وعيال وخان ومان راجه كند |
ديوانه كنى هردوجها نش بخشى | ديوانه توهر دوجها نراجه كند |
قصة غزوة حنيين
قال أئمة المغازي : لما فتح رسول الله مكة في رمضان سنة ثمان من الهجرة مشت أشراف هوزان و ثقيف بعضها إلى بعض وأشفقوا أن يغيروهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : قد فرغ لنا فلانا ناحية له دوننا والرأي أن نغزوه فأجمعوا أمركم فسيروا في الناس وسيروا إليه قبل أن يسير إليكم، فاجتمعت هوازن وجمعها مالك بن عوف بن سعيد بن ربيعة النضري واسلم بعد ذلك واجتمع إليه مع هوازن ثقيف كلها ونصر وجشم كلها وسعد بن بكر ناس من بني هلال وهم قليل لا يبلغون مائة ولم يشهدها من قيس بن غيلان ولم يحضرها من هوزان كعب ولا كلاب مشى فيها ابن أبي براء فنهاها عن الحضور وقال : والله لو نادى أي عادى محمد ما بين المشرق والمغرب لظهر عليهم، وكان في جشم دريد بن الصمة ابن ستين ومائة سنة أو عشرين ومائة سألوا دريد الرئاسة عليهم لرأيه قال : ما أبصر ولا أستمسك على الدابة ولكن احضر معكم لأن أشير عليكم برأي على أن لا تخالفوني فإن تخالفوني لا اخرج فجاءه مالك بن عوف وكان أمر الناس إليه وهو ابن ثلاثين سنة فقال : لا نخالفك فلما اجمع مالك المسير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس فخرجوا معهم بأموالهم ونسائهم ثم انتهى إلى أوطاس فعسكر به وجعلت الأمداد تأتيه منة كل جهة وأقبل دريد بن الصمة فقال : مالي أسمع بكاء الصغير ورغاء البعير ونهيق الحمير ويعار الشاة وخوار البقر قالوا : ساق مالك مع الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم، فقال : دريد لمالك لم سقت ؟ قال : أردت أن اجعل خلف كل إنسان أهله وماله يقاتل عنهم فقال دريد هذا راعي ضأن ماله وللحرب وصفق دريد إحدى يديه على الأخرى تعجبا هل يرد المنهوم شيء إنها كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك أرفع النساء والذراري والموال إلى عليا قومهم ممتنع بلادهم ثم الق القوم على متون الخيل والرجال فإن كانت لك لحق بك من ورائك وغن كانت عليك فقد أحرزت اهلك ومالك قال : مالك، قال مالك : لا افعل قد كبرت وكبر عقلك فغضب دريد ثم قال : دريد : يا معشر هوزان ما فعلت كعب وكلاب، قالوا ما شهد منهم أحد قال : غاب الحد والجد لو كان يوم علاء ورفعة ما تخلفوا عنه يا معشر هوازن ارجعوا وافعلوا ما فعل هؤلاء فأبوا عليه، قال : فمن شهدها منكم ؟ قالوا : عمرو بن عامر وعوف بن عامر، قال : ذانك جذعان من بني عامر لا ينفعان ولا يقران قال : لدريد : هل من رأي غير هذا قد أمر القوم، قال : دريد : نعم تجعل كمينا يكونون لك عونا إن حمل القوم عليك جاء هم الكمين من خلفهم وكررت أنت بمن معك وإن كانت الحملة لك لم يفلت من القوم احد فذلك حين أمر مالك أن يكونوا كمنا في الشعاب وبطون الأودية فحملوا الأولى التي انهزم فيها أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر هوازن وما عزموا عليه أردا التوجه على قتالهم واستخلف عتاب بن أسيد أميرا على مكة وهو ابن عشرين سنة ومعاذ بن جبل يعلمهم السنن والفقه.
وروى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين أراد حنينا منزلنا إذا إن شاء الله بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر واستعار من صفوان بن أمية أدرعا وسلاحا فقال : أغصبا يا محمد أم عارية ؟ قال :" بل عارية. . . مضمونة فأعطى له مائة درع بما يكفيهما من السلاح " ٢ كذا روى ابن إسحاق عن جابر وأبو داود وأحمد عن أمية بن صفوان، قال : السهيلي واستعار من نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ثلاثة آلاف رمح فقال : كأني أنظر إلى رماحك هذه في تقصف ظهر المشركين، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في اثني عشر ألفا من المسلمين عشرة آلاف من أهل المدينة وألفين من أهل مكة يوم السبت بست خلون من شوال سنة، روى أبو الشيخ عن محمد بن عبيد الله الليثي كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل المدينة عشرة آلاف أربعة آلاف من الأنصار ومن كل جهينة ومزينة وأسلم وغفار وأشجع ألف ومن المهاجرين وغيرهم ألف وقال عروة والزهري قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة باثني عشر ألف وأضيف إليهم ألفان من الطلقاء فكانوا أربعة عشر ألفا قال : ابن عقبة ومحمد بن عمر : لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين خرج معه أهل مكة لم يغادر منهم احد ركبانا ومشاة حتى خرجن معه النساء يمشين على غير دين نظارا ينظرون ويرجون الغنائم ولا يكرهون أن يكون الصدمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان معه أبو سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وكانت امرأته مسلمة وهو مشرك لم يفرق بينهما ومع النبي صلى الله عليه وسلم زوجتيه أو سلمة وميمونة ضربت لهما قبة.
وروى ابن إسحاق والترمذي وصححه النسائي وابن حبان عن الحارث بن مالك قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حديثوا عهد بالجاهلية وكانت لكفار قريش ومن سواهم شجرة عظيمة وعند الحاكم في الإكليل سدرة خضرة يقال لها ذات أنواط يأتونها كل سنة فيعلقون أسلحتهم عليها ويذبحون عندها ويعكفون عليها يوما، ونحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سدرة خضرا عظيمة، فتنادينا يا رسول الله اجعل ذات نواط كما لهم ذات أنواط فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم الله أكبر الله أكبر قلتم والذي نفسي بيده كما قال موسى ﴿ اجعلنا لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون ﴾ إنها لسنن لتركبن سنن من قبلكم حذو القدة بالقدة ٣، وعن سهيل بن حنظلة رضي الله عنه قال : جاء فارس فقال : يا رسول الله طلعت جبل كذا وكذا فإذا هوازن جاءت عن بكرة أبيها بظعنهم ونعمهم وشاءهم اجتمعوا فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال :" تلك غنيمة المسلمين إن شاء الله تعالى، ثم قال : من يحرسنا الليلة ؟ قال : انس بن مالك أبي مرثد : أنا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال :" فاركب واستقبل هذا الشعب حتى تكون أعلاء ولا تغرن من قبلك " فلما صلى رسول الله صلى الله عليه الصبح فإذا هو جاء، فقال : إني انطلقت حتى كنت في أعلا هذا الشعب حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم :" قد أوجبت فلا عليك أن لا تعمل بعدها " ٤ رواه أبو داود والنسائي.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن حدود ليكشف خبر هوزان فدخل فيهم فأقام فيهم يوما أو يومين فسمع من مالك يقول لأصحابه إن محمدا لم يقاتل قوما قبل هذه المرة إنما كان يلقى قوما أغمار لا علم لهم بالحرب فيظهر عليهم فإذا كان السحر فصفوا مواشيكم ونساءكم وأبنائكم من ورائكم ثم يكون الجملة منكم واكسروا جفون سيوفكم فتلقون بعشرين ألف سيف مكسورة الجفون واحملوا حملة رجل واحد واعلموا أن الغلبة لمن حمل أولا كذا روى ابن إسحاق عن جابر بن عبد الله وعمرو بن شعيب وعبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، وروى محمد بن عمر عن أبي بردة بن قال : كنا بأوطاس نزلنا تحت شجرة عظيمة نزل رسول الله صلى الله عليه تحتها فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وعنده رجل جالس فقال : إن هذا الرجل جاءني وأنا نائم فسل سيفي ثم قام به على رأسي فانتبهت وهو يقول : يا محمد من يمنعك مني ؟ فقالت :" الله " فسللت سيفي وقلت يا رسول الله دعني اضرب عنق عدو الله فإنه من عيون المشركين فقال : لي :" أسكت يا أبا بردة فما قال : له شيئا ولا عاقبه فقال : يا أبا بردة إن الله مانعي وحافظي حتى يظهر دينه على الدين كله ".
وروى أبو نعيم والبيهقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى حنينا مساء الليلة الثلاثاء لعشر خلون من شوال وبعث بن عوف ثلاثة من هوازن ينظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأمرهم أن يتفرقوا في العسكر فرجعوا إليهم وقد تفرقت أوصالهم فقال : ويلكم ما شأنكم ؟ فقالوا : رأينا رجلا بيضا على خيل بلق فوا لله ما تماسكنا أصابنا ما ترى والله ما نقاتل أهل الأرض إنما نقاتل هل السماء وإن أطعتنا رجعت بقومك فإن الناس إن رأوا مثل الذي رأينا أصابهم مثل الذي أصابنا فقال :: أف لكم بل انتم أجبن أهل العسكر فحسبهم عنده فرقنا ان يشيع ذلك الرعب في العسكر، وقال : دلوني على رجل شجاع فاجمعوا على رجل فخرج ثم رجع غليه وقد أصابه نحو ما أصاب من قبله منهم فقال : مثل الذي قالت الثلاثة قال : محمد بن عمر لما كان ثلثا الليل عمد مالك بن عوف على أصحابه فعبأهم في وادي حنين وهو واد أخوف خطوبه ذو شعاب و مضائق وفرق الناس فيها وقال لهم : أن يحملوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حملة رجل واحد، وعبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وصفهم في السحر ووضع الأولوية والرايات في أهلها وليس درعين و المغفر والبيضة واستقبل الصفوف وطاف عليها بعضها لخلف بعض يتدحدرون فحضهم على القتال وبشرهم بالفتح إن صدقوا وصبروا، وقدم خالد بن وليد في بني سليم وأهل مكة وجعل ميمنة وميسرة وقلبا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه.
روى أبو الشيح والحاكم وصححه والبزار وابن مردويه عن انس قال : لما اجتمع يوم حنين أهل مكة وأهل المدينة أعجبتكم كثرتهم فقال : القوم اليوم والله نقاتل، ولفظ البزار قال : غلام من الأنصار لن نغلب اليوم من قلة فما هو إلا أن لا قينا عدونا فانهزم القوم وولوا مدبرين، وفي رواية يونس بن بكر في زيارات المغازي كره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قالوا : وما أعجبتهم كثرتهم، وكذا روى ابن المنذر عن الحسن وذلك قوله تعالى :﴿ إذ أعجبتكم كثرتكم ﴾﴿ فلم تغن ﴾ أي الكثرة ﴿ عنكم شيئا ﴾من الإغناء أو من أمر العدو ﴿ وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ﴾ما مصدرية والباء بمعنى مع أي : مع رحبها أي : سعتها، أو المعنى ملتبسة يرحبها على الجار والمجرور في موضع الحال كقولك دخلت عليه بثياب السفر أي : ملتبسا بها يعني أن الأرض من مع سعتها لا تجدون فيها مقرا تطمئن إليه نفوسكم من شدة الرعب أو لا تبوؤن السفر ملتبسا بها يعني أن الأرض مع سعتها لا تجدون فيها كمن لا يسعه مكانه ﴿ ثم وليتم ﴾ الكفار ظهوركم خطاب إلى الذين انهزموا من المؤمنين ﴿ مدبرين ﴾ منهزمين الأدبار الذهاب إلى خلف ضد الإقبال. روى ابن إسحاق واحمد وابن حبان عن
٢ وأخرجه احمد في مسند الملكين (٧٦٣) أخرجه أبو داود في كتاب: الإجازة، باب: في تضمين العارية (٣٥٥٩)..
٣ أخرجه الترمذي في كتاب: الفتن، باب: ما جاء لتركبن سنن من كان قبلكم (٢١٨٠)..
٤ ؟؟؟؟؟.
﴿ وأنزل جنودا لم تروها ﴾ روى ابن أبي حاتم عن السدي الكبير قال : هم الملائكة، وروى أيضا عن سعيد بن جبير قال : في يوم حنين : أمد الله تعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين، وروى ابن إسحاق وابن المنذر وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن جبير بن مطعم قال : رأيت قبل هزيمة القوم والناس يقتتلون مثل البجاد الأسود أقبل من السماء حتى سقط بين القوم فنظرت فإذا نمل اسود قد ملأ الوادي ثم أشك أنها الملائكة ولم يكن إلا هزيمة القوم، وروى محمد بن عمر عن يحيى بن عبد الله عن شيوخ قومه من الأنصار قالوا : رأينا يومئذ كالجد السود هودت من السماء ركاما فنظرنا فإذا نمل مبثوث فإن كنا لننفضه عن ثيابنا فكان نصر الله أيدنا به، وروى مسدد في مسنده والبيهقي وابن عساكر عن عبد الرحمان مولى أم برثن قال : حدثني رجل كان من المشركين يوم حنين قال : التقينا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقوموا لنا حلب شاة إن كفيناهم فبينا نحن نسوقهم في أدبارنا إذ التقينا صاحب البغلة فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية إذ بينا رجال بيض حسان الوجوه قالوا : لنا شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا وركبوا أكتافنا وكانت إياها، وروى ابن مردويه والبيهقي وابن عساكر عن شيبة بن عثمان
الحجبي قال : خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ما خرجت إسلاما ولكن خرجت آنفا أن يظهر هوازن على قريش فو الله إني لو أقف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قلت يا رسول الله إني لأرى خليلا بلقا قال :" يا شيبة إنه لا يراها إلا كافر " فضرب بيده على صدري وقال :" اللهم اهد شيبة " فعل ذلك ثلاث مرات فوالله ما رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم الثانية حتى ما أجد من خلق أحب إلي منه فالتقى المسلمون فقتل من قتل ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر آخذ باللجام والعباس آخذ بالثغر فنادى أين العباس أين المهاجرين أين أصحاب سورة البقرة بصوت عال هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل المسلمون والنبي صلى الله عليه وسلم يقول :
أنا النبي لا كذب *** أنا ابن عبد المطلب
فجادلوهم بالسيوف فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الآن حمي الوطيس " وروى محمد بن عمر عن مالك بن أوس بن الحدثان قال : حدثني عدة من قومي شهدوا ذلك اليوم يقولون لقد رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الرمية من الحصباء فما من احد غلا يشكو القذى في عينه ولقد كنا نجد في صدورنا خفقانا كوقع الحصى في الطساس ما يهدي ذلك الخفقان ولقد رأينا يومئذ رجالا بيضا على خيل بلق عليها عمائم حمر قدر أرخوها بين أكتافهم بين السماء والأرض كتائب أي لا يعقلون ما يليقون ولا تستطيع أن نتأملهم من الرعب منهم قال : الله تعالى ﴿ وعذب الذين كفروا ثم يتوب وذلك جزاء الكافرين ﴾ روى ابن أبي حاتم عن السدي الكبير قال : يعني قتلهم بالسيف وروى البزار بسند رجاله ثقات عن انس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يوم حنين :" اجزروهم جزرا " وأومى بيده إلى الحلق، وروى البيهقي عن عبد الله بن الحارث عن أبيه قال : قتل من أهل الطائف يوم حنين مثل من قتل يوم بدر، يعني سبعين رجلا واستشهد بحنين أيمن ابن أم أيمن و سراقة بن الحارث ويتيم بن ثعلبة ويزيد بن زمعة وأبو عامر الأشعري بأوطاس كما سيأتي، وروى محمد بن عمر عن محمد بن عبد الله بن صعصعة أن سعد بن عبادة جهل يصيح يا للخرج ثلاثا وأسيد بن حضير يا للأوس ثلاثا فثابوا من كل ناحية كأنهم النحل يأوي إلى يعسوبها قال : أهل المغازي : فلحق المسلمون على المشركين فقتلوهم حتى أسرع القتل في ذرارى المشركين فقتلوهم حتى أسرع القتل في ذرارى المشركين فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال :" ما بال أقوام بلغ بهم القتل حتى بلغ الذرية ألا تقتل الذرية " فقال : أسيد بن الخضير يا رسول الله أولاد المشركين، فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أو ليس خياركم أولاد المشركين كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها فأبواه يهودانها وينصرنها " قال : محمد بن عمر قال : شيوخ ثقيف ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبنا في ما نرى حتى أن الرجل منا ليدخل حصين الطائف وغنه ليظن انه على أثره من رعب الهزيمة قالوا : هزم الله تعالى أعداءه من كل ناحية وأتبعهم المسلمون يقاتلونهم وغنمهم الله نسائهم وذرا ريهم وفر مالك بن عوف حتى بلغ حصين الطائف هو وأناس من أشراف قومه، وقال ابن إسحاق ومحمد بن عمر وغيرهما : لما هزم الله هوزان أتوا الطائف ومعهم مالك بن عوف وعسكر بعضهم بأوطاس وتوجه بعضهم نحور نخلة ولم يتتبع من سلك الثنايا وقتل ربيعة بن رفيع من بني سليم دريد بن الصمة، قال : البغوي : فلما هزم الله المشركين وولوا مدبرين انطلقوا حتى أتوا أوطاس و بها عيالهم وأموالهم فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من الأشعرين يقال له أبو عامر وأمره على جيش إلى أوطاس فسار إليهم فاقتتلوا وقتل الدريد بن الصمة، وهزم الله المشركين وسبي المسلمون عيالهم وهرب مالك بن عوف النضري فأتى الطائف وتحصن بها وأخذ ماله وأهله فيمن أخذ وقتل أمير المسلمين أبو عامر وأسلم عند ذلك ناس كثير من أهل مكة حين رأوا نصر الله رسوله وإعزاز دينه، ولما جمعت الغنائم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحدر إلى جعرانة فوقف بها إلى أن انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصار الطائف، قال : ابن سعد وتبعه في العيون كان السبي ستة آلاف رأس والأهل أربعة وعشرون ألف بعير والغنم أكثر من أربعين ألف شاة وأربعة آلاف أوقية فضة، وروى عبد الرزاق عن سعيد بن المسيب قال : سبي يومئذ ست آلاف سبي بين امرأة وغلام فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب، وقال البلاد ري بديل بن ورقاء الخزاعي قال : ابن إسحاق : جعل على المغانم مسعود بن عمر الغفاري. قال : ابن إسحاق : ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل قريبا من الطائف فضرب عسكره وأشرف ثقيف على حصنهم ولا مثل له في حصون العرب وأقاموا وهم مائة رام فرموا بالسهام والمقاطيع من بعد حصنهم ومن دخل تحت الحصين ولوا عليه بسكك الحديد محماة من النار تطير منها الشرر فرموا المسلمين بالنبل رميا شديدا كأنه رجل جراد، حتى أصيب ناس المسلمين بجراحة وقتل منهم اثنا عشر رجلا، فارتفع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى موضع مسجده اليوم الذي بنته ثقيف بعد إسلامهم، وقال عمرو بن أمية الثقفي وأسلم بعد ذلك لا يخرج إلى محمد أحدا إذا دعى أحدا من أصحابه على البراز ودعوه يقيم ما أقام ثم أقبل خالد بن الوليد فنادى من يبارز ؟ فلم يطلع عليه أحد ثم دعا فلم ينزل غليه احد، فنادى عبد يا ليل لا ينزل غليك احد ولكنا نقيم في حصننا خباءنا فيه ما يصلحنا لسنين فإذا أقمت حتى ذهب ذلك الطعام خرجنا إليك بأسيافنا جميعا حتى نموت فقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرمي وهم يقاتلونه من وراء الحصين ولم يخرج إليه احد وكثرت الجراحات له من ثقف بالنبل وقتل جماعة من المسلمين، روى ابن إسحاق ومحمد بن عمر عن شيوخه قالوا : نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر فخرج من الحصن بضعة عشر رجلا فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال : محمد بن عمر وشاور رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فقال : سلمان الفارسي أرى أن تنصب المنجنيق فنصبه على حصين الطائف وهو أول منجنيق رمى به في الإسلام فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقطع أعنابهم ونخيلهم، قال : عروة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كل رجل من المسلمين أن يقطع خمس نخلات وخمس حيلات فقطع المسلمون قطعا ذريعا فنادت ثقيف لم تقطع أموالنا ؟ إما أن تأخذها إن ظهرت علينا وإما أن تدعها لله وللرحم فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" فإني أدعها لله وللرحم "
قال ابن إسحاق : وبلغني ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لأبي بكر إني رأيت إن أهديت قعبة مملوءة زبد فنظرها ديك فهراق ما فيها فقال : أبو بكر ما أظن ان تدرك منهم يومك هذا ما تريد، فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ولا أرى ذلك " وروى محمد بن عمر عن أبي هريرة قال : لما مضت خمسة عشر من حصار الطائف استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم نوفل بن معاوية الديلمي رضي الله عنه فقال :" يا نوفل ما ترى في المقام عليهم " ؟ فقال : يا رسول الله ثعلب في جحر إن أقمت عليه أخذته وغن تركته لم يضرك، وروى الشجال عن ابن عمر وعمر رضي الله عنهما لما حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم الطائف ولم ينل منه شيئا قا
وروى البخاري في " الصحيح " حديث مروان ومسور بن مخزمة، قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاءه وفد هوزان مسلمين فسألوه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" معي من ترون وأحب الحديث ألي أصدقه فاختاروا إحدى الطائفتين إما السبي وإما المال " قالوا : فإنا نختار سبيا فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال :" أما بعد فإن إخوانكم قد جاؤوا تائبين وإني رأيت أن أرد عليهم سبيهم فمن أحب منكم أن يطيب بذلك فليفعل ومن أحب أن يكون على حظه نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا، فليفعل " فقال : الناس قد طبنا ذلك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أنا لا أدري من أذن منكم في ذلك فمن لم يأذن فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم " فرجع الناس فكلمهم عرفاءهم ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم طيبوا وأذنوا " ١ روى أبو داود والبيهقي وأبو يعلى عن أبي الطفيل قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بالجعرانة لحما فجاءت امرأة بدوية، فلما دنت من الرسول صلى الله عليه وسلم بسط لها رداءه فجلست عليه فقلت : من هذه ؟ فقالوا : أمه التي أرضعته ٢، وروى أبو داود في " المراسل " عن عمرو بن السائب قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا يوما فجاءه أبوه من الرضاعة فوضع بعض ثوبه فقعد عليه ثم أقبلت أمه فوضع لها شق ثوبه من جانبه الآخر ثم جاءه أخوه من الرضاعة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلسه بين يديه.
وقال محمد بن عمر لما هزم المشركون يوم حنين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب العدو لخيله إلى قدرتم على بجاد رجل من بني سعد فلا يفلتن منكم وقد كان أحدث حدثا عظيما، كان أتى رجلا مسلما فأخذه فقطعه عضوا عضوا ثم حرقه بالنار وكان قد عرف جرمه فهرب فأخذه الخيل فضمروه إلى الشيماء بنت الحارث بن عبد العزى أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني من الرضاعة وأتبعوها في الساق فجعلت شيماء تقول إني والله أخت صاحبكم فلم يصدقوها فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت يا محمد إني أختك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وما علامة ذلك ؟ فأرته عضة بإبهامها فقالت : عضة عضضتنيها وأنا متوركتك بوادي السرب ونحن نرعى بهم أبيك وأبي وأمك وأمي وقد نازعتك الثدي، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم العلامة فوثب قائما وبسط رداءه ثم قال :" اجلسي عليه " وترحب بها ودمعت عيناه وسأله عن أمه وأبيه فأخبرته بموتهما فقال :" إن أحببت أقيمي عندنا مكرمة وإن أحببت أن ترجعي إلى قومك وصلتك ورجعتك إلى قومك " قالت : بل أرجع إلى قومي فأسلمت فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أعبد وجارية وأمر لها ببعير أو بعيرين وقال لها ارجعي إلى الجعرانة تكونين مع قومك فإني أمضي إلى الطائف فرجعت إلى جعرانة، ووافها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاها نعما وشاة ولمن بقي من أهل بيتها وكلمته في بجادان يهبه لها ويعفو عنه ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق في رواية يونس بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من رد سبايا هوازن ركب بعيره وتبعه الناس يقولون : يا رسول الله اقسم علينا فيئا حتى اضطروه إلى شجرة فانتزعت رداءه فقال :" يا أيها الناس ردوا علي ردائي فو الذي نفسي بيده لو كان عندي شجر تهامة نعما لقسمته عليكم ثم ما ألفتموني بخيلا ولا كذابا " الحديث، قال : ابن إسحاق أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم وكانوا أشرافا من أشراف العرب يأتلف بعم قلوبهم، قال : محمد بن عمر بالموال فقسمها وأعطى المؤلفة قلوبهم أول الناس، قال : الصالحي : منهم من أعطى مائة بعير ومنهم من أعطى خمسين وجميع ذلك يزيد على خمسين رجلا، ثم ذكر الصالحي أسمائهم فذكرهم سبعا وخمسين رجلا. روى الشيخان في " الصحيحين " عن حكيم بن حزان قال :" سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم بحنين مائة من الإبل فأعطانيها ثم سألته مائة فأعطانيها ثم قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يا حكيم إن هذا المال حلوة فمن اخذ بسخاوة نفس بورك فيه ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول " فقال : حكيم : والذي بعتك بالحق لا أرزأ أحدا بعدك شيئا ٣، فكان عمر بن الخطاب يدعوه إلى عطاءة فيأبى أن يأخذ فيقول عمر أيها الناس أشهدكم على حكيم بن حزام أدعوه إلى عطاءه فيأبى أن يأخذ قال : ابن أبي الزياد اخذ حكيم المائة الأولى فقط وترك الباقي، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم سهيل بن عمرو مائة وأبو سفيان بن حرب مائة من الإبل وأعطاه أربعين أوقية فضة وابن معاوية مائة من الإبل وأربعين أوقية فضة ويزيد بن أبي سفيان مائة يغير وأربعين أوقية هكذا، روى البخاري عن صفوان قال : ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني من غنائم حنين وهو أبغض الخلق إلي حتى ما خلق الله شيئا أحب إلي منه " وفي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم " أعطاه مائة من النعم ثم مائة ثم مائة " قال : محمد بن عمر يقال : إن صفوان طاف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بتصفح الغنائم إذ مر بشعب مما أفاء الله على رسوله فيه غنم وإبل ورعاء مملوء فأعجب صفوان وجعل ينظر إليه فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم أعجبك هذا الشعب يا أبا وهب ؟ قال : نعم، قال :" هو لك بما فيه " فقال : صفوان أشهد أنك رسول الله ما طابت بهذا نفس احد قط إلا نبي ٤.
روى أحمد ومسلم والبيهقي عن رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى المؤلفة قلوبهم من سبي حنين كل رجل منهم مائة من الإبل وذكر الحديث وفيه أعطى العباس بن مرداس دون المائة فأنشاء العباس يقول : أتجعل نهبي العبيد بن عيينة والأقرع فما كان حصين ولا حابس يقومان مرداس في المجمع إلى آخر الأبيات، فأتم له رسول الله صلى الله عليه وسلم المائة وأعطى عثمان وعدي بن قيس وعمير بن وهب وعلام بن جارية ومخرمة بن نوفل وغيرهم كل واحد منهم خمسين بعيرا ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت بإحصاء الناس والغنائم ثم فضها على الناس، فكانت سهمانهم لكل رجل منهم أربعة من الإبل أو أربعين شاة فإن كان فارسا أخذ اثني عشر من الإبل أو عشرين ومائة شاة وغن كان معه أكثر من فرس واحد لم يسهم له فقلت : عطاءه صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم يبلغ أربعة آلاف بعير أو زائدا عليه، وقد مر فيما سبق أن إبل المغنم كانت أربعة وعشرين ألف بعيرا، الغنم أكثر من أربعين ألف شاة، وهي تساوي أربعة آلاف بعير فصار المجموع ثمانية وعشرون ألف بعير فخمسة يكون أقل من خمسة آلف بعير فعطاء المؤلفة لا يخلوا إما أن يكون أقل من خمسة آلاف فعطاء المؤلفة لا يخلوا إما أن يكون من رأس الغنيمة أو من جميع الخمس ولا يمكن أن يكون من خمس الخمس سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيلزم من هذا إما التنفيل بعد الإحراز بلا شرط سبق والصرف الخمس إلى صنف واحد وجعل المؤلفة صنفا من الفقراء والله اعلم.
ولما كان رجال العسكر اثني عشر ألفا ومنهم الفرسان وصار سهم الراجل أربعة والفارس اثني عشر بعيرا فهذا يقتضي أن يبلغ الغنيمة ستين ألف بعيرا وأكثر أو اقل ولعل ذلك بضم قيمة العروض والنقود إلى المواشي والله اعلم.
قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن الحارث التيمي أن قائلا قال : لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه قال : محمد بن عمر هو سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يا رسول الله أعطيت عيينة بن حصين والأقرع بن حابس مائة وتركت جعيل بن سراقة الضمري فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أما والذي نفسي بيده لجعيل بن سراقة من طلاع الأرض كلهم مثل عيينة بن حصين والأقرع بن حابس ولكني أتألفها ليسلما ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه " وروى البخاري عن عمرو بن تغلب قال : أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما ومنع آخرين فكأنهم عتبوا فقال :" إني لأعطي أقواما أخاف هلعهم وجزعهم وأكل أقواما ما جعل الله في قلبوهم من الخير والغنى منهم عمرو بن تغلب، قال : عمرو : فما أحب أن لي بكلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم حمر النعم ٥، وفي هذا المقام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يكبه الله في النار على وجهه " ٦رواه البخاري عن سعد بن أبي وقاص.
روى ابن إسحاق واحمد عن أبي سعيد الخدري واحمد والشيخان من طرق عن أنس بن مالك والشيخان عن عبد الله بن يزيد بن عاصم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصاب غنائم حنين وقسم للمتألفين من قريش وسائر العرب ما قسم، وفي رواية طفق يعطي رجالا المائة من الإبل ولم يكن في الأنصار منها شيء قليل ولا كثير، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت فيهم المقالة حتى قال : قائلهم يغفر الله لرسوله الله صلى الله عليه وسلم إن هذا الهوا العجيب يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا يقطر من دمائهم إذا كانت شديدة فنحن ندعى ويعطي الغنيمة غيرنا ودوننا ممن كان هذا فإن كان من الله صبرنا وإن كان من رسول الله استعتبناه، فقال : رجل من الأنصار : لقد كنت أحدثكم أن لو استقامت الأمور لقد أثر عليكم فردوا عليه ردا عنيفا قال : فحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالتهم فقال : أبو سعيد فمشى سعد بن عبادة فقال : رسول الله إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم قال : فيم ؟ قال : فيما كان من قسمك هذا الغنائم في قومك وفي سائر العرب ولم يكن فيهم من ذلك شيء فقال : أين من ذلك يا سعد ؟ قال : ما أنا إلا امرؤ من قومي، فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :"
٢ أخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في بر الوالدين (٥١٣٥).
٣ أخرجه البخاري في كتاب: الزكاة، باب: الاستعفاف في المسألة (١٤٧٢)، وأخرجه مسلم في كتاب: الزكاة باب: بيان ان اليد العليا خير من اليد السفلى (١٠٣٥)..
٤ أخرجه مسلم في كتاب: الفضائل باب: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط فقال لا وكثرة عطائه (٢٣١٣).
٥ أخرجه البخاري في كتاب: الجمعة، باب: من قال في الخطبة بعد الثناء أما بعد (٩٢٣)..
٦ أخرجه البخاري في كتاب: الإيمان باب: إذ لم يكن الإسلام على الحقيقة وكان الاستسلام او الخوف من القتل (٢٧) واخرجه مسلم في كتاب: الإيمان باب: تالف قلب من يخاف على إيمانه لضعفه (١٥٠).
وعن ابن عباس أن أعيانهم نجسة كالكلاب، اخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من صافح مشركا فليتوضأ أو ليغسل كفيه " وهذا القول متروك بالإجماع ﴿ فلا يقربوا المسجد الحرام ﴾، قالت الحنفية : المراد به النهي عن الحج والعمرة لا عن الدخول مطلقا بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عليا رضي الله عنه ينادي في الموسم :" لا يحج بعد العام مشرك " فظهر أن المراد منعهم عن الحج والعمرة فيجوز عنده دخول الكافر المسجد الحرام ودخول غيره بالطريق الأولى وورد النهي عن الاقتراب للمبالغة، وقالت الشافعية هو نهي عن دخولهم الحرم لأنهم إذا دخلوا بالحرم فقد اقتربوا من المسجد الحرام وهذا كما قال : الله تعالى ﴿ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام ﴾ ١ وأراد به الحرم لأنه أسرى به من بيت أم هانيء.
قال البغوي رضي الله عنه جملة بلاد الإسلام في حق الكفار على ثلاثة أقسام أحدهما : الحرم فلا يجوز للكافر إن يدخله ذميا كان أو مستأمنا لظاهرة هذه الآية وإذا جاء رسول من دار الكفار إلى دار الإمام والإمام في الحرم لا يأذن له في دخول الحرم بل يبعث إليه من يسمع رسالته خارج الحرم، والقسم الثاني من بلاد الإسلام الحجاز فلا يجوز للكافر الإقامة فيها أكثر من مقام السفر وهو ثلاثة أيام لكن جاز له دخولها لما روي عن عمر بن الخطاب انه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لئن عشت إن شاء الله لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلما " فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوصى فقال :" أخرجوا المشركين من جزيرة العرب " فلم يتفرغ لذلك أبو بكر وأجلاهم عمر رضي الله عنهما في خلافة واجل لمن يقدم منهم تاجرا ثلاثا، وجزيرة العرب من أقصى العرب من أقصى عدن إلى ريف العراق في الطول ومن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى الشام في العرض، والقسم الثالث سائر بلاد الإسلام يجوز للكافر أن يقين بذمة أو أمان ولكن لا يدخلون المساجد إلا بإذن مسلم، وقال الحافظ بن حجر المروي عن الشافعي التفضيل بين المسجد الحرام وغيره من المساجد فلا يجوز له دخول المسجد الحرام ويجوز له دخول غيرها من المساجد وعند المالكية والمزني لا يجوز للكافر دخول شيء من المساجد قياسا على المسجد الحرام، وعقد البخاري بابا على دخول المشرك المسجد يعني على جواز دخوله وذكر فيه حديث أبي هريرة قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال فربطوه بسارة من سواري المسجد وقد ذكرنا حديث قصة ثمامة بن أثال وإسلامه في سورة الأنفال في مسألة جواز المن على الأسارى، وهذا الاستدلال ضعيف لأن قصة ثمامة بن أثال كان قبل فتح مكة وقد منع الكفار عن الحج أو الدخول في المسجد الحرام في سنة تسع حيث قال : الله تعالى ﴿ بعد عامهم هذا ﴾ يعني العام الذي نزلت فيه سورة التوبة وحج فيه أبو بكر و نادى عليه ببراءة وهي سنة تسع من الهجرة، وقيل : يؤذن للكتابي خاصة بدخول المسجد قال : الحافظ ابن حجر في شرح البخاري في باب دخول المشرك المسجد إن حديث الباب يرد على هذا القول أن ثمامة بن أثال لم يكن من أهل الكتاب والله أعلم.
قال البيضاوي في هذه الآية دليل على أن الكفار مخاطبون بالفروع نظرا إلى انه سبحانه نهاهم عن اقتراب المسجد وهذا ليس بشيء فإن الخطاب في الآية للمؤمنين حيث قال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس ﴾ الآية فالمؤمنون مأمورون بمنعهم عن المسجد الحرام وإن كان ظاهرا الآية نهيا للكفار كيف ولو كان الكفار مخاطبين بالفروع كانوا مخاطبين مأمورين بالحج إذ الحج من الفروع مع أن الآية يمنعهم عن الدخول والحج فليزم التناقض ولو كانوا مخاطبين بهذه الآية بعدم الدخول وترك الحج لكانوا ممتثلين بتركهم الحج فليزم أن يكونوا إما مأجورين مثابين في ذلك وذلك باطل والله أعلم.
أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس وابن جرير وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير وعكرمة وعطية العوفي والضحاك وقتادة وغيرهم أنه كان المشركون يجيؤون إلى البيت ويجيؤون معهم بالطعام فلما نهوا عن إتيان البيت ونزلت :﴿ إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ﴾ شق على المسلمين من أهل مكة ﴿ خفتم ﴾يعني فقر لوفاقة يقال عال يعيل عيلة ﴿ فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء ﴾ قيده بالمشيئة لينقطع بالآمال إليه ولينبه على أنه متفضل في ذلك وأن الغنى الموجود يكون لبعض دون بعض وفي عام دون عام ﴿ إن الله عليم ﴾ بأحوال عباده ﴿ حكيم ﴾ فيما يعطي ويمنع قال : عكرمة فأغناهم الله بأن أنزل عليهم المطر مدرار فكثر خيرهم، وقال مقاتل : أسلم أهل جدة وصنعاء وجرش من اليمن وجلبوا الميرة الكثيرة إلى مكة فكفاهم الله تعالى ما كانوا يخافون وقال الضحاك وقتادة عوضهم الله منها الجزية فأغناهم بها وذلك قوله تعالى ﴿ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ﴾
ولذلك يمنع من التوكيل في أداء الجزية أو المعنى عن قهر وذل، قال : أبو عبيدة يقال لكل من أعطى شيئا من غير طيب نفس أعطاه من يد وقيل : معنى عن يد نقدا لا نسيئة وقيل : عن إقرار بإنعام المسلمين عليهم بقبول الجزية منهم عوضا عن القتل ﴿ وهم صاغرون ﴾ أذلة مقهورون، قال : عكرمة : يعطون الجزية قياما والقابض جالس، وعن ابن عباس قال : يؤخذ ويوطأ عنقه وقال الكلبي : إذا أعطى صفح في قفاه، وقيل : يليب ويجر إلى موضع لإعطاء بعنف وقيل : إعطائه بعنف وقيل : إعطائه إياه وهو الصغار، وقال الشافعي : الصغار هو جريان أحكام الإسلام عليهم ظاهر هذه الآية يقتضي ان انتهاء القتال بإعطاء الجزية مختص بأهل الكتاب ولأجل هذه لم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمان بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر ١ رواه البخاري في " صحيحه " من حديث بجالة بن عبدة واختلف كلام الشافعي في بجالة فقال : في الحدود مجهول وقال في الجزية حديث ثابت ولأجل هذا الحديث انعقد الإجماع جواز أخذ الجزية من المجوس.
مسألة
اختلف العلماء في باب الجزية ؟ فقال : أبو حنيفة : تؤخذ من أهل الكتاب على العموم عربيا كان أو أعجميا ومن مشركي العجم على العموم مجوسيا كان أو وثنيا إلا المرتدين، وقال أبو يوسف : يؤخذ من أهل العجم دون أهل العرب كتابيا كان أو مشركا، وقال مالك و الأوزاعي يؤخذ من كل كافر عربيا كان أو أعجميا إلا مشركي قريش خاصة والمرتدين وذهب الشافعي إلى أن الجزية على الأديان لا على الإنسان فيؤخذ من أهل الكتاب عربا وعجما ولا يؤخذ من أهل الأوثان بحال، وأما المجوس فهم عنده أهل كتاب، لما روى مالك في الموطأ والشافعي في الأم عنه عن جعفر بن محمد عن أبيه عن عمر قال : ما أدري ما أصنع في أمرهم يعني المجوس فقال : له عبد الرحمان بن عوف أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" سنوا بهم سنة أهل الكتاب " ٢
وقال الشافعي ثنا سفيان عن سعيد بن المرزبان عن نصر بن عاصم قال : قال : فروة بن نوفل على ما يؤخذ الجزية من المجوس فليسوا بأهل كتاب، فقام إليه المستور فأخذ بلبته وقال باعد والله أتطعن أباب بكر وعمر وأمير المؤمنين يعني عليا وقد أخذوا منهم الجزية فذهب إلى القصر، فخرج عليهم علي فقال : ائته أنا أعلم الناس بالمجوس، كان لهم علم يعلمونه وكتاب يدرسونه وإن ملكهم سكر فوقع على ابنته أو أمه فاطلع عليه بعض أهل مملكته فلما صحا جاؤوا يقيمون عليه الحد فامتنع منهم فدعى أهل مملكته فقال تعلمون دينا خيرا من دين آدم قد كان آدم ينكح بنيه ببناته فأنا على دين آدم وما يرغب بكم عن دينه فبايعوه وقاتلوا الذين خالفوهم قتلوهم فأصبحوا وقد أسرى علمائهم فرفع من بين أظهرهم وذهب العلم الذي في صدورهم أهل كتاب، وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر منهم الجزية ذكر الحديث ابن الجوزي في التحقيق وقال : سعيد بن مرزبان مخروج قال : يحى بن سعيد لا استحل أن يروى عنه، وقال يحيى ليس بشيء ولا يكتب حديثه، وقال القلاس متروك الحديث، وقال أبو أسامة كان ثقة، وقال أبو ذرعة صدوق مدلس، قلت : وذكر أبو يوسف في كتاب الخراج قال : حدثنا سفيان بن عيينة عن نضر بن عاصم الليثي عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر أخذوا الجزية من المجوس وقال : أنا أعلم الناس بهم، وكانوا أهل كتاب يقرؤونه وعلم يدرسونه فنزع من صدورهم، وقال : أبو يوسف وحدثنا نصر بن خليفة ان فروة بن نوفل الأشجعي قال : إن هذا المر عظيم يؤخذ من المجوس الخراج وليسوا بأهل الكتاب، قال : فقام إليه مستورد بن الأحنف قال : طعنت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتب وإلا قتلتك وقال : قد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من جوس أهل هجر الخراج، قال : فارتفعا إلى علي رضي الله عنه فقال أن أحدثكما بحديث ترضيانه جميعا عن المجوس ان المجوس كانوا لهم كتاب يقرؤونه وان ملكا شرب حتى سكر فأخذ بيد أخته فأخرجها من القرية واتبعه رهط فوقع عليها وهم ينظرون إليه، فلما أفاق من سكره قالت له أخته : إنك صنعت كذا وفلان وفلان وفلان وفلان ينظرون إليك فقال : ما علمت ذلك، قالت : إنك مقتول إلا أن تطيعني قال : فإني أطيعك قالت : فاجعل هذا دينا وقل هذا دين آدم وقل حواء من آدم وادع الناس إليه واعرضهم على السيف فمن بايعك فدعه فمن أبى فاقتله ففعل فلم يتبعه أحد فقتلهم يومئذ حتى الليل، فقالت له : إني أرى الناس قد اجترؤوا على السيف وهم على النار لكع فأوقد لهم نارا ثم أعرضهم علينا ففعل وهاب الناس من النار فبايعوه قال : علي رضي الله عنه فأخذ سول الله صلى الله عليه وسلم الخراج لأجل كتابهم وحرم مناكحهم وذبائحهم لشركهم.
وروى ابن الجوزي في التحقيق أن ابن عباس قال : إن أهل فارس لما مات نبيهم كتب لهم إبليس المجوسية، والجواب : أن قوله صلى الله عليه وسلم :" سنوا بهم سنة أهل الكتاب " لا يدل على كونهم من أهل الكتاب ولا على ان يفعل بهم كل ما يفعل بأهل الكتاب بل يدل على جواز أخذ الجزية منهم للإرجاع على انه لا يجوز مناكحة نسائهم ولا أكل ذبائحهم، وما ذكر من حديث على حجة لنا لا علينا لنهم وإن كان أسلافهم أهل كتاب يدرسونه لكنهم منذ تركوا ذلك الدين والعمل بالكتاب ورفع العلم منهم وكتب لهم إبليس المجوسية لم يبقوا أهل كتاب، ومن ههنا اتفق العلماء على ان المجوس ليسوا بأهل كتاب إلا في قول للشافعي وفي قول هو مع الجمهور إنهم ليسوا بأهل كتاب قلت : ولو كفى كون أسلافهم من أهل الكتاب لكان عبدة الأوثان من أهل الهند أولى بهذا الاسم فإنهم يقرؤون الكتاب ويدرسونه ويسمونه بيد وهي أربعة أجزاء ويزعمونه من عند الله تعالى ويوافق أصولهم في كثير من الأمور بأصول الشرع وما يخالف الشرع فذلك من اختلاطات الشيطان كما تفرق فرق الإسلام إلى ثلاث وسبعين فرقة بتخليطه الشيطان ودعوتهم هذا مؤيد من الشرع حيث قال : الله تعالى ﴿ وإن من امة إلا خلا فيها نذير ﴾ ٣ فهم أولى من المجوس في كونهم أهل كتاب لأن ملك المجوس لما سكر وزنا بأخته ترك دينه وكتابه دينه وكتابه وادعى دين آدم وهؤلاء الكفار لم يفعلوا ذلك إلا أنهم كفروا بتركهم الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكر لي أن في الجزء الرابع من بيد بشارة يبعثه خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم حتى أسلم بعض من قرأ الجزء والله أعلم. وقد يحتج للشافعي على ان الوثني لا يؤخذ منهم الجزية بان القتال واجب بقوله تعالى :﴿ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ﴾ ٤ إلا أنا عرفنا جواز تركه حق أهل الكتاب بالكتاب وفي حق المجوس بالخبر، يعني أنه صلى الله عليه وسلم أخذنا من مجوس الهجر فبقي من ورائهم على الأصل قلنا تعالى :﴿ أنفسكم المشركين ﴾ خص منه المجوس بالإجماع فجاز تخصيصه بالمعنى وبالحديث، أما المعنى فإن عبدة الأوثان في معنى المجوس فإنهم مشركون كهيئتهم وكون أصولهم من أهل الكتاب لا يفيدهم وأيضا يجوز استرقاقهم بالإجماع فيجوز ضرب الجزية عليهم إذ كل واحد منهما يشتمل على سلب النفس منهم فإنه يكتسب ويؤدي إلى المسلمين ونفقته في كسبه، وأما الحديث فحديث سليمان بريدة عن أبيه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصة بتقوى الله. . . ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال :" أغزوا بسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليد أو إذا ألقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار الهجرة فأخبرهم انهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا ان يتحولوا منها، فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ولا يكون لهم في الغنيمة وألفي شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم " ٥ الحديث رواه مسلم، والحجة على جواز اخذ الجزية من الكتابي العربي حديث أنس قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة فأخذوه فأتوا به فحقن دمه وصالحه على الجزية ٦ رواه أبو داود، وروى أبو داود و البيهقي من حديث يزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر النبي صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى اليدر بن عبد الله الملك رجل من كندة كان ملكا على دومة فذكره وفيه انه صالحه على الجزية، قال : الحافظ : إن ثبت أن أكيدر كان كنديا ففيه دليل على ان الجزية لا يختص بالعجم من أهل الكتاب لأن أكيدر عربي وإذا ثبت ان الجزية لا يختص بأهل الكتب ولا بأهل العجم ثبت مذهب أبي حنيفة ومالك غير أن أبا حنيفة يقول : لا يجوز الجزية من عبدة الأوثان من أهل العرب ولا استرقاقهم أخرج عبد الرزاق عن معمر عن الزهري أنه صلى الله عليه وسلم صالح عبدة الأوثان إلا من كان من العرب، قال : أبو حنيفة : إن النبي صلى الله عليه وسلم نشأ بين أطهر العرب والقرآن نزل بلغتهم فالمعجزة في حقهم أظهر فلا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف وكذا المرتد وإن كفر بربه بعدما هدى إلى الإسلام ووقف على محاسنه فر يقبل منه إلا الاستسلام أو السيف، ذكر محمد بن الحسن عن مقسم عن ابن عباس انه صلى الله عليه وسلم قال :
٢ أخرجه الشافعي في الجزء الثاني: ماجاء في الجزية (٤٣٠).
٣ سورة فاطر الآية: ٢٤.
٤ سورة البقرة، الآية: ١٩٢.
٥ أخرجه مسلم في كتاب: الجهاد والسير، باب: تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصيته لإياهم بآداب الغزو وغيرها (١٧٣١).
٦ أخرجه أبو داود في كتاب: الخراج والفيء والإمارة، باب: في اخذ الجزية (٣٠٣٥).
٢ رواه أحمد والطبراني ورجال الصحيح. انظر مجمع الزوائد في كتاب: المغازي والسير باب: علو الإسلام على كل دين خالفه وظهوره عليه (٩٨٠٧).
٣ أخرجه مسلم في كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: لا تقوم الساعة حتى تعبد دوس ذا الخلصة (٢٩٠٧).
خص الله سبحانه النوعين بالذكر من بين سائر الأموال الظاهر لأنهما أثمان الأشياء وغيرهما من الأموال يقدر بهما من غير عكس، ولأجل هذا وجب الزكاة في عروض التجارة إذا بلغ نصابا من ذهب أو فضة دون غيرهما من نصب أموال الزكاة، فذكرهما يغني عن ذكر سائر الأشياء أو لأنهما يكنزان غالبا دون غيرهما. ﴿ في سبيل الله ﴾ قلت : عدم الإنفاق في سبيل الله يعم عدم الإنفاق أصلا في غير سبيل الله بل في اتباع النفس والشيطان كالذين ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، لكن لما سبق في الآية ﴿ إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله ﴾ علم أن المراد هاهنا عدم الإنفاق أصلا كما يستدعيه قوله تعالى :﴿ يكنزون ﴾، والإنفاق في سبيل الله يعم الزكاة المفروضة والصدقة النافلة والنفقات الواجبة المستحبة وكلما كان في طاعة الله تعالى، عن ابن مسعود قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أنفق المسلم عن أهله وهو يحتسبها كانت له صدقة " ١ متفق عليه وعن أبي هريرة قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" دينار أنفقته في سبيل الله في رقبة ودينار تصدقت به على المسكين ودينار أنفقته على اهلك أعظمها أجرا الذي أنفقته على اهلك " ٢ رواه مسلم، وعن ثوبان قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله ودينار ينفقه على دابة في سبيل الله ودينار على أصحابه في سبيل الله " ٣ وعن أم سلمة قالت : قلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألي أجر إن أنفق على بني سلمة إنما هم بني فقال :" أنفقي عليهم ذلك اجر ما أنفقت عليهم " ٤ متفق عليه، وعن زينب امرأة ابن مسعود سألت هي وامرأة أخرى رسول الله صلى الله عليه وسلم أيجزئ الصدقة عنهما على أزواجهما ؟ قال :" لهما أجران أجر القرابة وأجر الصدقة " ٥ متفق عليه ﴿ فبشرهم ﴾، يعني كلا الفريقين الذي يأكلون أموال الناس بالباطل والذين يكنزون ولا ينفقون أصلا ﴿ بعذاب اليم ﴾ فعلى هذا التأويل الذي ذكرت حكم الآية مختص بأهل الكتاب، وقال الحسن عن بعض الصحابة وفي غيرهم بدلالة النص ويحتمل أن يكون قوله تعالى ﴿ والذين يكنزون ﴾ كلاما مستأنفا غير مختص بأهل الكتاب و به قال : أبو ذر، وعلى هذا التأويل سياق الكلام يقتضي أن يقدر قوله تعالى﴿ إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله ﴾ ﴿ فبشرهم بعذاب أليم ﴾ ولم يذكر هناك اكتفاء في الجملة التالية.
فائدة
وفي تقريع بشارة العذاب على الكنز وعدم الإنفاق جميعا إشارة إلى أنه لا بأس بالكنز لو انفق منها في سبيل الله ما وجب فيها وعليه انعقد الإجماع اخرج الطبراني في الأوسط وابن عدي في الكامل وابن مردويه والبيهقي في سننه من حديث ابن عمر قوله صلى الله عليه وسلم :" ما أدي زكاته فليس بكنز أوعد عليه، قال : البغوي روى مجاهد عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية كبر ذلك على المسلمين وقالوا ما يستطيع أحد منا لا يدع لولده شيئا فذكر عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :" إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم " ٦ قلت أخرج هذا الحديث أبو داود وأبو يعلى وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس وزاد :" وإنما فرض المواريث ليكون من بعدكم "، وقال البغوي قال : ابن عمر ما أبالي لو كان لي مثل أحد ذهبا أعلم عدده أزكيه واعمل بطاعة الله، واخرج ابن أبي حاتم والحاكم وأبو الشيخ وابن حبان موقوفا على علي ابن أبي طالب انه قال : كل مال على أربعة آلف درهم فهي كنز أديت فيه الزكاة أو لم يؤدوا ما دونها نفقة وقيل : ما فضل عن الحاجة كنز لحديث أبي ذر قال : انتهيت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في طل الكعبة فلما رآني قال :" هم الأخسرون ورب الكعبة " قلت : فدالك أبي وأمي من هم :" هم الأكثرون أموالا إلا من قال : هكذا وهكذا و هكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وقليل ما هم " ٧ متفق عليه، وحديث أبي ذر أيضا مرفوعا :" من ترك صفراء وبيضاء كوى بها " أخرجه البخاري في تاريخه وابن جرير وابن مردويه، قلت : لعل المراد بهذا الحديث أنه كوي أن لم يؤد حقها وكذا بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق " إلا من قال : هكذا المراد إلا من أدى ما وجب فيها فإن الأكثرين أموالا يجب عليهم مال كثير، وفي الزكاة فلا بد أن ينفقوا من كل جانب وفي كل باب من أبواب الخير.
واحتج من قال : إن فضل عن الحاجة فكنز أيضا بحديث أبي أمامة قال : مات رجل من أهل الصفة فوجد في مئزره دينار، فقال : النبي صلى الله عليه وسلم " كية "، ثم توفي آخر فوجد في مئزره ديناران فقال : النبي صلى الله عليه وسلم " كيتان " ٨، ذكره البغوي وحديث ابن مسعود قال : توفي رجل من أهل الصفة فوجدوا في شملته دينارين فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال :" كيتان " وفي حديث مسعود بن عمر انه أتى برجل يصلي عليه فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم " كم ترك " ؟ قالوا : دينارين أو ثلاثة، قال عليه السلام :" كيتين أو ثلاث كيات " فلقيت عبد الله أبا القاسم سوى أبي بكر فقال : ذك رجل يسأل الناس تكثرا رواه البيهقي، من رواي يحيى بن عبد الحميد الحماني، قلت : وما ذكر أبو القاسم محمل لحديث أبي أمامة وابن مسعود أيضا ويمكن أن يقال من التزم على نفسه التصرف وعاهده الله تعالى على الترك والتوكل ولا يكون ذا عيال عليه حقوق الناس لا يجوز له أن يمسك فوق حاجته قال : الله تعالى :﴿ أوفوا بالعقود ﴾ ٩ ﴿ وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤلا ﴾ ١٠فكان أهل الصفة من هذا النوع من الرجال وقول علي رضي الله عنه محمول على صوفي ذا عيال وعلي رضي الله عنه أبو الصوفية أجمعين.
٢ أخرجه مسلم في كتاب: الزكاة: باب: فضل النفقة على العيال والمملوك وإثم من ضيعهم أو حبس نفقتهم عنهم (٩٩٥).
٣ أخرجه مسلم في كتاب: الزكاة باب: فضل النفقة على العيال والمملوك وإثم من ضيعهم أو حبس نفقتهم عنهم(٩٩٤).
٤ أخرجه البخاري في كتاب: الزكاة، باب: الزكاة على الزوج والأيتام في الحجر (١٤٦٧)، وأخرجه مسلم في كتاب: الزكاة، باب: فضل النفقة والصدقة على الأقربين (١٠٠١)..
٥ أخرجه البخاري في كتاب: الزكاة، باب: الزكاة على الزوج والأيتام في الحجر (١٤٦٦)، وأخرجه مسلم في كتاب: الزكاة باب: فضل الصدقة والنفقة على الأقربين (١٠٠٠).
٦ أخرجه أبو داود في كتاب: الزكاة باب: في حقوق المال (١٦٦٣).
٧ أخرجه البخاري في كتاب: اليمان والنذور باب: كيف يمين النبي صلى اله عليه وسلم (٦٦٣٨) وأخرجه مسلم في كتاب: الزكاة باب تغليظ عقوبة من لا يؤدي الزكاة ٩٩٠.
٨ رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير شهر بن حوشب وقد وثق، انظر مجمع الزوائد في كتاب:
الزهد باب: في الإنفاق والإمساك (١٧٧٧٠).
٩ سورة المائدة، الآية ١..
١٠ سورة الإسراء، الآية ٣٤..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: الزكاة باب: إثم مانع الزكاة (١٤٠٣).
٣ أخرجه البخاري في كتاب: الزكاة، باب زكاة البقر (١٤٦٠).
وأخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب تغليظ عقوبة من لا يؤدي الزكاة (٩٩٠).
روى الشيخان في " الصحيحين " عن أبي بكرة قال : خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر قال :" إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق السموات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاث متواليات ذو القعدة ة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان، وقال أي شهر هذا ؟ قلنا الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا انه سيسميه بغير اسمه فقال : أليس ذو الحجة قلنا : بلى قال : أي بلد هذا ؟ الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال : أليس البلدة ؟ قلنا : بلى، قال : فأي يوم هذا ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال : أليس يوم النحر ؟ قلنا بلى :" فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالا يضرب بعضكم رقاب بعض ألا هل بلغت، قالوا : نعم قال :" اللهم اشهد فليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع " ١ قالوا : وقد كان قد استمر النسيء بهم وكانوا يحجون في بعض السنين في شهر ويحجون من قابل في شهر آخر " قال : مجاهد : كانوا يحجون في كل شهر عامين فحجوا في ذي الحجة عامين وفي المحرم عامين ثم حجوا في صفر عامين وكان وكذلك في الشهور فوافق حجة أبي بكر رضي الله عنه قبل حجة الوداع السنة الثانية من ذي القعدة ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم في العام المقبل حجة الوداع فوافق حجه شهر الحج المشروع وهو ذو الحجة ووقف بعرفة اليوم التاسع وخطب اليوم العاشر بمنى، وأعلمهم أن أشهر النسيء قد تناسخت باستدارة الزمان وعاد المر إلى ما وضع الله عليه حساب الأشهر يوم خلق الله السموات والأرض وأمرهم بالمحافظة لئلا يبدل في مستأنف الأيام واختلفوا في أول من النسيء، فقال : ابن عباس والضحاك وقتادة ومجاهد أول من نسأ بنو مالك بن كنانة وكانوا ثلاثة أبو ثمامة وجنادة بن عوف وابن أمية الكناني، وقال الكلبي : أول من فعل ذلك رجل من بني كنانة يقال : له نعيم بن ثعلبة وكان يكون أميرا على الناس بالموسم فإذا هم الناس بالصدر، قام فخطب الناس فقال : لا مرد لما قضيت أن الذي لا أعاب ولا أحاب، فيقول له المشركون لبيك يسألونه أن ينسهم شهرا يغيرون فيه فيقول : فإن صفر العام حرام فإذا قال : ذلك حلوا الأوتار ونزعوا الأسنة والأزجة وإن قال : حلال عقدوا الأوتار وشدوا الأزجة وأغاروا وكان من بعد نعيم بن ثعلبة رجل يقال له جنادة بن عوف وهو الذي أدركه النبي صلى الله عليه وسلم وقال عبد الرحمان بن زيد بن أسلم وهو رجل من بني كنانة يقال له الغلمس وقال شاعرهم :
***وفينا ناسي الشهر ***
وكانوا لا يفعلون ذلك إلا في ذي الحجة إذا اجتمع العرب للموسم، وقال ابن جرير والضحاك عن ابن عباس أول من سن النسيء عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف، روى مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف أبا بني كعب هؤلاء يجر قصبه في النار " ٢ فهذا الذي ذكرنا هو الذي قال : الله تعالى : إنما النسيء ﴿ زيادة في الكفر ﴾ لأنه تحريم ما أحله الله وتحليل ما حرمه الله فهو كفر آخر زائد على كفرهم ﴿ يضل به الذين كفروا ﴾ قرأ حمزة والكسائي وحفص يضل بضم الياء على البناء للمفعول كقوله تعالى :﴿ زين لهم سوء أعمالهم ﴾ ٣ وقرأ يعقوب بضم الياء وكسر الضاء من الأفعال وهي قراءة الحسن ومجاهد يعني يضل به الذين كفروا الناس وقرأ الباقون بفتح الياء وكسر الضاد على البناء للفاعل من المجرد الذي كفروا الناس وقرأ الباقون بفتح الياء وكسر الضاد على البناء للفاعل من المجرد لأنهم هم الضالون ﴿ يحلونه ﴾ الضمير راجع إلى الشهر المفهوم من النسيء يعني يحلون شهرا ﴿ عاما ويحرمونه عاما ﴾ والجملتان تفسير للضلال أو حال ﴿ ليواطؤا ﴾ متعلق بيحرمونه أو بما دل عليه مجموع الفعلين يعني يفعلون ذلك ليوافقوا والمواطأة الموافقة ﴿ عدة ما حرم الله ﴾ وهي الأربعة الأشهر ﴿ فيحلوا ما حرم الله ﴾ كيلا يزيد الأشهر الحرم على الأربعة قصدوا مراعاة العدد من غير مراعات الوقت والله اعلم ﴿ زين لهم سوء أعمالهم ﴾ قال : ابن عباس يريد زين لهم الشيطان سوء أعمالهم حسبوا حسنا، أو المعنى زين الله تعالى سوء أعمالهم بمعنى أنه خذلهم فأضلهم يناسبه قوله ﴿ والله لا يهدي القوم الكافرين ﴾ هداية موصلة إلى الحق ذكر محمد بن يوسف الصالحي انه قال : محمد بن عمرو ومحمد بن سعيد أن جماعة من الأنباط الذي يقدمون المدينة بالزيت من الشام، ذكروا المسلمين أن الروم جمعوا جموعا كثيرة وان هرقل قد رزق أصحابه لسنة وأخليت معهم لخم وجذام وعاملة وغسان وغيرهم من مستقر العرب وجاءت مقدمتهم إلى البلقاء ولم يكن حقيقة فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فندب الناس إلى الخروج إلى الشام، وروى الطبراني بسند ضعيف عن عمران بن حصين قال : كانت نصارى العرب كتب إلى هرقل أن هذا الرجل الذي خرج يدعي النبوة هلك وأصابهم سنون فهلكت أموالهم فإن كنت تريد أن تلحق دينك فالآن فبعث رجلا من عظمائهم وجهز معه أربعين ألفا فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فأمر بالجهاد.
وروى ابن أبي حاتم وأبو سعيد النيسابوري بإسناد حسن أن اليهود قالت : لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا القاسم إن كنت صادقا فالحق بالشام فإنها أرض الأنبياء فعزم غزوا لايريد إلا الشام فلما بلغ تبوك أنزل الله الآيات من سورة بني إسرائيل ﴿ وإن كانوا ليستفزونك من الأرض ﴾ الآيات، وروى ابن مردويه عن ابن عباس وابن أبي شيبة وابن المنذر عن مجاهد وابن جرير عن سعيد بن جبير أن الله سبحانه لما أمر بمنع المشركين من قربان المسجد الحرام في الحج وغيره قالت قريش وغيره قالت قريش : ليقطعن عنا المتجر والأسواق ما كنا نصيب منها فعوضهم الله تعالى عن ذلك بالأمر بقتال أهل الكتاب حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون كما قال :﴿ وإن خفتم عيلة يغنيكم الله من فضله إن شاء ﴾٤ وقال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة ﴾٥ عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتال الروم لأنهم أقرب الناس إليه وأولى الناس بالدعوة إلى الحق لقربهم إلى الإسلام، قال : البغوي : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف أمر بالجهاد بغزو الروم قال : محمد بن يوسف الصالحي : لما عزم النبي صلى الله عليه وسلم على القتال الروم عام تبوك وكان ذلك في زمان عسرة من الناس وشدة من الحر وجدب في البلاد وحين طابت الثمار والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم ويكرهون الشخوص على تلك الحال من الزمان، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قل يخرج في غزوة إلا كنى عنها وروى بغيرها إلا ما كان من غزو تبوك فإنه صلى الله عليه وسلم بينها للناس لبعد الشقة وشدة الزمان وكثرة العدو يعمد له ليتأهب الناس لذلك أهبة فأمر صلى الله عليه وسلم للجهاد وكذا روى ابن أبي شيبة والبخاري وابن سعد عن كعب بن مالك ودعى من حوله من أحياء العرب للخروج معه فارغب معه بشر كثير وبعث إلى مكة وتخلف المنافقون وجماعة من المؤمنين المقصرين ومتثاقلوا فأنزل الله تعالى فيهم. ﴿ يا أيها الذين امنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ( ٣٨ ) إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير ( ٣٩ ) إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فانزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم ( ٤٠ ) ﴾
٢ أخرجه مسلم في كتاب: صفة الجنة ونعيمها وأهلها باب: النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء (٢٨٥٦).
٣ أخرجه مسلم في كتاب: صفة الجنة ونعيمها وأهلها باب: النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء (٢٨٥٦).
٤ سورة التوبة، الآية: ٢٨..
٥ سورة التوبة، الآية: ١٢٣..
قصة خروجه صلى الله عليه وسلم من مكة
روى موسى بن عقبة وابن إسحاق واحمد والبخاري وابن حبان عن عائشة وابن إسحاق والطبراني عن أختها أسماء رضي الله عنهما قالت عائشة فيما روى البخاري : لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في النهار بكرة وعشية، فلما ابتلى المسلمون قال : النبي صلى الله عليه وسلم " رأيت دار هجرتكم ذات نخيل اللأبتين " وهي الحرتان، فهاجر من هاجر قبل المدينة ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة على المدينة وتجهز أبو بكر قبل المدينة فقال : له رسول الله صلى الله عليه وسلم :" على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي : فقال : أبو بكر : وهل ترجوا ذلك بأبي أنت وأمي ؟ قال :" نعم " فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه و علف راحلتين كانتا عنده ورق السمر، وهو الخبط أربعة أشهر فبينا نحن جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قالت : أسماء يا أبت هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقنعا رأسه في ساعة لم يكن يأتيها فيها قال : أبو بكر : فداه أبي وأمي والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم واستأذن فأذن له فدخل فقال : النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر :" أخرج من عندك " فقال أبو بكر : لا عين عليك إنما هما ابنتاي، وفي لفظ إنما هم أهلك بأبي وأمي يا رسول الله فقال :" إنه قد أذن لي في الخروج " فقال : أبو بكر الصحبة يا رسول الله قال : نعم قالت عائشة : فرأيت أبا بكر يبكي وما كنت أحسب أن أحدا يبكي من الفرح حتى رأيت أباب بكر، فقال : أبو بكر : يا رسول الله فخذ بأبي أنت إحدى راحلتي هاتين فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" بالثمن لا أركب بعيرا ليس لي " قال : هو لك ولكن بالثمن الذي ابتعتهما به، قال : أخذتها بكذا قال : أخذتها بذلك، قال : هي لك، وعند البخاري في غزوة الرجيع إنها الجدعاء، وأفاد الواقدي أن الثمن ثمان مائة، قالت عائشة فجهزوهما أحب الجهاز ووضعنا لهما سفرة في جراب، وأفاد الواقدي انه كان في السفرة شاة مطبوخة فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب فبذلك سميت ذات النطاقين، وفي رواية ذات النطاق، قال : محمد بن يوسف الصالحي المحفوظ في هذا الحديث أن أسماء نطاقها نصفين فشدت بأخدهما الزاد واقتصرت على الآخر، ومن ثم قيل لها : ذات النطاق وذات النطاقين فالتثنية والأفراد بهذين الاعتبارين، وعن ابن سعد أنها شقت نطاقها فأوكت بقطعة من الجراب وشدت في القرية بالباقي فسميت ذات النطاقين واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الديل وهو على دين كفار قريش وأسلم بعد ذلك وكان هاديا خريتا يعني ماهرا بالهداية فأمنا فدفعا إليه راحليتهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث براحلتيهما، وأعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم. . عليا بخروجه وأمره أن يتخلف بعده حتى يؤدي عنه الودائع التي كانت عند للناس وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بمكة احد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده لما يعلم من صدقه وأمانته قالت عائشة : ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في غار في جبل ثور في حديث عمر عند البيهقي أنهما خرجا ليلا، وذكر ابن إسحاق والواقدي أنهما خرجا من خوخة في ظهر بيت أبي بكر، وروى أبو نعيم عن عائشة بنت قدامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لقد خرجت من الخوخة متنكرا فكان أول من لقيني أبو جهل فأعمى الله عز وجل بصره عني وعن أبي بكر حتى مضينا، قالت أسماء وخرج أبو بكر بماله كله خمسة آلاف درهم، قال : البلادري كان مال أبي بكر يوم أسلم أربعين ألف درهم فخرج للمدينة للهجرة وما ماله إلا خمسة آلاف درهم أو أربعة فبعثه ابنه عبد الله فحملها على الغار قالت : فدخل علينا جدي أبو قحافة وقد ذهب بصره فقال : والله إني لأراه قد ذهب بماله مع نفسه قالت قلت : كلا يا أبت إنه ترك لنا خيرا كثيرا قالت : فأخذت أحجارا فوضعتها في كوة البيت كان أبي يضع ماله فيها ثم وضعت عليها ثوبا ثم أخذت بيده فقلت : ضع يا أب يدك على هذا المال قالت فوضع يده عليه فقال : لا بأس إن كان ترك لكم هذا فقد أحين وفي هذا بلاغ لكم ولا والله ما ترك لنا شيا ولكن أردت أن أسكن الشيخ
روى البيهقي أن أبا بكر لما خرج هو ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار جعل يمشي مرة أمام النبي صلى الله عليه وسلم ومرة خلقه ومرة عن يمينه ومرة عن شماله فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم اذكر الرصد فأكون أمامك واذكر الطلب فأكون خلفك ومرة عن يمينك ومرة عن يسارك لا آمن عليك، فلما انتهينا إلى فم الغار قال : أبو بكر : والذي بعثك بالحق نبيا لا تدخله قلبك ما أن كان فيه شيء نزل بي قبلك فدخله فجعل يلتمس بيده فكلما رأى حجرا قال : بثوبه فشقه ثم ألقمه الجحر حتى فعل ذلك بثوبه أجمع فبقي حجر فوضع عقبه عليه، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلت الحيات يلسعن أبا بكر وجعلت دموعه يتحدر، وروى ابن أبي شيبة وابن المنذر عن أبي بكر رضي الله عنه أنما لما انتهيا إلى الغار إذا حجر فألقمه أبو بكر رجليه فقال : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان لدغة أو لسعة كان بي، وروى ابن مردويه عن جندب بن سفيان قال : لما انطلق أبو بكر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار قال : أبو بكر : يا رسول الله لا تدخل الغار حتى استبرئه فدخل أبو بكر الغار فأصاب يده شيء فجعل يمسح الدم عن يده ويقول : هل أنت إلا أصبع رميت وفي سبيل الله ما لقيت " وفي حديث انس عند أبي نعيم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصبح قال لأبي بكر أين ثوبك فأخبر بالذي صنع فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وقال : اللهم اجعل أباب بكر معي في درجتي في الجنة فأوحى إليه قد استجاب الله لك "، وروى رزين عن عمر انه ذكر عنده أبو بكر فبكى وقال : وددت أن عملي كله مثل عمله يوما واحدا من أيامه وليلة واحدة من لياليه أما ليلته فليلة سار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار فلما انتهيا إليه قال : والله لا تدخله حتى ادخل قبلك فإن كان فيه شيء أصابني دونك فدخل فكسحه ووجد في جانبه ثقبا فشق إزاره وسدها به فبقي فيها اثنان فألقمها رجليه ثم قال : لرسول الله صلى الله عليه وسلم أدخل فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع رأسه في حجره ونام، فلدغ أبو بكر في رجله من الحجر ولم يتحرك مخافة أن ينتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقطت دموعه على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب ما يجده ثم انتقض عليه وكان سبب موته، وأما يومه فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب وقالوا لا نؤدي زكاة فقال : لو منعوني عقالا لجهاتهم عليه فقلت : يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم تالف الناس وأرفق بهم فقال : لي : أحبار في الجاهلية وخوار في الإسلام إنه قد انقطع الوحي وتم الدين أينقص وأنا حي.
روى ابن سعد وأبو نعيم والبيهقي وابن عساكر عن أبي مصعب المكي قال : أدركت أنس بن مالك وزيد بن أرقم والمغيرة بن شعبة فسمعتهم يتحدثون أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الغار انبت الله شجرة فنبت في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر الله حمامتين وحشيتين فوقفتا في فم الغار وأقبل فتيان من كل بطن بعصيهم وهراويهم وسيوفهم حتى إذا كانوا من النبي صلى الله عليه وسلم على أربعين ذراعا جعل بعضهم ينظر في الغار فلم ير إلا حمامتين وحشيتين فعرف أنه ليس فيه فسمع النبي صلى الله عليه وسلم ما قال : فعرف أن الله تعالى قد درأ عنه بهما فبارك عليهما النبي صلى الله عليه وسلم وفرض جزاء بهن وانحدرتا في الحرم فأفرخ ذلك الزوج كل شيء في الحرم وروى أحمد بسند حسن عن ابن عباس أن المشركين قصوا أثره رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم فصعد والجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا لو دخل ههنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه فمكث فيه ثلاث ليال، وروى الحافظ أحمد أبو بكر بن سعيد القاضي شيخ للنسائي في مسند الصديق عن الحسن البصري قال : جاءت قريش يطلب النبي صلى الله عليه وسلم قائما يصلي وأبو بكر يرتقب فقال : أبو بكر يا رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء قومك يطلبونك أما والله ما على نفسي أبكي ولكن مخافة أن أرى فيك ما أكره فقال : له النبي صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر لا تخف إن الله معنا وفي الصحيحين عن أبي بكر الصديق قال :" قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ونحن في الغار لو أن أحدهم نظر إلى قدمه لأبصر ما تحت قدمه فقال :" يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما " ٣ وروى أبو نعيم في الحلية عن عطاء بن مسيرة قال : نسجت العنكبوت مرتين مرة على داود حين كان طالوت يطلبه ومرة على النبي صلى الله عليه وسلم في الغار، وذكر البلاردي في تاريخه وأبو سعيد أن المشركين استأجروا رجلا يقال له : علقمة بن كرز بن هلال الخزاعي وأسلم عام الفتح فقفا لهم الأثر حتى انتهى إلى غار ثور وهو بأسفل مكة، فقال : هنا انقطع أثره ولا أدري أخذ يمينا أو شملا ثم صعد الجبل فلما انتهوا على فم الغار قال : أمية بن خلف ما أرى لكم في الغار أن عليه لعنكبوتا كان قبل ميلاد محمد ثم جاء قبال، وروى البيهقي عن عروة أن المشركين لما فقدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ركبوا في كل وجه
٢ أخرجه مسلم في كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه (٢٣٨٣).
٣ أخرجه البخاري في كتاب: فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم باب: مناقب المهاجرين وفضلهم (٣٦٥٣)، واخرجه مسلم في كتاب: فضائل الصحابة باب: من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه (٢٣٨١)..
وقال أبو صالح : خفافا من المال أي فقراء وثقالا أي أغنياء وقيل : خفافا مسرعين خارجين ساعة سماع النفير وثقالا بعد التروي فيه والاستعداد له، وقال الزهري : خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهب إحدى عينيه فقيل له إنك عليل صاحب ضر فقال : استنفر الله الخفيف والثقيل وغن يمكنني الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع، وقال : عطاء الخراساني عن ابن عباس نسخت هذه الآية قوله تعالى ﴿ وما كان المؤمنين لينفروا كافة ﴾١ وقال السدي لما نزلت هذه الآية اشتد شأنها على الناس فنسخها الله تعالى وأنزل :﴿ ليس على الضعفاء ولا على المرضى ﴾ ٢ الآية لعل المراد بالنسخ في قول ابن عباس والسدي التخصيص لكون نزول الآيتين جميعا بلا فصل في غزوة تبوك فخرج من هذا الحكم من لا يستطيع الخروج من الضعفاء والمرضى والذي لا يجدون ما ينفقون أو ما يركبون عليه ولا يستطيعون الشيء وبقي من يستطيع الخروج ولو بنوع مشقة وذلك لأجل النفير العام ويمكن أن يكون نزول قوله تعالى ﴿ ليس على الضعفاء ﴾ للآية بفضل يوم أو يومين ولو في غزوة تبوك بعدما اشتد شانها على الناس فيكون نسخا والله أعلم.
﴿ وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم ﴾ أي : بما أمكن لكم منهما كليهما أو احدهما ﴿ في سبيل الله ذلكم خير لكم ﴾ من الاستمتاعات الدنيوية وترك الجهاد ﴿ إن كنتم تعلمون ﴾الخير من الشر علتهم أن خير لكم أو إن كنتم تعلمون إنه خير وإخبار الله به صدق فبادروا إليه قال : محمد بن عمر حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة يعني لتجهيز جيش العسرة في غزوة تبوك وكان أول من جاء بماله أبو بكر الصديق بأربعة آلاف درهم فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" هل أبقيت لأهلك شيئا " ؟ قال : أبقيت لهم الله ورسوله وجاء عمر بنصف ماله فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم " هل أبقيت لأهلك شيئا " ؟ قال نعم مثل ما جئت به وحمل العباس طلحة بن عبيد الله وسعد بن عبادة وحمل عبد الرحمان بن عوف مائتي اوقية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتصدق عاصم بن عدي تسعين وسقا من تمر وجهز عثمان بن عفان ثلث ذلك الجيش حتى كان يقال : ما بقيت لهم حاجة حتى كفاهم، قال : محمد بن يوسف الصالحي كان ذلك الجيش زيادة على ثلاثين ألفا فيكون رضي الله عنه جهز عشرة آلاف وذكر أبو عمرو في الدرر وتبعه في الإشارة أن عثمان حمل على تسعمائة بعير ومائة فرس بجهازها، وقال ابن إسحاق، أنفق عثمان في ذلك الجيش نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها ونقل ابن هشام عمن يثق به أن عثمان أنفق في جيش العسرة عشرة آلاف درهم قال : محمد بن يوسف الصالحي : يعني غير الإبل والزاد وما يتعلق بذلك قال : فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" اللهم ارض عن عثمان فإني راض عنه " وروى أحمد والترمذي وحسنه والبيهقي عن عبد الرحمان بن سمرة قال : جاء عثمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بألف دينار فصبها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلبها بيده ويقول :" ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم " يرددها مرارا ٣
٢ سورة التوبة الآية ٩١.
٣ أخرجه الترمذي في كتاب: المناقب باب: في مناقب عثمان بن عفان رضي الله عنه (٣٧١٠).
﴿ لو كان ﴾اسم كان مضمر أي لو كان ما دعوا إليه ﴿ عرضا قريبا ﴾أي متاعا دنيويا أو المعنى غنيمة قريبته المتناول ﴿ وسفرا قاصدا ﴾ أي متوسطا ﴿ لا تبعوك ﴾ لوافقوك في الخروج طلبا للغنيمة، ﴿ ولكن بعدت عليهم الشقة ﴾يعني المسافة فإنها تقطع بمشقة، وقيل الغاية التي يقصدونها ﴿ وسيحلفون بالله ﴾ متعلق بسيحلفون أو هو من جملة كلامهم والقول مراد في الوجهين يعني سيحلفون بالله قائلين لو استطعنا لخرجنا أو سيحلفون المتخلفون إذا رجعت من تبوك معتذرين يقولون ﴿ لو استطعنا لخرجنا معكم ﴾ ساد مسد جواب القسم الشرط ومعنى الاستطاعة استطاعة العدة أو استطاعة الأبدان كأنهم تمارضوا وهذه معجزة لكونه إخبار عما وقع قبله ﴿ يهلكون أنفسهم ﴾ بدل من سيحلفون يعني أنهم يهلكونها بإيقاعها في العذاب بترك امتثال أمر رسول الله والكذب واليمين الفاجرة وجاز أن يكون حالا من فاعل خرجنا يعني لخرجنا معكم وإن أهلكنا أنفسنا بالمسير في الحر وألقياها في التهلكة وجاء به على لفظ الغائب لأنه مخبر عنهم ألا ترى أنه لو قال : سيحلفون بالله لو استطاعوا لخرجوا لكان أيضا سديدا، يقال حلف بالله ليفعلن ولا فعلن فالغيبة على حكم الإخبار والتكلم على الحكاية ﴿ والله يعلم إنهم لكاذبون ﴾في ذلك لأنهم كانوا مستطيعين بخروج
روى عبد الرزاق في المصنف بسند صحيح عن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى تبوك استخلف على المدينة علي بن أبي طالب.
قال ابن إسحاق : وخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب على أهله وأمره بالإقامة فيهم فأوجف به المنافقون وقالوا ما خلفه إلا استثقالا له وتحققا منه فلما قالوا : ذلك أخذ على سلاحه وخرج حتى لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بالجرف فأخبره بما قالوا، فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ( كذبوا ولكن خلفتك لما تركت ورائي فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك أفلا ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ) )١ فرجع علي رضي الله عنه وهذا الحديث متفق عليه، وعسكر عبد الله بن أبي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو تبوك تخلف ابن أبي راجعا إلى المدينة فيمن تخلف من المنافقين وقال يغزو محمد بني الأصفر مع جهد الحال والحر والبلد البعيد إلى ما لا طاقة له به يحسب محمد أن قتال بني الأصفر معه اللعب والله لكأني انظر إلى أصحابه مقرنين في الجبال إرجافا برسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه فأنزل الله. . . تعالى في ابن أبي ومن معه قوله تعالى :﴿ لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالهم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين ﴾
روى ابن النذر والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة عن ابن عباس وابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبد الله ومحمد بن اسحاق ومحمد بم عمرو بن عقبة عن شيوخهم أن جد بن قيس أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد معه نفر، فقال : يا رسول الله ائذن في القعود فإني ذو ضيعة وعلة فيها عذر لي فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ( تجهز فإنك موسر لعلك تحقب من بنات بني الأصفر ) ) قال : الجد أو تأذن لي ولا تفتني فوالله لقد عرف قومي ما أحد أشد عجبا بالنساء مني وإني لأخشى إن رأيت بنات بني الأصفر لا أصبر عنهن، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال :( ( قد أذنا لك ) )زاد محمد بن عمر فجاءه ابنه عبد الله بن جد وكان بدريا وهو أخو معاذ بن جبل لأمه فقال : لأبيه : لم ترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله فوالله ما في بني سلمة أحد أكثر مالا منك فلا تخرج ولا تحمل، فقال : يا بني مالي وللخروج في الحر الشديد والريح والعسرة إلى بني الأصفر والله ما أمن خوفا من بني الأصفر وأنا في منزلي أفأذهب إليهم أغزوهم إني والله يا بني عالم بالدوائر فأغبط له ابنه فقال : لا والله ولكنه النفاق، والله لينزلن على رسوله قوله أن يقرأ به فرفع نعله فضرب بها وجه ولده فانصرف ابنه ولم يكلمه فأنزل الله هذه الآية، للطبراني وابن مردويه وأبو نعيم أنه قال : عليه السلام لجد بن قيس : ما تقول في مجاهدة بني الأصفر ؟ فقال : يا رسول الله إني امرؤ صاحب النساء ومتى أرى نساء بني الأصفر أفتتن فأذن لي ولا تفتني فنزلت، وذكر البغوي أنه صلى الله عليه وسلم قال : يا أيا وهب هل لك في جلاد بني الأصفر تتخذ منهم سراري ووصيفا ؟ فقال : جد يا رسول الله لقد عرف قومي أني رجل مغرم بالنساء وأني أخشى إن رأيت بنات بني الأصفر فقال : ناس من المنافقين أنه ليفتنكم بالنساء فأنزل الله تعالى هذه الآية، ومعنى قوله لا تفتني على ما تقتضيه الروايات المذكورة أن لا تفتني ببنات بني الأصفر يعني أقه في الإثم والفتنة لأجل حبهن وعدم المصابرة عنهن، وقيل معناه لا تفتني بسبب ضياع المال والعيال إذ لا كافل لها بعدي، وقيل : معناه أئذن لي في القعود ولا توقعني في الفتنة يعني العصيان لمخالفة أمرك بأن لا تأذن لي واقعدوا فيه لإشعار بأنه لحالة متخلف إذن به أو لا يأذن ﴿ ألا في الفتنة ﴾أي : الشرك والعصيان ﴿ سقطوا ﴾وقعوا يعني الفتنة هي التي سقطوا فيها وهي فتنة التخلف وظهور النفاق ﴿ وان جهنم لمحيطة بالكافرين ﴾مطبقة بهم جامعة لهم يوم القيامة أو لأن لإحاطة أسبابها
عن أبي هريرة قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ( انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا إيمان لي وتصديق برسلي أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة أو أدخله الجنة ) )١متفق عليه، والترديد مانعة الخلود دون الجمع﴿ ونحن نتربص بكم ﴾إحدى السوأتين أن لا تتوبوا أحد لهما﴿ أن يصيبكم الله بعذاب من عنده ﴾يوم القيامة إن ظفرتم في الدنيا، وثانيهما ما قال :﴿ أو بأيدينا ﴾أي أو بعذاب بأيدينا وهو القتل على الكفر المفضي إلى عذاب النار وهذا على تقدير كون الخطاب لمطلق الكفار وعلى تقدير كونه للمنافقين خاصة فإحدى السوأتين : أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أي يهلككم أهلك الأمم الخالية فيعذبكم في النار إن متم على النفاق، وثانيهما : القتل على الكفر إن أظهرتم ما في قلوبكم ﴿ فتربصوا ﴾ ما هو عاقبتنا ﴿ إنا معكم متربصون ﴾ما هو عاقبتكم وقال الحسن تربصوا مواعيد الشيطان إنا متربصون مواعيد الرحمان من إظهار دينه.
قال البغوي : وصاحب أسباب النزول نزلت الآية في ذي الخويصرة التميمي يعني المذكور في هذا الحديث، واسمه خرقوص بن زهير أصل الخوارج، فظاهر الآية يأبى عن هذا القول لأن المذكور في الآية لمن الصدقات وقصتها ذي الخويصرة التميمي ومعتب بن قشير المذكورين في الحديثين الصحيحين المذكورين في قسمة غنائم حنين وهذه الآية نزلت في غزوة تبوك بعد غزوة حنين، وعندي الآية نزلت في قسمة صدقات جاء بها المسلمون لتجهيز جيش العسرة والله أعلم.
وقال الكلبي : نزلت الآية في رجل من المنافقين يقال له أبو الحواص قال : لم يقسم بالسوية قال : الله تعالى ﴿ فان أعطوا منها رضوا وان لم يعطوا منها إذا هم يسخطون إذا للمفاجأة نائب مناب الفاء الجزائية قيل : معناه وإن أعطوا كثيرا رضوا وفرحوا وإن أعطوا قليلا سخطوا نظرا إلى قوله تعالى { ولو أنهم رضوا ما أتاهم الله ورسوله ﴾
﴿ إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم ( ٦٠ ) ﴾
﴿ إنما الصدقات للفقراء ﴾قال : البيضاوي وهو دليل على أن المراد باللمز هم في قسمة الزكاة دون الغنائم، قلت : المراد بالآية والله أعلم أن مصرف الصدقات هم الفقراء فقط دون الأغنياء فالفقير هو المحتاج ضد الغني سواء كان له قليل من المال أو لم يكن وهو أعم من المسكين وغيره من الأصناف، وقال أكثر الحنفية الفقير من له دون النصاب، وما قلت أوفق لمذهب أبي حنيفة رحمه الله حيث يعتبر الفقر في الغارم والغازي وغيرهما، والدليل على ما قلت من عموم الفقر وشموله للأصناف قصة معاذ. روى الشيخان وأصحاب السنن من حديث ابن عباس :" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال :" إنك ستأتي قوما أهل كتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب " ١وبهذا الحديث اعتبر صفة الإيمان في الزكاة المفروضة فلا يجوز دفع الزكاة إلى فقير كافر ذميا كان أو حربيا لإجماع وأجاز الزهري وابن شبرمة الدفع إلى أهل الذمة ويؤيد قول الزهري وابن شبرمة ما روي عن عمر في قوله تعالى :" إنما الصدقات للفقراء " قال : هم زمنا أهل الكتاب وقد اضمحل خلافهما بإجماع من بعدها.
فإن قيل : هذا حديث آحاد كيف يجوز على أصل أبي حنيفة زيادة الإيمان في الفقراء المنصوصين بنص الكتاب ؟ قلنا : خص من ذلك الآية الحربي بالإجماع مستندا إلى قوله تعالى :" إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين " ٢فجاز تخصيصه بعد ذلك بخبر الآحاد، وجاز دفع الصدقة النافلة إلى الذمي إجماعا لقوله تعالى :" لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلكم في الدين " الآية وحديث معاذ في الزكاة المفروضة خاصة دون النافلة، وأما إلى الحربي فلا يجوز دفع النافلة أيضا >لقوله تعالى " إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم } وأما الصدقات الواجبة كالفطرة والكفارات والنذور فحكمها حكم المفروضة عند الأئمة الثلاثة فإنهم لا يفرقون بين الفرض والواجب، وعند أبي حنيفة يجوز دفعها إلى الذمي لانحطاط درجة الواجب عن الفريضة عنده وعدم شمول حديث معاذ إياها فإن معاذا كان عاملا لأخذ الزكاة فحسب والله أعلم.
وإذا كان الفقير أعم من المسكين وغيره من الأصناف فحينئذ عطف قوله تعالى :﴿ والمساكين ﴾وما بعده على الفقراء من قبيل عطف الخاص على العام كما في قوله تعالى :" حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى " ٣فهو لزيادة الاهتمام، فلنذكر معاني الألفاظ من المساكين وغيرها حتى يظهر منها وجه الاهتمام بذكرها.
أما المساكين فالمراد به الفقير الذي لا يسأل الناس إلحافا مشتق من السكون والسكينة أي : لا يتحرك لأجل السؤال، والدليل عليه ما رواه الشيخان في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه لا ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس " ٤ فظهر أن المسكين نوع من الفقير وإعطاءه أولى من إعطاء غيره من الفقراء فهو أهم قال : الله تعالى :" للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسئلون الناس إلحافا " ٥ وإلحاف الإلحاح، فإن قيل : قد يطلق المسكين على الفقير السائل أيضا كما في حديث متفق عليه عن أبي هريرة في قصة ثلاثة من بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى الحديث بطوله وفيه " رجل مسكين قد انقطعت بي الجبال في سفري فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيرا يبلغ في سفري " ٦قلنا : إما أن يكون في الحديث السابق بيان المراد من الآية لا بيان الغني اللغوي وإما أن يكون في الحديث الثاني لفظ المسكين مجازا وليس المأخوذ في مفهوم المسكين أن يكون له قليل من المال، كما قال : به بعض الشافعية أن الفقير من ليس له مال أصلا والمسكين من له قليل من المال لأن قوله تعالى :" إطعام عشرة مساكين " ٧ " فإطعام ستين مسكينا " ٨في الكفارات المراد به أجماعا الفقير مطلقا سواء كان له قليل من المال أو لم يكن له مال أصلا، وأيضا قوله تعالى :" أو مسكينا ذا متربة ١٦ " ٩يعني من لصق بالتراث من فقره يرد قول من قال : أن المسكين من له قليل من المال، وكذا ليس المأخوذ في مفهوم المسكين أن لا يكون له مال أصلا كما قال : به بعض الحنفية لأن قوله تعالى " أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر " ١٠تدل على أن السفينة كانت له ملكا ومع ذلك سماهم الله تعالى مساكين، والقول بأنها كانت لهم بالإجارة أو العارية أو أطلق عليهم لفظ المساكين ترحما صرف للنص عن الظاهر بلا دليل، وقد يستدل على أن المساكين أحسن حالا من الفقير بأن النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ من الفقر ١١وذلك متفق عليه من حديث عائشة وفي الباب عن أبي هريرة عند أبي داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم وعندهما من حديث أبي بكرة وأبي سعيد وأنس وقد قال : النبي صلى الله عليه وسلم " اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا " ١٢ رواه الترمذي من حديث أنس وابن ماجه عن أبي سعيد، والجواب أن الفقر المستعاذ منه هو فقر النفس وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنما الغنى غنى النفس " ١٣ أو المستعاذ منه فتنة الفقر لا حاله وكذا المسؤول ليس نفس المسكنة بل بعض صفاته من الصبر والتوكل والرضا أو يقال إسناد حديث أنس وأبي سعيد ضعيفان، كذا قال : الحافظ ابن حجر وذكره ابن الجوزي في الموضوعات لما رآه مباينا للحال الذي مات عليه النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان مكفيا وقد قال : الله تعالى :" ووجدك عائلا فأغنى ٨ " ١٤والله أعلم.
﴿ والعاملين عليها ﴾أي : الصدقات عد الله سبحانه من أصناف الفقراء عاملي الصدقة وأعوانهم مجازا سواء كانوا أغنياء أو فقراء لأنهم وكلاء للفقراء في أخذ الصدقات وتقسيمها مشغولون بأمورهم فيجب عليهم مؤنتهم فهم فقراء حكما. واختلفوا في قدر ما يعطى للعامل من الزكاة ؟ فقال : الشافعي يعطي له ولأعوانه الثمن من الصدقات قل عمله أو كثر بناء على أنه يجب عنده صرف الزكاة إلى الأصناف الثمانية على السوية وسنذكر الرد عليه، وقال أبو حنيفة وأكثر الأئمة يعطي له كفاية بقدر عمله فإن عمل يوما يعطي له كفاية يومه وإن عمل سنة يعطي له كفاية سنة لأنه ليس للغني حق في الزكاة وإنما يعطي العمل أجر عمله الذي وجب على الفقراء فيعطي ذلك القدر من مال الزكاة الذي هو حقهم، ولا يجوز دفع جميع مال الزكاة إلى العامل إجماعا وإن استغرقت كفاية جميع مال الصدقة بل حينئذ يعطى له النصف لا يزاد عليه إذ لو يعطى أكثر من النصف وللأكثر حكم الكل يكون هو عاملا لنفسه لا للفقراء فيفوت المقصود ولا يجب عليه مؤنته قال : الله تعالى :﴿ والمؤلفة قلوبهم ﴾قال : البغوي وهم قسمان قسم مسلمون وقسم كفار فأمت المسلمون فقسمان قسم دخلوا في الإسلام ونيتهم ضعيفة فيه فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم تألفا أعطى عيينة بن بدر والأقرع بن حابس والعباس بن مرداس أو أسلموا ونيتهم قوية في الإسلام وهم شرفاء في قومهم مثل عدي بن حاتم والزبرقان بن بدر، فكان يعطيهم تألفا لقومهم وترغيبا لأمثالهم في الإسلام فهؤلاء يجوز للإمام أ يعطيهم من خمس خمس الغنيمة والفيء سهم النبي صلى الله عليه وسلم وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم من ذلك ولا يعطيهم من الزكاة، والقسم الثاني من المؤلفة المسلمين أن يكون قوم من المسلمين بإزاء قوم كفار في موضع لا يبلغه القسم الثاني المسلمين إلا بمؤنته كغيره وهم لا يجاهدون إما لضعف نيتهم أو لضعف حالهم فيجوز للإمام أن يعطيهم من سهم الغزاة من مال الصدقة وقيل : من سهم المؤلفة من الصدقات.
روي أن عدي بن حاتم جاء أبا بكر بثلاثمائة من الإبل من صدقات قومه فأعطاه أبا بكر منها ثلاثين بعيرا أما الكفار من المؤلفة لهم من يخشى شره منهم أو يرجى إسلامه فالإمام يعطي هذا حذرا من شره ويعطي ذلك ترغيبا له في الإسلام فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم من خمس الخمس كما أعطى صفوان ابن أمية لما رأى ميله إلى الإسلام وأما اليوم فقد أعز الله تعالى الإسلام وله الحمد وأغناه عن أن يتألف عليه رجال فلا يعطى مشرك تألفا بحال، وقد قال : بهذا كثير من أهل العلم أن المؤلفة منقطعة وسهمهم ساقط، روي ذلك عن عكرمة وهو قول الشعبي وبه قال : مالك والثوري وإسحاق بن راهويه وأصحاب الرأي، وقال قوم سهمهم ثابت يروى ذلك عن الحسن وهو قول الزهري، وأبي جعفر محمد بن علي الحسين عليهم السلام وأبي ثور، وقال أحمد يعطون إن احتاج المسلمون إلى ذلك انتهى كلامه. وفي أكثر الكتب أنهم اختلفوا في حكم المؤلفة ؟ قال : أبو حنيفة قد سقط سهم المؤلفة قلوبهم لأنه تعالى أعز الإسلام وأعنى، وبه قال : مالك وهي رواية عن الشافعي، وعن مالك رواية أخرى إن احتيج إليهم في بلد أو ثغر استأنف الإمام لوجود العلة، وهي رواية عن أحمد وقال الشافعي وأحمد في أصح المختار عند أكثر أصحاب الشافعي ما في المنهاج أن المؤلفة من المصرف قال : وهو من أسلم ونيته ضعيفة أوله شرف يتوقع بإعطائه إسلام غيره، وقلت : وبهذا ظهر أن الشافعي أيضا لا يجوز إعطاء الزكاة للكافر من الفقراء والمساكين وغيرهم وأبو حنيفة ومن معه لا ينكرون إعطاء مسلم فقير من المؤلفة وإنما الكلام في المسلم الغني من المؤلفة فعند الشافعي يعطى له من الزكاة بناء على زعمه أن الفقر غير معتبر في سائر الأصناف، وعند أبي حنيفة لا يعطى له الزكاة بناء على اعتبار الفقر في سائر الأصناف فظهر أنه لا خلاف بينهم في أن حكم جواز إعطاء الزكاة للمؤلفة بات غير منسوخ وكيف يحكم بالنسخ مع عدم الناسخ، ولو حمل قول أبي حنيفة على إعطاء الكافر من المؤلفة منسوخ لكان له وجه لكن لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أحدا من الكفار للإيلاف شيئا من الزكاة.
فإن قيل : روى مسلم والترمذي عن سعيد بن المسيب عن صفوان بن أمية في قصة فقال : أعطاني النبي صلى الله عليه وسلم ولأنه أبغض الناس إلي فما برح يعطيني إنه لأحب الناس إلي ١٥، وهذا صريح في أنه كان يعطيهم في حالة الكفر وقد جزم ابن أثير في الصحابة أنه أعطاه قبل إسلامه، قلت : قال : النووي إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم صفوان بن أمية كان من غنائم حنين وصفوان يومئذ كافر، قال : الحافظ ابن حجر ودعوى الرافعي أنه أعطى صفوان ذلك من الزكاة وهم والصواب أنه من الغنائم من خمس خمس التي كان للنبي صلى الله عليه وسلم، وبذلك جزم البيهقي وابن سيد الناس وابن كثير وغيرهم، وقال ابن الهمام في بيان النسخ أسن
٢ سورة الممتحنة، الآية: ٨..
٣ سورة البقرة الآية: ٢٣٨..
٤ أخرجه البخاري في كتاب: الزكاة، باب: قوله تعالى "لا يسألون الناس إلحافا" (١٤٧٦)، وأخرجه مسلم في كتاب: الزكاة باب: المسكين الذي لا يجد غنى ولا يفطن له فيتصدق عليه (١٠٣٩)..
٥ سورة البقرة الآية: ٢٧٣..
٦ أخرجه البخاري في كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: حديث أبرهن وأعمى أفرغ في بني إسرائيل (٣٤٦٤)، وأخرجه مسلم في أوائل كتاب الزهد والرقائق (٢٩٦٤)..
٧ سورة المائدة، الآية: ٨٩..
٨ سورة المجادلة، الآية: ٤..
٩ سورة البلد، الآية: ١٦..
١٠ سورة الكهف، الآية: ٧٩..
١١ جاء في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو "اللهم اقض عنا الدين وأغننا من الفقر "وجاء في سنن أبي داود قوله عليه السلام " اللهم إني أعوذ بك من الفقر والقلة والذلة"..
١٢ أخرجه الترمذي في كتاب: الزهد، باب: ما جاء أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم (٢٣٥٢)، وأخرجه ابن ماجه في كتاب: الزهد، باب: مجالسة الفقراء (٤١٢٦)..
١٣ ورد بلفظ " ليس الغنى عن كثرة الغرض ولكن الغنى غنى النفس " أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق، باب: الغنى غنى النفس (٦٤٤٦)، وأخرجه مسلم في كتاب: الزكاة، باب: ليس الغنى عن كثرة العرض (١٠٥١)..
١٤ سورة الضحى، الآية: ٨..
١٥ أخرجه الترمذي في كتاب: الزكاة باب: ما جاء في إعطاء المؤلفة قلوبهم (٦٥٩)، وأخرجه مسلم في كتاب: الفضائل، باب: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط وقال لا، وكثرة عطائه (٢٣١٣)..
﴿ ومنهم الذين يؤذون النبي ﴾أي يغتابونه ويتقولون حديثه ويقولون فيه ما لا ينبغي ﴿ ويقولون ﴾إذا نهوا عن ذلك لئلا يبلغه صلى الله عليه وسلم ﴿ هو ﴾يعني النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ أذن ﴾أي يسمع كل ما يقال له ويصدقه سمي بالجارحة للمبالغة كأنه من فرط استماعه صار جملته آلة للسماع كما يسمى الجاسوس عينا أو تقديره ذو سامعة أو يقال أذن مشتق فعل من أذن أذنا إذا استمع، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال : كان نبتل بن الحارث يأتي رسول صلى الله عليه وسلم فيجلس إليه يسمع وينقل حديثه إلى المنافقين فأنزل الله هذه الآية، وقال محمد بن إسحاق كان نبتل رجلا أدلم ثائر الرأس أحمر العينين أسفع الخدين مشوه الخلق وقد قال : النبي صلى الله عليه وسلم " من أحب أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى هذا " وكان يتم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المنافين فقيل له : لا تفعل فقال : إنما محمد أذن فمن حدثه شيئا صدقع، فنقول : ما شئنا ثم نأتيه ونحلف له فيصدقنا فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقال الله تعالى في جوابهم ﴿ قل أذن خير لكم ﴾قرأ العامة بالإضافة وهو كقولك رجل صدق يريد الجودة والصلاح كأنه قيل : نعم هو أذن ولكن نعم الأذن هو أو المعنى أنه مستمع خير لكم وصلاح لا مستمع شر وفساد فيسمع عذر من اعتذر ولا يسمع الغيبة والنميمة ونحو ذلك، قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" المؤمن غر كريم والفاجر خب لئيم " ١رواه أبو داود والترمذي والحاكم وصححه عن أبي هريرة، ويجوز أن يريد هو أذن في الخير والحق وفيما يجب سماعه وقبوله وليس بإذن في غير ذلك، وقرأ الأعمش والبرحمي عن أبي بكر أذن خير مرفوعين منوفين على أن خير صفة أذن أو خير ثان يعني أن يسمع منكم ويصدقكم خير لكم من أن يكذب قولكم ثم مدحه بقوله :﴿ يؤمن بالله ويؤمن ﴾أي : يصدق ﴿ للمؤمنين ﴾أي : لمن يظهر الإيمان بناء على حسن الظن أو المعنى يصدق المؤمنين المخلصين دون المنافقين لكن يقبل أعذارهم إعراضا، عنهم عدى فعل الإيمان بالباء إلى الله لأنه قصد ضد الكفر وباللام إلى المؤمنين لأنه قصد به التصديق لهم ضد تكذيبهم ﴿ ورحمة ﴾قرأ حمزة بالجر عطفا على خير يعني أذن خير ورحمة والباقون بالرفع عطفا على أذن﴿ للذين امنوا منكم ﴾يعني لمن أظهر الإيمان حيث يقبله ولا يكشف سره، وفيه تنبيه على أنه ليس يقبل قولكم جهلا بحالكم ترفقا وترحما عليكم أو المعنى رحمة للذين آمنوا منكم مخلصين حيث استنقذهم من الكفر إلى الإيمان ويشفع لهم في الآخرة ويستنقذ من النار إلى الجنة ﴿ والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب اليم ﴾لا يفيد لهم تسليم رسول الله صلى الله عليه وسلم قولهم واعتذارهم.
ليتك تحلو والحياة مريرة | وليتك ترضى والأنام غضاب |
وليت الذي بيني وبينك عامر | وبيني وبين العالمين خراب |
قصة : ذلك ما روى أحمد عن أبي الطفيل والبيهقي عن حذيفة ابن سعد عن جبير بن مطعم رضي الله عنهم وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الضحاك والبيهقي عن عروة وعن ابن إسحاق ومحمد بن عمر عن شيوخه، أن رسول صلى الله عليه وسلم ببعض الطريق مكر به ناس من المنافقين وائتمروا بينهم أن يطرحوه من عقبة في الطريق، وفي رواية أجمعوا أن يقتلوه فجعلوا يلتمسون غرته فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسلك العقبة أرادوا أن يسلكوها معه، قالوا : إذا أخذ في العقبة رفعناه عن راحلته في الوادي فأخبر الله تعالى رسوله بمكرهم، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك العقبة نادى مناديه للناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ للعقبة فلا يأخذها واحد واسلكوا بطن الوادي فإنه أسهم لكم وأوسع فسلك الناس بطن الوادي إلا النفر الذين مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمعوا ذلك استعدوا وتلثموا وسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة وأمر عمار بن ياسر أن يأخذ بزمام الناقة ويقودها وأمر حذيفة بن اليمان أن يسوق من خلفه، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في العقبة إذ سمع حس القوم فدعسوه فنفروا ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سقط بعض متاعه وكان حمزة بن عمرو الأسلمي لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة وكانت ليلة مظلمة، قال : حمزة فتور لي في أصابعي الخمس وأضاءت حتى كنا نجمع ما سقط السوط والحبل وأشبائهما وأمر حذيفة أن يردهم فرجع حذيفة إليهم وقد رأى غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه محجن فجعل يضرب وجوه رواحلهم، وقال : إليكم إليكم يا أعداء الله، فعلم القوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اطلع على مكرهم فانحطوا من العقبة مسرعين حتى خالطوا الناس وأقبل حذيفة حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : اضرب الراحلة يا حذيفة وامش أنت يا عمار " فأسرعوا حتى استويا بأعلاها وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من العقبة ينتظر الناس، وقال لحذيفة هل عرفت أحدا من أولئك الذين رددتهم قال : يا رسول الله قد عرفت رواحلهم كان القوم متلثمين فلم أبصرهم من أجل ظلمة الليل، قال : هل علمتم ما كان من شأنهم وما أرادو ؟قالوا : لا والله يا رسول الله، قال : فإنهم ليسيروا معي فإذا طلعت العقبة دعوني فطرحوني منها أن الله تعالى قد أخبرني بأسمائهم وأسماء آبائهم وسأخبركم بهم إن شاء الله تعالى. قال : أفلا تأمرهم يا رسول الله إذ جاءك الناس أن تضرب أعناقهم، قال : أكره أن يتحدث الناس ويقولون إن محمدا قد وضع يده في أصحابه، وذكر البغوي بلفظ أكره أن يقول العرب لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم بل يكفينا بالدبيلة فسماهم لهما ثم قال : أكتماهم، فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : له أسيد بن الخضير يا رسول الله ما منعك البارحة من سلوك الوادي فقد كان أسهل من العقبة فقال :" يا أبا يحيى أتدري ما أراد بي المنافقون وما هموا به ؟قالوا : لنتبعه في العقبة فإذا أظلم الليل عليه قطعوا راحلتي وتحسوها حتى كادوا يطرحوني عن راحلتي "، قال : أسيد : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اجتمع الناس ونزلوا فمر كل بطن أن يقتل الرجل الذي هم بهذا فيكون الرجل في عشيرته هو الذي يقتله وإن أحببت والذي بعثك بالحق فنبئني فلا أبرح حتى آتيك برؤوسهم، قال : يا أسيد :" إني أكره أن يقول الناس إن محمدا لما انقطعت الحرب بينه وبين المشركين وضع يده في قتل أصحابه "، فقال : يا رسول الله ليسوا بأصحاب، فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أليس يظهرون شهادة أن لا إله إلا الله، قال : بلى ولا شهادة لهم، قال : فعديت عن قتل أولئك.
قال ابن إسحاق فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لحذيفة أدع عبد الله بن سعد أبي السرح وأبا حاضر الأعرابي وعامر أبا عامر والحلاس بن سويد بن الصامت وهو الذي قال : لا ننتهي حتى نرمي محمدا من العقبة الليلة، ولئن كان محمد وأصحابه خيرا منا إنا إذا لغنم وهو الراعي ولا عقل لنا وهو العاقل وأمره أن يدعوا مجمع بن حارثة ومليح التيمي وهو الذي سرق طيب الكعبة وارتد عن الإسلام، فانطلق هاربا في الأرض فلا يدري أين ذهب وأمره أن يدعوا حيصر بن نمير الذي أغار على تمر الصدقة فسرقه، فقال : له رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحك ما حملك على هذا ؟قال : حملني عليه إني أظن أن الله لا يطلعك عليه فأما إذا أطلعك الله عليه فإني أشهد اليوم أنك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإني لم أؤمن بك قبل الساعة، فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله الذي قال : وأمر حذيفة أن يأتيه بطعمة ابن أبيرق وعبد الله بن عيينة وهو الذي قال : لأصحابه أسهروا هذه الليلة تسلموا الدهر كله فوالله ما لكم أمر دون أن يقتلوا هذا الرجل، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ويحك ما كان ينفعك من قتلي لو أني قتلت، فقال : عدو الله يا نبي الله والله ما نزلك بخيره ما أعطاك الله النصر على عدوك إنما نحن بالله وبك فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لحذيفة أدع مرة بن الربيع وهو الذي ضرب بيده على عاتق عبد الله بن أبي ثم قال : تمطي أو قال : تميطي والنعيم لنا من بعده كائن تقتل الواحد المفرد فيكون الناس عامة عامة بقتله مطمئنين فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ويحك ما حملك أن تقول الذي قلت فقال : يا رسول الله إن كنت قلت شيئا من ذلك إنك العالم به وما قلت شيئا من ذلك، فجمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم اثني عشر رجلا الذين حاربوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وأرادوا قتله فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولهم ومنطقهم وسرهم وعلانيتهم واطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك قوله تعالى ﴿ وهموا بما لم ينالوا ﴾.
ومات الاثنا عشر منافقين محاربين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال : حذيفة : فيما رواه البيهقي ودعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :" اللهم ارمهم بالدبيلة " قال : شهاب : من نار يقع على نياط قلب أحزهم فيهلك، وروى مسلم عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" في أصحابي اثنا عشر رجلا منافقا لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ثمانية تكفيهم الدبيلة سراج من نار يظهر بين أكتافهم حتى ينجم من صدورهم " ١قال البيهقي : وروينا عن حذيفة أنهم كانوا أربعة عشر أو خمسة عشر وهذه القصة وقعت في مرجعه صلى الله عليه وسلم من تبوك إلى المدينة
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر قال : قال : رجل في غزوة تبوك في مجلس ما رأينا مثل قراينا هؤلاء لا أرغب بطونا ولا أكذب ألسنة ولا أجبن عند اللقاء، فقال : له رجل كذبت ولكنك منافق لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن، قال : ابن عمرو أنا رأيته متعلقا بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم والحجارة تنكيه وهو يقول : إنما كنا نخوض ونلعب ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن، ثم أخرجه من وجه آخر عن ابن عمر نحوه وسمى الرجل عبد الله بن أبي كذا ذكر البغوي عن عمر رضي الله عنه، وأخرج ابن جرير عن قتادة أن ناسا من المنافقين قالوا : في غزوة تبوك يرجوا هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها هيهات فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك فأتاهم فقال : قلتم كذا وكذا قالوا : إنما كنا نخوض ونلعب فنزلت، قال : البغوي : سبب نزول هذه الآية على ما قال : الكلبي ومقاتل وقتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسير في غزوة تبوك وبين يديه ثلاثة نفر من المنافقين اثنان يستهزءان بالقرآن والرسول صلى الله عليه وسلم والثالث يضحك قيل : كانوا يقولون أن محمدا يزعم أنه نزل في أصحابنا المقيمين في مدينة قرآن وإنما هو قوله وكلامه فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك فقال : احبسوا علي الركب فدعاهم فقال : لهم : قلتم كذا أو كذا فقالوا إنما كنا نخوض ونلعب أي : كنا يتحدث ونخوض في الكلام كما يفعل الركب يقطع الطريق بالحديث واللعب، وهذه القصة وقعت في رواحه صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى تبوك. وقال محمد بن إسحاق ومحمد بن عمر كان رهط المنافقين يسيرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك لم يخرجوا الأرجاء الغنيمة منهم وديعة بن ثابت أخو بني عمرو بن عوف والجلاس بن الصامت ومخشي بن حمير من أشجع حليف لبني سلمة زاد محمد بن عمرو ثعلبة بن حاطب فقال : بعضهم بعضا مكاني بكم غدا مقرنين في الجبال أرجافا برسول الله صلى الله عليه وسلم وترحيبا للمؤمنين وقال بن عمر وكان زوج أم عمير وكان ابنها عمير في حجره والله لئن كان محمد صادقا لنحن شر من الحمير فقال : عمير : وأنت شر من الحمير ورسول الله الصادق وأنت الكاذب، فقال : مخشي بن حمير : والله لوددت أني أقاضي على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة وإننا ننقلب من أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه، فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر أدرك القوم فإنهم قد احترقوا فاسألهم عما قالوا : فإن أنكروا فقل : بلى قلتم كذا وكذا فانطلق عمار إليهم فقال لهم ذلك فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه، فقال : وديعة بن ثابت وقد أخذ حقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاه تنسفان الحجارة ورسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته وهو يقول : يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب فأنزل الله فيهم " ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون ٦٥ }
وفي رواية أبي هريرة :" فهل الناس إلا هم " رواه البخاري، وروى الحاكم عن ابن عباس عنه صلى الله عليه وسلم :" لتركبن سنن من قبلكم شبرا بشبر ذراعا بذراع حتى لو أن أحدكم دخل جحر ضب لدخلتم ولو أن أحدكم جامع امرأته بالطريق لفعلتموه " قال : البغوي، قال : ابن مسعود : أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سمتا وهديا تتبعون عملهم حذروا لقدة بالقدة غير إني لا أدري اتعبدون العجل أم لا.
وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن " ٢وأخرج أحمد الطيالسي و البيهقي هذا الحديث لفظ :" جنات الفردوس أربع جنتان من ذهب " الحديث، قال : البيهقي في قوله رداء الكبرياء استتاره بصفة الكبراء والعظمة لأنه لكبريائه وعظمته لا يراه أحد من خلقه إلا بإذنه، قال : البغوي قال : ابن مسعود هي يعني جنات عدن بطنان الجنة أي : وسطها، وقال عبد الله بن عمرو بن عمرو بن العاص إن في الجنة قصر يقال له عدن حوله البروج والمروج له خمسة آلاف باب لا يدخله إلا النبي أو صديق أو شهيد، وقال الحسن قصر من ذهب لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد أو حكم عدل وقال عطاء بن السائب عدن نهر في الجنة جنانه على حافتيه، وقال مقاتل والكلبي : عدن أعلى درجة في الجنة وفيها عين التسنيم والجنان حولها محدقة بها وهي مغطاة من حين خلقها الله تعالى حتى ينزلها أهلها الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون ومن شاء الله تعالى فيها قصور الدر والياقوت والذهب فتهب ريح طيبة من تحت العرش فيدخل عليهم كثائب المسك الأبيض، قال : القرطبي قيل : الجنان سع دار الخلد ودار الجلال ودار السلام وجنة عدن وجنة المال وجنة الفردوس، وقيل أربع فقط لحديث أبي موسى فإنه يذكر فيه سوى أربع كلها يوصف بالمأوى وخلد وعدن والسلام وهذا أما اختاره الحكيم، فقال : إن الجنتين للمقربين والجنتين الأخريين لأصحاب اليمين وفي كل جنة درجات ومنازل وأبواب ومرجع العطف في الآية يحتمل أن يكون تعدد الموعود لكل واحد أو للجميع على سبيل التوزيع أو إلى تغاير وصفه أولا بأنه من جنس ما هو بهي الأماكن يعرفونها ليميل إليه طباعهم أو ما يقرع أسماعهم ثم وصفه بأنه محفوف بطيب العيش معرى عن شوائب الكدورات التي لا يخلو عن شيء منها أماكن الدنيا وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، ثم وصفه بأنه دار إقامة وثبات في جوار العليين لا يعتريهم فيها فناءه ولا تغير ثم وعدهم بما هو أكبر من ذلك، فقال :﴿ ورضوان من الله ﴾أي : شيء من رضوان الله ﴿ اكبر ﴾نعمة من سائر النعم في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الله تعالى يقول لأهل الجنة يا أهل الجنة فيقولون : لبيك ربنا وسعديك فيقول : هل رضيتم ؟فيقولون : وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك ؟ فقال : أنا أعطيتكم أفضل من ذلك قالوا : وما أفضل من ذلك ؟فيقول : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا " ٣ وأخرج الطبراني في " الأوسط " وصححه عن جابر يرفعه إذا دخل أهل الجنة الجنة قال : الله تعالى : هل تسألون شيئا فأزيدكم ؟قالوا : يا ربنا فما خير مما أعطيتنا ؟قال : رضوان من الله أكبر " ﴿ ذلك ﴾الرضوان أو جميع ما تقدم ﴿ هو الفوز العظيم ﴾الذي يستحقر دونه ما سواه
٢ أخرجه البخاري في كتاب: تفسير القرآن، باب قوله تعالى:"ومن دونهما جنتان"(٤٨٧٨)، وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان باب: إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه وتعالى (١٨٠)..
٣ أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق، باب: صفة الجنة والنار (٦٥٤٩)، وأخرجه مسلم في كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: إحلال الرضوان على أهل الجنة (٢٨٢٩)..
وأخرج ابن أبي حاتم عن أنس بن مالك، قال : سمع زيد بن أرقم رجلا من المنافقين يقول والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب إن كان هذا صادقا لنحن شر من الحمير فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجحد القائل فأنزل الله هذه الآية، وأخرج ابن جرير عن قتادة قال : ذكر لنا أن رجلين أحدهما من جهينة ولآخر من غفار وكانت جهينة حلفاء الأنصار وظهر الغفاري على الجهني، فقال : عبد الله بن أبي الأوس انصروا أخاكم فوالله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال : القائل :
سمن كلبك يأكلك
لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فسعى رجل من المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه فسأله فجعل يحلف بالله ما قال : فأنزل الله تعالى " يحلفون بالله ما قالوا " الآية، وهذه قصة غزوة بني المصطلق وقد ذكرنا القصة في سورة المنافقين ﴿ ولقد قالوا كلمة الكفر ﴾قيل : هي سب النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل : هي قول الجلاس لئن كان محمد صادقا لنحن شر الحمير. وقيل : قولهم لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل﴿ وكفروا بعد إسلامهم ﴾أي : أظهروا الكفر بعدما أظهروا الإسلام ﴿ وهموا بما لم ينالوا ﴾قيل : هم اثنا عشر رجلا من المنافقين وقفوا على العقبة في طريق تبوك ليفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء جبرئيل وأمره أن يرسل إليهم من يضرب رواحلهم فأرسل حذيفة لذلك وقد مر القصة.
وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال : هم رجل يقال له : الأسود بقتل النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية، وقال مجاهد : هم المنافقون بقتل المسلم الذي سمع قولهم لنحن شر من الحمير كيلا يفشيه وقيل : هموا بإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من المدينة في قصة غزوة بني المصطلق، وقال السدي : قالوا : إذا قدمنا المدينة عقدنا على رأس عبد الله بن أبي تاجا فلم يصلوا إليه ﴿ وما نقموا ﴾أي : ما كرهوا وما وجدوا ما يورث نقمتهم ويقضي إنتقامهم شيئا﴿ إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله ﴾يعني : إلا الإحسان بهم وذلك شيء محبوب عند القلوب يوجب المحبة والإنقياد دون العداوة والإنتقام والجملة حال من فاعل هموا بيان لكمال شرهم وخبثهم حيث أساؤوا في مقابلة الإحسان.
أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن عكرمة أن مولى بن عدي بن كعب قتل رجلا من الأنصار فقضي النبي صلى الله عليه وسلم بالدية اثني عشر ألفا، قال البغوي : مولى الجلاس قتل فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية اثني عشر ألفا فاستغنى وفيه نزلت هذه الآية وقال الكلبي : كان أهل المدينة قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة في ضنك من العيش فلما قدم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم استغنوا بالغنائم، ﴿ فان يتوبوا ﴾ من نفاقهم وكفرهم ﴿ يك ﴾ذلك التواب ﴿ خيرا لهم ﴾قد مر أن هذه الآية حمل الجلاس على التوبة﴿ وان يتولوا ﴾أي : يعرضوا عن التوبة والإخلاص ﴿ يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا ﴾بالخزي والفضيحة أو القتل﴿ والآخرة ﴾بالنار ﴿ وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير ﴾حتى ينجيهم من القتل والخزي، وروى البغوي بسنده : كذا ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والطبراني والبيهقي في " شعب الإيمان " عن أبي أمامة الباهلي قال : جاء ثعلبة بن حاطب الأنصاري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أمالك في رسول الله أسوة حسنة ؟والذي نفسي بيده لو أردت أن تسير الجبال معي ذهبا لسارات "، ثم أتاه بعد ذلك فقال : يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا والذي بعثك بالحق نبيا لأن رزقني الله مالا لأعطين كل ذي حق حقه، فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" اللهم ارزق ثعلبة مالا " قال : فاتخذ غنما فنمت كما ينمو الدود فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها فنزلت واديا من أوديتها وهي تنمو كما ينمو الدود وكان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر ويصلي في غنمه سائر الصلوات ثم كثرت ونمت حتى تباعد عن المدينة فصار لا يشهد إلا الجمعة ثم كثرت ونمت فتباعد أيضا حتى كان لا يشهد جمعة ولا جماعة فكان إذا كان يوم الجمعة يخرج يتلقى الناس يسألهم عن الأخبار، فذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم فات يوم فقال :" ما فعل ثعلبة " ؟قالوا : يا رسول الله اتخذ ثعلبة غنما يسعها واد، فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة " فأنزل الله تعالى آية الصدقات، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من بني سليم ورجلا من جهينة وكتب لهما أسنان الصدقة وكيف يأخذان، وقال لهما مرا بثعلبة بن حاطب وبرجل من بني سليم فخذا صدقاتهما فخرجا حتى أتيا ثعلبة فسألاه الصدقة واقرأه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية انطلقا حتى تفرغا ثم عودا إلي فانطلقا وسمع السلمي فنظر إلى خيار أسنان إبله فعزها للصدقة ثم استقبلهما فلما رأوها قالوا : ما هذا عليك، قال : خذاه فإن نفسي بذاك طيبة فمرا على الناس وأخذا الصدقات، ثم رجعا إلى ثعلبة فقال : أروني كتابكما فقرأه فقال : ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية اذهبا حتى أرى رأي، قال : فأقبلا فلما رأهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يكلماه قال :" يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة " ثم دعا للسلمي بخير فأخبرت بالذي صنع ثعلبة فأنزل الله فيه.
وقد شاع استعمال السبعة والسبعين وسبعمائة ونحوها في التكفير لاشتمال السبعة على حملة أقسام العدد فإن العدد قليل وكثير فالقليل ما دون الثلاث والكثير فما فوقه وأدنى الكثير ثلاثة ولا غاية لأقصاه، وأيضا العدد نوعان شفع ووتر أول الأشفاع اثنان وأول الأوتار وواحد ليس بعدد والسبعة أول الجمع الكثير من النوعين لأن فيها أوتارا ثلاثة وأشفاعا ثلاثة، والعشرة كمال الحساب لأن ما جاوز العشرة فهو إضافة الآحاد إلة العشرة كقولك اثنا عشر ثلاثة عشر إلى عشرين والعشرين تكرير العشرة مرتين والثلاثون تكريها ثلاث مرات وهكذا إلى مائة، فالسبعون يجمع الكثرة والنوع والكثرة منه وكمال الحساب والكثرة منه فصار السبعون أدنى الكثير من العدد من كل وجه ولا غاية لأقصاه فجاز تخصيص السبعين بهذا المعنى فكأنه العدد بأسره ﴿ ذلك ﴾اليأس عن المغفرة﴿ بأنهم كفروا بالله ورسوله ﴾يعني ليس ذلك بخل منا ولا لقصور فيك بل لعدم قابليتهم بسبب الكفر الصارف عنها﴿ والله لا يهدي القوم الفاسقين ﴾المتمردين في كفرهم وهو كالدليل على الحكم السابق فإن مغفرة الكافر إنما هو بالإقلاع عن الكفر والإرشاد إلى الحق والمنهمك في كفره المطبوع عليه لا ينقطع ولا يهتدي.
أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينبعثوا معه وذلك في الصيف فقال : رجل يا رسول الله الحر الشديد ولا تستطيع الخروج فلا تنفر في الحر فأنزل الله﴿ قل نار جهنم اشد حرا ﴾وقد آثرتموها بهذه المخالفة فيه استجهال لهم لأنه من يصون نفسه من مشقة ساعة ووقع بسبب ذلك في مشقة أشد وأغلظ المؤبد كان أجهل من كل جاهل، ﴿ لو كانوا يفقهون ﴾أي : يعلمون، قال : البغوي : كذلك هو في مصحف ابن مسعود يعني لو كانوا يعلمون أن ما بهم إليها أو أنها كيف هي ما اختاروها بإيثار الدعة على الطاعة، قال : محمد بن يوسف الصالحي جعل جد بن قيس وغيره من المنافقين يثبطون المسلمين عن الخروج وقال الجد لجبار بن منحر ومن معه من بني سلمة لا تنفروا في الحر رهادة في الجهاد وشكا في الحق وإرجافا برسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى :﴿ قل نار جهنم أشد حرا ﴾وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد إلى تبوك فقال : رجل من بني سلمة لا تنفروا في الحر فأنزل الله ﴿ قل نار جهنم أشد حرا ﴾ الآية، وأخرج البيهقي في الدلائل من طريق ابن إسحاق عن عاصم بن عمرو أبو قتادة وعبد الله بن أبي بكر بن حزم قال : رجل من المنافقين لا تنفروا في الحر فنزلت هذه الآية والله أعلم.
وأخرج ابن ماجه وأبو يعلى والبيهقي وهنا عن أنس قال : سمعت : رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" يرسل البكاء على أهل النار فيكون حتى ينقطع الدموع ثم يكون الدم ثم تؤتى في وجوههم كهيئة الأخدود ولو أرسلت فيها السفن لجرت " ١وأخرج الحاكم وصححه عن عبد الله بن قيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إن أهل النار ليبكون حتى لو أجريت السفن في دموعهم لجرت وإنهم يسكبون الدم " وأخرج ابن أبي الدنيا والضياء كلاهما في صفة النار عن زيد بن رفيع رفعه أن أهل النار إذا دخلوا النار بكوا الدموع زمانا ثم يكون القيح زمانا فيقول لهم الخزنة يا معشر الأشقياء تركتم البكاء في الدنيا هل تجدون اليوم من تستغيثون به فيرفعون أصواتهم يا أهل يا معشر الآباء والأمهات والأولاد خرجنا من القبور عطاشا وكنا طول الموقف عطاشا ونحن اليوم عطاش فأفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله فيدعون أربعين لا يجيبهم ثم يجيبهم أنكم ماكثون فيئسوا من كل خير، قلت : وجاز أن يكون معنى الآية فليضحكوا أي : الناس أجمعين في ديناهم قليلا أمر إباحة يشعر كراهة كثرة الضحك فإن كثرة الضحك يميت القلب وليبكوا في الدنيا كثيرا من خشية الله حتى يكون البكاء جزاء وعوضا بما كانوا يكسبون يتهافت به سيئاتهم.
عن أنس قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا " ٢رواه أحمد والشيخان في الصحيحين والترمذي والنسائي وابن ماجه ورواه البخاري أيضا عن أبي هريرة، ورواه الحاكم وصححه عن أبي ذر وزاد :" ولما ساغ لكم الطعام ولا الشراب " وروى الطبراني والحاكم والبيهقي عن أبي الدرداء مرفوعا بلفظ :" لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى لا تدرون تنجون أو لا تنجون " وروى الحاكم عن أبي هريرة وصححه قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا " يظهر النفاق ويرتفع الأمانة ويقبض الرحمة ويتهم الأمين ويؤتمن غير الأمين أناخ بكم الشرف الجون الفتن كأمثال الليل المظلم : وروى البغوي بسنده عن أنس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" يا أيها الناس إبكوا فإن لم تستطيعوا فتباكوا فإن أهل النار يبكون في النار حتى يسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول حتى ينقطه الدموع فيسيل الدماء ويفرح العيون فلو أن سفنا أجريت فيها لجرت " وروى أحمد والترمذي وابن ماجه قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا وما تلذذتم بالنساء على الفرشات ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله " وروى ابن ماجه عن ابن مسعود قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من عبد مؤمن يخرج من عينيه دموع وإن كان مثل رأس الذباب من خشية الله ثم يصيب من خروجه إلا حرمه الله على النار
٢ أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا"(٦٤٨٥)، وأخرجه مسلم في كتاب: الصلاة، باب: تحريم سبق الإمام بركوع أو سجود ونحوهما(٤٢٦)..
وروى البخاري عن جابر بن عبد الله قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي بعدها أدخل حفرته فأمر به فأخرج فوضه على ركبته ونفث فيه ريقه وألبسه قميصه، وفي الصحيحين عن ابن عمر أن عبد الله بن عبد الله بن أبي كان من المصلحين سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض أبيه أن يستغفر له ففعل فنزلت، وروى الحاكم وصححه و البيهقي في الدلائل عن أسامة بن زيد أن ابن أبي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه فسأله أن يستغفر له ويكفنه في شعاره الذي يلي جسده ويصلي عليه فلما مات أرسل قميصه ليكفن فيه وذهب ليصلي فنزلت هذه الآية، وأخرج البخاري من حديث جابر أنه قال : لما كان يوم بدر وأني بالعباس ولم يكن عليه ثوب فوجدوا قميص عبد الله بن أبي يقدر عليه فكساه النبي صلى الله عليه وسلم إياه فلذلك نزع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه الذي ألبسه ٢ يعني كان ذلك مكافأة له، قال : البغوي : روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كلم فيها فعل بعبد الله بن أبي فقال صلى الله عليه وسلم :" وما يغني عنه قميصي وصلاتي من الله والله إني كنت أرجو أن يسلم به ألف من قومه قال " وروي أنه أسلم ألف من قومه لما وأوه يتبرك بقميص النبي صلى الله عليه وسلم، قال : البغوي : فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحل هذه الآية على منافق ولا قام على قبره حتى قبض
٢ أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد والسير، باب: الكسوة للأسارى (٣٠٠٨).
٢ سورة السجدة، الآية: ١٧..
روى ابن سعد ويعقوب بن سفيان وابن أبي حاتم عن ابن مغفل قال : إني لأجد الرهط الذين ذكر الله تعالى ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم، وفي حديث ابن عباس أخرجه ابن أبي حاتم من طريق العوفي قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن ينبعثوا غازين معه فجاءت عصابة من أصحابه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم عبد الله بن مغفل المزني قالوا : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم احملنا فقال : والله ما أجد ما أحملكم عليه فيتولوا وهم بكاء وعز عليه أن يحبسوا عن الجهاد ولا يجدون نفقة ولا محملا فأنزل الله تعالى عذرهم " ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم }الآية، والذي اتفق عليه القرظي وابن صخر ولفظ القرظي سلمان والذي اتفق عليه القرظي وابن عقبة عمرو بن عنمة بن عدي وعبد الله بن عمرو والمزني حكاه ابن إسحاق قولا بدلا عن ابن مغفل، وانفرد القرظي بذكر عبد الرحمان بن زيد أبو علية من بني حارثة وبذكر حرمي بن عمرو من بني مازن، وقال محمد بن عمرو ويقال إن عمرو بن عوف منهم قال : ابن سعد وفي بعض الروايات من يقول فيهم معقل بن يسار، وذكر فيهم الحاكم حرمي بن مبارك بن النجار وذكر ابن عابد فيهم مهدي بن عبد الرحمان وذكر فيهم محمد بن كعب سالم بن عمرو الواقفي، قال : ابن سعد وبعضهم يقول : البكاؤون بنو مقرن السبعة وهم من مزينة انتهى.
وهم النعمان وسويد ومغفل وعقيل وسنان. ذكر ابن إسحاق في رواية يونس وابن عمر أن علية بن زيد لما فقد ما يحمله ولم يجد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحمله خرج من الليل فصلى من ليلة ما شاء الله تعالى ثم بكى وقال : اللهم إنك أمرت بالجهاد ورغبت فيه وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها من مال أو جسد أو عرض ثم أصبح مع الناس فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم أين المتصدق هذه الليلة ؟فلم يقم إليه أحد فقام إليه نخبره فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم " أبشر فوالذي نفسي بيده لقد كتبت في الزكاة المتقبلة " قال : ابن إسحاق ومحمد بن عمر : لما خرج البكاؤون من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أعلمهم أنه لا يجد ما يحملهم عليه بقي مامين بن عمرو النضري أبا ليلى وعبد الله بن مغفل وهما يبكيان فقال : ما يبكيكما ؟فلا : جئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملنا فلم نجد عنده ما يحملنا عليه وليس عندنا ما نقوى به على الخروج ونحن نكره أن يفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهما ناضحا له وزود كل واحد منهما صاعين من تمر، زاد محمد بن عمرو حمل العباس بن عبد المطلب منهم رجلين وحمل عثمان بن عفان منهم ثلاثة نفر بعد الذي كان جهز من الجيش، قلت : لعله لما سقط السبعة من الستة العشر المذكورين وسقط اثنان منهم لأجل شك الراوي فبقي من لم يخرج إلى الغزو لفقد ما يحمله سبعة وهم الذين قال : الله تعالى فيهم أنه لا سبيل عليهم بالمعاتبة والله أعلم.
روى الشيخان في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال :" أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من الأشعريين ليحملنا وفي رواية أرسلني أصحابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله لهم الحملان فقلت : يا رسول الله إن أصحابي أرسلوني إليك لتحملهم فقال :" والله لا أحملكم على شيء وما عندي ما أحملكم عليه ووافقته وهو غضبان ولا أشعر فرجعت حزينا من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن مخافة أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد في نفسه علي فرجعت إلى أصحابي فأخبرتهم بالذي قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جيء رسول الله صلى الله عليه وسلم بنهب إبل فلم ألبث إلا سويعة إذ سمعت بلالا ينادي أين عبد الله بن قيس فأجبته فقال : أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك، فلما أتيته قال : هذين القرينين وهذين القرينين لستة أبعرة أتباعهن حينئذ من سعد فانطلق بهن إلى أصحابك فقل إن الله أو قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحملكم على هؤلاء فاركبوهن، قال أبو موسى فانطلقت إلى أصحابي فقلت : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحملكم على هؤلاء ولكن والله لا أودعكم حتى ينطلق معي بعضكم إلى من سمع مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سألته لكم ومنعه في أول مرة ثم إعطاءه إياي بعد ذلك لا تظنوا أني حدثتكم شيئا لم يقله فقالوا : لي والله إنك عندنا لمصدق ولنفعلن ما أحببت، قال : فانطلق أبو موسى بنفر منهم حتى أتوا الذين سمعوا مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم منعه إياهم ثم إعطاءه بعد ذلك فحدثوهم بمثل ما حدثهم أبو موسى، ثم قلنا : والله لا يبارك لنا فرجعنا فقلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :" أنا ما حملتكم ولكن الله حملكم "، ثم قال والله إني إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منهما إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني " ١
قرأ ابن كثير وأبو عمرو السوء هنا وفي سورة الفتح بالضم السين ومعناه الضر والمكروه والباقون بفتح السين وهو مصدر أضيف إليه للمبالغة كقولك رجل صدق﴿ والله سميع ﴾لما يقولون عند النفاق فيما بين شياطينهم﴿ عليم ﴾بما يضمرون
سبقتكمُ إلى الإسلام طرا | غلاما ما بلغت أوان حلم |
ثم شاع الإسلام وتقوى بإسلام عمر بعد سبع سنين، ومن ههنا قال : علي رضي الله عنه صليت قبل الناس بسبع سنين. والسابقون من الأنصار هم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة وكانوا ستة في العقبة الأولى وقيل : سبعة واثني عشر في العقبة الثانية والسبعون في العقبة الثالثة كما سنذكر، والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة ومصعب بن عمير يعلمهم القرآن فأسلم خلق كثير وجماعة من النساء والصبيان.
قرأ يعقوب والأنصار بالرفع عطفا على قوله :﴿ والسابقون ﴾ وهي قراءة أبي أخرجها ابن جرير وأبوا الشيخ عن محمد بن كعب القرظي والحاكم وأبو الشيخ عن أسامة ومحمد بن إبراهيم التيمي ﴿ والذين اتبعوهم بإحسان ﴾.
قيل : هم بقية المهاجرين والأنصار سوى السابقين. وقيل : هم الذين سلكوا سبيلهم في الإيمان والهجرة والنصرة إلى يوم القيامة، قلت : ويمكن أن يكون المراد من السابقين المقربين الذين قال : الله تعالى فيهم :" والسابقون السابقون١٠ أولئك المقربون ١١في جنات النعيم ثلة من الأولين ١٣ " ١يعني من الصحابة والتابعين وأتباعهم فإنهم الأولون من هذه الأمة وقليل من الآخرين أي : آخرى هذه الأمة يعني بعد الألف وهم أرباب كمالات النبوة فإنهم كثيرون في الصدر الأول، قال : المجدد للألف الثاني رضي الله عنه الصحابة كلهم كانوا من أرباب كمالات النبوة وأكثر التابعين وبعض من أتباع التابعين، وقيل : بعد الألف من الهجرة قلت : فعلى هذا قوله تعالى :﴿ من المهاجرين والأنصار ﴾ بيان للسابقين الأولين وليست كلمة من للتبغيض " والذين اتبعوهم بإحسان " يشتمل السابقين الآخرين وأصحاب اليمين الذين هم " ثلة من الأولين١٣ " من الصدر الأول ومن بعدهم وثلة من الآخرين إلى ما بعد الألف إلى يوم القيامة، وقال عطاء الذين اتبعوهم بإحسان هم الذين يذكرون الصحابة بالترحم والدعاء، قال : أبو صخر حميد بن زياد أتيت محمد بن كعب القرظي فقلت له ما قولك في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة محسنهم وسيئهم فقلت له : من أين تقول هذا ؟قال : اقرأه قوله تعالى :﴿ والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ﴾ إلى أن قال : رضي الله عنهم ورضوا عنه }قال :" والذين اتبعوهم بإحسان " شرط في التابعين شريطة وهو أن يتبعوهم في أفعالهم الحسنة دون السيئة، قال : أبو صخر : فكأني لم أقرأ هذه الآية قط وما عرفت تفسيرها حتى قرأها علي محمد بن كعب قلت : وأولى بالاحتجاج على كون جميع الصحابة في الجنة قوله تعالى ﴿ لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى ﴾٢فإنه صريح في أن جميع الصحابة أولهم وآخرهم وعدهم الله تعالى الحسنى يعني الجنة وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه " ٣متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا تمس النار مسلما رآني أو رأى من رآني " ٤رواه الترمذي عن جابر، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من أحد من أصحابي يموت بأرض إلا بعث قائدا ونورا لهم يوم القيامة " رواه الترمذي من حديث بريدة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم " رواه رزين من حديث عمر بن الخطاب " رضي الله عنهم " بقبول طاعتهم وارتضاء أعمالهم " ورضوا عنه " ربا وعن الإسلام دينا ومحمد رسولا ونبيا بما ألقى الله حبه في قلوبهم وبما نالوا من نعيم الدنيوية والدينية﴿ واعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ﴾قرأ ابن كثير من تحتها كما هو في سائر المواضع وكذلك في مصاحف أهل مكة والباقون بحذف من﴿ خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم ﴾
٢ سورة الحديد، الآية١٠..
٣ أخرجه البخاري في كتاب: فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم "لو كنت متخذا خليلا "(٣٦٧٣)، وأخرجه مسلم في كتاب: المناقب، باب: ما جاء في فضل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه (٤٠٢١)..
٤ أخرجه الترمذي في كتاب: المناقب، باب: ما جاء في فضل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه(٣٨٦٧)..
قال البغوي : واختلفوا في وجوب الدعاء على الإمام عند أخذ الصدقة فقال : بعضهم يجب، وقال بعضهم يستحب وقال بعضهم : يجب في الصدقة المفروضة ويستحب في التطوع وقيل : يجب على الإمام ويستحب للفقير أن يدعوا للمعطي، روى البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى وكان من أصحاب الشجرة قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقة قال :" اللهم صل عليهم " فأتاه أبي صدقة فقال :" اللهم صل على آل أبي أوفى :٢ واعلم أن الصلاة في اللغة الدعاء والرحمة والاستغفار، وهو المراد بهذه الآية وبما قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا دعا أحدكم إلى طعام فليجب فإن كان مفطرا فليأكل وإن كان صائما فليصل " ٣رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة أي : ليدعوا، وفي حديث جابر قالت امرأة : يا رسول الله صل على زوجي ففعل أخرجه أحمد وصححه ابن حبان، وإذا أسند إلى الله تعالى يراد به الرحمة والثناء الحسن وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم :" اللهم صلي على آل أبي أوفى " وقوله صلى الله عليه وسلم :" اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة " ٤رواه أبو داود والنسائي عن قيس بن سعد وسنده جيد، وفي حديث أبي هريرة مرفوعا :" إن الملائكة يقول لروح المؤمن صلى الله عليك وعلى جسدك " باعتبار المعنى اللغوي ونظرا إلى ما ذكرنا من الأحاديث قال : يحيى بن يحيى لا بأس بالصلاة على غير الأنبياء يعني الدعاء بهذا اللفظ المخصوص لمن أهل الشرع من المحدثين والفقهاء اصطلحوا على اختصاص لفظ الصلاة بالأنبياء أو بنبينا صلى الله عليه وسلم إلا تبعا وبناء على هذا لاصطلاح قال مالك : أكره الصلاة على غير الأنبياء، قال : عياض : هذا قول مالك وسفيان وهو قول المتكلمين والفقهاء قالوا : يذكر غير الأنبياء بالرضى والغفران والرحمة وأما الصلاة على غير الأنبياء فلم يكن من المعروف وإنما أحدثت في دولة بني هاشم يعني الخلفاء العباسية وقال أبو حنيفة يجوز على غير الأنبياء تبعا ولا يجوز استقلالا وبه قال : جماعة. وجه هذا القول أن الصلاة لما وضعت في اصطلاح أهل الشرع لتعظيم الأنبياء خصوصا لتعظيم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لا يجوز إطلاقها لغير الأنبياء لقوله تعالى " لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا " ٥ومن ههنا قال : ابن عباس : ما أعلم الصلاة ينبغي من أحد على أحد إلا على النبي صلى الله عليه وسلم " رواه ابن أبي شيبة من طريق عثمان بن حكيم عن عكرمة عنه وهذا سند صحيح، قال : البيهقي يحمل قول ابن عباس بالمنع على ما إذا كان على وجه التعظيم وأما إذا كان على وجه الدعاء فلا بأس به، وقال ابن القيم : المختار أن يصلي على الأنبياء والملائكة وأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذريته وأهل الطاعة على سبيل الإجمال ويكره في غير الأنبياء لشخص معروف بحيث يصير شعار ولا سيما إذا ترك في حق مثله أو أفضل منه كما يفعله الرافضة كذا قال : الحافظ ابن حجر قال : الله تعالى :﴿ إن صلواتك ﴾قرأ حفص وحمزة والكسائي " أصلواتك تأمرك " ٦وكذا قرأ حمزة والكسائي في المؤمنين بالتوحيد ونصب التاء هنا والباقون فيهن بالجمع وكسر التاء هنا ولا خلاف في رفع التاء في هود﴿ سكن لهم ﴾قال : ابن عباس رحمة لهم وقال أبو عبيدة تثبيت لقلوبهم وطمأنينة لهم بأن الله قد قبل توبتهم، قلت : أرباب القلوب الصافية إذا صدر من أحدهم مصيبة تغشي ظلماتها قلبه فيحصل له حالة كما يحصل الخفقان بصعود إلا تجرة من المعدة إلى القلب فإذا استغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم وغفر الله له زال تلك الظلمات وحصلت له طمأنينة وسكون ومن ههنا قال : الله تعالى " ألا بذكر الله تطمئن القلوب " ٧ ﴿ والله سميع ﴾باعترافهم بذنوبهم وبدعاء الرسول الله صلى الله عليه وسلم﴿ عليم ﴾ بندامتهم على ما صدر منهم.
٢ أخرجه البخاري في كتاب: الزكاة، باب: صلاة الإمام ودعاؤه لصاحب الصدقة (١٤٩٧)، وأخرجه مسلم في كتاب الزكاة باب: الدعاء لمن أتى بصدقته(١٠٧٨).
٣ أخرجه مسلم في كتاب: النكاح، باب: الأمر بإجابة الداعي إلى دعوة (١٤٣١)، وأخرجه أبو داود في كتاب: الصيام، باب: في الصائم يدعى إلى وليمة (٢٤٥٨)، وأخرجه الترمذي في كتاب: الصوم، باب: ما جاء في إجابة الصائم الدعوة(٧٧٤)..
٤ أخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: كم مرة يسلم الرجل في الاستئذان(٥١٧٦)..
٥ سورة النور، الآية: ٦٣.
٦ سورة هود، الآية: ٨٧.
٧ سورة الرعد، الآية: ٢٨..
روى ابن إسحاق عن أبي رهم كلثوم بن الحصين الغفاري وكان ممن بايع تحت الشجرة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس وابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق آخر عن ابن عباس وابن المنذر عن سعيد بن جبير ومحمد بن عمر عن يزيد بن رومان أن بني عمرو بن عوف بنوا مسجدا فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم فيصلي فيه فلما رأى ذلك ناس من بني غنم بن عوف حسدوهم فقالوا نبني نحن أيضا مسجدا كما بنوا مسجدا، فقال : لهم أبو عامر : الفاسق قبل خروجه إلى الشام ابنوا مسجدكم واشهدوا فيه بما استطعتم من قوة وسلاح فآتي ذاهب قيصر ملك الروم فآتي بجند من الروم فأخرج محمدا وأصحابه فكانوا يرصدون قدوم أبي عامر الفاسق، وكان قد خرج من المدينة محار بالله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم فلما فرغوا من مسجدهم أرادوا أن يصلي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليروح لهم فلما أرادوا من الفساد والكفر والعناد، فعصم الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم فأتى جماعة منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا بنينا مسجدا الذي العلة والحاجة والليلة الشاتية والليلة المطيرة وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه، قال : إني على جناح سفر وحال شغل وإذا قدمنا إن شاء الله صلينا لكم فيه فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عزوة تبوك ونزل بذي أوان مكان بينه وبين المدينة ساعة أنزل الله تعالى :
﴿ والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون ( ١٠٧ ) لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ( ١٠٨ ) أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين ( ١٠٩ ) لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم ( ١١٠ ) ﴾.
وذكر محمد بن يوسف الصالحي أنه لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة عرض على عاصم بن عدي المسجد ليتخذ دارا فقال : يا رسول الله ما كنت لأتخذ مسجدا قد أنزل فيه أنزل دارا ولكن أعطه ثابت بن أقرم فإنه لا منزل له فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بن أقرع فلم يولد له في ذلك البيت مولود قط ولم ينفق فيه حمام قط ولم تحضن فيه دجاجة قط، قال : البغوي : روى أن بني عمرو بن عوف الذين بنوا مسجد قباء أتوا عمر بن الخطاب في خلافته ليأذن لمجمع بن حارثة قيامهم في مسجدهم فقال ولا نعمت عين أليس بإمام مسجد الضرار، فقال : له مجمع يا أمير المؤمنين لا تعجل علي فوالله لقد صليت فيه وإني لا أعلم ما أضمروا عليه ولو علمت ما صليت معهم فيه كنت غلاما قارئا للقرآن وكانوا شيوخا لا يقرؤون فصليت ولا أحسب إلا أنهم يتقربون إلى الله ولا أعلم ما في أنفسهم، فعذره عمر وصدقة وأمره بالصلاة في مسجد قباء ﴿ لمسجد ﴾اللام لام الابتداء وقيل : لام القسم﴿ أسس ﴾أي بني أصله﴿ على التقوى من أول يوم ﴾من أيام بنائه ووضع أساسه أو من أول يوم حل النبي صلى الله عليه وسلم بدار الهجرة كذا قال : السهيلي﴿ أحق أن تقوم فيه ﴾قال : ابن عمر وزيد بن ثابت وأبو سعيد الخدري هو مسجد المدينة لما روى مسلم وأحمد وابن أبي شيبة والترمذي والنسائي وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن أبي سعيد الخدري قال : إني دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت بعض نساءه يا رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي المسجد الذي أسس على التقوى ؟فأخذ كفا من حصباء فضرب الأرض، ثم قال :" هو مسجدكم هذا لمسجد المدينة " ١وأخرج الطبراني والضياء المقدسي في المختارة عن زيد بن ثابت. أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى قال :" هو مسجدي هذا " وأخرج ابن أبي شيبة وابن مردويه عن ابن عمر قال : المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ورد في فضل هذا المسجد ما رواه الشيخان في الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ومنبري على حوضي " ٢رواه البغوي بلفظ " ما بين قبري ومنبري " وروى الشيخان وأحمد والنسائي عن عبد الله بن زيد المازني " ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة " وكذا روى الترمذي عن علي وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام " ٣رواه. وذهب قوم إلى أنه مسجد قباء وهو رواية عطية عن ابن عباس وهو قول عروة ابن الزبير وسعيد بن جبير وقتادة أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى فيه أيام مقامه حين قدم المدينة مهاجرا من الاثنين إلى الجمعة، أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس وأبو الشيخ عن الضحاك، وروى البخاري عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال :" كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي مسجد قباء كل سبت ماشيا وراكبا وكان عبد الله يفعله، وزاد نافع عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصلي فيه ركعتين " ٤قال الداروردي وغيره وليس هذا اختلافا لأن كلا منهما أسس على التقوى كذا قال : السهيلي والحافظ بن حجر، قلت : يعني مورد نزول الآية وإن كان خاصا فالعبرة لعموم اللفظ فإن النكرة الموصوفة بصفة عامة من ألفاظ العموم يعني كل مسجد أسس على التقوى أحق أن تقوم فيه من غيره لكن الظاهر من سياق الآية أن مورد الآية هو مسجد قباء فإن مسجد الضرار كان للمضاراة مسجد قباء وبدليل قوله تعالى ﴿ رجال يحبون أن يتطهرو ﴾ من الأحداث والجنايات والنجاسات أو من المعاصي ورذائل الأخلاق﴿ والله يحب المطهرين ﴾ أصله للمتطهرين أدغم التاء في الطاء، روى البغوي بسنده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : نزلت هذه الآية في أهل قباء فيه رجال يحبون أن يتطهروا قال : قال كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية " ٥وكذا روى الترمذي عنه، وروى ابن مردويه عن ابن عباس أنه قال : لما نزلت مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم معه المهاجرون حتى وقف على مسجد قباء فإذا الأنصار جلوس فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أمؤمنون أنتم " ؟ فسكتوا فأعادها فقال : عمر أنهم مؤمنون وأنا معهم فقال صلى الله عليه وسلم :" أترضون بالقضاء " ؟قالوا : نعم، قال :" أتصبرون على البلاء " ؟قالوا : نعم، قال :" أتشكرون على الرخاء " ؟قالوا : قالوا نعم، قال : عليه السلام :" مؤمنون ورب الكعبة " فجلس ثم قال :" يا معشر الأنصار إن الله قد أثنى عليكم فما الذي تصنعون عند الوضوء وعند الغائط " فقالوا : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم نتبع الغائط الأحجار الثلاثة ثم نتبع الأحجار الماء فتلا﴿ فيه رجال يحبون أن يتطهروا ﴾وأخرج الطبراني في " الأوسط " صدر الحديث إلى قوله ورب الكعبة، وأخرج عمر بن شيبة في أخبار المدينة من طريق الوليد بن أبي سندر الأسلمي عن يحيى بن سهل الأنصاري عن أبيه أن هذه الآية نزلت في أهل قباء كانوا يغسلون أدبارهم من الغائط، وأخرج ابن جرير عن عطاء قال : أحدث قوم الوضوء بالماء من أهل قباء فنزلت فيهم ﴿ فيه رجال يحبون أن يتطهروا ﴾، وروى ابن خزيمة في " صحيحه : عن عويمر بن ساعدة أنه صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء فقال :" إن الله قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم هذا فما الطهور الذي تطهرون به ؟قالوا : والله يا رسول الله لا نعلم شيئا إنه كان لنا جيران من اليهود وكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا كما غسلوا، وفي حديث فقالوا : نتبع الحجارة المار فقال : هو ذاك فعليكموه
٢ أخرجه البخاري في كتاب: التهجد، باب: فضل ما بين القبر والمنبر (١١٣٧)، وأخرجه مسلم في كتاب: الحج، باب: ما بين القبر والمنبر روضة من رياض الجنة (١٣٩٠)..
٣ أخرجه الترمذي في كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في أي المساجد أفضل (٣٢٢)..
٤ أخرجه البخاري في كتاب: فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة (١١٩٣)..
٥ أخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة التوبة(٣١٠٠)..
وقال الكلبي : حسرة وندامة لأنهم ندموا على بناءه، وقال السدي : لا يزال هدم بنيانهم ريبة أي : غيظا في قلوبهم ﴿ إلا أن تقطع ﴾قرأ ابن عامر وأبو جعفر وحفص وحمزة بفتح التاء والباقون بضمها والاستثناء مفرغ من أعم الأزمنة وقرأ يعقوب إلى أن على الغاية وتقطع بضم التاء والتخفيف المجرد يعني في كل زمان الأزمان تقطع﴿ قلوبهم ﴾أو لا يزال إلى زمان قطعها يعني إلى وقت لا يبقى لقلوبهم قابلية الإدراك والإضمار وهو في غاية المبالغة، وقيل : المراد بالتقطع ما هو كائن بالقتل أو في القبر أو في النار قال : الضحاك وقتادة لا يزالون في شك منه إلى أن يموتون فيستيقظوا﴿ والله عليم ﴾بنياتهم﴿ حكيم ﴾فيما أمر بهدم بنائهم والله أعلم.
قال أهل السير : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني من مكة في موسم الحج في السنة الحادية عشر من البعثة فعرض نفسه على قبائل العرب فبينا هو عند العقبة لقي رهطا من الخزرج فقال : لهم : من أنتم ؟ قالوا : نفر من الخزرج، قال : أفلا تجلسون أكلمكم ؟قالوا : بلى، فجلسوا معه فدعاهم إلى الله وعرض عليهم الإسلام وتلا القرآن، ومن صنع الله أن اليهود كانوا معهم في بلادهم وكانوا أهل كتاب والأوس والخزرج أكثر منهم وكانوا أهل أوثان فكانوا إذا كان بينهم شيء، قالوا : إن نبيا سيبعث الآن قد أظل زمانه فيتبعه فنقتلكم معه، فلما كلمهم النبي صلى الله عليه وسلم عرفوا النعت فقال : بعضهم لبعض أنه نبي لا يسبقنا اليهود إليه فأجابوه وأسلم منهم ستة نفر كلهم من الخزرج وهم أسعد بن زرارة وعوف بن الحارث أمه عفراء ورافع بن مالك وقطبة بن عامر بن جديدة وعقبة بن عامر بن نابي وجابر بن عبد الله بن رباب وقيل : عبادة بن الصامت مكان جابر رضي الله عنهم ومن قال : أسلم سبعة نفر فلعله عدهما جميعا فقال : لهم النبي صلى الله عليه وسلم :" تمنعون ظهري حتى أبلغ رسالة ربي " فقالوا : يارسول الله إنما كان يوم بعاث عام الأول يوم من أيامنا أقتتلنا به فإن تقدم ونحن كذا لا يكون لنا عليك اجتماع فدعنا نرجع إلى عشائر لعل الله يصلح ذات بيننا وندعوهم إلى ما دعوتنا فعسى الله أن يجمعهم عليك فإن اتبعوك فلا أحد أعز منك وموعدك الموسم من العام القابل وانصرفوا إلى المدينة ولم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان العام القابل وهي الثانية عشر من البعثة لقيه اثنا عشر رجلا وقيل : أحد عشر رجلا وهي العقبة الثانية فيهم خمسة من المذكورين غير جابر والسبعة معاذ بن الحارث أخو عوف المذكور وذكوان وعبادة بن الصامت ويزيد بن ثعلبة والعباس بن عبادة بن نضلة رضي الله عنهم وهم من الخزرج ومن الأوس رجلان أبو الهيثم بن التيهان من بني عبد الأشهل و عويمر بن ساعدة فأسلموا وبايعوا على بيعة النساء لا نشرك بالله شيئا ولا نسرق الخ ورجعوا إلى المدينة، وكان أسعد بن زرارة رضي الله عنه يجمع بالمدينة من أسلم وكتبت الأوس والخزرج إلى النبي صلى الله عليه وسلم ابعث إلينا من يقرأنا القرآن فبعث إليهم مصعب بن عمير وكانوا أربعين رجلا فأسلم على يدي مصعب خلق كثير وأسلم سعد بن معاذ وأسيد بن خضير وأسلم بإسلامهما جميع بني عبد الأشهل في يوم واحد الرجال والنساء ثم قدم في العقبة الثالثة سنة الثالثة عشر من البعثة فبايع النبي صلى الله عليه وسلم في أوسط أيام التشريق منهم سبعون رجلا وامرأتان وقيل : ثلاث وسبعون وامرأتان، وقال الحاكم خمسة وسبعون نفسا أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي، وكذا ذكر البغوي أنه قال : عبد الله بن رواحة يا رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترط لربك ولنفسك ما شئت، قال : اشترط لربي أن تعبدوه فلا تشركوا به شيئا وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون أنفسكم وأموالكم " قالوا : فإذا فعلنا ذلك فما لنا ؟ قال :" الجنة " قالوا : ربح البيع لا نقبل ولا نستقيل فنزلت :﴿ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقران ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم ( ١١١ ) ﴾
وجاز أن يكون خبره ما بعده يعني التائبون عن الكفر على الحقيقة الجامعون لهذه الخصال، ﴿ العابدون ﴾لله وحده غير مشركين به شركا جليا ولا خفيا﴿ الحامدون ﴾لله تعالى في السراء والضراء قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أول من يدعى إلى الجنة الحمادون الذين يحمدون الله على السراء والضراء " رواه الطبراني والحاكم والبيهقي في " شعب الإيمان " بسند صحيح عن ابن عباس﴿ السائحون ﴾أي : الصائمون لما أخرج ابن جرير عن عبيد بن عمير قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن السائحين ؟قال :" الصائمون " وكذا أخرج ابن جرير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال : كلما ذكر الله في القرآن السائحين فهم الصائمون، وكذا ذكر البغوي : قول ابن مسعود، وأخرج ابن مردويه عن عائشة موقوفا قالت : سياحة هذه الآية الصيام، قال : سفيان بن عيينة : إنما سمى الصائم سائحا لتركه اللذات كلها من المطعم والمشرب والنكاح، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال : الله تعالى إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به يدع شهوته وطعامه من أجلي " ٣الحديث متفق عليه، وقال عطاء السائحون الغزاة المجاهدون في سبيل الله كما روى ابن ماجة والحاكم والبيهقي بسند صحيحي عن أبي أمامة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله " ٤وقال البغوي : روى عن عثمان بن مظعون رضي الله عنه قال : يا رسول الله أئذن لي في السياحة فقال :" إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله " وقال عكرمة السائحون هم طلبة العلم يعني الذين يسيحون في الأرض لطلب العلم عن أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضى لطالب العلم وإن العالم يستغفر له من في السماوات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذه بحظ وافر " ٥رواه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه﴿ الراكعون الساجدون ﴾هم المصلون عن ابن مسعود قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم " أي الأعمال أحب إلى الله ؟قال : الصلاة لوقتها، قلت، ثم أي ؟بر الوالدين، قلت : ثم أي ؟قال : الجهاد في سبيل الله " ٦متفق عليه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الصلاة عماد الدين " ٧رواه أبو نعيم عن الفضل بن دكين وقال :" الصلاة نور المؤمن " رواه ابن عساكر عن أنس، وقال :" الصلاة قربان كل تقي " رواه القضاعي عن علي، وقال عليه السلام :" أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء " ٨رواه مسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة﴿ الآمرون بالمعروف ﴾بالإيمان والطاعة﴿ والناهون عن المنكر ﴾عن الشرك والمعصية وقيل : المعروف السنة والمنكر البدعة، ذكر العاطف بينهما للدلالة على أن مجموعهما خصلة واحدة ﴿ والحافظون لحدود الله ﴾أي : فيما بينه وبين الله تعالى من الحقائق والشرائع.
قيل : أورد العاطف هنا للتنبيه على أن ما قبله تفصيل الفضائل وهذا إجمالها، قلت : لعل الله سبحانه أورد العاطف ههنا لأن الله سبحانه ذكر أولا إتيان الحسنات المذكورات ثم ذكر محافظة حد كل منها بلا زيادة من قبل نفسه رهبانيته ابتدعوها وبلا نقصان صورة ولا معنى فكأن الأشياء المذكورة قبلها مجموعها شيء واحد يعبر عنها بإتيان الشرائع وهذا شيء آخر كناية عن الإخلاص والحضور التام المستفاد من صحبة أرباب القلوب فإن محافظة الحدود لا يتصور إلا بحضور تام دائم والله أعلم.
﴿ وبشر المؤمنين ﴾ يعني الموصوفين بتلك الفضائل وضع المؤمنين موضع ضميرهم للدلالة على أن إيمانهم دعاهم إلى ذلك وأن المؤمن الكامل من كان كذلك وحذف المبشر به للتعظيم كأنه قيل بشرهم بما لا يدركه الأفهام ولا يحبط الكلام ولم يسمعه الأذان والله أعلم.
٢ سورة النساء، الآية: ٩٥..
٣ أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: فضل الصوم(١٨٩٤)، وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: حفظ اللسان للصائم وبيان فضل الصيام(١١٥١)..
٤ أخرجه أبو داود في كتاب: الجهاد، باب: في النهي عن السياحة(٢٤٨٤)..
٥ أخرجه الترمذي في كتاب: العلم، باب: ما جاء فضل الفقه على العبادة(٢٦٨٢)، وأخرجه أبو داود في كتاب: العلم باب: في فضل العلم(٣٦٣٧)، وأخرجه ابن ماجه في المقدمة، باب: فضل العلماء والحث على طلب العلم(٢٢٣)..
٦ أخرجه البخاري في كتاب: مواقيت الصلاة، باب: فضل الصلاة لوقتها(٥٢٧)، وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان باب: كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال(٨٥)..
٧ رواه البيهقي في شعب الإيمان، قال الحافظ العراقي: فيه ضعف وانقطاع، انظر فيض القدير (٥١٨٥)..
٨ أخرجه مسلم في كتاب: الصلاة، باب: ما يقال في الركوع والسجود(٤٨٢)، وأخرجه النسائي في كتاب: التطبيق، باب: أقربما يكون العبد من الله عز وجل(١١٣١)، وأخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: الدعاء في الركوع والسجود(٨٧٣)..
٢ أخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: الدليل على صحة إسلام من حضره الموت ما لم يشرع في النزع(٢٥)..
٣ أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق، باب: صفة الجنة والنار(٦٥٦٤)، وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب(٢١٠)..
٤ أخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة التوبة(٣١٠١).
٢ سورة الممتحنة، الآية: ٤..
٣ أخرجه البخاري في كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: قول الله تعالى ﴿واتخذ الله إبراهيم خليلا﴾(٣٣٥٠)..
٤ سورة مريم، الآية: ٤٦..
٥ سورة مريم، الآية: ٤٧..
قال محمد بن عمر كان أبو ذر يقول : أبطأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك من أجل بعيري وكان نضوا أعجف فقلت : أعلفه أياما ثم ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فعلفته أياما ثم خرجت فلما كنت بذي المودة أذم بي فتلومت عليه فلم أر به حركة فأخذت متاعي فحملته وتطلعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم نصف النهار فنظر ناظر من المسلمين، فقال : يا رسول الله إن هذا الرجل يمشي على الطريق وحده فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" كن أبا ذر " فلما تأمله القوم قالوا : يا رسول الله هو والله أبو ذر، فقال :" رحم الله أبا ذر يمشي وحده ويومت وحده ويبعث وحده " قال : محمد بن يوسف الصالحي : فكان كذلك فلما قدم أبو ذر على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره خبره فقال :" لقد غفر الله تعالى لك يا أبا ذر بكل خطوة ذنبا إلى أن بلغتني ".
وروى الطبراني عن أبي خيثمة وابن إسحاق ومحمد بن عمر عن شيوخهما قال : لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم أياما دخل أبو خيثمة على أهله في يوم حار فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائط وقد رشت كل واحدة منهما عريشها وبردت له فيه ماء وهيأت له فيه طعاما فلما دخل قام على باب العريش فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له فقال : سبحان الله رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر حر في الضح والريح والحر يحمل سلاحه على عنقه وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيأ وامرأة حسناء في ماله مقيم ما هذا بالنصف، ثم قال : والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم تهيأ لي زادا ففعلتا، ثم قدم ناضحه فارتحله ثم خرج في طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدركه حتى نزل تبوك وقد أدرك أبا خيثمة عمير بن وهب الجمحي في الطريق لطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فترافقا حتى إذا دنوا من تبوك، قال : أبو خيثمة لعمير بن وهب : إن لي ذنبا فلا عليك أن تخلف عني أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل، حتى إذا دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الناس : هذا راكب مقبل فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" كن أبا خيثمة " فقالوا والله هو أبو خيثمة، فقال : له رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أولى لك يا أبا خيثمة " ثم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر فقال : له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له بخير، ﴿ ثم تاب عليهم ﴾تكرير للتأكيد أو أراد بالتوبة في صدر الآية التوبة من إذن المنافقين في التخلف وههنا من كيد ودتهم زيغ القلوب أو المراد في صدر الآية التوفيق للتوبة والإنابة وههنا قبول التوبة أو للتنبيه على أنه تاب عليهم لأجل ما كابد وأمن العسرة﴿ انه بهم رءوف رحيم ﴾قال البغوي : قال : ابن عباس : من تاب الله عليه لم يعذبه أبدا يعني على ذلك الذنب
٢ سورة النور، الآية: ٣١..
٣ سورة الواقعة، الآية: ٨٢..
روى الشيخان في الصحيحين وأحمد وتبن أبي شيبة وابن إسحاق وعبد الرزاق عن كعب بن مالك قال : لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك غير أني كنت تخلفت في غزوة بدر ولم يعاقب الله أحدا تخلف عنها إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة، قلت : ليلة العقبة الثالثة حين تواثقنا على الإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر وإن كانت البدر أكثر ذكرا في الناس منها كان من خبري أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر حين تخلفت عنه في لك الغزوة والله ما اجتمعت عندي قبله راحلتان قط حتى جمعتها في تلك الغزوة ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورى يغيرها وكان يقول الحرب خدعة، حتى كانت تلك الغزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد واستقبل سفرا بعيدا ومفوز وعدوا كثيرا فجلا للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم فأخبرهم بوجهه الذي يريد والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير وعند مسلم يزيدون على عشرة آلاف " ١وروى الحاكم في إكليل عن معاذ قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك زيادة عن ثلاثين ألفا، وقال أبو زرعة لا يجمعهم كتاب حافظ، قال : الزهري يريد الديوان فما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أنه سيخفى له ما لم ينزل فيه وحي من الله تعالى، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الظلال والثمار وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجهز المسلمون معه فخرج يوم الخميس وكان يحب إذا كان سفر جهاد أو غيره أن يخرج يوم الخميس، فطفقت أعدوا لكي أتجهز معهم فارجع ولم أقض شيئا فأقول في نفسي أنا قادر عليه فلم يزل يتمادى بي الحال حتى اشتد بالناس الحر فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غازيا والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئا فقلت أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم ألحقهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض شيئا ثم غذوت ولم أقض شيئا فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أمعن القوم وأسرعوا وتفارط الغزو وهممت أن أرتحل فأدركهم وليتني فعلت ولم يقدر لي ذلك، فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفت فيهم أحزنني أن لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه بالنفاق أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء، ولم يذكر لي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال : وهو جالس في القوم بتبوك : ما فعل كعب بن مالك ؟فقال : رجل من بني سلمة وفي رواية من قومي قال : محمد بن عمر هو عبد الله بن أنيس السلمي يا رسول الله حبسه براده ونظره في عطفيه، فقال : معاذ بن جبل ويقال : أبو قتادة بئسما قلت والله يا رسول الله ما علمت عليه إلا خيرا فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : كعب : فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توجه قافلا حضرني همي وطفقت أعد عذر الرسول الله صلى الله عليه وسلم وأهيئ الكلام وأقول بماذا أخرج من سخطه غدا واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلما قيل : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادما زاح عني الباطل وعرفت أن لن أخرج منه أبدا بشيء فيه كذب فأجمعت صدقه وعرفت أنه لم ينجيني إلا الصدق وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادما. قال : ابن سعد في رمضان، قال : كعب وكان إذا قدم من سفر لا يقدم إلا في الضحى فيبدأ بالمسجد فيركع فيه ركعتين فيقعد فيه ثم يدخل على فاطمة ثم على أزواجه فبدأ بالمسجد فركعهما ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله فجئته، فلما سلمت عليه تبسم بتبسم المغضب فقال : تعال فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، وعند ابن عابد فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله لم تعرض عني فوالله ما نافقت. ولا ارتبت ولا بدلت، فقال : لي : ما خلفك ألم تكن قد ابتعت ؟فقلت : بلى إني والله يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر ولقد أعطيت جدلا ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله تعالى أن يسخطك ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه أني لأرجوا فيه عفو الله لا والله ما كان لي من عذر والله ما كنت أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك، فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم /أما هذا فقد صدق فقم حتى يفضي الله فيك بما يشاء فمضيت وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا لي : ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المخلفون قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت، أن أرجع فأكذب نفسي، فقلت ما كنت أجمع أمرين أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبه، ثم قلت : لهم هل بقي هذا معي أحد قالوا : نعم رجلان قالا مثل ما قلت، فقيل : لهما مثل ما قيل لك فقلت : من هما قالوا : مرارة بن الربيع العمري وهلال بن أمية الواقفي.
وعند ابن أبي حاتم من مرسل الحسن أن سبب تخلف الأول أنه كان حائط حين زهى فقال : في نفسه قد غزوت قبلها فلو أقمت عامي هذا فلما تذكر ذنبه، قال : اللهم إني أشهدك أني قد تصدقت به في سبيلك أن الثاني كان له أهل تفرقوا ثم رجعوا، فقالوا : قمت هذا العام عندهم فلما تذكر قال : اللهم لك علي أن لا أرجع إلى أهلي ولا مالي قال : كعب : فذكروا رجلين صالحين قد شهدا بدرا فيهما أسوة فمضيت حين ذكرها ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه فأجبنا الناس وتغيروا لنا.
وعند ابن أبي شيبة فطفقنا نعذو في الناس لا يكلمنا أحد ولا يسلم علينا أحد ولا يرد علينا أحد سلاما، وعند عبد الرزاق وتنكر لنا الناس حتى ما هم بالذي نعرف وتنكرت لنا الحيطان حتى ما هي بالتي نعرف انتهى، ومن شيء أهم إلى من أن أموت فلا يصلي علي رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يموت فأكون من الناس بتلك المنزلة فلا يكلمني أحد ولا يصلي علي حتى تنكرت في نفسي الأرض حتى ما هي بالتي أعرف فلبثنا ذلك خمسين ليلة، فأما صاحبان فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف الأسواق فلا يكلمني أحد ولا يرد علي سلاما، وأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي : هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا، ثم أصلي قريبا منه فأسارقه النظر فإذا أقبلت على صلاتي أقبل على ذلك فإذا التفت نحوه أعرض عني، حتى إذا طال على ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي يعني أنه من بني سلمة وليس هو ابن أخو أبيه الأقرب، قال كعب : وهو أحب الناس إلي فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام، فقلت : يا أبا قتادة هل تعلمني أحب الله ورسوله فسكت فعدت له فسكت فلم يكلمني حتى إذا كان في الثالثة أو الرابعة قال : الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت من الدار، قال : فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذ نبطي من أنباط الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول من يدل على كعب بن مالك فطفق الناس يشيرون له حتى جاءني ودفع إلي كتابا من ملك غسان.
وعند ابن أبي شيبة من بعض قومي بالشام كتب إلي كتابا في سعاقة من حرير فإذا فيه أما بعد فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك وأقصاك ولم يجعلك الله بدار الهوان ولا مضيعة فإن كنت متحولا فالحق بنا نواسيك، فقلت : لما قرأتها وهذا أيضا من البلاء قد طمع في أهل الكفر فتيممت بها التنور فسجرته بها، وعند ابن عابد أنه شكى حاله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : ما زال إعراضك عني حتى رغب في أهل الشرك. قال : كعب : حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني، قال : محمد بن عمر هو خزيمة بن ثابت وهو الرسول إلى مرارة وهلال بذلك فقال كعب فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعزل امرأتك فقلت : أطلقها أم ماذا أفعل ؟لا بل اعتزلها ولا تقربها وأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك فقلت لامرأتي : إلحقي بأهلك فتكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر، قال : كعب بن مالك فجاءت امرأة هلال بن أمية أي : خولة بنت عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم، وعند ابن أبي شيبة إنه شيخ قد ضعف بصره انتهى، فهل تكره أن أخدمه قال : لا ولكن لا يقربك قالت : إنه والله ما به حركة إلى شيء والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا، قال كعب فقال : لي بعض أهلي : لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك كما أذن لامرأة هلال بن أمية أن يخدمه، فقلت : والله لا استأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدريني ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذن فيها وأنا رجل شاب فلبثت بعد ذلك عشر ليال حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا، وعند عبد الرزاق وكانت توبتنا نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم ثلث الليل، فقالت أم سلمة يا نبي الله ألا نبشر كعب بن مالك قال : إذا يحطمنكم الناس ويمنعونكم النوم سائر الليل، فلما صليت الفجر صبح خمسين ليلة وأنا على ظهر بيت من بيتنا فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى قد ضاقت على نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع بأعلى صوته يا كعب بن مالك البشر وعند محمد بن عمر وكان الذي أوفى على جبل سلع أبا بكر الصديق فصاح : قد تاب الله على كعب يا كعب أبشر، وعند عقبة أن رجلين سعيا كعبا يبشر أنه فسبق أحدهما فارتقى المسبوق على سلع فصاح يا كعب أبشر بتوبة الله وقد أنزل الله عز وجل فيكم القرآن وزعموا أن الذين سبقا أبو بكر وعمر، قال كعب : فخررت ساجدا أبكي فرحا بالتوبة وعرفت أنه قد جاء فرج وأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر فذهب الناس يبشروننا وذهب قبل صاحبي مبشرون وركض إلي رجل على فرس وعند محمد بن عمر هو زبير بن العوام وسعى ساع من أسلم قال : وكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته وهو حمزة الأسلمي يبشرني نزعت له ثوبي فكسوته إياه ببشراه ووالله ما أملك غيرهما يومئذ واستعرت ثوبين من أبي قتادة كما عند محمد بن عمر فلبستها قال : وكان الذي بشر هلال بن أمية بتوبة سعيد بن زيد فما ظننت أنه يرفع رأسه حتى تخرج نفسه أي : الجهد فقد كان امتنع من الطعام حتى كان يواصل الأيام صياما لا يفتر من البكاء، وكان الذي بشر مرارة بن الربيع بتوبة سلكان بن سلامة أبو سلامة بن وقش، قال كعب : وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيتلقاني الناس فوجا يهنئوني بالتوبة يقولون لتهنك توبة الله عليك قال كعب : حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناس فقام إلي طل
٢ أخرجه البخاري في كتاب، الجمعة، باب: المشي إلى الجمعة (٩٠٧)، وأخرجه النسائي في كتاب: الجهاد، باب: ثواب من اغبرت قدماه في سبيل الله(٣١٠٧)، وأخرجه الترمذي في كتاب: فضائل الجهاد، باب: ما جاء في فضل من أغبرت قدماه في سبيل الله (١٦٣٦)...
٣ أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد والسير، باب: أفضل الناس مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله(٢٧٨٧)، وأخرجه مسلم في كتاب: الإمارة، باب: فضل الشهادة في سبيل الله تعالى (١٨٧٨)..
٤ سورة النساء، الآية: ٩٥..
قال الكلبي : إن أحياء بني أسد بن خزعة أصابتهم سنة شديدة فأقبلوا بالذراري حتى نزلوا بالمدينة فأفسدوا طرقها بالعذرات وأغلوا أسعارها فأنزل الله.
٢ أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد والسير، باب: فضل من جهز غازيا أو خلفه بخير (٢٨٤٣)، وأخرجه مسلم في كتاب: الإمارة، باب: فضل إعانة العازي في سبيل الله ١٨٩٥)..
وهذه الآية دليل على أن أخبار الآحاد حجة لأن عموم كل فرقة يقتضي أن ينفر من كل ثلاثة تفردوا بقرية طائفة إلى التفقه لينذر فرقتها كي يتذكروا فيحذروا فلو لم يعتبر الأخبار ما لم يتواتر لم يفسد ذلك.
أعلم أن الفقه في الدين ينقسم إلى فرض عين وفرض كفاية، والفرض العين هو العلم بالعقائد الصحيحة ومن الفروع ما يحتاج إليه كل أحد كالطهارة والصلاة والصوم وكذلك كل عبادة أوجبها الشرع على الآدمي يجب عليه يجب عليه معرفة أحكامها مثل علم الزكاة إن كان له مال وعلم الحج إن وجب عليه وكذلك من المعاملات يجب معرفة أحكام ما يتعاطى بها ويمارسها، فيجب معرفة أحكام البيع من الصحيح والفاسد والربا للتجار والآجارات لمن يتأتى بها ونحو ذلك قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" طلب العلم فريضة على كل مسلم " رواه ابن عدي والبيهقي بسند صحيح عن أنس والطبراني في الصغير والخطيب عن الحسن بن علي والطبراني في " الأوسط " عن ابن عباس وفي الكبير عن ابن مسعود وعند الخطيب عن علي وفي الطبراني في " الأوسط " والبيهقي " عن أبي سعيد وزاد ابن عبد البر عن أنس " وإن طالب العلم يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر " وفي رواية " والله يحب إغاثة اللهفان " والفرض الكفاية وهو أن يتعلم الرجل كل باب من العلم حتى يبلغ درجة الفتوى فإذا قعد أهل بلد عن تعلمه عصوا جميعا وإذا قام من كل بلد واحد بتعلمه سقط عن الباقين وعليهم تقليده فيما يقع لهم من الحوادث وهو أفضل من كل عبادة نافلة قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" طلب العلم أفضل عند الله من الصلاة والصيام والحج والجهاد في سبيل الله عز وجل " رواه صاحب سند الفردوس عن ابن عباس وروى أيضا عنه :" طلب العلم ساعة خير من قيام ليلة وطلب العلم يوما خير من صيام ثلاثة أيام " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم، إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرضين حتى النملة في جحرها وحتى الحوت في الماء ليصلون على معلم الناس الخير " ٣رواه الترمذي بسند صحيح عن أبي أمامة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد " ٤رواه الترمذي وابن ماجه عن ابن عباس، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة : إلا من صدقة جارية وعلم ينتفع به وولد صالح يدعو له " ٥وأما العلم اللدني الذي يسمون أهلها بالصوفية الكرام فهو مرض عين لأن ثمراتها تصفية القلب عن اشتغال بغير الله تعالى واتصافه بدوام الحضور وتزكية النفس عن رذائل الأخلاق من العجب والكبر والحسد وحب الدنيا والكسل في الطاعات وإيثار الشهوات والرياء والسمعة وغير ذلك وتجليها بكرام الخلاق من التوبة والرضا بالقضاء والشكر على النعماء والصبر على البلاء وغير ذلك، ولا شك أن هذه الأمور محرمات وفرائض على كل بشر أشد تحريما من معاصي الجوارح وأهم افتراضا من فرائضها فالصلاة والصوم وشيء من العبادات لا يعبأ بشيء منها ما لم تقترن بالإخلاص والنية، قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصا وابتغي به وجهه " ٦رواه النسائي عن أبي أمامة وقال عليه السلام :" إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر غلى قلوبكم واعمالكم " ٧رواه مسلم عن أبي هريرة وكل ما يترتب عليه من الفروض الأعيان فهو فرض عين والله اعلم.
وفي سبب نزول الآية وجه آخر وذلك ما قال : البغوي : أنه قال : ابن عباس في رواية الكلبي وكذا أخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة ونحوه عن عبد الله بن عمير أنه لما أنزل الله تعالى عيوب المنافقين في غزوة تبوك ونزلت :﴿ إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ﴾كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث السرايا فكان المسلمون ينفرون جميعا إلى الغزو ويتركون النبي صلى الله عليه وسلم وحده، وفي رواية عكرمة تخلف عن الغزو أناس من أهل البوادي فقالت المنافقون : هلك أصحاب البوادي فأنزل الله تعالى هذه الآية، يعني ما كان المؤمنون لينفروا إلى الغزو كافة فهلا نفر من كل فرقة عظيمة طائفة إلى الغزو وبقي طائفة مع النبي صلى الله عليه وسلم ليتفقه القاعدون وفي الدين ويتعلمون القرآن والسنن والفرائض والأحكام فإذا رجعت السرايا أخبروهم بما نزل بعدهم فتمكث السرايا يتعلمون ما نزل بعدهم وينفر سرايا آخر حتى لا ينقطع التفقه الذي هو الجهاد الأكبر لأن الجدال بالحجة هو الأصل والمقصود من البعثة، ولذا قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" العلماء ورثة الأنبياء " ٨فيكون الضمير في ليتفقهوا ولينذروا بواقي الفرق بعد الطائفة النافرة للغزوة وفي رجعوا للطائفة النافرة، قال السيوطي : قال ابن عباس : فهذه مخصومة بالسرايا والتي من قبلها بالنهي عن تخلف أحد فيما إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الحسن هذا التفقه والإنذار راجع إلى الفرقة النافرة معناه هلا نفر فرقة ليتفقهوا أي : ليبصروا بما يريهم من الظهور على المشركين ونصرة الدين ولينذروا قومهم من الكفار إذا رجعوا من الجهاد فيخبروهم بنصر الله رسوله والمؤمنين لعلهم يحذرون قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل بهم ما نزل بأصحابهم من الكفار، وهذا يدل على أن الجهاد فرض كفاية إذا قام به جماعة سقطه عن الباقين إلا عند النفير العام حتى يصير فرضا على الأعيان
٢ أخرجه البخاري في كتاب: المناقب، باب: قول الله تعالى:﴿يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا﴾(٣٤٩٣)وأخرجه مسلم في كتاب: فضائل الصحابة، باب: خير الناس (٢٥٢٦)، وأخرجه مسلم في كتاب: فضائل الصحابة، باب: خير الناس (٢٥٢٦)، وأخرجه الشافعي في الجزء الأول/باب: الإيمان والإسلام والإسلم (١٥)..
٣ أخرجه الترمذي في كتاب: العلم، باب: ما جاء في فضل الفقه على العبادة (٢٦٨٢)..
٤ أخرجه الترمذي في كتاب: العلم، باب: ما جاء في فضل الفقه على العبادة (٢٦٨١)، وأخرجه ابن ماجه في افتتاح الكتاب، باب: فضل العلماء والحث على طلب العلم (٢٢٢)..
٥ أخرجه مسلم في كتاب: الوصية، باب: ما يلحق الإنسان من الثوب بعد وفاته (١٦٣١)..
٦ أخرجه النسائي في كتاب: الجهاد، باب: من غزا يلتمس الأجر والذكر(٣١٣١)..
٧ أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وماله وعرضه(٢٥٦٤)..
٨ اخرجه الترمذي في كتاب: العلم، باب: ما جاء في فضل الفقه على العبادة (٢٦٨٢)، وأخرجه أبو داود في كتاب: العلم باب: في فضل العلم (٣٦٣٧)..
وتصديقا قال : الله تعالى ﴿ فأما الذين امنوا فزادتهم إيمانا ﴾بزيادة بما فيها إلى إيمانهم ﴿ وهم يستبشرون ﴾بنزولها لأنه سبب لزيادة علمهم وكمالهم وارتفاع درجاتهم
أخرج عبد الله بن احمد عن أبي بن كعب قال : آخر ما نزل من القرآن هاتان الآيتان ﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم ﴾ إلى آخر السورة وقال هما أحدث الآيات بالله عهدا والله أعلم.