تفسير سورة التوبة

تفسير القرآن الكريم
تفسير سورة سورة التوبة من كتاب تفسير القرآن الكريم .
لمؤلفه شحاته . المتوفي سنة 1423 هـ
تفسير سورة التوبة
دروس من سورة التوبة١
أسماء السورة
عرفت سورة التوبة من العهد الأول للإسلام بجملة أسماء، تدل بمجموعها على ما اشتملت عليه من المبادئ التي تجب مراعاتها في معاملة الطوائف كلها : مؤمنهم، ومنافقهم، وكتابيهم، ومشركهم.
وأشهر هذه الأسماء " سورة التوبة "، وهو يشير إلى ما تضمنته السورة من تسجيل توبة الله وتمام رضوانه على المؤمنين الصادقين الذي أخلصوا في مناصرة الدعوة، وصدقوا في الجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم، حتى وصل بهم إلى الغاية المرجوة، وذلك في قوله تعالى :
{ لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم * وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم. ( التوبة : ١٧٧، ١١٨ ).
ولا ريب أن تسجيل هذه التوبة للمؤمنين – بعد أن كابدوا الجهد والمشقات في سبيل نصرة الحق – لمما يقوى روح الإيمان في قلوبهم ويبعد بهم عن مزالق المخالفة أو التقصير.
وقد تخلف ثلاثة من المسلمين عن الاشتراك في الجهاد ولم يساهموا في أعباء جيش العسرة ؛ فأمر النبي بمقاطعتهم ومعاقبتهم. ومكثوا فترة من الزمن في عزلة تامة. بغرض تأديبهم. وتهذيبهم ثم تاب الله عليهم وقبل توبتهم وكان ذلك درسا تعليميا للمسلمين ؛ حتى لا يتخلفوا عن الجهاد، ولا يقصروا في القيام بأعباء الدين وتعاليمه.
ومن أسماء السورة " براءة "، وهي تشير إلى غضب الله ورسوله على من أشرك بالله وجعل له ندا وشريكا وإعلام الناس في يوم الحج الأكبر.
﴿ أن الله برئ من المشركين ﴾. ( التوبة : ٣ ).
وقد عرفت السورة بعد ذلك بأسماء أخرى فكانت تسمى : الكاشفة، والمثيرة، والفاضحة، والمنكلة، وغير ذلك مما حفلت به كتب التفسير وهي ألفاظ أطلقت عليها باعتبار ما قامت به من كشف أسرار المنافقين وإثارة أسرارهم وفضيحتهم بها وتنكيلها بهم.
ورد أن ابن عباس رضي الله عنه قال : سورة التوبة هي الفاضحة ؛ مازالت في المنافقين وتنال منهم حتى ظننا أنها لا تبقى أحدا إلا ذكرته بقولها : ومنهم، ومنهم، ومنهم.
وهو يشير إلى ما جاء في هذه السورة من أصناف المنافقين مثل :
﴿ ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا ﴾. ( التوبة : ٤٩ ).
﴿ وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ﴾. ( التوبة : ٥٨ ).
﴿ وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ﴾. ( التوبة : ١٠١ ).
أين البسملة ؟
من خصائص سورة التوبة أنه لم يذكر في أولها : بسم الله الرحمان الرحيم ؛ لأنها تبدأ بإعلان الحرب الشاملة، ونبذ العهود كافة، والبسملة تحمل روح السلام والطمأنينة ؛ لذلك لم تبدأ بها سورة الحرب والقتال.
وربما كان سبب عدم وجود التسمية في أولها، الاشتباه في أنها جزء من سورة الأنفال خصوصا وأن سورة الأنفال تحكي جهاد المسلمين في معركة بدر وسورة التوبة تصف جهاد المسلمين في معركة تبوك، فقصة الأنفال شبيهة بقصة سورة التوبة من ناحية الهدف العام، والتحريض على الجهاد، والتحذير من التخلف عن أمر الله ورسوله ؛ لذلك تركت سورة التوبة مع سورة الأنفال، ووضع بينهما فاصل السورة ولم يكتب في أول التوبة : بسم الله الرحمان الرحيم ؛ احترازا من الصحابة أن يضيفوا أي شيء إلى رسم القرآن إلا بتوجيه من النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى الترمذي بإسناده : عن ابن عباس قال : قلت لعثمان بن عفان : ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين وقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر : بسم الله الرحمان الرحيم. ووضعتموها في السبع الطوال – ما حملكم على ذلك ؟
فقال عثمان : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم – مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذات العدد فكان إذا أنزل عليه الشيء ؛ دعا بعض من كان يكتب فيقول : ضعوا هذا الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أول ما نزل بالمدينة وكانت براءة من آخر ما نزل من القرآن وكانت قصتها شبيهة بقصتها، وخشيت أنها منها، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبين لنا أنها منها. فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطر : بسم الله الرحمان الرحيم، ووضعتها في السبع الطوال.
أهداف سورة التوبة
سورة التوبة هي السورة التاسعة في ترتيب المصحف وهي من السور المدنية وقد نزلت في أواخر السنة التاسعة من الهجرة، وهي السنة التي خرج فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين إلى تبوك بقصد غزو الروم كما خرج أبو بكر في أواخر سنة تسع على رأس المسلمين لحج بيت الله الحرام.
هدفان أصليان
وقد كان للسورة بحكم هذين الحادثين العظيمين في تاريخ الدولة الإسلامية هدفان أصليان :
أحدهما : تحديد القانون الأساسي الذي تشاد عليه دولة الإسلام، وذلك بالتصفية النهائية بين المسلمين ومشركي العرب ؛ بإلغاء معاهدتهم، ومنعهم الحج، وتأكيد قطع الولاية بينهم وبين المسلمين، وبوضع الأساس في قبول بقاء أهل الكتاب في جزيرة العرب وإباحة التعامل معهم.
ثانيهما : إظهار ما كانت عليه نفوس أتباع النبي صلى الله عليه وسلم حينما استنفرهم ودعاهم على غزو الروم، وفي هذه الدائرة تحدثت السورة عن المتثاقلين منهم والمتخلفين والمثبطين، وكشفت الغطاء عن فتن المنافقين وما انطوت عليه قلوبهم من أحقاد ما قاموا به من أساليب النفاق.
وقد عرضت السورة من أولها للهدف الأول، واستغرق ذلك سبعة وثلاثين آية في أول السورة، وقد تضمنت هذه الآيات ما يأتي :
أولا : تقرير البراءة من المشركين ورفع العصمة عن أنفسهم وأموالهم.
ثانيا : منحهم هدنة مقدارها أربعة شهور.
ثالثا : إعلان الناس جميعا يوم الحج الأكبر( وهو يوم عيد الأضحى ) بهذه البراءة.
رابعا : إتمام مدة العهد لمن حافظ منهم على العهد.
خامسا : بيان ما يعاملون به بعد انتهاء أمد الهدنة أو مدة العهد.
سادسا : تأمين المستجير حتى يسمع كلام الله.
سابعا : بيان الأسباب التي أوجبت البراءة منهم وصدور الأمر بقتالهم.
ثامنا : إزالة وساوس قد يخطر في بعض النفوس أنها تبرر مسالمة المشركين أو الإبقاء على عهودهم.
رحمة الله بالعباد
لقد برئ الله من المشركين ومن فعالهم ؛ لأن الشرك والكفر ظلم عظيم وجحود بحق الله الخالق الرازق، الذي يستحق العبادة وحده، لكن الله أمهل المشركين مدة أربعة أشهر ؛ لتمكينهم من النظر والتدبير لاختيار ما يرون فيه مصلحتهم من الدخول في الإسلام أو الاستمرار على العداء.
ولعل الحكمة في تقدير تلك المهلة بأربعة أشهر ؛ أنها هي المدة التي كانت تكفي لتحقيق ما أبيح لهم من السياحة في الأرض والتقلب في شبه الجزيرة على وجه يمكنهم من التشاور والأخذ والرد مع كل من يريدون أخذ رأيه في تكوين الرأي الأخير، قال تعالى :
﴿ بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ ﴾. ( التوبة : ١، ٢ ).
ومن رحمة الإسلام أيضا إباحة تأمين المشرك، وتقرير عصمة المستأمن وقد أوجب الله على المسلمين حماية المستأمن في نفسه وماله ما دام في دار الإسلام وجعل لأفراد المسلمين حق إعطاء ذلك الأمان( فالمسلمون عدول يسعى بذمتهم أدناهم ).
والإسلام يبيح بهذا الأمان التبادل التجاري والصناعي والثقافي، وسائر الشئون ما لم يتصل شيء منها بضرر الدولة. وقد كان للإسلام من مشروعية الأمان وسيلة قوية ؛ لنشر دعوته وإيصال كلمة الله إلى كثير من الأقاليم النائية من غير حرب ولا قتال. قال تعالى :
﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ ﴾. ( التوبة : ٦ ).
فالإسلام يمنح الجوار والأمان للمشرك الذي يبحث عن الحقيقة، ويريد أن ينظر في الإسلام نظر تأمل ودراسة، فيسمح له بالدخول فيما بين المسلمين والتعامل معهم، والاختلاط بهم حتى يفهم حكم الله ودعوته، فإن اطمأن ودخل الإيمان في قلبه ؛ التحق بالمؤمنين، وصار في الحكم كالتائبين، وإن لم يشرح صدره للإسلام وأراد الرجوع إلى جماعته ؛ حرم اغتياله ووجبت المحافظة عليه حتى يصل مكان أمنه واستقراره.
وبذلك بلغ الإسلام شأوا بعيدا في حماية الفكر والنظر، وتذليل الطريق أمام الباحثين والمفكرين وحمايتهم حتى يصلوا إلى مواطن الأمان أيا كانت معتقداتهم، وصدق الله العظيم :
﴿ لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ﴾. ( البقرة : ٢٥٦ ).
غزوة تبوك
في السنة التاسعة من الهجرة وصلت للرسول صلى الله عليه وسلم أنباء تفيد : أن الروم قد جمعوا جموعهم، واعتزموا غزو المسلمين في بلادهم، فأمر النبي أن يتجهز المسلمون وأن يأخذوا عدتهم ويخرجوا إلى تبوك لقتال الروم في بلادهم قبل أن يفاجئوه في بلده.
أعلن النبي النفير العام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قلما يخرج إلى غزوة إلا ورى بغيرها ؛ مكيدة في الحرب، إلا ما كان من هذه الغزوة – غزوة تبوك – فقد صرح بها ؛ لبعد الشقة وشدة الزمان إذ كان ذلك الوقت في شدة الحر حين طابت الظلال، وأينعت الثمار وحبب إلى الناس المقام.
عندئذ وجد المنافقون فرصة سانحة للتخذيل فقالوا : لا تنفروا في الحر، وخوفوا الناس بعد الشقة وحذروهم شدة بأس الروم، وكان لهذا كله أثره في تثاقل بعض الناس عن الخروج للجهاد.
كذلك أخذ المنافقون يستأذنون في التخلف عن الغزو معتذرين بالأعذار الكاذبة الواهنة كما دبر بعضهم المكائد للنبي صلى الله عليه وسلم في ثنايا الطريق.
ولم يكن بد من هذا الامتحان ؛ ليكشف الله المنافقين، ويثبت المؤمنين الصادقين فالشدائد هي التي تكشف الحقائق وتظهر الخبايا.
وقد ظهر الإيمان الصادق من المؤمنين المخلصين ؛ فسارعوا إلى تلبية الدعوة بأموالهم وأنفسهم، يجهزون الجيش ويعدون العدة وقد خرج أبو بكر حينئذ عن كل ما يملك، كما قام بنصيب الأسد في التجهيز عثمان بن عفان، بذل الآلاف وجهز المئات من البعير والخيل، وجهز هو وغيره الفقراء الأقوياء الذين جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأنفسهم ؛ ليحملهم فقال لهم :
﴿ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ ﴾. ( التوبة : ٩٢ ).
ثم يستمر سياق سورة التوبة في الحديث عن المنافقين وما يظهر منهم من أقوال وأعمال تكشف عن نواياهم التي يحاولون سترها فلا يستطيعون، فمنهم : من ينتقد النبي صلى الله عليه وسلم في توزيع الصدقات ويت
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم
﴿ بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ( ١ ) فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ ( ٢ ) وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( ٣ ) إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ( ٤ ) ﴾
المفردات :
براءة من الله ورسوله : المراد من البراءة : قطع العهد بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين الناكثين للعهد من المشركين.
عاهدتم : عاقدتم.
التفسير :
١ – ﴿ بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾.
قال الفخر الرازي : روى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى غزوة تبوك وتخلف المنافقون، وأرجفوا الأراجيف، جعل المشركون ينقضون العهد، فنبذ رسول الله صلى الله عليه وسلم العهد إليهم.
وتفيد كتب التفسير والسير :
أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أبا بكر رضي الله عنه أميرا على الحج في السنة التاسعة للهجرة، فلما سافر نزلت سورة براءة، متضمنة نقض عهود المشركين، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء حتى أدرك أبا بكر بالطريق، فلما رآه أبو بكر قال : أمير أو مأمور ؟ قال : بل مأمور، ثم مضيا، فأقام أبو بكر للناس الحج، والعرب إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحج التي كانوا عليها في الجاهلية، حتى إذا كان يوم النحر ؛ قام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقرأ عليهم آيات من أول سورة براءة، ثم قال – فيما رواه الترمذي والنسائي وأحمد – بعثت بأربع : ألا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مدته، ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يجتمع المسلمون والمشركون في الحج بعد عامهم هذا٢.
ومعنى الآية :
هذه براءة واصلة من الله ورسوله، إلى الذين عاهدتم من المشركين، بسبب نقضهم لعهودهم، وإصرارهم على باطلهم٣.
قال الشوكاني :
المعنى : الإخبار للمسلمين، بأن الله ورسوله قد برئا من تلك المعاهدات، بسبب ما وقع من الكفار من النقض، فصار إليهم بعهدهم، واجبا على المعاهدين من المسلمين.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:دلالة الآيات :

تدل الآيات السابقة على ما يلي :

١ – نقض معاهدات المشركين المطلقة غير المؤقتة بزمن ؛ لأنهم نكثوا العهد، وأخلوا بشروط التعاهد.
٢ – من كان له عهد دون أربعة أشهر تكمل له مدة أربعة أشهر.
٣ – مدة الأمان أربعة أشهر من يوم النحر( عاشر ذي الحجة ) إلى العاشر من شهر ربيع الآخر سنة عشر.
٤ – من كان له عهد مؤقت، فيبقى على عهده إلى انتهاء مدته، مهما كان ما لم ينقض العهد، أو يخل بشرط من شروطه.
٥ – الإسلام يقدس العهود، ويوجب الوفاء بها، ويجعل احترامها نابعا من الإيمان، وملازما لتقوى الله.
٦ – إن افتتاح السورة بالبراءة وبدون بسملة، يدخل في النفس الرهبة الشديدة والخوف الأشد.

المفردات :
فسيحوا في الأرض : فسيروا فيها أحرارا.
غير معجزي الله : أي : غير مفلتين من انتقامه.
مخزى الكافرين : مذلهم في الدنيا والآخرة.
التفسير :
٢ – ﴿ فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ ﴾.
أي : فسيروا في الأرض آمنين على أنفسكم من قتال المسلمين منذ أربعة أشهر، لا تتعرضون للإيذاء فيها، ﴿ واعلموا أنكم غير معجزي الله ﴾. أي : واعلموا أن هذا الإمهال ليس لعجز، ولكن لمصلحة ؛ ليتوب من أراد التوبة ولتكون لديهم فرصة للاستعداد للقتال، إذا أصروا على شركهم وعداوتهم، وهذا منتهى التسامح. والإنذار حكمته ألا يتهم المسلمون بأخذهم الأعداء فجأة على غرة.
﴿ وأن الله مخزي الكافرين ﴾ : في الدنيا بالهزيمة، وفي الآخرة بسوء العذاب، وقد علم من الآية الكريمة أن الناكثين لعهودهم، يمهلون أربعة أشهر، سواء أكانت مدتهم كذلك أم أقل منها أم أكثر، وابتداء هذا الأجل من يوم الحج الأكبر، أي : من العاشر من ذي الحجة، إلى العاشر من ربيع الآخر سنة عشر للهجرة.
ويتصل بهذه الآية ما يأتي :
١ – عقد المعاهدات إنما هو حق للجماعة يوفق عليه أصحاب الرأي والاختصاص، ثم يباشرها الإمام بعد ذلك نيابة عن الجماعة.
٢ – متى رأى الإمام مصلحة الأمة في نبذ العهود لمن كان بيننا وبينه عهد جاز له ذلك، كأن خيف منهم خيانة، أو نقضوا شيئا من شروط المعاهدة، أو وضعت على غير شرط احترامها الشرعي.
قال تعالى :﴿ وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين ﴾. ( الأنفال : ٥٨ ).
٣ – الحكمة في تقدير هذه المهلة بأربعة أشهر ما يأتي :
هذه هي المدة التي كانت تكفي – إذ ذاك بحسب ما يألفون – لتحقيق ما أبيح لهم من السياحة في الأرض، والتقلب في شبه الجزيرة على وجه يمكنهم من التشاور، والأخذ والرد مع كل من يريدون أخذ رأيه في تكوين الرأي الأخير وفيه فوق ذلك مسايرة للوضع الإلهي، في جعل الأشهر الحرم من شهور السنة أربعة.
على أنا نجد القرآن جعل الأربعة الأشهر أمدا في غير هذا، فمدة إيلاء الرجل من زوجته أربعة أشهر، وعدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر، ولعل ذلك ؛ لأنها المدة التي تكفي بحسب طبيعة الإنسان، لتقليب وجوه النظر فيما يحتاج إلى النظر، وتبدل الأحوال على وجه تستقر فيه إلى ما يقصد فيه ويؤخذ من تقرير الهدنة للأعداء في هذا المقام، وتقرر مبدإ الهدنة والصلح في الإسلام، طلبها العدو أم تقدم بها المسلمون٤، وأصل ذلك مع هدنة المشركين قوله تعالى :﴿ وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله... ﴾( الأنفال : ٦١ ).
وأن مدتها تكون على حسب ما يرى الإمام، وأرباب الشورى المقررة في قوله تعالى :﴿ وشاورهم في الأمر ﴾. ( آل عمران : ١٥٩ ).
ونلاحظ أن مدة الهدنة في صلح الحديبية كانت عشر سنين، ومدتها هنا كانت أربعة أشهر، وذهب الجمل في حاشيته على تفسير الجلالين : أن المقرر في الفروع أنه إذا كان بالمسلمين ضعف ؛ فقد جاز عقد الهدنة عشر سنين فأقل، وإذا لم يكن بهم ضعف ؛ لم تجز الزيادة على أربعة أشهر٥. اه.
والأولى أن نقول : إن تقدير مدة الهدنة بين المسلمين وأعدائهم يترك تحديده إلى أهل الحل والعقد، بما يتفق مع المصلحة العامة ؛ لأن هذا من الأمور المتغيرة بحسب الزمان والمكان، خصوصا بعد التطور المستمر في وسائل الحرب وعدتها وطبيعتها.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:دلالة الآيات :

تدل الآيات السابقة على ما يلي :

١ – نقض معاهدات المشركين المطلقة غير المؤقتة بزمن ؛ لأنهم نكثوا العهد، وأخلوا بشروط التعاهد.
٢ – من كان له عهد دون أربعة أشهر تكمل له مدة أربعة أشهر.
٣ – مدة الأمان أربعة أشهر من يوم النحر( عاشر ذي الحجة ) إلى العاشر من شهر ربيع الآخر سنة عشر.
٤ – من كان له عهد مؤقت، فيبقى على عهده إلى انتهاء مدته، مهما كان ما لم ينقض العهد، أو يخل بشرط من شروطه.
٥ – الإسلام يقدس العهود، ويوجب الوفاء بها، ويجعل احترامها نابعا من الإيمان، وملازما لتقوى الله.
٦ – إن افتتاح السورة بالبراءة وبدون بسملة، يدخل في النفس الرهبة الشديدة والخوف الأشد.

المفردات :
وأذان : الأذان : الإعلام بأمر مهم، وشاع إطلاق الأذان على النداء للصلاة.
يوم الحج الأكبر : المراد به : يوم عيد النحر وقيل : يوم عرفة.
وبشر الذين كفروا بعذاب أليم : أي : وأنذرهم بعذابه فإن التبشير كما يستعمل كثيرا في الإخبار بما يسر، يستعمل قليلا في الإخبار بما يسوء، لغرض الإهانة والتحقير.
التفسير :
٣ – ﴿ وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ... ﴾
أي : وإعلان وإيذان من الله ورسوله إلى الناس عامة، يوم الحج الأكبر – وهو يوم عيد النحر – حيث تجتمع الخلائق في أكبر تجمع لهم، بأن الله ورسوله قد برئا من عهود المشركين، وأن هذه العهود قد نبذت إليهم، بسبب إصرارهم على شركهم ونقضهم لمواثيقهم، وأسند سبحانه الأذان إلى الله ورسوله، كما سندت البراءة إليهما ؛ إعلاء لشأن ذلك، وتأكيد لأمره ولا تكرار بين ما جاء في هذه الآية، وما جاء في الآية الأولى ؛ فإن الأولى فيها إخبار بثبوت البراءة من الناكثين لعهدهم، وأما هذه ففيها إعلام جميع الناس بذلك.
قال الزمخشري :
فإن قلت : أي فرق بين معنى الجملة الأولى والثانية.
قالت : في تلك إخبار بثبوت البراءة، وهذه إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت. ا ه.
وذهب بعض العلماء إلى أن يوم الحج الأكبر هو يوم عرفة وقيل : جميع أيام الحج، ورجح الإمام ابن جرير الطبري وغيره، أن يوم الحج الكبر هو يوم النحر، " ويوم عرفة مقدمة ليوم النحر بين يديه ؛ فإن فيه يكون الوقوف والتضرع، ثم يوم النحر تكون الوفادة والزيارة... ويكون فيه ذبح القرابين وحلق الرءوس، ورمي الجمار، ومعظم أفعال الحج " ٦.
" وقد ثبت في الصحيحين أن أبا بكر وعليا أذنا بذلك يوم النحر لا يوم عرفه، وفي سنن أبي داود بأصح إسناد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يوم الحج الأكبر يوم النحر "، وكذا قال أبو هريرة وجماعة من الصحابة " ٧.
وقد ساق ابن كثير طائفة من الأحاديث الشريفة تفيد : أن عليا كان ينادي بأربع :
١ – لا يطوف بالبيت عريان.
٢ – لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة.
٣ – لا يحج بعد عامنا هذا مشرك.
٤ – من كان له عهد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فعهده إلى مدته.
﴿ فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله ﴾.
أي : فإن رجعتم خلال هذه المهلة عما أنتم فيه من الشرك وسائر المعاصي، فرجوعكم هذا أنفع لكم في دنياكم وأخراكم...
أي : وإن أعرضتم عن الإيمان، وأبيتم إلا الإقامة على باطلكم. ﴿ فاعلموا أنكم غير معجزي الله ﴾. أي : فأيقنوا أنكم لا مهرب لكم من عقاب الله، ولا إفلات لكم من أخذه وبطشه ؛ لأنكم أينما كنتم فأنتم في قبضته، وتحت قدرته.
﴿ وبشر الذين كفروا بعذاب أليم ﴾، أي : وبشر أيها الرسول من أنكر رسالتك، ولم يؤمن بالله وملائكته، بعذاب مؤلم شديد الألم في الآخرة، والتعبير بالتبشير عن الإنذار ؛ لغرض التهكم والسخرية، بمن يتولى ويعرض عن الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم، مع وضوح الحق في جانبه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:دلالة الآيات :

تدل الآيات السابقة على ما يلي :

١ – نقض معاهدات المشركين المطلقة غير المؤقتة بزمن ؛ لأنهم نكثوا العهد، وأخلوا بشروط التعاهد.
٢ – من كان له عهد دون أربعة أشهر تكمل له مدة أربعة أشهر.
٣ – مدة الأمان أربعة أشهر من يوم النحر( عاشر ذي الحجة ) إلى العاشر من شهر ربيع الآخر سنة عشر.
٤ – من كان له عهد مؤقت، فيبقى على عهده إلى انتهاء مدته، مهما كان ما لم ينقض العهد، أو يخل بشرط من شروطه.
٥ – الإسلام يقدس العهود، ويوجب الوفاء بها، ويجعل احترامها نابعا من الإيمان، وملازما لتقوى الله.
٦ – إن افتتاح السورة بالبراءة وبدون بسملة، يدخل في النفس الرهبة الشديدة والخوف الأشد.

المفردات :
ولم يظاهروا عليكم : أي : ولم يعينوا عليكم.
التفسير :
٤ – ﴿ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا... ﴾ الآية.
أمر الله تعالى في الآيات السابقة أن ينبذ المسلمون عهود المشركين، وجاءت هذه الآية ؛ لتبين أن هذا النبذ ليس عاما، بل هو خاص بأولئك الذين تلاعبوا بعهودهم، وظاهروا على المسلمين.
والمعنى :
ولا تمهلوا الناكثين لعهودهم فوق أربعة أشهر، لكن المعاهدين الذين عاهدتموهم، ثم لم ينقصوكم شيئا من شروط العهد، ولم يعانوا عليكم عدوا، كبني ضمرة وبني كنانة ؛ ﴿ فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ﴾. أي : أدوا إليهم عهدهم تاما غير ناقص، إلى المدة التي عاهدتموهم إليها، وإن كانت أكثر من أربعة أشهر، ﴿ إن الله يحب المتقين ﴾. أي : الموفين بعدهم، وفيه تنبيه على أن الوفاء بالعهد إلى نهايته، مع الموفين بعهدهم، من تقوى الله، التي يحبها لعباده، ويحبهم بسببها.
جاء في تفسير المنار :
والآية تدل على أن الوفاء بالعهد، من فرائض الإسلام، ما دام العهد معقودا، وعلى أن العهد المؤقت لا يجوز نقضه إلا بانتهاء وقته، وأن شروط وجوب الوفاء به علينا، محافظة العدو المعاهد لنا عليه بحذافيره، فإن نقض شيئا من شروط العهد، وأخل بغرض ما من أغراضها ؛ عد ناقضا ؛ لقوله تعالى :﴿ ثم لم ينقصوكم شيئا ﴾.
ولفظ شيء أعم الألفاظ، وهو نكرة في سياق النفي، فيصدق بأدنى إخلال بالعهد، ومن هذا الإخلال مظاهرة عدونا أي : مساعدته ومعاونته ؛ لأن الغرض الأول من المعاهدات ترك قتال كلا من الفريقين المتعاهدين للآخر، فمظاهرة أحدهما لعدو الآخر ومساعدته، كمباشرته للقتال بنفسه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:دلالة الآيات :

تدل الآيات السابقة على ما يلي :

١ – نقض معاهدات المشركين المطلقة غير المؤقتة بزمن ؛ لأنهم نكثوا العهد، وأخلوا بشروط التعاهد.
٢ – من كان له عهد دون أربعة أشهر تكمل له مدة أربعة أشهر.
٣ – مدة الأمان أربعة أشهر من يوم النحر( عاشر ذي الحجة ) إلى العاشر من شهر ربيع الآخر سنة عشر.
٤ – من كان له عهد مؤقت، فيبقى على عهده إلى انتهاء مدته، مهما كان ما لم ينقض العهد، أو يخل بشرط من شروطه.
٥ – الإسلام يقدس العهود، ويوجب الوفاء بها، ويجعل احترامها نابعا من الإيمان، وملازما لتقوى الله.
٦ – إن افتتاح السورة بالبراءة وبدون بسملة، يدخل في النفس الرهبة الشديدة والخوف الأشد.

﴿ فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٥ ) وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُون( ٦ ) ﴾.
المفردات :
انسلخ : انقضى.
وخذوهم : وأسروهم، والأخيذ : الأسير.
واحصروهم : وضيقوا عليهم وامنعوهم من الإفلات.
واقعدوا لهم كل مرصد : وراقبوهم في كل مكان يرى فيه تحركهم ؛ حتى تمنعوهم من التجمع ضدكم، أو الفكاك منكم.
فخلوا سبيلهم : أي : فاتركوهم أحرارا.
التفسير :
٥ -﴿ فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ... ﴾ الآية.
المراد بالأشهر الحرم : الأشهر الأربعة، التي أبيح فيها للمشركين الناكثين لعهد الرسول صلى الله عليه وسلم، أن يسيحوا في الأرض آمنين، وجعلت حرما ؛ لأن الله حرم قتالهم فيها.
وهذه الأشهر تبدأ من يوم النحر إلى العاشر من ربيع الآخر، أما الأشهر الحرم التي قال فيها القرآن :﴿ إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ﴾. ( التوبة : ٣٦ ) فهي ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب.
والمعنى : فإذا انقضت الأشهر الأربعة، التي حرم فيه قتال المشركين الناكثين لعهودهم – لعلهم يثوبون فيها إلى رشدهم – فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم في حل أو حرم ؛ لإصرارهم على الخيانة والشرك.
﴿ وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد ﴾.
وأسروهم، فإن الأخيذ هو الأسير.
﴿ واحصروهم ﴾ : الحصر : منعهم من التصرف في بلاد المسلمين إلا بإذن منهم.
﴿ واقعدوا لهم كل مرصد ﴾. المرصد : الموضع الذي يرقب فيه العدو، أي : اقعدوا لهم في المواضع التي ترتقبونهم فيها.
وترى أن هذه الوسائل الأربعة – القتل، والأسر، والمحاصرة، والمراقبة – هي الوسائل الكفيلة بالقضاء على الأعداء، ولا يخلو عصر من العصور، من استعمال بعضها أو كلها عند المهاجمة.
وهكذا نرى تعاليم الإسلام، تحض المسلمين على استعمال كل الوسائل المشروعة ؛ لكيد أعدائهم، والعمل على هزيمتهم، ويستثنى من ذلك النساء، والرهبان، والشيوخ، والصبيان، والضعفاء ؛ فهؤلاء لا يتعرض لهم بقتل ولا تضييق، إلا إذا عاونوا أولئك الناكثين.
﴿ فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم ﴾.
استخدمت الآية كل الوسائل المشروعة في الترهيب والترغيب ؛ فقد أمرت المسلمين بأن يستعلموا مع أعدائهم كل الوسائل المشروعة لإرهابهم، فإذا رجع المشركون عن الشرك، فأسلموا وأقاموا الصلاة بشروطها في أوقاتها، وأدوا الزكاة لمستحقيها، برهانا على صدق إيمانهم ؛ فخلوا سبيلهم ولا تتعرضوا لهم بشيء مما تقدم، إن الله عظيم الغفران والرحمة، فلهذا يقبل توبتهم من الغدر والكفر.
وقد استند أبو بكر رضي الله عنه، إلى هذه الآية في قتال مانع الزكاة، حيث قال : والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ؛ فإن الزكاة حق المال.
وقد روى الشيخان : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة " ٨.
والمراد بالآية : اقتلوا المشركين الذين يحاربوكم٩.
وفي الحديث المتواتر : الذي رواه الشيخان وغيرهما عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
" أمرت أن أقاتل الناس – أي : مشركي العرب بالإجماع – حتى يشهدوا ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك ؛ عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله " ١٠.
وجاء في أحكام القرآن للجصاص ٣/ ٨١ :
قوله تعالى :﴿ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾.
خاص في مشركي العرب دون غيرهم.
قال عبد الرحمان بن زيد بن أسلم : أبى الله أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة ثم قال : يرحم الله أبا بكر ما كان أفقهه ! ١١.
المفردات :
استجارك : أي : سأل جوارك ؛ ليكون في حماك وأمنك.
فأجره : أي : فأمنه.
التفسير :
٦ – ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ... ﴾
المعنى : وإن طلب أحد من المشركين أن يكون في جوارك، وفي أمانك وحمايتك، بعد انقضاء مدة الأمان المحددة له فأجره أي : فأمنه وأجبه إلى طلبه.
﴿ حتى يسمع كلام الله ﴾. أي : لكي يسمع كلام الله ويتدبره، ويطلع على حقيقة ما يدعو إليه، من تعاليم مقنعة للعقول السليمة، ﴿ ثم أبلغه مأمنه ﴾. ثم أبلغه مكان أمنه إن لم يسلم، أي : عليك يا محمد أن تجيره حتى يسمع كلام الله ويتدبره، ولا يبقى له عذر في الإصرار على شركه، فإن آمن صار من أتباعك، وإن بقي على شركه، وأراد الرجوع إلى جماعته ؛ فعليك أن تحافظ عليه ؛ حتى يصل إلى مكان أمنه واستقراره، وهو ديار قومه، ثم بعد ذلك يصبح حكمه كحكم المصرين على الشرك، ويعامل بما يعاملون به.
﴿ ذلك بأنهم قوم لا يعلمون ﴾.
أي : ذلك الذي أمرناك به من إجارة المستجير من المشركين، وإبلاغه مأمنه إذا لم يسلم، بسبب أنهم لا يعلمون الإسلام، ولا حقيقة ما تدعوهم إليه، فلا بد من تمكينهم من ذلك، ببذل الأمان لهم ؛ حتى يزول عذرهم، وتقوم لك الحجة عليهم.
ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من الآية ما يأتي :-
١ – أن المستأمن لا يؤذى، بل يجب على المسلمين حمايته في نفسه وماله وعرضه ؛ ما دام في دار الإسلام، وقد حذر الإسلام أتباعه من الغدر أشد تحذير، ومن ذلك ؛ ما رواه البخاري والنسائي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من أمن رجلا على دمه فقتله ؛ فأنا بريء من القاتل، وإن كان المقتول كافرا " ١٢.
وروى الشيخان وأحمد : عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لكل غادر لواء، يعرف به يوم القيامة " ١٣.
٢ – يلحق بالمستجير الطالب لسماع كلام الله، من كان طالبا لسماع الأدلة على كون الإسلام حقا، ومن كان طالبا للجواب عن الشبهات، التي أثارها أعداء الإسلام.
٣ – على الإمام أو من يقوم مقامه أن يعطي المستأمن المهلة التي يراها كافية لفهمه حقائق الإسلام، وأن يبلغه مأمنه بعد انقضاء حاجته، وأن لا يمكنه من الإقامة في دار الإسلام، إلا بمقدار قضاء حاجته.
٤ – أخذ العلماء من هذه الآية وجوب التفقه في الدين، وأنه لا بد من النظر والاستدلال وأنه لا بد من الحجة والدليل.
﴿ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ( ٧ ) كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ( ٨ ) ﴾
المفردات :
فما استقاموا لكم : فما وفوا بعهدهم لكم.
التفسير :
٧ – ﴿ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ... ﴾ الآية.
أي : محال أن يثبت لهؤلاء عهد وهم أضداد لكم، مضمرون للغدر، ينتهزون الفرص ؛ لينتقضوا عهودكم.
﴿ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾.
أي : ولكن الذين عاهدتم عند المسجد الحرام – أي : قرب المسجد الحرام – وهم بنو مدلج، وبنو ضمرة من قبائل بني بكر، وكانوا قد وفوا بعهودهم مع المسلمين.
﴿ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾. فأي وقت استقام أولئك المشركون، الذين عاهدتموهم عند المسجد الحرام، وكانوا أوفياء بمعاهدتهم ؛ فاستقيموا لهم، بإتمام عهدهم إلى مدتهم ؛ فإن هذا من التقوى، والله يحب المتقين.
المفردات :
يظهروا عليكم : يغلبوكم.
لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة : لا يراعوا فيكم قرابة ولا عهدا.
٨ – ﴿ كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً ﴾.
في تكرار الاستفهام بكيف، تكرار وتأكيد لاستبعاد ثباتهم على العهد، وحذف الفعل ؛ لكونه معلوما، أي : كيف يكون لهم عهد.
والمعنى : كيف يكون للمشركين عهد معتد به، ومراعاة لأحكامه عند الله وعند رسوله، والحال أنهم إن يظهروا عليكم أيها المؤمنون، ويظفروا بكم ويغلبوكم.
﴿ لا يرقبوا فيكم ﴾. لا يراعوا في شأنكم.
﴿ إلا ولا ذمة ﴾. أي : قرابة ولا عهدا.
قال ابن جرير الطبري بعد أن ساق أقوالا في معنى الإلّ : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : والإل : اسم يشتمل على معان ثلاثة وهي : العهد والعقد، والحلف، والقرابة....
وإذا كانت الكلمة تشمل هذه المعاني الثلاثة، ولم يكن الله خص من ذلك معنى دون معنى، فالصواب أن يعم ذلك معانيها الثلاثة.
وقال الدكتور/ حمد سيد طنطاوي، في تفسير الآية.
والمعنى : بأية صفة أو بأية كيفية يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله، والحال المعهود منهم، أنهم إن يظفروا بكم ويغلبوكم، لا يراعوا في أمركم لا عهدا ولا حلفا ولا قرابة، ولا حقا من الحقوق. اه.
وجاء في التفسير الوسيط لمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر :
فإذا كانوا لا يرعون عهودهم وقرابتهم معكم، فكيف تحافظون على عهود ضيعوها ونكثوها، وشرط وجوب مراعاة حقوق العهد، أن تكون محترمة من المتعاقدين، فإن ضيعها أحدهما ؛ حل للآخر معاملته بالمثل.
﴿ يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون ﴾.
أي : يقولون بألسنتهم، ما فيه مجاملة ومحاسبة لكم ؛ طلبا لمرضاتكم، وتطيب قلوبكم، وقلوبهم تأبى ذلك وتخالفه، وتود ما فيه مساءتكم ومضرتكم.
قال الزمخشري :
﴿ وأكثرهم فاسقون ﴾. متمردون خلعاء، لا مروءة تمنعهم، ولا شمائل مرضية. تردعهم. اه.
وتخصيص الأكثر بوصف الفسق والغدر، لما في بعض الكفرة من البعد عن الغدر، والتعفف عما يؤدى إلى سوء الأحدوثة، وقبح السيرة.
قال الدكتور محمد سيد طنطاوي :
وبذلك نرى أن الآية الكريمة قد وصفت هؤلاء المشركين، وصفا في نهاية الذم والقبح ؛ لأنهم إن كانوا أقوياء فجروا، وأسرفوا في الإيذاء، نابذين كل عهد وقرابة وعرف...
أما إذا شعروا بالضعف فإنهم يقدمون للمؤمنين الكلام اللين، الذي تنطق به ألسنتهم، وتأباه قلوبهم الحاقدة الغادرة. أي : أن الغدر ملازم لم في حال قوتهم وضعفهم ؛ لأنهم في حالة قوتهم لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وفي حالة ضعفهم يخادعون ويداهنون حتى تحين لهم الفرصة للانقضاض على المؤمنين١٤.
﴿ اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( ٩ ) لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ( ١٠ ) ﴾
المفردات :
اشتروا بآيات الله : استبدلوا بالقرآن.
فصدوا عن سبيله : فأعرضوا عن دينه الموصل إليه.
التفسير :
٩ – ﴿ اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً... ﴾ الآية.
استبدل المشركون بالقرآن الذي هو أعظم آيات الله التنزيلية – استبدلوا به شيئا حقيرا من حطام الدنيا ؛ هو اتباع أهوائهم وشهواتهم.
﴿ فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾.
أي : أعرضوا عن سبيل الحق وعدلوا عنه، أو صرفوا غيرهم عنه وقيل : هم الأعراب الذين جمعهم أبو سفيان وأطعمهم.
﴿ إنهم ساء ما كانوا يعملون ﴾.
أي : إنهم بئس الذي كانوا يعملون، من إعراضهم عن الحق، وإقبالهم على الباطل.
١٠ – ﴿ لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً.... ﴾
لا يراعي المشركون في مؤمن قرابة ولا عهدا في أي حال ؛ فقلوبهم مفعمة بكراهيتهم، وهذه الآية توكيد لما جاء في الآية السابقة بأن الغدر في طبيعتهم في جميع الأحوال.
﴿ وأولئك هم المعتدون ﴾.
قال الشوكاني : أي : المجاوزون الحلال إلى الحرام بنقض العهد. أو البالغون في الشر والتمرد إلى الغاية القصوى.
﴿ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ( ١١ ) ﴾
التفسير :
١١ – ﴿ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ... ﴾ الآية.
يفتح الإسلام صدره لكل راغب ؛ بشرك صدق التوبة، وأداء شعائر الإسلام.
والمعنى : إن تابوا عن شركهم بالله، وآمنوا بالله ربا واحدا لا شريك له، ﴿ وأقاموا الصلاة ﴾. أي : أدوها بشروطها وأركانها، باعتبارها عماد الدين.
﴿ وآتوا الزكاة ﴾. على الوجه الذي أمر الله به، فهم في هذه الحالة إخوانكم في الدين، لهم ما لكم وعليهم ما عليكم، وهذه الأخوة تجب ما قبلها من عداوات.
﴿ ونفصل الآيات لقوم يعلمون ﴾.
وتبين الآيات المتعلقة بأحوال المشركين من الناكثين وغيرهم، الموضحة لأحكامهم حالتي الكفر، والإيمان، نبينها لقوم يعملون، ويفهمون ما فيها من الأحكام، فيطبقونها عند مقتضياتها.
﴿ وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ( ١٢ ) ﴾
التفسير :
١٢ – ﴿ وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ... ﴾ الآية.
أي : إن نقض هؤلاء المشركون ما أبرم من عهود، وطعنوا في دينكم، أي : عابوا القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم، واستهزئوا بالمؤمنين كما كان يفعل شعراؤهم، وزعماء الكفر فيهم ؛ فهم أئمة الكفر وقادته ورؤساؤه، فقاتلوهم قتالا عنيفا ؛ إنهم لا عهود لهم ولا ذمة ؛ لأنهم لما لم يفوا بها ؛ صارت كأن لم تكن، وذلك لتكون المقاتلة سببا في انتهائهم ورجوعهم، عما هم فيه من الكفر والعناد والضلال، وهذا من غاية كرم الله وفضله على الإنسان فقوله :﴿ لعلهم ينتهون ﴾. أي : عن كفرهم وباطلهم وإيذائهم المسلمين.
وفيه دليل على أن الذمي إذا طعن في الإسلام ؛ فقد نكث عهده، وعلى أن القتال ليس بقصد المنافع الدنيوية أو الغنائم أو إظهار الاستعلاء، وحب السيطرة، وإرادة الانتقام، وإما هو من أجل التمكين من قبول دعوة الإسلام، وما الحرب إلا ضرورة يقتصر فيها على قدر الضرورة.
قال ابن كثير : والصحيح أن الآية عامة، وإن كان سبب نزولها مشركي قريش فهي عامة لهم ولغيرهم.
قتل من طعن في الدين
استدل بعض العلماء بهذه الآية، على وجوب قتل كل من طعن في الدين ؛ إذ هو كافر، والطعن أن ينسب إليه ما لا يليق، أو يعترض بالاستخفاف على ما هو من الدين ؛ لما ثبت من الدليل القطعي، على صحة أصوله واستقامة فروعه.
وقال ابن المنذر : أجمع عامة أهل العلم على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم ؛ عليه القتل، وممن قال ذلك مالك والليث وأحمد وإسحاق، وهو مذهب الشافعي، وقد حكى عن أبي حنيفة أنه قال : لا يقتل من سب النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الذمة، وإنما يقتل بالحرابة والقتل١٥.
قتل من سب النبي صلى الله عليه وسلم
أكثر العلماء على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الذمة، أو عرض به، أو استخف بقدره، أو وصفه بما لا يليق، فإنه لم نعطه الذمة أو العهد على هذا ورأى أبو حنيفة والثوري، أنه لا يقتل، ما هو عليه من الشرك أعظم، ولكن يعزر ويؤدب١٦.
﴿ أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ( ١٣ ) ﴾
التفسير :
١٣ – ﴿ أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ... ﴾ الآية.
المناسبة :
بعد أن قال تعالى :﴿ قاتلوا أئمة الكفر ﴾. أتبعه بذكر السبب الذي يبعث على مقاتلتهم، وهو نقض العهد واعتداؤهم على المؤمنين وبدؤهم لهم بالقتال، وهمهم بإخراج الرسول من بلده.
معنى الآية :
هذا حض وتحريض على قتال المشركين الناكثين أيمانهم وعهودهم وذلك لأسباب ثلاثة ذكرها الله تعالى في هذه الآية :
١ – ﴿ نكثهم العهد ﴾ : إنهم نقضوا عهودهم التي أقسموا عليها.
قال ابن عباس : نزلت في كفار مكة الذين نكثوا أيمانهم بعد عهد الحديبية، وأعانوا بني بكر على خزاعة، وهذا يدل على أن قتال الناكثين أولى من قتال غيرهم من الكفار ؛ ليكون ذلك زجرا لغيرهم، والعهد الذي نقضوه هو صلح الحديبية ؛ لمناصرة قريش حلفاؤهم بني بكر، على خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم، ليلا بالقرب من مكة، على ماء يسمى :( الهجير ). فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفتح مكة سنة ثمان هجرية، في العشرين من رمضان.
٢ – الهم بإخراج الرسول، حين تشاوروا في دار الندوة على التخلص منه، وتداولوا الأمر وفكروا في حبسه أو نفيه أو قتله.
قال تعالى :﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ﴾( الأنفال : ٣٠ ).
٣ – بدؤهم بالقتال، فقد بدءوا بالقتال يوم بدر وكذلك في أحد والخندق وغيرها، وبعد أن ذكر الله هذه الأمور الموجبة لقتالهم، اتجه بالحديث إلى المؤمنين ؛ ليهجهم ويحمسهم فقال : أتخشونهم أي : أتخافونهم أيها المؤمنون فتتركوا قتالهم ؛ خوفا على أنفسكم ؟ لا ينبغي ذلك منكم، ﴿ فالله أحق أن تخشوه ﴾ أي : فالله أولى بالخشية ؛ لأنه صاحب القدرة المطلقة التي تدفع الضرر المتوقع، وهو القتل، ﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ ؛ فالإيمان قوة دافعة على الإقدام، أي : إن كنتم مؤمنين ؛ فأقبلوا على قتالهم، ولا تخافوا ولا تجبنوا ؛ إذ شرط الإيمان الخوف من الله وحده دون سواه ؛ لأن بيده النفع والضر. وفي هذا دلالة على أن المؤمن، الذي يخشى الله وحده، يجب أن يكون أشجع الناس وأجرأهم على القتال.
﴿ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ ( ١٤ ) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ( ١٥ ) ﴾
التفسير :
١٤ – ﴿ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ... ﴾
بعد أن بين فيما سبق ما يوجب قتال المشركين ويحث عليه، أتبع ذلك بالأمر الصريح بقتالهم ورتب على ذلك عددا من الفوائد.
أي : قاتلوهم أيها المؤمنون، فإن قاتلتموهم يعذبهم الله بأيديكم، بسبب ما تنزلونه بهم، من قتل وأسر وجراحات بليغة، واغتنام للأموال.
﴿ ويخزهم ﴾ بالقتل والأسر والهزيمة، ﴿ وينصركم عليهم ﴾ بأن يجعل كلمتكم هي العليا، وكلمتهم هي السفلى، ﴿ ويشف صدور قوم مؤمنين ﴾. امتلأت غيظا من أفعال المشركين بهم في مكة، وهم بنو خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال مجاهد.
١٥ – ﴿ ويذهب غيظ قلوبهم ﴾.
أي : قلوب هؤلاء المؤمنين على المشركين من غدرهم وظلمهم وشدة إيذائهم، أو يذهب غيظ قلوبكم لما لقيتم من شدة المكروه منهم.
جاء في تفسير أبي السعود :
﴿ ويذهب غيظ قلوبهم ﴾ بما كابدوا من المكارة والمكايد، ولقد أنجز الله سبحانه جميع ما وعدهم به، على أجمل ما يكون، فيكون إخباره صلى الله عليه وسلم بذلك قبل وقوعه معجزة عظيمة١٧.
﴿ ويتوب الله على من يشاء ﴾. هذا كلام مستأنف. ينبئ عما سيكون من إيمان بعض المشركين، أي : ويتوب الله على من يشاء أن يتوب عليه من عباده، فيوفقه للإيمان، ويشرح صدره للإسلام، وقد حدث ذلك فعلا، فأسلم أناس من أهل مكة، وحسن إسلامهم، مثل : أبي سفيان، وعكرمة بن أبي جهل، وسليم بن أبي عمرو.
﴿ والله عليم ﴾ بما يصلح عباده حكيم في أفعاله وأقواله الكونية والشرعية، فيفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد ؛ فامتثلوا أمره، واجتنبوا نهيه.
﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ( ١٦ ) ﴾
المفردات :
ولما يعلم الله : لما : حرف يفيد نفي وقوع الفعل إلى زمن المتكلم مع توقع و قوعه في المستقبل، والمراد أنه إلى الآن لم يتحقق وقوع الجهاد منكم ؛ لعدم حصوله وقت نزول الآية، ولكنه ينتظر وقوعه وفق ما في علم الله.
وليجة : الوليجة : الصديق الذي تطلعه على سرك وخفايا أمرك من الولوج وهو الدخول، ويطلق عليه : لفظ بطانة أيضا ؛ لأنك تباطنه بأسرارك.
التفسير :
١٦- ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ منكم... ﴾ الآية.
هذه الآية مرتبطة بما قبلها، والمعنى فيما سبق : ألا تقاتلون أولئك المشركين الذين نقضوا العهود واعتدوا عليكم، وهموا بإخراج الرسول... إلى آخر ما ذكر، وهنا يبين بعض الحكم التي من أجلها شرع الجهاد.
ومعنى الآية :
أم حسبتم أيها المؤمنون أن تتركوا وشأنكم مهملين، بغير اختبار بأمور يظهر فيها أهل العزم الصادق من الكاذب، من طريق الجهاد الذي يتبين فيه المخلصون، المجاهدون بالنفس والمال، والذين لم يتخذوا بطانة من الكفار أولياء، يسرون إليهم بأحوال المسلمين وأمورهم وأسرارهم. بل هم في الظاهر والباطن على النصح لله ولرسوله، متميزين عن المنافقين الذين يطلعون الولائج على أسرار الأمة وسياستها، وقد اكتفى بأحد القسمين عن الآخر ؛ للعلم به ضمنا.
قال الجصاص : قوله :﴿ ولم يتخذوا... وليجة ﴾ يقتضي لزوم اتباع المؤمنين، وترك العدول عنهم، كما يلزم اتباع النبي صلى الله عليه وسلم.
وفيه دليل على لزوم حجة الإجماع، وهو كقوله : ومن يشاقق الرسول... ( النساء : ١١٥ ).
وقال ابن جرير : وليجة أي : بطانة ومداخلة من الولوج في الشيء أي : الدخول فيه.
وإنما عنى بها في هذا الموضع : البطانة من المشركين، نهى الله أن يتخذوا من عدوهم من المشركين أولياء، يفشون إليهم أسرارهم.
﴿ والله خبير بما تعملون ﴾ أي : أن علمه شامل لجميع أعمالكم فيجازيكم عليها ؛ فهو سبحانه مطلع على كل شيء، محيط به علما، ونظير الآية في الاختبار قوله تعالى :﴿ الم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ﴾. ( العنكبوت : ١ - ٣ ).
وقال عز شأنه :
﴿ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ﴾. ( آل عمران : ١٤٢ ).
ونظير الآية في النهي عن اتخاذ الوليجة أو البطانة قوله تعالى :﴿ يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر ﴾. ( آل عمران : ١١٧ ).
والخلاصة : أن الله تعالى لما شرع لعباده الجهاد، بين حكمته، وهي اختبار عبيده، ومن يطيعه ممن يعصيه، وهو سبحانه قبل ذلك وبعده العالم بما كان، وما يكون وما لم يكن، ويتبين من الآية أن الله تعالى عالم بالنيات والأغراض، مطلع عليها، لا تخفي عليه خافية ؛ فعلى الإنسان التركيز على أمر النية، وجعلها خالصة لوجه الله.
﴿ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ( ١٧ ) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ( ١٨ ) ﴾
المفردات :
ما كان للمشركين : أي ما صح ولا استقام لهم.
شاهدين على أنفسهم بالكفر : المراد من شهادتهم على أنفسهم : إظهارهم آثاره، من نصب الأوثان حول البيت وعبادتها، وإن أبوا أن يعترفوا بكونهم كفارا.
حبطت أعمالهم : أي : بطلت فلا ينتفعون بها.
سبب النزول :
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس : أن جماعة من رؤساء قريش، أسروا يوم بدر، منهم العباس ابن عبد المطلب، فأقبل عليهم نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيّرونهم بالشرك، وجعل على بن أبي طالب يوبخ العباس، بسبب قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطيعة الرحم، فقال العباس : ما لكم تذكرون مساوئنا، وتكتمون محاسننا، فقيل له : وهل لكم محاسن ؟ ! قال : نعم ونحن أفضل منكم، إنا لنعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة –أي : نخدمها – ونسقي الحجيج، ونفك العاني – أي : الأسير – فنزلت هذه الآية١٨.
والمراد : أن الآية تضمنت الرد على العباس وأمثاله، لا أنها نزلت عقب قوله ؛ لأن غزوة بدر كانت في السنة الثانية من الهجرة، وهذه الآية نزلت ضمن سورة التوبة بعد الرجوع من غزوة تبوك١٩.
التفسير :
١٧ – ﴿ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ ﴾.
أي : ما صح ولا استقام في دين الله وشرعه، أن يتولى المشركون عمارة الأماكن المعدة لعبادة الله، المبنية على اسمه وحده لا شريك له، فضلا عن عمارتهم المسجد الحرام الذي هو أشرفها وأعزها.
وهم شاهدون على أنفسهم بالكفر، أي : بشهادة الحال والمقال، بأن يعبدوا الأصنام، وأن يطوفوا بالبيت عراة، وكلما طافوا بالأصنام سجدوا لها، وقيل : هو قولهم : " لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه، وما ملك " فهذه شهادتهم بالكفر، ثابتة قولا وعملا، فهم بهذا جمعوا بين الضدين، وبين أمرين متنافيين، لا يعقل الجمع بينهما على وجه صحيح : عمارة بيت الله والكفر به.
﴿ أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون ﴾.
أي : أولئك المشركون، قد فسدت أعمالهم التي كانوا يفتخرون بها، مثل : العمارة، والحجابة، والسقاية، لأنها مع الكفر لا قيمة لها.
قال تعالى :﴿ ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون ﴾. ( الأنعام : ٨٨ ).
﴿ وفي النار هم خالدون ﴾. يوم القيامة بسبب كفرهم وإصرارهم على باطلهم.
سبب النزول :
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس : أن جماعة من رؤساء قريش، أسروا يوم بدر، منهم العباس ابن عبد المطلب، فأقبل عليهم نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيّرونهم بالشرك، وجعل على بن أبي طالب يوبخ العباس، بسبب قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطيعة الرحم، فقال العباس : ما لكم تذكرون مساوئنا، وتكتمون محاسننا، فقيل له : وهل لكم محاسن ؟ ! قال : نعم ونحن أفضل منكم، إنا لنعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة –أي : نخدمها – ونسقي الحجيج، ونفك العاني – أي : الأسير – فنزلت هذه الآية١٨.
والمراد : أن الآية تضمنت الرد على العباس وأمثاله، لا أنها نزلت عقب قوله ؛ لأن غزوة بدر كانت في السنة الثانية من الهجرة، وهذه الآية نزلت ضمن سورة التوبة بعد الرجوع من غزوة تبوك١٩.
المفردات :
مساجد الله : أي : أماكن عبادته.
١٨ – ﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ... ﴾ الآية.
أي : إنما يستحق عمارة المساجد، وتستقيم منه العمارة ويكون أهلا لها من آمن بالله وحده معبودا، على النحو المبين في القرآن الكريم، وآمن باليوم الآخر موعدا ومصيرا، وحسابا وجزاء، وأدى الصلاة على وجهها المشروع في مواقيتها، وأعطى الزكاة بأنواعها ومقاديرها، لمستحقيها المعروفين، كالفقراء، والمساكين، وأبناء السبيل، ولم يخش في قوله وعمله إلا الله وحده، دون غيره من الأصنام والعظماء الذين لا ينفعون ولا يضرون في الحقيقة، وإنما النفع والضر بيد الله، هؤلاء الموصوفون بهذه الصفات، هم الذين يقتصر عليهم عمارة المساجد، الحسية بالبناء والتشييد والترميم، والمعنوية بالعبادة والأذكار وحضور دروس العلم، دون من أشرك بالله، وكفر برسول الله صلى الله عليه وسلم، هؤلاء المشركون الضالون الذين يجمعون بين الأضداد فيشركون بالله، ويسجدون للأصنام، ثم يقدمون بعض الخدمات للمسجد الحرام.
﴿ فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين ﴾.
وهو تذييل قصد به حسن عاقبة المؤمنين الصادقين، أي : فعسى أولئك المتصفون بتلك الصفات الجليلة، أن يكونوا من المهتدين إلى الجنة، وما أعد فيها من خير عميم ورزق كبير.
والتعبير بعسى هنا، مقصود به قطع أطماع الكافرين، أي : إذا كان هؤلاء المؤمنون – وهم من هم – يدور أمرهم بين لعل وعسى، فكيف يقطع المشركون – وهم بين المخازي والقبائح – أنهم مهتدون٢٠.
وقد ذكر العلماء : أن كلمة عسى إذا جاءت من الله تعالى ؛ فهي بمعنى : وجب واستحق كما قال تعالى :﴿ ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ﴾. ( الإسراء : ٧٩ ).
أما معنى عسى في النحو : فهو الترجي.
كما قال الشاعر :
عسى فرج يأتي به الله إنه له كل يوم في خليقته أمر
قال الآلوسي في تفسيره :
" وفي التعبير بعسى قطع اتكال المؤمنين على أعمالهم، وإرشادهم إلى ترجيح جانب الخوف على جانب الرجاء ".
ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هاتين الآيتين ما يأتي :
١ – أعمال البر الصادرة عن المشركين كإطعام الطعام، وإكرام الضيف... إلخ. لا وزن لها عند الله ؛ لاقترانها بالكفر والإشراك به سبحانه.
وذهب الشيخ محمد عبده. وتلميذه السيد رشيد رضا، إلى موقف آخر، حيث رجحوا أن يجازيهم الله تعالى على هذه الأعمال في الآخرة.
واستشهدوا بعدل الله القائل :﴿ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ﴾. ( الزلزلة : ٧، ٨ ).
وقوله عز شأنه :﴿ إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ﴾. ( النساء : ٤٠ ).
٢ – إن عمارة مساجد الله من حق المؤمنين وحدهم، أما المشركون فإنهم لا يصح منهم ذلك ؛ بسبب كفرهم ونجاستهم.
" والأصح أنه يجوز استخدام الكافر في بناء المساجد، والقيام بأعمال لا ولاية فيها كنحت الحجارة والبناء والنجارة، فهذا لا يدخل في المنع المذكور في الآية.
ولا مانع أيضا من قيام الكافر ببناء مسجد أو المساهمة في نفقاته، بشرط ألا يتخذ أداة للضرر، وإلا كان حينئذ كمسجد الضرار.... ٢١.
جاء في حاشية الجمل على الجلالين :
" لا يصح للمشركين أن يعمروا مساجد الله بدخولها والقعود فيها، فإذا دخل الكافر المسجد بغير إذن من مسلم ؛ عزر وإن دخل بإذنه ؛ لم يعزر، لكن لا بد من حاجة، فيشترط للجواز الإذن والحاجة " ٢٢.
ونلاحظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل وفد ثقيف في المسجد وهم كفار، وشد ثمامة بن أثال الحنفي في سارية من سواري المسجد الحرام وهو كافر٢٣.
ونجاسة الكافر نجاسة معنوية، فإذا دخل المسجد لغرض من الأغراض، وأخذ إذنا من الجهات المختصة ؛ جاز ذلك.
٢ – يؤخذ من الآيتين التنويه بشأن المساجد والتعبد فيها، وإصلاحها، وخدمتها، وتنظيفها، والسعي إليها، واحترامها، وصيانتها عن كل ما يتنافى مع الغرض الذي بنيت لأجله، وقد وردت أحاديث كثيرة في هذا المعنى، منها ما يأتي :
١ – روى الشيخان والترمذي : عن عثمان رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من بنى لله مسجدا يبتغي به وجه الله ؛ بنى الله له بيتا في الجنة " ٢٤.
٢ – وروى الشيخان والحافظ أبو بكر البزار، وعبد بن حميد عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنما عمار المساجد هم أهل الله " ٢٥.
٣ – وروى أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم وابن مردوية : عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد ؛ فاشهدوا له بالإيمان، قال الله تعالى :﴿ إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم والآخر ﴾٢٦.
٤ – وروى الشيخان : عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من غدا إلى المسجد أو راح – أي : سار قبل الزوال أو بعده لعبادة الله في المسجد - ؛ أعد الله له منزلا –أي : مكانا طيبا في الجنة - ؛ كلما غدا أو راح " ٢٧.
﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ( ١٩ ) ﴾
المفردات :
سقاية الحاج : المراد من الحاج : جنس الحجاج ومن سقايتهم إعطاؤهم ما يشربون.
التفسير "
١٩ – ﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ... ﴾
المناسبة : هذه الآية مرتبطة بما قبلها، ومكملة لها، فالآية السابقة أوضحت أن عمارة المسجد الحرام مقبولة إذا كانت عن إيمان ؛ فهي للمسلمين دون المشركين، وهذه الآية أبانت أن الإيمان والجهاد أفضل مما كان يفخر به المشركون من عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج.
سبب النزول :
روى : أن المشركين سألوا اليهود قائلين : نحن سقاة الحاج، وعمار المسجد الحرام ؛ أفنحن أفضل أم محمد وأصحابه ؟ فقالت اليهود عنادا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أنتم أفضل ؛ فرد الله على الجميع منزلا هذه الآية الكريمة.
والمعنى : أجعلتم أهل سقاية الحاج، وأهل عمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر، وجاهد في سبيل الله ؟ !
فالإيمان بالله واليوم الآخر، والجهاد في سبيل الله بالمال والنفس أفضل وأعظم درجة من أعمال السقاية والسدانة أو العمارة.
﴿ لا يستوون عند الله ﴾.
أي : لا يستوي المشركون – وإن تقربوا بالسقاية وعمارة المسجد الحرام – مع المؤمنين، المجاهدين في سبيل الله.
﴿ والله لا يهدي القوم الظالمين ﴾.
والله لا يوفق القوم الظالمين ولا يرشدهم ؛ لأنهم قد آثروا الشر على الخير، والضلالة على الهدى.
من تفسير المنار
قال صاحب المنار – بعد أن ساق عددا من الروايات في سبب نزول هذه الآية - : والمعتمد من هذه الروايات حديث النعمان ؛ لصحة سنده٢٨.
حديث النعمان في صحيح مسلم
أورد ابن جرير الطبري وغيره من المفسرين، ما رواه مسلم وأبو داود وابن المنذر عن النعمان ابن بشير قال :
كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل : ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج وقال آخر : ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام، وقال آخر، الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم ؛ فزجرهم عمر وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم – وذلك يوم الجمعة – ولكن إذا صليت الجمعة دخلت واستفتيته فيما اختلفتم فيه، فأنزل الله عز وجل :
﴿ أجعلتم سقاية الحاج وعمارة السجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر.... ﴾ الآية.
وهذا المساق يقتضي أن الآية نزلت ؛ عند اختلاف المسلمين في الأفضل من هذه الأعمال.
قال صاحب المنار : المعتمد أن موضوع الآيات في المفاضلة أو المساواة بين خدمة البيت وحجاجه من أعمال البر الهينة المستلذة، وبين الإيمان والجهاد بالمال والنفس والهجرة وهي أشق العبادات البدنية والمالية اه.
بعض المفسرين يرجح أن الآية رد على المشركين
ذكر بعض المفسرين : أن هنا إشكال ؛ لأن تمام الآية يقول :﴿ والله لا يهدي القوم الظالمين ﴾. وهذا مشكل بالنسبة للمسلمين ؛ فإنهم جميعا مهديون وليسوا بظالمين.
وأجيب عن هذا الإشكال بأنه : لما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم الآية ظن الراوي أنها نزلت حينئذ ؛ فقال : إنها نزلت بهذا السبب في حين أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما استفتاه عمر فيما اختلفوا فيه قرأ النبي صلى الله عليه وسلم الآية التي نزلت من قبل بشأن المشركين، مستدلا بها على أن الجهاد أفضل من سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام ؛ ليعلم المختلفون الحكم، فالآية في الحقيقة لم تنزل بسبب هذا الخلاف، والراوي أخطأ في ظنه نزولها بسببه، أو تسامح في التعبير.
قال القرطبي نقلا عن غيره : لا يستبعد أن ينتزع مما أنزل في المشركين أحكام تليق بالمسلمين.
قال عمر : إنا لو شئنا لاتخذنا سلائق وشواء ؛ وتوضع صفحة، وترفع أخرى، لكنا سمعنا قول الله تعالى :﴿ أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها ﴾. ( الأحقاف : ٢٠ ).
وهذه الآية نص في الكفار، ولكن عمر رضي الله عنه فهم منها زجر المسلمين أيضا عما يناسب أحوال الكافرين، بعض المناسبة، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، فهذه الآية من هذا النوع.
قال القرطبي : وهذا تأويل نفيس وبه يزول الإشكال ا ه٢٩.
فالآية نزلت في سياق الرد على المشركين، ولكن المسمين استفادوا بمضمونها عندما اختلفوا في اختيار أفضل الأعمال ؛ لأنها جعلت الإيمان، والجهاد في سبيل الله أفضل الأعمال.
والله تعالى أعلى وأعلم
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:في ختام الآيات ١٩ – ٢٢
دلت الآيات على أن الجهاد مع الإيمان أفضل الأعمال ؛ لأنه بذل للنفس أو المال، بقصد إعلاء كلمة الله.
ومراتب فضل المجاهدين كثيرة، فهم أعظم درجة عند الله من كل ذي درجة، فلهم المزية والمرتبة العليا، وهم الفائزون الظافرون الناجون، وهم الذين يبشرهم ربهم ويعلمهم في الدنيا بما لهم في الآخرة من النعيم المقيم، وهم الخالدون إلى الأبد، وإلى ما شاء الله في جنات الخلد، ولهم ثواب عظيم أعده لهم في دار كرامته.

﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ( ٢٠ ) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ ( ٢١ ) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ( ٢٢ ) ﴾
المفردات :
وهاجروا : تركوا مكة إلى المدينة ؛ خوفا على دينهم وأمنا على أنفسهم من أذى المشركين.
التفسير :
٢٠ – ﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ... ﴾ الآية.
أي : أن المؤمنين بالله ورسوله، المهاجرين من مكة إلى المدينة، المجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ولإعلاء كلمة الله، هم أعظم درجة، وأرفع مقاما ومكانة من القائمين بأعمال أخرى كالسقاية والعمارة.
﴿ وأولئك هم الفائزون ﴾.
أي : وأولئك المنعوتون بهذه الصفات، هم الفائزون بفضل الله وكرامته ومثوبته.
من تفسير الفخر الرازي
قال الفخر الرازي : فإن قيل : لما أخبرتم أن هذه الصفات كانت بين المسلمين والكافرين، كما في بعض روايات أسباب النزول، فكيف قال في وصفهم أعظم درجة ؛ مع أنه ليس للكفار درجة ؟
قلنا : الجواب عنه من وجوه :
الأول : أن هذا ورد على حساب ما كانوا يقدرون لأنفسهم من الدرجة والفضيلة عند الله، ونظيره قوله سبحانه :{ ءالله خير أما يشركون ( النمل : ٥٩ ).
الثاني : أن يكون المراد : أولئك أعظم درجة من كل من لم يكن موصوفا بهذه الصفات ؛ تنبيها على أنهم لما كانوا أفضل من المؤمنين الذين ما كانوا موصوفين بهذه الصفات فبأن لا يقاسوا إلى الكفار أولى.
الثالث : أن يكون المراد : أن المؤمن المجاهد أفضل ممن على السقاية والعمارة، والمراد منه : ترجيح تلك الأعمال. ولا شك أن السقاية والعمارة من أعمال الخير، وإنما بطل ثوابها في حق الكفار ؛ بسبب كفرهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:في ختام الآيات ١٩ – ٢٢
دلت الآيات على أن الجهاد مع الإيمان أفضل الأعمال ؛ لأنه بذل للنفس أو المال، بقصد إعلاء كلمة الله.
ومراتب فضل المجاهدين كثيرة، فهم أعظم درجة عند الله من كل ذي درجة، فلهم المزية والمرتبة العليا، وهم الفائزون الظافرون الناجون، وهم الذين يبشرهم ربهم ويعلمهم في الدنيا بما لهم في الآخرة من النعيم المقيم، وهم الخالدون إلى الأبد، وإلى ما شاء الله في جنات الخلد، ولهم ثواب عظيم أعده لهم في دار كرامته.

المفردات :
يبشرهم : البشارة : الإعلام بالخبر السار، وسميت بذلك ؛ لظهور أثرها على البشرة.
التفسير :
٢١ – ﴿ يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم ﴾.
يخبرهم الله مبشرا برحمة واسعة، ورضوان كامل، وجنات لهم فيها نعيم دائم، وهم في هذا النعيم خالدون على الدوام إلى ما شاء الله تعالى.
قال الآلوسي : ذكر أبو حيان : أنه لما وصف المؤمنين بثلاث صفات : الإيمان، والهجرة، والجهاد بالنفس والمال ؛ قابلهم على ذلك بالتبشير بثلاث : الرحمة، والرضوان، والجنة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:في ختام الآيات ١٩ – ٢٢
دلت الآيات على أن الجهاد مع الإيمان أفضل الأعمال ؛ لأنه بذل للنفس أو المال، بقصد إعلاء كلمة الله.
ومراتب فضل المجاهدين كثيرة، فهم أعظم درجة عند الله من كل ذي درجة، فلهم المزية والمرتبة العليا، وهم الفائزون الظافرون الناجون، وهم الذين يبشرهم ربهم ويعلمهم في الدنيا بما لهم في الآخرة من النعيم المقيم، وهم الخالدون إلى الأبد، وإلى ما شاء الله في جنات الخلد، ولهم ثواب عظيم أعده لهم في دار كرامته.

٢٢ – ﴿ خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم ﴾.
لقد عوضهم الله جزاء الإيمان والهجرة والجهاد جنات خالدين فيها لا يخرجون منها أبدا ؛ فإن الله لديه أجر عظيم ؛ فلا يبخل به على أوليائه.
روى الشيخان والترمذي والنسائي : عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة ؛ فيقولون : لبيك ربنا وسعديك، فيقول : هل رضيتم ؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحد من خلقك ؟. فيقول : أنا أعطيكم أفضل من ذلك، فيقولون : ربنا، وأي شيء أفضل من ذلك ؟. فيقول : أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدا " ٣٠.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:في ختام الآيات ١٩ – ٢٢
دلت الآيات على أن الجهاد مع الإيمان أفضل الأعمال ؛ لأنه بذل للنفس أو المال، بقصد إعلاء كلمة الله.
ومراتب فضل المجاهدين كثيرة، فهم أعظم درجة عند الله من كل ذي درجة، فلهم المزية والمرتبة العليا، وهم الفائزون الظافرون الناجون، وهم الذين يبشرهم ربهم ويعلمهم في الدنيا بما لهم في الآخرة من النعيم المقيم، وهم الخالدون إلى الأبد، وإلى ما شاء الله في جنات الخلد، ولهم ثواب عظيم أعده لهم في دار كرامته.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( ٢٣ ) قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ( ٢٤ ) ﴾
المفردات :
أولياء : أحباء وأصفياء.
التفسير :
٢٣ – ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ... ﴾ الآية.
سبب النزول :
أخرج الفريابي عن ابن سيرين عن علي بن أبي طالب أنه قال لقوم قد سماهم : ألا تهاجروا ألا تلحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ؟ فقالوا : نقيم مع إخواننا وعشائرنا ومساكننا ؛ فأنزل الله :﴿ قل إن كان آبائكم... ﴾ الآية كلها.
المناسبة :
جاء في تفسير الكشاف للزمخشري :
كان قبل فتح مكة، من آمن لم يتم إيمانه إلا بأن يهاجر، ويصارم أقاربه الكفرة، ويقطع موالاتهم، فقالوا : يا رسول الله : إن نحن اعتزلنا من خالفنا في الدين قطعنا آباءنا وعشائرنا ؛ وذهبت تجارتنا وهلكت أموالنا، وخربت ديارنا، وبقينا ضائعين ؛ فنزلت هذه الآية، فهاجروا ؛ فجعل الرجل يأتيه ابنه أو أبوه أو أخوه أو بعض أقاربه ؛ فلا يلتفت إليه ولا ينفق عليه، ثم رخص لهم بعد ذلك. وقيل : نزلت في التسعة الذين ارتدوا ولحقوا بمكة ؛ فنهى الله عن موالاتهم. اه. والآية عامة، وإن كان السبب خاصا.
قال الدكتور وهبة الزحيلي في التفسير المنير :
الخلاصة : أن الدين يغير المفاهيم، فيجعل رابطة الدين أعلى، وأقوى وأولى من رابطة العصبية الجنسية وصلة القرابة والانتماء للأسرة، ويقرر أن ثمرة الهجرة والجهاد لا تظهر إلا بترك ولاية المشركين، وإظهار طاعة الله والرسول على كل شيء في الحياة٣١.
والمعنى :
يا أيها المصدقون بالله ورسوله، لا يتخذ أحد منكم أباه أو أخاه حبيبا يصافيه، ويخلص له الود ؛ إن استحب الكفر على الإيمان، وأصر عليه إصرارا لا يرجى منه الإقلاع عنه.
والنهي عن موالاتهم في تلك الحالة يقتضي جواز موالاتهم قبلها، على أمل أن تؤدى بهم إلى الإسلام، بسبب شعورهم بسماحته.
﴿ ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون ﴾.
ومن يحبهم ويخلص لهم الود، أو يطلعهم على أسرار المسلمين العامة أو الحربية، فأولئك هم الظالمون لأنفسهم وأمتهم ؛ لأنهم خالفوا الله ورسوله لموالاة الكفار بدلا من التبرؤ منهم.
قال ابن عباس : هو مشرك مثلهم ؛ لأنه رضي بشركهم، والرضا بالكفر كفر، كما أن الرضا بالفسق فسق.
المفردات :
وعشيرتكم : أي : أقربائكم، من العشرة وهي الصحبة.
فتربصوا : فانتظروا.
لا يهدي القوم الفاسقين : أي : لا يعينهم على الهدى ؛ لخروجهم عن طاعة الله بموالاة أعدائه.
التفسير :
٢٤ – ﴿ قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ... ﴾ الآية.
أي : إن كنتم تفضلون هذه الأنواع الثمانية، على محبة الله ورسوله أي : طاعتهما والجهاد في سبيل الله.
﴿ فتربصوا حتى يأتي الله بأمره ﴾. فانتظروا حتى يأتي الله بما يأمر به من عقوبة عاجلة أو آجلة لكم، والجملة الكريمة قصد بها : التهديد والوعيد.
﴿ والله لا يهدي القوم الفاسقين ﴾. تذييل قصد به. تأكيد التهديد السابق، و الله تعالى لا يوفق القوم الخارجين عن حدود دينه وشريعته إلى ما فيه مثوبته ورضاه.
جاء في تفسير الكشاف : وعن الحسن : هي عقوبة عاجلة أو آجلة، وهذه الأشياء شديدة لا نرى أشد منها، كأنها تنعى على أناس ما هم فيه من رخاوة عقد الدين، واضطراب حبل اليقين. اه.
ويمكن تصنيف الأنواع الثمانية الواردة في الآية بأربعة :
١ – مخالطة الأقارب وذلك يشمل الآباء والأبناء والإخوان والأزواج، ثم بقية العشيرة.
٢ – الميل إلى إمساك الأموال المكتسبة.
٣ – الرغبة في تحصيل الأموال بالتجارة.
٤ – الرغبة في البناء والدور المخصصة للسكنى، وقد بين الله تعالى أن رعاية الدين خير من رعاية هذه الأمور.
ونلاحظ أن محبة هذه الأشياء الثمانية لها شديد ارتباط بالإنسان ومجتمعه ؛ فمحبة الأب والابن والإخوة والزوجة والعشيرة فطرة إنسانية ؛ وحب المال، والتجارة الرابحة، والمسكن المريح، طبيعة نفسية ؛ فهي وسائل التملك والتفاخر والتظاهر وبالرغم من مظاهر الحب وحقائقه لهذه الأنواع الثمانية ؛ أمر الله بإيثار حبه وطاعته، والجهاد في سبيله على هذه الأشياء.
فالله سبحانه وتعالى مصدر النعم، وملجأ لدفع الكروب والمحن، قال تعالى :﴿ والذين آمنوا أشد حبا لله ﴾( البقرة : ١٦٥ ).
الآداب والأحكام
أخذ العلماء من هاتين الآيتين الآداب والأحكام الآتية :-
١ – لا يتم إيمان المؤمن، إلا إذا كانت محبته لله ورسوله مقدمة على كل محبوب. فقد ثبت في الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين " ٣٢.
وروى أحمد والبخاري : عن عبد الله بن هشام قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال عمر : والله يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه "، فقال فعمر : فأنت الآن والله أحب إلي من نفسي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الآن يا عمر " ٣٣.
٢ – قال المفسرون : هاتان الآيتان في بيان حال من ترك الهجرة وآثر البقاء مع الأهل والمال.
٣ – الإحسان إلى الوالدين والأقارب وتقديم الهدايا لهم – مع كفرهم – لا يتعارض مع ولاية الله ورسوله بدليل ما أخرجه البخاري : قالت أسماء : يا رسول الله، إن أمي قدمت على راغبة وهي مشركة أفأصلها ؟ قال : نعم : " صلي أمك " ٣٤.
٤ – قال بعض العلماء : وليس المطلوب من قوله تعالى :﴿ قل إن كان آباؤكم... ﴾إلخ، أن ينقطع المسلم عن الأهل والعشيرة والزوج والولد، والمال والعمل والمتاع واللذة، ولا أن يترهبن ويزهد في طيبات الحياة، كلا، إنما تريد هذه العقيدة أن يخلص لها القلب، ويخلص لها الحب، وأن تكون هي المسيطرة الحاكمة، وهي المحركة الدافعة، فإذا تم لها هذا ؛ فلا حرج عندئذ أن يستمتع المسلم بكل طيبات الحياة ؛ على أن يكون مستعدا لنبذها كلها، في اللحظة التي تتعارض مع مطالب العقيدة.
ومفرق الطريق هو أن تسيطر العقيدة، أو يسيطر المتاع، وأن تكون الكلمة الأولى للعقيدة أو لعرض من أعراض هذه الحياة ؟ فإذا اطمأن المسلم إلى أن قلبه خالص لعقيدته ؛ فلا عليه بعد هذا أن يستمتع بالأبناء والإخوة والعشيرة والزوج. ولا عليه أن يتخذ الأموال والمتاجر والمساكن، ولا عليه أن يستمتع بزينة الله والطيبات من الرزق، في غير سرف ولا مخيلة.
بل إن المتاع حينئذ لمستحب، باعتباره لونا من ألوان الشكر لله، الذي أنعم بها ؛ ليتمتع بها عباده، وهم يذكرون : أنه الرازق المنعم الوهاب٣٥.
﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ( ٢٥ ) ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ ( ٢٦ ) ثُمَّ يَتُوبُ اللّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاء وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ( ٢٧ ) ﴾
المفردات :
حنين : واد بين مكة والطائف، حدثت فيه المعركة التي نسبت إليه وكانت عقب فتح مكة.
رحبت : أي : برحبها وسعتها، والباء فيه بمعنى : " مع ".
التفسير :
٢٥ – ﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ... ﴾
بين الله في آيات سابقة فضل الجهاد، وحث عليه وبين في هذه الآيات أنه سبحانه عودهم النصر حين يخلصون في جهادهم.
والمعنى : لقد نصركم الله أيها المؤمنون في مواقع كثيرة ؛ كبدر وقريظة والنضير والحديبية وخيبر ومكة، وذلك لأنكم نصرتموه بصدق جهادكم فهيأ لكم ثمار النصر.
قال مجاهد : هذه أول آية نزلت من( براءة ) يذكر الله تعالى فضله عليهم، وإحسانه لديهم في نصره إياهم في مواطن كثيرة من غزواتهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ذلك من عنده تعالى وبتأييده وتقديره، لا بعددهم ولا بعددهم، ونبههم على أن النصر من عنده، سواء قل الجمع أو كثر، فإن يوم حنين أعجبتهم كثرتهم، ومع هذا ما أجدى ذلك عنهم شيئا، فولوا مدبرين إلا القليل منهم، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أنزل الله نصره وتأييده على رسوله وعلى المؤمنين الذين معه ؛ ليعلمهم أن النصر من عنده تعالى وحده، وبإمداده وإن قل الجمع :﴿ كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ﴾. ( البقرة : ٢٤٩ ).
﴿ ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتهم فلم تغن عنكم شيئا ﴾.
أي : ونصركم يوم حنين مع أنكم قصرتم فيه إذا أعجبتكم كثرتكم، حتى قال بعض المسلمين :( لن نهزم اليوم من قلة ) وكان عدد المسلمين( ١٢ ) اثنى عشر ألفا، عشرة ألاف من المسلمين الذين فتحوا مكة، وألفان من الطلقاء، أي : من أهل مكة الذين أسلم كثير منهم وعفا عنهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال لهم : اذهبوا فأنتم الطلقاء وكان فيهم بعض المشركين.
واتكل المسلمون على قوتهم في مبدإ الأمر ؛ فانهزموا، ثم لما عدلوا عن غرورهم، وتضرعوا إلى ربهم كان النصر حليفهم.
أضواء من التاريخ على وقعة حنين
كانت هوزان قوة كبيرة بعد قريش، وكانت تنافسها فلما بلغها فتح مكة ؛ نادى سيدهم مالك ابن عوف النصري بالحرب، وهو من بني نصر بن مالك.
واجتمع إليه مع هوزان ثقيف كلها، ونصر، وجشم، وسعد بن بكر وأجمع السير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وساق مع جيشه أموالهم ومواشيهم ونساءهم وأولادهم، وزعم أن ذلك يحمي نفوسهم به ويقوي شوكتهم، وكان على ثقيف كنانة بن عبيد، وشهد الحرب دريد بن الصمة وكان شيخا كبيرا له رأى وحكمة، ونزلوا بأوطاس، واد في ديار وهوزان عند الطائف، كانت فيه وقعة حنين، ولما علم رسول الله بأمرهم ؛ أزمع السير إليهم، وخرج معه اثنا عشر ألفا.
والتقى الجيشان فاقتتلوا قتالا شديدا، فانكشف المسلمون منهزمين، حتى قال أبو سفيان بن حرب، لا تنتهي هزيمتهم دون البحر.
وقال أخ لصفوان أبن أمية : الآن بطل السحر، فقال له صفوان وهو على شركه :
اسكت فض الله فاك، والله لأن يحكمني رجل من قريش خير من أن يحكمني رجل من هوزان.
﴿ وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ﴾.
أي : عن كثرتكم لم تنفعكم شيئا من النفع في أمر العدو ؛ بل انهزمتم أمامه في أول الأمر، وضاقت في وجوهكم الأرض مع رحابتها وسعتها، فقد خيل إليكم أن رحابها أغلقت في وجوهكم، فلا تجدون فيها موضعا تطمئنون فيه وتثبتون كما قال الشاعر :
كأن بلاد الله هي عريضة على الخائف المطلوب كفة حابل.
﴿ ثم وليتم مدبرين ﴾
ثم انصرفتم من وجه العدو متقهقرين لا تلوون على شيء.
لقد صورت الآية الكريمة ما حدث من المؤمنين في غزوة حنين، تصويرا بديعا معجزا.
فهي تنتقل من سرورهم بالكثرة، إلى تصوير عدم نفعهم بهذه الكثرة، إلى تصوير شدة خوفهم حتى لكأن الأرض على سعتها تضيق بهم، وتقفل في وجوهم، إلى تصوير حركاتهم الحسية، في تولية الأدبار، والنكوص على الأعقاب.
المفردات :
سكينته : رحمته التي تسكن عندها النفوس.
٢٦ – ﴿ ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ﴾.
ثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته ثبات الواقع حين وقع، وثبت نفر من المؤمنين قرابة مائة.
أي : أزل الله طمأنينته وثباته على رسوله، وكان في حاجة إلى هذه الطمأنينة ؛ فهو مع ثباته وشجاعته، ووقوفه في وجه الأعداء كالطود الأشم ؛ أصابه الحزن والأسى ؛ لفرار هذا العدد الكبير من أصحابه.
وكان المؤمنين الذين ثبتوا معه في حاجة إلى هذه السكينة ؛ ليزدادوا ثباتا مع ثباتهم، وكان الذين فروا في حاجة إلى هذه السكينة ؛ ليعود إليهم ثباتهم فيقبلوا على قتال أعدائهم بعد أن دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك.
وأمر النبي العباس – وكان جهورى الصوت – أن ينادي بأعلى صوته : يا أصحاب بيعة العقبة، يا أصحاب بيعة الشجرة، فقالوا جميعا : لبيك لبيك، ونادى رسول الله صلى الله عليه وسلم : إلي عباد الله، إلي عباد الله، فتوافد المسلمون، وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يصدقوا في حملتهم على عدوهم، وأخذ النبي قبضة من التراب ودعا ربه، واستنصره قائلا : " اللهم أنجز لي ما وعدتني " ثم رمى بالتراب في وجوه القوم، فما بقي إنسان إلا أصابه منها في عينه وفمه ما شغله عن القتال، ثم انهزموا فتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون، ثم جاءوا بالأسرى بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان السبى ستة آلاف رأس، والإبل أربعة وعشرين ألفا، والغنم أكثر من أربعين ألف شاة، وأربعة آلاف أوقية فضة، وكانت تلك أكبر غنيمة غنمهما المسلمون٣٦.
﴿ وأنزل جنودا لم تروها ﴾. أي : أنزل ملائكة تكثر سواد المسلمين وتثبتهم، وتلقي الرعب في قلوب المشركين ؛ حتى طارت قلوبهم فزعا وخوفا، وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون.
﴿ وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين ﴾.
أي : أنزل بالكافرين الهزيمة والقتل والجرح والسبي وغنيمة الأموال، روى أن عليا رضي الله عنه قتل بيده أربعين رجلا في هذه الغزوة وذلك ما فعله سواه من المقاتلين.
﴿ وذلك جزاء الكافرين ﴾.
أي : وذلك الذي نزل بهؤلاء الكافرين من التعذيب ؛ جزاء لهم على كفرهم ؛ وصدهم عن سبيل الله.
٢٧ – ﴿ ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم ﴾.
أي : ثم يتجاوز الله بعد هذا التعذيب الذي حدث في الحرب، على من يشاء من الكفار.
يعني : ومع كل ما جرى عليهم من الخذلان، فإن الله تعالى قد يتوب على بعضهم، بأن يزيل عن قلبه الكفر، ويهديه إلى الإسلام.
من كلام المفسرين
قال ابن كثير :
وقوله :﴿ ثم يتوب الله من بعد ذلك على ما يشاء.... ﴾ قد تاب على بقية هوزان فأسلموا، وقدموا على رسول الله مسلمين، ولحقوه وقد قارب مكة عند الجعرانة، وذلك بعد الواقعة بقريب من عشرين يوما ؛ فعند ذلك خيرهم بين سبيهم وأموالهم، فاختاروا سبيهم، وكانوا ستة آلاف أسير، ما بين صبي وامرأة فرده عليهم، وقسم الأموال بين الغانمين، ونفل أناسا من الطلقاء ؛ لكي يتألف قلوبهم على الإسلام ؛ فأعطاهم مائة مائة من الإبل، وكان من جملة من أعطاهم مائة من الإبل : مالك بن عوف النصرى واستعمله على قومه٣٧.
وأخيرا فإنه هذه الآيات قد ذكرت المسلمين بجانب نعم الله عليهم، وأرشدتهم إلى أن النصر لا يتأتى لمن أعجبوا بكثرتهم، فانشغلوا بها عن الاعتماد عليه سبحانه، إنما النصر يتأتى لمن أخلصوا لله في السر والعلانية، وباشروا الأسباب التي شرعها الله تعالى ؛ للوصول إلى الفوز والظفر.
قال الإمام ابن القيم :
افتتح الله تعالى غزوات العرب بغزوة بدر، وختم غزوهم بغزوة حنين ؛ لهذا يقرن بين هاتين بالذكر، فقال : بدر وحنين وإن كان بينهما سبع سنين... وبهاتين الغزوتين طفئت جمرة العرب لغزو رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فالأولى : خوفتهم وكسرت من حدتهم، والثانية : استفرغت قواهم، واستنفذت سهامهم، وأذلت جمعهم ؛ حتى لم يجدوا بدا من الدخول في دين الله٣٨.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ( ٢٨ ) ﴾
المفردات :
نجس : المراد بنجاستهم : خبث باطنهم فكأنهم عين النجاسة ؛ لشدة خبثهم وكراهتهم للإسلام والمسلمين.
عيلة : فقرا.
التفسير :
٢٨ – ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا... ﴾ الآية.
قال الشوكاني في فتح القدير :
المراد : نجاسة الشرك والظلم، والأخلاق والعادات السيئة، والكافر ليس بنجس الذات ؛ لأن الله سبحانه أحل طعامهم، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أكل في آنيتهم، وشرب منها، وتوضأ فيها، وأنزلهم في مسجده.
والمراد بالمشركين في رأى الأكثرين : هم عباد الأوثان. وقد نهى الله سبحانه وتعالى المؤمنين عن نكاح المشركات، وإنكاح المشركين.
﴿ فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ﴾.
أي : لا يدخلوا الحرم المكي ومنه المسجد الحرام، ولو لحج أو عمرة، فليس لهم أن يحجوا أو يعتمروا، والنهي وإن كان موجها إلى المشركين، إلا أن المقصود منه : نهى المؤمنين عن تمكينهم من ذلك.
﴿ بعد عامهم هذا ﴾. سنة تسع للهجرة، وهي السنة التي حج فيها أبو بكر على الموسم، فيمنعون من دخوله ابتداء من سنة عشر للهجرة.
قال ابن كثير :
" أمر الله عباده المؤمنين الطاهرين دينا وذاتا، بنفي المشركين الذين هم نجس دينا، عن المسجد الحرام، وألا يقربوه بعد نزول هذه الآية، وكان نزولها في سنة تسع، ولهذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا صحبة أبي بكر رضي الله عنهما، عامئذ، وأمره أن ينادي في المشركين : أن لا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، فأتم الله ذلك، وحكم به شرعا وقدرا ".
وخلاصة المعنى :
يا أيها الذين آمنوا، لا تمكنوا المشركين من أداء مناسك الحج والعمرة، بعد عامهم هذا ؛ حتى لا يحج البيت إلا من يوحد الله ويمجده وحده دون سواه.
﴿ وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم ﴾.
أي : وإن خفتم أيها المسلمون فقرا بسبب قلة جلب الأقوات، وأنواع التجارات التي كان المشركون يجلبونها ؛ فاطمئنوا فسوف يغنيكم الله من فضله بوجوه أخرى، وييسر لكم موارد المعيشة، والأرزاق والمكاسب ؛ إن الله عليم بأحوالكم، حكيم بما يشرعه لكم من أمر ونهي، وهو أيضا حكيم فيما يعطى ويمنع لأنه الكامل في أفعاله وأقواله، العادل في حكمه وأمره تعالى.
وهذا إخبار عن غيب في المستقبل، وقد تحقق الخبر، وأنجز الله وعده ؛ فأرسل السماء عليهم مدرارا، ووفق أهل اليمن وجرش وغيرهم فأسلموا، وصاروا يحملون الأطعمة إلى مكة، وأسلم المشركون أنفسهم ؛ وجاءت الثروات والخيرات من كل مكان، ثم فتح الله عليهم البلاد والغنائم، وتوجه إليهم الناس من أطراف الأرض قاصيها ودانيها.
من أحكام الآية ما يأتي
١ – قال العلامة أبو السعود : الصحيح أن الشافعية والمالكية يحرمون دخول الكفار جميع المساجد. ا. ه.
وقد أباح الحنيفة للكافر دخول المساجد كلها في الحرم وغيره، لحاجة أو لغير حاجة ؛ لأن المقصود بالآية النهي عن حج المشركين واعتمارهم، فلا يمنع اليهود والنصارى، من دخول المسجد الحرام ولا غيره، ولا يمنع دخول المسجد الحرام إلا المشركون وأهل الأوثان.
٢ – في هذه الآية دليل على أن تعلق القلب بأسباب الرزق جائز، ولا ينافي في ذلك التوكل، وإن كان الرزق مقدرا، ولكن الله علقه بالأسباب ؛ لحمل الناس، على العمل. والسبب لا ينافي التوكل، بدليل ما أخرجه البخاري من قوله صلى الله عليه وسلم : " لو توكلتم على الله حق التوكل ؛ لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا " ٣٩.
أي : تغدو بكرة وهي جياع، وتروح عشية وهي ممتلئة الأجواف والبطون.
﴿ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ( ٢٩ ) وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ( ٣٠ ) ﴾.
المفردات :
الجزية : هي ضريبة لنا على أهل الكتاب ؛ جزاء حمايتهم وحقن دمائهم.
عن يد وهم صاغرون : أي : عن يد مواتية منقادة وهم خاضعون.
التفسير :
٢٩ – ﴿ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ... ﴾ الآية.
يأمر الله تعالى المؤمنين في هذه الآية بقتال أهل الكتاب، بعد ما أمرهم من قبل بقتال المشركين، ومنعهم من قرب المسجد الحرام بحج أو عمرة.
والغاية من قتال أهل الكتاب في هذه الآية : هي اعترافهم بالدين الحق، وعدم إلزامهم بالدخول فيه ؛ والاكتفاء بالتصالح معهم ؛ ليستوطنوا في دار الإسلام بأمان وسلام، مع إخضاعهم لأحكام الإسلام المدنية والجزائية، وما عدا ذلك فإنا أمرنا بتركهم وما يدينون به في عباداتهم وشئونهم، مع أخذ الجزية منهم جزاء حمايتهم، وتوفير الأمن والأمان لهم، ويصبحون عند ذلك من أهل الذمة والعهد٤٠.
قال ابن كثير :
" هذه الآية أول أمر نزل بقتال أهل الكتاب – اليهود والنصارى – وكان ذلك سنة تسع ؛ ولهذا تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتال الروم، ودعا الناس إلى ذلك، وأظهره لهم، وبعث إلى إحياء العرب حول المدينة، فندبهم فخرجوا معه، واجتمع من المقاتلة نحو ثلاثين ألفا، وتخلف بعض الناس من أهل المدينة ومن حولها من المنافقين وغيرهم، وكان ذلك في عام جدب، ووقت قيظ وحر، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، يريد الشام لقتال الروم، فبلغ تبوك ونزل بها، وأقام بها قريبا من عشرين يوما، ثم استخار الله في الرجوع، فرجع عامه ذلك ؛ لضيق الحال، وضعف الناس... " ٤١.
والمعنى : قاتلوا أهل الكتاب إلى أن يستسلموا ويدفعوا الجزية، عن مقدرة عليها منهم، وفي نفس الوقت عن عرفان منهم بمقدرة المسلمين وكفاءتهم ؛ ونلاحظ أن الآية بينت أسباب قتال أهل الكتاب وهي ثلاثة أسباب :
١ – عبرت عنهم باسم الموصول فقالت :
﴿ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر... ﴾
وأهل الكتاب يدّعون أنهم يؤمنون بالله وباليوم الآخر، لكنهم ادعوا أن لله ولدا، وادعوا أن الله ثالث ثلاثة.
جاء في حاشية الجمل على الجلالين :
إن إيمانهم باليوم الآخر ليس كإيمان المؤمنين، وذلك لأنهم يعتقدون بعث الأرواح دون الأجساد، وأن أهل الجنة لا يأكلون فيها، ولا يشربون ولا ينكحون، ويرون أن نعيم الجنة وعذاب النار، معان روحية فقط كالسرور والهم، فهم لا يؤمنون بحياة مادية كاملة في عالم الآخرة، وهذا مناف لما أخبر به القرآن، ومن أنكر البعث الجسماني ؛ فقد أنكر صريح القرآن٤٢.
٢ – ﴿ ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ﴾.
فهم لا يحرمون ما حرمه موسى وعيسى، عليهما السلام بل حرفوا التوراة والإنجيل، وشرعوا لأنفسهم أحكاما تخالف أصل دينهم.
فترى اليهود يستحلون أكل أموال الناس بالباطل.
قال تعالى :﴿ وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل ﴾. ( النساء : ١٦١ ).
والنصارى استباحوا ما حرم عليهم في التوراة كالشحوم والخمور، وقد استحلوا الرهبانية، وفسق بعضهم بها عن حكم الله وهدايته.
قال تعالى :﴿ ثم قفينا على آثرهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتينه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون ﴾. ( الحديد : ٢٧ ).
٣ – ﴿ ولا يدينون دين الحق ﴾.
أي : الدين الثابت الناسخ لجميع الأديان وهو دين الإسلام.
قال تعالى :﴿ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ﴾. ( المائدة : ٣ ).
وقال تعالى :﴿ ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ﴾. ( آل عمران : ٨٥ ).
ويصح أن يكون المراد بدين الحق : ما يشمل دين الإسلام، وغيره من الأديان السماوية التي جاء بها الأنبياء السابقون. أي : ولا يدينون بدين من الأديان التي أنزلها الله على أنبيائه، وشرعها لعباده، وإنما هم يتبعون أحبارهم ورهبانهم فيما يحلونه لهم ويحرمونه عليهم٤٣.
﴿ من الذين أوتوا الكتاب ﴾.
أي : الذين أعطاهم الله التوراة وهم اليهود، أو الإنجيل وهم النصارى.
والمراد بالكتاب : جنسه الشامل للتوراة والإنجيل. أي : قاتلوا من أعطاهم الله التوراة والإنجيل عن طريق موسى وعيسى، ولكنهم لم يعملوا بتعاليمها ؛ وإنما عملوا بما تمليه عليهم أهواؤهم وشهواتهم، والمقصود بقوله :﴿ من الذين أوتوا الكتاب ﴾ تميزهم عن المشركين عبدة الأوثان في الحكم ؛ لأن عبدة الأوثان في بلاد العرب يخيرون بين أمرين الإسلام أو القتال.
أما أهل الكتاب فإنهم يخيرون بين ثلاثة أشياء : الإسلام، أو القتال، أو الجزية.
والجزية : كلمة فارسية هي( كزيت ) ؛ وكانت نظاما معولا به عند الفرس وغيرهم.
وقد عمل به الإسلام ؛ لمن أراد البقاء على دينه من أهل الكتاب ؛ فأعفاه الإسلام من دخول الجيش أو الدفاع عن الدولة، حيث إنه لا يعتقد بعقيدة الإسلام، فأعفاه الإسلام من الاشتراك في الجندية، وأخذ منه ما يشبه البدل النقدي الذي يؤخذ من بعض المتخلفين عن الخدمة في الجيش في هذه الأيام.
وقد اشترط الإسلام على المسلمين حماية أهل الذمة، والدفاع عنهم مقابل أخذ الجزية، فإذا لم يستطع المسلمون الدفاع عن أهل الكتاب، ردوا عليهم الجزية.
وقد فعل ذلك خالد بن الوليد حين شغل بالقتال، عن الدفاع عن بعض أهل الكتاب فرد عليهم الجزية، وقال : إنما أخذنا الجزية جزاء حمايتكم والدفاع عنكم، فإذا شغلنا عنكم رددنا الجزية لكم، فاعترف أهل الكتاب له بالشكر وبحسن المعاملة.
﴿ حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ﴾.
أي : أن الغاية من قتال أهل الكتاب، هو اتفاقهم مع المسلمين، والاعتراف لهم بحقهم، وإن لم يدخلوا في الإسلام ؛ فإذا دخلوا مع المسلمين في معاهدة، أصبحت لهم ذمة الله ورسوله ؛ ولذلك كانوا يسمون : أهل الذمة ؛ أي : أهل المعاهدة.
وإذا أسلموا سقطت عنهم الجزية باتفاق الفقهاء ؛ لما رواه أحمد وأبو داود والبيهقي والدارقطني : عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليس على مسلم جزية " ٤٤.
وفي رواية للطبراني : عن ابن عمر " من أسلم فلا جزية عليه " ٤٥.
ملحق بتفسير الآية
جاء في التفسير الوسيط لمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، ص ١٦٨٩ ما يأتي :
معنى : عن يد وهم صاغرون.
( أ )اليد هنا يحتمل أن تكون كناية عن الاستسلام والانقياد، أي : حتى يعطوا الجزية عن خضوع وانقياد وطاعة.
( ب )ويحتمل أن تكون كناية عن الدفع نقدا بدون تأجيل، أي : حتى يعطوها نقدا بدون تسويف أو تأخير.
( ج )ويحتمل أن تكون بمعنى : الغنى، ولذلك لم تجب على الفقير العاجز من أهل الكتاب والمعنى : حتى يدفعوا الجزية عن مقدرة منهم على دفعها، مع الاعتراف للمسلمين بالسيادة.
وهذه المعاني الثلاثة إذا أريد باليد : يد الكتابي، أما إذا أريد باليد : اليد الآخذة وهي يد الحاكم المسلم ؛ ففي هذه الحالة يكون معناها : القوة والقهر والغلبة والحماية.
أي : حتى يعطوها للمسلمين عن يد قاهرة مستولية ؛ وهي يد المسلمين، أو حتى يعطوها للمسلمين عن يد من المسلمين. أي : إنعام من المسلمين عليهم ؛ لأن قبول الجزية منهم وترك أرواحهم له نعمة عظيمة٤٦.
وجاء في تفسير سورة التوبة للدكتور محمد سيد طنطاوي ما يأتي :
﴿ وهم صاغرون ﴾ : وهم خاضعون لولايتكم عليهم ؛ وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن معنى : وهم صاغرون أنهم يؤدونها في ذلة وانكسار ومهانة.
قال الزمخشري في تفسير الكشاف :
﴿ وهم صاغرون ﴾.
تؤخذ منهم على الصغار والذل، وهو أن يأتي بنفسه ماشيا غير راكب، ويسلمها وهو قائم والمتسلم جالس، وأن يتلتل تلتلة، ويؤخذ بتلابيبه ويقال له : أد الجزية، ويدفع في قفاه٤٧.
وقال السيوطي : استدل بقوله تعالى : وهم صاغرون من قال : إنها تؤخذ بإهانة بأن يجلس الآخذ ؛ ويقوم الدمي يطأطئ رأسه، ويحني ظهره... إلخ.
وقد رد الإمام ابن القيم على هذا القائل بقوله : هذا كله مما لا دليل عليه، ولا هو من مقتضى الآية ؛ ولا نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه.
والصواب في الآية : أن الصغار هو التزامهم بجريان أحكام الله عليهم وإعطاء الجزية فإن ذلك هو الصغار، وبه قال الشافعي٤٨.
ونرى أن كلام الإمام ابن القيم أقرب إلى المعقول والمنقول ؛ ويتفق مع عدالة الإسلام وسماحته ورحمته بالناس أجمعين خاصة ونحن في زمن صار العالم كله قرية واحدة، وصار بعضهم يدعي الدفاع عن حقوق الإنسان، وديننا هو الذي كرم إنسانية الإنسان ؛ فقد خلق الله آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له الملائكة، واستخلفه في إعمار الأرض، وقال سبحانه :﴿ ولقد كرمنا بني ءادم ﴾.
مقدار الجزية
لم يحدد القرآن مقدار الجزية، وقد اختلف الفقهاء في تقديرها.
( أ ) قال الشافعي : هي في السنة دينار على الغني والفقير من الأحرار البالغين، وإن صولحوا على أكثر من دينار ؛ جاز لهم وتؤخذ في آخر السنة٤٩.
( ب )وقال المالكية : إنها أربعة دنانير على أهل الذهب ؛ وأربعون درهما على أهل الفضة، الغني والفقير سواء.
( ج )وقال الحنفية : ١٢ درهما على الفقراء الذين لهم كسب، ٢٤ درهما على الأوساط، ٤٨ درهما على الأغنياء ؛ وتؤخذ في أول السنة، ولا تؤخذ من فقير لا كسب له٥٠.
ولعلك بالتأمل ترى أن الجزية عطاء مرتبط بقوة المسلمين، وقدرتهم على حماية أهل الكتاب والدفاع عنهم.
هذا أمر متغير متقلب ونسبة الجزية تتأثر بمدى قوة المسلمين ومدى ضعف الآخرين. وربما كان من المناسب أن نقول : إن مقدار الجزية يترك تقديره إلى كل حالة بما يناسبها، أو إلى تقدير أهل الحل والعقد.
وتقدير الحنفية أقرب إلى روح العصر ؛ لأنها تراعي حالة الكتابي من الفقير أو الغني وتؤخذ منه حسب حالته.
من أحكام الآية
ذكر الأستاذ الدكتور محمد سيد طنطاوي في تفسير سورة التوبة : أن العلماء قد أخذوا من هذه الآية الأحكام الآتية :
١ – إن هذه الآية أصل في مشروعية الجزية، وأنها لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب عند كثير من الفقهاء ؛ لأن أهل الكتاب هم الذين يخيرون بين الإسلام أو القتال أو الجزية، أما غيرهم من مشركي العرب فلا يخيرون إلا بين الإسلام أو القتال.
قال القرطبي ما ملخصه :
وقد اختلف العلماء فيمن تؤخذ منه الجزية ؛ فقال الشافعي : لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب خاصة، عربا كانوا أو عجما ؛ لهذه الآية ؛ فإنهم ه
المفردات :
يضاهئون : المضاهأة والمضاهات : المشابهة.
أنى يؤفكون : كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل.
٣٠ – ﴿ وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله... ﴾ الآية.
في هذه الآية وما بعدها يكشف الله سبحانه عن الشبه التي وردت على أهل الكتاب، فأفسدت عليهم دينهم ؛ وأدخلتهم في مداخل المشركين أو الكافرين، فوصفوا بقوله تعالى في الآية السابقة :﴿ ولا يدينون دين الحق ﴾.
﴿ وقالت اليهود عزير ابن الله ﴾.
ذلك أنه مر على قرية قديمة، قبورها دارسة، وقد عمها الصمت والسكون والموت ؛ فقال :﴿ أنى يحي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه... ﴾ فلما رآه اليهود ؛ قالوا : عزيرا ابن الله ؛ لأن الله بعثه بعد موته.
وقيل : إن التوراة قد ضاعت أيام الأسر البابلي، فلما عاد اليهود من الأسر، وأعادوا بناء الهيكل ؛ لم يجدوا التوراة، وكان عزير أو عزرا قد ملأ الله صدره نورا ؛ فإذا التوراة محفوظة في قلبه، تجري كلماتها على لسانه. ثم جمع أحبارهم وأملى عليهم التوراة من حفظه ؛ وحدت بعد هذا أن عثروا على التوراة الضائعة، فقارنوا بها ما أملاه عزرا فإذا هي هي، كان عندهم عزرا كائنا علويا سماويا فنسبوه إلى الله وجعلوه ابنا له.
والمحققون من المؤرخين يقولون : إن عزيرا( عزرا )، جمع محفوظات من صدور القوم ؛ ومن أوراق متناثرة وسماها : التوراة، ولا يوجد دليل على أنها طبق الأصل ؛ فإن الأصل مفقود، كما أن فيها وصف الله بما لا يليق به، كالندم والضعف أمام إسرائيل، وغير ذلك مما يقطع بوضعها٥٤.
وقال السيد رشيد رضا في تفسير المنار :
جاء في دائرة المعارف اليهودية الإنكليزية – طبعة ١٩٠٣ – أن عصر عزرا هو ربيع التاريخ الملي لليهودية، الذي تفتحت فيها أزهاره، وعبق شذا ورده، وأنه جدير بأن يكون هو ناشر الشريعة.
﴿ وقالت النصارى المسيح ابن الله ﴾.
أي : أن النصارى قالوا في المسيح عيسى ابن مريم ما قالته اليهود في عزير ؛ فقد قالوا : إنه ابن الله، وشبهتهم في ذلك أن المسيح قد ولد من رحم امرأة دون أن تتصل برجل.
وقد فصل القرآن القول في ذلك في سورة مريم، وآل عمران وغير ذلك من السور ؛ فالمسيح قد خلق بقدرة الله، وأراد الله أن يجعل منه آية على هذه القدرة.
فقد خلق الله آدم من غير أب ولا أم، وخلق حواء من أب دون أم، وخلق المسيح من أم دون أب ؛ قال تعالى :﴿ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ﴾. ( آل عمران : ٥٩ ).
وقد رد الله على النصارى وناقشهم، ودحض حجتهم في آيات كثيرة. أحيانا حاكمهم إلى العقل فبين أن المسيح بشر جعله الله رسولا، وما ينبغي لبشر أن يرسله الله ثم يدعي هذا البشر الألوهية ويطلب من الناس أن يعبدوه هو ؛ بل ينبغي للرسول الأمين ؛ أن يدعو الناس إلى عبادة الله رب الجميع.
قال تعالى :﴿ ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ﴾. ( آل عمران : ٧٩ ).
وأحيانا خاطب العقل مع العاطفة والوجدان مثل قوله تعالى :
﴿ وقالوا اتخذ الرحمان ولدا * لقد جئتم شيئا إدا * تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمان ولدا * وما ينبغي للرحمان أن يتخذ ولدا * إن كل من في السماوات والأرض إلا آتى الرحمان عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا * وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ﴾. ( مريم : ٨٨ - ٩٥ ).
كذلك فإن المسيح أعطاه الله معجزات تؤيد رسالته مثل إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله، فقالوا : إن المسيح ما كان يستطيع أن يفعل ذلك إلا لأنه ابن الله.
وفي القرآن :﴿ أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء... ﴾( الأنعام : ١٠١ ).
أي : كيف يكون لله ولد مع أنه لا زوجة له ؟ ! وجهلوا أن ميلاد عيسى كان بأمر الله :﴿ قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا ﴾. ( مريم : ٢١ ).
كما أن معجزات عيسى لتأييد نبوته ؛ كان شأنها كشأن معجزات الأنبياء السابقين، كناقة صالح، وعصا موسى ؛ هي بمثابة تصديق الله له في دعواه الرسالة.
﴿ ذلك قولهم بأفواههم ﴾. أي : هو قول يلقى على عواهنه ؛ مجرد كلام، لم يحتكم فيه إلى عقل أو منطق... إنه كلام... لا أكثر ليس بينه وبين الحق نسب.
قال الشوكاني في فتح القدير :
﴿ ذلك قولهم بأفواههم ﴾.
أي : إن هذا القول لما كان ساذجا ليس فيه بيان، ولا عضده برهان، كان مجرد دعوى ليس فيها إلا كونها خارجة من الأفواه ؛ غير مفيدة لفائدة يعتد بها.
﴿ يضاهئون قول الذين كفروا من قبل ﴾.
يشابهون بهذه المقالة عبدة الأوثان في قولهم : اللات والعزى ومناة بنات الله، والملائكة بنات الله.
قال الأستاذ عبد الكريم الخطيب في التفسير القرآني للقرآن :
ويمكن أن يكون الذين كفروا من قبل، كل من سبق اليهود والنصارى ؛ من الذين كانوا يعتقدون بهذا المعتقد الذي يجعل لله ابنا يعبد من دون الله، أو يعبد مع الله، مثل تلك المعتقدات التي كان يعتقدها اليونان في توليد الآلهة، بعضهم من بعض، وكما كان يعتقد الفراعنة في آلهتهم، وإضافة ملوكهم إلى آلهة سماوية علوية، وكما يعتقد المعتقدون في بوذا وأنه مولود إلهي ا ه.
وجاء في تفسير المنار :
وقد علمنا من تاريخ قدماء الوثنيين في الشرق والغرب : أن عقيدة الابن لله والحلول والتثليث، كانت معروفة عند البراهمة في الهند وفي الصين واليابان وقدماء المصريين وقدماء الفرس.
وهذه الحقيقة التاريخية – والتي بينها القرآن في هذه الآية – من معجزاته ؛ لأنه لم يكن يعرفها أحد من العرب ولا ممن حولهم، بل لم تظهر إلا في هذا الزمان٥٥.
والمعنى : إن هؤلاء الضالين الذين قال بعضهم :﴿ عزير ابن الله ﴾. وقال البعض الآخر :﴿ المسيح ابن الله ﴾.
ليس لهم على قولهم الباطل هذا دليل ولا برهان ؛ ولكنهم يشابهون ويتابعون فيه قول الذين كفروا من قبلهم من الأمم٥٦.
﴿ قاتلهم الله ﴾. أي : لعنهم الله، أو طردهم من رحمته ورضوانه، أو أهلكهم الله ؛ لأن من قاتله الله ؛ هلك روى ابن جرير عن ابن عباس أن معنى قاتلهم الله لعنهم الله ؛ وكل شيء في القرآن قتل فهو لعن.
والمقصود من هذا التعبير : التعجب من شفاعة قولهم حكى النقاش أن أصل قاتله الله : الدعاء، ثم كثر في استعمالهم حتى قالوه في التعجب في الخير والشر. وهم لا يريدون الدعاء، وأنشد الأصمعي :
يا قاتل الله ليلى كيف تعجبني وأخبر الناس أنى لا أباليها
﴿ أنى يؤفكون ﴾.
كيف يصرفون عن الحق مع قيام الدليل عليه ؟ !
﴿ ويؤفكون ﴾. من الإفك بمعنى : الانصراف عن الشيء ؛ والابتعاد عنه، يقال : أفكه عن الشيء يأفه إفكا ؛ أي : صرفه عنه وقلبه، ويقال : أفكت الأرض إفكا، أي : صرف عنها المطر.
والغرض من الاستفهام هنا : التعجب والتوبيخ.
أي : إن ما قالوه ظاهر البطلان وهو محل عجب العقلاء واستنكارهم وغضبهم، فالمسيح بشر يأكل الطعام، وتجري عليه أحكام البشر، فكيف يكون إلها ؟ !
قال تعالى :﴿ ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام ﴾. ( المائدة : ٧٥ ).
وقال سبحانه :﴿ لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ﴾. ( النساء : ١٧٢ ).
﴿ اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( ٣١ ) يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ( ٣٢ ) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ( ٣٣ ) ﴾.
المفردات :
أحبارهم : جمع حبر بكسر الحاء وفتحها لغتان كما قال الفراء – ويطلق على العالم مطلقا وغلب في عالم اليهود.
ورهبانهم : جمع راهب مأخوذ من الرهبة وهي الخوف، والمراد به هنا : عابد النصارى الذي اعتزل ملذات الحياة.
التفسير :
٣١ – ﴿ اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ... ﴾ الآية.
أي : اتخذ اليهود علماء دينهم أربابا من دون الله ؛ فأطاعوهم في تحريم ما أحل الله، وتحليل ما حرم الله، وجعلوهم بطاعتهم لهم ؛ كأنهم آلهة لهم يطاعون فيما يشرعون. واتخذ النصارى رهبانهم. أي : علماءهم المتعبدين – اتخذوهم آلهة من دون الله بأن أطاعوهم فيما لم يحل، كما يطاع الله فيما شرعه لعباده، مع أنهم آثمون.
قال الشوكاني في فتح القدير :
كانوا إذا أحلوا لهم شيئا، استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه، أطاعوهم فيما يأمرونه به، وينهونهم عنه فيما يخالف أحكام الله تعالى ؛ فنسخوا بذلك ما في كتب الله، فكانوا بمنزلة المتخذين لهم أربابا ؛ لأنهم أطاعوهم كما تطاع الأرباب.
﴿ والمسيح ابن مريم ﴾.
أي : واتخذ النصارى المسيح ابن مريم ربا معبودا وكان ذلك على صور شتى، فمرة : عبدوه على أنه ابن الله، وأخرى : عبدوه على أنه إله، وثالثة : على أنه ثالث آلهة ثلاثة.
قال صاحب تفسير المنار :
جمع الله بين اليهود والنصارى ؛ في اتخاذ رجال دينهم أربابا ؛ بأن أعطوهم حق التشريع فيهم، وذكر بعد ذلك : ما انفرد به النصارى دون اليهود من اتخاذهم المسيح ربا وإلها يعبدونه، واليهود لم يعبدوا عزيرا، ولم يؤثر عمن قال منهم : إنه ابن الله، أنهم عنوا ما يعنيه النصارى من قولهم في المسيح : إنه هو الله الخالق المدبر لأمور العباد٥٧.
وقال الشوكاني :
اتخذ النصارى المسيح ربا معبودا وفيه إشارة إلى أن اليهود لم يتخذوا عزيرا ربا معبودا.
﴿ وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا ﴾.
أي : وما أمرهم الله في كتبه التي أنزلها إليهم إلا ليطيعوا إلها واحدا فيما أمرهم به أو نهاهم عنه.
﴿ لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ﴾.
أي : تنزه الله عز وجل، وتقدس عن الشركاء والنظراء والأعوان، والأضداد والأولاد، فهو رب العالمين وخالق الخلائق أجمعين.
قصة إسلام عدى بن حاتم الطائي
روى الإمام أحمد والترمذي وابن جرير الطبري : عن عدي بن حاتم، أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فر إلى الشام وكان قد تنصر في الجاهلية.
ثم أسرت أخته وجماعة من قومه، ثم من الرسول صلى الله عليه وسلم على أخته وأعطاها، فرجعت إلى أخيها فرغبته في الإسلام، وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدم عدي إلى المدينة، وكان رئيسا في قومه طىء، وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم ؛ فتحدث الناس بقدومه، فدخل عدي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنق عدي صليب من فضة.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية :﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله... ﴾
فقال عدي للرسول صلى الله عليه وسلم : إنهم لم يعبدوهم !
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : بلى، إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا عدي، ما تقول ؟ أيضرك أن يقال : الله أكبر ؟ فهل تعلم شيئا أكبر من الله ؟ ما يضرك ؟ أيضرك أن يقال : لا إله إلا الله ؟ فهل تعلم إلها غير الله ؟
ثم دعاه إلى الإسلام فأسلم، وشهد شهادة الحق ؛ فاستبشر وجه الرسول بإسلامه ثم قال : " إن اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون " ٥٨.
٣٢ – ﴿ يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ﴾.
هذا نوع آخر من ضلالهم، وهو ما راموه من إبطال الحق، بأقاويلهم الباطلة، والمجادلات الزائفة.
ونور الله يطلق على الإسلام، الذي بعث به الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، كما يطلق على القرآن الذي أوضح الله به وجه الحق، وكذبهم في دعاوى بنوة عزير وعيسى لله، وربوبية الأحبار والرهبان والمسيح ابن مريم، وبين شرائع الله على وجهها الحق.
﴿ ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ﴾.
أي : ولا يريد الله إلا أن يتم نوره بإعلاء كلمة الإسلام، وإتمام مجده ولو كره الكافرون ذلك.
فسواء رضي أهل الكتاب أم كرهوا، فنور الإسلام سيتم ويعم المشارق والمغارب.
وكلمة يأبى الله معناها : لا يريد أو لا يرضى.
أي : أن الله تعالى يبشر المؤمنين بإتمام الدين، ويقرر سنته لا تتغير ولا تتبدل في جعل العاقبة للحق وأهله، فهذا ما يريده ويأبى نقيضه.
قال الزمخشري : أي : لا يريد الله إلا أن يتم نوره.
وقال الآلوسي :
في الكلام استعارة تمثيلية ؛ حيث شبه سبحانه حال أهل الكتاب في محاولة إبطال نبوة النبي عن طريق تكذيبهم له، بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم مثبت في الآفاق ؛ ليطفئه بنفخة.
وروعى في كل من المشبه، والمشبه به معنى الإفراط والتفريط حيث شبه الإبطال والتكذيب بالإطفاء بالفم، ونسب النور إلى الله تعالى العظيم الشأن.
وفي شأن النور المضاف إليه سبحانه أن يكون عظيما فكيف يطفأ بنفخ الفم٥٩.
والآية وعد من الله تعالى للمؤمنين بإظهار دينهم وإعلاء كلمتهم ؛ لكي يمضوا قدما إلى تنفيذ ما كلفهم الله به، بدون إبطاء أو تثاقل، وهي في الوقت نفسه تتضمن في ثناياها الوعيد لهؤلاء الضالين وأمثالهم.
٣٣ – ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾.
هو الذي بعث رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى أي : ما يهدي به الناس من البراهين والمعجزات والأحكام التي شرعها الله لعباده. ودين الحق وهو الإسلام الذي هو الاعتقاد الحق، والتوحيد الخالص، الخالي عن صرف العبادة لأي مخلوق مهما كان عظيما ؛ ليعلى شأن هذا الدين على جميع الأديان كلها، ولو كره المشركون ذلك الإظهار.
وقد تحقق وعد الله ونصره لهذا الدين بالغلبة والقهر لغيره، وبإظهار الحجة والبرهان على عدالة الإسلام وسلامة نظامه.
وقد ساق الإمام ابن كثير طائفة من الأحاديث النبوية الشريفة ؛ التي بشرت الأمة الإسلامية بظهور الإسلام وانتصاره، ونقلها الدكتور وهبة الزحيلي في التفسير المنير، والدكتور محمد سيد طنطاوي في تفسير سورة التوبة. اه.
وهذه طائفة من هذه الأحاديث الشريفة :
١ – ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله زوى لي الأرض مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها " ٦٠.
٢ – وروى الإمام أحمد : عن المقداد بن الأسود يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا وبر إلا دخلته كلمة الإسلام، يعز عزيرا، ويذل ذليلا، إما يعزهم الله فيجعلهم من أهلها، " وإما يذلهم فيدينون لها " ٦١.
وروى هذا الحديث أيضا عن تميم الداري، " وكان تميم الداري إذا روى هذا الحديث يقول : قد عرفت ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الشرف والخير والعز، ولقد أصاب من كان كافرا منهم الذل والصغار والجزية.
٢ – وفي مسند أحمد أيضا عن عدي بن حاتم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " فوالذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الدين حتى تخرج الظعينة من الحيرة، حتى تطوف بالبيت من غير جوار أحد، ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز، قلت كسرى بن هرمز ؟ ! قال : نعم كسرى بن هرمز، ويبذلن المال حتى لا يقبله أحد ".
قال عدي بن حاتم : فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت من غير جوار أحد، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز، والذي نفسي بيده لتكونن في الثالثة ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها٦٢.
وفي ختام هذه الآيات نجد أن الحق سبحانه قد نعى على أهل الكتاب اتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، وأرشده سبحانه إلى الطريق الصحيح، وعبادة الإله الواحد، وبشر المؤمنين بظهور دينهم على الأديان كلها، " وهذا المعنى الذي نجده في الآيات ٣١ – ٣٣ من سورة التوبة، قد ورد أيضا في سورة الصف في قوله سبحانه وتعالى :
{ ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين * يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون * هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. ( الصف : ٧ - ٩ ).
ويؤخذ من هذه الآيات ما يأتي :
١ – عظم اليهود والنصارى، أحبارهم ورهبانهم، وأطاعوهم فيما حللوا وحرموا، فتركوا أوامر الله في التوراة والإنجيل واتبعوا أوامر الأحبار والرهبان، مع مخالفتها للتوراة والإنجيل، فكأنهم جعلوهم شركاء لله في الأمر والتكليف والتشريع، وليس المراد أنهم جعلوهم آلهة وعبدوهم، بل المراد : طاعوهم في أوامرهم ونواهيهم، وتركوا أوامر الكتاب.
قال الآلوسي في تفسيره :
والآية ناعية على كثير من الفرق الضالة الذين تركوا كتاب الله، وسنة رسوله، لكلام علمائهم ورؤسائهم، والحق أحق بالاتباع، فمتى ظهر الحق فعلى المسلم اتباعه، وإن أخطأه اجتهاد مقلده.
٢ – أفادت الآيات قوة الإسلام وجمال شريعته، المشتملة على الصواب والصلاح، المطابقة للحكمة والمنفعة في الدنيا والآخرة. وأن الإسلام يعلو على كل الأديان، فلا دين يصمد أمام النقاش العلمي والعقلي، غير دين الإسلام، والتاريخ على ممر الزمان، يؤكد إنجاز هذه الوعود علانية في اقتناع كبار العلماء في كل اختصاص إنساني أو علمي، بأحقيته في التدين والاعتقاد، وإصلاح الحياة البشرية.
وظهر الإسلام على كل الأديان في الماضي، ثم تأخر الإسلام، والصواب أن يقال : تأخر أهله أما هو فباق ما بقي الليل والنهار، وإذا عاد المسلمون إلى العمل به والتزموا بهديه وروحه ؛ عادت لهم السيادة والنصر إن شاء الله.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( ٣٤ ) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ( ٣٥ ) ﴾
المفردات :
ليأكلون أموال الناس بالباطل : المراد بأكلها بالباطل : أخذها بغير حق.
يكنزون : أي : يجمعون، والكنز لغة : الضم والجمع، ويطلق أيضا على كل شيء مجموع بعضه على بعض في بطن الأرض أو على ظهرها.
فبشرهم بعذاب أليم : أي : فأذرهم، والتعبير بالتبشير عن الإنذار ؛ للتهكم وتشديد الوعيد.
التفسير :
٣٤ – ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ... ﴾
تحدثت آيات سابقة عن هؤلاء الذين اتخذهم اليهود والنصارى أربابا من دون الله، وذكرت كراهيتهم للإسلام الذي هو نور الله.
وهنا يبين سوء أخلاق أولئك الأحبار والرهبان، الذين أفسدوا على الناس معتقدهم في الله، فإنهم إنما فعلوا ذلك ؛ ليتسلطوا على أكل السحت والرشوة والمال الحرام، وتغيير الأحكام والشرائع ؛ إرضاء لمن يرشونهم، كما كانوا يأخذون من أتباعهم ضرائب وفروضا باسم الكنائس وشئون الدين، ويستولون عليها أو على بعضها لشهواته وأغراضهم، ولا يكتفون بذلك بل يصدون أتباعهم، ويمنعونهم عن الدخول في دين الإسلام، واتباع محمد صلى الله عليه وسلم.
ولقد كان الإسلام حكيما وسليما، حين فتح باب المناجاة والتوبة والصلة بالله، أمام الناس جميعا، بدون وسيط فالله أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد، وهو يقبل التوبة ويغفر الذنب، ويجيب الدعاء.
قال تعالى :﴿ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ﴾. ( البقرة : ١٨٦ ).
وأكل الأحبار والرهبان أموال الناس بالباطل يتناول ما كانوا يأخذونه بغير وجه حق، كالفتاوى الباطلة، والرشوة والتدليس، والتحاليل على تحليل الحرام وتحريم الحلال.
وأسند سبحانه هذه الجريمة إلى كثير من الأحبار والرهبان، ولم يسندها إلى جميعهم ؛ إنصافا للعدد القليل منهم، الذي لم يفعل ذلك.
هذا من دقائق التعبير، وتحري الحق في عبارات الكتاب العزيز.
فهو لا يحكم على الأمة الكبيرة بفساد جميع أفرادها، أو فسقهم أو ظلمهم، بل يسند ذلك إلى الكثير أو الأكثر.
مثل قوله تعالى – في اليهود – ﴿ وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعداون وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون ﴾. ( المائدة : ٦٢ ).
﴿ ويصدون عن سبيل الله ﴾.
أي : أنهم يصرفون الناس عن الدين الحق، وعن الطريق الموصلة إلى الله، وهي دين الإسلام، ويصرفون أتباعهم عنه بشتى الوسائل، كأن يصفوه لأتباعهم بأنه دين باطل، أو بأن رسوله ليس هو الرسول الذي بشرت به التوراة والإنجيل والكتب السماوية السابقة.
﴿ والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ﴾.
وهذه الفقرة تتحدث عن طائفة الأحبار والرهبان، بأنه يكنزون المال ويبخلون به عن المستحقين، كما أن معناها يتناول البخلاء من المسلمين الذين يمنعون الزكاة، ولا ينفقون من أموالهم على المحتاجين، أو المتضررين في الكوارث والزلازل وأشباه ذلك.
فاللفظ مطلق عام، يشمل البلاء الكانزين المانعين للزكاة والنفقة الواجبة ؛ سواء أكانوا من الأحبار والرهبان أم من المسلمين.
وهناك من قصر هذه الفقرة على الأحبار والرهبان، وفريق ثان ذكر أنها جملة مستأنفة تتحدث عن المسلمين وفريق ثالث ذكر أن معناها عام يشمل أهل الكتاب ويشمل المسلمين.
ولما نزلت هذه الآية ظن المسلمون أنه لا يحل لهم كنز المال، وأنه يجب إنفاقه كله في سبيل الله، فكبر ذلك على المسلمين، فقال صلى الله عليه وسلم : " ما أدى زكاته فليس بكنز " ٦٣. أي : فليس بكنز معاقب عليه بما جاء في هذه الآية.
وكان أبو ذر الغفاري يرى أن الكنز ما فضل عن الحاجة وجمهور المسلمين على أن الكنز ما لم يؤد زكاته ؛ فما أدى زكاته فليس بكنز ؛ فقد جعل الله الزكاة طهرة للمال.
قال تعالى :﴿ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم ﴾ بها... ( التوبة : ١٠٣ ).
وحمل أبو ذر على الأغنياء ؛ رغبة منه في أن يخرجوا عما زاد عن حاجتهم ونفقتهم، وحدث خلاف بين أبي ذر ومعاوية في تفسير الآية.
فقال معاوية : نزلت في أهل الكتاب.
وقال أبو ذر : نزلت فينا وفيهم، واشتد الخلاف بينهما.
فكتب معاوية إلى عثمان : يشكو من أبي ذر، فاستقدمه عثمان إلى المدينة، فتكاثر عليه الناس، فأخرجه عثمان إلى الربذة ؛ وعاش أبو ذر وحده بعيدا عن الناس، ومات وحده، ويبعث وحده يوم القيامة.
قال القرطبي :
وتفسير الكنز بأنه ما فضل عن الحاجة، انفرد به أبو ذر وهو من شدائده المنقولة عنه. اه.
وقيل : الكنز ما لم تؤد منه الحقوق العارضة، كفك الأسير وإطعام الجائع، وغير ذلك من الحقوق التي تجب على الأغنياء في وقت شدة الحاجة، ولا يكون في بيت المال ما يكفي المحتاجين، ولا يجوز ادخار الذهب والفضة في مثل تلك الحال.
وخص الذهب والفضة بالذكر ؛ لأنهما الأصل الغالب في الأموال، ولأنهما هما اللذان يقصدان بالكنز أكثر من غيرهما، ولا يكنزهما إلا من فضلا عن حاجته ومن كثرا عنده حتى يكنزهما لم يعدم سائر أجناس المال ؛ فكان ذكر كنزهما دليلا على ما سواهما٦٤.
وقد سلك الإسلام منهجا معتدلا بالنسبة للمال ؛ فأباح جمعه وتثميره بلا حدود ما قد جمع من حلال، وأنفق في حلال بالطرق المشروعة.
ومع ذلك أمر الله بالقصد في الدنيا والاعتدال في جمع المال ؛ ثقة بأن العبد عليه أن يسعى، وأن رزقه عند الله الرازق.
وما ذهب إليه معاوية في أن الآية خاصة بأهل الكتاب رأى ضعيف، وما ذهب إليه السدي في أن الآية في ما نعى الزكاة من المسلمين خاصة رأى ضعيف أيضا ؛ لأن سياق الآية يرشحها لأن تكون شاملة لأهل الكتاب ولما نعي الزكاة من المسلمين وهو الرأي الراجح.
وجاء في التفسير الوسيط لمجمع البحوث الإسلامية في الأزهر.
والمعنى : والذين يجمعون الذهب والفضة، ولا ينفقونها في سبيل الله، وهو ما تشتد حاجة المسلمين إليه من زكاة، وفك أسير، وإطعام جائع، وتفريج ضائقة، وغير ذلك من الحقوق التي أوجبها الشرع في المال ؛ فأنذرهم بعذاب أليم.
٣٥ – ﴿ يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم... ﴾ الآية.
أي : يعذب الكانزون يوم توقد النار على أموالهم ؛ التي لم يؤدوا حق الله فيها.
فتكوى بها جباههم التي كانوا يترفعون بها على الناس ؛ وجنوبهم التي طالما انتفخت من كثرة الشبع وغيرها جائع، وظهورهم التي طالما أداروها للفقراء.
قال الزمخشري :
لأنهم كانوا إذا أبصروا الفقير عبسوا، وإذا ضمهم وإياه مجلس ازوروا عنه، وتولوا بأركانهم وولوه ظهورهم.
﴿ هذا ما كنزتم لأنفسكم ﴾.
أي : يقال لهم : هذا ما كنزتموه لتنتفعوا به فهذا نفعه، على طريقة التهكم والتوبيخ.
﴿ فذوقوا ما كنتم تكنزون ﴾.
أي : ذوقوا وبال كنزكم للمال وسوء عاقبته.
عن ابن عمر في هذه الآية قال : إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلما نزلت الزكاة جعلها الله طهرة للأموال.
ثم قال : ما أبالي لو كان عندي مثل أحد ذهبا ؛ أعلم عدده وأزكيه، وأعمل فيه بطاعة الله.
من هدى السنة
ورد في السنة المطهرة والأحاديث الصحيحة : أن مانع الزكاة يعذب عذابا شديدا في النار.
ففي حال يمثل المال فيه ثعبانا، وفي حال يكون صفائح من نار، وفي حال يكون رضفا( حجارة محماة ).
روى البخاري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته ؛ مثل له يوم القيامة شجاعا أقرعا له زبيبتان يطوّقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه – يعني : شدقيه – ثم يقول : أنا مالك أنا كنزك... " ٦٥.
وأورد ابن كثير طائفة من الأحاديث النبوية عند تفسير هذه الآية.
ثم قال ابن كثير : وفي الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر : " ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهبا، يمر على ثلاثة أيام وعندي منه شيء، إلا دينار أرصده لدين " ٦٦. فهذا والله أعلم هو الذي حدا بأبي ذر إلى القول بأن كل ما زاد عن النفقة فهو كنز يذم فاعله.
من كلام المفسرين
١ – قال الزمخشري في تفسيره لهذه الآية :
فإن قلت : فما تصنع بما روى سالم بن الجعد رضي الله عنه أنها لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تبا للذهب، تبا للفضة " قالها ثلاثا فقالوا له : أي مال نتخذ ؟ قال : " لسانا ذاكرا، وقلبا خاشعا، وزوجة تعين أحدكم على دينه " ٦٧. وبقوله عليه الصلاة والسلام : " من ترك صفراء أو بيضاء كوى بها... " ٦٨.
قلت : كان هذا قبل أن تفرض الزكاة، فأما بعد فرض الزكاة ؛ فالله أعدل وأكرم من أن يجمع عبده مالا من حيث أذن له فيه، ويؤدى عنه ما أوجب عليه فيه، ثم يعاقبه ؛ ولقد كان كثير من الصحابة كعبد الرحمان بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، وعبيد الله رضي الله عنهم ؛ يقتنون الأموال، ويتصرفون فيها وما عابهم أحد... ٦٩.
٢ – قال القرطبي في تفسيره :
" قرر الشرع ضبط الأموال، وأداء حقها، ولو كان ضبط المال ممنوعا ؛ لكان حقه أن يخرج كله، وليس في الأمة من يلزم هذا، وحسبك حال الصحابة وأموالهم – رضوان الله عليهم – وأما ما ذكر عن أبي ذر فهو مذهب له... ".
٣ – جاء في تفسير القاسمي ما يأتي :
قال ابن عبد البر : وردت عن أبي ذر آثار كثيرة تدل على أنه كان يذهب إلى : أن كل مال مجموع يفضل عن القوت، وسداد العيش فهو كنز يذم فاعله، وأن آية الوعيد نزلت في ذلك.
وخالفه جمهور الصحابة ومن بعدهم، وحملوا الوعيد على مانعي الزكاة، وأصح ما تمسكوا به حديث طلحة وغيره في قصة الأعرابي، قال : هل علي غيرها ؟ قال : " لا إلا أن تطوع ". اه.
فسأله عن حق الله في المال ؛ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم عن الزكاة، فقال الإعرابي : وهل على غيرها ؟ قال : " لا إلا إن تطوع ".
قال : فأدبر الرجل وهو يقول : والذي بعثك بالحق لا أزيد عليها ولا أنقص.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أفلح إن صدق " ٧٠.
جاء في تفسير الفخر الرازي لهذه الآية ما يأتي :
اعلم أن الطريق الحق أن يقال : الأولى أن لا يجمع الرجل الطالب للدين المال الكثير ؛ إلا أنه لم يمنع عنه في ظاهر الشرع، فالأول : محمول على التقوى، والثاني : على ظاهر الفتوى.
أما بيان أن الأولى الاحتراز عن طلب المال الكثير فبوجوه منها :
١ – إن كثرة المال سبب لكثرة الحرص في الطلب، والحرص متعب للروح والنفس والقلب... والعاقل هو الذي يحترز عما يتعب روحه ونفسه وقلبه.
٢ – إن كسب المال شاق شديد، وحفظه بعد حصوله أشد وأشق وأصعب، فيبقى الإنسان طول عمره تارة في طلب التحصيل، وأخرى في تعب الحفظ...
٣ – إن كثرة الجاه والمال تورث الطغيان كما قال تعالى :﴿ إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى ﴾. اه. ( العلق : ٦، ٧ ).
{ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ( ٣٦ )
المفردات :
عدة الشهور : أي : عددها.
في كتاب الله : المراد به : إما علمه تعالى، أو اللوح المحفوظ، أو ما كتبه وأوجبه.
حرم : جمع حرام، والمراد من كون الشهر حراما : أن القتال محرم فيه.
الدين القيم : الدين المستقيم السليم من العوج.
كافة : جميعا.
التفسير :
٣٦ – ﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ... ﴾ الآية.
يخبر الله تعالى عن أشهر السنة فيقول :
إن عدة الشهور في علمه تعالى وحكمه، وفيما كتبه وأوجبه الأخذ به، وأثبته في نظام دورة القمر، وفي اليوم الذي خلق فيه السماوات والأرض، وخلق العالم ؛ اثنا عشر شهرا على النحو المألوف اليوم والمراد : الأشهر القمرية ؛ لأن الحساب بها يسير ؛ يعتمد على رؤية القمر، من كل الناس المتعلمين والعوام والمراد بقوله : في كتاب الله. فيما كتبه الله وقدره.
قال أبو السعود : في اللوح المحفوظ، أو فيما أثبته وأوجبه.
والمراد بقوله :﴿ يوم خلق السماوات والأرض ﴾.
أي : يوم أبدع نظام الكون منذ خلق الله الأجرام والحركات والأزمنة، وأوجد الليل والنهار، وأضاء الليل بالقمر، ونور النهار بالشمس، وأوجد نظاما بديعا متكاملا تحفظه يد القدرة الإلهية.
﴿ منها أربعة حرم ﴾.
أي : من هذه الشهور الاثني عشر، أربعة حرم، وحرم الله فيها القتال منذ شريعة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وهذه الشهور الأربعة هي : " ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب ". منها ثلاثة متوالية سرد، وواحد فرد، هو رجب بين شعبان وجمادى.
قال ابن كثير :
وإنما كانت الأشهر المحرمة أربعة، ثلاثة سرد، وواحد فرد ؛ لأجل أداء مناسك الحج والعمرة، فحرم قبل الحج شهرين وهما ذو القعدة، وذو الحجة ؛ لأنهم يوقعون فيهما الحج، ويشتغلون بأداء المناسك، وحرم بعدهما شهرا آخر هو المحرم ؛ ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين، وحرم رجب في وسط الحول ؛ لأجل زيارة البيت والاعتمار به لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب، فيزوره ثم يعود إلى وطنه آمنا.
من هدي السنة
روى الإمام أحمد، والبخاري في التفسير : عن أبي بكرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجة الوداع فقال : " ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ؛ السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات : ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان... " ٧١. إلى آخر الحديث ومعنى : استدارة الزمان كهيئته : رجوع الأشهر إلى ما كانت عليه من الحل والحرمة ؛ كل منها في موضعه من الزمان، وعاد الحج إلى ذي الحجة في حجة الوداع في سنة عشر، وكانت حجة أبي بكر في ذي القعدة سنة تسع، قبل حجة النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة٧٢.
﴿ ذلك الدين القيم ﴾.
ذلك التحريم لهذه الشهور في مواضعها هو الدين القويم الذي دان به إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وكانت العرب قد تمسكت به وتوارثته عنهما، وكانوا يعظمون الأشهر الحرم ؛ ويكرهون القتال فيها حتى أنه لو لقي رجل قاتل أبيه أو أخيه لم يتعرض له، وسموا رجبا : شهر الله الأصم أي : الذي لا تسمع فيه قعقعة السيوف.
﴿ فلا تظلموا فيهن أنفسكم ﴾.
أي : لا تهتكوا حرمتها، بارتكاب ما حرم فيها من القتال أو المعاصي.
قال أبو السعود في التفسير :
والجمهور : على أن حرمة القتال فيهن منسوخة، وأن الظلم فيهن : ارتكاب المعاصي في هذه الأشهر الحرم ؛ فإنه أعظم وزرا، كما أن ارتكاب المعاصي في الحرم أعظم وزرا. وعن عطاء : إن تحريم القتال في الأشهر الحرم ثابت محكم لم ينسخ بهذه الآية، إلا أن يبدأ العدو بالقتال فيها فنقاتله لقوله تعالى :﴿ الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين ﴾. ( البقرة : ١٩٤ ).
ويؤيد رأى الجمهور أن النبي صلى الله عليه وسلم : حاصر الطائف، وغزا هوزان بحنين في شوال وذي القعدة.
وعن قتادة : أن الله اصطفى صفايا من خلقه، اصطفى من الملائكة رسلا، ومن الناس رسلا، واصطفى من الكلام ذكره، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلة القدر، فعظموا ما عظم الله، فإنما تعظم الأمور بما عظمها الله عند أهل الفهم.
﴿ وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ﴾.
أي : قاتلوا المشركين مجتمعين غير متفرقين ؛ كما يقاتلونكم كذلك.
قال الآلوسي في التفسير :
وكلمة كافة. من الكلمات التي لا تثنى ولا تجمع ولا تدخلها ال ولا تعرب إلا حالا فهي ملتزمة للإفراد والتأنيث مثل : عامة وخاصة. ا. ه. أي : قاتلوا المشركين حال كونكم مجتمعين متعاونين متناصرين غير مختلفين ولا متخاذلين، كما يقاتلونكم كذلك.
ومن العلماء من قال : إن الآية أوجبت القتال على كل قادر، ثم نسخ ذلك فجعل فرض كفاية.
وقد بين المرحوم الأستاذ عبد الكريم الخطيب : أن الدين الإسلامي دين عقيدة، لا إكراه فيه، ولا يجبر أحد على اعتناقه، ووجوب قتال المشركين كافة ؛ كان مرتبطا بحال معينة هي وضع المشركين في جزيرة العرب الذين كونوا طابورا خامسا ؛ يتجسسون على المسلمين، وينقلون عوراتهم إلى أعدائهم.
وأنكر ابن عطية أن هذه الآية أوجبت القتال على كل قادر ؛ فقال : لم يعلم قط عن شرع النبي صلى الله عليه وسلم أنه ألزم الأمة جميعا النفر والقتال، وإنما معنى هذه الآية : الحض على قتال المشركين وجمع الكلمة.
وجاء في التفسير المنير للدكتور وهبة الزحيلي :
وهذا القول بإباحة القتال في الأشهر الحرم هو المعتمد شرعا، ويحتمل أن يكون قوله تعالى :﴿ وقاتلوا المشركين كافة ﴾. منقطعا عما قبله، وأنه حكم مستأنف، للتحريض على قتال المشركين، أي : كما يجتمعون لحربكم إذا حاربوكم ؛ فاجتمعوا أنتم أيضا لهم إذا حاربتموهم، وقاتلوهم بنظير ما يفعلون. اه.
﴿ واعلموا أن الله مع المتقين ﴾.
أي : واعلموا أن الله مع عباده المتقين بالعون والنصر، والمعونة على الأعداء ؛ فكونوا مع الله مبتعدين عن معاصيه، واجعلوا بينكم وبين المعاصي وقاية من تقوى الله ومخافته، وبهذا يكون الله معكم معينا وناصرا، ومن وجد الله وجد كل شيء، ومن فقد الله فقد كل شيء.
﴿ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ( ٣٧ ) ﴾
المفردات :
النسىء : تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر.
ليواطئوا : ليوافقوا.
عدة : عدد.
التفسير :
٣٧ – ﴿ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا... ﴾ الآية.
تكشف هذه الآية عن عبث المشركين بحرمات الله، والاستخفاف بها، والاحتيال على خداع أنفسهم بتزيين الباطل، وإلباسه ثوب الحق ؛ فقد كان المشركون في الجاهلية يحرمون هذه الأشهر الحرم التي هي بعض البقية الباقية لهم من شريعة إبراهيم التي كانوا يدينون بها، ثم أدخلوا عليها من أهوائهم ما أفسدها حتى هذه الأشهر الحرم، فقد استثقلوها، وضاقوا بأن تظلهم ثلاثة أشهر متوالية دون قتال، وهي : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم.
فكانوا يعمدون إلى شهر المحرم فينسئونه، أي : يؤخرونه إلى صفر ويقيمون صفر مقامه.
وبهذا يخلعون على المحرم اسم صفر، ويبيحون فيه القتال، ويسمون صفر ؛ محرما ويحرمون في القتال.
وكأن المقصود عندهم عدد الشهور لا ذاتها. أليسوا قد حرموا أربعة أشهر ؟ وماذا في استبدال شهر بشهر آخر ؟ فيحلون المحرم عاما إذا جاءوهم محاربون ؛ ليستبيحوا فيه القتال، ويحرمون المحرم في عام آخر، إذا لم تدع للقتال داعية عندهم.
والمعنى :
إنما تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر زيادة في الكفر، لما فيه من تحليل ما حرمه الله، وتحريم ما أحله الله، فهو كفر آخر مضموم إلى كفرهم بالله، وبذلك يكونون قد جمعوا بين الكفر في العقيدة، والكفر في التشريع.
﴿ يضل به الذين كفروا ﴾ : أي : إن الذي سن لهم ذلك ؛ يجعلهم ضالين بهذه السنة السيئة.
﴿ يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله ﴾.
أي : يحلون الشهر الحرام عاما، ويجعلون مكانه في التحريم شهرا حلالا، ويحافظون على حرمته كما كان في شرع إبراهيم عاما آخر، إذا لم يتعلق بتغييره غرض من أغراضهم.
يفعلون ذلك ؛ لكي يوافقوا عدد ما حرم الله من الأشهر الحرم.
﴿ ليواطئوا عدة ما حرم الله ﴾.
أي : ليوافقوا بما فعلوه عدة الأشهر الحرم، بحيث تكون أربعة في العدد، وإن لم تكن عين الأشهر المحرمة في شريعة الله.
جاء في تفسير الفخر الرازي :
قال ابن عباس : ما أحل المشركون شهرا من الأشهر الحرم ؛ إلا حرموا مكانه شهرا من الأشهر الحلال، وما حرموا شهرا من الحلال إلا أحلوا مكانه شهرا من الأشهر الحرم ؛ لكي يكون عدد الأشهر الحرم أربعة. اه.
ونلاحظ أنهم خالفوا التخصيص الذي أوجبه الله، وهو تحريم أربعة أشهر بعينها، وترتب على ذلك : أنهم أحلوا ما حرم الله مثل : المحرم، وحرموا ما أحل الله مثل : صفر.
قال تعالى :﴿ فيحلوا ما حرم الله ﴾.
أي : من الأشهر الحرم التي أبدلوها بغيرها.
﴿ زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين ﴾.
أي : زين لهم الشيطان والرؤساء الأعمال السيئة التي يعملونها ومن جملتها : النسئ.
وقد اقتضت حكمة الله أن يمد المتقين بأسباب الهداية، أما الكافرين الذين اختاروا العمي على الهدي، وآثروا طريق الغي على طريق الرشاد ؛ فإن الله لا يهديهم إلى طريقه القويم.
في أعقاب تفسير الآيات
١ – يستنبط من كلام ابن كثير في تفسيره : أنه يميل إلى القول : بأن المنهي عنه هو ابتداء القتال في الأشهر الحرم لا إتمام القتال فيها متى بدأ الأعداء ذلك، وهو قريب من قول القائل : لا يحل القتال فيها ولا في الحرم إلا أن يكون دفاعا.
٢ – ذكر المفسرون روايات متعددة في اسم أول من أخر حرمة شهر إلى آخر.
قيل : أول من أحدث النسئ : جنادة بن عوف الكناني وكان مطاعا في الجاهلية، كان يقوم على جبل في الموسم فينادي بأعلى صوته : إن آلهتكم قد أحلت لكم المحرم فأحلوه، ثم يقوم في العام القابل فيقول : إن آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم فحرموه.
وقال آخرون : هو رجل من بني كنانة يقال له : القلمس، ولعله ظهر بعد موت من سبقه.
وكان بعض أهل الجاهلية يتفاخر بهذا النسئ، فيقول شاعرهم : ومنا ناسئ الشهر القلمس.
ويقول آخر :
ألسنا الناسئين على معد شهور الحل نجعلها حراما
٣ – عدد الشهور القمرية ١٢ شهرا، والواجب في شريعتنا الاعتماد على السنة القمرية في العبادات كالصوم والحج وغيرها ؛ وذلك حتى يصوم المسلم ويحج في سائر شهور العام وفصوله ؛ فيعبد الله في الصيف والشتاء والربيع والخريف.
قال تعالى :
﴿ يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج ﴾. ( البقرة١٨٩ ).
وينبغي أن ننبه المسلمين إلى العناية بالتاريخ الهجري العربي، فيحافظوا على ذكره ومعرفته مع التاريخ الميلادي الشمسي أو القبطي. يجب أن نذكرهما معا. ونعتز بتاريخنا ولا نهمل حفظه ومعرفته ؛ فذلك جزء من شعائر الدين. قال تعالى :﴿ ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ﴾. ( الحج : ٣٢ ).
٤ – نلاحظ أن سورة التوبة من بدايتها إلى نهاية الآية ٣٧ قد حددت العلاقات النهائية، بين المسلمين وبين أعدائهم من المشركين وأهل الكتاب، كما نراها أبرزت الأسباب التي دعت إلى هذا التحديد بأسلوب حكم مؤثر يقنع العقول ويشيع العواطف.
وفي الآيات القادمة تنتقل السورة إلى الحديث عن غزوة تبوك، وما يتصل بها من أحداث متنوعة، وقد استغرق هذا الحديث معظم آيات السورة لا سيما فيما يتعلق بهتك أستار المنافقين والتحذير منهم.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيل ( ٣٨ ) إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( ٣٩ ) ﴾
المفردات :
انفروا في سبيل الله : اخرجوا للجهاد في سبيله.
اثاقلتم : تباطأتم.
متاع الحياة الدنيا : المراد من متاعها : التمتع بلذائذها.
التفسير :
٣٨ – ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ.... ﴾الآية.
سبب نزول هذه الآيات وما بعدها : أن النبي صلى الله عليه وسلم استنفر أصحابه ؛ ليخرجوا معه في غزوة تبوك، وكانت سنة تسع من الهجرة بعد الفتح بعام.
وكان الحر شديدا، وبالناس عسر وقحط، وقد نضجت ثمار المدينة وطابت ظلالها.
وتبوك في منتصف الطريق بين المدينة ودمشق، تبعد عن الأولى ٦٩٠ كم، وعن الثانية ٦٩٢ كم ؛ فالشقة بعيدة، والعدو قوي وكثير، فشق عليهم ذلك، وتباطئوا في الاستجابة، فنزلت هذه الآيات ؛ تحثهم على التضحية بالنفس والمال في سبيل الله.
والمعنى :
يا أيها المؤمنون بالله ورسوله، أي شيء حصل لكم ؟ فثبطكم عن النهوض للجهاد ؟ حين قال لكم الرسول الأمين : انفروا في سبيل الله لقتال الروم الذين تجهزوا لقتالكم ؛ ثتاقلتم وتكاسلتم وملتم إلى الراحة وطيب الثمار، والتفيؤ في الظلال، وكرهتم مشاق الغزو ومتاعبه.
من كتب السيرة
جاء في سيرة ابن هشام وغيرها من كتب السيرة النبوية : أن سبب هذه الغزوة ؛ استعداد الروم والقبائل العربية المنتصرة من لخم وجذام وغيرهم، وتجهيز جيش كثيف لغزو المدينة بقيادة( قباذ ) وعدد جنده أربعون ألفا.
فندب النبي صلى الله عليه وسلم الناس للخروج لمقاتلتهم وكان عثمان قد جهز عيرا إلى الشام للتجارة، فقال : يا رسول الله، هذه مائتا بعير بأقتابها وأحلاسها، ومائتا أوقية( من الفضة )، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم " ٧٣.
" ولما لم يجد النبي من يقاتله عاد إلى المدينة، بسبب انسحاب الروم، وعدولهم عن فكرة الزحف ؛ واقتحام الحدود، ولكن كان لهذه الغزوة أثر معنوي كبير، في نظر العرب والروم، فكانت كفتح مكة ؛ لأنها كانت احتكاكا بأعظم قوة حينذاك، وأثرت على المدى البعيد في نفوس الأعداء، بعد أن كان العرب يخشون غزو الروم في عقر دارهم، وقد مهد الله بهذه العزوة. لغزو المسلمين للشام في عهد الخليفتين : أبى بكر وعمر٧٤ ".
﴿ أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ﴾.
أرضيتم بلذات الحياة الدنيا الزائدة بدلا من الآخرة ونعيمها الدائم ؟
إن كنتم فعلتم ذلك ؛ فقد تركتم الخير الكثير في سبيل الشيء الحقير ؛ فما متاع الحياة الدنيا في جنب متاع الآخرة إلا قليل ؛ لا ينبغي أن يحرص عليه ؛ لأنه لا يصلح عوضا عن المتاع الكثير في الآخرة.
روى الإمام أحمد ومسلم والترمذي : عن المستورد أخي بني فهر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليم فلينظر بم ترجع ؟ " ٧٥ وأشار بالسبابة.
وروى ابن أبي حاتم : عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله يجزي بالحسنة ألفي ألف حسنة "، ثم تلا هذه الآية :﴿ فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ﴾٧٦.
٣٩ – ﴿ إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ... ﴾ الآية
أي : إن تباطأتم أيها المؤمنون عن الجهاد ؛ يعذبكم الله عذابا أليما، ويستبدل بكم قوما سواكم لنصرة نبيه، ولن تضروه شيئا من الضرر بسبب تقاعسكم ؛ لأنكم أنتم الفقراء إليه والله هو الغني الحميد.
﴿ ولا تضروه شيئا ﴾.
الضمير يمكن أن يعود إلى الله عز وجل. أي : لا تضروا الله شيئا بتوليكم عن الجهاد وتثاقلكم ؛ فهو القاهر فوق عباده.
وقيل : الضمير للرسول أي : ولا تضروه ؛ لأن الله وعده أن يعصمه من الناس، وأن ينصره، ﴿ ولن يخلف الله وعده ﴾. ( الحج : ٤٧ ).
﴿ والله على كل شيء قدير ﴾.
فهو سبحانه قادر على الانتصار من الأعداء بدونكم وقد وعد رسوله بالنصر، وإظهار دينه، فإن لم يكن هذا الإظهار بأيديكم، فلا بد أن يكون بأيدي غيركم ؛ وهو سبحانه فعال لما يريد.
وقد اشتملت هذه الآية والآية التي قبلها على أقوى الأساليب التي ترغب في الجهاد، وترهب من النكوص عنه، وتبعث على الطاعة لله ورسوله.
﴿ إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ( ٤٠ ) ﴾.
المفردات :
ثاني اثنين : أي : أحد اثنين، هما الرسول صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر رضي الله عنه.
الغار : هو في اللغة : فجوة في الجبل تشبه البيت، كالمغارة والكهف، والمراد به هنا : غار جبل ثور الواقع على بعد ساعة سيرا من مكة، وقد مكثا فيه ثلاثة أيام.
سكينته : طمأنينته التي تسكن عندها القلوب.
التفسير :
٤٠ – ﴿ إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ.... ﴾الآية.
أي : إن تركتم نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ فالله تعالى متكفل به، فقد نصره في مواطن القلة، وأظهره على عدوه بالغلبة والقهر.
أو المعنى : فسينصره من نصره حين لم يكن معه إلا رجل واحد وقت إخراج الذين كفروا له، وهو واحد من اثنين فحسب، إذ كان معه أبو بكر رضي الله عنه فقد حفظهما الله تعالى وهما يسيران وحدهما نحو الغار للاختفاء فيه، حتى ينقطع الطلب عنهما، ثم حفظهما في الغار ثلاث ليال، وأعمى عنهما عيون الأعداء، حيث كان الكفار فوق الغار ؛ فقال أبو بكر : يا رسول الله : لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : يا أبا بكر، ما بالك باثنين الله ثالثهما ﴿ لا تحزن إن الله معنا ﴾. أي : بالعون والحماية من المكاره ؛ فلن تصل إلينا أيديهم بسوء.
روى أحمد والشيخان عن أنس قال : " حدثني أبو بكر قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار، فرأيت آثار المشركين، فقلت : يا رسول الله، لو أن أحدهم رفع قدمه لأبصرنا تحت قدمه ؛ فقال : يا أبا بكر، ما ظنك باثنين، الله ثالثهما، وفي رواية أحمد : " لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه " ٧٧.
فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها.
أي : فأنزل الله طمأنينته وتأييده ونصره عليه أي : على الرسول صلى الله عليه وسلم في أشهر القولين وقيل : على أبي بكر حتى هدأ واطمأن.
وأيده بجنود لم تروها.
أيد الله رسوله بجنود خفية لم تقع عليها أبصاركم، فلم يستطع أعداؤه بسبب هذه الحراسة الربانية أن يصلوا إلى مأربهم، وإن وصلوا إلى الغار الذي يؤويه وعادوا خائبين.
روى : أن قريشا أتت بقائف معروف بقفاء الأثر، حتى وقف على الغار، فقال : هنا انقطع الأثر فنظروا فإذا العنكبوت قد نسج على فم الغار من ساعته٧٨.
قصة الهجرة
رغبت قريش في قتل الرسول صلى الله عليه وسلم فبيتوه ورصدوه، واجتمعوا على باب منزله طوال ليلتهم ؛ ليقتلوه إذا خرج، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب أن ينام على فراشه، وفي هذه مخاطرة من علي بحياته ؛ لحماية الرسول صلى الله عليه وسلم. ودعا النبي صلى الله عليه وسلم أن يعمى الله عليهم أثره ؛ فطمس الله على أبصارهم ؛ فخرج وقد غشيهم النوم.
فلما أصبحوا خرج عليهم علي وأخبرهم : أن ليس في الدار أحد ؛ فعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فات ونجا.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر، ثم خرجا من خوخة( ثغرة ) في ظهر دار أبي بكر ؛ ونهضا نحو الغار في جبل ثور.
واتفقا مع عبد الله بن أريقط، أن يأتي إليهما بعد ثلاث ليال إلى الغار، وكان عارفا بالطريق، فاستأجراه ؛ ليدل بهما إلى المدينة، وكان كافرا على دين قومه، لكنهما وثقا به ودفعا إليه راحلتين ؛ ليأتي بهما إلى الغار.
وكان عبد الله بن أبي بكر يستمع ما يقول الناس، وينقله إليهما، وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما بالطعام، وكان عامر بن فهيرة يرعى غنمه إلى الغار، فيخفى آثار عبد الله وأسماء.
عناية الله إن تولت ضعيفا تعبت مراسه الأقوياء
﴿ وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم ﴾.
أي : قضى الله على دولة المشركين، وجعل كلمتهم وضيعة مقهورة.
﴿ وكلمة الله هي العليا ﴾. أي : كلمة التوحيد، ودعوة الإسلام، ودعوة الإسلام ؛ صفتها الدائمة أنها فوق كل كلمة، والإسلام يعلو ولا يعلى عليه.
وقد مكن الله رسوله من الهجرة إلى المدينة، وحفظه في الغار، ويسر الله له طرق الجهاد حتى فتحت مكة ودخل الناس في دين الله أفواجا.
﴿ والله عزيز حكيم ﴾. أي : هو سبحانه غالب قاهر، لا يفعل إلا ما فيه حكمة وصواب.
ويؤخذ من الآيات ما يأتي
١ – فضل أبي بكر الصديق ؛ فهو صاحب الرسول وعونه ورفيقه في الغار ؛ في وقت تكالب عليه الأعداء.
٢ – جواز الاستعانة بالمشركين ؛ كما استعان النبي بعبد الله بن أريقط، وائتمنه على سره وعلى الراحلتين.
قال المهلب : وفي هذا من الفقه ائتمان أهل الشرك على السر والمال ؛ إذا علم منهم وفاء ومروءة، كما ائتمن النبي هذا المشرك على سره في الخروج من مكة وعلى الناقتين.
وقال ابن المنذر : فيه استئجار المسلمين الكفار على هداية الطريق.
٣ – عناية الله لرسوله وحفظه وحراسته وهو أمام عدو قوي عنيد.
٤ – من وجد الله ؛ وجد كل شيء ومن فقد الله ؛ فقد كل شيء٧٩.
٥ – ساق الإمام فخر الدين الرازي، والشيخ رشيد رضا في تفسير المنار اثني عشر وجها في فضل أبي بكر الصديق، فهو أول من أسلم من الرجال، وهو وزير النبي وصاحبه في الغار، وخليفته على الصلاة، وقائد المسلمين في حروب الردة، والمنفق ماله في سبيل الله، وورد فضله في الأحاديث الصحيحة.
﴿ انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٤١ ) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ( ٤٢ ) ﴾.
المفردات :
انفروا خفافا وثقالا : أي : اخرجوا للجهاد على أي حال، سواء سهل على نفوسكم فخفت ونشطت، أو شق عليها فثقلت.
التفسير :
٤١ – ﴿ انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ... ﴾ الآية.
أي : اخرجوا للجهاد في سبيل الله على أي حال كنتم، من يسر أو عسر، صحة أو مرض، غنى أو فقر، شغل أو فراغ منه، كهولة أو شباب.
وجاهدوا أعداءكم ببذل أموالكم، وببذل أنفسكم في سبيل الله، أي : في سبيل إعلاء كلمة الله ونصرة دينه.
﴿ ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ﴾.
ذلكم المأمور به من النفر والجهاد في سبيل الله ؛ خير لكم في دنياكم وآخرتكم من التثاقل عنهما ؛ إن كنتم من أهل العلم بحقيقة ما بين لكم خالقكم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
روى الشيخان والنسائي : عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تكفل الله للمجاهد في سبيله، إن توفاه أن يدخله الجنة، أو يرده إلى منزله بما نال من أجر أو غنيمة " ٨٠.
من أحكام الآية
تدل هذه الآية على أن الجهاد والنفير العام كان فرض عين في غزوة تبوك ؛ نظرا لبعد الشقة وكثرة العدو.
روى ابن عباس عن أبي طلحة في قوله تعالى :﴿ خفافا وثقالا ﴾. قال : شبابا وكهولا، ما قبل الله عذر أحد في التخلف عن الجهاد ؛ فخرج أبو طلحة إلى الشام فجاهد حتى مات.
ومن العلماء من يرى أن هذه الآية قد نسخت بآيات أخرى.
فروى عن ابن عباس وآخرون : أنها منسوخة بقوله تعالى :﴿ ليس على الضعفاء ولا على المرضى ﴾( التوبة : ٩١ ).
وجاء في حاشية الجمل على تفسير الجلالين :
" والصحيح أن هذه الآية منسوخة ؛ لأن الجهاد من فروض الكفاية وأنه ليس على الأعيان ".
قال القرطبي في تفسيره :
والصحيح أنها ليست بمنسوخة، ويبقى الجهاد فرض عين إذا تعين بغلبة العدو على قطر من الأقطار ؛ فيجب حينئذ على جميع أهل تلك الدار، أن ينفروا ويخرجوا إلى الجهاد خفافا وثقالا، شبانا وشيوخا، كل على قدر طاقته، يخرج الابن بغير إذن أبيه، ولا يتخلف أحد يقدر على الخروج، فإن عجز أهل تلك البلدة عن القيام بدحر العدو، كان على من قاربهم وجاورهم أن يخرجوا ؛ لتحقيق الهدف المرجو ؛ فالمسلمون كلهم يد واحدة على من سواهم، حتى إذا قام هؤلاء بدفع العدو ؛ سقط الغرض عن الباقين.
ولو قارب العدو دار الإسلام، ولم يدخلوها ؛ لزم المسلمين أيضا الخروج إليه ؛ حتى تعلو كلمة الله، وتصان البلاد ويخزي العدو٨١ اه.
الخلاصة :
الجهاد قد يكون فرض عين، وقد يكون فرض كفاية. فيكون فرض عين إذا تغلب العدو على قطر من الأقطار ؛ فيجب الجهاد على جميع أهل ذلك القطر، ويجب مساعدتهم على من جاورهم، ويكون الجهاد فرض كفاية، فيعفي منه الضعفاء والمرضى وأصحاب الأعذار ومن لا يجيد الحرب، إذا قام الجيش بالدفاع عن البلد وذكر الإمام محمد أبو زهرة : أن الحرب الآن صارت فنا متقدما يستفرغ الشاب عمره في إجادة فن من فنونه ؛ وتحتاج الحرب الآن إلى تخصص دقيق وتنظيم معين، ويؤدى كل فرد واجبه في تخصصه الذي يتقنه ويجيده.
ونلاحظ أن الصحابة رضوان الله عليهم ؛ قد بادروا إلى امتثال أمر الله في الدعوة إلى الجهاد، فخرجوا في سبيل الله خفافا وثقالا ؛ وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله.
روى ابن جرير الطبري : عن أبي راشد الحراني قال : وافيت المقداد بن الأسود فارس رسول الله جالسا على تابوت من توابيت الصيارفة بحمص، وهو يريد الغزو، وقد تقدمت به السن، فقلت له : لقد أعذر الله إليك.
فقال : أتت علينا سورة البعوث " أي : سورة براءة " :﴿ انفروا خفافا وثقالا ﴾.
وجاء في التفسير المنير للدكتور وهبة الزحلي :
والجهاد واجب بالنفس والمال إذا قدر عليهما، أو على أحدهما على حسب الحال والحاجة... كما فعل عثمان رضي الله عنه في تجهيز جيش العسرة، وكما فعل غيره من أغنياء الصحابة... ولما أصبح في بيت المال وفر وسعة ؛ صار الحكام يجهزون الجيوش من بيت المال، وهذا هو المتبع الآن، حيث تخصص بنود من الميزانية كل عام لنفقات الحرب ولدفاع وتزداد الميزانية عند الحاجة. اه.
المفردات :
عرضا قريبا : نفعا سهل المأخذ.
سفرا قاصدا : سفرا قريبا سهلا.
الشقة : المسافة التي تقطع بمشقة.
٤٢ – ﴿ لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة... ﴾ الآية.
قال الفخر الرازي : نزلت هذه الآية في المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك. اه.
وقد وبخ الله فيها المنافقين الذين استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في التخلف مظهرين أنهم ذو أعذار وكانوا كاذبين.
والمعنى :
لو كان الأمر الذي دعوتهم إليه أو منفعة قريبة المنال، أو سفرا سهلا قريبا لا عناء فيه ؛ لا تبعوك ؛ طمعا في الحصول على المغانم القريبة السهلة، ولكنهم تخلفوا حينما رأوا أن السفر شاق إلى مسافة بعيدة إلى الشام، ويحتاج إلى تضحيات جسيمة ؛ فآثروا الجبن والراحة والسلامة، والتفيؤ في الظلال وقت الحر والقيظ ؛ فدل ذلك على أنهم جماعة نفعيون ماديون دنيويون.
وشبيه بهذه الفقرة من الآية قول الرسول صلى الله عليه وسلم في شأن المتخلفين عن صلاة الجماعة في الحديث المتفق عليه : " لو يعلم أحدهم أنه يجد لحما سمينا، أو عظما عليه لحم لشهد العشاء " ٨٢.
﴿ وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون ﴾.
قال الفخر الرازي : أخبر الله رسوله عن المنافقين، إثر عودته من غزوة تبوك، بأنهم سيحلفون له ؛ والأمر لما وقع، كما أخبر الله تعالى ؛ كان هذا إخبارا عن الغيب فكان معجزا.
والمعنى :
وسيقسمون بالله باليمين الكاذبة عند رجوعك من غزوة تبوك، قائلين على سبيل الاعتذار عن تخلفهم : لو كنا نستطيع الخروج معك إلى تبوك لخرجنا إليها ؛ فإننا لم نتخلف عن الخروج معكم إلا مضطرين، فقد كانت لنا أعذارنا القاهرة التي حملتنا على التخلف.
يهلكون أنفسهم بهذه اليمن الفاجرة، يقسمون بها على الإدعاء الكاذب.
﴿ والله يعلم إنهم لكاذبون ﴾. فقد كانوا يستطيعون الخروج، ولم يكن لهم عذر في التخلف، ولكنهم آثروا الدعة والراحة، وزهدوا في الجهاد ثم تجرءوا على اليمين الغموس كذبا على الله ورسوله.
وفي الحديث الشريف : عن خيثمة بن سليمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اليمين الغموس تدع الديار بلاقع " ٨٣.
واليمين الغموس من الكبائر، ولا يكفرها إلا الغمس في نار جهنم.
ولكن المنافقين، وهنت عزيمتهم وضعف يقينهم ؛ فآثروا الراحة، واستهانوا بالأيمان، ليرضوا بها الناس، وكان الأولى بهم أن يرضوا رب الناس. قال تعالى :﴿ يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين ﴾. ( التوبة : ٩٦ ).
﴿ عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ( ٤٣ ) لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ( ٤٤ ) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ( ٤٥ ) ﴾.
المفردات :
عفا الله عنك : لم يؤاخذك بالإذن لهم في التخلف.
التفسير :
٤٣ – ﴿ عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ﴾.
أي : سامحك الله بإذنك لهم، لم أذنت لهم بالتخلف، وهلا استأنيت بالإذن وانتظرت، وهلا تركتهم لما استأذنوك ؛ لتعلم الصادق من الكاذب عن طريق أصحابك، أو فراستك فيهم، ومعرفة أحوالهم.
قال مجاهد : أنزلت هذه الآية في أناس قالوا : استأذنوا رسول الله، فإن أذن لكم فاقعدوا، وإن لم يأذن لكم فاقعدوا.
وذهب فريق من العلماء، كالإمام القرطبي والإمام فخر الدين الرازي ؛ بأن كلمة عفا الله عنك. تدل على مبالغة الله تعالى في تعظيم الرسول وتوقيره، كما يقول الرجل لغيره إذا كان معظما عنده عفا الله عنك ؛ ما صنت في أمري.
وقال القرطبي : قيل : هو افتتاح كلام كما تقول : أصلحك الله وأعزك ورحمك كان كذا وكذا.
ومن لطائف الشعر قول على بن الجهم يخاطب المتوكل وقد أمر بنفيه.
عفا الله عنك، ألا حرمة *** تعوذ بعفوك أن أبعدا
ألم تر عبدا طوره *** ومولى عفا ورشيدا هدى
اقلني أقالك من لم يزل *** يقيك ويصرف عنك الردى٨٤
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ويؤخذ من أدب الآيات ما يأتي :
١ – لا ينبغي الاستئذان في أداء شيء من الواجبات، ولا في الفضائل والفواضل من العادات كقرى الضيف، وإغاثة الملهوف، وسائر عمل المعروف.
٢ – قال قتادة : عاتب الله رسوله في هذه الآية، ثم رخص له في سورة النور. فقال :﴿ فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم ﴾. ( النور : ٦٢ ).
٣ – دل قوله :﴿ لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا... ﴾ على وجوب الاحتراز من العجلة، ووجوب التثبت والتأني، وترك الاغترار بظواهر الأمور، والمبالغة في التفحص والتريث.

٤٤ – ﴿ لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ... ﴾
أي : لست من عادة المؤمنين الصادقين، أن يستأذنوك في الجهاد بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، بل يبادرون إليه من غير توقف ولا ارتقاب منهم لوقوع الإذن منك فضلا عن أن يستأذنوك في التخلف.
﴿ والله عليم بالمتقين ﴾.
أي : أنه تعالى محيط علمه بهؤلاء الذين لم يستأذنوا وما اشتملت عليه قلوبهم من الإخلاص في سبيل الله والاستجابة لداعي الجهاد بنشاط وهمة فيجزيهم على ذلك الجزاء الأولى.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ويؤخذ من أدب الآيات ما يأتي :
١ – لا ينبغي الاستئذان في أداء شيء من الواجبات، ولا في الفضائل والفواضل من العادات كقرى الضيف، وإغاثة الملهوف، وسائر عمل المعروف.
٢ – قال قتادة : عاتب الله رسوله في هذه الآية، ثم رخص له في سورة النور. فقال :﴿ فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم ﴾. ( النور : ٦٢ ).
٣ – دل قوله :﴿ لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا... ﴾ على وجوب الاحتراز من العجلة، ووجوب التثبت والتأني، وترك الاغترار بظواهر الأمور، والمبالغة في التفحص والتريث.

المفردات :
وارتابت : وقعت في الريب وهو الشك.
يترددون : يتحيرون.
التفسير :
٤٥ – ﴿ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُون ﴾.
أي : إذا كان أهل الإيمان لا يستأذنون منك عادة، فإن الذي يستأذنك في التخلف عن الجهاد من غير عذر ؛ إنما هم المنافقون، الذين لا يصدقون بالله واليوم الآخر ولا يرجون ثواب الآخرة، ولذلك تصعب عليهم مشاق الجهاد، فقلوبهم متحيرة بين الإقدام والإحجام، والشك والإيمان فهم مرتابون في الدين، حائرون لا يهتدون إلى طريق الصواب.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ويؤخذ من أدب الآيات ما يأتي :
١ – لا ينبغي الاستئذان في أداء شيء من الواجبات، ولا في الفضائل والفواضل من العادات كقرى الضيف، وإغاثة الملهوف، وسائر عمل المعروف.
٢ – قال قتادة : عاتب الله رسوله في هذه الآية، ثم رخص له في سورة النور. فقال :﴿ فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم ﴾. ( النور : ٦٢ ).
٣ – دل قوله :﴿ لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا... ﴾ على وجوب الاحتراز من العجلة، ووجوب التثبت والتأني، وترك الاغترار بظواهر الأمور، والمبالغة في التفحص والتريث.

﴿ وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ( ٤٦ ) لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ( ٤٧ ) ﴾.
المفردات :
انبعاثهم : نهوضهم للخروج.
فثبطهم : فحبسهم وعوقهم.
التفسير :
٤٦ – ﴿ وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ... ﴾
تستمر الآيات في توضيح قبائح المنافقين وبيان خطرهم وتحذير المؤمنين من مكائدهم.
والمعنى :
ولو أراد هؤلاء المنافقون ؛ الخروج معك إلى القتال ؛ لاستعدوا وتأهبوا لذلك بإعداد السلاح، والزاد، والراحلة، ونحو ذلك من الأشياء التي لا يستغني عنها المسافر، والتي كانت في مقدورهم وطاقتهم.
﴿ ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم... ﴾
أي : أبغض الله خروجهم مع المؤمنين ؛ لما فيه من أضرار.
فثبطهم. أي : أخرهم وعوقهم بما أحدث في قلوبهم من المخاوف، وفي نفوسهم في الكسل والفتور.
﴿ وقيل اقعدوا مع القاعدين ﴾.
أي : قال بعضهم لبعض، أو قال الشيطان لهم، أو أذن الرسول لهم بالعقود مع القاعدين. من النساء والأطفال والمرضى والعجزة الذين شأنهم القعود في البيت كما قال تعالى :﴿ رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ﴾. ( التوبة : ٨٧ ).
﴿ وهم القاعدون والمتخلفون عن الجهاد ﴾.
قال الآلوسي :
وقوله :﴿ وقيل اقعدوا مع القاعدين ﴾. تمثيل لخلق الله داعية القعود فيهم، وإلقائه كراهة الخروج في قلوبهم، بالأمر بالقعود، أو تمثيل لوسوسة الشيطان بذلك، فليس هناك قول حقيقة.
ويجوز أن يكون حكاية قول لبعضهم لبعض، أو حكاية لإذن الرسول صلى الله عليه وسلم لهم في القعود، فيكون القول على حقيقته. ا ه.
المفردات :
خبالا : فسادا وشرا.
ولأوضعوا خلالكم : ولسعوا فيما بينكم بالنميمة والوشاية، وهو مأخوذ من أوضعت البعير... أي : حملته على السرعة، يقال : وضع البعير أي : أسرع، وأوضعته أنا، أي : جعلته يسرع.
يبغونكم الفتنة : يطلبون لكم الفتنة والشر بإيقاع الخلاف بينكم.
التفسير :
٤٧ – ﴿ لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا... ﴾ الآية.
طمأن الله المسلمين، وبين أن عدم خروجهم مع المسلمين في غزوة تبوك مصلحة للجيش.
والمعنى :
لو خرج هؤلاء المنافقون فيكم ما زادوكم شيئا من القوة والمنعة ؛ بل زادوكم اضطرابا في الرأي، وفسادا في العمل والنظام.
﴿ ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم... ﴾
ولأسرعوا بالسعي بينكم بالنميمة والبغضاء، وتفريق الكلمة، وبذر بذور التفرقة والاختلاف، وإشاعة الخوف والأراجيف من الأعداء وتثبيط الهمة.
﴿ وفيكم سماعون لهم ﴾.
أي : وفيكم ضعاف، يتأثرون ويهتمون بسماعهم ونقل نمائهم.
قال محمد بن إسحاق : كان الذين استأذنوا فيما بلغني : من ذوي الشرف، منهم : عبد الله بن أبي بن سلول، والجد بن قيس، وكانوا أشرافا في قومهم، فثبطهم الله لعلمه بهم، فإذا خرجوا أفسدوا على النبي جنده، وكان في جنده قوم أهل محبة لهم، وطاعة فيما يدعونهم إليه لشرفهم، فقال. ﴿ وفيكم سماعون لهم ﴾٨٥.
﴿ والله عليم بالظالمين ﴾.
أي : والله تعالى لا تخفى عليه خافية من أحوال هؤلاء الظالمين ؛ فهو يعلم ما كان وما يكون لهم، ومجازيهم على أعمالهم كلها.
من أحكام الآيات :
١ – يجب الاستعداد للجهاد قبل وقوعه، والاستعداد للأمور قبل وقوعها، كما قال تعالى :﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ﴾( الأنفال : ٦٠ ). وقال سبحانه :﴿ ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ﴾( التوبة : ٤٦ ).
٢ – وضحت الآيات أن خروج المنافقين في جيش المسلمين كانت ستترتب عليه ثلاث مفاسد :
١ – زيادة الاضطراب والفوضى وإفساد النظام.
٢ – تفريق كلمة المسلمين بالنميمة والوشاية والإشاعات الكاذبة.
٣ – استدراج فئة من ضعاف الإيمان والحزم إلى صفوفهم وسماع كلامهم.
ثم تأكد ذلك بآيات أخرى منها قوله تعالى :
﴿ فإن رجعك الله إلى طائفة فاستئذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين ﴾. ( التوبة : ٨٣ ).
﴿ لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ( ٤٨ ) وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ( ٤٩ ) ﴾.
المفردات :
ابتغوا الفتنة : طلبوا تفريق المسلمين.
وقلبوا لك الأمور : واجتهدوا في استعراضها ؛ لتدبير المكايد من أجلك.
التفسير :
٤٨ – ﴿ لقد ابتغوا الفتنة من قبل... ﴾
هنا يذكر الحق سبحانه رسوله بموقف المنافقين المتخاذل في غزوة أحد حين تخلف عبد الله بن أبي بثلث الناس، وقال : علام نقتل أنفسنا هنا أيها الناس ؟ ! ورغبوا في إيقاع الشرور والمفاسد في صفوف المسلمين من قبل ما حدث منهم في غزوة تبوك.
﴿ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾.
أي : أنهم قلبوا وجهات النظر كلها، ودبروا أمورهم لاختيار أنسب الأمور في الكيد لك، وفتنة المؤمنين من حولك.
﴿ حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾.
وكان الله سبحانه ينصر نبيه ويرفع شأنه ويؤازره حتى ظهر الحق على الباطل وانتصر عليه، فقد انتصر الرسول صلى الله عليه وسلم في كثير من غزواته حتى فتح مكة وفتح خيبر وانتصر في غزوة حنين والطائف، وبذلك دحر الشرك والمشركين، وانتصر على اليهود داخل المدينة وخارجها.
﴿ وهم كارهون ﴾.
أي : المنافقون وأشباههم كارهون لذلك ؛ فهم يكرهون انتصار الإسلام ؛ لأن هذا النصر خيب آمالهم وأحبط مكرهم.
جاء في تفسير ابن كثير :
لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، رمته العرب عن قوس واحدة، وحاربته يهود المدينة ومنافقوها. فلما نصره الله يوم بدر وأعلى كلمته، قال عبد الله بن أبي وأصحابه : هذا أمر قد توجه( أي : أقبل ) فدخلوا في الإسلام ظاهرا، ثم كلما أعز الله الإسلام وأهله غاظهم ذلك وساءهم، ولهذا قال تعالى :
﴿ حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾.
وهذه الآية والتي قبلها لتسلية الرسول والمؤمنين عن تخلف المنافقين، وبيان ما ثبطهم الله لأجله، وهتك أستارهم، وإزاحة أعذارهم.
ولا تفتني : ولا توقعني في المعصية بتخلفي من غير إذن.
٤٩ – ﴿ وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ.... ﴾
أي : ومن المنافقين من يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم الإذن له بالعقود عن الجهاد ؛ خشية أن يقع في الفتنة بمشاهدة نساء الروم والإعجاب بهن.
لكن هؤلاء المنافقين قد وقعوا وسقطوا في أشد أنواع الفتنة وهي الكفر بالدين والجبن والخوف وعدم الامتثال لهدى سيد المرسلين.
جاء في تفسير ابن كثير وغيره في روايات عن ابن عباس، وأخرى عن جابر بن عبد الله : أن هذه الآية نزلت في الجد بن قيس قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا جد بن قيس( وكان من شيوخ المنافقين ) ما تقول في مجاهدة بني الأصفر، فقال : يا رسول الله، أتأذن لي ؛ فإني رجل أحب النساء، وإني أخشى إن أنا رأيت نساء بني الأصفر أن أفتتن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معرض عنه : قد أذنت لك، فنزلت الآية٨٦.
ولما نزلت الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم لبني سلمة – وكان الجد بن قيس منهم : من سيدكم يا بني سلمة ؟ قالوا : جد بن قيس، غير أنه بخيل جبان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : وأي داء أدوى من البخل ؟ بل سيدكم الغني الأبيض بشر بن البراء بن معرور.
قال الآلوسي : وفي التعبير عن الافتتان بالسقوط في الفتنة، تنزيل لها منزلة المهواة المهلكة، المفضحة عن ترديهم في دركات الردى أسفل سافلين. ا ه.
وقال الفخر الرازي : وفيه تنبيه على أن القوم إنما اختاروا القعود ؛ لئلا يقعوا في الفتنة، فالله تعالى بين أنهم في عين الفتنة واقعون ؛ لأن أعظم أنواع الفتنة الكفر بالله وبرسوله، والتمرد على قبول التكاليف التي كلفنا الله بها... ا ه.
﴿ وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ﴾.
وهذا وعيد وتهديد لهؤلاء المنافقين ؛ بأن نار جهنم ستحاصرهم يوم القيامة ؛ لكثرة خطاياهم فلا يجدون عنها محيصا ولا مهربا ؛ كما قال تعالى :
﴿ بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾. ( البقرة : ٨١ ).
﴿ إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ ( ٥٠ ) قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ( ٥١ ) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ( ٥٢ ) ﴾.
المفردات :
حسنة : نعمة، والمراد بها هنا : النصر والغنيمة.
مصيبة : شدة، كهزيمة أحد.
التفسير :
٥٠ – ﴿ إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ ﴾.
سبب النزول :
أخرج ابن أبي حاتم : عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : جعل المنافقون الذين تخلفوا بالمدينة، يخبرون عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار السوء، يقولون : إن محمدا وأصحابه قد جهدوا في سفرهم وهلكوا، فبلغهم تكذيب حديثهم، وعافية النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ؛ فساءهم ذلك ؛ فأنزل الله :﴿ إن تصبك حسنة تسؤهم... ﴾ الآية.
المناسبة :
الآيات السابقة واللاحقة في تعداد قبائح المنافقين، وبيان نوع آخر من كيدهم ومن خبث بواطنهم، وشماتتهم بالمؤمنين إذا أصيبوا بمصيبة، وفرحهم إذا تعرضوا لحسنة.
المعنى :
إن عرضت لك في بعض الغزوات حسنة، أي : نصر وغنيمة كما حدث في غزوة بدر ؛ ساءهم ذلك وأورثهم حزنا وغما، بسبب شدة عداوتهم لك ولأصحابك.
وإن تصبك مصيبة – من هزيمة أو شدة – كما حدث في غزوة أحد ؛ قال هؤلاء المنافقون : قد اتخذنا ما يلزمنا من الحذر والتقيظ، من قبل وقوع المصيبة التي حلت بالمسلمين، ولم نلق بأيدينا إلى التهلكة كما فعل هؤلاء المسلمون ؛ بل تخلفنا عن الجهاد معهم، ولم نتعرض للهلاك ؛ لأنا متوقعون هذه الهزيمة، وانصرفوا إلى أهليهم وشيعتهم – والفرح يملأ جوانبهم – ليبشروهم بما نزل بالمسلين من مكروه.
المفردات :
كتب الله : أثبت في علمه أو في اللوح المحفوظ.
مولانا : متولي أمورنا.
التفسير :
٥١ – ﴿ قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾.
هذه الآية رد على هؤلاء الشامتين الشانئين وتوجيه وتعليم للمسلمين بالصبر على البأساء والرضا بأسباب القضاء.
أي : قل لهم يا محمد : لن يصيبنا أبدا إلا ما كتب وخط في اللوح المحفوظ ؛ فنحن تحت مشيئته وقدره، ﴿ هو مولانا ﴾. أي : ناصرنا ومتولي أمورنا، ونتولاه ونلجأ إليه في كل أحوالنا، وعلى الله وحده ﴿ فليتوكل المؤمنون ﴾، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
والآية أساس في صدق اليقين، والإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره، حلوه ومره. واللجوء إلى الله في الشدة والرخاء، والاعتماد عليه في العسر واليسر، والمنشط والمكره مع اتخاذ ما يجب من أسباب النصر المادية والمعنوية، كإعداد العدة اللازمة، وتوقى المنازعات التي تؤدى إلى الفشل وتفرق الكلمة.
والتوكل : تفويض الأمر إلى الله، بعد اتخاذ الأسباب المطلوبة عادة.
وقد وردت آيات كثيرة، وأحاديث نبوية صحيحة تحث المؤمنين على الصبر على المصائب، والرضا بالقضاء والقدر، والثبات في الشدائد، والانتصار على الحزن والهم والغم.
فالحياة دائرة بين العسر واليسر، والشدة والفرج. والمؤمن واثق بأن الله قد قدر أزلا رزقه وعمره وأجله، وسعادته أو شقاوته ؛ وبهذا لا يحزن على مفقود ولا يكثر الفرح بموجود، بل هو هادئ رزين إن أصابته نعماء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له.
قال تعالى :﴿ ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير ﴾. ( الحديد : ٢٢ ).
وفي معنى هذه الآية وردت طائفة من الأحاديث النبوية الشريفة بعضها في صحيح البخاري، وبعضها في كتب السنة المطهرة ومن هذه الأحاديث ما يأتي :
١ – " ما يصيب المؤمن من هم ولا حزن ولا تعب ولا وصب حتى الشوكة يشاكها ؛ إلا كفر الله بها من خطاياه " ٨٧.
٢ – " ما يزال البلاء يصيب المؤمن حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة " ٨٨.
٣ – " أشدكم بلاء الأنبياء، ثم الأولياء، ثم الأمثل، فالأمثل، يبتلي الرجل على حسب دينه " ٨٩.
٤ – " استعن بالله ولا تعجز ولا تقل : لو أنى فعلت كذا لكان كذا بل فلتقل : قدر الله وما شاء فعل " ٩٠.
٥ – " ما من عبد يبتلى بمصيبة فيقول : اللهم اؤجرني في مصيبتي وعوضني خيرا منها إلا عوضه الله خيرا مما فقده " ٩١.
٦ – " من علامة الإيمان، الشكر على النعماء، والصبر على البأساء، والرضاء بالقضاء " ٩٢.
٧ – " عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير إن أصابته نعماء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له " ٩٣.
المفردات :
تربصون : أصله تتربصون فخفف بحذف إحدى التاءين ومعناه : تنتظرون.
الحسنيين : الغايتين المستحسنتين النصر والشهادة في سبيل الله.
التفسير :
٥٢ – ﴿ قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين... ﴾
أي : قل يا محمد لهؤلاء المنافقين :
هل تنتظرون إلا أن يقع لنا إحدى العاقبتين الحسنتين، إما النصر والظفر، وإما الشهادة والثواب العظيم. فإن عشنا عشنا أعزة كراما مؤمنين، وإن متنا متنا شهداء مأجورين لنا الأجر والثواب.
جاء في تفسير الآلوسي :
والحاصل : أن ما تنتظرونه بنا – أيها المنافقون – لا يخلو من أحد هذين الأمرين، كل منهما عاقبته حسنى، لا كما تزعمون من أن ما يصيبنا من القتل في الغزو سوء، ولذلك سررتم به.
وصح من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
" تكفّل الله تعالى، لمن جاهد في سبيله، لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله، وتصديق كلمته ؛ أن يدخله الجنة، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر وغنيمة، أو أجر إن لم يغنم " ٩٤.
﴿ ونحن نتربص بكم أن يصبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا ﴾.
أما نحن فننتظر بكم إحدى السوءتين من العواقب : إما أن يصيبكم الله بعذاب من عنده، وهو قارعة من السماء، كما نزلت على عاد وثمود.
وإما أن يصيبكم عذاب بأيدينا، وهو الإذن لنا في قتالكم وقتلكم.
﴿ فتربصوا إنا معكم متربصون ﴾.
أي : إذا كان هذا أمرنا وأمركم، فانتظروا بنا ما ذكرنا من عواقبنا ؛ فإنا معكم متربصون بكم ما هو عاقبتكم، فلا بد أن يلقي كل منا ما يتربصه لا يتجاوزه فنحن على بينة من ربنا، ولا بينة لكم، لا تشاهدون إلا ما يسرنا، ولا نشاهد إلا ما يسوؤكم، فانتظروا أنتم مواعد الشيطان، إنا منتظرون مواعد الرحمان.
وبهذا ترى الآيات قد حكت طرفا من رذائل المنافقين، ومسالكهم الخبيثة لكيد الدعوة الإسلامية، وردت عليهم بما يكبتهم ويفضحهم على رءوس الأشهاد.
﴿ قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ ( ٥٣ ) وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ ( ٥٤ ) فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ( ٥٥ ) ﴾.
المفردات :
طوعا أو كرها : أي : طائعين أو كارهين.
فاسقين : متمردين خارجين على حدود الله بإبطال الكفر مع إظهار الإيمان وبغير ذلك من المعاصي.
التفسير :
٥٣ – ﴿ قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴾.
سبب النزول :
أخرج ابن جرير الطبري عن ابن عباس قال : قال الجد بن قيس : إني إذا رأيت نساء الروم لم أصبر حتى افتتن، ولكن أعينك بمالي، قال : ففيه نزلت :﴿ أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم ﴾.
أي : لقوله : أعينك بمالي، فهذه الآية نزلت في الجد بن قيس حين تخلف عن غزوة تبوك، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا مالي أعينك به فاتركني.
والمعنى :
قل أيها الرسول لهؤلاء المنافقين : مهما أنفقتم من نفقة طائعين راضين، أو متطوعين كارهين، فلن يتقبل الله منكم، ولن يثيبكم ؛ لأن الإيمان لم يدخل قلوبكم، والإخلاص لله لم يصل إلى نفوسكم :﴿ إنكم كنتم قوما فاسقين ﴾.
أي : عتاة متمردون خارجون عن الإيمان، والأعمال إنما تصح بالإيمان.
ثم صرح بأن هذا الفسوق ليس فسوق المعصية المحدودة، بل فسوق الكفر بالله فقال سبحانه :
٥٤ – ﴿ وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾.
بين الحق سبحانه ثلاثة أسباب لعدم قبول الله نفقتهم، وإخراج أموالهم للجهاد.
الأول : كفرهم بالله وبرسوله، فهم لا يؤمنون بالله تعالى ولا يصدقون رسالة محمد، وادعاؤهم الإيمان كلام تسترا خلفه.
الثاني : لا يؤدون الصلاة إلا وهم كسالى، فليس في قلوبهم نشاط ولا إيمان، ولا همة أو عزيمة ؛ لأن صلاتهم رياء وتظاهر.
الثالث : انهم لا ينفقون أموالهم رغبة في ثواب الله ومرضاته، بل ينفقونها ؛ رعاية للمصلحة الظاهرة وسترا للنفاق وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله لا يمل حتى تملوا " ٩٥. وقال : " إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا " ٩٦ ؛ لأن الله تعالى إنما يتقبل من المتقين الراغبين في مرضاته وهؤلاء ينفقون وهم كارهون، ولا ينفقون عن رغبة واختيار. وفي الحديث الصحيح : " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى " ٩٧.
المفردات :
وتزهق أنفسهم : وتخرج بصعوبة، والزهوق الخروج بمشقة.
٥٥ – ﴿ فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾.
أي : فلا تعجبك أيها النبي، وأيها السامع، أموالهم ولا أولادهم، ولا سائر نعم الله عليهم.
فإنما هي من أسباب المحن والآفات عليهم، وهي استدراج لهم ؛ حيث شغلتهم دنياهم عن أخراهم، وغفلوا عما أعد لهم من عذاب مقيم.
أما أموالهم فهم يتعبون في تحصيلها، والحفاظ عليها بصحبة الهم والقلق، والتهديد بالضياع والخسران، وقد يصحبك ذلك الطغيان، وعدم الشكر لربهم الذي أعطاهم، ثم ترك ما يجب عليهم من الزكاة فيها، والتصدق بما يجب التصدق به.
وأما الأولاد، فقد يموتون في الجهاد فيحزنون عليهم أشد الحزن، وقد يؤمنون فيحترق الآباء غيظا عليهم.
فقد كان لعدد من المنافقين أبناء أتقياء، كحنظلة بن أبي عامر الذي غسلته الملائكة، وعبد الله بن عبد الله بن أبي شهد بدرا، وكان من الله بمكان.
والابن إذا صار من الأتقياء العاملين لخدمة الإسلام ؛ تأذى به الأب المنافق، وصار مصدرا لاستيحاشه وعذابه٩٨.
﴿ وتزهق أنفسهم وهم كافرون ﴾.
المعنى : إن الله يريد أن تخرج أرواحهم حال كفرهم ؛ لعدم قبولهم لما جاء به الأنبياء، وتصميمهم على الكفر، وتماديهم في الضلالة.
قال الإمام فخر الدين الرازي :
" ومن تأمل هذه الآيات عرف أنها مرتبة على أحسن الوجوه ؛ فإنه سبحانه لما بين قبائح أفعالهم، وفضائح أعمالهم ؛ بين ما لهم في الآخرة من العذاب الشديد، وما لهم في الدنيا من وجوه المحنة والبلية.
ثم بين بعد ذلك أن ما يفعلونه من أعمال البر لا ينتفعون به يوم القيامة البتة.
ثم بين في هذه الآية أن ما يظنونه من منافع الدنيا فهو في حقيقته سبب لعذابهم وبلائهم وتشديد المحنة عليهم، وعند ذلك يظهر أن النفاق جالب لجميع الآفات في الدنيا والدين، ومبطل لجميع الخيرات في الدين والدينا... " ٩٩ اه.
﴿ وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ( ٥٦ ) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ( ٥٧ ) ﴾.
المفردات :
يفرقون : يخافون.
التفسير :
٥٦ – ﴿ وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ﴾.
تستمر هذه الآيات في كشف المنافقين وفضح دخائلهم ؛ فهم يقسمون بالله كذبا : إنهم من جملتكم في الدين والعمل. والحقيقة أنهم ليسوا منكم أيها المؤمنون ؛ فقلوبهم خالية من الإيمان الذي امتلأت به قلوبكم.
﴿ ولكنهم قوم يفرقون ﴾.
يقال : فرق فرقا ؛ إذا اشتد خوفه وهلعه من أمر يتوقع حصوله.
أي : إن هؤلاء المنافقين لشدة خوفهم وهلعهم من لقاء الأعداء وجبنهم عنهم، يحلفون لكم كذبا أنهم منكم.
وقيل : المراد : إنهم يخافون أن ينزل بهم ما نزل بالمشركين من القتل والسبى ؛ فيظهرون لكم الإسلام ؛ تقية منهم لا عن حقيقة.
المفردات :
ملجأ : مكانا حصينا يلجأون إليه.
مغارات : كهوفا في الجبال.
مدخلا : نفقا في الأرض.
لولوا إليه : لانصرفوا نحوه.
وهم يجمحون : وهم يسرعون أشد الإسراع.
التفسير :
٥٧ – ﴿ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ ﴾.
لو يجد أولئك المنافقون مكانا حصينا في جبل أو قلعة أو نحوهما يلجئون إليه، أو كهوفا خفية يخفون فيها أنفسهم، أو نفقا في الأرض يدخلون فيه ويندسّون ؛ لانصرفوا إليه عنكم، وهم يسرعون إسراع الفرس الجموح الذي لا يثنيه اللجام ؛ لأنهم إنما يعيشون معكم كرها، لا محبة وودا، ولكن للضرورة أحكام.
ولهذا لا يزالون في هم وحزن وغم ؛ لأن الإسلام وأهله في تقدم ورفعة، وعز ونصر وذلك كله يسوؤهم.
﴿ وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ( ٥٨ ) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ( ٥٩ ) ﴾.
المفردات :
يلمزك : يعيبك سرا.
في الصدقات : في شأن قسمة أموال الزكاة.
يسخطون : يغضبون.
٥٨ – ﴿ وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ﴾.
سبب النزول :
روى البخاري والنسائي : عن سعيد الخدري رضي الله عنه : قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم قسما، إذ جاءه ذو الخويصرة التميمي – وهو حرقوص بن زهير – أصل الخوارج – فقال عمر بن الخطاب : ائذن لي أن أضرب عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعه ؛ فإن له أصحابا أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامه، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الدمية١٠٠.
فنزلت فيهم :﴿ ومنهم من يلزمك في الصدقات... ﴾الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن جابر : نحوه، وروى ابن جرير عن داود بن أبي عاصم قال : " أتي النبي صلى الله عليه وسلم بصدقة، فقسمها ههنا وههنا، حتى ذهبت، ورأى رجل من الأنصار فقال : ما هذا بالعدل، فنزلت هذه الآية ".
ومجموع الروايات يدل على أن الطاعنين من المنافقين.
المعنى :
ومن هؤلاء المنافقين – يا محمد – من يعيبك ويطعن عليك في قسمة الصدقات والغنائم، زاعمين أنك لست عادلا في قسمتك.
﴿ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ﴾.
إن رضاهم وغضبهم لأنفسهم لا للدّين، وما فيه صلاح أهله ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم استعطف قلوب أهل مكة يوم النصر في غزوة حنين والطائف، فضجر المنافقون فقال تعالى :﴿ فإن أعطوا منها رضوا... ﴾.
وقيل : نزلت في المؤلفة قلوبهم ؛ كان يعطيهم النبي صلى الله عليه وسلم للتأليف، وقيل : هو ابن ذي الخويصرة رأس الخوارج. وقيل : هو أبو الجواظ من المنافقين قال : ألا ترون إلى صاحبكم ؟ إنما يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم، هو يزعم أنه يعدل ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا أبالك، أما كان موسى راعيا، أما كان داود راعيا ؟ ؟ فلما ذهب ؛ قال عليه الصلاة والسلام : احذروا هذا وأصحابه فإنهم منافقون.
﴿ فإن أعطوا منها رضوا.... ﴾.
أي : إن أعطوا من الزكاة أو من الغنائم ولو بغير حق رضوا، وإن لم يعطوا منها فاجؤوك بالسخط، وإن لم يستحقوا العطاء، فهم إنما يغضبون لأنفسهم ولمنافعهم، لا للمصلحة العامة، فليس طعنهم أو نقدهم بريئا، ولكن لهدف خاص.
قال الإمام الرازي :
اعلم أن المقصود من هذا : شرح نوع آخر من قبائحهم وفضائحهم، وهو طعنهم في الرسول صلى الله عليه وسلم بسبب أخذ الصدقات من الأغنياء، ويقولون : إنه يؤثر من يشاء من أقاربه وأهل مودته، وينسبونه إلى أنه لا يراعي العدل١٠١.
المفردات :
حسبنا الله : أي : كافينا.
٥٩ – ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ ﴾.
ترشد الآية إلى أدي عظيم لهؤلاء وغيرهم، يتمثل هذا الأدب في الرضا والقناعة، فطالب الدنيا وحدها إذا لم يكن قنوعا راضيا ؛ ربما جرّه ذلك إلى النفاق.
وقد اشتملت الآية على مراتب أربع :
١ – الرضا بما آتاهم الله ورسوله ؛ لأنه سبحانه حكيم منزه عن البعث، والرسول صلى الله عليه وسلم أمين صادق عادل.
٢ – أن تظهر آثار الرضا على اللسان وهو قوله :﴿ حسبنا الله ﴾. أي : الرضا بحكم الله وقضائه.
٣ – الأمل في فضل الله وعوضه فيقول :﴿ سيؤتينا الله من فضله ورسوله ﴾. إما في الدنيا، وإما في الآخرة.
٤ – أن يقول :﴿ إنا إلى الله راغبون ﴾. أي : لا نبغي بالإيمان مكاسب الدنيا من مال وجاه ؛ وإنما نريد الفوز بسعادة الآخرة.
فالآية ترسم طريقا سليما، وتذكر سلوكا عمليا يعتمد على الرضا والقناعة، واليقين بما عند الله، والأمل في المستقبل، وأن رزق الله لا ينفذ، ثم الرغبة المستمرة في فضل الله وعطائه ونعمائه، التي لا تعد ولا تحصى.
وجواب لو. في الآية محذوف، والتقدير : ولو أنهم فعلوا ذلك لكان خيرا لهم.
وفي تفسير الفخر الرازي، نجد أن هذه الآية منهج عملي في تعليم القناعة والرضا وحسن الأمل.
قال الإمام الرازي :
والآية تدل على أن من طلب الدنيا بطمع وشراهة ؛ آل أمره في الدين إلى النفاق.
وأما من طلب الدنيا بتوسط، وبغرض التوصل إلى مصالح الدين ؛ فهذا هو الطريق الحق. والأصل في هذا الباب أن يكون راضيا بقضاء الله. اه.
﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ( ٦٠ ) ﴾.
المفردات :
للفقراء : جمع فقير وهو من لا مال له، أو له مال لا يقع موقعا من كفايته.
والمساكين : جمع مسكين، وهو من لا مال له، أو له مال يقع موقعا من كفايته، فالفقير أسوأ حالا من المسكين وبالعكس.
التفسير :
٦٠ – ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾.
المناسبة :
جاءت هذه الآية وسط الحديث عن المنافقين ؛ ذلك أن المنافقين كانوا ينتظرون أن توزع عليهم الزكاة، فإذا أعطاهم النبي منها ؛ رضوا وشكروا، وإذ لم يعطهم ؛ غضبوا وسخطوا.
وفي الآية ٥٨ من سورة التوبة :﴿ ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ﴾.
قال الشوكاني في تفسيره : " لما لمز المنافقون رسول الله صلى الله عليه وسلم في قسمة الصدقات ؛ بين الله لهم مصرفها ؛ دفعا لطعنهم وقطعا لشغبهم. عن زيادة بن الحرث قال : " أتى النبي رجل فقال : أعطني من الصدقة فقال له : " إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات، حتى حكم هو فيها ؛ فجزأها ثمانية أصناف، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك ". اه.
وكنت ألّفت كتابا في فقه العبادات، أصدرته الهيئة المصرية العامة للكتاب عام ١٩٧١ م، وصدرت منه عدة طبعات بعد ذلك تحدثت فيه عن الزكاة وذكرت فقرة عن مصارف الزكاة، رأيت أن أنقلها في هذا المكان.
مصارف الزكاة
لم يترك الإسلام أمر الزكاة إلى تقدير ولى الأمر بل بين المصارف وعينها بالنص القرآني الذي لا يقبل التأويل قال تعالى :﴿ إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم ﴾. ( التوبة : ٦٠ ). هذا هو النص القرآني المحكم الذي عدد أصناف المستحقين للزكاة١٠٢ ولنبين كل صنف بكلمة موضحة :
أولا : الفقراء : وهم الذين لا يملكون أموالا يزكون عنها، أي : أن أموالهم لا تبلغ النصاب وإنما لديهم قليل من المال لا يكفي لكل حاجاتهم، وقيل : من لا يملكون قوت يوم وليلة.
ثانيا : المساكين : قيل في تفسير المسكين : السائل. وقيل : بأن المسكين أشد حاجة من الفقير، وروى عن عكرمة مولى عبد الله بن عباس : إن الفقراء فقراء المسلمين والمساكين فقراء أهل الكتاب، ويزكى هذا الرأي أن عمر بن الخطاب فسر المساكين : بضعفاء أهل الكتاب، فإنه يروى أنه رأى ذميا مكفوفا مطروحا على باب المدينة فقال له عمر رضي الله عنه : ملك ؟ قال : استكرهوني في هذه الجزية، حتى إذا كف بصري تركوني وليس لي أحد يعود على شيء ! فقال الفاروق : ما أنصفت إذن ! وأجرى له ما يقوته وما يصلحه، وقال : هذا من الذين قال الله فيهم :﴿ إنما الصدقات للفقراء والمساكين ﴾. وهم زمني أهل الكتاب أي : ذوو العاهات المانعة من الكسب، والمرضى بمرض لا يرجى البرء منه.
ونرى من هذا أن الزكاة على هذا التفسير تعطي لمساكين أهل الذمة العاجزين عن الكسب ؛ وهو غير ما عليه جمهور الفقهاء الذين يرون أن الزكاة لا تعطى لغير المسلمين.
ثالثا :﴿ العاملين عليها ﴾ : وهم الذين يعملون في الزكاة في جمعها من أربابها وتوزيعها على مستحقيها وهم يعطون على قدر أعمالهم، وكفاية أمثالهم، ولأن العمل في الزكاة له أجر والأجير يأخذ سواء أكان غنيا أم فقيرا.
رابعا :﴿ المؤلفة قلوبهم ﴾ : وهم قوم يعطون من الزكاة ؛ تأليفا لقلوبهم أو قلوب ذويهم، أو تمكينا للإسلام في قلوبهم. أو قلوب ذويهم، وقد قال أبو يعلى في الأحكام السلطانية : " والمؤلفة قلوبهم أربعة أصناف : صنف منهم تتألف قلوبهم ؛ لمعونة المسلمين، وصنف تتألف قلوبهم ؛ للكف عن المسلمين، وصنف تتألف قلوبهم ؛ لترغيبهم في الإسلام، وصنف تتألف قلوبهم ؛ ترغيبا لقومهم وعشائرهم في الإسلام فيجوز أن يعطى كل واحد من هذه الأصناف من سهم المؤلفة قلوبهم مسلما كان أو مشركا ".
وعطاء هؤلاء من قبيل الدفاع عن الإسلام له، فإعطاء المؤلفة قلوبهم هو من قبيل ما نسميه اليوم( الدعاية )، ولذلك كان حقا أن نجعل من مصارف الزكاة تمويل الدعاية للإسلام، وبيان مزاياه، وخواصه ؛ ليعلم حقيقته من لم يكن يعلم.
خامسا :﴿ في الرقاب ﴾ : أي : في فك أسر الأرقاء، فقد كان من عادة العرب أن يعين الواحد لرقيقه مالا إذا أداه له ؛ تحرر من أسره. فأمر الله الحكومة الإسلامية أن تمد هؤلاء الأسرى بأموال الزكاة ؛ ليتحرروا من رقهم، وقد ذهب الرق تقريبا من العالم.
ونريد أن نسجل في هذا المقام أن الدولة الإسلامية هي أول دولة حاربت الرق في الوجود وحسبها أن جعلت جزءا من ميزانيتها لفك الرقاب، ولم يذكر التاريخ أي نظام سياسي أو فلسفي سبق الإسلام في ذلك.
سادسا :﴿ الغارمين ﴾ : وهم الذين ركبهم الدين ولا وفاء عندهم، وهم ثلاثة أقسام :
١ – قسم يستدين في سفاهة وإسراف ؛ لينفق في المحلل والمحرم والأكثرون من الفقهاء يرون أن هذا يوفى عن دينه، إلا إذا تاب وصار من أهل الصلاح والتقى والتدبير.
٢ – من استدان لصالح نفسه كتاجر لزمته ديون في تجارته وهو يحسن تدبيرها ولكن اضطرب الميزان الاقتصادي، وأحاط الدين بماله ولم يف ما عنده من المال بدينه فما بقي من ديون بعد ذلك عليه يسدد من الزكاة.
٣ – من ركبه دين في مصلحة عامة لا لمصلحة نفسه، كمن تحمل ديات للصلح بين الناس، فقد قال الفقهاء : إنه يسدد عنه دينه، ولو كان غنيا يبقى له بعد سداد الدين من ماله نصاب، وهذا للتشجيع على المروءة والصلح بين الناس.
وإذا مات مدين وليس في تركته ما يفي بدينه يؤدى باقي دينه من مال الزكاة.
والجدير بالذكر : أن الإسلام يجعل الديون العادلة تؤدى من بيت مال الزكاة، وبهذا سبق الشرائع الإنسانية كلها سبقا بعيدا، وخصوصا الشرائع التي عاصرت نشأته، وحسبك أنك تعلم أن القانون الروماني١٠٣ في بعض أدواره كان يسوغ للدائن أن يسترق المدين، أما الإسلام فقد جعل دين المعسر تؤديه الدولة عنه وفي ذلك تشجيع للناس على المروءة والقرض الحسن ؛ لأن صاحب المال إن علم أن ماله لن يضيع أبدا ؛ أقرض القرض الحسن. ويصحب القياس على ذلك أن يقرض من مال الزكاة القرض الحسن ؛ لأنه إذا كانت الديون العادلة تؤدى فأولى أن تعطى منها القروض الخالية من الربا ؛ لترد إلى بيت المال.
سابعا :﴿ ابن السبيل ﴾ : والمراد به : المسافر الذي لا يجد مالا يوصله إلى وطنه، فإنه يعطى من مال الزكاة ما يوصله إلى وطنه.
وأما إذا كان غنيا فيعطيه بيت المال قرضا ليسترد ما أعطاه عند الرجوع إلى أهله وذويه.
ثامنا :﴿ في سبيل الله ﴾ : والمراد به : الصرف على الغزاة والمرابطين لحماية الثغور فينفق من الزكاة على الجيش وكل ما يتصل به ما دام الجيش يجاهد في سبيل الله.
ولقد فسر بعض الفقهاء كلمة ﴿ في سبيل الله ﴾ بما يعم كل مصالح المسلمين، فقد جاء في التفسير الكبير للفخر الرازي ما نصه :
" واعلم أن ظاهر اللفظ لا يوجب القصر على كل الغزاة، فلهذا المعنى نقل " القفال " في تفسيره عن بعض الفقهاء : أنهم أجازوا صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير : من تكفين الموتى، وبناء الحصون ؛ وعمارة المساجد ؛ لأن قوله تعالى :﴿ في سبيل الله ﴾ عام في الكل ".
ويشمل في سبيل الله إعداد دعاة إلى الإسلام والإنفاق عليهم لإظهار جمال الإسلام وسماحته وتبليغ أحكامه والرد على خصومه، والإنفاق على الكتب التي تتولى هذه المهمة.
ويجوز إعطاء الزكاة للمؤسسات الخيرية : كالمستوصفات الخيرية، والمياتم، والمدارس الخيرية ؛ لأن هذه المؤسسات جعلت لصالح الطبقة الفقيرة.
هل تصرف الزكاة على جميع مستحقيها ؟ يرى جمهور الفقهاء خلافا للشافعي أنه لا يلزم المزكى استيعاب كل مصارف الزكاة، بل في أيها وضعت أجزأت، ويلزم الإمام العناية بالأهم اجتماعيا فالمهم.
حكمة الزكاة
١ – الزكاة فريضة واجبة، وسبيل إلى علاج الشح والبخل، وارتقاء بالنفس والروح والوجدان ؛ حيث يعطى المؤمن ماله، ويدخره لينفعه في قبره، أو في يوم القيامة ؛ فهو فعلا ادخار في بنك الآخرة، وتغذية لرصيدنا الحقيقي ؛ فإن مالك ما أنفقت ؛ ومال وارثك ما أبقيت.
٢- الزكاة علاج متعيّن ؛ لإزالة حب الدنيا عن القلب، وكسر شدة الميل إلى المال، والمنع من انصراف النفس بالكلية إليه، وهو المراد من قوله تعالى :﴿ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ﴾. ( التوبة : ١٠٣ ).
٣ – تربية النفس عن طريق الشعور بآلام الآخرين، والإحسان إلى الناس، والسعي في إيصال الخيرات إليهم، ودفع الآفات عنهم، وهذا من صفات الله وفي الحديث الشريف : " تخلّقوا بأخلاق الله ".
٤ – توفير محبة الفقراء للأغنياء، والدعاء لهم ببقاء النعمة، عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها " ١٠٤.
٥ – الحد من ارتكاب الجرائم، ومن اللحاق بالأعداء، فلو لم ينفق الأغنياء على الفقراء ؛ لأقدم الفقراء على الأفعال المنكرة كالسرقة أو على الالتحاق بأعداء المسلمين.
﴿ وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ٦١ ) يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ ( ٦٢ ) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ( ٦٣ ) ﴾.
المفردات :
أذن : يسمع كل ما يقال ويصدقه، كأنه من فرط استماعه صار آلة للسماع.
التفسير :
تعرض هذه الآيات لونا آخر من ألوان إيذاء المنافقين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصفهم إياه بالغفلة وعدم الحذر وتصديق كل ما يقال، أي : ليس له ذكاء ولا تعمق في الأمور.
جاء في تفسير أبي السعود :
نزلت في فرقة من المنافقين قالوا في حقه صلى الله عليه وسلم ما لا ينبغي ؛ فقال بعضهم : لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغه ذلك فيقع بنا، فقال الجلاس بن سويد : نقول ما شئنا، ثم نأتيه فننكر ما قلنا، ونحلف فيصدقنا بما نقول ؛ إنما محمد أذن سامعة١٠٥.
وذكر القرطبي : أن الآية نزلت في عناب بن قشير قال : إنما محمد أذن يقبل كل ما قيل له.
٦١ – ﴿ وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ... الآية ﴾.
أي : ومن المنافقين قوم يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكلام فيه ويعيبونه فيقولون : هو أذن. يسمع كل ما يقال ويصدقه.
وجاء في تفسير أبي السعود :
﴿ ويقولون هو أذن ﴾. أي : يسمع كل ما قيل من غير أن يتدبر فيه، ويميز بين ما يليق بالقبول لمساعدة أمارات الصدق له، وبين ما لا يليق، وإنما قالوه : لأنه صلى الله عليه وسلم كان لا يواجههم بسوء ما صنعوا ؛ ويصفح عنهم حلما وكرما، فحملوه على سلامة القلب، وقالوا ما قالوا.
﴿ قل أذن خير لكم ﴾.
أي : قل لهم يا محمد : هو أذن كما تقولون يستمع لكم ؛ لكن نعم الأذن هو ؛ لكونه يسمع الخير ولا يسمع الشر.
أي : هو مستمع خير لما يجب استماعه.
كما يقال : فلان رجل صدق وشاهد عدل.
فهو صلى الله عليه وسلم يعرف الصادق من الكاذب ؛ لكنه يعامل المنافقين بأحكام الشريعة وآدابها، فلا يفضح أحدا منهم، وهو صاحب الخلق الكامل، والإنسان المثالي.
﴿ يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ﴾.
أي : من مظاهر كونه صلى الله عليه وسلم أذن خير، ﴿ أنه يؤمن بالله ﴾ ؛ إيمانا حقا لا يحوم حوله شيء من الرياء، أو الخداع أو غيرهما من ألوان السواء.
﴿ ويؤمن للمؤمنين ﴾ : أي يصدقهم فيما يقولونه من أقوال توافق الشرع ؛ لأنهم أصحابه الذين أطاعوه واتبعوه ؛ فهم أهل التصديق والقبول.
من تفسير الفخر الرازي :
إن قيل : لماذا عدّى الإيمان على الله بالباء، وإلى المؤمنين باللام فقال :﴿ يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ﴾.
قلنا : لأن الإيمان المعدّى إلى الله : المراد منه : التصديق الذي هو نقيض الكفر فعدّى بالباء.
والإيمان المعدى إلى المؤمنين : المراد منه : الاستماع منهم، والتسليم لقولهم فعدّى باللام.
كما في قوله :﴿ وما أنت بمؤمن لنا ﴾. أي : بمصدق بنا، وقوله :﴿ أنؤمن لك واتبعك الأرذلون ﴾. وقوله :﴿ قال آمنتم له قبل أن آذن لكم ﴾. اه.
﴿ ورحمة للذين آمنوا منكم ﴾. أي : وهو صلى الله عليه وسلم رحمة للذين أظهروا الإيمان منكم، إذ قبله لا تصديقا لهم، بل رفقا بهم، فلم يهتك لهم سترا، ولم يكشف لهم سرا، بل أحسن إليهم ؛ وتجاوز عن سيئاتهم ؛ رجاء أن يتوبوا من نفاقهم، ويخلصوا الإيمان لربهم.
﴿ والذين يؤذون رسول الله ﴾. صلى الله عليه وسلم بتهوين شأنه، والانتقاص من قدرة ﴿ لهم عذاب أليم ﴾. في دنياهم وآخرتهم.
ما يؤخذ من الآية
١ – دلت الآية على أن النبي صلى الله عليه وسلم صاحب الخلق الكامل، والفهم الشامل، والذكاء الخارق ؛ فسكوته عن المنافقين ليس عن غباء أو اعتزاز، وإنما عن حكمة وبصيرة ؛ فقد كان يقبل ظواهرهم، ويترك بواطنهم إلى الله ؛ رجاء هدايتهم.
٢ – وصفت الآية الرسول بأوصاف ثلاثة :
فهو يؤمن بالله، ويؤمن للمؤمنين، ورحمة لمن آمن ؛ وهذه الأوصاف توجب كونه أذن خير.
٣ – إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق برسالته كفر ؛ يترتب عليه العقاب الشديد. مثل : التهوين من أمره، أو اتهامه بالغفلة. وتصديق كل ما يقال ؛ فقد اختاره الله، وأدبه وميزه بالخلق العظيم. ﴿ الله أعلم حيث يجعل رسالته ﴾. ( الأنعام : ١٢٤ ).
٦٢ – ﴿ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾.
سبب النزول :
كان المنافقون في خلواتهم يطعنون على النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فإذا أبلغ ذلك إلى المؤمنين ؛ جاء المنافقون فحلفوا لهم على أنهم لم يقولوا ما بلغ عنهم.
قال القرطبي :
روى : أن قوما من المنافقين اجتمعوا وفيهم غلام من الأنصار يدعى : عامر بن قيس فحقروه وتكلموا فقالوا : إن كان ما يقوله محمد حقا ؛ لنحن شر من الحمير ؛ فغضب الغلام، وقال : والله إن ما يقوله محمد صلى الله عليه وسلم لحق، ولأنتم شر من الحمير ! ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقولهم، فحلفوا إن عامرا كاذب ؛ فقال عامر : هم الكذبة، وحلف على ذلك. وقال : اللهم، لا تفرق بيننا حتى يتبين صدق الصادق، وكذب الكاذب، فأنزل الله هذه الآية.
ومعنى الآية :
يقسم هؤلاء المنافقون بالله لكم أيها المؤمنون : أنهم ما ساءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بكلام يعيبه أو ينقص من قدره، يريدون بذلك أن ترضوا عنهم، بتصديقهم في نفي ما نقل من قالة السوء.
﴿ والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين ﴾.
أي : هم يحلفون لكم، والحال أن الله ورسوله أحق بالإرضاء منكم ؛ لأن الله هو خالقهم ورازقهم ومالك أمرهم، وهو العليم بما ظهر وبطن من أحوالهم.
ولأن رسوله هو المبلغ لوحي الله، وإرضاء الرسول هو عين إرضاء الله عز وجل.
حيث قال تعالى :﴿ من يطع الرسول فقد أطاع الله ﴾. ( النساء : ٨٠ ) ؛ لأن مصدر الرسالة واحد، والأوامر والنواهي واحدة ؛ هذا إذا كانوا حقا كما يدعون ويحلفون، فمن كان مؤمنا ؛ فليرض الله ورسوله، وإلا كان كاذبا.
المفردات :
يحادد : يجانب ويخالف ويعادي.
الخزي : الذل والهوان.
التفسير :
٦٣ – ﴿ ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ذلك الخزي العظيم ﴾.
أي : أغاب عن هؤلاء المنافقين ولم يصل إلى عملهم أنه من يعادى الله ورسوله، ويخالفه بتجاوز حدوده، أو يلمز رسوله في أعماله كقسمة الصدقات، أو في أخلاقه كقولهم : هو أذن يسمع كل ما يقال له، وكان في حد، والله ورسوله في حد ؛ فجزاؤه جهنم خالدا فيها أبدا، ذلك العذاب الدائم الذي بلغ الغاية في الهول والشدة. هو العار الفاضح، والذل الدائم، والشفاء الكبير.
﴿ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ ( ٦٤ ) وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ ( ٦٥ ) لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ( ٦٦ ) ﴾.
المفردات :
يحذر : يخاف.
استهزئوا : استخفوا واسخروا.
مخرج : مظهر.
التفسير :
٦٤ – ﴿ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ ﴾.
سبب النزول :
قال السدي : قال بعض المنافقين : والله لوددت لو أنى قدمت فجلدت مائة، ولا ينزل فينا شيء يفضحنا ؛ فنزلت الآية.
وأخرج أبو الشيخ ابن حيان عن قتادة قال : كانت هذه السورة تسمى : الفاضحة فاضحة المنافقين. وكان يقال لها : المنبئة ؛ لأنها أنبأت بمثالبهم وعوراتهم.
تمهيد :
كان المنافقون يخافون من نزول القرآن فاضحا لهم ؛ كاشفا استهزاءهم بآيات الله، وكلامهم الذي ينتقضون فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
﴿ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم... ﴾ الآية.
أي : يخاف المنافقون ويتحرزون أن تنزل على المؤمنين سورة تكشف أحوالهم، وتفضح أسرارهم وتبين نفاقهم، وتخبرهم بما أخفى المنافقون في قلوبهم ؛ وبما كانوا يتحدثون به فيما بينهم، من سخرية واستهزاء بالرسول، وبما أنزل الله عليه من كتاب، واستخفاف بالمؤمنين.
﴿ قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون ﴾.
أي : قل لهم يا محمد : استهزئوا بآيات الله كما تشاؤون، وهو أمر يقصد به : التهديد والوعيد.
وبالغوا أيها المنافقون في حذركم وتخفّيكم ما أردتم ؛ إن الله تعالى معلن ومظهر ما تخافون إظهاره ؛ وتخشون انكشافه، بإنزال الآيات القرآنية التي تفضحكم على رءوس الأشهاد، وتهتك أستاركم.
المفردات :
نخوض : ندخل ونمضي في الكلام نشغل به أنفسنا.
ونلعب : ونبعث.
التفسير :
٦٥ – ﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ... ﴾ الآية.
سبب النزول :
أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم : عن قتادة قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوته إلى تبوك ؛ إذ نظر إلى أناس بين يديه من المنافقين يقولون : أيرجو هذا الرجل أن تفتح له قصور الشام وحصونها ؟ ! هيهات هيهات ؛ فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك، فقال : احبسوا على الركب، فأتاهم. فقال صلى الله عليه وسلم : قلتم : كذا وكذا ؛ قالوا : يا نبي الله، إنما كنا نخوض ونلعب ؛ فنزلت.
والمعنى :
والله لئن سألتهم يا محمد عما كانوا يتحدثون به من استهزاء وسخرية من الرسول والمؤمنين.
ليقولن معتذرين كذبا : إنما كنا ندخل ونمضي في أحاديث مختلفة للتسلية ؛ وتخفيف وطأة السفر، ولم نكن جادين فيما تحدثنا به ؛ بل كنا لاهين ولاعبين، لا نقصد بذلك سخرية ولا استهزاء.
﴿ قل أبالله آياته ورسوله كنتم تستهزئون ﴾.
أي : قل لهؤلاء المنافقين، المستهزئون بما يجب إجلاله، واحترامه، وتوقيره – قل لهم، غير ملتفت إلى اعتذارهم فليسوا فيه بصادقين، قل لهم تقريعا، وتوبيخا : ألم تجدوا ما تستهزئون به في مزاحكم ولعبكم كما تزعمون سوى أوامر الله القادر على كشف أسراركم، وآيات الله المجيدة، ورسوله الصادق، الذي جاء لهدايتكم وإخراجكم من الظلمات إلى النور.
المفردات :
لا تعتذروا : لا تطلبوا قبول المعذرة والحجة التي تبرئون بها أنفسكم.
مجرمين : مرتكبين للجرم وهو الذنب العظيم.
التفسير :
٦٦ – ﴿ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ... ﴾ الآية.
أي : لا تشغلوا أنفسكم بتلمس المعاذير وانتحالها ؛ رغبة في دفع اللوم والعتاب عنكم ؛ لتحقق كذبها وبطلانها ؛ فإن الاستهزاء بالله كفر محض وشر مستطير، وكذلك الاستهزاء بالرسول وأخلاقه وأعماله.
أي : لا تفعلوا مالا ينفع ؛ فقد ظهر كذبكم ونفاقكم وكفركم ؛ بالاجتراء على الله والاستهزاء به وبآياته ورسوله، بعد أن أعلنتم الإيمان وأظهرتم الإسلام.
﴿ إن نعف عن طائفة منكم ﴾.
أي : إذا صفحنا عن جماعة منهم لصدق توبتهم، وإخلاص إيمانهم وابتعادهم عن الإيذاء والاستهزاء بعد أن خاضوا في ذلك مع الخائضين.
﴿ نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين ﴾.
أي : نعاقب جماعة أخرى على الكفر والنفاق ؛ لإصرارهم على ذلك ومضيهم في السخرية والاستهزاء.
من كتب التفسير
١ – جاء في تفسير الفخر الرازي ما يأتي :
الاستهزاء بالدين يعد من باب الكفر، إذ إنه على الاستخفاف، والأساس الأول في الإيمان تعظيم الله تعالى، بأقصى الإمكان، والجمع بينهما محال.
٢ – جاء في تفسير ابن كثير ما يأتي :
قال ابن إسحاق : كان جماعة من المنافقين منهم وديعة بن ثابت، ومنهم رجل من أشجع، حليف لبني سلمة يقال له : " مخش بن حمير " يسيرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى تبوك، فقال بعضهم : أتحسبون جلاد بني الأصفر – أي : الروم كقتال العرب بعضهم ؟ والله لكأنّا بكم غدا مقرنين في الحبال ؛ إرجافا وترهيبا للمؤمنين.
فقال مخش بن حمير : لو رددت أن أقاضي على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة، وأننا ننجو من أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم – فيما بلغني – لعمار بن ياسر : " أدرك القوم فإنهم قد احترقوا، فسلهم عما قالوا فإن أنكروا فقل : بلى، قلتم، كذا وكذا " ؛ فانطلق إليهم عمار فقال ذلك لهم ؛ فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه.
فقال وديعة بن ثابت – ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف على راحلته - : يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب.
فقال مخش١٠٦ بن حمير : يا رسول الله، قعد بي اسمى واسم أبي، فكان الذي عفى عنه في هذه الآية هو مخش بن حمير، فتسمى : عبد الرحمان، وسأل الله أن يقتل شهيدا، لا يعلم مكانه ؛ فقتل يوم اليمامة ولم يوجد له أثر١٠٧.
﴿ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ( ٦٧ ) ﴾.
المفردات :
المنافقون والمنافقات : هم الذين يظهرون غير ما يضمرون.
بعضهم من بعض : أي : متشابهون في النفاق والبعد عن الإيمان.
يقبضون أيديهم : كناية عن شدة بخلهم.
نسوا الله فنسيهم : أي : تركوا حق الله عليهم ؛ فحرمهم فضله.
الفاسقون : الخارجون عن دين الله.
التفسير :
٦٧ – ﴿ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ... ﴾ الآية.
تستمر الآيات في بيان فضائح المنافقين وقبائحهم، وتبين الآية هنا صفات المنافقين، والفروق الواضحة بين صفات المنافقين، وصفات المؤمنين.
ولما كان المؤمنون والمؤمنات يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، كان المنافقون عكسهم.
﴿ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ ﴾.
أي : الرجال والنساء يشبه بعضهم بعضا، في صفة النفاق والبعد عن الإيمان، وفي الأخلاق والأعمال.
كما يقول إنسان لآخر : أنت مني وأنا منك، أي : أمرنا واحد لا مباينة ولا مخالفة.
﴿ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ ﴾.
هنا تفصيل وبيان ؛ لتشابه ذكورهم وإناثهم في الأعمال المنكرة والأفعال الخبيثة.
فهم يأمرون بالمنكر، وهو ما أنكره الشرع ونهى عنه : كالكذب، والخيانة، وخلف الوعد، ونقض العهد.
أخرج الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
" آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان " ١٠٨.
وفي رواية : " وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر ".
﴿ وينهون عن المعروف ﴾.
وهو كل ما عرف عن الشرع حسنه، وأقره العقل والطبع كالجهاد والإيمان والإخلاص، وبذل المال في سبيل الله.
﴿ ويقبضون أيديهم ﴾.
أي : يمسكون أيديهم بالمال ضنا به وشحا، فلا يبسطون أيديهم بالنفقة والعطاء للمحتاجين، قال تعالى عنهم :﴿ هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون ﴾. ( المنافقون : ٧ ).
﴿ نسوا الله فنسيهم ﴾.
أي : تركوا طاعة الله وخشيته ومراقبته ؛ فتركهم سبحانه وحرمهم من هدايته ورحمته وفضله.
والمقصود بالنسيان هنا : لازمه وهو الترك والإهمال ؛ لأن حقيقة النسيان على الله تعالى محال.
والمراد : أن الله جازاهم بمثل فعالهم، وعاملهم معاملة من نسيهم، بحرمانهم من لطفه وفضله وتوفيقه في الدنيا ؛ ومن الثواب في الآخرة.
كما قال تعالى :﴿ وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين ﴾. ( الجاثية : ٣٤ ).
﴿ إن المنافقين هم الفاسقون ﴾.
أي : إن المنافقين الذين تقدم شرح حالهم، هم الخارجون عن طريق الحق والاستقامة، الداخلون في طريق الضلالة، المتمردون في الكفر، المنسلخون من كل خير.
﴿ وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ( ٦٨ ) كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ( ٦٩ ) ﴾.
المفردات :
حسبهم : كافيهم.
ولعنهم : وطردهم من رحمته.
مقيم : دائم لا يزول ولا يتحول.
التفسير :
٦٨ – ﴿ وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ... ﴾ الآية.
تبيّن هذه الآية سوء مصيرهم، وعقابهم في الآخرة وكذلك عقاب الكفار الصرحاء في الكفر.
والمعنى :
إن المنافقين والمنافقات والكفار، أوعدهم الله جميعا نار جهنم يدخلونها ماكثين فيها أبدا مخلدين هم الكفار فيها.
﴿ هي حسبهم ﴾. أي : جهنم وحدها تكفيهم ؛ عقابا وعذابا على نفاقهم وكفرهم.
﴿ ولعنهم الله ﴾. أي : طردهم وأبعدهم من رحمته.
﴿ ولهم عذاب مقيم ﴾. ولهم عذاب دائم لا ينقطع فهم في الدنيا يعيشون في عذاب القلق والحذر ؛ من أن يطلع المسلمون على نفاقهم، وفي الآخرة يذوقون عذاب النار، ماكثين فيه أبدا.
﴿ ولهم عذاب مقيم ﴾. أي : دائم لا يفارقهم في جهنم ؛ جزاء ما اقترفوا من جرائم وآثام.
المفردات :
فاستمعوا بخلاقهم : فتمتعوا بنصيبهم الذي قدر لهم من الملاذ والشهوات.
وخضتم : ومضيتم في أحاديث الاستهزاء والسخرية.
حبطت : بطلت وضاع ثوابها.
التفسير :
٦٩ – ﴿ كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا... ﴾ الآية.
من شأن القرآن أن يلفت النظر إلى ما أصاب الأمم السابقة التي كذبت رسلها وشغلتها العاجلة عن الباقية مثل : قوم هود نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم.
وهنا يذكر المنافقين في المدينة، والكفار في مكة وأشباههم في كل مكان : أن من سبقهم من المكذبين لم يحصل لهم إلا حبوط الأعمال وإلا الخزي والخسار ؛ مع أنهم كانوا أقوى من هؤلاء المنافقين ؛ وأكثر أموالا وأولادا.
وقد جاء الخطاب في بداية الآية على أسلوب الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ؛ لتحريك نفوسهم إلى الاعتبار والاتعاظ.
والمعنى :
أنتم أيها المنافقون، حالكم كحال الذين خلوا من قبلكم من الطغاة ؛ في الانحراف عن الحق، والاغترار بشهوات الدنيا وزينتها، والاستغناء بها عن النظر في العواقب، والتأمل في الحق والخير.
لكن هؤلاء الطغاة السابقين، كانوا يمتازون عنكم ؛ بأنهم كانوا أعظم قوة في أبدانهم، وممتلكاتهم وتفوقهم، وكانوا أكثر منكم أموالا وأولادا.
﴿ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ ﴾.
الخلاق : النصيب وهو ما خلق للإنسان أي قدر من خير.
والمعنى : إن السابقين تمتعوا بنصيبهم الذين قدر لهم من حظوظ الدنيا، وأفرغوا كل جهد لهم في التمتع بالملذات والشهوات، ونسوا حق الله عليهم، ولم يلتزموا بطاعته، واستخفوا بأنبيائهم وسخروا منهم ؛ فكذلك كنتم بعدهم مثلهم ؛ انتفعتم بنصيبكم الذي قدر لكم من متاع الدنيا وزينتها، وحرصتم عليه، وجعلتم الاشتغال به غاية الغايات.
وبعد أن امتلأت أيديكم بالنعم ؛ استعملتموها في غير ما خلقت له ؛ وسخرتموها لإرضاء شهواتكم الخسيسة، وملذاتكم الفانية.
وقريب من ذلك قوله تعالى :﴿ أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها ﴾. ( الأحقاف : ٢٠ ).
قال الزمخشري في تفسير الكشاف :
فإن قلت : أي فائدة في قوله :﴿ فاستمتعوا بخلاقهم ﴾. وقوله :﴿ كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم ﴾. مغن عنه كما أغنى :﴿ كالذي خاضوا ﴾. عن أن يقال : وخاضوا فخضتم كالذي خاضوا ؟
قلت : فائدته : أن يذم الأولين بالاستمتاع، بما أوتي من حظوظ الدنيا ورضاهم بها، والتهائهم بشهواتها الفانية ؛ عن النظر في العاقبة وطلب الفلاح في الآخرة، وأن يخسس أمر الاستمتاع، ويهجّن أمر الرضا به، ثم يشبه بعد ذلك حال المخاطبين بحالهم، كما تريد أن تنبه بعض الظلمة على سماجة فعله فتقول : أنت مثل فرعون ؛ كان يقتل بغير جرم، ويعذب ويعسف ؛ وأنت تفعل مثل فعله، وأما ﴿ وخضتم كالذي خاضوا ﴾. فمعطوف على ما قبله مستند إليه، مستغن باستناده إليه عن تلك التقدمة١٠٩.
وعموما فالتكرار هنا للتأكيد أيضا.
﴿ وخضتم كالذي خاضوا ﴾. أي : دخلتم في الباطل واللهو.
والمعنى :
ودخلتم أيها المنافقون والكافرون في حمأة الباطل، وانغمستم فيه كانغماس الذين مضوا قبلكم من الأمم.
﴿ أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة ﴾.
أي : أولئك الذين انغمسوا في الباطل إلى الأذقان من الفريقين، وبطلت مساعيهم، وفسدت أعمالهم في الدنيا، لأنها أعمال رياء وسمعة، وفي الآخرة ؛ لأنهم لم يقصدوا بها وجه الله.
﴿ وأولئك هم الخاسرون ﴾.
الذين خسروا في مظنة الربح والمنفعة ؛ لأنهم لم يحصلوا على الثواب، وأتعبوا أنفسهم في الرد على الأنبياء والرسل ؛ فما وجدوا إلا فوات الخيرات في الدنيا والآخرة.
قال الزمخشري : وهذا نقيض قوله تعالى :﴿ وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين ﴾. ( العنكبوت : ٢٧ ).
﴿ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ( ٧٠ ) ﴾.
المفردات :
نبأ : خبر له شأن.
المؤتفكات : المنقلبات وهي قرى قوم لوط.
بالبينات : بالحجج الواضحات.
التفسير :
٧٠ – ﴿ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ... ﴾
ألم يصل إلى أسماع هؤلاء المنافقين والكافرين أخبار الأمم المكذبة للرسل، وما حل بهم من عقوبات ومن هؤلاء الأقوام : قوم نوح الذين أغرقوا بالطوفان الذي عم جميع أهل الأرض القديمة، إلا من آمن بنوح عليه السلام.
وعاد قوم هود، الذين أهلكوا بالريح العقيم ؛ لما كذبوا هودا عليه السلام.
وثمود قوم صالح، الذين أخذتهم الصيحة ؛ لما كذبوا صالحا وعقروا الناقة.
وقوم إبراهيم الذين أهلكهم الله بسلب النعمة عنهم، وبتسليط البعوضة على ملكهم نمرود بن كنعان ابن كوش الكنعاني، وقد نصر الله إبراهيم وأيده بالمعجزات الظاهرة، وأنقذه من النار.
وأصحاب مدين قوم شعيب عليه السلام، الذين أصابتهم الرجفة وعذاب النار يوم الظلة.
والمؤتفكات. وهي القرى التي ائتفكت بأهلها، أي : انقلبت فصار أعلاها أسفلها، فالمؤتفكات صفة القرى وهي قرى قوم لوط الذين كانوا يسكنون في مدائن، فأهلكهم الله بالخسف، وجعل عالي أرضهم سافلها وأمطر عليهم الحجارة، وأمّ قراهم سدوم، أهلكهم الله عن آخرهم ؛ بتكذيبهم نبي الله لوطا عليه السلام، وإتيانهم الفاحشة، واستغناء الرجال بالرجال، والنساء بالنساء، وهي المثلية الجنسية. قال تعالى :﴿ والمؤتفكة أهوى * فغشاها ما غشى ﴾. ( النجم : ٥٣، ٥٤ ).
وقد أهلك الله مكذبين كثيرين، لكنه اكتفى هنا بذكر هذه الطوائف الست ؛ لأن آثارهم باقية، ومواطنهم هي الشام والعراق واليمن وهي مواطن قريبة من أرض العرب، فكانوا يمرون عليها في أسفارهم، كما كانوا يعرفون الكثير من أخبارهم.
﴿ أتتهم رسلهم بالبينات ﴾.
وهذا كلام مستأنف لبيان أبنائهم وأخبارهم أي : إن هؤلاء المهلكين قد جاءتهم رسلهم بالمعجزات والحجج، والدلائل القاطعة على وحدانية الله، فلم يؤمنوا وكذبت كل أمة رسولها وآذته ؛ فأهلكهم الله بذنوبهم، وما كان الله ليعذب أحدا بغير ذنب.
﴿ فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾.
أي : فما صح ولا استقام في سنة الله في خلقه أن يعاقبهم بغير ذنب فيظلمهم بذلك، ولكن هؤلاء الطغاة ظلموا أنفسهم، بالكفر والفسوق والعصيان ؛ فاستحقوا ذلك العذاب.
﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ٧١ ) وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ( ٧٢ ) ﴾.
المفردات :
أولياء : جمع ولي وهو المحب.
التفسير :
بعد أن بين القرآن سوء حال المنافقين والكفار في الدنيا والآخرة بين هنا حسن حال المؤمنين وجميل فعالهم، وما يلقونه من جزاء في الآخرة. والقرآن بهذا يوازن بين كفتين ؛ لينزجر المنافق ويتوب العاصي، ويزداد الذين آمنوا إيمانا.
٧١ – ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ... ﴾.
إن التعاون بين أهل الإيمان من المؤمنين والمؤمنات كان معروفا من اليوم الأول للإسلام، وكان قائما في ميادين الهجرة والجهاد والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ؛ فأخت عمر بن الخطاب أرشدته إلى الإسلام، وأسماء بنت أبي بكر لها موقف في الهجرة، وهناك بيعة تسمى : بيعة النساء ذكرها القرآن الكريم في الآية ١٢ من سورة الممتحنة، وكانت النساء تشهد الجماعات والجمع والأعياء وتساهم في الجهاد، وكن يسقين الماء ويجهزن الطعام، ويحرضن على القتال ويرددن المنهزم من الرجال، ويواسين الجرحى ويعالجن المرضى.
وقوله سبحانه :﴿ بعضهم أولياء بعض ﴾. فهم نصراء متوادون متحاربون ؛ كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : " ترى المؤمنين في توادهم تراحمهم كمثل الجسد الواحد ؛ إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى " ١١٠.
وفي الحديث الصحيح أيضا : " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا " ١١١. وشبك صلى الله عليه وسلم بين أصابعه، وقد ذكر سبحانه صفات المنافقين، كما يأتي :
١ – بعضهم من بعض ؛ يقلد بعضهم بعضا، بدون ولاء ولا محبة.
٢ – يأمرون بالمنكر.
٣ – ينهون عن المعروف.
٤ – لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى.
٥ – يقبضون أيديهم ويمسكون بها عن النفقة، ولا ينفقون إلا وهم كارهون.
وفي الآية ٧١ من سورة التوبة نجد صفات المؤمنين كالآتي :
١ – ﴿ بعضهم أولياء بعض ﴾، يتولى بعضهم بعضا بما يعود عليهم بالخير، في مقابل المنافقين بعضهم من بعض، بدون ولاء.
﴿ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله... ﴾.
٢ – وهم يأمرون بالمعروف : وهو كل ما عرف عن الشرع حسنه.
٣ – وهم ينهون عن المنكر : وهو كل ما عرف عن الشرع قبحه.
٤ – وهم يقيمون الصلاة تامة الأركان في خشوع وخضوع.
٥ – وهم يؤدون الزكاة خاصة لوجه الله.
٦ – والمؤمنون والمؤمنات يطيعون الله ورسوله، ويتركون ما نهيا عنه ؛ امتثالا وحبا وطاعة لله ورسوله.
﴿ أولئك سيرحمهم الله ﴾.
أي : هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات ؛ تعهد الحق أن يشملهم برحمته ؛ وأن يسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة.
﴿ إن الله عزيز حكيم ﴾.
فهو سبحانه قوي قاهر مالك الملك بيده الخلق والأمر، وهو سبحانه حكيم في أعماله وفي تدبير أمر عباده على وفق العدل والحكمة والصواب فيخص المؤمنون بالجنة والرضوان، ويخص المنافقين النار والعذاب والغضب.
المفردات :
خالدين فيها : ماكثين فيها مكثا دائما.
جنات عدن : أي : جنات إقامة وخلود، يقال : عدن بالمكان عدنا وعدونا أقام به.
التفسير :
٧٢ – ﴿ وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾.
فصّل الله تعالى في هذه الآية ما وعد به المؤمنين من رحمته في الآية السابقة حين قال :﴿ أولئك سيرحمهم الله ﴾.
وقد أعد الحق سبحانه وتعالى ثلاثة أشياء مفسرة للرحمة :
١ – الجنات التي تجري من تحتها النهار، فينعم الناظر إليها ؛ حين تجري الأنهار تحت أشجارها وغرفها منضبطة بالقدرة الإلهية في غير أخدود( شق ) وهم فيها خالدون فلا يموتون ولا يخرجون منها.
٢ – المساكن الطيبة، وهي المنازل التي تستطيبها النفوس، أو يطيب العيش فيها، في جنات عدن وهي أبهى أماكن الجنة وأسناها، وعدن. اسم موضع معين في الجنة، أو بمعنى : دار إقامة، ينزل فيها الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون ومن يشاء الله.
٣ – رضوان من الله أكبر، وهذا الرضا هو الفوز الأكبر، والنعيم الروحي الحقيقي، فالسعادة الروحية أفضل من السعادة الجسمانية، وقيل : إن الرضوان هو رؤية الله يوم القيامة.
﴿ ذلك هو الفوز العظيم ﴾. أي : هذا الفوز بالجنة ونعيمها، ورضوان الله وكرامته لأحبابه في الجنة، هو الفوز العظيم، فمتاع الدنيا قليل فان، أما نعيم الجنة ورضوان الله فهو الفوز العظيم حقا وصدقا.
من السنة النبوية الشريفة
جاء في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة، آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن ".
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة، طولها ستون ميلا في السماء، للمؤمن فيها أهلون، يطوف عليهم، لا يرى بعضهم بعضا " ١١٢.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه : " إن في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيله، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسئلوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمان " ١١٣.
وروى الإمام مالك والشيخان : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة، فيقولون : لبيك ربنا وسعديك، والخير في يديك، فيقول : هل رضيتم ؟ فيقولون : ومالنا لا نرضى يا رب، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك ؟ ! فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك ؟ فيقولون : يا رب، وأي شيء أفضل من ذلك ؟ ! فيقول : أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدا " ١١٤.
من كتب التفسير
جاء في كتاب : في ظلال القرآن للأستاذ سيد قطب ما يأتي :
﴿ ورضوان من الله أكبر ﴾.
وإن الجنة بكل ما فيها من نعيم لتتضاءل وتتوارى في هلالات ذلك الرضوان الكريم.
﴿ ورضوان من الله أكبر ﴾.
إن لحظة اتصال بالله، لحظة شهود لجلاله، لحظة انطلاق من حبسة هذه الأمشاج، ومن ثقلة هذه الأرض.... لحظة إشراق تنير فيها حنايا الروح بقبس من روح الله، إن لحظة واحدة من تلك اللحظات التي تتفق للندرة القليلة من البشر في ومضة صفاء، ليتضاءل إلى جوارها كل متاع، وكل رجاء، فكيف برضوان من الله يغمر هذه الأرواح، وتستشعره بدون انقطاع ؟ !
﴿ ذلك هو الفوز العظيم ﴾.
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( ٧٣ ) يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِير( ٧٤ ) ﴾.
المفردات :
واغلظ عليهم : واشدد عليهم ولا تأخذ بهم رأفة ورحمة.
ومأواهم جهنم : أي : ومكانهم ومقرهم الذي يأوون إليه وينزلون فيه جهنم.
المصير : المآل والمرجع.
التفسير :
٧٣ – ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ... ﴾.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سهلا مألفّا محببا، وكان يلقى الناس جميعا مستبشرا باسما متفائلا، يمتثل قوله تعالى :﴿ فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر... ﴾( آل عمران : ١٥٩ ).
وكانت هذه المعاملة الحسنة ؛ ربما أطمعت المنافقين وجرأتهم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعاملهم بالحسنى مثل المؤمنين ؛ فأمره الله أن يغلظ لهم في القول والفعل، وأن يظهر في وجهه عدم الرضا عنهم، حتى يدفعهم ذلك إلى البحث عن عيوب أنفسهم، والانتقال من النفاق إلى الإيمان.
روى عن ابن عباس رضي الله عنه قال : " جهاد الكفار بالسيف وجهاد المنافقين باللسان ".
وعن ابن مسعود قال : لما نزلت :﴿ يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين ﴾ ؛ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجاهد بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، فإن لم يستطع فليلقه بوجه مكفهر.
قال صاحب المنار : ويفهم من هذا الحديث أن هذا في جهاد الأفراد بالمعاملة، لا في جهاد الجماعات بالمقاتلة ؛ فهو إذا بمعنى إزالة المنكر فيقوله صلى الله عليه وسلم : " من رأى منكم منكرا، فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان " ١١٥. رواه الجماعة إلا البخاري.
وفي معنى هذه الآية قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة ﴾. ( التوبة : ١٢٣ ).
والغلظة في اللغة : الخشونة والشدة، ومعاملة العدو المحارب بهما من وضع الشيء في موضعه.
قال الشاعر :
ووضع الندى في موضع السيف في العلا مضر كوضع السيف في موضع الندى
فلما أساء المنافقون الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وقالوا عليه : هو أذن، وتكرر نقضهم لعهد النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أمره الله تعالى بالغلظة في جهاد الكفار، والمنافقين١١٦.
ومثل هذه الآية بنصها في سورة التحريم، قال تعالى :﴿ يا أيها النبي جاهد الكافر والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير ﴾( التحريم : ٩ ).
والخلاصة : أن الله سبحانه وتعالى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بجهاد الكفار الصرحاء ؛ الذين يظهرون الكفر، بالسيف والسلاح، وأن يجاهد المنافقين ويجادلهم بالحجة والبرهان، وإقامة الحدود، مع الغلظة والشدة والحزم في معاملتهم في الدنيا.
﴿ ومأواهم جهنم وبئس المصير ﴾.
أما في الآخرة فإن مرجعهم ومقرهم هو النار وبئس المرجع الذي يصيرون إليه، والنهاية التي سينتهون إليها.
المفردات :
قالوا كلمة الكفر : أي : نطقوا بما يدل عليه من الألفاظ.
وهموا : المراد من الهم هنا : العزم. أي : عزموا.
بما لم ينالوا : بما لم يستطيعوا الوصول إليه.
نقموا : كرهوا وأنكروا.
ولي : صديق ينفعهم، أو سيد متولي أمرهم.
التفسير :
٧٤ – ﴿ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ.... ﴾ الآية.
تشير أسباب النزول إلى أكثر من سبب لنزول هذه الآية، مما يفيد تعدد الأحداث التي صدرت من المنافقين، وفيها كيد ودس للرسول صلى الله عليه وسلم وللمسلمين.
فإذا واجههم الرسول صلى الله عليه وسلم بما قالوه من مخالفات تبرأوا من ذلك، وحلفوا كذبا لم يقولوه.
أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال : ذكر لنا أن رجلين اقتتلا أحدهما من جهينة، والآخر من غفار وكانت جهينة حلفاء الأنصار، فظهر الغفاري على الجهيني، فقال عبد الله بن أبي للأوس : انصروا أخاكم، والله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل : " سمن كلبك يأكلك ". والله، لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ؛ فسعى بها رجل من المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فأرسل إليه فجعل يحلف بالله ما قاله١١٧ ؛ فأنزل الله :
﴿ يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر... ﴾ الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس : أن الجلاس بن سويد قال : لئن كان محمد صادقا ؛ لننحن شر من الحمير( يقصد الآيات التي نزلت فيمن تخلف من المنافقين ) ؛ فرفع عمير بن سعيد ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بما قاله الجلاس( بضم الجيم ) ؛ فأحضر النبي الجلاس وسأله عن مقالته ؛ فحلف بالله : ما قلت، فأنزل الله تعالى :﴿ يحلفون بالله ما قالوا... ﴾ الآية.
وقيل : إن الجلاس تاب بعد ذلك وحسنت توبته.
وقيل : إنها نزلت في رجل من المنافقين ؛ قال له النبي صلى الله عليه وسلم : علام تشتمني أنت وأصحابك، فانطلق الرجل فجاء بأصحابه، فحلفوا بالله ما قالوا ؛ فتجاوز عنهم النبي صلى الله عليه وسلم : فأنزل الله :﴿ يحلفون بالله ما قالوا... ﴾ الآية.
وعلماء القرآن يذكرون : أنه قد يتعدد السبب ؛ والمنزل واحد.
فلا مانع أن تتعدد حوادث من المنافقين تكلموا فيها كلاما سيئا على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين، فلما انكشف أمرهم، ووجهت التهمة إليهم ؛ أقسموا بالله ما قالوا.
والمعنى : يقسم هؤلاء المنافقون بالله : ما صدر عنهم ما نسب إليهم من القول السيئ، وهم كاذبون في دعواهم حانثون في يمينهم.
﴿ ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم ﴾.
أي : لقد صرحوا بكلمة تدل على كفرهم الذي كتموه، وتفضح نفاقهم، إذ قالوا : إن كان ما يقوله محمد حقا في شأن المنافقين وهم أشرافنا ؛ لنحن شر من الحمير.
أو أن كلمة الكفر إشارة إلى كل مقالة قالها المنافقون في ذم النبي صلى الله عليه وسلم مثل : قولهم : هو أذن، وقولهم لا تنفروا في الحر... وغير ذلك من الكلمات القبيحة التي نطقوا بها، أو خبئوها في قلوبهم ونفوسهم ؛ وبذلك ﴿ كفروا بعد إسلامهم ﴾. وأظهروا ما في قلوبهم من الكفر، بعد إظهارهم الإسلام.
﴿ وهموا بما لم ينالوا ﴾.
جاء في أسباب النزول للواحدي، وفي كتب التفسير :
أنها نزلت في خمسة عشر رجلا من المنافقين ؛ هموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، عند عودته من غزوة تبوك، واتفقوا أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذا تسنّم العقبة بالليل.
فأخذ عمار بن ياسر بخطام راحلته يقودها، وحذيفة يسوقها، فبينما هما كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل، وقعقعة السلاح، فالتفت فإذا هو بقوم ملثمين فقال : إليكم يا أعداء الله ؛ فأمسكوا، ومضى النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزل منزله الذي أراد ؛ فأنزل الله تعالى :﴿ وهموا بما لم ينالوا ﴾.
أي : حاولوا إلحاق الأذى برسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنهم لم يستطيعوا ذلك ؛ لأن الله عصمه من شرورهم.
وقيل : هموا بإخراج الرسول والمؤمنين من المدينة، أو بأن يتوجوا عبد الله بن أبي ملكا عليهم ؛ فأحبط الله مؤامرتهم.
﴿ وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله ﴾.
أي : وما حمل هؤلاء المنافقين والكفار على بغض النبي وما عابوا من أمر الإسلام شيئا يستحق العيب ؛ بل المحبة والإيمان.
فقد كانوا قبل قدوم النبي إلى المدينة في غاية الضنك وشدة الحياة ؛ فأغناهم الله تعالى من فضله، وأغناهم الرسول بالغنائم والمنح، وكانوا كسائر الأنصار في المدينة فقراء.
وهذه الجملة جاءت على أسلوب : تأكيد المدح بما يشبه الذم مثل قول الشاعر :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم *** يقطرن من نجدة دما
أي : ليس هناك شيء ينقمون منه ؛ إلا أن الإسلام كان سبب غناهم.
وشبيه بهذه الآية قوله تعالى :﴿ وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد * الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد ﴾. ( البروج : ٨، ٩ ).
لقد أغنى الله المنافقين بعد فقر، وقتل للجلاس مولى ؛ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته ب ١٢ ألف درهم ؛ فاستغنى بها الجلاس.
وقد كان الإسلام وسيلة إلى الغنى الروحي، لمن حمل العقيدة فكانت سببا في عز الدنيا وسعادة الآخرة.
﴿ فإن يتوبوا يك خيرا لهم ﴾.
فإن يتوبوا من النفاق ومساوئ أقوالهم وأفعالهم ؛ يكن ذلك خيرا لهم وأصلح، ويقبل الله توبتهم، وفي هذا ترغيب لهم بالتوبة، وفتح باب الأمل والرجاء بالرحمة أمامهم.
قيل : إن الجلاس بن سويد بعد هذه الآية وحسنت توبته.
﴿ وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة ﴾.
أي : إن أعرضوا عن التوبة ؛ يعذبهم الله عذابا في الدنيا بالقتل والأسر، واغتنام أموالهم، وعيشهم في هم وقلق وخوف، وإحساسهم بالعزلة والمقاطعة من جانب المؤمنين، كما يعذبهم في الآخرة عذابا شديدا في الدرك الأسفل من النار.
﴿ وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير ﴾.
ليس لهم أحد في الأرض يدفع عنهم عذاب الله أو يحميهم من عقابه ؛ لأن عقاب الله لن يدفعه دافع إلا هو.
﴿ وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد ومالهم من دونه من وال ﴾. ( الرعد : ١١ ).
﴿ وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ( ٧٥ ) فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ ( ٦٧ ) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ ( ٧٧ ) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ( ٧٨ ) ﴾.
المفردات :
من فضله : زيادة خيره وإنعامه.
سبب النزول
نزلت هذه الآيات في رجال من المنافقين : نبتل بن الحارث ؛ وجد بن قيس، ومعتب بن قشير ؛ عاهدوا الله ورسوله : لئن أغناهم الله من فضله ؛ ليسارعن إلى إخراج الصدقة، وصلة الرحم، والحج، والزكاة، وسائر القربات والطاعات.
فلما أعطاهم الله المال بخلوا به، ونقضوا العهد وأعرضوا عن النفقة وعن الإسلام، وعن تكليف الله وأوامره.
فزادهم الله نفاقا في قلوبهم إلى يوم الحساب في الآخرة أي : ماتوا منافقين.
قصة مشهورة لكنها غير صحيحة
هناك قصة مشهورة بين الناس، تروى سبب نزول هذه الآيات، رددتها كتب التفسير كما وردت في كتاب إحياء علوم الدين للإمام أبي حامد الغزالي.
بيد أن هذه القصة لم تصح لدى المحدثين.
وهي ما أخرجه الطبراني وابن مردوية وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل، بسند ضعيف عن أبي أمامة : أن ثعلبة بن حاطب أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله، ادع الله أن يرزقني مالا، فقال عليه الصلاة والسلام، " يا ثعلبة، قليل تؤدى حقه من كثير لا تطيقه ".
فذهب ثم عاد فقال : يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالا ؛ لأعطين كل ذي حق حقه ؛ فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فاتخذ غنما فنمت وكثرت حتى ضاقت بها المدينة، فنزل واديا وانقطع عن الجماعة والجمعة.
ثم أنزل الله على رسوله :﴿ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ﴾. ( التوبة : ١٠٣ ).
فاستعمل النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقات رجلين، وكتب لهما كتابا، فأتيا ثعلبة، فأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقال : ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية، فارجعنا حتى أرى رأيي ؛ فنزلت فيه وفي أمثاله تلك الآيات.
وأخرج ابن جرير وابن مردوية عن ابن عباس : نحوه.
فجاء ثعلبة بالزكاة ؛ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :" إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك ".
ثم جاء بها إلى أبي بكر رضي الله عنه فلم يقبلها، ثم جاء إلى عمر في خلافته فلم يقبلها، ومات في زمان عثمان رضي الله عنه.
والحقيقة : أن ما روى عن ثعلبة هذا غير صحيح لدى المحدثين، وثعلبة بدرى أنصارى، وممن شهد الله له ورسوله بالإيمان.
قال ابن عبد البر : ولعل قول من قال في ثعلبة : إنه مانع الزكاة الذي نزلت فيه الآية غير صحيح والله أعلم.
وذكر عن ابن عباس في سبب نزول الآية : أن ثعلبة بن حاطب أبطأ عنه ماله بالشام، فحلف في مجلس من مجالس الأنصار : إن سلم ذلك المال لأتصدقنّ منه ولأصلن منه، فلما سلم بخل بذلك، فنزلت. وهذا أيضا غير صحيح١١٨.
وعلماء الحديث ضعفوا نسبة هذه الآيات إلى ثعلبة ؛ لأسباب تتعلق بسند الحديث، وبصاحب القصة لأنه شهد بدرا، والنبي صلى الله عليه وسلم قال :" لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم ؛ فقد غفرت لكم " ١١٩.
والآيات في محتواها تنطبق على المنافقين، وعلى كل من يقابل نعم الله بالكفران ؛ إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

قال السيد رشيد رضا في تفسير المنار :

" هذا بيان لحال طائفة من أولئك المنافقين، الذين أغناهم الله ورسوله من فضله، بعد الفقر والإملاق، ويوجد مثلهم في كل زمان، وهم الذين يلجئون إلى الله تعالى في وقت العسرة والفقر، أو الشدة والضر، فيدعونه ويعاهدونه على الشكر له، والطاعة لشرعه ؛ إذ هو كشف ضرهم، وأغنى فقرهم، فإذا استجاب الله لهم، نكسوا على رءوسهم، ونكصوا على أعقابهم، وكفروا النعمة وبطروا الحق، وهضموا حقوق الخلق، وهذا مثل من شر أمثالهم ". ا هـ.
التفسير :
٧٥ – ﴿ وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ... ﴾ الآية.
أي : ومن المنافقين قوم عاهدوا الله، وأكدوا عهودهم بالأيمان المغلظة ؛ فقالوا :﴿ لئن آتانا من فضله ﴾ لنتصدقن على الفقراء والمحتاجين، ولنعطين كل ذي حق حقه، ولنكونن من عباد الله الصالحين، الذين يؤدون حق الله في أموالهم من الإنفاق في سبيل الله، وسائر وجوه البر والخير وصلة الأرحام.
سبب النزول
نزلت هذه الآيات في رجال من المنافقين : نبتل بن الحارث ؛ وجد بن قيس، ومعتب بن قشير ؛ عاهدوا الله ورسوله : لئن أغناهم الله من فضله ؛ ليسارعن إلى إخراج الصدقة، وصلة الرحم، والحج، والزكاة، وسائر القربات والطاعات.
فلما أعطاهم الله المال بخلوا به، ونقضوا العهد وأعرضوا عن النفقة وعن الإسلام، وعن تكليف الله وأوامره.
فزادهم الله نفاقا في قلوبهم إلى يوم الحساب في الآخرة أي : ماتوا منافقين.
قصة مشهورة لكنها غير صحيحة
هناك قصة مشهورة بين الناس، تروى سبب نزول هذه الآيات، رددتها كتب التفسير كما وردت في كتاب إحياء علوم الدين للإمام أبي حامد الغزالي.
بيد أن هذه القصة لم تصح لدى المحدثين.
وهي ما أخرجه الطبراني وابن مردوية وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل، بسند ضعيف عن أبي أمامة : أن ثعلبة بن حاطب أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله، ادع الله أن يرزقني مالا، فقال عليه الصلاة والسلام، " يا ثعلبة، قليل تؤدى حقه من كثير لا تطيقه ".
فذهب ثم عاد فقال : يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالا ؛ لأعطين كل ذي حق حقه ؛ فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فاتخذ غنما فنمت وكثرت حتى ضاقت بها المدينة، فنزل واديا وانقطع عن الجماعة والجمعة.
ثم أنزل الله على رسوله :﴿ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ﴾. ( التوبة : ١٠٣ ).
فاستعمل النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقات رجلين، وكتب لهما كتابا، فأتيا ثعلبة، فأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقال : ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية، فارجعنا حتى أرى رأيي ؛ فنزلت فيه وفي أمثاله تلك الآيات.
وأخرج ابن جرير وابن مردوية عن ابن عباس : نحوه.
فجاء ثعلبة بالزكاة ؛ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :" إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك ".
ثم جاء بها إلى أبي بكر رضي الله عنه فلم يقبلها، ثم جاء إلى عمر في خلافته فلم يقبلها، ومات في زمان عثمان رضي الله عنه.
والحقيقة : أن ما روى عن ثعلبة هذا غير صحيح لدى المحدثين، وثعلبة بدرى أنصارى، وممن شهد الله له ورسوله بالإيمان.
قال ابن عبد البر : ولعل قول من قال في ثعلبة : إنه مانع الزكاة الذي نزلت فيه الآية غير صحيح والله أعلم.
وذكر عن ابن عباس في سبب نزول الآية : أن ثعلبة بن حاطب أبطأ عنه ماله بالشام، فحلف في مجلس من مجالس الأنصار : إن سلم ذلك المال لأتصدقنّ منه ولأصلن منه، فلما سلم بخل بذلك، فنزلت. وهذا أيضا غير صحيح١١٨.
وعلماء الحديث ضعفوا نسبة هذه الآيات إلى ثعلبة ؛ لأسباب تتعلق بسند الحديث، وبصاحب القصة لأنه شهد بدرا، والنبي صلى الله عليه وسلم قال :" لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم ؛ فقد غفرت لكم " ١١٩.
والآيات في محتواها تنطبق على المنافقين، وعلى كل من يقابل نعم الله بالكفران ؛ إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

قال السيد رشيد رضا في تفسير المنار :

" هذا بيان لحال طائفة من أولئك المنافقين، الذين أغناهم الله ورسوله من فضله، بعد الفقر والإملاق، ويوجد مثلهم في كل زمان، وهم الذين يلجئون إلى الله تعالى في وقت العسرة والفقر، أو الشدة والضر، فيدعونه ويعاهدونه على الشكر له، والطاعة لشرعه ؛ إذ هو كشف ضرهم، وأغنى فقرهم، فإذا استجاب الله لهم، نكسوا على رءوسهم، ونكصوا على أعقابهم، وكفروا النعمة وبطروا الحق، وهضموا حقوق الخلق، وهذا مثل من شر أمثالهم ". ا هـ.
٧٦ – ﴿ فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون ﴾.
فلما أعطاهم الله من فضله، ووسع عليهم من رزقه، وحقق لهم ما سألوه ؛ ضنوا بالمال على خلقه وبخلوا به وأمسكوه ؛ فلم يتصدقوا منه، ولم ينفقوا منه في مصالح الأمة كما عاهدوا الله عليه، بل تولوا بكل ما أوتوا من قوة عن العهد وطاعة الله، وأدبروا وأعرضوا إعراضا جازما عن النفقة وعن الإسلام، بسبب تأصل طبع النفاق في نفوسهم.
وهنا نجد أن الآية وصفتهم بصفات ثلاث :
الأولى : البخل، الثانية : التولي عن العهد، الثالثة : الإعراض عن تكاليف الله وأوامره.
سبب النزول
نزلت هذه الآيات في رجال من المنافقين : نبتل بن الحارث ؛ وجد بن قيس، ومعتب بن قشير ؛ عاهدوا الله ورسوله : لئن أغناهم الله من فضله ؛ ليسارعن إلى إخراج الصدقة، وصلة الرحم، والحج، والزكاة، وسائر القربات والطاعات.
فلما أعطاهم الله المال بخلوا به، ونقضوا العهد وأعرضوا عن النفقة وعن الإسلام، وعن تكليف الله وأوامره.
فزادهم الله نفاقا في قلوبهم إلى يوم الحساب في الآخرة أي : ماتوا منافقين.
قصة مشهورة لكنها غير صحيحة
هناك قصة مشهورة بين الناس، تروى سبب نزول هذه الآيات، رددتها كتب التفسير كما وردت في كتاب إحياء علوم الدين للإمام أبي حامد الغزالي.
بيد أن هذه القصة لم تصح لدى المحدثين.
وهي ما أخرجه الطبراني وابن مردوية وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل، بسند ضعيف عن أبي أمامة : أن ثعلبة بن حاطب أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله، ادع الله أن يرزقني مالا، فقال عليه الصلاة والسلام، " يا ثعلبة، قليل تؤدى حقه من كثير لا تطيقه ".
فذهب ثم عاد فقال : يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالا ؛ لأعطين كل ذي حق حقه ؛ فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فاتخذ غنما فنمت وكثرت حتى ضاقت بها المدينة، فنزل واديا وانقطع عن الجماعة والجمعة.
ثم أنزل الله على رسوله :﴿ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ﴾. ( التوبة : ١٠٣ ).
فاستعمل النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقات رجلين، وكتب لهما كتابا، فأتيا ثعلبة، فأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقال : ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية، فارجعنا حتى أرى رأيي ؛ فنزلت فيه وفي أمثاله تلك الآيات.
وأخرج ابن جرير وابن مردوية عن ابن عباس : نحوه.
فجاء ثعلبة بالزكاة ؛ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :" إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك ".
ثم جاء بها إلى أبي بكر رضي الله عنه فلم يقبلها، ثم جاء إلى عمر في خلافته فلم يقبلها، ومات في زمان عثمان رضي الله عنه.
والحقيقة : أن ما روى عن ثعلبة هذا غير صحيح لدى المحدثين، وثعلبة بدرى أنصارى، وممن شهد الله له ورسوله بالإيمان.
قال ابن عبد البر : ولعل قول من قال في ثعلبة : إنه مانع الزكاة الذي نزلت فيه الآية غير صحيح والله أعلم.
وذكر عن ابن عباس في سبب نزول الآية : أن ثعلبة بن حاطب أبطأ عنه ماله بالشام، فحلف في مجلس من مجالس الأنصار : إن سلم ذلك المال لأتصدقنّ منه ولأصلن منه، فلما سلم بخل بذلك، فنزلت. وهذا أيضا غير صحيح١١٨.
وعلماء الحديث ضعفوا نسبة هذه الآيات إلى ثعلبة ؛ لأسباب تتعلق بسند الحديث، وبصاحب القصة لأنه شهد بدرا، والنبي صلى الله عليه وسلم قال :" لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم ؛ فقد غفرت لكم " ١١٩.
والآيات في محتواها تنطبق على المنافقين، وعلى كل من يقابل نعم الله بالكفران ؛ إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

قال السيد رشيد رضا في تفسير المنار :

" هذا بيان لحال طائفة من أولئك المنافقين، الذين أغناهم الله ورسوله من فضله، بعد الفقر والإملاق، ويوجد مثلهم في كل زمان، وهم الذين يلجئون إلى الله تعالى في وقت العسرة والفقر، أو الشدة والضر، فيدعونه ويعاهدونه على الشكر له، والطاعة لشرعه ؛ إذ هو كشف ضرهم، وأغنى فقرهم، فإذا استجاب الله لهم، نكسوا على رءوسهم، ونكصوا على أعقابهم، وكفروا النعمة وبطروا الحق، وهضموا حقوق الخلق، وهذا مثل من شر أمثالهم ". ا هـ.
المفردات :
فأعقبهم نفاقا : أي : جعل الله عاقبة بخلهم نفاقا، أو أورثهم البخل نفاقا.
أخلفوا الله ما وعدوه : جعلوا وعدهم لله بالتصدق خلفهم والمراد : أنهم لم يوفوا بما وعدوا الله به من الصدق والصلاح.
التفسير :
٧٧ – ﴿ فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه.... ﴾
أي : صير الله عاقبة أمرهم نفاقا دائما في قلوبهم بمعنى : زادهم نفاقا، وقيل : أعقبهم ذلك البخل نفاقا، واستمر ذلك ثابتا متمكنا ملازما في قلوبهم إلى يوم الحساب في الآخرة.
وفي هذا دليل على أنهم ماتوا منافقين.
وهذا دليل آخر على أن المنزل فيه ليس ثعلبة أو حاطب البدريين.
ولو كان ثعلبة تاب وجاء بماله للنبي صلى الله عليه وسلم تائبا : لقبل النبي صلى الله عليه وسلم توبته، وقبل منه المال.
فالقصة تحتاج إلى نظر ؛ إذ كيف يرد النبي صلى الله عليه وسلم تائبا، ثم كيف يرفض ذلك أبو بكر مع أنه حارب مانعي الزكاة وكيف يرفضه عمر ؟.
ولذلك ضعّف علماء الحديث، قصة سبب نزول الآيات، التي تفيد : أنها نزلت في ثعلبة ؛ لأسباب تتعلق بسند الحديث، وأسباب تتعلق بموضوع الحديث.
﴿ بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ﴾.
أي : أن ملازمة النفاق لهم كان بسببين :
الأولى : إخلافهم العهد عاهدوا الله عليه من التصدق والصلاح.
الثاني : استمرارهم على الكذب في جميع أقوالهم.
وفي معنى هذه الآية ورد في الصحيحين : عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان " ١٢٠.
وفي رواية : " وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر ".
سبب النزول
نزلت هذه الآيات في رجال من المنافقين : نبتل بن الحارث ؛ وجد بن قيس، ومعتب بن قشير ؛ عاهدوا الله ورسوله : لئن أغناهم الله من فضله ؛ ليسارعن إلى إخراج الصدقة، وصلة الرحم، والحج، والزكاة، وسائر القربات والطاعات.
فلما أعطاهم الله المال بخلوا به، ونقضوا العهد وأعرضوا عن النفقة وعن الإسلام، وعن تكليف الله وأوامره.
فزادهم الله نفاقا في قلوبهم إلى يوم الحساب في الآخرة أي : ماتوا منافقين.
قصة مشهورة لكنها غير صحيحة
هناك قصة مشهورة بين الناس، تروى سبب نزول هذه الآيات، رددتها كتب التفسير كما وردت في كتاب إحياء علوم الدين للإمام أبي حامد الغزالي.
بيد أن هذه القصة لم تصح لدى المحدثين.
وهي ما أخرجه الطبراني وابن مردوية وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل، بسند ضعيف عن أبي أمامة : أن ثعلبة بن حاطب أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله، ادع الله أن يرزقني مالا، فقال عليه الصلاة والسلام، " يا ثعلبة، قليل تؤدى حقه من كثير لا تطيقه ".
فذهب ثم عاد فقال : يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالا ؛ لأعطين كل ذي حق حقه ؛ فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فاتخذ غنما فنمت وكثرت حتى ضاقت بها المدينة، فنزل واديا وانقطع عن الجماعة والجمعة.
ثم أنزل الله على رسوله :﴿ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ﴾. ( التوبة : ١٠٣ ).
فاستعمل النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقات رجلين، وكتب لهما كتابا، فأتيا ثعلبة، فأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقال : ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية، فارجعنا حتى أرى رأيي ؛ فنزلت فيه وفي أمثاله تلك الآيات.
وأخرج ابن جرير وابن مردوية عن ابن عباس : نحوه.
فجاء ثعلبة بالزكاة ؛ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :" إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك ".
ثم جاء بها إلى أبي بكر رضي الله عنه فلم يقبلها، ثم جاء إلى عمر في خلافته فلم يقبلها، ومات في زمان عثمان رضي الله عنه.
والحقيقة : أن ما روى عن ثعلبة هذا غير صحيح لدى المحدثين، وثعلبة بدرى أنصارى، وممن شهد الله له ورسوله بالإيمان.
قال ابن عبد البر : ولعل قول من قال في ثعلبة : إنه مانع الزكاة الذي نزلت فيه الآية غير صحيح والله أعلم.
وذكر عن ابن عباس في سبب نزول الآية : أن ثعلبة بن حاطب أبطأ عنه ماله بالشام، فحلف في مجلس من مجالس الأنصار : إن سلم ذلك المال لأتصدقنّ منه ولأصلن منه، فلما سلم بخل بذلك، فنزلت. وهذا أيضا غير صحيح١١٨.
وعلماء الحديث ضعفوا نسبة هذه الآيات إلى ثعلبة ؛ لأسباب تتعلق بسند الحديث، وبصاحب القصة لأنه شهد بدرا، والنبي صلى الله عليه وسلم قال :" لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم ؛ فقد غفرت لكم " ١١٩.
والآيات في محتواها تنطبق على المنافقين، وعلى كل من يقابل نعم الله بالكفران ؛ إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

قال السيد رشيد رضا في تفسير المنار :

" هذا بيان لحال طائفة من أولئك المنافقين، الذين أغناهم الله ورسوله من فضله، بعد الفقر والإملاق، ويوجد مثلهم في كل زمان، وهم الذين يلجئون إلى الله تعالى في وقت العسرة والفقر، أو الشدة والضر، فيدعونه ويعاهدونه على الشكر له، والطاعة لشرعه ؛ إذ هو كشف ضرهم، وأغنى فقرهم، فإذا استجاب الله لهم، نكسوا على رءوسهم، ونكصوا على أعقابهم، وكفروا النعمة وبطروا الحق، وهضموا حقوق الخلق، وهذا مثل من شر أمثالهم ". ا هـ.
المفردات :
سرهم : أي : ما انطوت عليه قلوبهم من النفاق.
نجواهم : أي : ما تحدثوا به علنا فيما بينهم بعيدا عن المؤمنين.
التفسير :
٧٨ – ﴿ ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب ﴾.
والاستفهام في أول الآية للتوبيخ والتهديد والتقريع.
والمعنى : ألم يعلم هؤلاء المنافقون أن الله مطلع على ما يخفونه في صدورهم من النفاق، وما يتناجون به أو يتحدثون به فيما بينهم من المطاعن في الدين، وأن الله محيط علمه بكل ما يغيب عنهم وعن غيرهم ؛ فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فهو عالم بالسر والنجوى، وهو سبحانه يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، ويعلم ما ظهر وما بطن، هو سبحانه يعلم كل ذلك، ويعلم ما أسروه من النفاق والعزم على إخلاف ما وعدوه. فكيف يكذبون على الله فيما يعاهدونه به ؟ !
ما يؤخذ من الآيات
من الأحكام والآداب التي أخذها من هذه الآيات ما يأتي :
١ – وجوب الوفاء بالعهد ؛ فإن نقض العهود، وخلف الوعد، والكذب على الله ؛ يورث النفاق فإذا عاهد المؤمن ربه في أمر ؛ فليجتهد في الوفاء به.
٢ – أن للإمام أن يمتنع عن قبول الصدقة من صاحبها إذا رأى المصلحة في ذلك، وامتناع الرسول صلى الله عليه وسلم عن قبول الصدقة من ثعلبة أو غيره، بما كانت للأسباب الآتية :
( أ ) إهانته ؛ ليعتبر غيره به، فلا يتخلف أحد عن إخراج الزكاة في وقتها.
( ب ) ربما جاء بها على وجه الرياء ؛ خوفا من الفضيحة، ومن كلام الناس، وأعلم الله رسوله بذلك فلم يقبل منه الصدقة.
( ج ) الزكاة لتطهير النفوس وتزكيتها، ولعل هذا لم يكن حاصلا في ثعلبة أو غيره ؛ فلهذا امتنع الرسول صلى الله عليه وسلم عن قبول تلك الصدقة.
٣ – النفس البشرية ضعيفة شحيحة إلا من عصم الله ؛ فينبغي أن نوطّن النفس على طاعة الله، وأن نجبرها إجبارا على مخالفة الهوى والشيطان، وإيثار ما عند الله على كل شيء من حطام الدنيا.
﴿ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ٧٩ ) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ( ٨٠ ) ﴾.
المفردات :
يلمزون : يعيبون بالكلام الواضح أو بالإشارة بالعين أو الرأس، مع كلام خفي.
التفسير :
٧٩ – ﴿ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ... ﴾ الآية.
سبب النزول :
جاء في تفسير الطبري، والرازي، وأبي السعود، وابن كثير وغيرهم ما يأتي :
عن ابن عباس رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبهم ذات يوم وحث على أن يجمعوا الصدقات، ودعاهم إلى إخراجها، فجاء عبد الرحمان بن عوف بأربعة آلاف درهم وقال : كأن لي ثمانية آلاف فأقرضت ربى أربعة، وأمسكت لعيالي أربعة، فقال صلى الله عليه وسلم : بارك الله لك فيما أعطيت ؛ وفيما أمسكت ؛ فبارك له حتى صولحت تماضر رابعة نسائه عن ربع الثمن على ثمانين ألفا.
وجاء عمر بنحو ذلك، وجاء عاصم بن عدّي الأنصاري بسبعين وسقا من تمر الصدقة، وجاء عثمان ابن عثمان بصدقة عظيمة.
وجاء أبو عقيل بصاع من تمر، وقال : أجرت الليلة الماضية نفسي من رجل، لإرسال الماء إلى نخيله ؛ فأخذت صاعين من تمر، فأمسكت أحدهما لعيالي، وأقرضت الآخر ربي، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضعه في الصدقات.
فلمزهم المنافقون وقالوا : ما جاءوا بصدقاتهم إلا رياء وسمعة، وإن الله ورسوله لغنيان عن صاع أبي عقيل.
فأنزل الله تعالى هذه الآية.
المعنى : هؤلاء المنافقون في كل أمة أمرهم عجيب غريب، ديدنهم تثبيط الهمم، وتدمير القيم، فلا يسلم من طعنهم أحد ؛ فهم يعيبون المتبرعين الأغنياء ؛ فيتهمونهم بالرياء فيبما بذلوه بسخاء.
وهم يعيبون الفقراء فيما تبرعوا به من طعام قليل ؛ ويقولون : إن الله غني عن صدقتهم.
فهم لسوء نوياهم، وبخل نفوسهم، وخبث قلوبهم ؛ لا يرضيهم أن يروا المؤمنين يتنافسون في إرضاء الله ورسوله.
﴿ فيسخرون منهم ﴾. ومن تبرعهم القليل، ويزعمون أن الله غني عن هذا القليل.
وما عملوا أن الله ينظر إلى قلوب الناس ونواياها ؛ فيعطي العطاء الجزيل على النية الصادقة، وربما سبق درهم دينارا ؛ لأن صاحب الدرهم أخلص النية، وجاد بما يملكه على قتله.
﴿ سخر الله منهم ﴾.
أي : جازاهم على سخريتهم بالإذلال والإهانة في الدنيا ؛ ليكونوا موضع سخرية الناس واستهزائهم ؛ جزاء لهم في جنس عملهم.
﴿ ولهم عذاب لهم ﴾.
وأعد لهم في الآخرة عذابا شديدا مؤلما ؛ لأن الجزاء من جنس العمل.
المفردات :
سبعين مرة : المراد به : المبالغة في العدد.
المطوعين : المتصدقين تطوعا.
التفسير :
٨٠ – ﴿ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ﴾.
سبب النزول :
قال الشعبي : سأل عبد الله بن عبد الله بن أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم – وكان رجلا صالحا – أن يستغفر لأبيه في مرضه ؛ ففعل، فنزلت الآية١٢١.
وقد شاع استعمال السبعة والسبعين والسبعمائة في مطلق التكثير، قال علي بن أبي طالب عليه السلام١٢٢ :
لأصبّحن العاص وابن العاصي سبعين ألفا عاقدي النواصي
وقيل : لما نزلت الآيات المتقدمة في المنافقين وفي بيان نفاقهم، جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه، ويقولون : استغفر لنا فنزلت هذه الآية١٢٣.
أي : مهما استغفرت لهم يا محمد فلن يغفر الله لهم ؛ لقد كثرت ذنوبهم ومردوا على النفاق، وتعطلت قلوبهم عن الاستجابة لأمر الله، فهم كالكفار.
فسواء استغفر لهم الرسول أو لم يستغفر لهم فلن يستر الله عليهم بالعفو عنها، وإنه لو استغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم، ولن يعفو عنهم، وذلك نظير قوله تعالى :
﴿ سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين ﴾. ( المنافقون : ٦ ).
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم رحيما كثير الرحمة بأمته ؛ وامتدت رحمته إلى المنافقين والكفار ؛ فكان يطلب لهم الهداية، وكان يدعو للمشركين كلما اشتد به أذاهم.
روى ابن ماجة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون " ١٢٤.
وكان عذر الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك ؛ عدم يأسه من إيمانهم، والممنوع منه هو الاستغفار بعد العلم بانطباع قلوبهم على الضلالة.
قال تعالى :﴿ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من يعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ﴾. ( التوبة : ١١٢ ).
﴿ ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين ﴾.
أي : ذلك الحكم السابق ؛ سببه أنهم كفروا وجحدوا بالله ورسوله، فلم يقروا بوحدانية الله تعالى، ولم يعترفوا ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وأصروا على الجحود والإنكار، فلم تعد قلوبهم مستعدة لقبول الخير والنور. وإن سنة الله ألا يوفق للخير المتمردين في الكفر، الخارجين عن الطاعة، الذين فقدوا الاستعداد للإيمان والتوبة.
﴿ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ( ٨١ ) فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ( ٨٢ ) ﴾.
المفردات :
المخلفون : الذين تخلفوا عن الجهاد بأعذار كاذبة.
بمقعدهم : بقعودهم.
خلاف رسول الله : أي : بعده أو مخالفة له.
التفسير :
٨١ – ﴿ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ... ﴾ الآية.
كانت غزوة تبوك في شدة الحر والصيف، وسمت همة المؤمنين للخروج والجهاد في سبيل الله، بينما هبطت همة المنافقين وكرهت الجهاد ومشقاته، وجاءت هذه الآية تعرض لونا من زهدهم في المكارم، ونفورهم من المعالي، ورغبتهم في الراحة والدعة، والتخلف مع النساء والصبيان والشيوخ الكبار والعجائز، ولم يندموا على هذا التخلف ؛ بل شجعوا غيرهم على القعود عن الجهاد وقالو لهم : لا تنفروا في الحر.
قال الدكتور محمد سيد طنطاوي في معنى الآية :
فرح المخلفون من هؤلاء المنافقين بسبب قعودهم في المدينة وعدم خروجهم إلى تبوك للجهاد مع الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وكرهوا أن يبذلوا شيئا من أموالهم وأنفسهم من أجل إعلاء كلمة الله١٢٥.
وجاء في تفسير الكشاف للزمخشري :
﴿ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ﴾.
في هذه الفقرة تعريض بالمؤمنين، وتحملهم المشاق العظام لوجه الله تعالى، وبما فعلوا من بذل أموالهم وأرواحهم في سبيل الله تعالى، وإيثارهم ذلك على الدعة والخفض، وكره ذلك المنافقون، وكيف لا يكرهونه، وما فيهم ما في المؤمنين من باعث الإيمان، وداعي الإيقان.
﴿ وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا ﴾.
أي : قال بعضهم لبعض، على سبيل الإغراء بعدم الخروج للجهاد : اقعدوا معنا في المدينة، ولا تخرجوا للجهاد مع المؤمنين ؛ فإن الحر شديد والسفر طويل، وقعودكم يريحكم من هذه المتاعب.
﴿ قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون ﴾.
أي : إن نار جهنم التي أعدت للعصاة والتي تصيرون إليها بمخالفتكم ؛ أشد حرا مما فررتم منه من الحر. فلو كانوا يعقلون ويعتبرون ؛ لما خالقوا وقعدوا، ولما فرحوا بل حزنوا.
فقد اشتروا متعة قليلة زائلة، وباعوا المكارم والجهاد، وتحمل التبعات في سبيل خير الدنيا والآخرة.
قال الزمخشري في تفسير الكشاف :
﴿ قل نار جهنم أشد حرا ﴾.
فيه استجهال لهم ؛ لأن من تصّون مشقة ساعة، فوقع بسبب ذلك التصون في مشقة الأبد ؛ كان أجهل من كل جاهل.
٨٢ – ﴿ فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾.
أي : فليضحك هؤلاء المنافقون سرورا بقعودهم، وسخريتهم من المؤمنين، فليضحكوا ضحكا قليلا مهما طال أو كثر ؛ لأن متاع الدنيا قليل، وسيكون حزنهم وبكاؤهم في الآخرة كثيرا ؛ لأنه عقاب دائم لا ينقطع بسبب ما كانوا يكسبون في الدنيا من النفاق.
وتفيد الآية : هوان العاجلة، وبقاء الآخرة، وأن العاقل من دان نفسه وعمل لما بعد الموت.
قال تعالى :﴿ بل تؤثرون الحياة الدنيا * والآخرة خير وأبقى ﴾. ( الأعلى : ١٦، ١٧ ).
وفي التفسير :
لو كانت الدنيا من ذهب يفنى، والآخرة من خزف يبقى ؛ لوجب إيثار ما يبقى على ما يفنى. فكيف والحال أن الدنيا من خزف يفنى، والآخرة من ذهب يبقى.
إن العاقل من يشتري نعيما سرمديا أبديا، ويبيع متاعا زائلا ؛ لكن المنافقين اشتروا العاجل وباعوا الآجل.
روى الإمام والشيخان : عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " نار بني آدم التي توقدونها جزء من سبعين جزءا من نار جهنم " ١٢٦.
وأخرج الشيخان في الصحيحين : عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة لمن له نعلان وشراكان من نار جهنم، يغلى منهما دماغه كما يغلى المرجل، لا يرى أن أحدا في أهل النار أشد عذابا منه، وإنه أهونهم عذابا " ١٢٧.
﴿ فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ( ٨٣ ) ﴾.
المفردات :
رجعك الله : ردك، والمراد هنا : الرجوع من تبوك إلى المدينة، حيث بقيت فيها جماعة من المتخلفين.
فاستأذنوك للخروج : طلبوا منك أن تأذن لهم في الخروج إلى غزوة أخرى.
فاقعدوا مع الخالفين : فاقعدوا مع المتخلفين ؛ لعدم لياقتهم للجهاد، كالنساء والأطفال والعجزة.
التفسير :
٨٣ – ﴿ فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ... ﴾الآية.
المعنى : فإن ردك الله تعالى من سفرك هذا إلى طائفة من هؤلاء المنافقين، المتخلفين بالمدينة، ثم أردت الخروج إلى غزوة أخرى، فاستأذنوك لتسمح لهم بالخروج معك، فقل لهم ؛ تعزيرا وعقوبة : لن تخرجوا معي أبدا على أية حال، ولن تقاتلوا معي أبدا عدوا بأي وضع كان.
﴿ إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ ﴾.
أي : اخترتم القعود عني أول مرة، وتخلفتم بلا عذر، وكذبتم في أيمانكم الفاجرة، وفرحتم بالقعود، فاقعدوا مع الخالفين. أي : فاقعدوا ؛ عقوبة لكم مع الذين لا يصلحون للجهاد من الشيوخ العاجزين والنساء والأطفال.
وقال أبو عبيدة : الخالفون : كثيرو الخلاف لغيرهم، وقيل : الخالف : هو الفاسد، يقال : خلف عن كل خير يصلح له، يخلف خلوفا إذا فسد، وخلف اللبن ؛ إذا فسد.
قال الفخر الرازي : إن المنافقين كانوا موصوفين بجميع هذه الصفات السيئة.
﴿ وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ ( ٨٤ ) وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ( ٨٥ ) وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ ( ٨٦ ) رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ( ٨٧ ) ﴾.
٨٤ – ﴿ وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ... ﴾ الآية.
سبب النزول :
روى الشيخان : عن ابن عمر قال : لما توفي عبد الله بن أبي، جاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه ؛ فقام ليصلي عليه ؛ فقام عمر بن الخطاب، وأخذ بثوبه، وقال : يا رسول الله، أتصلي عليه، وقد نهاك ربك أن تصلي على المنافقين. قال : إنما خيرني الله، فقال، ﴿ استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة... ﴾ وسأزيده على السبعين ؛ فقال عمر : إنه منافق... !
وجاء في مسنده الإمام أحمد :
ثم صلى النبي صلى الله عليه وسلم على بن أبي ومشى معه، وقام على قبره حتى فرغ منه.
قال عمر : فعجبت من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسوله أعلم قال : فوالله ما كان إلا يسيرا حتى نزلت ﴿ ولا تصل على أحد منهم مات أبدا... ﴾ الآية.
قال : فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد على ذلك منافق، ولا قام على قبره حتى قبضه الله عز وجل.
وقد أورد الإمام ابن كثير طائفة من الأحاديث النبوية في هذا المعنى.
ضعف الحديث :
ضعّف جماعة العلماء كالقاضي أبي بكر الباقلاني وإمام الحرمين الجويني، والغزالي، حديث الصلاة على زعيم المنافقين ؛ لمخالفته لظاهر الآية من أوجه هي :
١ – أن الآية نزلت أثناء رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، وابن أبي مات في السنة التي بعدها.
٢ – قول النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله خيرني "، يعارض صريح الآية، بأن الله لن يغفر لهم بسبب كفرهم، ف أو فيه للتسوية لا للتخيير.
الجمع بين الآية والحديث :
حاول بعض العلماء الجمع بين الآية والحديث، ومن هؤلاء الزمخشري في تفسير الكشاف فقال : روى : ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم على قبور المنافقين ويدعو لهم ؛ فلما مرض رأس النفاق عبد الله بن أبي، بعث إليه ليأتيه، فلما دخل عليه قال له النبي : " أهلك حب يهود " فقال عبد الله بن أبي : يا رسول الله، إنما بعثت إليك لتستغفر لي لا تؤنبني، وسأله أن يكفنه في شعاره الذي يلي جلده، ويصلّى عليه.
فلما مات دعاه ابنه عبد الله – وكان مؤمنا صالحا – فقال : يا رسول الله، أسألك أن تكفنه في بعض قمصانك، وأن تقوم على قبره ؛ حتى لا يشمت به الأعداء.
وعلم النبي صلى الله عليه وسلم أن تكفينه في قميصه لا ينفعه مع كفره، فلا فرق بينه وبين غيره من الأكفان، وليكون إلباسه إياه لطفا لغيره.
فقد روى أنه قيل للرسول صلى الله عليه وسلم : لم وجهت إليه قميصك وهو كافر ؟ فقال : " إن قميصي لن يغني عنه من الله شيئا، وإني أؤمل من الله أن يدخل في الإسلام كثير بهذا السبب " ؛ فيروى أنه أسلم ألف من الخزرج لما رأوا زعيمهم عبد الله بن أبي يطلب الاستشفاء بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك ترحمه واستغفاره ؛ كان للدعاء إلى التراحم والتعاطف ؛ لأنهم إذا رأوه يترحم على من يظهر الإيمان وباطنه على خلاف ذلك ؛ دعا المسلم على أن يتعاطف على من واطأ قلبه لسانه، ورآه حتما عليه.
ثم قال الزمخشري في تفسير الكشاف :
فإن قلت : كيف جازت الصلاة على عبد الله بن أبي المنافق ؟
قلت : لم يتقدم نهى عن الصلاة عليهم، وكانوا يجرون مجرى المسلمين لظاهر إيمانهم، لما في ذلك من المصلحة.
وعن ابن عباس رضي الله عنه : ما أدري ما هذه الصلاة إلا أني أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخادع.
تأمل في الموضوع
تفيد روايات متعددة : أن عمر رضي الله عنه كان ميالا إلى عدم الصلاة على المنافقين ؛ استنباطا من إشارات غير صريحة في القرآن إلى ذلك.
وجاء في رواية عن ابن عباس : فقال عمر رضي الله عنه : لم تعطي قميصك الرجس النجس ؟ ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : " إن قميصي لا يغني عنه من الله شيئا، فلعل الله أن يدخل به ألفا في الإسلام " وكان المنافقون لا يفارقون عبد الله بن أبي، فلما رأوه يطلب هذا القميص، ويرجو أن ينفعه ؛ أسلم منهم يومئذ ألف، وكان صلى الله عليه وسلم رحيما سهلا مألفا محببا وكان ميالا إلى الصلاة على عبد الله بن أبي ؛ بناء على الظاهر من إسلامه.
وأخرج أبو يعلى وغيره عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أراد أن يصلي على عبد الله بن أبي ؛ فأخذ جبريل بثوبه فقال :﴿ ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره... ﴾ الآية.
فهذه الرواية تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يصل على عبد الله بن أبي.
وأمام هذا التعارض في الروايات رجح بعض العلماء رواية البخاري، وجمع بعضهم بين الروايتين فقال : المراد من الصلاة في رواية عمر وابنه : الدعاء، أو الهم بالصلاة عليه، ثم منعه جبريل.
مناقب عمر
من مناقب عمر رضي الله عنه : شدته على المشركين والمنافقين ؛ فهو صاحب رأى قتل الأسرى في بدر، وقد أيد الوحي رأيه في أسارى بدر، وآية تحريم الخمر، وآية تحويل القبلة، وآية أمر نساء النبي صلى الله عليه وسلم بالحجاب، وآية عدم الصلاة على المنافقين، لهذا قال صلى الله عليه وسلم : " إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه " ١٢٨.
وقال صلى الله عليه وسلم : " إنه كان فيما مضى من الناس ملهمون ولو كان في أمتي محدثون لكان عمر " ١٢٩.
وقال صلى الله عليه وسلم : " لو لم أبعث لبعثت يا عمر نبيا ".
التفسير :
﴿ ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون ﴾.
هذه الآية استمرار في الحديث عن المنافقين، وكيفية معاملتهم ؛ فقد منعت الرسول صلى الله عليه وسلم من الصلاة على موتاهم...
والمعنى : تبرأ أيها الرسول من المنافقين، ولا تصل على أحد منهم إذا مات ولا تقم على قبره ؛ لتستغفر له، أو تدعوا له ؛ لأنهم كفروا بالله ورسوله، فأنكروا وجود الله وتوحيده، وأنكروا بعثة نبيه، وماتوا وهم فاسقون ؛ خارجون من دين الإسلام، متمردون على أحكامه، متجاوزون حدوده وأوامره ونواهيه.
وتفيد الآية : الامتناع عن الصلاة على الكفار، وكل من عرف نفاقه.
وإن كان سبب نزول الآية : الصلاة على عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين، إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ذكر ابن كثير وغيره من المفسرين.
٨٥ – ﴿ ولا تعجبك أموالهم ولا أولادهم... ﴾
أي : ولا تنل إعجابك وتقديرك – أيها العاقل – أموال المنافقين الكثيرة، ولا أولادهم الذين يعتزون بهم ولا تحسبن ذلك إكراما لهم ؛ فقد جعله الله استدراجا لهم ووبالا عليهم.
﴿ إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا ﴾.
أي : إنما قدر تعذيبهم بهذه الأموال والأولاد في الدنيا ؛ بسبب ما يقاسونه من في جمعها وحفظها من المتاعب، وفي رعاية الأولاد من المشاق والمصاعب، وهم مشغولون بالتمتع بها عن النظر في عواقب الأمور.
﴿ وتزهق أنفسهم وهم كافرون ﴾.
وتخرج أرواحهم من أبدانهم عند انتهاء آجالهم بشدة وصعوبة، والحال أنهم كارهون الموت ؛ لتعلقهم بالأموال والأولاد والمتاع في هذه الدنيا الفانية، لوم ينتبهوا إلى مصيرهم وما ينتظرهم.
وقد تكرر هذا المعنى في سورة التوبة ؛ لأهميته ووجوب الانتباه إليه، حيث قال تعالى :
﴿ فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون ﴾. ( التوبة : ٥٥ ).
المفردات :
أولوا الطول : أصحاب الغنى والسعة.
ذرنا : اتركنا.
٨٦ – ﴿ وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله... ﴾
كانت السورة القرآنية تنزل داعية إلى الإيمان بالله، وإلى أن يستقر الإيمان في حنايا القلوب، وأن يرسخ في طوايا النفوس، فهذا الإيمان هو الأساس المتين لكل ما يترتب عليه.
كما أن السور كانت تدعو للجهاد وتحث عليه، وتبين ثواب المجاهدين والشهداء، وعقاب المتخلفين والفارين.
﴿ استئذنك أولوا الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين ﴾.
أي : عند نزول السورة الداعية إلى الإيمان والجهاد ؛ يجئ هؤلاء المنافقون أصحاب الطول، أي : ذوو الغنى والثروة، وأولو المقدرة على الجهاد بالمال والنفس قائلين ؛ ائذن لنا يا رسول الله في التخلف عن الجهاد، واتركنا نقعد مع الذين قعدوا في المدينة ؛ لأعذار تخلفوا بسببها.
وقد خص القرآن أولوا الطول بالذكر لفائدتين :
الأولى : أنه كان المتوقع منهم أن يتقدموا صفوف المجاهدين ؛ لأنهم يملكون وسائل الجهاد وعدته ؛ فهم أصحاب السلامة في البدن، والوفرة في المال وقد حث القرآن على الجهاد في سبيل الله بالنفس والمال ؛ فإذا اعتذر صاحب المقدرة والنعمة ؛ كان ذلك أدعى إلى مذمته وتخليد جبنه وبخله.
الثانية : أن من لا مال له ولا قدرة له على السفر ؛ لا يحتاج إلى الاستئذان ؛ لأنه معذور.
المفردات :
وطبع على قلوبهم : أي : ختم عليها بطابع، والمقصود : أنها لما لم تقبل هدى الله.
٨٧ – ﴿ رضوا بأن يكونوا مع الخوالف... ﴾ الآية.
أي : قنعوا وقبلوا أن تنحط أقدارهم، وأن يبقوا في المدينة مع النساء والأطفال والمرضى والزمنى والعجائز، وكل من لا قدرة له ولا حيلة.
ولا يرضى بذلك إلا من هانت كرامته، وألف الذل والصغار.
﴿ وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون ﴾.
لقد مردوا على النفاق وتعودوا عليه ؛ فسلب منهم نور الهداية والإيمان، فصارت قلوبهم راسخة في الكفر، مصرة على الفسوق والعصيان، حتى كأنها قد ختم عليها، فأصبحوا لا يفقهون ما في الجهاد من الفوز والسعادة وما في التخلف عن الجهاد من الشقاء والهلاك.
من أحكام الآيات
تتضمن الآيات اتخاذ مواقف حاسمة من المنافقين، بعد أن أمهلوا لمدة طويلة وعوملوا في الظاهر معاملة حسنة، ويتلخص ذلك فيما يأتي :
١ – إسقاط اعتبارهم ؛ لأن الصلاة على الميت، والقيام على قبره للدعاء له إكرام له واحترام، والكافر ليس من أهل الاحترام.
٢ – في آية سابقة أسقط اعتبارهم في الحياة بعدم السماح لهم بالجهاد مع الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ عقابا لهم على تخلفهم عن غزوة تبوك وهنا أسقط اعتبارهم بعد الوفاة.
٣ – تحريم الصلاة على الكافر، والوقوف عند قبره للدعاء أو الترحم.
٤ – يفهم من الآية من طريق دلالة الخطاب، مشروعية الوقوف على قبر المسلم إلى أن يدفن، والدعاء له.
من هدى السنة
ورد في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم على قبور المسلمين ؛ ويدعو لهم بالتثبيت.
وجاء في صحيح مسلم ؛ أن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال عند موته : إذا دفنتموني، فسنوا علي التراب سنا، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر الجزور ويقسم لحمها، حتى أستأنس بكم، وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي. وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من شهد الجنازة حتى يصلي عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان، قيل وما القيراطان. قال : أصغرهما مثل أحد.
وروى أبو داود عن عثمان بن عفان قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من الميت وقف عليه ؛ وقال : " استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل ".
وجمهور العلماء على أن التكبير في صلاة الجنازة أربع تكبيرات ؛ وسنة الإمام أن يقف عند رأس الميت إذا كان رجلا، وأن يقف عند وسط الميت إذا كان أنثى.
﴿ لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ( ٨٨ ) أَعَدَّ اللّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ( ٨٩ ) ﴾.
المفردات :
لهم الخيرات : لهم أنواع خيرة من نعم الدنيا وثواب الآخرة.
المفلحون : الفائزون.
التفسير :
٨٨ – ﴿ لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ... ﴾ الآية.
من شأن القرآن أن يقابل بين المحسن والمسيء والمؤمن والمنافق، والجنة والنار، والصالحين والطالحين، وبضدهما تتميز الأشياء.
وهنا نجد مقارنة بين المنافقين الذين نكصوا عن الجهاد، ولم يفقهوا ثواب المجاهدين، ولا خزي القاعدين، وبين الرسول الأمين وصحبته الأخيار الأبرار.
والمعنى : إذا كان حال المنافقين كما وصفنا في الآيات السابقة، من جبن وتخاذل وهوان.
فإن حال المؤمنين ليس كذلك ؛ فإنهم قد وقفوا إلى جانب رسولهم صلى الله عليه وسلم، فجاهدوا معه، بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، وأدوا واجبهم ؛ فنالوا الخيرات العظمى في الدنيا كالنصر وهزيمة الكفر، وفي الآخرة بالاستمتاع في جنات الفردوس، والدرجات العلى : وقيل : الخيرات : هي النساء الحسان في الجنة.
قال تعالى :﴿ فيهن خيرات حسان ﴾. ( الرحمان : ٧٠ ).
﴿ وأولئك هم المفلحون ﴾ الفائزون بسعادة الدارين.
٨٩ – ﴿ أَعَدَّ اللّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾.
لقد كافأهم الله تعالى وهيأ لهم نزلا حسنا في أحسن إعداد وإقامة في جنات نضرة، تجري الأنهار من تحتها، وهم خالدون في نعيم لا ينقطع عنهم أبدا ؛ وذلك هو الفوز العظيم حقا، فالسعيد من ناله، والشقي من حرم منه.
قال تعالى :﴿ فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ﴾. ( آل عمران : ١٨٥ ).
مقارنات في القرآن
وردت هذه المقارنة في مواضع كثيرة في القرآن مثل قوله تعالى :﴿ فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين ﴾. ( الأنعام : ٨٩ ).
وقوله عز شأنه :﴿ فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسئمون ﴾. ( فصلت : ٨٣ ).
وقريب من ذلك قوله تعالى :﴿ أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب ﴾. ( الرعد : ١٩ ).
وقوله تعالى :﴿ مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار ﴾( الرعد : ٣٥ ).
وفي الصفحة الأخيرة من سورة الزمر يستعرض القرآن موكب الكافرين إلى النار فيقول :
﴿ وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا.... ﴾( الزمر : ٧١ ).
ثم يستعرض موكب المؤمنين إلى الجنة فيقول :
﴿ وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا... ﴾ ( الزمر : ٧٣ ).
﴿ وَجَاء الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ( ٩٠ ) ﴾.
المفردات :
المعذرون : المقصرون المعتذرون بالباطل.
الأعراب : سكان البوادي.
التفسير :
٩٠ – ﴿ وَجَاء الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ... ﴾ الآية.
سبب النزول :
روى أن أسدا وغطفان جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذنون في التخلف عن الخروج للجهاد ؛ معتذرين كذبا بالجهد وكثرة العيال، فنزلت الآية تكشف كذبهم، وقيل : هم رهط عامر بن الطفيل، قالوا : إن غزونا معك ؛ أغارت أعراب طيئ على أهالينا ومواشينا، فقال صلى الله عليه وسلم : " سيغني الله عنكم ".
وعن مجاهد : نفر من غفار اعتذروا فلم يعذرهم الله تعالى.
وعن قتادة : اعتذروا بالكذب١٣٠.
من تفسير فتح القدير للشوكاني :
﴿ وجاء المعذرون ﴾. المعذر : هو الذي يعتذر ولا عذر له، اعتذروا بأعذار باطلة لا أصل لها.
والمعنى : أنه جاء هؤلاء من الأعراب، بما جاءوا به من الأعذار ؛ بحق أو بباطل ؛ لأجل أن يأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالتخلف عن الغزو.
وطائفة أخرى لم يعتذروا، بل قعدوا عن الغزو لغير عذر، وهم منافقو الأعراب.
﴿ وقعد الذين كذبوا الله ورسوله ﴾.
ولم يؤمنوا ولا صدقوا بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، ثم تبين بتخلفهم من دون اعتذار أنهم كانوا كاذبين.
﴿ سيصيب الذين كفروا منهم ﴾.
أي : من الأعراب وهم الذين اعتذروا بالأعذار الباطلة، والذين لم يعتذروا بل كذبوا بالله ورسوله. ١٣١ اه.
﴿ عذاب أليم ﴾.
في الدنيا بالقتل والأسر والإذلال، وفي الآخرة، بعذاب السعير.
ومن المسفرين من جعل القسم الأول، معذورين صادقين وهم من أحياء العرب ممن حول المدينة، أو هم أسد وغطفان ؛ لأن الله قد عطف عليهم القاعدين بدون أي اعتذار ؛ تهاونا بأمر الدين وكذبا في بيعتهم على الإيمان والجهاد ورجح ابن كثير هذا القول، وذهب إلى أن معنى الآية هكذا.
عندما استنفر النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى غزوة تبوك، جاء أصحاب الأعذار من الأعراب ليستأذنوه في التخلف عن الجهاد، فأذن لهم.
﴿ وقعد الذين كذبوا الله ورسوله ﴾. وبيان للفريق الثاني من الأعراب، وهو الذي لم يجئ للرسول صلى الله عليه وسلم معتذرا بل قعد عن الجهاد، ولم يكلف نفسه مشقة الاعتذار.
ورجح الرازي والزمخشري والشوكاني، وأبو السعود : أن الآية تستعرض فرق المتخلفين عن الجهاد، وتجعلهم في خندق واحد، سواء في ذلك من اعتذر ولا عذر حقيقي به، ومن تخلف عن الجهاد، كسلا وجبنا وتهاونا، سيصيب الذين كفروا من هؤلاء وهؤلاء عذاب أليم.
وأستشعر من سياق الآية أنها تتحدث عن فرق من المتخلفين عن الجهاد، بدون أعذار حقيقية.
وأرجح رأى الرازي والزمخشري والشوكاني وأبي السعود ويؤيد ما أراه أن الآية التالية ستتحدث عن أصحاب الأعذار المقبولة، الذين أعفاهم الله من الجهاد.
﴿ لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٩١ ) وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ( ٩٢ ) ﴾.
المفردات :
حرج : المراد به : الإثم والذنب، ومعناه في الأصل : الضيق ويطلق على الذنب ؛ لأنه تضيق به صدور المؤمنين.
إذا نصحوا الله ورسوله : أي : إذا قاموا بما استطاعوا من قول وفعل يعود بصلاح الحال على الإسلام والمسلمين.
ما على المحسنين من سبيل : أي : ما عليهم من طريق إلى عقابهم أو عتابهم.
التفسير :
٩١ – ﴿ لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ... ﴾ الآية.
المناسبة :
هناك ارتباط واضح بين هذه الآية وما قبلها، فبعد أن ذكر سبحانه : الوعيد للمتخلفين بدون عذر، والمنتحلين للأعذار، ذكر هنا أصحاب الأعذار الحقيقية، وبين إسقاط فريضة الجهاد عنهم.
المعنى : هناك أصناف ثلاثة من أصحاب العذار المقبولة : وهم : الضعفاء، والمرضى، والفقراء فليس على الضعفاء العاجزين عن القتال ؛ لعلة في تكوينهم، أو لشيخوخة أقعدتهم، ولا على المرضى الذين حالت أمراضهم بينهم وبين الجهاد، ولا على الفقراء الذين لا يجدون ما ينفقونه على الحرب، ولا يجدون الرواحل التي يسافرون عليها إلى أرض المعركة، ليس على هؤلاء جميعا، إثم أو ذنب أو عتاب في عدم الجهاد، إذا نصحوا لله ورسوله، بأن أخلصوا الإيمان لله في السر والعلن، وعرفوا الحق، وأحبوا أولياءه وأبغضوا أعداه، وحافظوا على المصلحة العليا للأمة في كتمان السر، والحث على البر، ومكافحة الأراجيف والقضاء على الإشاعات الكاذبة أو المغرضة.
روى مسلم عن تميم الداري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الدين النصيحة " ؛ قالوا : لمن يا رسول الله ؟ قال : " لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم " ١٣٢.
والنصيحة لله ولرسوله : إخلاص الإيمان بهما، وطاعتهما، والحب والبغض فيهما.
والنصيحة لكتابه : تلاوته وتدبر معانيه، والعمل بما فيه.
والنصيحة لأئمة المسلمين : مؤازرتهم وترك الخروج عليهم، وإرشادهم إن أخطئوا.
والنصيحة لعامة المسلمين : إرشادهم إلى طريق الحق، والعمل على تقويتهم ودعوتهم إلى إخلاص العمل، والبعد عن الغش.
﴿ ما على المحسنين من سبيل ﴾.
إن كل ناصح لله ولرسوله محسن، ولا سبيل إلى مؤاخذة المحسن وإيقاعه في الحرج، فقد أدى ما وجب عليه، من قول أو عمل حسب طاقته، وليس عليه سبيل إلى عقاب أو عتاب ؛ لدخوله في عداد المحسنين.
﴿ والله غفور رحيم ﴾.
واسع المغفرة والرحمة، يستر على عباده المخلصين ما يصدر عنهم من تقصير تقتضيه طبيعتهم البشرية.
المفردات :
تولوا : انصرفوا راجعين.
وأعينهم تفيض من الدمع : أي : تسيل عيونهم دمعا غزيرا فياضا.
٩٢ – ﴿ وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ ﴾.
سبب النزول :
قال محمد بن إسحاق في سياق غزوة تبوك : ثم إن رجالا من المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم البكاؤون، وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم من بني عمرو بن عوف : سالم بن عمير، وعلي بن زيد أخو بني حارثة، وأبو ليلى عبد الرحمان بن كعب أخو بني مازن النجار، وعمرو بن الحمام بن الجموح أخو بني سلمة، وعبد الله بن المغفل المزنى، وحرمي بن عبد الله أخو بني واقف، وعياض بن سارية الغزارى.
فاستحملوا رسول الله، وكانوا أهل حاجة ؛ فقال :﴿ لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون ﴾.
وروى في الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن بالمدينة أقواما ما قطعتم واديا، ولا سرتم سيرا إلا وهم معكم، قالوا : وهم بالمدينة ؟ ! قال : " نعم حبسهم العذر١٣٣ " في رواية أحمد : " حبسهم المرض ".
معنى الآية ٩٢ :
أي : لا حرج على الضعفاء ولا على المرضى، ولا على الفقراء، وكذلك لا حرج ولا إثم أيضا على الراغب في الجهاد الذي استعد للقتال بنفسه، ولكنه لا يجد مركبا أو نفقة ينفقها في أثناء الجهاد على نفسه وعياله بسبب فقره – ومن أخصهم أولئك النفر من الأنصار الباكئين، أو من بني مقرن من مزينة، الذين جاءوا للنبي صلى الله عليه وسلم ليحملهم على الرواحل فلم يجد ما يحملهم عليه في هذا السفر الطويل ؛ فانصرفوا من مجلسه وهم يبكون بكاءا شديدا ؛ بسبب حزنهم على ما فاتهم من شرف المشاركة في الجهاد، وبسبب فقدهم النفقة التي تساعدهم على الجهاد.
من أحكام الآيات
أوضحت الآيات سقوط فرضية الجهاد ؛ بسبب العذر عن أصناف ثلاثة من ذوي الأعذار وهم : الضعفاء والمرضى والفقراء.
وقد دلت الآيات على أصلين من أصول الشريعة :
الأصل الأول :
سقوط التكليف عن العاجز ؛ فكل من عجز عن شيء سقط عنه، ولا فرق بين العجز من جهة القوة أو العجز من جهة المال، ونظير قوله تعالى :﴿ ليس على الضعفاء ولا على المرضى... ﴾ الآيات، قوله عز شأنه :﴿ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ﴾( البقرة : ٢٨٦ ).
وقوله تعالى :﴿ ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ﴾( الفتح : ١٧ ).
الأصل الثاني :
الأصل في الأشياء براءة الذمة، أو براءة المتهم ؛ حتى تثبت إدانته، ويعبر عنه بعبارة : الأصل براءة الذمة، وهذا مبدأ البراءة الأصلية.
وذلك لقوله تعالى :﴿ ما على المحسنين من سبيل ﴾.
فالأصل في النفس حرمة القتل، والأصل في المال حرمة الأخذ إلا لدليل ثابت، أو لدليل منفصل مستقل.
جاء في تفسير القرطبي :
هذه الآية أصل في سقوط التكليف عن العاجز، فكل من عجز عن شيء سقط عنه.
ويستفاد من سياق الآيتين : أنه متى وجدت النية الصادقة في فعل الخير ؛ حصل الثواب، وإن لم يكن هناك عمل، بدليل أن المؤمنين الذين لم يخرجوا في الجهاد لعذر شرعي بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم مشاركون لمن خرج في الأجر.
روى عن زيد بن ثابت أنه قال : كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكنت أكتب " براءة " فإني لواضع القلم على أذنى، إذ أمرنا بالقتال، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر ما ينزل عليه، إذ جاء أعمى فقال : كيف بي يا رسول الله وأنا أعمى ؟ فنزلت :﴿ ليس على الضعفاء ولا على المرضى... ﴾ الآية.
تطبيق الصحابة
طبق صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن عمليا في حياتهم، وجهادهم، ورغبتهم في الشهادة واستعلائهم على مطالب الأرض، ورغبتهم في مرضاة الله، وحفلت كتب السيرة بجهادهم وبلائهم، في غزوة بدر وأحد والخندق والحديبية وفتح مكة وفتح خيبر وغزوة تبوك وغزوة حنين والطائف وفتح بلاد الفرس والروم ومصر وشمال أفريقيا ؛ وغير ذلك من الفتوحات.
وكان من الصحابة أصحاب الأعذار الذين أباح لهم القرآن القعود ؛ لكنهم تطلعوا إلى الجهاد وثواب المجاهدين ؛ فهذا عبد الله بن أم مكتوم كان أعمى، وكان يخرج إلى غزوة أحد ويطلب أن يحمل اللواء.
وهذا عمرو بن الجموح – وكان أعرج – يخرج في مقدمة الجيوش ؛ فيقول له الرسول صلى الله عليه وسلم : " إن الله قد عذرك " فيقول : والله لأحفرن بعرجتي هذه الجنة. أي : لأتركن آثار أقدامي فيها.
وكان يؤتى وهو يمشي بين الرجلين ؛ من شدة ضعفه معتمدا على الرجلين، ومع ذلك يحرص على أن يقف في صفوف المجاهدين.
وبهذه القلوب السليمة، والعزائم القوية، والنفوس القوية ؛ ارتفعت كلمة الحق، وعزت كلمة الإسلام.
ختام الجزء العاشر وبداية الحادي عشر
نلاحظ أن تقسيم الأجزاء كان يعتمد على مقياس كمّ الآيات، فالآية التي يبدأ بها الجزء الحادي عشر مرتبطة تمام الارتباط بآيات قبلها، تفيد : أنه لا حرج ولا إثم على من تخلف عن الجهاد من الأصناف الثلاثة : الضعفاء، المرضى، الفقراء.
ثم بين القرآن أن السبيل واللوم والعتاب ؛ على من يستأذن في التخلف عن الجهاد والغزو في سبيل الله وهو غني قادر تملك أدوات الجهاد والتجهز له ؛ لكنه قبل أن يكون مع الخوالف من النساء القاعدات في البيوت، وطمس الله على قلوبهم فلم يدركوا ما فيه الربح لهم حتى يختاروه على ما فيه الخسران.
وبهذه الآية يبدأ الجزء الحادي عشر من القرآن الكريم حيث يقول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ إنما السبيل على الذين يستئذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون ﴾( التوبة : ٩٣ ).
في ختام التفسير للجزء العاشر
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، اللهم، لك الحمد حمدا كثيرا طيبا طاهرا مباركا فيه، كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك.
والصلاة والسلام على سيدنا محمد، اللهم، صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد :
فهذا ختام الجزء العاشر من القرآن الكريم، أسأل الله تعالى أن يكون هذا العمل خالصا لوجهه، اللهم، إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئا نلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه.
اللهم، ارزقنا حسن النية ودوام العافية وشكر النعمة، واهدنا لصالح الأعمال ؛ لا يهدي لصالح الأعمال إلا أنت.
﴿ ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ﴾.
وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
أذان المغرب ٢٣ ذو القعدة ١٤١٣ ه ١٤ مايو ١٩٩٣ م.
﴿ إنما السبيل على الذين يستئذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون ٩٣ ﴾.
المفردات :
السبيل : الطريق.
الخوالف : المتخلفين. ويطلق أيضا على النساء والصبيان. وهو جمع خالفة.
وطبع الله على قلوبهم : ختم عليها حتى غفلوا عن وخامة العاقبة.
التفسير :
في الآية السابقة على هذه الآية رفع الله الحرج والإثم و العقوبة، عمن تخلفوا بأعذار، من الضعفاء والمرضى والفقراء الذين لا يجدون ما ينفقونه، ثم بين سبحانه من يستحق المؤاخذة ؛ فقال :
٩٣ ﴿ إنما السبيل على الذين يستئذنونك وهم أغنياء... ﴾ الآية.
أي : إنما سبيل المحاسبة والمؤاخذة ؛ لمن تخلفوا عن الجهاد ولا عذر لهم ؛ لأنهم قادرون بأشخاصهم على أداء هذا الواجب المفروض عليهم ؛ فهم ليسو ا ضعفاء أو مرضى، وهم قادرون بأموالهم على أن يجدوا الزاد والراحلة، و السلاح وأدوات الجهاد ؛ ولكنهم آثروا الدعة والراحة والسلامة لأنفسهم وضنوا بالمال والنفس عن الجهاد والبذل في سبيل الله.
فشتان بين من تخلف وهو مريض، أو فقير عاجز عن الحصول على راحلة توصله إلى ميدان الجهاد إلى قائمة المتخلفين عن الجهاد من النساء والأطفال.
لقد قال سبحانه في الآية ٩١ :﴿ ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا انصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل ﴾.
ثم قال سبحانه في الآية ٩٣ :﴿ إنما السبيل على الذين يستئذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون ﴾.
أي : إنما طريق العقوبة والمؤاخذة على الذين يستأذنونك في التخلف عن الغزو والجهاد، وهم أغنياء، قادرون على أن يجدوا ما يجهزون به أنفسهم.
﴿ رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ﴾.
أي : رضوا لأنفسهم أن يقبعوا في المدينة ؛ في جملة الخوالف من النساء والصبيان، ومن لا يقوى على الجهاد إيثارا للسلامة والراحة والدعة.
﴿ وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون ﴾.
لقد خالفوا أمر الله ؛ فخذلهم الله، وسلب عنهم الهدى والتوفيق، وطبع على قلوبهم فلم تقبل على الهدى، ولم ترغب في الجهاد، ولم تدرك فضل الجهاد وثوابه. و قريب من هذه الآية قوله تعالى :﴿ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ﴾. ( المطففين : ١٤ ). فهم عندما أعرضوا عن الله ؛ سلب الله عنهم الهدى وأغلق قلوبهم عن التفتح لقبول الحق.
﴿ فهم لا يعلمون ﴾. ما فيه الربح لهم حتى يختاروه على ما فيه الخسران.
﴿ يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون( ٩٤ ) ﴾
التفسير :
٩٤ ﴿ يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم... ﴾ الآية.
إخبار عن المنافقين بأنهم سوف يعتذرون إلى المؤمنين بالأعذار الباطلة، إذا رجعوا إليهم من غزوة تبوك.
﴿ قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم ﴾.
أي : قل لهم أيها الرسول الكريم : لا داعي لاعتذاركم لنا ؛ و فروا على أنفسكم مهانة الكذب ؛ فليس لكم عذر صحيح حتى نستمع إليه ونتقبله منكم.
﴿ لن نؤمن لكم ﴾. لن نصدق أقوالكم.
﴿ قد نبأنا الله من أخباركم ﴾. قد كشف الله لنا عن حقيقتكم، ووضح لنا أحوالكم، ووضح لنا ما أنتم عليه من نفاق وفسوق وعصيان.
﴿ وسيرى الله عملكم ورسوله ﴾. فيما بعد هل تقلعون عما أنتم عليه الآن من الشر، أم تبقون عليه، و لعله تحريض لهم على التوبة.
﴿ وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ﴾. ( التوبة : ١٠٥ ).
أي : ثم ترجعون إلى الله العليم بكل شيء ؛ فيخبركم بما كنتم تعلمون في الدنيا ويجازيكم عليه.
﴿ سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون ( ٩٥ ) يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين ( ٩٦ ) ﴾
المفردات :
انقلبتم : رجعتم.
لتعرضوا عنهم : لتصفحوا عنهم.
فأعرضوا عنهم : فاتركوهم.
رجس : أي : نجس وقذر، والرجس الخبيث من كل شيء.
و مأواهم : ومقرهم الذي يأوون إليه.
التفسير :
٩٥ ﴿ سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم... ﴾ الآية.
أي : إنهم سيحلفون بالله لكم أيها المؤمنون إذا رجعتم إليهم من غزوة تبوك ؛ ليؤكدوا ما جاءوا به من الأعذار الباطلة، وغرضهم من ذلك أن يعرض المؤمنون عنهم فلا يوبخونهم، ولا يؤاخذونهم على التخلف، ويظهرون الرضى عنهم.
﴿ فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم ﴾.
فاتركوهم أيها المؤمنون واجتنبوا مجالستهم، ودعوهم وما اختاروه لأنفسهم، لا على سبيل الصفح والعفو، بل على سبيل الإهمال والترك والاحتقار.
﴿ إنهم رجس ﴾. أي : جميع أعمالهم بخسة قبيحة ؛ فهؤلاء لما كانوا هكذا ؛ كانوا غير متأهلين لقبول الإرشاد إلى الخير، والتحذير من الشر ؛ فليس لهم إلا الترك ؛ وقد جعلهم الله سبحانه نفس الرجس، مبالغة في نجاسة أعمالهم، وسوء بواطنهم.
﴿ ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون ﴾.
ومرجعهم ومقرهم في الآخرة جهنم، جزاء عادلا على نفاقهم وسوء أعمالهم.
المفردات :
الفاسقين : الخارجين عن الطاعة.
٩٦ ﴿ يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين ﴾.
أي : إن هؤلاء المنافقين يحلقون لكم كذبا ؛ لترضوا عنهم وتصفحوا عنهم وتطمئنوا إليهم بعد الصفح عنهم، و لكن الله ينهاكم عن الرضا عنهم ؛ لفسقهم، وسوء نيّاتهم، وكانوا ثمانين رجلا من المنافقين منهم : جد بن قيس، ومعتب بن قشير وأصحابهما ؛ أمر النبي المؤمنين ألا يجالسوهم ولا يكلموهم فامتثلوا. والتقدير : إن ترضوا عنهم على سبيل الفرض، فإن رضاكم عنهم لن ينفعهم ؛ لأن الله غاضب عليهم.
﴿ الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم( ٩٧ ) ﴾.
المفردات :
الأعراب : سكان البادية، والعرب : أهل الحضر والبادية فهو أعم.
التفسير :
٩٨ ﴿ الأعراب أشد كفرا ونفاقا... ﴾ الآية.
الأعراب هم سكن البوادي من العرب ؛ واحده : أعرابي، الأنثى : أعرابية والجمع : أعاريب، والعرب اسم جنس لهذا الجيل الذي ينطق بهذه اللغة ؛ بدوه وحضره. واحده : عربي.
قال الشوكاني : من استوطن القرى العربية ؛ فهو عربي، ومن نزل البادية ؛ فهو أعرابي.
والمراد بالأعراب هنا : جنسهم لا كل واحد منهم، بدليل أن الله تعالى قد ذم من يستحق الذم منهم، ومدح من يستحق المدح منهم ؛ فالآية الكريمة من باب وصف الجنس بوصف بعض أفراده.
والمعنى :﴿ الأعراب ﴾، سكان البادية. ﴿ أشد كفرا ونفاقا ﴾. من الكفار والمنافقين الذين يسكنون الحضر والقرى، وذلك لأن ظروف حياتهم البدوية، وما يصاحبها من عزلة، وكر وفر في الصحراء، وخشونة في الحياة..
كل ذلك جعلهم أقسى قلوبا، بان وأجفى قولا، وأغلظ طبعا، وأبعد عن سماع كتب الله، وما جاءت به رسله من ألوان الهداية والخير.
﴿ وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله ﴾. من الشرائع والأحكام، بسبب ابتعادهم عن مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم، وعدم مشاهدتهم لما ينزل عليه من وحي وهداية وآداب.
﴿ والله عليم حكيم ﴾. فهو سبحانه مطلع على خفايا القلوب ؛ لا تخفى عليه طاعة طائع، أو انحراف منحرف، وهو يجازي كل إنسان بعمله :﴿ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ﴾. ( الزلزلة : ٧، ٨ ).
والآية دعوة لهؤلاء الأعراب، أن يلتمسوا وسائل العلم والمعرفة والعمران والمدنية، وكان صلى الله عليه وسلم ينهى المسلم إذا سكن المدينة ؛ أن يعود منها إلى سكن البادية، فسكن المدينة انضمام لجماعة المسلمين، ومواكبة لما ينزل من الوحي، ومشاركة في حركة الإسلام وجهاده.
روى الإمام أحمد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( من بدا جفا ). ١٣٤
وروى الإمام مسلم عن عائشة قالت : قدم ناس من الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : أتقبلون صبيانكم ؟ فقال صلى الله عليه وسلم ( نعم )، قالوا : لكنا والله ما نقبل، فقال صلى الله عليه وسلم : " وما أملك إن كان الله نزع منكم الرحمة ". ١٣٥
﴿ ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم ( ٩٨ ) ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم ( ٩٩ ) ﴾
المفردات :
يتخذ : يعد ويعتبر.
مغرما : غرما وخسارة.
ويتربص : وينتظر.
الدوائر : جمع دائرة والمراد بها هنا : تقلب الزمان من حسن إلى سيئ ومعناها في الأصل : ما يحيط بالشيء.
السوء : ما يسيء ويؤذي.
التفسير :
٩٨ ﴿ ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر... ﴾ الآية.
بعد أن بين سبحانه أن الأعراب في جملتهم أشد كفرا ونفاقا، بين في هاتين الآيتين أنهما فريقان، فريق يضمر الشر للمسلمين، وفريق آخر مخلص في إيمانه.
والمعنى : وبعض الأعراب جماعة منافقون، يعدون النفقة خسارة ؛ فهي عندهم غرم لا غنم، وينتظرون أن تحيط الدواهي والمصائب والحوادث بالمسلمين ؛ لتخلصوا من الإنفاق.
﴿ عليهم دائرة السوء ﴾.
هذا وعيد من الله تعالى لهؤلاء الأعراب، بأن تدور عليهم الدائرة، وينزل بهم البلاء ؛ الذي تمنوه للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأنهم لا يرون في المسلمين إلا ما يسوءهم من نصر ورفعة شأن.
﴿ والله سميع عليم ﴾. واسع العلم فلا تخفى عليه خافية مما أضمروه، وهو محاسبهم ومجازيهم أشد الجزاء.
المفردات :
قربات : جمع قربة و هي ما يتقرب به العبد إلى ربه تعالى.
صلوات الرسول : دعواته صلى الله عليه وسلم.
التفسير :
٩٩ ﴿ ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول... ﴾ الآية.
هذا هو الفريق الثاني : وهو فريق مؤمن مخلص في إيمانه وفي نفقته.
أي : وبعض آخر من الأعراب يؤمنون إيمانا صحيحا، مثل : جهينة ومزينة، وبنو أسلم وغفار.
وقال مجاهد : هم بنو مقرن من مزينة، وهم الذين قال الله تعالى فيهم :﴿ ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم... ﴾. ( التوبة : ٩٢ ).
وهؤلاء الذين يعتبرون كل نفقة أنفقوها في سبيل الله ؛ وسيلة إلى مرضاة الله، ودعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لهم، واستغفاره لهم، حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ويستغفر لهم، عند أخذه الزكاة الواجبة، والصدقات المندوبة ؛ ليوزعها على مستحقيها، ولذلك كان من السنة الدعاء للمتصدق بالخير والبركة.
﴿ ألا إنها قربة لهم ﴾. أي : ألا إن إنفاقهم الصادر عن إخلاص ؛ قربة عظيمة لهم عند الله تعالى، وفي هذا شهادة من الله بصحة معتقدهم، وتصديق لرجائهم وتمنيهم.
﴿ سيدخلهم الله في رحمته ﴾. أي : سيشملهم برحمته وفضله، أي : سيدخلهم في جنته ورضوانه.
﴿ إن الله غفور رحيم ﴾. أي : واسع المغفرة والرحمة، لا يخلف وعده ؛ فهو يستر على ما فرط منهم من ذنب أو تقصير، ويرحمهم بهدايتهم إلى صالح الأعمال المؤدية إلى حسن الختام والمصير.
﴿ والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم ( ١٠٠ ) ﴾
التفسير :
١٠٠ ﴿ والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار... ﴾ الآية.
لما ذكر الله تعالى فضائل قوم من الأعراب، ينفقون تقربا إلى الله تعالى، ومن أجل دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ أبان فضائل قوم أعلى منهم منزلة وأعظم، وهي منازل السابقين الأولين.
فالسابقون الأولون من المهاجرين، الذين هاجروا قبل صلح الحديبية، فتقدموا على غيرهم في الهجرة والنصر، وأفضل هؤلاء : الخلفاء الراشدون الأربعة، ثم العشرة المبشرون بالجنة، وأول السابقين من المهاجرين أبو بكر الصديق وزير الرسول وأنيسه في الغار، وأول الناس في الإيمان والهجرة والجهاد والبذل والنصرة١٣٦.
والسابقون الأولون من الأنصار، هم أصحاب بيعة العقبة الأولى في منى سنة ١١ من البعثة ؛ وكانوا سبعة ؛ ثم أصحاب بيعة العقبة الثانية، وكانوا سبعين رجلا وامرأتين، والذين سارعوا إلى الإيمان عند قدوم مصعب بن عمير، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أرسله بعد البيعة الثانية ؛ لينشر الدعوة الإسلامية بين أهل المدينة، وقيل : السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار : هم الذين صلوا إلى القبلتين، أو من حضر بيعة الرضوان.
﴿ والذين اتبعوهم بإحسان ﴾.
أي : الذين اتبعوا السابقين في الإسلام من المهاجرين والأنصار، إتباعا حسنا في أقوالهم وأعمالهم وجهادهم ؛ ونصرتهم لدعوة الحق.
قال الآلوسي : وكثير من الناس ذهب إلى أن المراد بالسابقين الأولين : جميع المهاجرين والأنصار، ومعنى كونهم سابقين : أنهم أولون بالنسبة إلى سائر المسلمين.
ويلاحظ أن الإقتداء بالصحابة، هو الإقتداء بإحسان، أي : إحسان الأعمال والنيات، والظواهر والبواطن.
﴿ رضي الله عنهم ﴾. في إيمانهم وإخلاصهم، فتقبل أعمالهم ورفع درجاتهم، وتجاوز عن زلاتهم.
﴿ ورضوا عنه ﴾. لقد منحهم الله الرضا والقناعة، والسرور بمرضاة الله عنهم، وبرضاهم عن ربهم وحبهم له.
قال الأستاذ عبد الكريم الخطيب :
﴿ ورضوا عنه ﴾. رضوان فوق رضوان من عند الله يحفهم به، ويزيدهم نعيما إلى نعيم ؛ إذ جعل سبحانه رضاهم عنه بما أعطاهم معادلا لرضاه عنهم، حتى لكأنه سبحانه وتعالى، يتبادل الرضا معهم، فيرضى عنهم ويرضون عنه، فسبحانه ما أعظم لطفه، وما أوسع فضله !
﴿ وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ﴾.
أي : وأعد لهم في الآخرة جنات تجري من تحت قصورها أو أشجارها الأنهار، خالدين فيها خلودا أبديا. قال تعالى :﴿ وما هم منها بمخرجين ﴾. ( الحجر : ٤٨ ).
﴿ ذلك الفوز العظيم ﴾.
هذا هو الجزاء الذي لا يعدله جزاء، وهو الفوز الذي لا فوز يعدله أو يدانيه ؛ لقد آمنوا و ثبتوا وتحملوا وقوف الجاهلية في وجههم ؛ فاستحقوا رضوان الله في الدنيا، وجنة خالدة في الآخرة ؛ وهذا هو الفوز العظيم.
وقد تكرر في القرآن الكريم الثناء على المهاجرين والأنصار ومن اقتفى أثرهم من التابعين إلى يوم الدين، ومن أمثلة ذلك الآيات ٨ ١٠ من سورة الحشر وتبدأ بقوله تعالى :﴿ للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا... ﴾
﴿ وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم( ١٠١ ) ﴾
المفردات :
حولكم : أي : حول المدينة بلدكم.
مردوا على النفاق : أي : مرنوا عليه واعتادوه.
لا تعلمهم : لا تعرف حقيقة أمرهم ؛ لعراقتهم في النفاق.
سنعذبهم مرتين : قبل الآخرة بالفضيحة وعذاب القبر.
ثم يردون إلى عذاب عظيم : ثم يردون في الآخرة إلى عذاب بالنار عظيم.
التفسير :
١٠١ ﴿ وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة... ﴾ الآية.
أي : اذكروا أيها المؤمنون، أنه يسكن من حول مدينتكم قوم من الأعراب منافقون ؛ فاحترسوا منهم، واحترسوا أيضا من قوم آخرين يسكنون معكم داخل المدينة.
﴿ مردوا على النفاق ﴾.
أي : مرن هؤلاء وأولئك على النفاق، وبلغوا فيه مبلغا ؛ جعلهم مهرة فيه حتى لان لهم أمره، وسلس لهم قياده، ولا تكاد تستعمل كلمة : مردوا إلا في الشر.
﴿ لا تعلمهم نحن نعلمهم ﴾.
أي : لا تعرفهم أنت أيها الرسول بعنوان نفاقهم ؛ لأنهم بلغوا من المهارة فيه مبلغا كبيرا، فلا يقف على سرائرهم إلا من لا تخفى عليه خافية.
﴿ سنعذبهم مرتين ﴾.
أي : سيتكرر عذابهم النفسي والبدني ؛ فهم في عذاب مستمر، فقد تكفل الله بنصر الإسلام ؛ فكلما انتصر المسلمون في غزوة، أو تقدموا في أمر، أو ارتفع شأنهم، أصاب المنافقين الإحباط والهوان، ثم إن هناك عذابا آخر ينتظرهم على أيدي المسلمين ؛ حيث يجرفهم تيار الإسلام ؛ ويزعج أمنهم و سلامتهم ؛ ويخرجهم من ديارهم وأموالهم كما حدث مع اليهود، وقد أطلق بعض المفسرين على اليهود : شياطين المنافقين ؛ إشارة إلى الآية الكريمة :﴿ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون * الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون ﴾. ( البقرة : ١٤، ١٥ ).
﴿ ثم يردون إلى عذاب عظيم ﴾.
ثم يرجعون في الآخرة إلى عذاب غليظ، هو عذاب النار، قال تعالى :﴿ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا* إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما * ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما ﴾. ( النساء : ١٤٥١٤٧ ).
﴿ وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم ( ١٠٢ ) ﴾
التفسير :
١٠٢ ﴿ وآخرون اعترفوا بذنوبهم... ﴾ الآية.
قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في عشرة تخلفوا عن غزوة تبوك، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته، وكان قريبا من المدينة ؛ ندموا على تخلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : نكون في الظلال والأطعمة والنساء، ونبي الله في الجهاد واللأواء، والله لنوثقن أنفسنا بالسواري، ثم لا نطلقها حتى يكون نبي الله هو الذي يطلقنا، فأوثق سبعة منهم أنفسهم في سواري المسجد و بقي ثلاثة لم يوثقوا أنفسهم، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته، فمر بالمسجد فأبصرهم فسأل عنهم، فقيل له : إنه أبو لبابة وأصحابه تخلفوا عنك يا نبي الله، فصنعوا بأنفسهم ما ترى، وعاهدوا الله ألا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم ؛ فقال صلى الله عليه وسلم لا أطلقهم حتى يأمر الله بإطلاقهم، ولا أعذرهم حتى يعذرهم الله، قد رغبوا بأنفسهم عن غزوة المسلمين، فأنزل الله تعالى :﴿ وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم ﴾. فأطلقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعذرهم١٣٧.
ومعنى الآية : ومن أهل المدينة قوم آخرون، اعترفوا بتخلفهم عن الغزو ؛ إيثارا للدعة وطلبا للسلامة ؛ مع إيمانهم وتصديقهم بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
﴿ خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ﴾. أي : قدموا جهادا سابقا في غزوات سابقة، وقدموا طاعات لله، ثم خلطوا ذلك بعمل سيء ؛ هو تخلفهم عن غزوة تبوك، ثم ندمهم وتوبتهم.
﴿ عسى الله أن يتوب عليهم ﴾. أي : يرجى أن يقبل الله توبتهم، المفهومة من اعترافهم بذنوبهم.
﴿ إن الله غفور رحيم ﴾. أي : إنه تعالى واسع المغفرة والرحمة لكل من ندم واستقام، والتزم بطاعة الله تعالى.
﴿ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم والله سميع عليم ( ١٠٣ ) ﴾
التفسير :
١٠٣ ﴿ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها... ﴾ الآية.
قيل : هي صدقة الفرض، وقيل : هي صدقة مخصوصة بهذه الطائفة المعترفة بذنوبها ؛ لأنهم بعد التوبة عليهم، عرضوا أموالهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا : يا رسول الله، هذه أموالنا التي خلفتنا عنك ؛ فتصدق بها وطهرنا، فقال :( ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا ) فنزلت، فأخذ منها الثلث وترك لهم الثلثين.
وأكثر الفقهاء : على أن هذه الآية نص في فرضية الزكوات الواجبة، أو إيجاب أخذ الزكاة من الأغنياء.
قال الجصاص في أحكام القرآن :
والصحيح أن هذه الآية في الزكوات المفروضة ؛ إذ لم يثبت أن هؤلاء القوم أوجب الله عليهم صدقة دون سائر الناس، سوى زكوات أموال، وإذا لم يثبت بذلك خبر، فالظاهر أنهم وسائر الناس سواء في الأحكام والعبادات، وأنهم غير مخصوصين بها دون غيرهم من سائر الناس ا ه. ١٣٨
والمعني : خذ أيها الرسول وكل حاكم مسلم بعدك من أموال هؤلاء التائبين، ومن غيرهم، صدقة مقدرة بمقدار معين، تطهرهم بها من داء البخل والطمع، وتزكي أنفسهم بها، وتنمي بها حسناتهم.
قال الإمام ابن كثير :
أمر الله تعالى رسوله أن يأخذ من أموالهم صدقة، يطهرهم ويزكيهم بها وهذا عام، وإن أعاد بعضهم الضمير في أموالهم إلى الذين اعترفوا بذنوبهم ا ه.
وعند التأمل نجد أنه يمكن أن تكون الآية شاملة تشمل المعترفين بذنبهم، وتشمل من تجب عليهم الزكاة.
والمعنى : خذ أيها الرسول من هؤلاء المعترفين بذنبهم، ومن سائر من تجب عليهم الزكاة المفروضة ؛ صدقة معينة، وهي مال معلوم من شخص معلوم تصرف في مصارف معلومة، أي ما زاد عن النصاب، من شخص معلوم هو مالك النصاب وما زاد عليه، يصرف هذا المال إلى مصارف الزكاة من الفقراء والمساكين.
﴿ تطهرهم وتزكيهم بها ﴾. أي : إن الزكاة أو الصدقة تطهر النفس من أدران الشح والبخل، وتنمي الحسنات وترفع الدرجات، وتسبب البركة والنماء في المال وفي النفس ؛ وفي الحديث الذي رواه أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة :( ما نقصت صدقة من مال )١٣٩.
﴿ وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ﴾. أي : ادع لهم واستغفر وترحم، بعد أخذك لتلك الصدقة من أموالهم. والصلاة من الله على عباده : الرحمة، ومن ملائكته : الاستغفار ؛ ومن النبي والمؤمنين : الدعاء.
﴿ إن صلواتك سكن لهم ﴾. أي : إن دعاءك تسكن له نفوسهم ؛ وتطمئن وتهدأ ؛ وتثق بأن الله قد قبل توبتها أو رفع درجتها، وينبغي للإمام أو نائبه أن يدعو لكل من أحضر الزكاة أو الصدقة، أو ساهم في خير أو منفعة للمسلمين، أو للفقراء والمساكين، قال تعالى :﴿ هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ﴾. ( الرحمان : ٦٠ ).
﴿ والله سميع عليم ﴾. فهو سبحانه سميع لدعاء الرسول سماع قبول وإجابة، وعليم بكل شيء في هذا الكون، ومطلع على قلوب العباد عند توبتهم أو عند إحضارهم الزكاة ويجازيهم على إخلاصهم.
﴿ ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم ( ١٠٤ ) و قل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ( ١٠٥ ) ﴾
المفردات :
ألم يعلموا : استفهام يراد به التقرير. أي : قد علموا.
يأخذ الصدقات : يقبلها ويثيب عليها.
التفسير :
١٠٤ ﴿ ألم يعلموا أن الله يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم... ﴾ الآية.
ألم يعلم هؤلاء التائبون، وجميع المؤمنين، أن الله هو الذي يقبل توبة عباده، ويتجاوز عن سيئاتهم، ويأخذ الصدقات. أي : يقبلها ويثيب عليها ويضاعف أجرها، كما قال تعالى :﴿ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبصط وإليه ترجعون ﴾. ( البقرة : ٢٤٥ ).
قال ابن كثير : هذا تهييج إلى التوبة والصدقة، اللتين كل منهما يحط الذنوب ويمحقها، وأخبر سبحانه وتعالى، أن كل من تاب إليه تاب عليه، ومن تصدق بصدقة من كسب حلال ؛ فإن الله يتقبلها بيمينه فيربيها لصاحبها حتى تصير التمرة مثل جبل أحد كما جاء بذلك الحديث. فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إن الله يقبل الصدقة، ويأخذها بيمينه، فيربيها لأحدكم، كما يربي أحدكم مهره، حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد )١٤٠، وتصديق ذلك في كتاب الله :﴿ هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات ﴾، وقوله :﴿ يمحق الله الربا ويربي الصدقات ﴾ ( البقرة : ٢٧٦ ).
﴿ وأن الله هو التواب الرحيم ﴾.
من شأنه سبحانه أنه تعالى عظيم التوبة على عباده، كثير الرحمة بهم ؛ فذلك شأنه الدائم وسنته المستمرة، وقد أفادت آيات القرآن أنه سبحانه غافر الذنب وقابل التوب، وحثت آيات القرآن على التوبة النصوح ونهت عن اليأس من رحمة الله ؛ قال تعالى :﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ﴾. ( الزمر : ٥٣ ).
قيل في سبب نزول هذه الآية ما يأتي :
قال الذين لم يتوبوا من المتخلفين : هؤلاء كانوا معنا بالأمس، لا يكلمون ولا يجالسون، فمالهم الآن ؟ وما هذه الخاصة التي خصوا بها فنزلت :﴿ ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده... ﴾. الآية.
فالضمير في يعلموا عائد إلى الذين لم يتوبوا من المتخلفين.
المفردات :
و ستردون : وسترجعون.
الغيب والشهادة : الخفي والظاهر.
التفسير :
١٠٥ ﴿ وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ﴾.
وقل أيها الرسول لهؤلاء التائبين ولغيرهم : اعملوا ؛ فإن عملكم لا يخفى على الله وعباده خيرا كان أو شرا ؛ فأخلصوا عملكم لوجه الله.
والعمل أساس السعادة، وسيرى الله عملكم سرا أو جهرا، وسيراه الرسول والمؤمنون إن كان جهرا، أو سيطلع الله رسوله والمؤمنين على أعمالكم.
روى الإمام أحمد والبيهقي وأبو يعلى عن أبي سعيد الخدري :( لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء، ليس لها باب ولا كوة، لأخرج الله عمله للناس كائنا من كان )١٤١.
وقد ورد : أن أعمال الأحياء تعرض على الأموات من الأقرباء والعشائر في البرزخ كما قال أبو داود والطيالسى. روي عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن أعمالكم تعرض على أقربائكم وعشائركم في قبورهم، فإن كان خيرا ؛ استبشروا به، وإن كان غير ذلك ؛ قالوا : اللهم، ألهمهم أن يعملوا بطاعتك ).
﴿ وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ﴾.
وستردون إلى يوم القيامة إلى الذي يعلم سرائركم وعلانيتكم، ويعلم الغائب والحاضر، والباطن والظاهر فيخبركم بما كنتم تعملون في الدنيا، ثم يجازيكم عليها إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وهذا كلام جامع للترغيب والترهيب.
ويؤخذ من الآيات ما يأتي :
١ فرضية الزكاة التي أوجبها الله في خمسة أنواع هي : زكاة المال، وزكاة التجارة، وزكاة المحصولات الزراعية، وزكاة الماشية من البقر والغنم والإبل، وزكاة الركاز : وهو كل ما
يستخرج من باطن الأرض مثل : البترول والمعادن.
٢ قبول الله للتوبة الصادقة، وللصدقات الصادرة عن خلوص النية، والإثابة عليها.
٣ كل إنسان مجزي بعمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، والعمل مشهود عند الله ورسوله والمؤمنين، في عالم البرزخ كما قال تعالى :﴿ يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية ﴾.
( الحاقة : ١٨ ).
﴿ وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم ( ١٠٦ ) ﴾
التفسير :
١٠٦ ﴿ وآخرون مرجون لأمر الله… ﴾ الآية.
نزلت هذه الآية بشأن ثلاثة من المسلمين ؛ تخلفوا عن غزوة تبوك بدون عذر ؛ إنما قعد بهم الدعة والراحة، وقد حاولوا أن يلحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاد، بيد أنهم ترددوا حتى عاد الرسول صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، وجاء المنافقون فاعتذروا أعذارا كاذبة، وقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم ظواهرهم ووكل سرائرهم إلى الله.
أما هؤلاء الثلاثة فقد صدقوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وقالوا : يا رسول الله، تخلفنا بدون عذر ؛ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يتركوهم حتى ينزل الله فيهم أمره، فهجرهم المسلمون خمسين ليلة، لا يسلمون عليهم، ولا يردون عليهم السلام ؛ وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتزلوا نساءهم، وكان أمرهم مترددا بين قبول توبتهم، أو رفضها جزاء تخلفهم عن الجهاد، بيد أن الله تعالى قبل توبتهم في آخر السورة، حيث قال سبحانه بشأنهم :﴿ وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم ﴾ ( التوبة : ١١٨ ).
وهؤلاء الثلاثة : كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع. كلهم من الأنصار، وقد وردت قصتهم في صحيح البخاري. وقد علق الله أمرهم، وهو العليم بكل أمر ؛ رغبة في ترك موضوعهم معلقا، حتى يستمر ندمهم على ما فعلوا وليكونوا عبرة لغيرهم ؛ حتى لا يتخلف مؤمن عن الجهاد.
المعنى : وآخرون من المتخلفين موقوفون :﴿ مرجون لأمر الله ﴾. أي : مرجئون ومؤخرون لأمر الله في شأنهم، إما أن يعذبهم لتخلفهم عن الجهاد، وإما أن يقبل توبتهم ؛ بعد أن تخلص نفوسهم وقلوبهم من الإخلاد إلى الدعة والراحة، وإيثار ذلك على الجهاد ؛ ﴿ والله عليم ﴾ بمن يستحق العقوبة ممن يستحق العفو، وبما يصلح عباده ويربيهم، حكيم في أفعاله وأقواله، ومن حكمته إرجاء النص على توبتهم.
من تفسير الفخر الرازي :
وكان المتخلفون عن غزوة تبوك أصنافا ثلاثة :
١ المنافقون الذين مردوا على النفاق وهم أكثر المتخلفين.
٢ التائبون المؤمنون الذين اعترفوا بذنوبهم، وتابوا فتاب الله عليهم، وهم الذين ربطوا أنفسهم بالسواري ؛ وهم أبو لبابة وأصحابه، فنزلت توبتهم.
٣ الذين بقوا موقوفين مترددين، لم يعتذروا للنبي صلى الله عليه وسلم عن تخلفهم، وأرجئوا توبتهم، فلم يربطوا أنفسهم في سواري المسجد، فأرجأ الله الحكم في أمرهم. فوقف أمرهم خمسين ليلة، وهجرهم الناس، حتى صدقت توبتهم ؛ وعظم ندمهم :﴿ ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا... ﴾ ( التوبة : ١١٨ ).
من أحكام الآية :
الحكمة الإلهية قد تقتضي البث في شأن بعض العباد، وقد ترجئ ذلك ؛ ليظل الناس في أمل ورجاء، ورهبة وخوف، وقد أثمرت هذه الحكمة في دفع هؤلاء الثلاثة إلى شدة الندم، وصدق التوبة حتى تاب الله عليهم.
﴿ والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون ( ١٠٧ ) ﴾
المفردات :
ضرارا : مضارة للإسلام وأهله.
وتفريقا بين المؤمنين : أي : فصلا بينهم، بصرف بعضهم عن مسجد قباء الذي يجمعهم ويوحد كلمتهم.
وإرصادا لمن حارب الله ورسوله : وانتظارا للراهب الفاسق الذي حارب الله ورسوله ليصلي فيه.
الحسنى : أي : الخصلة الحسناء.
التفسير :
١٠٧ ﴿ والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين... ﴾ الآية.
سبب النزول :
بنى جماعة من المنافقين مسجدا ؛ رغبة في التجمع، واستضافة أعداء النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال لهم أبو عامر الراهب : ابنوا مسجدكم، واستعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح، فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم ؛ فآتى بجند من الروم ؛ فأخرج محمدا وأصحابه، فلما فرغوا من مسجدهم، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا : يا رسول الله، إنا بنينا مسجدا ؛ لذي العلة والحاجة والليلة الشاتية، والليلة المطيرة، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه.
فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : إني على جناح سفر، ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه، ونزل عليه الوحي بخبرهم. فلما رجع من سفره ؛ دعا برجال من أصحابه، وقال : انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله ؛ فأحرقوه واهدموه ففعلوا، وأمر أن يتخذ مكانه موضعا لإلقاء القمامة ؛ حتى لا تقوم له قائمة، وهلك أبو عامر الراهب بقنّسرين.
ومعنى الآية :
ومن المتخلفين عن غزوة تبوك، المنافقون الذين بنوا بجوار مسجد قباء، مسجدا لمضارة الإسلام والمسلمين، وكفرا. بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، وللطعن عليه وعلى الإسلام واتخاذه مقرا للكيد والتآمر على المسلمين.
﴿ وتفريقا بين المؤمنين ﴾. حيث أرادوا ألا يحضروا مسجد قباء ؛ فتقل جماعة المسلمين، وفي ذلك من اختلاف الكلمة وبطلان الألفة ما لا يخفى.
﴿ وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل ﴾.
الإرصاد : أي : الترقب والانتظار لمجيء من حارب الله ورسوله إليه ويتخذه مقرا له، ومكانا لقوم راصدين للحرب معه، وهم المنافقون الذين بنوا هذا المسجد.
﴿ وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون ﴾.
وليحلفن هؤلاء المنافقون : ما أردنا ببناء هذا المسجد إلا الفعلة الحسنى ؛ وهي الرفق بالمسلمين، وتيسير صلاة الجماعة على أهل الضعف والعجز، وفي أثناء المطر، والله تعالى يعلم إنهم لكاذبون في أيمانهم وادعائهم ؛ فقد بنوه للمضارة وغيرها من الأغراض الفاسدة، التي بينتها الآية الكريمة.
﴿ لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ( ١٠٨ ) ﴾
المفردات :
لا تقم فيه أبدا : لا تؤد فيه الصلاة وغيرها من الطاعات في أي وقت دائما.
لمسجد أسس على التقوى : يعني : مسجد قباء.
يحبون أن يتطهروا : أي : يرغبون في التطهر الحسي والمعنوي.
التفسير :
١٠٨ ﴿ لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه... ﴾ الآية.
أي : لا تقم أيها الرسول للصلاة وغيرها من الطاعات ؛ في مسجد الضرار في أي وقت من الأوقات ؛ فقد بني للإضرار بالإسلام وأهله، والله ! لمسجد قباء الذي بني أساسه ووضعت قواعده على تقوى الله وإخلاص العبادة له منذ أول يوم بدئ في بنائه، أحق أن تقوم للصلاة فيه من غيره.
وقيل : المراد : بالمسجد الذي أسس على التقوى : هو المسجد النبوي بالمدينة، فقد روى أحمد ومسلم والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عنه، فأجاب بأنه مسجده الذي في المدينة، ولا مانع من إرادة المسجدين ؛ لأن كلا منهما قد بني على التقوى من أول يوم بدئ ببنائه.
﴿ فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ﴾.
أي : في هذا المسجد الذي بني على التقوى، رجال يحبون أن يتطهروا طهارة معنوية، وهي التطهر عن الذنوب والمعاصي، وطهارة حسية للبدن والثوب، بالوضوء والاغتسال وطهارة القبل والدبر من آثار البول والغائط.
﴿ والله يحب المتطهرين ﴾. أي : يرضى عنهم ويدنيهم من جنابه تعالى، إدناء المحب حبيبه.
فمحبة الله عباده معناها : الرضا والقبول والإدناء ؛ لأن الله تعالى منزه عن مشابهة صفاتنا، فحبه غير حبنا، وهو شيء يليق بكماله تعالى ؛ كما جاء في الحديث القدسي الذي يرويه البخاري :( و لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته ؛ كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ) ١٤٢.
﴿ أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين ( ١٠٩ ) ﴾
المفردات :
شفا جرف : الشفا : الحرف والحافة والطرف ( والجرف ) بضمتين ما جرفه السيل أي : استأصله وحفر ما تحته، فبقي واهيا.
هار : مشرف على السقوط وأصله ( هائر ).
فانهار به : فسقط به.
التفسير :
١٠٩ ﴿ أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار… ﴾ الآية.
قارن الله تعالى بين مسجد قباء الذي بني على التقوى والإيمان وطاعة الرحمان، وبين مسجد الضرار الذي بني ؛ لمعاداة المسلمين واستقبال أعدائهم، وتبييت الكيد لهم، الكفر بنبيهم، فالأول : طيب أطيب الطيب، والثاني : خبيث أخبث الخبيث.
قال الشوكاني في فتح القدير :
أي : إن من أسس بنيانه على قاعدة قوية محكمة، وهي تقوى الله ورضوانه، خير ممن أسس على ضد ذلك.
والجرف : ما ينجرف بالسيول ؛ وهي الجوانب من الوادي التي تنجرف بالماء.
والهار : المشرف على السقوط.
﴿ فانهار به في نار جهنم ﴾. فانهار الجرف بالبنيان وبانيه في النار.
وجاء في تفسير الرازي :
ولا نرى في العالم مثالا أجدر مطابقة لأمر المنافقين في هذا المثال.
وقال الزمخشري في تفسير الكشاف :
والمعنى : أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة قوية محكمة، وهي الحق الذي هو تقوى الله ورضوانه، ﴿ خير أم من ﴾. أسسه على قاعدة هي أضعف القواعد، وأرخاها وأقلها بقاء، وهو الباطل والنفاق الذي مثله مثل :﴿ شفا جرف هار ﴾. في قلة الثبات والاستمساك، وضع شفا الجرف في مقابلة التقوى ؛ لأنه جعل مجازا عما ينافي التقوى.
﴿ لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم ( ١١٠ ) ﴾
المفردات :
ريبة : شكا ونفاقا.
إلا أن تقطع قلوبهم : أي : لا يزال المسجد الذي بنوه شاهدا على تمكن الريبة في قلوبهم من جهة الإسلام، حتى كأنه نفس الريبة والشك.
التفسير :
١١٠ ﴿ لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم… ﴾ الآية.
إن مسجدهم قد بني بدون إخلاص ولا نية سليمة ؛ لذلك فهو بنيان شاهد على تمكن الريبة في قلبهم من جهة الإسلام، حتى كأنه نفس الريبة ؛ لأنه يجسد آثار النفاق والكفر، فقد أورثهم نفاقا في قلوبهم، وازدادوا بهدم رسول الله صلى الله عليه وسلم لمسجدهم، وإبطاله لكيدهم ؛ تصميما على الكفر ومقتا للإسلام.
﴿ إلا أن تقطع قلوبهم ﴾. إما بالموت أو بالسيف.
﴿ والله عليم حكيم ﴾. فهو سبحانه عليم بكل شيء في هذا الكون، وبكل ما يفعله هؤلاء المنافقون سرا وجهرا.
﴿ حكيم ﴾. أي : عظيم الحكمة في تصرفاته وأفعاله.
ويؤخذ من الآيات ما يأتي :
١ وجوب بناء المساجد على تقوى من الله ورضوان.
٢ قال المالكية : كل مسجد بني على ضرار أو رياء وسمعة ؛ فهو في حكم مسجد الضرار، لا تجوز الصلاة فيه، ولا يجوز أن يبنى مسجد إلى جنب مسجد لئلا ينصرف أهل المسجد الأول فيبقى شاغرا.
٣ دل قوله تعالى :﴿ وتفريقا بين المؤمنين ﴾. على أن المقصد الأسمى من وجود الجماعة تأليف القلوب، واتحادهم على الطاعة ؛ حتى يأنسوا بالمخالطة، وتصفوا القلوب من الأحقاد.
٤ كان مسجد الضرار سببا لريبة المنافقين، فإنهم لما بنوه عظم فرحهم به، ولما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتخريبه ؛ ثقل ذلك عليهم، وازداد بغضهم له، وزاد ارتيابهم في نبوته، وظل ذلك الريب في قلوبهم حتى الموت.
٥ قال الإمام ابن كثير : صرح جماعة من السلف : بأن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد قباء، وقد ورد في الحديث الصحيح :( أن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي في جوف المدينة ؛ هو المسجد الذي أسس على التقوى ). وهذا صحيح - ولا منافاة بين الآية وبين هذا ؛ لأنه إذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى من أول يوم، فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى والأخرى.
﴿ إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( ١١١ ) ﴾
المفردات :
اشترى : استبدل.
ومن أوفى : لا أحد أعظم وفاء.
فاستبشروا : أي : فافرحوا غاية الفرح.
التفسير :
١١١ ﴿ إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ... ﴾ الآية.
سبب النزول :
قال القرطبي :
«نزلت هذه الآية في بيعة العقبة الثانية وهي بيعة العقبة الكبرى، وفيها زاد الأنصار على سبعين، واجتمعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : عند العقبة ؛ فقال عبد الله بن رواحة : اشترط يا رسول الله لربك ولنفسك ما شئت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :( أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم ) قالوا : فإذا فعلنا ذلك فما لنا... ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم :( الجنة ) قالوا : ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل ! ١٤٣ فنزلت هذه الآية ثم هي عامة في كل مجاهد في سبيل الله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة » ا ه.
والمعنى : إن الله اشترى من المؤمنين الأنفس والأموال بثمن هو الجنة، أي : مثل الله إثابتهم بالجنة ؛ على بذل أنفسهم وأموالهم في سبيله بصفة الشراء.
قال أبو السعود :
«الآية الكريمة ترغيب للمؤمنين في الجهاد، وقد بولغ في ذلك على وجه لا مزيد عليه، حيث عبر عن قبول الله تعالى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم التي بذلوها في سبيله، وإثابته إياهم بمقابلتها بالجنة : بالشراء على طريقة الاستعارة التبعية، ثم جعل المبيع الذي هو العمدة والمقصد في العقد، أنفس المؤمنين وأموالهم، والثمن الذي هو الوسيلة في الصفقة : الجنة » ا ه.
وفي الآية حث وتحريض على الجهاد في سبيل الله، وبذل النفس والمال دفاعا عن الإسلام وأهله، وقد وردت آيات كثيرة في الحث على الجهاد والتحريض عليه، وبيان فضله وثوابه، وبيان فضل الشهداء عند ربهم، وتعددت طرق الحث والتحريض على الجهاد، وقد أكد الله ثواب المجاهدين بمؤكدات عدة ؛ ذلك أن الله سبحانه هو الخالق وهو الرزاق، فهو الذي خلق الأنفس وأعطى الأموال، ثم رغب في بذل هذه الأموال على أحسن وجه، وأبلغه ؛ لأنه أبرزه في صورة عقد عقده رب العزة، وثمنه مالا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
«وأكد الله منحه الثواب والجنة بمؤكدات عشرة هي : كون المشتري هو الله، وإيصال الثواب بالبيع والشراء، وذلك حق مؤكد، وقوله :﴿ وعدا عليه حقا ﴾، ووعد الله حق، وإثابته في الكتب الكبرى : التوراة، والإنجيل، والقرآن، وهذا يتضمن إشهاد جميع الكتب، وجميع الرسل والأنبياء، على هذه المبايعة ».
وقوله :﴿ ومن أوفى بعهده من الله ﴾. وهو غاية في التأكيد.
وقوله :﴿ فاستبشروا ببيعكم ﴾. وهو أيضا مبالغة في التأكيد، وقوله :﴿ وذلك هو الفوز ﴾. وقوله :﴿ العظيم ﴾. ١٤٤
من تفسير الشوكاني في فتح القدير :
﴿ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم ﴾.
لما شرح الله تعالى فضائح المنافقين، بين هنا فضيلة الجهاد، فهؤلاء المجاهدين باعوا أنفسهم من الله بالجنة، فجادوا بأنفسهم، وجادوا بالأموال في الجهاد، وجاد الله عليهم بالجنة.
﴿ يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون ﴾.
يقدمون على قتل الكفار في الحرب، ويبذلون أنفسهم في ذلك، فإن فعلوا ؛ فقد استحقوا الجنة، وإن لم يقع القتل عليهم، بعد التعرض للموت بالإقدام على الكفار.
﴿ وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ﴾.
إخبار من الله سبحانه أن استحقاق المجاهدين الجنة، قد ثبت الوعد به من الله في كتبه المنزلة : التوراة، الإنجيل، كما وقع في القرآن.
﴿ ومن أوفى بعهده من الله ﴾. لا أحد، وهو صادق الوعد، لا يخلف الميعاد.
﴿ فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به ﴾. أظهروا السرور بهذا البيع ؛ فقد ربحتم فيه ربحا عظيما لم يربحه أحد من الناس إلا من فعل مثل فعلكم. ١٤٥
﴿ وذلك هو الفوز العظيم ﴾. ففيه ظفر المجاهد بالنعيم المقيم، ورضوان الله رب العالمين ؛ ولا فوز أعظم من ذلك.
قال الحسن البصري : أنفس هو خالقها، وأموال هو رازقها ؛ ثم يكافئنا عليها متى بذلناها في سبيله بالجنة.
﴿ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّر الْمُؤْمِنِينَ ( ١١٢ ) ﴾
التفسير :
١١٢ ﴿ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ... ﴾ الآية.
مدح الله المؤمنين الذين اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة بتسع صفات في هذه الآية والآيتان مرتبطان ببعضهما لا مستقلتان.
وأول الأوصاف التسعة هي :
﴿ التائبون ﴾. أي : المقلعون عن معصية الله، الراجعون إلى طاعته، والنادمون على معصيته، ومن علامة قبول التوبة ما يأتي :
١. الندم على فعل الذنوب التي وقعت من الإنسان في الماضي.
٢. الإقلاع عن الذنب في الحال.
٣. العزم والتصميم على الاستقامة والبعد عن الذنوب في المستقبل.
٤. أن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله.
فإن كانت التوبة من ذنب يتعلق بحقوق الآدميين ؛ زيد عليها شرط خامس، وهو رد الحقوق إلى أصحابها، أو استسماحهم استسماحا عاما.
﴿ العابدون ﴾. المطيعون لله بعبادة صحيحة، قصد بها وجه الله.
﴿ الحامدون ﴾. الشاكرون لله في النعماء والضراء، الراضون بقضائه وقدره.
﴿ السّآئحون ﴾. السائرون في الأرض للتدبر الاعتبار وطاعة الله ؛ والعمل على مرضاته ؛ وقيل : السآئحون : الصائمون، وقيل : السآئحون : المجاهدون في سبيل الله.
﴿ الراكعون الساجدون ﴾. المحافظون على الصلاة وإتمامها ؛ بإتمام الركوع والسجود وسائر الأركان.
﴿ الآمرون بالمعروف ﴾. وهو كل ما حسنه الشرع.
﴿ والناهون عن المنكر ﴾. المحذرون للناس من مخالفة أوامر الله، ومن انتهاك الحرمات، ومن التقصير في أداء الفرائض والواجبات.
﴿ والحافظون لحدود الله ﴾. أي : القائمون بما أمر به، والمنتهون عما نهي عنه.
﴿ وبشر المؤمنين ﴾. أي : أخبرهم يا محمد بما يسرهم، فهم المؤمنون حقا، المتصفون بهذه الصفات الكريمة، المستحقون للجنة ولرضوان الله ومحبته، «وحذف المبشر به ؛ للتعظيم كأنه قيل : وبشرهم بما يجل عن إحاطة الأفهام وتعبير الكلام »
﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ١١٣ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ ١١٤ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ١١٥ إِنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ١١٦ ﴾
المفردات :
ما كان للنبي والذين آمنوا : أي : ما صح وما استقام للنبي صلى الله عليه وسلم، وللمؤمنين.
أن يستغفروا : أن يطلبوا الغفران.
أولى قربى : أصحاب قرابة.
التفسير :
١١٣ ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ... ﴾.
سبب النزول :
أخرج الشيخان وأحمد : عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال : لما حضرت الوفاة أبا طالب جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال :( أي عم، قل : لا إله إلا الله ؛ كلمة أحاج لك عند الله ) فقال أبو جهل، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة : أترغب عن ملة عبد المطلب... ، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليها ويعودان لتلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم : أنا على دين عبد المطلب، وأبى أن يقول : لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لأستغفرن لك ما لم أنه عن ذلك ) فأنزل الله تعالى :﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى١٤٦... ﴾ الآية، وأنزل الله في أبي طالب :﴿ إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء.. ﴾١٤٧.
ومعنى الآية ما يأتي :
ما صح وما استقام في حكم الله تعالى، للنبي والذين آمنوا أن يطلبوا المغفرة للمشركين، ولو كانوا أصحاب قرابة ؛ بعد ما ظهر لهم أنهم أصحاب النار، بإصرارهم على الكفر، وموتهم عليه، أو يعلم الرسول بالوحي أنهم سيموتون على الكفر.
من تفسير القاسمي :
لما بين الله تعالى في أول السورة وما بعدها أن البراءة من المشركين والمنافقين واجبة، بين سبحانه هنا ما يزيد ذلك تأكيدا، حيث نهى عن الاستغفار لهم بعد تبين شركهم وكفرهم١٤٨.
وقال ابن عباس : كانوا يستغفرون لأمواتهم المشركين، فلما نزلت هذه الآية ؛ أمسكوا عن الاستغفار لأمواتهم، ولم ينهوا أن يستغفروا للأحياء.
المفردات :
موعدة : وعد.
تبرأ منه : بعد عنه وتنزه عن مصاحبته.
أواه : أصل التأوه : قول الرجل : آه، أي : توجع. وأواه للمبالغة. والمراد : كثير التأوه من خوف الله.
حليم : صبور على الأذى، صفوح عن الجناية، يقابلها بالإحسان والعطف.
التفسير :
١١٤ ﴿ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ... ﴾ الآية.
هذه الآية إجابة عن سؤال وقع، أو متوقع أن يقع بعد الاستماع إلى قوله تعالى :﴿ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ﴾. والسؤال الذي يقع بعد الاستماع إلى هذه الآية :﴿ وكيف استغفر إبراهيم لأبيه، وقد كان أبوه من المشركين ؟ ! ﴾١٤٩.
وفي القرآن الكريم يقول الله تعالى على لسان إبراهيم :﴿ واغفر لأبي إنه كان من الضالين ﴾. ( الشعراء : ٨٦ ).
والمعنى : لا حجة لكم أيها المؤمنون في استغفار إبراهيم لأبيه، فإن ذلك كان عن موعدة من آزر لابنه إبراهيم بالإيمان، أو كان سببه أن إبراهيم قد وعد أباه أن يستغفر لأبيه، ويسأل الله تعالى له الهداية إلى الإسلام حتى يغفر له. فلما مات آزر مشركا ؛ تبرأ منه إبراهيم، وانقطع رجاؤه عنه وقطع عنه الاستغفار، وقد جاء في سورة مريم :﴿ قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا * قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا * وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعوا ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا ﴾. ( مريم : ٤٦٤٨ ).
﴿ فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ﴾. أي : فلما ظهر لإبراهيم بالوحي أن أباه مصر على الكفر غير مؤمن أبدا ؛ بعد عنه وتجنبه، وترك الاستغفار له.
﴿ إن إبراهيم لأواه حليم ﴾. أي : كثير التأوه من خوف الله تعالى، متضرع إليه كثير الدعاء والتوبة، حليم بعباد الله، عظيم الحلم كثير الصفح واللطف، ومن حلمه أنه كان يدعو لأبيه، وأبوه يتهدده ويتوعده بالرجم.
المفرادت :
ما يتقون : ما يجب اتقاؤه والبعد عنه.
التفسير :
١١٥ ﴿ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ... ﴾ الآية.
تبين الآية جانبا من فضل الله ولطفه وكرمه وعدله، وهي في نفس الوقت تفرج عن صدر المسلمين الحزن، أو الحسرة والندم على ما وقع منهم. من استغفار منهم لمن مات من أهليهم وأصدقائهم على الشرك قبل أن يجيء النهي عن الاستغفار لهم، فلا شيء عليهم في هذا. لقد كان من حكمة الله تعالى أن أرسل الرسل، وأنزل الكتب لهداية الناس، ولتلزمهم الحجة ؛ حتى لا يقولوا يوم القيامة : ما أتانا من نذير، قال تعالى :﴿ رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما ﴾. ( النساء : ١٦٥ ).
وفي هذه الآية بين الله سبحانه : أنه لا يأخذ المؤمنين بالعقاب، ولا ينزلهم منازل الضالين، إلا بعد أن يبين لهم الطريق الذي يسيرون عليه، وما يأخذون أو يدعون من الأمور، أما ما يقع من العباد مما لم يكن قد جاءهم أمر الله فيه ؛ فهو معفو عنه عند الله ولو كان مما نهى عنه بعد أن وقع منهم... ١٥٠.
المفردات :
ولى : وال يلي أموركم ويدبر شئونكم.
ولا نصير : ينصركم على أعدائكم ويمنعكم من أذاهم.
التفسير :
١١٦ ﴿ إِنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ... ﴾ الآية.
إن الله وحده هو مالك الكون، وهو سبحانه بيده الخلق والأمر، والرزق والمنع ؛ فيجب أن تخلصوا له في عبادتكم وطاعتكم، وموالاتكم للمؤمنين، وعدم استغفاركم للمشركين.
جاء في تفسير ابن كثير :
قال ابن جرير : هذا تحريض من الله تعالى لعباده المؤمنين، في قتال المشركين وملوك الكفر، وأن يثقوا بصر مالك السماوات والأرض، ولا يرهبوا من أعدائه، فإنه لا ولي لهم من دون الله ولا نصير لهم سواه.
﴿ وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ﴾. أي : ليس لكم أيها المكلفون من غير الله وال يلي أموركم، ويدبر شئونكم، ولا نصير ينصركم على عدوكم، ويعينكم عليه، فهو وحده نعم المولى ونعم النصير.
﴿ لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ١١٧ ﴾
التفسير :
١١٧ ﴿ لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ... ﴾ الآية.
سبب النزول :
جاء في تفسير ابن كثير : أخرج ابن جرير : عن ابن عباس قال : قيل لعمر بن الخطاب في شأن العسرة ؛ فقال عمر : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلا فأصابنا فيه عطش، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، وحتى إن الرجل ليذهب يلتمس الماء ؛ فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، وحتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر : يا رسول الله، إن الله عز وجل قد عودك في الدعاء خيرا، فادع لنا ! فقال :( تحب ذلك ؟ ) قال : نعم ؛ فرفع يديه فلم يرجعهما حتى سالت السماء فأهطلت ثم سكنت، فملئوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر١٥١.
من تفسير القاسمي :
ذكر سبحانه في هذه الآية وما بعدها فضله على فرقة من المؤمنين فكروا في التخلف، ميلا إلى الدعة والراحة، أو تأثروا من بعد الشقة وطول الطريق ووعثاء السفر، فاضطربت قلوبهم وترددت رغبتهم في الجهاد ثم ندموا فتابوا وأنابوا.
ثم علم الله صدق توبتهم فقبلها، ثم أنزل توبتهم في هذه الآية، وصدّرها بتوبته على رسوله وكبار صحبه ؛ جبرا لقلوبهم، وتنويها لشأنهم، بضمهم مع المقطوع بالرضا عنهم، وبعثا للمؤمنين على التوبة، وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار، حتى النبي والمهاجرين والأنصار كل على حسبه، وإبانة لفضل التوبة ومقدارها عند الله، وأنها صفة التوابين الأوابين، صفة الأنبياء، كما وصفهم بالصالحين ؛ ليظهر فضيلة الصلاح، والوصف للمدح، كما يكون لمدح الموصوف، يكون لمدح الصفة وهو كما قال حسان بن ثابت :
ما إن مدحت محمدا بمقالتي لكن مدحت مقالتي بمحمد١٥٢
وفي هذه الآية فضل المهاجرين والأنصار، حيث ذكرهم الله تعالى بعد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم.
جاء في التفسير القرآني للقرآن :
( وذكر النبي هنا في التوبة وهو صلوات الله وسلامه عليه لم يقع منه شيء وحاشاه في هذا تكريم للمهاجرين والأنصار، وتشريف لهم بنظمهم مع هذا الكوكب الدري الوضيء في ساحة رضوان الله تعالى ومغفرته.. وقد قرأ الرضا على بن موسى : لقد تاب الله بالنبي على المهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة... )١٥٣.
المعنى :
لقد غفر الله سبحانه وتعالى، وعفا عن النبي وعن المهاجرين والأنصار، ﴿ الذين اتبعوه في ساعة العسرة ﴾. أي : خرجوا معه في غزوة تبوك لقتال الأعداء، وكانت الغزوة في وقت شديد الحرارة، وضيق في الرواحل، بعد في الطريق ؛ حتى سميت «غزوة العسرة » وسمّى الجيش الذي خرج فيها :«جيش العسرة ».
﴿ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغ قلوب فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ﴾. أي : من بعد ما قرب أن تميل قلوب بعضهم إلى التخلف والدعة ؛ خوفا من الشدة والمشقة ؛ ولكن الله ثبتهم وأيدهم وقواهم.
﴿ ثم تاب عليهم ليتوبوا ﴾. وفقهم الله ورزقهم الإنابة إلى ربهم، والرجوع إلى الثبات على دينه، والالتزام بهدى نبيه، حتى تابوا إلى الله، وندموا على تفكيرهم في القعود عن الجهاد.
﴿ إنه بهم رءوف رحيم ﴾. إنه عليم بالعباد وطبائعهم، رحيم بالمؤمنين ولهذا من عليهم بالتوبة ؛ وقبلها منهم وثبتهم عليها، قال بعضهم :«ذكر التوبة أولا قبل ذكر الذنب ؛ تفضلا منه، وتطيبا لقلوبهم، ثم ذكر الذنب بعد ذلك، وأردفه بذكر التوبة مرة أخرى ؛ تعظيما لشأنهم، وليعلموا أنه تعالى قبل توبتهم وعفا عنهم، ثم أتبعه بقوله :﴿ إنه بهم رءوف رحيم ﴾١٥٤ ؛ تأكيدا لذلك.
﴿ وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ١١٨ ﴾.
المفردات :
خلفوا : أخر أمر قبول توبتهم.
بما رحبت : أي : مع رحابتها وسعتها، والرحب سعة المكان.
لا ملجأ من الله : لا مفر ولا منجى من سخطه وعقابه.
التفسير :
١١٨ ﴿ وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ... ﴾ الآية.
قصة هؤلاء الثلاثة أخرجها الإمام أحمد في مسنده وأخرجها البخاري في كتاب المغازي، ومسلم في كتاب التوبة.
وخلاصة هذه القصة يرويها ابن هشام فيقول١٥٥ :
قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم عائدا من تبوك، وكان قد تخلف عنه رهط المنافقين، وتخلف أولئك الثلاثة من المسلمين المخلصين من غير شك ولا نفاق، وهم كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه :( لا تكلمن أحدا من هؤلاء الثلاثة ) لأنهم لم يقدموا عذرا عن تخلفهم. وأتاه من تخلف من المنافقين، فجعلوا يحلفون له ويعتذرون، فصفح عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ معاملة لهم بظاهرهم، واعتزل المسلمون أولئك النفر الثلاثة، ثم نزلت هذه الآية معلنة قبول توبتهم وعفو الله عنهم.
معنى الآية : هذه الآية معطوفة على سابقتها.
والمعنى : لقد تقبل توبة النبي والمهاجرين والأنصار، وتقبل كذلك توبة الثلاثة الذين تخلفوا عن الغزو لا بسبب النفاق ؛ وإنما كسلا وإيثارا للراحة والقعود، وخلفوا الغازين بالمدينة، أي : صاروا خلفاء للذين ذهبوا إلى الغزو.
وقد وصف الله هؤلاء الثلاثة بصفات ثلاث :
الصفة الأولى :
﴿ حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ﴾. لقد تخلفوا عن الغزو، ثم ندموا بسبب إعراض الناس عنهم، ومقاطعتهم لهم، وإعراض الرسول عنهم، وأمر أزواجهم باعتزالهم، حتى بقوا على هذه الحالة خمسين يوما.
الصفة الثانية :
﴿ وضاقت عليهم أنفسهم ﴾. بسبب الهم والغم، وشدة الندم والألم.
الصفة الثالثة :
﴿ وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ﴾. اعتقدوا وتيقنوا أنهم لا ملجأ ولا ملاذ لهم، من غضب الله وعقوبته إلا بالرجوع إليه، وصدق الندم والتوبة، والعزم على الاستقامة والعودة.
﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾. أي : بعد هذا التأديب الشديد ؛ علم الله منهم صدق الندم على ما فعلوا، فأنزل الله قبول التوبة منهم، ليصيروا في جملة التوابين، وليستمروا ويثبتوا على توبتهم ؛ إنه سبحانه كثير القبول لتوبة التائبين، واسع الرحمة بالناس أجمعين.
أثر التوبة :
التوبة : نعمة من الله على عباده، وكل بني آدم خطاء و خير الخطاءين التوابون.
ونلمح من الآية السابقة، تماسك المجتمع، وطاعته للرسول، فالمخالف والمتخلف عن الغزو ؛ هجر وترك ؛ حتى اشتد ندمه ؛ فتاب الله عليه.
من تفسير الكشاف :
«بلغ أبو خيثمة الأنصاري بستانه، إبان غزوة تبوك، وكانت له امرأة حسناء، فرشت له الظل، وبسطت له الحصير، وقربت إليه الرطب والماء البارد، فنظر فقال : ظل ظليل، ورطب يانع، وماء بارد، وامرأة حسناء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الحر والريح، ما هذا بخير ! فقام فرحل ناقته، وأخذ سيفه ورمحه، ومر كالريح ؛ فمد رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفه إلى الطريق، فإذا براكب يزهاه السراب ؛ فقال : كن أبا حثيمة ! فكان، ففرح به الرسول صلى الله عليه وسلم، واستغفر له.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ١١٩ ﴾
التفسير :
الصدق طريق النجاة في الدنيا والآخرة، وقد كان صدق هؤلاء الثلاثة في توبتهم طريقا إلى قبول الله لتوبتهم وفي تعقيب هذه الآية على قبول توبة التائبين تقول :
١١٩ ﴿ يا أيها الذين آمنوا بالله ﴾ ورسوله، ﴿ اتقوا الله ﴾ بامتثال أمره واجتناب ما نهى عنه.
﴿ وكونوا مع الصادقين ﴾. المجاهدين المخلصين في جهادهم إذا جاهدوا، و في عهودهم إذا عاهدوا، وفي أقوالهم ووعودهم إذا حدثوا ووعدوا، وفي توبتهم إذا أذنبوا أو قصروا.
وقد ورد في القرآن والسنة الصحيحة مدح الصدق ؛ لأنه سلاح المؤمن وتاج الإنسان، ومبعث إلى الثقة والاحترام بين الناس. كما حذر الإسلام من الكذب فهو صفة المنافقين، ودليل ضعف الشخصية وغضب الله على الإنسان.
أخرج البيهقي ومسلم : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( عليكم بالصدق ؛ فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى حتى يكتب عند الله كذابا )١٥٦.
﴿ مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ١٢٠ وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ١٢١ ﴾
المفردات :
ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه : أي : لا يؤثروا أنفسهم على نفسه.
ولا نصب : ولا تعب.
ولا مخمصة : ولا مجاعة.
واديا : الوادي : هو الأرض التي تكون بين جبلين.
التفسير :
١٢٠، ١٢١ ﴿ ما كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ... ﴾ الآيتان.
يعاقب الله المتخلفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فيقول :﴿ ما كان لأهل المدينة... ﴾ أي : ما كان ينبغي لأهل المدينة، ومن حولهم من قبائل العرب المجاورة لها : كمزينة، وجهينة، وغفار، وأشجع، وأسلم، التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، ولا أن يؤثروا أنفسهم على نفسه ؛ بأن يطلبوا السلامة بالتخلف عن الجهاد، فعليهم أن يصحبوه على البأساء والضراء ؛ وأن يكابدوا معه الأهوال برغبة ونشاط واغتباط، وأن يلقوا من الشدائد ما تلقاه نفسه الشريفة، مع العلم بأنها أعز نفس عند الله وأكرمها عليه، وذلك يقتضيهم أن يبذلوا أنفسهم دون نفسه، وأن يدافعوا عنه بأنفه وحمية، لا أن يتخلفوا عنه بغير عذر، كما فعل بعضهم.
روى الشيخان : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين )١٥٧.
﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ... ﴾
أي : ذلك الذي تقدم من وجوب مصاحبتهم الرسول في الجهاد ؛ وإيثاره على أنفسهم ؛ بسبب أنه كل ما يصيبهم في جهادهم من معاناة ومكابدة ومشاق كالعطش والتعب والجوع والألم في سبيل الله، ووطء جزء من أرض الكفر يغيظ الكفار، والنيل من الأعداء، بالأسر أو القتل أو الهزيمة أو الغنيمة ؛ يستوجب الثواب الجزيل المكافئ لما قدموه وزيادة، وذلك مما يوجب المشاركة في الجهاد.
﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾. أي : لا يدع شيئا من ثواب المحسنين إلا كافأه عليه ؛ قال تعالى :﴿ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا ﴾ ( الكهف : ٣٠ ).
فوائد :
١ خروج المسلمين للجهاد إذا دعاهم الإمام إليه فرض كفاية ؛ إذا قام به البعض سقط عن الباقين، أما خروج المسلمين للجهاد إذا دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم فهو فرض عين.
٢ لا يصح للمؤمن إيثار نفسه على نفس الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الإيمان لا يكمل إلا بأن يحب الرسول صلى الله عليه وسلم، أكثر مما يحب نفسه.
٣ إن كان ما يتعرض له المجاهد في مكابدة ومتاعب ويثاب عليه ثوابا جزيلا ؛ فهو في ضيافة الله وكرمه ومنازل رضوانه منذ أن يبدأ في التهيؤ للجهاد إلى أن يعود إلى منزله الذي خرج منه، أو يستشهد في سبيل الله وقد حفل القرآن الكريم ببيان فضل الجهاد وعظيم ثوابه ؛ وأثره في حماية الإسلام والمسلمين، ودفع العدوان وتمكين المستضعفين من الحرية والاختيار، كما ذكر القرآن : أن الشهداء أحياء حياة معنوية أبدية يتمتعون بخيرات الجنة ونعيمها قال تعالى :﴿ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون * يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين ﴾. ( آل عمران : ١٦٩١٧١ ).
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٢٠:
﴿ مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ١٢٠ وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ١٢١ ﴾

المفردات :

ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه : أي : لا يؤثروا أنفسهم على نفسه.
ولا نصب : ولا تعب.
ولا مخمصة : ولا مجاعة.
واديا : الوادي : هو الأرض التي تكون بين جبلين.

التفسير :

١٢٠، ١٢١ ﴿ ما كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ... ﴾ الآيتان.
يعاقب الله المتخلفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فيقول :﴿ ما كان لأهل المدينة... ﴾ أي : ما كان ينبغي لأهل المدينة، ومن حولهم من قبائل العرب المجاورة لها : كمزينة، وجهينة، وغفار، وأشجع، وأسلم، التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، ولا أن يؤثروا أنفسهم على نفسه ؛ بأن يطلبوا السلامة بالتخلف عن الجهاد، فعليهم أن يصحبوه على البأساء والضراء ؛ وأن يكابدوا معه الأهوال برغبة ونشاط واغتباط، وأن يلقوا من الشدائد ما تلقاه نفسه الشريفة، مع العلم بأنها أعز نفس عند الله وأكرمها عليه، وذلك يقتضيهم أن يبذلوا أنفسهم دون نفسه، وأن يدافعوا عنه بأنفه وحمية، لا أن يتخلفوا عنه بغير عذر، كما فعل بعضهم.
روى الشيخان : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين )١٥٧.
﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ... ﴾
أي : ذلك الذي تقدم من وجوب مصاحبتهم الرسول في الجهاد ؛ وإيثاره على أنفسهم ؛ بسبب أنه كل ما يصيبهم في جهادهم من معاناة ومكابدة ومشاق كالعطش والتعب والجوع والألم في سبيل الله، ووطء جزء من أرض الكفر يغيظ الكفار، والنيل من الأعداء، بالأسر أو القتل أو الهزيمة أو الغنيمة ؛ يستوجب الثواب الجزيل المكافئ لما قدموه وزيادة، وذلك مما يوجب المشاركة في الجهاد.
﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾. أي : لا يدع شيئا من ثواب المحسنين إلا كافأه عليه ؛ قال تعالى :﴿ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا ﴾ ( الكهف : ٣٠ ).

فوائد :

١ خروج المسلمين للجهاد إذا دعاهم الإمام إليه فرض كفاية ؛ إذا قام به البعض سقط عن الباقين، أما خروج المسلمين للجهاد إذا دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم فهو فرض عين.
٢ لا يصح للمؤمن إيثار نفسه على نفس الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الإيمان لا يكمل إلا بأن يحب الرسول صلى الله عليه وسلم، أكثر مما يحب نفسه.
٣ إن كان ما يتعرض له المجاهد في مكابدة ومتاعب ويثاب عليه ثوابا جزيلا ؛ فهو في ضيافة الله وكرمه ومنازل رضوانه منذ أن يبدأ في التهيؤ للجهاد إلى أن يعود إلى منزله الذي خرج منه، أو يستشهد في سبيل الله وقد حفل القرآن الكريم ببيان فضل الجهاد وعظيم ثوابه ؛ وأثره في حماية الإسلام والمسلمين، ودفع العدوان وتمكين المستضعفين من الحرية والاختيار، كما ذكر القرآن : أن الشهداء أحياء حياة معنوية أبدية يتمتعون بخيرات الجنة ونعيمها قال تعالى :﴿ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون * يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين ﴾. ( آل عمران : ١٦٩١٧١ ).

﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ١٢٢ ﴾
المفردات :
لينفروا كافة : ليخرجوا للجهاد ونحوه جميعا.
فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة : فهلا خرج من كل جماعة كثيرة منهم، جماعة قليلة.
ولينذروا قومهم : وليحذروهم من المخاوف والعواقب السيئة لعصيان الله وعدم التدبر في الأمور.
التفسير :
١٢٢ ﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً... ﴾ الآية.
سبب النزول :
أخرج ابن أبي حاتم : عن عبد الله بن عبيد الله بن عمير قال : كان المؤمنون لحرصهم على الجهاد إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية خرجوا فيها، وتركوا النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة في رقة١٥٨ من الناس ؛ فنزلت هذه الآية.
وقال بن عباس : هذه الآية مخصوص بالسرايا، والتي قبلها بالنهي عن تخلف واحد، فيما إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم.
المعنى : ما كان من شأن المؤمنين أن ينفروا جميعا للجهاد ويتركوا النبي صلى الله عليه وسلم وحده ؛ فهلا نفر من كل جماعة كالقبيلة أو البلد طائفة قليلة منهم ؛ للتفقه في الدين، ومعرفة أحكام الشريعة وأسرارها، حتى إذا ما رجع المجاهدون من المعركة، أرشدوهم إلى مناهج الهدى ومسالك العزة، ومعرفة أحكام الدين، وخوفوهم من عصيان الله، أو تجاوز أحكامه، لكي يحذروا ما يضرهم في دنياهم وأخراهم، ويقبلوا على ما ينفعهم ويعلى قدرهم.
من أحكام الآية :
١ الجهاد فرض عين إذا دعا النبي صلى الله عليه وسلم إليه.
٢ الجهاد في غير ذلك فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين.
٣ قال مجاهد وابن زيد : هذه الآية ناسخة لما قبلها، والأصح أنها مبينة لا ناسخة، وكل من ( من ) المفيدة للتبعيض، والفرقة ( الجماعة الكثيرة )، والطائفة ( الجماعة الأقل ) ؛ يفيد كون الجهاد وطلب العلم موجها للبعض.
٤ وجوب طلب العلم، والتفقه في القرآن والسنة، وهو فرض على الكفاية، لا على الأعيان ؛ بدليل قوله تعالى :﴿ فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ﴾. ( النحل : ٤٣ ).
٥ يجب أن يكون المقصود من التفقه والتعلم دعوة الخلق إلى الحق، وإرشادهم إلى الدين القويم والصراط المستقيم.
٦ طلب العلم فضيلة عظيمة ومرتبة شريفة لا يوازيها عمل ؛ لما رواه مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( من يرد الله به خيرا ؛ يفقهه في الدين ). ١٥٩
وروى الترمذي عن أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا وإنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر )١٦٠
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ١٢٣ ﴾.
التفسير :
١٢٣ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ... ﴾ الآية.
المعنى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ ؛ قاتلوا الأقرب من الكفار، أي : إنه يجب على كل بلد مسلم أن يكون مستعدا ومتأهبا، وأن يبدأ بقتال ما يجاوره من الكفار.
﴿ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً ﴾. والغلظة هنا يراد بها : الشجاعة والقوة، ولا يكون ذلك إلا بعد الاستعداد والتمرين والتمرس بأساليب القتال.
﴿ واعلموا أن الله مع المتقين ﴾. أي : تأكدوا وثقوا بأن معية الله وعونه ونصره للمتقين الذين آمنوا بالله وراقبوه وأطاعوه، واجتنبوا مخالفته.
في أعقاب الآية :
في جزرة العرب تقع مدن متعددة مثل : مكة، والمدينة، والطائف، وخيبر، واليمامة ( الرياض ).
وتجاور هذه المدن صحارى وبادية ممتدة، وهذه البادية كانت مرتبطة بالمدن المجاورة لها ؛ فأهل البادية يحملون إلى المدينة ما يريدون بيعه من الماشية والألبان والدواجن وأشباه ذلك ؛ ويشترون من المدينة الثياب وأدوات القتال وما يتصل بذلك.
ومن يسيطر على مدينة مثل خيبر أو مكة أو الطائف ؛ يسهل عليه كثيرا أن يسيطر على ما حولها من سكان البادية والأعراب.
وعندما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ؛ عمل على تأمين المدينة في الداخل ؛ فعقد معاهدة مع اليهود، ثم عقد تحالفا مع الأعراب المقيمين حول المدينة، وأرسل عددا من السرايا ؛ لتأمين دائرة حول المدينة، ثم كانت غزوة بدر الكبرى، وأعقبها عقد تحالف مع عدد من البلاد المجاورة، وكانت غزوة خيبر وفتح مكة، وغزوة حنين، والطائف ؛ لتأمين السيطرة على المدن الكبرى في الجزيرة العربية، ثم أمر الله المسلمين بالاستمرار في قتال من يجاورهم من الكفار، فاتجهوا إلى غزوة تبوك ولم يكن فيها قتال، ولكن وضعت الجزية على أيلة، وبصرى، وكانت تلك الغزوة إرهابا للنصارى، ونزلت سورة براءة عقبها، فكانت هذه الآية كالوصية للمسلمين بالاستمرار على غزو بلاد الكفر المجاورة لبلاد الإسلام.
ولذلك ابتدأ الخلفاء بفتح الشام، ثم العراق، ثم فارس، ثم انتقلوا إلى مصر، ثم إلى إفريقية، ثم الأندلس.
وفي توجيه الخطاب للذين آمنوا دون النبي، إيماء إلى أن النبي عليه الصلاة والسلام لا يغزو بعد ذلك وأن أجله الشريف قد اقترب، ولعل في قوله تعالى :﴿ واعلموا أن الله مع المتقين ﴾. إيماء إلى التسلية للمسلمين على فقد نبيهم، وأن الله معهم ؛ كقوله في الآية الأخرى :﴿ وسيجزي الله الشاكرين ﴾. ( آل عمران : ١٤٤ ).
﴿ وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ١٢٤ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ ١٢٥ أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ ١٢٦ وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون ١٢٧ ﴾
التفسير :
١٢٤ ﴿ وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا... ﴾ الآية.
هذه الآية عود الحديث عن المنافقين، وبيان لسوء أدبهم مع القرآن الكريم ؛ فقد كانوا إذا نزلت سورة مشتملة على تبيان فضائحهم وعيوبهم تأذوا من سماعها، وكذلك كلما سمعوا سورة وإن لم يذكر فيها شيء عنهم. استهزءوا بها وطعنوا فيها، وأخذوا في التغامز والتضاحك على سبيل الطعن والهزء.
إذا أنزلنا عليك يا محمد آية سورة من سور القرآن الكريم ؛ نظر المنافقون إلى بعض نظرة استهزاء وسخرية بالقرآن، وقالوا :
﴿ أيكم زادته هذه إيمانا ﴾. فهم يتساءلون تساءل مستنكر مستهجن، ويقولون : من منكم منحته هذه السورة تصديقا بالقرآن أو بمحمد ؟ ! وهنا يفاجئهم القرآن بهذا الجواب :
﴿ فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون ﴾. إن العيب في قلوب المنافقين، وليس في القرآن الكريم، بدليل أن هذا القرآن، له أثر واضح على المؤمنين ؛ فإنه يزيدهم إيمانا وتصديقا، ويقينا بصدقه، وصدق قائله، والإيمان يزيد كلما زاد إيمان القلب بما نزل من الآيات.
قال الزمخشري :
﴿ فزادتهم إيمانا ﴾ ؛ لأنها أزيد لليقين والثبات، وأثلج للصدر، أو فزادتهم عملا ؛ فإن زيادة العمل زيادة في الإيمان، فإن الإيمان يقع على الاعتقاد والعمل.
﴿ وهم يستبشرون ﴾. وهم مسرورون بنزولها وبما فيها من المنافع الدينية والدنيوية.
١٢٥ ﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾.
إن المريض لا يزيده الطعام الهنيء إلا مرضا، والأعشى لا يزيده ضوء الشمس إلا ألما وانزعاجا.
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد وتنكر النفس طعم الماء من سقم
فالمنافقون مرضى بالنفاق، قلوبهم عديلة مظلمة، فكلما نزلت سورة كفروا بها، فتزيدهم السورة كفرا ونفاقا، مضموما إلى كفرهم ونفاقهم السابق، ويستحكم ذلك فيهم إلى أن يموتوا، وهم كافرون بالقرآن، وبالنبي صلى الله عليه وسلم.
مع أن القرآن في حقيقته هدى ونور وشفاء لما في الصدور. قال تعالى :﴿ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ﴾. ( الإسراء : ٨٢ ).
وقال عز وجل :﴿ قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد ﴾. ( فصلت : ٤٤ ).
١٢٦ ﴿ أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾.
المراد من فتنتهم : كشف نفاقهم وفضيحتهم على رءوس الأشهاد، وكان ذلك مرة أو مرتين في كل عام كالذي حدث في غزوة أحد، حين رجعوا من الطريق، وكالذي حدث في غزوة الخندق حين قالوا :﴿ إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرار ﴾. ( الأحزاب : ١٣ ).
وغير ذلك من المخالفات الخطيرة التي كشفها الله، وفضح فيها نفاقهم، وكشف أستارهم مرة بعد أخرى.
والمعنى : أبلغ الجهل والسفه وعمى البصيرة بهؤلاء، أنهم صاروا لا يعتبرون ولا يتعظون بما حاق بهم من فتن واختبارات وابتلاءات، وتنزل بهم في كل عام مرة أو مرتين ؟ !
قال الآلوسى : والمراد من المرة والمرتين : مجرد التكثير، لا بيان الوقوع على حسب العدد المذكور.
﴿ ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون ﴾. ثم إنهم مع توالي الاختبارات لا يقلعون عن نفاقهم، ولا يتعظون بما يصيبهم من البلاء وانكشاف أمرهم وفضح دخيلتهم.
١٢٧ ﴿ وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون ﴾.
وإذا ما أنزلت سورة قرآنية على النبي صلى الله عليه وسلم، وهم جلوس عنده ؛ نظر بعضهم إلى بعض نظرة متلصصة متغامزة ؛ غيظا من السورة أو سخرية بها، ثم يقول بعضهم لبعض إشارة أو همسا :﴿ هل يراكم من أحد ﴾. من المسلمين إذا خرجتم من المجلس متسللين، ثم انصرفوا جميعا في مجلس الوحي، وأعرضوا عنه فهذا حالهم، لا يقبلون على الوحي، ولا يقبلونه ولا يفهمونه.
﴿ صرف الله قلوبهم ﴾. هذا إما دعاء عليهم أو إخبار عن أحوالهم.
﴿ بأنهم قوم لا يفقهون ﴾. لقد جازاهم الله بمثل صنيعهم، فذلك الصرف لقلوبهم عن الحق ؛ سببه أنهم لا يريدون التبصر في هذا الدين، أو التفقه في أموره وأحكامه، أو الإنصات والتدبر في آدابه وهديه، وهم في نفور من القرآن وتشاغل عنه، قال تعالى :﴿ فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ﴾. ( الصف : ٥ ).
﴿ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ١٢٨ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ١٢٩ ﴾.
المفردات :
عزيز عليه ما عنتم : شاق عليه ما تكرهون من مشاق الحياة، والعنت : المشقة.
حريص عليكم : لا يفرط فيما يصلحكم.
رءوف رحيم : الرأفة : شدة الرحمة، ولا تكون مع الكراهية، أما الرحمة فقد تكون مع الكراهية.
التفسير :
١٢٨ ﴿ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ... ﴾ الآية.
تمهيد :
تأتي هاتان في آخر سورة التوبة كالتتمة ؛ لما اشتملت عليه ؛ فقد بدأت السورة بالبراءة من المشركين، وكشفت حيل المنافقين وفضحتهم وبعثرتهم، وكأنها تتجه إلى جزيرة العرب كلها ؛ تدعوهم إلى الإيمان بهذا النبي الكريم، الذي أرسل إلى العرب خاصة وإلى الناس عامة.
المعنى : لقد أرسل إليكم أيها العرب رسولا من خالص نسبكم، أو من جنسكم من العرب بلسان عربي مبين، شاق عليه وقوعكم في العنت والهلاك، حريص على هدايتكم، بالغ الرأفة والرحمة بكم.
قال القرطبي :
قوله :﴿ من أنفسكم ﴾. يقتضي مدحا لنسب النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه من صميم العرب وخالصها، وفي صحيح مسلم عن وائلة بن الأسقع قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم )١٦١.
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :( إني من نكاح ولست من سفاح ). ١٦٢
و قال الزجاج : إن الخطاب في الآية الكريمة لجميع البشر ؛ لعموم بعثته صلى الله عليه وسلم، ومعنى كونه ﴿ من أنفسكم ﴾ : أنه من جنس البشر، قال تعالى :﴿ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ﴾. ا ه ( الأنبياء : ١٠٧ ).
ولا تعارض بين الرأيين ؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل للعرب خاصة وللناس عامة.
١٢٩ ﴿ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾.
أي : فإن أعرضوا عن رسالتك، وكفروا بدعوتك ؛ فالجأ إلى الله واعتصم به فهو الإله ولا إله غيره ومن توكل عليه ؛ حفظه وكفاه، وهو مالك الملك ومدبر أمره وجميع الخلق في قبضته.
جاء في التفسير المنير ص٩٠ جزء ١١ ما يأتي :
وصف الله تعالى هذا الرسول بخمس صفات :
الأولى : قوله :﴿ من أنفسكم ﴾. أي : من العرب، والمقصود منه : ترغيب العرب في نصرته.
الثانية :﴿ عزيز عليه ما عنتم ﴾. أي : شديد عليه عنتكم أي : مشقتكم ولقاؤكم المكروه في الدنيا والآخرة ؛ إذ هو منكم، يتألم لألمكم ويفرح لفرحكم.
الثالثة :﴿ حريص عليكم ﴾. أي : حريص على هدايتكم، وإيصال الخيرات إليكم في الدنيا والآخرة.
الرابعة والخامسة :﴿ بالمؤمنين رءوف رحيم ﴾. أي : شديد الرأفة والرحمة بالمؤمنين ؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما : سماه الله باسمين من أسمائه.
﴿ فإن تولوا ﴾. أي : أعرض المشركون والمنافقون عنك، وعن الإيمان برسالتك، والاهتداء بشرعك ؛ فقل حسبي الله. أي : الله كافي في النصر على الأعداء. ﴿ لا إله إلا هو ﴾، أي : لا معبود سواه أدعوه وأخضعه له. ﴿ عليه توكلت ﴾. فوضت أمري إليه وحده، فلا أتوكل إلا عليه.
روى أبو داود عن أبي الدرداء قال : من قال إذا أصبح وإذا أمسى :( حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم ) سبع مرات ؛ كفاه الله ما أهمّه، صادقا كان أو كاذبا. ١٦٣
وحكى النقاش عن أبي بن كعب أنه قال : أقرب القرآن عهدا بالله تعالى : هاتان الآيتان :﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم... ﴾إلى آخر السورة. وقد اتفق الصحابة حين جمع القرآن على وضع هاتين الآيتين في آخر سورة براءة.
روى أحمد والبخاري والترمذي عن زيد بن ثابت، في جمع القرآن وكتابته في عهد أبي بكر أنه قال :( حتى وجدت من سورة براءة آيتين عن خزيمة الأنصاري، لم أجدها مع أحد غيره :﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم... ﴾ إلى آخرها، أي : لم يجدهما مكتوبتين عند غيره، وإن كانتا محفوظتين عنده وعند غيره، كما ذكر ابن حجر ). ١٦٤
وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
انتهى تفسير سورة التوبة والحمد لله رب العالمين.
١ من كتاب أهداف كل سورة ومقاصدها في القرآن الكريم للدكتور : عبد الله شحاتة.
٢ لا يطوف بالبيت عريان :
رواه الترمذي في الحج( ٨٧١ ) وفي التفسير( ٣٠٩٢ ) والدارمي في المناسك( ١٩١٩ ) وأحمد في مسنده( ٤، ٥٩٥ ) من حديث زيد بن أثيع قال : سألت عليا بأي شيء بعثت قال : بأربع : لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا، ومن كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته ومن لا مدة له فأربعة أشهر. ورواه البخاري في الصلاة( ٣٦٩ ) وفي الحج( ١٦٢٢ ) وفي الجزية( ٣١٧٧ ) وفي المغازي( ٤٣٦٣ ) وفي تفسير القرآن( ٤٦٥٥، ٤٦٥٦، ٤٦٥٧ ) ومسلم في الحج( ١٣٤٧ ) وأبو داود في المناسك( ١٩٤٦ ) والنسائي في مناسك الحج( ٢٩٥٧ ) والدارمي في الصلاة( ١٤٣٠ ) وفي السير( ٢٥٠٦ ) وأحمد في مسنده( ٧٩١٧ ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنهم قال بعثني أبو بكر في تلك الحجة في مؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى : أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان قال حميد بن عبد الرحمان ثم أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلى بن أبي طالب وأمره أن يؤذن ببراءة قال أبو هريرة فأذن معنا على يوم النحر في أهل مني ببراءة وأن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان.
٣ قال الزمخشري في تفسير الكشاف﴿ براءة ﴾ خبر مبتدأ محذوف أي : هذه براءة و﴿ من ﴾ لابتداء الغاية متعلق بمحذوف أي : براءة كائنة من الله. أو واصلة من الله ورسوله، ويجوز أن تكون﴿ براءة ﴾ مبتدأ، والخبر إلى﴿ الذين عاهدتم من المشركين ﴾ كما تقول رجل من بني تميم في الدار.
٤ تفسير القرآن الكريم لفضيلة الإمام الأكبر الشيخ : محمود شلتوت.
٥ حاشية الجمل على الجلالين ٢/ ٢٦٣.
٦ تفسير القاسمي.
٧ تفسير القاسمي وقد أسند هذا القول إلى ابن القيم.
٨ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله :
رواه مسلم في الإيمان أيضا( ٢٢ ) من حديث عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله. رواه البخاري في الصلاة( ٣٩٣ ) وأبو داود في الجهاد( ٢٦٤١ ) والترمذي في الإيمان( ٢٦٠٨ ) والنسائي في تحريم الدم( ٣٩٦٦ ) وفي الإيمان( ٥٠٠٣ ) وأحمد في مسنده( ١٢٦٤٣، ١٢٩٣٥ ) من حديث أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها وصلوا صلاتنا واستقبلوا قبلتنا وذبحوا ذبيحتنا ؛ فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله. ورواه مسلم في الإيمان( ٢١ ) وأبو داود في الجهاد( ٢٦٤٠ ) والترمذي في الإيمان( ٢٦٠٦ ) والنسائي في الجهاد( ٣٠٩٣ ) وفي تحريم الدم( ٣٩٧١ ) وابن ماجة في الفتن( ٣٩٢٧ ) وأحمد في مسنده( ٦٨، ٨٦٧٨، ٩١٩٠ ) من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله. ورواه الترمذي في التفسير( ٣٣٤١ ) وابن ماجة في الفتن( ٣٩٢٨ ) وأحمد في مسنده( ١٣٧٩٧، ١٤١٥٠ ) جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ثم قرأ﴿ إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر ﴾ قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح. ورواه النسائي في تحريم الدم( ٣٩٧٩ ) من حديث النعمان بن بشير قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فجاء رجل فساره فقال : اقتلوه ثم قال : أيشهد أن لا إله إلا الله. قال : نعم ولكنما يقولها تعوذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تقتلوه فإنما أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ؟ فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله. ورواه النسائي في تحريم الدم أيضا( ٣٩٨٣ ) وأحمد في مسنده( ١٥٧٢٧ ) من حديث أوس بن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ثم تحرم دماؤهم وأموالهم إلا بحقها. ورواه أحمد في مسنده( ٢٤١ ) من حديث عمر أنه قال لأبي بكر : كيف تقاتل الناس يا أبا بكر وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوا : لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله، فقال أبو بكر رضي الله عنه : والله لأقتالن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليها، قال عمر رضي الله عنه : فوالله ما هو إلا أن رأيت أن الله قد شرح صدر أبي بكر رضي الله عنه للقتال فعرفت أنه الحق.
٩ أحكام القرآن لابن العربي.
١٠ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله :
رواه البخاري في الصلاة( ٣٩٣ ) وأبو داود في الجهاد( ٢٦٤١ ) والترمذي في الإيمان( ٢٦٠٧ ) والنسائي في تحريم الدم( ٣٩٦٦ ) وفي الإيمان( ٥٠٠٣ ) وأحمد في مسنده( ١٢٦٤٣، ١٢٩٣٥ ) من حديث أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها وصلوا صلاتنا واستقبلوا قبلتنا وذبحوا ذبيحتنا ؛ فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله. وانظر ما قبله.
١١ انظر تفسير ابن كثير للآية، فقد كتب طائفة من الأحاديث النبوية الشريفة تتصل بتفسير الآية.
١٢ من أمن رجلا على دمه فقتله :
ذكره السيوطي في الجامع الصغير( ٨٢٧١ ) بلفظ : من أمن رجلا على دمه فقتله فأنا بريء من القاتل، وإن كان المقتول كافرا. ونسبه للبخاري في التاريخ والنسائي عن عمرو بن الحمق. قال الهيثمي في المجمع : عن رفاعة القتباني قال : دخلت على المختار فألقى إلى وسادة وقال : لولا أخي جبريل قام عن هذه لألقيتها لك قال فأردت أن أضرب عنقه فذكرته حديثا حدثنيه عمرو بن الحمق قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيما مؤمن أمن على دمه فقتله أنا من القاتل بريء – قلت : روى له ابن ماجة : من أمن رجلا على دمه فقتله فإنه يحمل لواء غدر يوم القيامة. رواه أحمد والطبراني ورجاله ثقات.
وعن عمرو بن الحمق قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من أمن رجلا على دمه فقتله فأنا بريء من القاتل وإن كان المقتول كافرا. رواه الطبراني بأسانيد كثيرة وأحدها رجاله ثقات. فرواه ابن ماجة في الديات( ٢٦٨٨ ) وأحمد في مسنده( ٢١٤٣٩ ) من حديث رفاعة بن شداد القتباني قال لولا كلمة سمعتها من عمرو بن الحمق الخزاعي لمشيت فيما بين رأس المختار وجسده سمعته يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أمن رجلا على دمه فقتله، فإنه يحمل لواء غدر يوم القيامة. قال البوصيري في الزوائد : إسناده صحيح ورجاله ثقات ؛ لأن رفاعة بن شداد، أخرجه النسائي في سننه ووثقه وذكره ابن حبان في الثقات، وباقي رجال الإسناد على شرط مسلم.
١٣ لكل غادر لواء يوم القيامة :
رواه البخاري في الجزية( ٣١٨٧ ) ومسلم في الجهاد( ١٧٣٧ ) وأحمد في مسنده( ١٢٠٣٥ ) من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لكل غادر لواء يوم القيامة قال أحدهما ينصب وقال الآخر يرى يوم القيامة يعرف به. رواه البخاري في الجزية( ٣١٨٨ ) وفي الحيل( ٦٩٦٦ ) وفي الفتن( ٧١١١ ) ومسلم في الجهاد( ١٧٣٥ ) والترمذي في السير( ١٥٨١ ) وأحمد في مسنده( ٤٨٢٤ ) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم : لكل غادر لواء ينصب بغدرته يوم القيامة. ورواه مسلم في الجهاد( ١٧٣٦ ) وابن ماجة في الجهاد( ٢٨٧٢ ) والدارمي في البيوع( ٢٥٤٢ ) وأحمد في مسنده( ٣٨٩٠ ) من حديث عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لكل غادر لواء يوم القيامة يقال : هذه غدرة فلان. ورواه مسلم في الجهاد( ١٧٣٨ ) والترمذي في الفتن( ٢١٩١ ) وابن ماجة في الجهاد( ٢٨٧٣ ) وأحمد في مسنده( ١٠٩١٠ ) من حديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة.
١٤ تفسير سورة التوبة د. محمد سيد طنطاوي الطبعة الثانية ص ٦١.
١٥ انظر تفسير الفخر الرازي، والكشاف للزمخشري، والمنار والقرطبي وأحكام القرآن للجصاص، وأحكام القرآن لابن عربي، والتفسير المنير للدكتور وهبة الزحيلي.
١٦ انظر التفسير المنير للدكتور وهبة الزحيلي دار الفكر دمشق سوريا١٠/ ١٢٥
١٧ تفسير أبي السعود المسمى إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم لقاضي القضاة الإمام أبي السعود محمد بن محمد العمادي المتوفى سنة ٩٥١ه ٤/ ٤٩
١٨ أسباب النزول للواحدي، وتفسير الكشاف، وحاشية الجمل على الجلالين، وتفسير المنار.
١٩ قارن بتفسير المنار ١٠/ ٢٤٩.
٢٠ مقتبس من تفسير الآلوسي وغيره.
٢١ التفسير المنير للأستاذ الدكتور/ وهبة الزحيلي دار الفكر المعاصر بيروت ١٠/ ١٤١.
٢٢ حاشية الجمل على الجلالين ٢/ ٣٧٠.
٢٣ انظر حاشية الجمل على
Icon