تفسير سورة التوبة

الكشاف أو تفسير الزمخشري
تفسير سورة سورة التوبة من كتاب الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل المعروف بـالكشاف أو تفسير الزمخشري .
لمؤلفه الزمخشري . المتوفي سنة 538 هـ
مدنية وآياتها تسع وعشرين ومائة
لها عدة أسماء‏ :‏ براءة التوبة المقشقشة المبعثرة المشردة المخزية الفاضحة المثيرة الحافرة المنكلة المدمدمة سورة العذاب لأن فيها التوبة على المؤمنين وهي تقشقش من النفاق أي تبرئ منه وتبعثر عن أسرار المنافقين تبحث عنها وتثيرها وتحفر عنها وتفضحهم وتنكلهم وتشرد بهم وتخزيهم وتدمدم عليهم‏. ‏ وعن حذيفة رضي الله عنه‏ :‏ إنكم تسمونها سورة التوبة وإنما هي سورة العذاب والله ما تركت أحداً إلا نالت منه‏. ‏
فإن قلت :‏ هلا صدرت بآية التسمية كما في سائر السور قلت‏ :‏ سأل عن ذلك عبد الله بن عباس عثمان رضي اللّه عنهما فقال‏ :‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزلت عليه السورة أو الآية قال‏ :‏ اجعلوها في الموضع الذي يذكر فيه كذا وكذا وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا لن نضعها وكانت قصتها شبيهة بقصتها فلذلك قرنت بينهما وكانتا تدعيان القرينتين‏. ‏ وعن أبي بن كعب‏ :‏ إنما توهموا ذلك لأن في الأنفال ذكر العهود وفي براءة نبذ العهود‏. ‏ وسئل ابن عيينة رضي الله عنه فقال‏ :‏ اسم اللّه سلام وأمان فلا يكتب في النبذ والمحاربة قال الله تعالى‏ :‏ ‏ " ‏ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً ‏ " ‏النساء‏ :‏ ٩٤ قيل‏ :‏ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد كتب إلى أهل الحرب‏ :‏ بسم الله الرحمن الرحيم‏. ‏ قال‏ :‏ إنما ذلك ابتداء يدعوهم ولم ينبذ إليهم ألا تراه يقول‏ :‏ سلام على من اتبع الهدى فمن دعي إلى الله عز وجل فأجاب ودعي إلى الجزية فأجاب فقد اتبع الهدى وأما النبذ فإنما هو البراءة واللعنة وأهل الحرب لا يسلم عليهم ولا يقال‏ :‏ لا تفرق ولا تخف ومترس ولا بأس‏ :‏ هذا أمان كله‏. ‏ وقيل‏ :‏ سورة الأنفال والتوبة سورة واحدة كلتاهما نزلت في القتال تعدان السابعة من الطُّوَل وهي سبع وما بعدها المئون وهذا قول ظاهر لأنهما معاً مائتان وست فهما بمنزلة إحدى الطول‏. ‏ وقد اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم‏ :‏ الأنفال وبراءة سورة واحدة‏. ‏ وقال بعضهم‏ :‏ هما سورتان فتركت بينهما فرجة لقول من قال‏ :‏ هما سورتان وتركت بسم الله الرحمن الرحيم لقول من قال‏ :‏ هما سورة واحدة‏. ‏
واللعنة، وأهل الحرب لا يسلم عليهم، ولا يقال: لا تفرق ولا تخف، ومترس «١» ولا بأس:
هذا أمان كله. وقيل: سورة الأنفال والتوبة سورة واحدة، كلتاهما نزلت في القتال، تعدّان السابعة من الطول «٢» وهي سبع وما بعدها المئون، وهذا قول ظاهر، لأنهما معاً مائتان وست، فهما بمنزلة إحدى الطول. وقد اختلف أصحاب رسول الله ﷺ فقال بعضهم: الأنفال وبراءة سورة واحدة. وقال بعضهم: هما سورتان، فتركت بينهما فرجة لقول من قال: هما سورتان، وتركت بسم الله الرحمن الرحيم لقول من قال: هما سورة واحدة.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١ الى ٢]
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢)
بَراءَةٌ خبر مبتدإ محذوف أى هذه براءة ومِنَ لابتداء الغاية، متعلق بمحذوف وليس بصلة، كما في قولك: برئت من الدين. والمعنى: هذه براءة واصلة من الله ورسوله إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ كما يقال: كتاب من فلان إلى فلان. ويجوز أن يكون بَراءَةٌ مبتدأ لتخصيصها بصفتها، والخبر إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ كما تقول: رجل من بنى تميم في الدار. وقرئ «براءة» بالنصب، على: اسمعوا براءة. وقرأ أهل نجران «من الله» بكسر النون، والوجه الفتح مع لام التعريف لكثرته. والمعنى أن الله ورسوله قد برئا من العهد الذي عاهدتم به المشركين وأنه «٣» منبوذ إليهم. فإن قلت: لم علقت البراءة بالله ورسوله والمعاهدة بالمسلمين؟ قلت: قد أذن الله في معاهدة المشركين أوّلا فاتفق المسلمون مع رسول الله ﷺ وعاهدوهم، فلما نقضوا العهد أوجب الله تعالى النبذ إليهم، فخوطب المسلمون
(١). قوله «ومترس» بفتح الميم والتاء وسكون الراء: فارسى، معناه: أمان. (ع)
(٢). قوله «من الطول» الطول- بكسر ففتح- بمعنى الطويلة. أفاده الصحاح. وعبارة غيره: الطوال.
(٣). قال محمود معناه: «أن الله ورسوله قد برئا من العهد الذي عاهدتم به المشركين... الخ» قال أحمد:
ورواه ما ذكره سر آخر هو المرعي، والله أعلم. وذلك أن نسبة العهد إلى الله ورسوله في مقام نسب إليه النبذ من المشركين، لا تحسن شرعا. ألا ترى إلى وصية رسول الله ﷺ لأمراء السرايا حيث يقول لهم: وإذا نزلت بحصن فطلبوا التزول على حكم الله فأنزلهم على حكمك، فإنك لا تدرى أصادفت حكم الله فيهم أولا؟ وإن طلبوا ذمة الله فأنزلهم على ذمتك، فلأن تخفر ذمتك خير من أن تخفر ذمة الله. فانظر إلى أمره عليه الصلاة والسلام بتوقير ذمة الله مخافة أن تخفر وإن كان لم يحصل بعد ذلك الأمر المتوقع، فتوقير عهد الله وقد تحقق من المشركين النكث، وقد تبرأ من الله ورسوله بأن لا ينسب العهد المنبوذ إلى الله أحرى وأجدر، فلذلك نسب العهد إلى المسلمين دون البراءة منه، والله أعلم»
242
بما نجدّد من ذلك فقيل لهم: اعلموا أنّ الله ورسوله قد برئا مما عاهدتم به المشركين. وروى أنهم عاهدوا المشركين من أهل مكة وغيرهم من العرب، فنكثوا إلا ناساً منهم وهم بنو ضمرة وبنو كنانة فبذ العهد إلى الناكثين، وأمروا أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر آمنين أين شاءوا لا يتعرّض لهم، وهي الأشهر الحرم في قوله فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ وذلك لصيانة الأشهر الحرم من القتل والقتال فيها، وكان نزولها سنة تسع من الهجرة وفتح مكة سنة ثمان، وكان الأمير فيها عتاب بن أسيد، فأمّر رسول الله ﷺ أبا بكر رضى الله عنه على موسم سنة تسع، ثم أتبعه علياً رضى الله عنه راكب العضباء ليقرأها على أهل الموسم، فقيل له: لو بعثت بها إلى أبى بكر رضى الله عنه؟ فقال: لا يؤدى عنى إلا رجل منى، فلما دنا علىّ سمع أبو بكر الرغاء، فوقف، وقال: هذا رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما لحقه قال: أمير أو مأمور؟ قال: مأمور. وروى أنّ أبا بكر لما كان ببعض الطريق هبط جبريل عليه السلام فقال: يا محمد، لا يبلغنّ رسالتك إلا رجل منك، فأرسل علياً، فرجع أبو بكر رضى الله عنهما إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله، أشىء نزل من السماء قال: نعم، فسر وأنت على الموسم، وعلىّ ينادى بالآى. فلما كان قبل التروية خطب أبو بكر رضى الله عنه وحدثهم عن مناسكهم، وقام على رضى الله عنه يوم النحر عند جمرة العقبة فقال: يا أيها الناس، إنى رسول رسول الله إليكم. فقالوا: بماذا؟ فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية «١». وعن مجاهد رضى الله عنه ثلاث عشرة آية، ثم قال: أمرت بأربع: أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا كل
(١). «قلت» هذا ملفق من مواضع. فصدره مذكور في مغازي ابن إسحاق. وقوله «وهم بنو ضمرة وبنو كنانة أى الذين نكثوا إلا من استثنى منهم كما يفهم من ظاهره. وسيأتى بيان ذلك قريبا بعد أحاديث. وذلك أن العهد كان في سنة ست والنكث ونزولها والفتح في سنة ثمان كما سيأتى بعد قليل: أن المدة التي بلا نكث كانت ثمانية عشر شهرا. فعلى هذا كان أول النكث. في شهر ربيع الآخر سنة ثمان هذا هو التحقيق في النقل، وأما قوله «وكان الأمير بها أى في سنة ثمان على مكة وعلى الحج. فهذا ذكره الواقدي في المغازي. وأما قوله «فأمر أبو بكر على موسم سنة تسع إلى آخره» فهو في الصحيح من حديث أبى هريرة بمعناه. وأما قوله وأتبعه عليا فرواه أحمد، وأبو يعلى من رواية أبى إسحاق عن يزيد بن منيع عن أبى بكر الصديق رضى الله عنه «أن النبي ﷺ بعثه ببراءة إلى أهل مكة. فذكر الحديث وفيه فسار ثلاثا ثم قال لعلى الحقه ورد على أبا بكر وبلغها قال ففعل، فلما قدم أبو بكر بكى وقال يا رسول الله حدث في شيء؟ قال: ما حدث فيك إلا خير. لكنني أمرت أن لا يبلغ إلا أنا أو رجل منى» وفي المستدرك من طريق جميع بن عمير «أتيت ابن عمر فسألته عن على فانتهرنى ثم قال، ألا أحدثك عن على إن رسول الله ﷺ بعث أبا بكر وعمر ببراءة إلى أهل مكة فانطلقا فإذا هما براكب فقالا من هذا؟
فقال: أنا على بن أبى طالب فقال: يا أبا بكر هات الكتاب، الحديث، وروى.
«كذا بأحد الأصلين بياض قدر أسطر. وفي الأصل الآخر سقط الكلام ولم يترك بياضاً. اه مصححه»
243
نفس مؤمنة، وأن يتم إلى كل ذى عهد عهده: فقالوا عند ذلك يا على، أبلغ ابن عمك أنا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا، وأنه ليس بيننا وبينه عهد إلا طعن بالرماح وضرب بالسيوف. وقيل:
إنما أمر أن لا يبلغ عنه إلا رجل منه، لأنّ العرب عادتها في نقض عهودها أن يتولى ذلك على القبيلة رجل منها، فلو تولاه أبو بكر رضى الله عنه لجاز أن يقولوا: هذا خلاف ما يعرف فينا من نقض العهود، فأزيحت علتهم بتولية ذلك علياً رضى الله عنه. فإن قلت: الأشهر الأربعة ما هي؟ قلت: عن الزهري رضى الله عنه أنّ براءة نزلت في شوال، فهي أربعة أشهر:
شوّال، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرّم، وقيل هي عشرون من ذى الحجة، والمحرّم، وصفر، وشهر ربيع الأوّل، وعشر من شهر ربيع الآخر. وكانت حرما، لأنهم أُومنوا فيها وحرّم قتلهم وقتالهم. أو على التغليب، لأنّ ذا الحجة والمحرّم منها. وقيل: لعشر من ذى القعدة إلى عشر من ربيع الأول، لأنّ الحج في تلك السنة كان في ذلك الوقت للنسيء الذي كان فيهم، ثم صار في السنة الثانية من ذى الحجة. فإن قلت: ما وجه إطباق أكثر العلماء على جواز مقاتلة المشركين في الأشهر الحرم وقد صانها الله تعالى عن ذلك؟ قلت: قالوا قد نسخ وجوب الصيانة وأبيح قتال المشركين فيها غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ لا تفوتونه وإن أمهلكم، وهو مخزيكم: أى مذلكم في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالعذاب.
[سورة التوبة (٩) : آية ٣]
وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣)
وَأَذانٌ ارتفاعه كارتفاع براءة على الوجهين، ثم الجملة معطوفة على مثلها، ولا وجه لقول من قال: إنه معطوف على براءة، كما لا يقال: عمرو معطوف على زيد، في قولك: زيد قائم، وعمرو قاعد، والأذان: بمعنى الإيذان وهو الإعلام، كما أنّ الأمان والعطاء بمعنى الإيمان والإعطاء. فإن قلت: أى فرق بين معنى الجملة الأولى والثانية؟ قلت: تلك إخبار بثبوت البراءة. وهذه إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت. فإن قلت: لم علقت البراءة بالذين عوهدوا من المشركين وعلق الأذان بالناس؟ قلت: لأنّ البراءة مختصة بالمعاهدين والناكثين منهم، وأمّا الأذان فعام لجميع الناس من عاهد ومن لم يعاهد، ومن نكث من المعاهدين ومن لم ينكث يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يوم عرفة. وقيل: يوم النحر، لأنّ فيه تمام الحج ومعظم أفعاله، من الطواف. والنحر، والحلق، والرمي. وعن على رضى الله عنه: أن رجلا أخذ
بلجام دابته فقال: ما الحج الأكبر؟ قال يومك هذا. خل عن دابتي «١». وعن ابن عمر رضى الله عنهما أنّ رسول الله ﷺ وقف يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع فقال «هذا يوم الحج الأكبر «٢» » ووصف الحج بالأكبر لأنّ العمرة تسمى الحج الأصغر، أو جعل الوقوف بعرفة هو الحج الأكبر لأنه معظم واجباته، لأنه إذا فات فات الحج، وكذلك إن أريد به يوم النحر، لأن ما يفعل فيه معظم أفعال الحج- فهو الحج الأكبر. وعن الحسن رضى الله عنه: سمى يوم الحج الأكبر لاجتماع المسلمين والمشركين فيه وموافقته لأعياد أهل الكتاب، ولم يتفق ذلك قبله ولا بعده، فعظم على قلب كل مؤمن وكافر. حذفت الباء التي هي صلة الأذان تخفيفاً. وقرئ «إن الله» بالكسر، لأنّ الأذان في معنى القول وَرَسُولِهِ عطف على المنوي في بَرِيءٌ أو على محل «إن» المكسورة واسمها: وقرئ بالنصب، عطفاً على اسم «إن» أو لأنّ الواو بمعنى مع: أى بريء معه منهم، وبالجرّ على الجوار. وقيل: على القسم، كقوله: لعمرك. ويحكى أن أعرابياً سمع رجلا يقرؤها فقال: إن كان الله بريئاً من رسوله فأنا منه بريء، فلببه الرجل إلى عمر، فحكى الأعرابى قراءته، فعندها أمر عمر رضى الله عنه بتعلم العربية «٣» فَإِنْ تُبْتُمْ من الكفر والغدر فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ عن التوبة، أو ثبتم على التولي والإعراض عن الإسلام والوفاء فاعلموا أنكم غير سابقين الله تعالى ولا فائتين أخذه وعقابه.
[سورة التوبة (٩) : آية ٤]
إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤)
فإن قلت: مم استثنى قوله إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ «٤» ؟ قلت: وجهه أن يكون مستثنى من
(١). أخرجه ابن أبى شيبة والطبري من رواية شعبة عن الحاكم عن يحيى بن الجزار عن على «أنه خرج يوم النحر على بغلة بيضاء يريد الجبانة فجاء رجل فأخذ بلجام دابته وسأله عن الحج الأكبر فقال: هو يومك هذا خل سبيلها
(٢). أخرجه البخاري تعليقا وأبو داود والحاكم من رواية هشام بن الغاز عن نافع عن ابن عمر مطولا ورواه الطبراني والطبري وأبو نعيم في الحل؟؟؟؟ ببة وابن أبى حاتم مختصراً من طريق سعيد بن عبد العزيز عن نافع عن ابن عمر رضى الله عنهما «أن رسول الله ﷺ رمى الجمرة يوم النحر. وقال: هذا يوم الحج الأكبر»
وفي الباب عن على رضى الله عنه، أخرجه الترمذي مرفوعا وموقوفا. وعن ابن أبى أو في عند الطبراني. وعن ابن مسعود في تاريخ أصبهان لأبى نعيم في ترجمة عمر بن هارون.
(٣). لم أجده بإسناده وذكره القرطبي في التذكرة عن ابن أبى مليكة قال «قدم أعرابى في زمن عمر فذكره أتم منه، وزاد في آخره: وأمر بأبى الأسود، فوضع النحو اه والمشهور أن الذي أمر أبا الأسود بوضع النحو على بن أبى طالب رضى الله عنه.
(٤). قال محمود: «إن قلت مم هذا الاستثناء قلت وجهه أن يكون مستثنى... الخ»
قال أحمد: ويجوز أن يكون قوله فسيحوا خطابا من الله تعالى المشركين غير مضمر قبله القول، ويكون الاستثناء على هذا من قوله إلى الذين عاهدتم، كأنه قيل براءة من الله ورسوله إلى المعاهدين لا الباقين على العهد، فأتموا إليهم أيها المسلمون عهدهم، ويكون فيه خروج من خطاب المسلمين في قوله إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ إلى خطاب المشركين في قوله فَسِيحُوا ثم التفات من التكلم إلى الغيبة بقوله: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وأن الله وأصله واعلموا أنكم غير معجزي وأنى، وفي هذا الالتفات بعد الالتفات الأول افتنان في أساليب البلاغة وتفخيم للشأن وتعظيم للأمر ثم يتلو هذا الالتفات العود إلى خطاب المسلمين بقوله: إلا الذين عاهدتم ثم لم ينقصوكم فأتموا، وكل هذا من حسنات الفصاحة وإنما بعث الزمخشري على تقدير القول قبل فَسِيحُوا مراعاة أن يطابق قوله فأتموا، إذا المخاطب على هذا التقدير المسلمون أولا وثانيا ولا يكون فيه شيء من الالتفاتات المبنية على التأويل الذي ذكرناه، وكلا الوجهين ممتاز بنوع من البلاغة وطرف من الفصاحة، والله أعلم.
245
قوله فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ لأن الكلام خطاب للمسلمين. ومعناه: براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين، فقولوا لهم سيحوا، إلا الذين عاهدتم منهم ثم لم ينقضوا فأتموا إليهم عهدهم والاستثناء بمعنى الاستدراك، وكأنه قيل بعد أن أمروا في الناكثين، ولكن الذين لم ينكثوا فأتموا عليهم عهدهم، ولا تجروهم مجراهم، ولا تجعلوا الوفىَّ كالغادر إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ يعنى أنّ قضية التقوى أن لا يسوّى بين القبيلين فاتقوا الله في ذلك لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً لم يقتلوا منكم أحداً ولم يضروكم قط وَلَمْ يُظاهِرُوا ولم يعاونوا عَلَيْكُمْ عدوّا، كما عدت بنو بكر على خزاعة عيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظاهرتهم قريش بالسلاح حتى وفد عمرو بن سالم الخزاعي على رسول الله ﷺ فأنشد:
لَاهُمَّ إنِّى نَاشِدٌ مُحَمَّدَا... حِلْفَ أَبِينَا وَأبِيكَ الأَتْلَدَا
إن قُرَيْشا أَخْلَفُوكَ الْمَوْعِدَا... وَنَقَضُوا ذِمَامَكَ الْمُؤَكَّدَا
هُمْ بَيَّتُونَا بِالْحَطِيمِ هُجَّدَا... وَقَتَلُونَا رُكَّعا وَسُجَّدَا «١»
(١).
إن قريشا أخلفوك الموعدا... وتقضوا ذمامك المؤكدا
وزعموا أن لست تنجي أحدا... وهم أذل وأقل عدداً
هم بيتونا في الحطيم هجدا... وقتلونا ركعا وسجدا
فانصر هداك الله نصراً اعتدا... وادع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا... في فيلق كالبحر يجرى مزيدا
أبيض مثل الشمس يسمو صعدا... إن شيم خطب وجهه تربدا
لعمرو بن سلام الخزاعي. لما خرج رسول الله ﷺ من مكة أعانت قريش بنى بكر على حرب بنى خزاعة، ففزع عمرو إليه بالمدينة وأنشده ذلك، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: لا نصرت إن لم أنصركم. و «لاهم» أصله اللهم، خفف وأظهر في مقام الإضمار للدلالة على التعظيم والتهييج لما أراده. والحلف: العهد. والأتلد:
الأقدم. والتفت إلى الخطاب للاستعطاف. وجعله كالأب لهم لمراعاته مصالحهم. وعطف بثمة للترتيب في الاخبار ونزع إليه كناية عن نقض العهد. و «الذمام» العهد. وقيل: مع ذمة بمعنى العهد أيضا. وروى «ميثاقك».
وأذل، وأقل، بمعنى أذلاء قليلون، فليس مفيدا للزيادة. ويجوز أنه على بابه بالنظر لزعمهم، أى: أذل وأقل مما زعموا فيك وفي قومك. و «الحطيم» معروف، كانوا في الجاهلية يحلفون فيه فيحطم الكاذب. ويروى «بالأتير» والأتير: الطريق، وواحدة وتيرة. وهو هنا اسم ماء لخزاعة بأسفل مكة. و «الهجد» جمع هاجد، وهو المتيقظ من النوم العبادة. و «العتيد» الحاضر، يقال: عنده تعتيدا، وأعتده إعتاداً: هيأه وأحضره، فهو عتيد وأعتد.
وفيه جعل اسم التفضيل بمعنى المفعول، فلعله من عند إذا حضر. والأصل أعده إعداداً فأبدلت الدال تاء، و «هداك الله» جملة اعتراضية دعائية. و «المدد» الزيادة: أى يأتوا زيادة لنا تعيننا على أعدائنا. وفي الاضافة إلى الله تهييج لهم. و «الفيلق» الجيش المزدحم المتكاثف. كالبحر في الكثرة وسرعة السير. و «المزيد» المخرج للرغوة من شدة السير والغليان. «يسمو» يعلو «صعداً» أى صعوداً. «إن شيم» أى رئي. وروى بالمهملة: أى أحق، «تريد» أى تغير وصار مغيراً كلون الرماد. والغضب عند نزول المكروه أمارة الشجاعة. وهذا كان سبب فتح مكة.
246
فقال عليه الصلاة والسلام: لا نصرت إن لم أنصركم» «١» وقرئ: لم ينقضوكم، بالضاد معجمة أى لم ينقضوا عهدكم. ومعنى فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ فأدّوه إليهم تامّاً كاملا. قال ابن عباس رضى الله عنه: بقي لحىّ من كنانة من عهدهم تسعة أشهر، فأتمّ إليهم عهدهم.
[سورة التوبة (٩) : آية ٥]
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)
انسلخ الشهر، كقولك انجرد الشهر، وسنة جرداء. والْأَشْهُرُ الْحُرُمُ التي أبيح فيها للناكثين أن يسيحوا فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ يعنى الذين نقضوكم وظاهروا عليكم حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ من حلّ أو حرم وَخُذُوهُمْ وأسروهم. والأخيذ: الأسير وَاحْصُرُوهُمْ وقيدوهم وامنعوهم من التصرف في البلاد. وعن ابن عباس رضى الله عنه: حصرهم أن يحال بينهم وبين المسجد الحرام كُلَّ مَرْصَدٍ كلّ ممرّ ومجتاز «٢» ترصدونهم به، وانتصابه على الظرف كقوله لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ.
(١). أخرجه ابن إسحاق في المغازي والبيهقي في الدلائل من طريقة. قال حدثني الزهري عن عروة بن الزبير عن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة قالا «كان في صلح رسول الله ﷺ يوم الحديبية، فذكر القصة مطولة وفيها الشعر. وفيها فنكثوا في الهدنة نحو سبعة أو ثمانية عشر شهرا. وروى الطبراني من طريق على بن الحسين حدثتني ميمونة بنت الحارث قالت «كان بين النبي ﷺ وبين قريش، فذكرت القصة والشعر.
وأوردها الواقدي في المغازي مطولا من طرق ثم قال. حدثني عبد الحميد بن جعفر عن عمران بن أبى أنس عن ابن عباس. قال قام رسول الله ﷺ وهو يجر طرف ردائه ويقول «يا عمرو لا نصرت إن لم أنصر بنى كعب مما أنصر منه نفسي»
.
(٢). قال محمود: «المرصد المجاز والممر... الخ» قال أحمد: ويكون انتصابه دون جره من الاتساع، لأن المرصد ظرف مختص، والأصل قصور الفعل عن نصبه، ويكون مثل قوله في الاتساع:
كما عسل الطريق الثعلب
ويحتمل- والله أعلم- أن يكون مرصد مصدراً، لأن صيغة اسم الزمان والمكان والمصدر من فعلة واحدة، فعلى هذا يكون منصوبا نصبا أصلياً، لأن اقعدوا في معنى ارصدوا، كأنه قيل: وارصدوهم كلّ مرصد، إلا أن الظرفية يقويها قوله حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ فيقتضيها قصد المطابقة بين ظرفى المكان، والله أعلم.
فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ فأطلقوا عنهم بعد الأسر والحصر. أو فكفوا عنهم ولا تتعرّضوا لهم كقوله:
خَلِّ السَّبِيلَ لِمَنْ يَبْنِى الْمَنَارَ بِهِ «١»
وعن ابن عباس رضى الله عنه: دعوهم وإتيان المسجد الحرام إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يغفر لهم ما سلف من الكفر والغدر.
[سورة التوبة (٩) : آية ٦]
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦)
أَحَدٌ مرتفع بفعل الشرط مضمراً يفسره الظاهر، تقديره: وإن استجارك أحد استجارك ولا يرتفع بالابتداء، لأنّ «إن» من عوامل الفعل لا تدخل على غيره. والمعنى: وإن جاءك أحد من المشركين بعد انقضاء الأشهر لا عهد بينك وبينه ولا ميثاق، فاستأمنك ليسمع ما تدعو إليه من التوحيد والقرآن، وتبين «٢» ما بعثت له فأمّنه حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ويتدبره ويطلع على حقيقة الأمر ثُمَّ أَبْلِغْهُ بعد ذلك داره التي يأمن فيها إن لم يسلم. ثم قاتله إن شئت من غير غدر ولا خيانة، وهذا الحكم ثابت في كل وقت. وعن الحسن رضى الله عنه: هي محكمة إلى يوم القيامة. وعن سعيد بن جبير: جاء رجل من المشركين إلى علىّ رضى الله عنه فقال: إن أراد الرجل منا أن يأتى محمداً بعد انقضاء هذا الأجل يسمع كلام الله، أو يأتيه لحاجة قتل؟ قال: لا، لأنّ الله تعالى يقول وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ... الآية وعن السدّى والضحاك
(١).
خل السبيل لمن يبنى المنار به... وابرز ببرزة حيث اضطرك القدر
قد خفت يا ابن التي ماتت منافقة... من خبث بردة أن لا ينزل المطر
لجرير يهجو عمر بن لجأ التميمي. ويروى: خل الطريق. ومنار الطريق: حدوده. يقول له: اترك سبيل المعالي لمن يبنى الأعلام فيه ويقيم شعائره ويبين حدوده. شبه الخصال الحميدة بالطريق الجادة بجامع الوصول بكل إلى المراد وعدم الميل عن كل على سبيل التصريحية، وبناء المنار ترشيح: والمراد به: إقامة الشعائر الجميلة وتحسين شأنها لتتبعها الناس. أو نصب دلائل على الكرم لتهتدى إليه العفاة. وبرزة هي أم عمر، وقيل: الأرض الواسعة. وعليه فمنع صرفه ضرورة، ولكن البيت الثاني يؤيد ما قلنا، أى اخرج بأمك القبيحة إلى ما ألجأك إليه القدر الأزلى، وهو ما انطبعت عليه من الخصال الخسيسة. والمراد بالأمر في الموضعين: بيان حاله التي هو عليها لا حقيقة الأمر. ويحتمل أن الأول أمر بترك التفاخر، فتكون صورة الأمر الثاني للمشاكلة، أو بمعنى طلب اعترافه بحال نفسه. وجعله النحويون من قبيل التحذير ومثلوا به لذكر عامل المحذر منه، وهو يزيد على مجرد الأمر بالتخلية بأن بينه وبين ذلك السبيل منافرة حتى صح تحذيره منه. وخفت بضم التاء، ولكن فتحها أبلغ في الهجو. وتكرير اسم برزة للتنكير والتعيير بها، أى أنها شؤم على الناس يخاف منها الجدب. [.....]
(٢). قوله «وتبين» لعله و «يتبين» عطفاً على يسمع. (ع)
رضى الله عنهما: هي منسوخة بقوله تعالى فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ. ذلِكَ أى ذلك الأمر، يعنى الأمر بالإجارة في قوله فَأَجِرْهُ. بسبب بِأَنَّهُمْ قوم جهلة لا يَعْلَمُونَ ما الإسلام وما حقيقة ما تدعو إليه، فلا بدّ من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا ويفهموا الحق.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٧ الى ٨]
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨)
كَيْفَ استفهام في معنى الاستنكار والاستبعاد، لأن يكون للمشركين عهد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أضداد وغرة صدورهم «١»، يعنى: محال أن يثبت لهؤلاء عهد فلا تطمعوا في ذلك ولا تحدثوا به نفوسكم ولا تفكروا في قتلهم. ثم استدرك ذلك بقوله إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ أى ولكن الذين عاهدتم منهم عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ولم يظهر منهم نكث كبني كنانة وبنى ضمرة، فتربصوا أمرهم ولا تقاتلوهم فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ على العهد فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ على مثله إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ يعنى أن التربص بهم من أعمال المتقين كَيْفَ تكرار لاستبعاد ثبات المشركين على العهد «٢»، وحذف الفعل لكونه معلوماً كما قال:
وَخَبَّرْتُمَانِى أَنَّمَا الْمَوْتُ بِالْقُرَى... فَكَيْفَ وَهَاتَا هَضْبَة وَقَليبُ «٣»
يريد: فكيف مات، أى: كيف يكون لهم عهد وَحالهم أنهم إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ بعد
(١). قوله «وغرة صدورهم» أى ملتهبة من الغيظ. (ع)
(٢). قال محمود: «كيف تكرار لاستبعاد ثبات... الخ» قال أحمد السر في تكرار كيف- والله أعلم- أنه لما ذكره أولا لاستبعاد ثبات عهدهم عند الله ولم يذكر إذ ذاك سبب البعد للغاية باستثناء الباقين على العهد وطال الكلام، أعيدت «كيف» تطرية للذكر، وليأخذ بعض الكلام بحجزة بعض، فلم يقصد مجرد التكرار، بل هذا السر الذي انطوى عليه، وقد تقدمت له أمثال، والله الموفق.
(٣).
لعمر أبى إن البعيد الذي مضى... وإن الذي يأتى غداً لقريب
وخبرتمانى أنما الموت بالقرى... فكيف وهاتا هضبة وقليب
لكعب الغنوي في مرثية أخيه. و «الهضبة» الصخرة العظيمة. وجعل الخطاب لاثنين على عادة العرب ولو لم يوجدا. وإنما بالكسر على الحكاية، أو بالفتح على المفعولية: أى وأخبرتمانى أن الموت والوباء في القرى فقط، فكيف تدعيان ذلك وقد مات أخى في هذه البرية. أو كيف مات أخى فيها. والقليب: البئر لأنه قلب ترابه من بطن الأرض إلى ظهرها. وهاتا: إشارة للبرية. ويجوز أنها للهضبة: أى وهذا قليب.
ما سبق لهم من تأكيد الأيمان والمواثيق، لم ينظروا في حلف ولا عهد ولم يبقوا عليكم لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا لا يراعوا حلفاً. وقيل: قرابة. وأنشد لحسان رضى الله عنه:
لَعَمْرُكَ إنَّ إلَّكَ مِنْ قُرَيْش كَإلِّ السَّقْبِ مِنْ رَأَلِ النَّعَامِ «١»
وقيل إِلًّا إلها. وقرئ: إيلا، بمعناه. وقيل: جبرئيل، وجبرئيل، من ذلك. وقيل: منه اشتق الآل بمعنى القرابة، كما اشتقت الرحم من الرحمن، والوجه أن اشتقاق الإلّ بمعنى الحلف، لأنهم إذا تماسحوا وتحالفوا رفعوا به أصواتهم وشهروه، من الأول وهو الجؤار، وله أليل:
أى أنين يرفع به صوته. ودعت ألليها: إذا ولولت «٢»، ثم قيل لكل عهد وميثاق: إلّ. وسميت به القرابة، لأن القرابة عقدت بين الرجلين مالا يعقده الميثاق يُرْضُونَكُمْ كلام مبتدأ في وصف حالهم من مخالفة الظاهر الباطن، مقرّر لاستبعاد الثبات منهم على العهد. وإباء القلوب مخالفة ما فيها من الأضغان، لما يجرونه على ألسنتهم من الكلام الجميل وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ متمرّدون خلعاء لا مروءة تزعهم «٣»، ولا شمائل مرضية تردعهم، كما يوجد ذلك في بعض الكفرة، من التفادى عن الكذب والنكث، والتعفف عما يثلم العرض ويجرّ أحدوثة السوء.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٩ الى ١٠]
اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠)
اشْتَرَوْا استبدلوا بِآياتِ اللَّهِ بالقرآن والإسلام ثَمَناً قَلِيلًا وهو اتباع الأهواء والشهوات فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ فعدلوا عنه أو صرفوا غيرهم. وقيل: هم الأعراب الذين جمعهم أبو سفيان وأطعمهم هُمُ الْمُعْتَدُونَ المجاوزون الغاية في الظلم والشرارة.
[سورة التوبة (٩) : آية ١١]
فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١)
(١). لحسان بن ثابت. والال- بالكسر- الحلف والعهد والقرابة. والسقب: حوار الناقة. والرأل: ولد النعام. يقول: وحياتك إن قرابتك من قريش بعيدة أو معدومة، كقرابة ولد الناقة من ولد النعام. ويروى:
كآل السيف. والوجه أنه تحريف.
(٢). قوله «ودعت اليها إذا ولولت» في الصحاح: وأما قول الكميت يمدح رجلا:
وأنت ما أنت في غبراء مظلمة إذا دعت ألليها الكاعب الفضل
فيجوز أن يريد الألل، ثم ثنى كأنه يريد صوتا بعد صوت. اه (ع)
(٣). قوله «لا مروءة تزعهم» أى تكفهم. اه صحاح (ع)
فَإِنْ تابُوا عن الكفر ونقض العهد فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ فهم إخوانكم على حذف المبتدإ، كقوله تعالى فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ. وَنُفَصِّلُ الْآياتِ ونبينها. وهذا اعتراض، كأنه قيل: وإن من تأمّل تفصيلها فهو العالم بعثاً وتحريضاً على تأمّل ما فصل من أحكام المشركين المعاهدين، وعلى المحافظة عليها.
[سورة التوبة (٩) : آية ١٢]
وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢)
وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ وثلبوه وعابوه فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ فقاتلوهم، فوضع أئمة الكفر موضع ضميرهم: إشعاراً بأنهم إذا نكثوا في حال الشرك تمرّداً وطغيانا وطرحاً لعادات الكرام الأوفياء من العرب، ثم آمنوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وصاروا إخوانا للمسلمين في الدين، ثم رجعوا فارتدوا عن الإسلام ونكثوا ما بايعوا عليه من الإيمان والوفاء بالعهود، وقعدوا يطعنون في دين الله ويقولون ليس دين محمد بشيء، فهم أئمة الكفر وذوو الرياسة والتقدّم فيه، لا يشق كافر غبارهم. وقالوا: إذا طعن الدمى في دين الإسلام طعنا ظاهراً، جاز قتله، لأن العهد معقود معه على أن لا يطعن، فإذا طعن فقد نكث عهده وخرج من الذمّة إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ جمع يمين. وقرئ: لا إيمان لهم، أى لا إسلام لهم. أو لا يعطون الأمان بعد الردّة والنكث، ولا سبيل إليه. فإن قلت: كيف أثبت لهم الأيمان في قوله وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ ثم نفاها عنهم؟
قلت: أراد أيمانهم التي أظهروها ثم قال: لا أيمان لهم على الحقيقة، وأيمانهم ليست بأيمان. وبه استشهد أبو حنيفة رحمه الله على أن يمين الكافر لا تكون يمينا. وعند الشافعي رحمه الله: يمينهم يمين. وقال: معناه أنهم لا يوفون بها، بدليل أنه وصفها بالنكث لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ متعلق بقوله فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ أى ليكن غرضكم في مقاتلتهم بعد ما وجد منهم ما وجد من العظائم أن تكون المقاتلة سببا في انتهائهم عما هم عليه. وهذا من غاية كرمه وفضله وعوده على المسيء بالرحمة كلما عاد. فإن قلت: كيف لفظ أئمة؟ قلت: همزة بعدها همزة بين بين، أى: بين مخرج الهمزة والياء «١». وتحقيق الهمزتين قراءة مشهورة، وإن لم تكن بمقبولة عند البصريين. وأما التصريح بالياء فليس بقراءة. ولا يجوز أن تكون قراءة. ومن صرح بها فهو لا حن محرف.
[سورة التوبة (٩) : آية ١٣]
أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣)
(١). قوله «بين مخرج الهمزة والياء: لعله «مخرجي الهمزة والياء». (ع)
أَلا تُقاتِلُونَ دخلت الهمزة على لا تُقاتِلُونَ تقريراً بانتفاء المقاتلة. ومعناه: الحض عليها على سبيل المبالغة نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ التي حلفوها في المعاهدة وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ من مكة حين تشاوروا في أمره بدار الندوة، حتى أذن الله تعالى له في الهجرة، فخرج بنفسه وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أى: وهم الذين كانت منهم البداءة بالمقاتلة، لأن رسول الله ﷺ جاءهم أولا بالكتاب المنير وتحداهم به، فعدلوا عن المعارضة لعجزهم عنها إلى القتال فهم البادءون بالقتال والبادئ أظلم، فما يمنعكم من أن تقاتلوهم بمثله، وأن تصدموهم بالشر كما صدموكم؟ وبخهم بترك مقاتلتهم وحضهم عليها، ثم وصفهم بما يوجب الحض عليها. ويقرر أن من كان في مثل صفاتهم من نكث العهد وإخراج الرسول والبدء بالقتال من غير موجب، حقيق بأن لا تترك مصادمته، وأن يوبخ من فرط فيها أَتَخْشَوْنَهُمْ تقرير بالخشية منهم وتوبيخ عليها فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ فتقاتلوا أعداءه إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يعنى أن قضية الإيمان الصحيح أن لا يخشى المؤمن إلا ربه، ولا يبالى بمن سواه، كقوله تعالى وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٤ الى ١٥]
قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥)
لما وبخهم الله على ترك القتال، جرّد لهم الأمر به فقال قاتِلُوهُمْ ووعدهم- ليثبت قلوبهم ويصحح نياتهم- أنه يعذبهم بأيديهم قتلا، ويخزيهم أسراً، ويوليهم النصر والغلبة عليهم وَيَشْفِ صُدُورَ طائفة «١» من المؤمنين، وهم خزاعة، قال ابن عباس رضى الله عنه: هم بطون من اليمن وسبأ قدموا مكة فأسلموا، فلقوا من أهلها أذى شديداً، فيعثوا إلى رسول الله ﷺ يشكون إليه، فقال: أبشروا فإن الفرج قريب وَيُذْهِبْ غَيْظَ قلوبكم «٢» لما لقيتم منهم من المكروه، وقد حصل الله لهم هذه المواعيد كلها، فكان ذلك دليلا على صدق رسول الله ﷺ وصحة نبوّته وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ ابتداء كلام، وإخبار بأن بعض أهل مكة يتوب عن كفره، وكان ذلك أيضا، فقد أسلم ناس منهم وحسن إسلامهم. وقرئ:
(١). قوله «ويشف صدور طائفة» هذا لفظ التلاوة، والأنسب ويشفى، عطفاً على يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ لأنه من جملة الوعد. (ع)
(٢). قوله «ويذهب غيظ قلوبكم» التلاوة غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ولعل بعض الناسخين فهم أنه من البشرى، فغيره بلفظ الخطاب. والمتجه غَيْظَ قُلُوبِهِمْ لما لقوا، ثم قوله وَيُذْهِبْ بالرفع عطف على يعذبهم بأيديكم، لأنه من جملة الوعد كما سيشير إليه. (ع)
ويتوب بالنصب بإضمار «أن» ودخول التوبة في جملة ما أجيب به الأمر من طريق المعنى وَاللَّهُ عَلِيمٌ يعلم ما سيكون، كما يعلم ما قد كان حَكِيمٌ لا يفعل إلا ما اقتضته الحكمة
[سورة التوبة (٩) : آية ١٦]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٦)
أَمْ منقطعة، ومعنى الهمزة فيها التوبيخ على وجود الحسبان. والمعنى: أنكم لا تتركون على ما أنتم عليه، حتى يتبين الخلص منكم، وهم الذين جاهدوا في سبيل الله لوجه الله، ولم يتخذوا وليجة أى بطانة، من الذين يضادّون رسول الله ﷺ والمؤمنين رضوان الله عليهم وَلَمَّا معناها التوقع، وقد دلت على أن تبين ذلك، وإيضاحه متوقع كائن، وأن الذين لم يخلصوا دينهم لله يميز بينهم وبين المخلصين. وقوله وَلَمْ يَتَّخِذُوا معطوف على جاهدوا، داخل في حيز الصلة، كأنه قيل: ولما يعلم الله المجاهدين منكم والمخلصين غير المتخذين وليجة من دون الله.
والوليجة: فعيلة من ولج، كالدخيلة من دخل. والمراد بنفي العلم نفى المعلوم، كقول القائل. ما علم الله منى ما قيل فىّ، يريد: ما وجد ذلك منى.
[سورة التوبة (٩) : آية ١٧]
ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧)
ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ ما صح لهم وما استقام أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ يعنى المسجد الحرام، لقوله وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وأما القراءة بالجمع ففيها وجهان، أحدهما: أن يراد المسجد الحرام، وإنما قيل مساجد لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها، فعامره كعامر جميع المساجد، ولأن كل بقعة منه مسجد. والثاني: أن يراد جنس المساجد، وإذا لم يصلحوا لأن يعمروا جنسها، دخل تحت ذلك أن لا يعمروا المسجد الحرام الذي هو صدر الجنس ومقدمته وهو آكد، لأنّ طريقته طريقة الكناية، كما لو قلت: فلان لا يقرأ كتب الله، كنت أنفى لقراءته القرآن من تصريحك بذلك. وشاهِدِينَ حال من الواو في يَعْمُرُوا والمعنى: ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين: عمارة متعبدات الله، مع الكفر بالله وبعبادته. ومعنى شهادتهم على أنفسهم بالكفر: ظهور كفرهم وأنهم نصبوا أصنامهم حول البيت، وكانوا يطوفون عراة ويقولون:
لا نطوف عليها بثياب قد أصبنا فيها المعاصي، وكلما طافوا بها شوطاً سجدوا لها. وقيل: هو قولهم لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك. وقيل: قد أقبل المهاجرون
والأنصار على أسارى بدر فعيروهم بالشرك، فطفق علىّ ابن أبى طالب رضى الله عنه يوبخ العباس بقتال رسول الله ﷺ وقطيعة الرحم، وأغلظ له في القول. فقال العباس:
تذكرون مساوينا وتكتمون محاسننا. فقال: أو لكم محاسن؟ قالوا: نعم ونحن أفضل منكم أجراً: إنا لنعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة، ونسقي الحجيج ونفك العاني، فنزلت حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ التي هي العمارة والحجابة والسقاية وفك العناة. وإذا هدم الكفر أو الكبيرة الأعمال «١» الثابتة الصحيحة إذا تعقبها، فما ظنك بالمقارن. وإلى ذلك أشار في قوله شاهِدِينَ حيث جعله حالا عنهم ودل على أنهم قارنون بين العمارة والشهادة بالكفر على أنفسهم في حال واحدة، وذلك محال غير مستقيم.
[سورة التوبة (٩) : آية ١٨]
إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨)
إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ وقرئ بالتوحيد، أى: إنما تستقيم عمارة هؤلاء وتكون معتدا بها، والعمارة تتناول رمّ ما استرمّ منها، وقمها وتنظيفها، وتنويرها بالمصابيح، وتعظيمها، واعتيادها للعبادة والذكر، ومن الذكر درس العلم، بل هو أجله وأعظمه، وصيانتها مما لم تبن له المساجد من أحاديث الدنيا فضلا عن فضول الحديث. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «يأتى في آخر الزمان ناس من أمتى يأتون المساجد فيقاعدون فيها حلقاً «٢» ذكرهم الدنيا وحب الدنيا لا تجالسوهم فليس لله بهم حاجة «٣» » وفي الحديث «الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش «٤» » وقال عليه السلام: «وقال الله تعالى: إن بيوتي في أرضى المساجد، وإنّ زوّارى فيها عمارها، فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي، فحق على المزور أن يكرم «٥» زائره. وعنه
(١). قال محمود: «إذا هدم الكفر أو الكبيرة الأعمال... الخ» قال أحمد: كلام صحيح إلا قوله «إن الكبيرة تهدم الأعمال، فانه تفريع على قاعدة المعتزلة، والحق خلافها.
(٢). قوله «فيقاعدون فيها حلقا»
في نسخة: فيعدون. وفي أخرى: فيغدون. وليحرر. (ع)
(٣). أخرجه الطبراني من رواية أبى وائل عن ابن مسعود رفعه «سيكون في آخر الزمان قوم يجلسون في المساجد حلقا حلقا، مناهم الدنيا لا تجالسوهم. فليس لله فيهم حاجة» وفيه بديع أبو الخليل راويه عن الأعمش عنه.
وهو متروك وقال الدارقطني: إنه تفرد به، وفيه نظر. فقد أخرجه ابن حبان في صحيحه من طريق عيسى بن يونس عن الأعمش بلفظ «سيكون في آخر الزمان قوم يكون حديثهم في مساجدهم ليس لله فيهم حاجة» وفي الباب عن أنس رفعه «يأتى على الناس زمان يتحلقون في مساجدهم، وليس همتهم إلا الدنيا لا تجالسوهم فليس لله فيهم حاجة» أخرجه الحاكم من طريق الثوري عن عوف عن الحسن عنه.
(٤). يأتى في لقمان. [.....]
(٥). لم أجده هكذا وفي الطبراني عن سلمان عن النبي ﷺ «من توضأ في بيته فأحسن الوضوء.
ثم أتى المسجد فهو زائر لله، وحق على المزور أن يكرم زائره»
وروى عبد الرزاق ومن طريقه الطبري عن معمر عن ابن إسحاق عن عمرو بن ميمون. قال «وكان أصحاب رسول الله ﷺ يقولون: إن بيوت الله في الأرض المساجد، وإن حقا على الله أن يكرم من زاره فيها» ومن هذا الوجه. أخرجه عبد الله بن المبارك في الزهد.
عليه السلام «من ألف المسجد ألفه الله «١» » وقال عليه السلام «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان «٢» » وعن أنس رضى الله عنه: من أسرج في مسجد سراجا لم تزل الملائكة وحملة العرش تستغفر له ما دام في ذلك المسجد ضوؤه «٣» ». فإن قلت: هلا ذكر الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: لما علم وشهر أن الإيمان بالله تعالى قرينته الإيمان بالرسول عليه السلام لاشتمال كلمة الشهادة والأذان والإقامة وغيرها عليهما مقترنين مزدوجين كأنهما شيء واحد غير منفك أحدهما عن صاحبه، انطوى تحت ذكر الإيمان بالله تعالى الإيمان بالرسول عليه السلام. وقيل: دلّ عليه بذكر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. فان قلت: كيف قيل وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ والمؤمن يخشى المحاذير ولا يتمالك أن لا يخشاها؟ قلت: هي الخشية والتقوى في أبواب الدين، وأن لا يختار على رضا الله رضا غيره لتوقع مخوف، وإذا اعترضه أمران:
أحدهما حق الله، والآخر حق نفسه أن يخاف الله، فيؤثر حق الله على حق نفسه. وقيل: كانوا يخشون الأصنام ويرجونها، فأريد نفى تلك الخشية عنهم فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ تبعيد للمشركين عن مواقف الاهتداء «٤» وحسم لأطماعهم من الانتفاع «٥» بأعمالهم التي استعظموها وافتخروا بها وأملوا عاقبتها، بأن الذين آمنوا وضموا إلى إيمانهم العمل بالشرائع مع استشعار الخشية والتقوى، اهتداؤهم دائر بين عسى ولعل، فما بال المشركين يقطعون أنهم مهتدون ونائلون عند الله الحسنى. وفي هذا الكلام ونحوه لطف للمؤمنين في ترجيح الخشية على الرجاء ورفض الاغترار بالله تعالى.
[سورة التوبة (٩) : آية ١٩]
أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩)
(١). أخرجه ابن عدى. والطبراني في الأوسط من رواية ابن لهيعة عن دراج بن الهيثم عن أبى سعيد به.
(٢). أخرجه الترمذي وابن ماجة. وابن حبان. والحاكم من رواية أبى الهيثم عن أبى سعيد.
(٣). رواه الحارث بن أسامة من رواية الحكم بن سفلة العبدى. عن أنس رضى الله عنه. من أسرج في مسجد سراجا لم يزل مرفوعا ومن طريق الحارث أخرجه سليم الرازي في كتاب الترغيب وفي الطبراني في مسند الشاميين من حديث على بن أبى طالب رفعه «من علق قنديلا في مسجد صلى عليه سبعون ألف ملك- الحديث بمعناه».
(٤). قال محمود: «في هذه الآية تبعيد للمشركين... الخ» قال أحمد: وأكثرهم يقول: إن «عسى» من الله واجبة بناء منهم على أن استعمالها غير مصروفة للمخاطبين، والحق فيما قال الزمخشري، ولكن الخطاب مصروف إليهم أى فحال هؤلاء المؤمنين حال مرجوة، والعاقبة عند الله معلومة، ولله عاقبة الأمور.
(٥). قوله «من الانتفاع» لعله «في» كعبارة النسفي. (ع)
السقاية والعمارة: مصدران من سقى وعمر، كالصيانة والوقاية. ولا بد من مضاف محذوف تقديره أَجَعَلْتُمْ أهل سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وتصدقه قراءة ابن الزبير وأبى وجزة السعدي «١» - وكان من القراء-: سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام. والمعنى إنكار أن يشبه المشركون بالمؤمنين، وأعمالهم المحبطة بأعمالهم المثبتة، وأن يسوى بينهم. وجعل تسويتهم ظلماً بعد ظلمهم بالكفر. وروى أن المشركين قالوا لليهود: نحن سقاة الحجيج وعمار المسجد الحرام، أفنحن أفضل أم محمد وأصحابه؟ فقالت لهم اليهود: أنتم أفضل. وقيل: إن عليا رضي الله عنه قال للعباس: يا عمّ ألا تهاجرون، ألا تلحقون برسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال: ألست في أفضل من الهجرة: أسقى حاجّ بيت الله، وأعمر المسجد الحرام، فلما نزلت قال العباس: ما أرانى إلا تارك سقايتنا. فقال عليه السلام «أقيموا على سقايتكم فإن لكم فيها خيراً «٢»
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٢٠ الى ٢٢]
الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢)
هم أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ من أهل السقاية والعمارة عندكم وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ لا أنتم والمختصون بالفوز دونكم. قرئ: يُبَشِّرُهُمْ بالتخفيف والتثقيل. وتنكير المبشر به لوقوعه وراء صفة الواصف وتعريف المعرّف. وعن ابن عباس رضى الله عنه: هي في المهاجرين خاصة «٣»
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٢٣ الى ٢٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٢٤)
(١). قوله «وأبى وجزة السعدي» في الصحاح: أنه شاعر ومحدث. (ع)
(٢). ذكره الثعلبي عن الحسن بغير إسناد لكن سنده إليه في أول الكتاب في تفسير عبد الرزاق عن معمر عن عمر، وهو ابن عبيد عن الحسن قال «نزلت في على والعباس، وعثمان وشيبة تكلموا في ذلك. فقال العباس: ما أرانى إلا تاركا سقايتنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم- فذكره.
(٣). أخرجه الثعلبي من رواية جويبر عن الضحاك عنه.
وكان قبل فتح مكة من آمن لم يتمّ إيمانه إلا بأن يهاجر ويصارم أقاربه الكفرة ويقطع موالاتهم. فقالوا يا رسول الله: إن نحن اعتزلنا من خالفنا في الدين قطعنا آباءنا وأبناءنا وعشائرنا وذهبت تجارتنا وهلكت أموالنا وخرجت ديارنا، وبقينا ضائعين، فنزلت، فهاجروا، فجعل الرجل يأتيه ابنه أو أبوه أو أخوه أو بعض أقاربه فلا يلتفت إليه ولا ينزله ولا ينفق عليه، ثم رخص لهم بعد ذلك. وقيل نزلت في التسعة الذين ارتدّوا ولحقوا بمكة «١» فنهى الله تعالى عن موالاتهم.
وعن النبىّ ﷺ «لا يطعم أحدكم طعم الإيمان حتى يحبّ في الله ويبغض في الله: حتى يحب في الله أبعد الناس، ويبغض في الله أقرب الناس إليه» «٢». وقرئ: عشيرتكم، وعشيراتكم.
وقرأ الحسن: وعشائركم فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وعيد. عن ابن عباس: هو فتح مكة. وعن الحسن: هم عقوبة عاجلة أو آجلة. وهذه آية شديدة لا ترى أشدّ منها، كأنها تنعى على الناس ما هم عليه من رخاوة عقد الدين، واضطراب حبل اليقين، فلينصف أورع الناس وأتقاهم من نفسه، هل يجد عنده من التصلب في ذات الله والثبات على دين الله ما يستحب له دينه على الآباء والأبناء والإخوان والعشائر والمال والمساكن وجميع حظوظ الدنيا ويتجرّد منها لأجله؟ أم يزوى الله عنه أحقر شيء منها لمصلحته، فلا يدرى أى طرفيه أطول؟ ويغويه الشيطان عن أجلّ حظ من حظوظ الدين، فلا يبالى كأنما وقع على أنفه ذباب فطيره؟
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٢٥ الى ٢٧]
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٧)
(١). ذكره الثعلبي أيضا عن مقاتل، وسنده إليه في أول الكتاب.
(٢). لم أجده بهذا اللفظ وفي الطبراني عن عمرو بن الحمق أنه سمع رسول الله ﷺ يقول «لا يجد العبد صريح الايمان حتى يحب في الله ويبغض في الله، وفي إسناده رشد بن سعد. وهو ضعيف، وفي الباب عن أبى أمامة رواه أبو داود، وعن معاذ بن أنس رواه أبو يعلى وغيره.
257
مواطن الحرب: مقاماتها ومواقفها «١» قال:.
وَكَمْ مَوْطِنٍ لَوْلَاىَ طُحْتَ كَمَا هَوَي بِأَجْرَامِهِ مِنْ قُلَّةِ النِّيقِ مُنْهَوِى «٢»
(١). قال محمود: «مواطن الحرب مقاماتها ومواقفها... الخ» قال أحمد: لا مانع- والله أعلم- من عطف الظرفين المكاني والزمانى أحدهما على الآخر، كعطف أحد المفعولين على الآخر والفعل واحد، إذ يجوز أن تقول ضرب زيد عمرا في المسجد ويوم الجمعة، كما تقول: ضربت زيداً وعمرا، ولا يحتاج إلى إضمار فعل جديد غير الأول، هذا مع أنه لا بد من تغاير الفعلين الواقعين بالمفعولين في الحقيقة، فإنك إذا قلت: أضرب زيدا اليوم وعمراً غداً، لم يشك في أن الضربين متغايران بتغاير الظرفين، ومع ذلك الفعل واحد في الصناعة. فعلى هذا يجوز في الآية- والله أعلم- بقاء كل واحد من الظرفين على حاله غير مؤول إلى الآخر، على أن الزمخشري أوجب تعدد الفعل وتقدير ناصب لظرف الزمان غير الفعل الأول. وإن كانا عنده جميعاً زمانين، لعلة أن كثرتهم لم تكن ثابتة في جميع المواطن.
يريد: ولو ذهبت إلى اتحاد الناصب للزم ذلك، وهذا غير لازم. ألا تراك لو قلت: أضرب زيداً حين يقوم وحين يقعد، لكان الناصب للظرفين واحداً وهما متغايران، وإنما يمتنع عمل الفعل الواحد في ظرفى زمان مختلفين عند عدم العطف المتوسط بينهما، والله أعلم.
(٢).
تكاشرنى كرها كأنك ناصح وعينك تبدى أن صدرك لي دوى
لسانك ماذي وعينك علقم وشرك مبسوط وخيرك منطوى
فليت كفافاً كان خيرك كله وشرك عنى ما ارتوى الماء مرتوى
وكم موطن لولاى طحت كما هوى بأجرامه من قلة النيق منهوى
جمعت وفحشا غيبة ونميمة ثلاث خصال لست عنها بمرعوى
ليزيد بن الحكم بن أبى العاص الثقفى. والمكاشرة: المضاحكة، واختارها في التعبير إشارة إلى أنها ليست مضاحكة حقيقة يوافقها القلب، وإنما هي إظهار الأسنان فقط أمامه ليريه أنه ناصح الرجل كمرض فسد قلبه، ودوى أى خالص المودة. ودوى صدر «أيضاً حقد، فهو دوى بالتخفيف كعمي، أو التشديد كغنى، على فعل أو فعيل، وعلى التشديد فتخفيفه للوزن.
و «الماذي»
عسل النحل لأنه يمذى منها، وتسمى الخمرة ماذية لسهولتها. و «العلقم» الحنظل وكل شجر مر وكل شيء مر، أى لسانك كالعسل في حلاوة الكلام. وعينك كالعلقم في كراهية النفس ونفرتها عن كل، حيث تنظر لي نظر الحسود المغتاظ، وشبه الشر والخير ببساطين على سبيل المكنية، والبسط والطى تخييل. واسم ليت ضمير الشأن أو ضمير المخاطب محذوفا، وخيرك اسم كان، وكفافا خبرها. وشرك عطف على خيرك. ويجوز أنه من باب التنازع عن من أجازه في الحروف، لأن «ليت» مقتضية للعمل في خيرك، و «كان» مقتضية للعمل فيه، فأعمل فيه الثاني وحذف ضميره من الأول، لأنه وإن كان عمدة، مشبهة للفضلة في نصبه، وكما أجاز حذفه الكوفيون في باب كان وباب ظن، نعلمه من مفسره، أى: فليت الحال والشأن كان خيرك كله وشرك، كفافا:
بالفتح، أى مغنيا كافياً لك عنى، ولو كسر «كفافا» على أنه مفاعلة من الكف لجاز، ويكون المصدر بمعنى اسم الفاعل، مبالغة: أى كافا لك، أو منكفا عنى ما دام «مرتو» يرتوى الماء، أى: يستقيه، يعنى دائما، وكم:
خبرية للتكثير، أى كثير من مواطن الحرب لولا وجودى لطحت بكسر الطاء وضمها من باب باع، وقال:
أى هلكت فيها كما هوى منهو، أى سقط ساقط من قلة النيق. ويروى: قنة النيق، والمعنى واحد، أى: من رأس الجبل العالي، ومذهب سيبويه أن «لولا» حرف جر إذا وليها ضمير نصب، ومذهب الأخفش أنه وضع ضمير النصب موضع ضمير الرفع على الابتداء، وأنكر المبرد وروده، وهو محجوج بهذا. وقال أبو على الفارسي: الفعل ومطاوعه قد يكونان لازمين معا، كهوى وانهوى، وغوى وانغوى، بدليل نحو هذا البيت. وحمله الجمهور على الضرورة. والقياس: هاو وغاو. وبعضهم على أنهما مطاوعان لأهديته وأغويته، لكن مطاوعه: انفعل لا فعل شاذة، ولو قيل: انهوى مطاوع لهوى به لجاز. لكنه ليس قياسياً، ثم قال له: جمعت غيبة ونميمة وفحشا، فقدم المعطوف للضرورة. وجعله ابن جنى مفعولا معه، وأجاز تقديمه على مصاحبه ممسكا بذلك، ويمكن أن يكون ضرورة أيضاً. وفيه إشارة من أول وهلة إلى إرادة التعدد والتكثير وثلاث خصال بدل مما قبله، ولست عنها: أى لست بمنزجر عنها، فقدم المعمول للاهتمام، والياء في القافية للإطلاق.
258
وامتناعه من الصرف لأنه جمع، وعلى صيغة لم يأت عليها واحد، والمواطن الكثيرة: وقعات بدر، وقريظة، والنضير، والحديبية، وخيبر، وفتح مكة. فإن قلت: كيف عطف الزمان والمكان وهو يَوْمَ حُنَيْنٍ على المواطن؟ قلت: معناه وموطن يوم حنين. أو في أيام مواطن كثيرة ويوم حنين. ويجوز أن يراد بالموطن الوقت كمقتل الحسين، على أنّ الواجب أن يكون يوم حنين منصوباً بفعل مضمر لا بهذا الظاهر. وموجب ذلك أنّ قوله إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ بدل من يوم حنين، فلو جعلت ناصبه هذا الظاهر لم يصح، لأنّ كثرتهم لم تعجبهم في جميع تلك المواطن «١» ولم يكونوا كثيراً في جميعها، فبقى أن يكون ناصبه فعلا خاصاً به، إلا إذا نصبت «إذ» بإضمار «اذكر» وحنين: واد بين مكة والطائف، كانت فيه الوقعة بين المسلمين وهم اثنا عشر ألفاً الذين حضروا فتح مكة، منضما إليهم ألفان من الطلقاء، وبين هوازن وثقيف وهم أربعة آلاف فيمن ضامّهم من إمداد سائر العرب فكان الجمّ الغفير، فلما التقوا قال رجل من المسلمين:
لن نغلب اليوم من قلة، فساءت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل قائلها رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. وقيل أبو بكر رضى الله عنه «٢» وذلك قوله إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فاقتتلوا قتالا شديداً وأدركت المسلمين كلمة الإعجاب بالكثرة، وزلّ عنهم أن الله هو الناصر لا كثرة الجنود فانهزموا حتى بلغ فلهم مكة، وبقي رسول الله ﷺ وحده وهو ثابت في مركزه لا يتحلحل، ليس معه إلا عمه العباس رضى الله تعالى عنه آخذ بلجام دابته وأبو سفيان بن الحرث ابن عمه، وناهيك بهذه الوحدة شهادة صدق على تناهى
(١). قوله «لم تعجبهم في جميع تلك المواطن» إنما يلزم كون كثرتهم أعجبتهم في جميعها، مع أنه خلاف الواقع لو جعل إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ بدلا من المواطن أيضاً، فتدبر. (ع) [.....]
(٢). لم أجده بهذا السياق وقوله: إن رسول الله ﷺ قالها: قد ورد أنه قال «لن تغلب اثنا عشر ألفا عن قلة» في حديث غير هذا. وأما هذا فان كان المصنف وقع على شيء من ذلك فما كان قوله «وأدركتهم كلمة الاعجاب بالكثرة ونزل عنهم إلى آخره بلائق. وأما قوله «وقيل قالها أبو بكر» فلم أقف عليه وقوله «ومن هوازن وثقيف وفي أربعة آلاف غلام مسح» والصواب أن هوازن وثقيفا كانوا من المشركين والذي في مسلم من حديث العباس «شهدت مع رسول الله ﷺ يوم حنين- فذكرت القصة، وفيها تغير ونقص عما ساقه المصنف وليس فيها «فخذا فخذا» وإنما فيه «أن عباسا نادى أصحاب السمرة ونادى أصحاب الشجرة. قال فعطوا عطف البقرة على أولادها، وروى يونس بن بكر في زيادة المغازي عن أبى جعفر الرازي بن الربيع يعنى ابن أنس «أن رجلا قال يوم حنين: لن نغلب اليوم من قلة. فشق ذلك على رسول الله ﷺ فأنزل الله- وذكر الآية قال الربيع وكانوا اثنى عشر ألفا منهم ألفان من أهل مكة.
259
شجاعته ورباطة جأشه «١» صلى الله عليه وسلم، وما هي إلا من آيات النبوّة، وقال: يا رب ائتني بما وعدتني. وقال ﷺ للعباس- وكان صيتا: صيح بالناس، فنادى الأنصار فخذاً فخذاً، ثم نادى: يا أصحاب الشجرة، يا أصحاب البقرة، فكرّوا عنقاً واحداً «٢» وهم يقولون:
لبيك لبيك، ونزلت الملائكة عليهم البياض على خيول بلق، فنظر رسول الله ﷺ إلى قتال المسلمين فقال: هذا حين حمى الوطيس، ثم أخذ كفا من تراب فرماهم به ثم قال:
انهزموا ورب الكعبة فانهزموا، قال العباس: لكأنى أنظر إلى رسول الله ﷺ يركض. خلفهم على بغلته بِما رَحُبَتْ ما مصدرية، والباء بمعنى مع، أى مع رحبها «٣» وحقيقته ملتبسة برحبها، على أنّ الجارّ والمجرور في موضع الحال، كقولك: دخلت عليه بثياب السفر، أى ملتبسا بها لم أحلها، تعنى مع ثياب السفر. والمعنى: لا تجدون موضعا تستصلحونه لهربكم إليه ونجاتكم لفرط الرعب، فكأنها ضاقت عليكم ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثم انهزمتم سَكِينَتَهُ رحمته التي سكنوا بها وآمنوا وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ الذين انهزموا. وقيل: هم الذين ثبتوا مع رسول الله ﷺ حين وقع الهرب وَأَنْزَلَ جُنُوداً يعنى الملائكة، وكانوا ثمانية آلاف، وقيل خمسة آلاف، وقيل ستة عشر ألفا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا بالقتل والأسر، وسبى النساء والذراري ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ أى يسلم بعد ذلك ناس منهم. وروى أنّ ناسا منهم جاءوا فبايعوا رسول الله ﷺ على الإسلام وقالوا: يا رسول الله، أنت خير الناس وأبرّ الناس وقد سبى أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا. قيل: سى يومئذ ستة آلاف نفس، وأخذ من الإبل والغنم مالا يحصى، فقال: إنّ عندي ما ترون، إنّ خير القول أصدقه، اختاروا:
إما ذراريكم ونساءكم، وإما أموالكم. قالوا: ما كنا نعدل بالأحساب شيئا. فقام رسول الله ﷺ فقال: إن هؤلاء جاءوا مسلمين، وإنا خيرناهم بين الذراري والأموال فلم يعدلوا بالأحساب شيئا، فمن كان بيده شيء وطابت نفسه أن يردّه فشأنه، ومن لا فليعطنا وليكن قرضا علينا حتى نصيب شيئا فنعطيه مكانه. قالوا: رضينا وسلمنا، فقال: إنى لا أدرى لعل فيكم من لا يرضى، فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا، فرفعت إليه العرفاء أن قد رضوا «٤».
(١). قوله «ورباطة جأشه» الجأش: رواع القلب عند الفزع. ورابط الجأش: من يربط نفسه عن الفرار لشجاعته. (ع)
(٢). قوله «عنقا واحدا» ويقال هم عنق إليك أى مائلون إليك كذا في الصحاح. (ع)
(٣). قوله «مع رحبها» في الصحاح «الرحب» بالضم: السعة. (ع)
(٤). ذكره الثعلبي بغير سند وهذه القصة قد ذكرها ابن إسحاق في المغازي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بطوله، وذكرها البخاري من رواية الزهري عن عروة عن المسور ومروان، ورواها الطبري وغيره من رواية زهير ابن حرد، وفيه الشعر الذي أنشده زهير.
260

[سورة التوبة (٩) : آية ٢٨]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨)
النجس: مصدر، يقال: نجس نجساً، وقذر. قذراً. ومعناه ذو ونجس، لأنّ معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس، ولأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات، فهي ملابسة لهم. أو جعلوا كأنهم النجاسة بعينها، مبالغة في وصفهم بها. وعن ابن عباس رضى الله عنه:
أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير. وعن الحسن: من صافح مشركا توضأ. وأهل المذاهب على خلاف هذين القولين. وقرئ: نجس، بكسر النون وسكون الجيم، على تقدير حذف الموصوف، كأنه قيل، إنما المشركون جنس نجس، أو ضرب نجس، وأكثر ما جاء تابعا لرجس وهو تخفيف نجس، نحو: كبد، في كبد فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ فلا يحجوا ولا يعتمروا، كما كانوا يفعلون في الجاهلية بَعْدَ عامِهِمْ هذا بعد حج عامهم هذا وهو عام تسع من الهجرة حين أمّر أبو بكر على الموسم، وهو مذهب أبى حنيفة وأصحابه، ويدل عليه قول علىّ كرم الله وجهه حين نادى ببراءة: ألا لا يحج بعد عامنا هذا مشرك. ولا يمنعون من دخول الحرم والمسجد الحرام وسائر المساجد عندهم. وعند الشافعي: يمنعون من المسجد الحرام خاصة. وعند مالك: يمنعون منه ومن غيره من المساجد. وعن عطاء رضى الله عنه أن المراد بالمسجد الحرام: الحرم، وأن على المسلمين أن لا يمكنوهم من دخوله، ونهى المشركين أن يقربوه راجع إلى نهى المسلمين عن تمكينهم منه «١» وقيل المراد أن يمنعوا من تولى المسجد الحرام والقيام بمصالحه ويعزلوا عن ذلك وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً أى فقرا بسبب منع المشركين من الحج وما كان لكم في قدومهم عليكم من الأرفاق والمكاسب فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ من عطائه أو من تفضله بوجه آخر، فأرسل السماء عليهم مدرارا، فأغزر بها خيرهم وأكثر ميرهم، وأسلم أهل تبالة وجرش «٢» فحملوا إلى
(١). قال محمود: «هذا النهى راجع إلى نهى المسلمين عن تمكينهم منه» قال أحمد: وقد يستدل به من يقول: إن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، وخصوصا بالمناهى، فان ظاهر الآية توجه النهى إلى المشركين، إلا أنه بعيد، لأن المعلوم من المشركين أنهم لا ينزجرون بهذا النهى، والمقصود تطهير المسجد الحرام بابعادهم عنه، فلا يحصل هذا المقصود إلا بنهي المسلمين عن تمكينهم من قربانه، ويرشد إلى أن المخاطب في الحقيقة المسلمين، تصدير الكلام بخطابهم في قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وتضمينه نصا بخطابهم بقوله وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً وكثيرا ما يتوجه النهى على من المراد خلافه، وعلى ما المراد خلافه إذا كانت ثم ملازمة، كقوله: لا أرينك هاهنا، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، والله أعلم.
(٢). قوله «وأكثر ميرهم... الخ» المير: إطعام الطعام. ويقال: بلد باليمن. وجرش: موضع منه أيضا، أفاده الصحاح. (ع)
مكة الطعام وما يعاش به، فكان ذلك أعود عليهم مما خافوا العيلة لفواته. وعن ابن عباس رضى الله عنه: ألقى الشيطان في قلوبهم الخوف وقال: من أين تأكلون؟ فأمرهم الله بقتال أهل الكتاب وأغناهم بالجزية. وقيل: بفتح البلاد والغنائم. وقرئ: عائلة، بمعنى المصدر كالعافية، أو حالا عائلة. ومعنى قوله إِنْ شاءَ الله. إن أوجبت الحكمة إغناءكم وكان مصلحة لكم في دينكم إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بأحوالكم حَكِيمٌ لا يعطى ولا يمنع إلا عن حكمة وصواب.
[سورة التوبة (٩) : آية ٢٩]
قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (٢٩)
مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بيان للذين مع ما في حيزه. نفى عنهم الإيمان بالله لأنّ اليهود مثنية والنصارى مثلثة. وإيمانهم باليوم الآخر لأنهم فيه على خلاف ما يجب وتحريم ما حرم الله ورسوله، لأنهم لا يحرمون ما حرم في الكتاب والسنة. وعن أبى روق: لا يعملون بما في التوراة والإنجيل، وأن يدينوا دين الحق، وأن يعتقدوا دين الإسلام الذي هو الحق وما سواه الباطل. وقيل: دين الله، يقال: فلان يدين بكذا إذا اتخذه دينه ومعتقده. سميت جزية، لأنها طائفة مما على أهل الذمة أن يجزوه أى يقضوه، أو لأنهم يجزون بها من منّ عليهم بالإعفاء عن القتل عَنْ يَدٍ إما أن يراد يد المعطى أو الآخذ «١» فمعناه على إرادة يد المعطى حتى يعطوها عن يد: أى عن يد مؤاتية غير ممتنعة «٢» لأنّ من أبى وامتنع لم يعط يده، بخلاف المطيع المنقاد، ولذلك قالوا: أعطى، بيده، إذا انقاد وأصحب «٣». ألا ترى إلى قولهم. نزع يده عن الطاعة، كما يقال: خلع ربقة الطاعة عن عنقه، أو حتى يعطوها عن يد إلى يد نقداً غير نسيئة، لا مبعوثا على يد أحد. ولكن عن يد المعطى إلى يد الآخذ، وأما على إرادة يد الآخذ فمعناه حتى يعطوها «٤» عن يد قاهرة مستولية، أو عن إنعام عليهم. لأن قبول الجزية منهم وترك أرواحهم
(١). قال محمود: «إما أن يراد يد المعطى أو الأخذ... الخ» قال أحمد:
فيكون كاليد في قوله عليه السلام «لا تبيعوا الذهب إلى قوله إلا يدا بيد».
(٢). قوله «أى عن يد مؤاتية غير ممتنعة» في الصحاح: آتيته على ذلك الأمر مؤاتاة، إذا وافقته وطاوعته.
والعامة تقول: وأتيته. (ع)
(٣). قوله «وأصحب» أى سهل بعد صعوبة. انتهى صحاح. (ع)
(٤). عاد كلامه قال: وإن أريد به الآخذ فمعناه حتى يعطوها... الخ» قال أحمد: وهذا الوجه أملأ بالفائدة، والله أعلم.
لهم نعمة عظيمة عليهم وَهُمْ صاغِرُونَ أى تؤخذ منهم على الصغار والذل. وهو أن يأتى بها بنفسه ما شياً غير راكب، ويسلمها وهو قائم- والمتسلم جالس، وأن يتلتل تلتلة «١» ويؤخذ بتلبيبه، ويقال له: أدّ الجزية، وإن كان يؤدّيها ويزخ في قفاه. وتسقط بالإسلام عند أبى حنيفة ولا يسقط به خراج الأرض. واختلف فيمن تضرب عليه، فعند أبى حنيفة: تضرب على كل كافر من ذمي ومجوسي وصابئ وحربى، إلا على مشركي العرب وحدهم. روى الزهري أن رسول الله ﷺ صالح عبدة الأوثان على الجزية، إلا من كان من العرب «٢» وقال لأهل مكة: هل لكم في كلمة إذا قلتموها دانت لكم بها العرب وأدّت إليكم العجم الجزية وعند الشافعي لا تؤخذ من مشركي العجم. والمأخوذ عند أبى حنيفة في أوّل كل سنة من الفقير الذي له كسب: اثنا عشر درهما. ومن المتوسط في الغنى: ضعفها، ومن المكثر: ضعف الضعف ثمانية وأربعون، ولا تؤخذ من فقير لا كسب له. وعند الشافعي: يؤخذ في آخر السنة من كل واحد دينار، فقيراً كان أو غنيا، كان له كسب أو لم يكن.
[سورة التوبة (٩) : آية ٣٠]
وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠)
عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ مبتدأ وخبر، كقوله: المسيح ابن الله، وعزير: اسم أعجمى كعازر وعيزار وعزرائيل، ولعجمته وتعريفه: امتنع صرفه. ومن نوّن فقد جعله عربياً. وأما قول من قال:
سقوط التنوين لالتقاء الساكنين كقراءة من قرأ «أحد الله» أو لأنّ الابن وقع وصفا والخبر محذوف وهو معبودنا، فتمحل عنه مندوحة، وهو قول ناس من اليهود ممن كان بالمدينة، وما هو بقول كلهم عن ابن عباس رضى الله عنه: جاء رسول الله ﷺ سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى وشاش بن قيس ومالك بن الصيف، فقالوا ذلك. وقيل: قاله فنحاص. وسبب هذا القول أنّ اليهود قتلوا الأنبياء بعد موسى عليه السلام، فرفع الله عنهم التوراة ومحاها من قلوبهم، فخرج عزير وهو غلام يسيح في الأرض، فأتاه جبريل عليه السلام: فقال له إلى أين تذهب؟ قال: أطلب العلم فحفظه التوراة. فأملاها عليهم عن ظهر لسانه لا يخرم حرفا، فقالوا ما جمع الله التوراة في صدره وهو غلام إلا لأنه ابنه «٣». والدليل على أن هذا القول كان
(١). قوله «وأن يتلتل تلتلة» أى يزعزع ويزلزل. وقوله «يزخ» أى يدفع كما في الصحاح. (ع)
(٢). أخرجه عبد الرزاق في تفسيره: أخبرنا معمر عن الزهري بهذا، وزاد «وقيل الجزية من البحرين وكانوا مجوسا».
(٣). قلت أورد المخرج منضما إلى الذي قبله ولم يذكر من أخرجه والصواب أنه حديث آخر أخرجه. [.....]
فيهم: أن الآية تليت عليهم، فما أنكروا ولا كذبوا، مع تهالكهم على التكذيب. فإن قلت:
كل قول يقال بالفم فما معنى قوله ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ؟ قلت: فيه وجهان. أحدهما: أن يراد أنه قول لا يعضده برهان، فما هو إلا لفظ يفوهون به، فارغ من معنى تحته كالألفاظ المهملة التي هي أجراس ونغم لا تدل على معان. وذلك أن القول الدال على معنى لفظه مقول بالفم ومعناه مؤثر في القلب. ومالا معنى له مقول بالفم لا غير، والثاني: أن يراد بالقول المذهب، كقولهم: قول أبى حنيفة، يريدون مذهبه وما يقول به، كأنه قيل: ذلك مذهبهم ودينهم بأفواههم لا بقلوبهم، لأنه لا حجة معه ولا شبهة حتى يؤثر في القلوب، وذلك أنهم إذا اعترفوا أنه لا صاحبة له لم تبق شبهة في انتفاء الولد يُضاهِؤُنَ لا بدّ فيه من حذف مضاف تقديره يضاهي قولهم قولهم، ثم حذف المضاف وأقيم الضمير المضاف إليه مقامه، فانقلب مرفوعا.
والمعنى: أن الذين كانوا في عهد رسول الله ﷺ من اليهود والنصارى يضاهي قولهم قول قدمائهم، يعنى أنه كفر قديم فيهم غير مستحدث. أو يضاهي قول المشركين: الملائكة بنات الله تعالى الله عنه. وقيل: الضمير للنصارى، أى يضاهي قولهم: المسيح ابن الله، قول اليهود: عزير ابن الله، لأنهم أقدم منهم. وقرئ يضاهؤن بالهمز من قولهم: امرأة ضهيأ على فعيل، وهي التي ضاهأت الرجال في أنها لا تحيض وهمزتها «١» مزيدة كما في غرقئ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أى هم أحقاء بأن يقال لهم هذا، تعجباً من شناعة قولهم، كما يقال لقوم ركبوا شنعاء: قاتلهم الله ما أعجب فعلهم أَنَّى يُؤْفَكُونَ كيف يصرفون عن الحق؟
[سورة التوبة (٩) : آية ٣١]
اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١)
اتخاذهم أربابا: أنهم أطاعوهم في الأمر بالمعاصي وتحليل ما حرم الله وتحريم ما حلله، كما تطاع الأرباب في أوامرهم. ونحوه تسمية أتباع الشيطان فيما يوسوس به: عباده، بل كانوا يعبدون الجن يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ وعن عدىّ بن حاتم رضى الله عنه: انتهيت إلى رسول الله ﷺ وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: «أليسوا يحرّمون ما أحلّ الله فتحرّمونه، ويحلون ما حرّمه فتحلونه» ؟ قلت: بلى. قال: فتلك عبادتهم «٢». وعن فضيل رضى
(١). قوله «أنها لا تحيض وهمزتها مزيدة» هذا لا يناسب قوله «على فعيل» فلعله «أو همزة... الخ». (ع)
(٢). الواقدي من طريق عامر بن سعد عن عدى بن حاتم بهذا، وأخرجه ابن مردويه من وجه آخر عن عطاء ابن يسار عن عدى بن حاتم، ورواه الترمذي من طريق مصعب بن سعد عن عدى بن حاتم بهذا وأتمم منه، إلا قوله «فتلك عبادتهم» وقال حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب عن عطيف بن أعين، وعطيف ليس بمعروف، وأخرجه ابن أبى شيبة والطبراني والطبري وأبو يعلى من هذا الوجه رواه البيهقي في المدخل كذلك وزاد «فتلك عبادتهم».
الله عنه: ما أبالى أطعت مخلوقا في معصية الخالق، أو صليت لغير القبلة. وأمّا المسيح فحين جعلوه ابنا لله فقد أهلوه للعبادة. ألا ترى إلى قوله قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ. وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً أمرتهم بذلك أدلة العقل والنصوص في الإنجيل والمسيح عليه السلام: أنه من يشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنة سُبْحانَهُ تنزيه له عن الإشراك به، واستبعاد له. ويجوز أن يكون الضمير في وَما أُمِرُوا للمتخذين أرباباً، أى: وما أمر هؤلاء الذين هم عندهم أرباب إلا ليعبدوا الله ويوحدوه، فكيف يصح أن يكونوا أربابا وهم مأمورون مستعبدون مثلهم.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٣٢ الى ٣٣]
يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣)
مثل حالهم في طلبهم أن يبطلوا نبوّة محمد ﷺ بالتكذيب، بحال من يريد ان ينفخ في نور عظيم منبث في الآفاق، يريد الله أن يزيده ويبلغه الغاية القصوى في الإشراق أو الإضاءة، ليطفئه بنفخه ويطمسه لِيُظْهِرَهُ ليظهر الرسول عليه السلام عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ على أهل الأديان كلهم. أو ليظهر دين الحق على كل دين. فإن قلت: كيف جاز، أبى الله إلا كذا، ولا يقال: كرهت أو أبغضت إلا زيداً «١» ؟ قلت: قد أجرى «أبى» مجرى «لم يرد» ألا ترى كيف قوبل يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا بقوله وَيَأْبَى اللَّهُ وكيف أوقع موقع ولا يريد الله إلا أن يتمّ نوره.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٣٤ الى ٣٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (٣٥)
(١). قال: محمود «إن قلت كيف جاز أبى الله إلا كذا ولا يقال كرهت... الخ» قال أحمد: ولا يقال على هذا إن الاباء عدم الارادة، فكما صح الإيجاب بعد نفى الارادة، فينبغي أن يصح بعد ما هو في معناها مطلقا، لأنا نقول لوجود حرف النفي أثر في تصحيح مجيء حرف الإيجاب بعد فلا يلزم ذلك، والله أعلم.
265
معنى أكل الأموال على وجهين: إما أن يستعار الأكل للأخذ. ألا ترى إلى قولهم: أخذ الطعام وتناوله. وإمّا على أن الأموال يؤكل بها فهي سبب الأكل. ومنه قوله:
إنَّ لَنَا أَحْمِرَةً عِجَافَا يَأْكُلْنَ كُلَّ لَيْلَةٍ إكافَا «١»
يريد: علفاً يشترى بثمن إكاف. ومعنى أكلهم بالباطل: أنهم كانوا يأخذون الرشا في الأحكام، والتخفيف والمسامحة في الشرائع وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ يجوز أن يكون إشارة إلى الكثير من الأحبار والرهبان، للدلالة على اجتماع خصلتين مذمومتين فيهم: أخذ البراطيل.
وكنز الأموال، والضنّ بها عن الإنفاق في سبيل الخير. ويجوز أن يراد المسلمون الكانزون غير المنافقين، ويقرن بينهم وبين المرتشين من اليهود والنصارى، تغليظا ودلالة على أن من يأخذ منهم السحت، ومن لا يعطى منكم طيب ماله: سواء في استحقاق البشارة بالعذاب الأليم.
وقيل: نسخت الزكاة آية الكنز. وقيل: هي ثابتة، وإنما عنى بترك الإنفاق في سبيل الله منع الزكاة. وعن النبي ﷺ «ما أدّى زكاته فليس بكنز وإن كان باطناً، وما بلغ أن يزكى فلم يزك فهو كنز وإن كان ظاهراً» «٢» وعن عمر رضى الله عنه أنّ رجلا سأله عن أرض له باعها فقال: أحرز مالك الذي أخذت، احفر له تحت فراش امرأتك. قال: أليس بكنز؟ قال: ما أدّى زكاته فليس بكنز «٣» وعن عمر رضى الله عنه: كل ما أدّيت زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين، وما لم
(١). مر شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ٢١٦ فراجعه إن شئت اه مصححه.
(٢). أخرجه البيهقي من طريق محمد بن جبير عن سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر مرفوعا بلفظ «كل ما أدى زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونا، وكل مالا يؤدى زكاته فهو كنز وإن كان ظاهرا» قال البيهقي: ليس هذا بمحفوظ، والمشهور عن سفيان بن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قوله. ورواه الطبراني في الأوسط وابن مردويه وابن عدى من طريق سويد بن عبد العزيز عن عبيد الله بسنده مرفوعا، ولفظه «كل مال وإن كان تحت سبع أرضين يؤدى زكاته فليس بكنز، وكل مال لا يؤدى زكاته وإن كان ظاهرا فهو كنز» قال ابن عدى: وفيه سويد وغيره يرويه موقوفا والموقوف رواه عبد الرزاق عن عبيد الله العمرى موقوفا والشافعي عن ابن عيينة عن ابن عجلان عن نافع نحوه، وفي الباب عن أم سلمة قالت «جئت ألبس أوضاحا من ذهب فقلت يا رسول الله أكنز هو؟ فقال: ما بلغ الذي يؤدى زكاته فليس بكنز» أخرجه أبو داود والحاكم.
(٣). أخرجه عبد الرزاق من طريق بشر بن سعيد أن رجلا باع رجلا حائطا أو مالا بمال عظيم فقال له عمر ابن الخطاب رضى الله عنه: أحسن موضع هذا المال- الحديث» ورواه ابن أبى شيبة من طريق أخرى عن سعيد ابن أبى سعيد أن عمر سأل رجلا- فذكره.
266
يؤدّ زكاته فهو الذي ذكر الله تعالى وإن كان على ظهر الأرض «١» فإن قلت: فما تصنع بما روى سالم بن الجعد رضى الله عنه أنها لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تباً للذهب تبا للفضة» قالها ثلاثاً. فقالوا له: أىّ مال نتخذ؟ قال «لساناً ذاكراً، وقلباً خاشعاً، وزوجة تعين أحدكم على دينه «٢» وبقوله عليه الصلاة والسلام «من ترك صفراء أو بيضاء كوى بها» «٣» وتوفى رجل فوجد في مئزره دينار، فقال رسول الله ﷺ «كية» وتوفى آخر فوجد في مئزره ديناران، فقال «كيتان» «٤» قلت: كان هذا قبل أن تفرض الزكاة، فأمّا بعد فرض الزكاة، فالله أعدل وأكرم من أن يجمع عبده مالا من حيث أذن له فيه، ويؤدّى عنه ما أوجب عليه فيه، ثم يعاقبه. ولقد كان كثير من الصحابة كعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله وعبيد الله رضى الله عنهم يقتنون الأموال ويتصرفون فيها، وما عابهم أحد ممن أعرض عن القنية، لأنّ الإعراض اختيار للأفضل، وإلا دخل في الورع والزهد في الدنيا، والاقتناء مباح موسع لا يذمّ صاحبه، ولكل شيء حدّ. وما روى عن علىّ رضى الله عنه:
(١). تقدم الكلام عليه.
(٢). كذا ذكره مرسلا، وهو معروف من رواية سالم بن ثوبان أخرجه الطبري والطبراني في الأوسط من طريق موثل بن إسماعيل عن الثوري عن الأعمش ومنصور وعمرو بن مرة عن سالم بن أبى الجعد عن ثوبان بهذا، ورواه الترمذي وأحمد في الزهد من رواية إسرائيل عن منصور ومده به، وليس فيه «تبا الذهب تبا الفضة» بل فيه: فقال بعض أصحابه «لو علمنا أى المال خير فنتخذه» قال البخاري وغيره: سالم لم يسمع من ثوبان، ورواه ابن ماجة وأحمد وأبو نعيم في الحلية من رواية عبد الله بن عمرو بن مرة عن أبيه عن سالم عن ثوبان، ورواه ابن ماجة وأحمد وأبو نعيم في الحلية من رواية عبد الله بن عمرو بن مرة عن أبيه عن سالم عن ثوبان قال «لما نزلت قالوا: فأى المال نتخذ؟ قال عمر: فأنا أعلم لكم ذلك فأوضع على بعيره فأدرك النبي ﷺ وأنا في أثره فقال:
يا رسول الله أى المال نتخذ؟ - الحديث»
وفي الباب عن على أخرجه عبد الرزاق عن الثوري عن أبى حصين عن أبى الضحى عن جعدة بن سبرة عنه، وعن بريدة أخرجه ابن مردويه من رواية الحكم بن ظهير عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه. وعن بعض الصحابة أخرجه أحمد من رواية سعيد عن سالم بن عطية عن عبد الله بن عطية عن عبد الله بن أبى الهذيل حدثني صاحب لي أن رسول الله ﷺ قال «تبا للذهب تبا للفضة» فحدثني صاحبي أنه انطلق مع عمر، فقال: يا رسول الله. فذكر نحوه.
(٣). أخرجه البخاري في التاريخ والطبري وابن مردويه من طريق عبد الله بن عبد الواحد الثقفي عن أبى النجيب الشامي «كان نعل سيف أبى هريرة من فضة، فنهاه عنه أبو ذر وقال: إن رسول الله ﷺ قال: من ترك صفراء أو بيضاء كوى بها» وفي الباب عن أبى أمامة، أخرجه الطبراني بلفظ «ما من عبد يموت فيترك صفراء أو بيضاء إلا كوى بها» وعن ثوبان أخرجه ابن مردويه والطبراني في مسند الشاميين من رواية أرطاة بن المنذر عن ابن عامر عنه، بلفظ «ما من أحد يترك صفراء أو بيضاء من ذهب أو فضة إلا جعل صفائح ثم كوى بها».
(٤). أخرجه أحمد وابن أبى شيبة وأبو يعلى والطبراني والطبري من طريق شهر بن حوشب عن أبى أمامة، بلفظ مروه في الموضعين. ورواه ابن حبان في صحيحه من حديث ابن مسعود بالشطر الثاني.
267
أربعة آلاف فما دونها نفقة، فما زاد فهو كنز «١» : كلام في الأفضل. فإن قلت: لم قيل: ولا ينفقونها، وقد ذكر شيئان؟ قلت: ذهاباً بالضمير إلى المعنى دون اللفظ: لأن كل واحد منهما جملة وافية وعدة كثيرة ودنانير ودراهم، فهو كقوله وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا وقيل: ذهب به إلى الكنوز. وقيل: إلى الأموال. وقيل: معناه ولا ينفقونها والذهب، «٢» كما أن معنى قوله:
فَإنِّى وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ «٣»
وقيار كذلك. فإن قلت: لم خصا بالذكر من بين سائر الأموال؟ قلت: لأنهما قانون التمول وأثمان الأشياء، ولا يكنزهما إلا من فضلا عن حاجته، ومن كثرا عنده حتى يكنزهما لم يعدم سائر أجناس المال، فكان ذكر كنزهما دليلا على ما سواهما، فإن قلت: ما معنى قوله يُحْمى عَلَيْها؟ وهلا قيل: تحمى، من قولك: حمى الميسم «٤» وأحميته، ولا تقول: أحميت على الحديد؟ قلت: معناه أن النار تحمى عليها، أى توقد ذات حمى وحرّ شديد، من قوله نارٌ حامِيَةٌ ولو قيل: يوم تحمى، لم يعط هذا المعنى. فإن قلت: فإذا كان الإحماء للنار، فلم ذكر الفعل؟ قلت: لأنه مسند إلى الجار والمجرور، أصله: يوم تحمى النار عليها، فلما حذفت النار قيل: يحمى عليها، لانتقال الاسناد عن النار إلى عليها، كما تقول: رفعت القصة إلى الأمير، فإن لم تذكر القصة قلت: رفع إلى الأمير. وعن ابن عامر أنه قرأ: تحمى، بالتاء. وقرأ أبو حيوة:
فيكوى بالياء. فإن قلت: لم خصت هذه الأعضاء؟ قلت: لأنهم لم يطلبوا بأموالهم- حيث لم ينفقوها في سبيل الله- إلا الأغراضَ الدنيوية، من وجاهة عند الناس، وتقدّم، وأن يكون ماء وجوههم مصوناً عندهم، يتلقون بالجميل، ويحيون بالإكرام، ويبجلون ويحتشمون، ومن أكل طيبات يتضلعون منها وينفخون جنوبهم، ومن لبس ناعمة من الثياب يطرحونها على ظهورهم، كما ترى أغنياء زمانك هذه أغراضهم وطلباتهم من أموالهم، لا يخطرون ببالهم قول رسول الله ﷺ «ذهب أهل الدثور بالأجور» «٥» وقيل: لأنهم كانوا إذا أبصروا الفقير عبسوا، وإذا ضمهم وإياه مجلس زوروا عنه وتولوا بأركانهم وولوه ظهورهم. وقيل: معناه
(١). أخرجه عبد الرزاق والطبري بإسناده الماضي عن على رضى الله عنه قبل بحديثين.
(٢). قوله «والذهب» لعله و «الذهب كذلك». (ع)
(٣). تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ٦٢٩ فراجعه إن شئت اه مصححه.
(٤). قال محمود: «إن قلت: هلا قيل تحمى، كما يقال: حمى الميسم وأحميته... الخ» قال أحمد: وفي هذا الفصل دقائق إعراب يشوب حسنها إغراب، والله الموفق. [.....]
(٥). أخرجه مسلم من طريق أبى الأسود عن أبى ذر «أن أناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: قالوا:
يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلى- الحديث.
268
يكون على الجهات الأربع مقاديمهم ومآخيرهم وجنوبهم هذا ما كَنَزْتُمْ على إرادة القول.
وقوله لِأَنْفُسِكُمْ أى كنزتموه لننتفع به نفوسكم وتلتذ وتحصل لها الأغراض التي حامت حولها وما علمتم أنكم كنزتموه لتستضر به أنفسكم وتتعذب وهو توبيخ لهم فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ وقرئ: تكنزون، بضم النون، أى وبال المال الذي كنتم تكنزونه أو وبال كونكم كانزين.
[سورة التوبة (٩) : آية ٣٦]
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦)
فِي كِتابِ اللَّهِ فيما أثبته وأوجبه من حكمه ورآه حكمة وصوابا. وقيل في اللوح أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثلاثة سرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم، وواحد فرد وهو رجب. ومنه قوله عليه السلام في خطبته في حجة الوداع: ألا إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض «١». السنة اثنا عشر شهراً: منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة، والمحرّم. ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان. والمعنى: رجعت الأشهر إلى ما كانت عليه، وعاد الحج في ذى الحجة، وبطل النسيء الذي كان في الجاهلية، وقد وافقت حجة الوداع ذا الحجة، وكانت حجة أبى بكر رضى الله عنه قبلها في ذى القعدة ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ يعنى أنّ تحريم الأشهر الأربعة هو الدين المستقيم، دين إبراهيم وإسماعيل، وكانت العرب قد تمسكت به وراثة منهما، وكانوا يعظمون الأشهر الحرم ويحرمون القتال فيها، حتى لو لقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه لم يهجه، وسموا رجبا: الأصم ومنصل الأسنة، حتى أحدثت النسيء فغيروا فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ في الحرم أَنْفُسَكُمْ أى لا تجعلوا حرامها حلالا. وعن عطاء. تالله ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الأشهر الحرم إلا أن يقاتلوا، وما نسخت، وعن عطاء الخراساني رضى الله عنه: حلت القتال في الأشهر الحرم براءة من الله ورسوله. وقيل:
معناه لا تأثموا فيهن، بيانا لعظم حرمتهن، كما عظم أشهر الحج بقوله تعالى فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ الآية وإن كان ذلك محرما في سائر الشهور كَافَّةً حال من الفاعل أو المفعول مَعَ الْمُتَّقِينَ ناصر لهم، حثهم على التقوى بضمان النصر لأهلها.
(١). متفق عليه من حديث أبى بكرة وفي الباب عن ابن عمر رضى الله عنهما أخرجه الطبري من رواية موسى ابن عبيدة عن صدقة بن يسار عنه بلفظ المصنف. وهو ضعيف. وعن ابن عباس أخرجه ابن مردويه.

[سورة التوبة (٩) : آية ٣٧]

إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٣٧)
والنسيء: تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر، وذلك أنهم كانوا أصحاب حروب وغارات، فإذا جاء الشهر الحرام وهم محاربون شق عليهم ترك المحاربة، فيحلونه ويحرمون مكانه شهراً آخر، حتى رفضوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم، فكانوا يحرمون من شق شهور العام أربعة أشهر وذلك قوله تعالى لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ أى ليوافقوا العدّة التي هي الأربعة ولا يخالفوها وقد خالفوا التخصيص الذي هو أحد الواجبين، وربما زادوا في عدد الشهور فيجعلونها ثلاثة عشر أو أربعة عشر ليتسع لهم الوقت. ولذلك قال عز وعلا إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً يعنى من غير زيادة زادوها. والضمير في: يحلونه، ويحرمونه للنسيء. أى إذا أحلوا شهراً من الأشهر الحرم عاما، رجعوا فحرموه في العام القابل. وروى أنه حدث ذلك في كنانة لأنهم كانوا فقراء محاويج إلى الغارة، وكان جنادة بن عوف الكناني مطاعاً في الجاهلية، وكان يقوم على جمل في الموسم فيقول بأعلى صوته: إنّ آلهتكم قد أحلت لكم المحرم فأحلوه، ثم يقوم في القابل فيقول: إن آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم فحرموه. جعل النسيء زيادة في الكفر، لأن الكافر كلما أحدث معصية ازداد كفراً، فزادتهم رجساً إلى رجسهم، كما أن المؤمن إذا أحدث الطاعة ازداد إيماناً فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وقرئ «يضل» على البناء للمفعول، و «يضل» بفتح الياء والضاد، ويُضَلُّ على أن الفعل لله عز وجل. وقرأ الزهري:
ليوطئوا بالتشديد. والنسيء مصدر نسأه إذا أخره. يقال نسأه نسأ ونساء ونسيئاً، كقولك:
مسه مساً ومساساً ومسيساً. وقرئ بهنّ جميعا. وقرئ النسى، بوزن الندى. والنسى بوزن النهى، وهما تخفيف النسيء والنسيء. فإن قلت: ما معنى قوله فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ؟ قلت: معناه فيحلوا بمواطأة العدّة وحدها من غير تخصيص ما حرّم الله من القتال، أو من ترك الاختصاص للأشهر بعينها زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ خذلهم الله فحسبوا أعمالهم القبيحة حسنة وَاللَّهُ لا يَهْدِي أى لا يلطف بهم بل يخذلهم. وقرئ: زين لهم سوء أعمالهم، على البناء للفاعل، وهو الله عزّ وجل.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٣٨ الى ٤١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠) انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١)
270
اثَّاقَلْتُمْ تثاقلتم. وبه قرأ الأعمش، أى تباطأتم وتقاعستم. وضمن معنى الميل والإخلاد فعدى بإلى. والمعنى: ملتم إلى الدنيا وشهواتها وكرهتم مشاق السفر ومتاعبه، ونحوه: أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ وقيل: ملتم إلى الإقامة بأرضكم ودياركم: وقرئ اثاقلتم؟ على الاستفهام الذي معناه الإنكار والتوبيخ. فإن قلت: فما العامل في «إذا» وحرف الاستفهام مانعة أن يعمل فيه «١» ؟ قلت: ما دلّ عليه قوله اثَّاقَلْتُمْ أو ما في ما لَكُمْ من معنى الفعل، كأنه قيل: ما تصنعون إذا قيل لكم كما تعمله في الحال إذا قلت: مالك قائماً، وكان ذلك في غزوة تبوك في سنة عشر بعد رجوعهم من الطائف، استنفروا في وقت عسرة وقحط وقيظ مع بعد الشقة وكثرة العدو، فشق عليهم. وقيل: ما خرج رسول الله ﷺ في غزوة إلا ورّى عنها بغيرها إلا في غزوة تبوك «٢» ليستعدّ الناس تمام العدة مِنَ الْآخِرَةِ أى بدل الآخرة كقوله: لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً
. فِي الْآخِرَةِ في جنب الآخرة إِلَّا تَنْفِرُوا سخط عظيم على المتثاقلين «٣» حيث أوعدهم بعذاب أليم مطلق يتناول عذاب الدارين، وأنه يهلكهم ويستبدل بهم قوما آخرين خيراً منهم وأطوع، وأنه غنى عنهم في نصرة دينه، لا يقدح تثاقلهم فيها شيئاً: وقيل: الضمير للرسول: أى ولا تضروه، لأنّ الله وعده أن يعصمه من الناس وأن ينصره، ووعد الله كائن لا محالة، وقيل يريد بقوله قَوْماً غَيْرَكُمْ أهل اليمن. وقيل: أبناء فارس، والظاهر مستغن عن
(١). قوله «وحرف الاستفهام» لعله: وأحرف الاستفهام، بدليل قوله «مانعة». وقوله «أن يعمل فيه» لعله: أن يعمل فيه «اثاقلتم». (ع)
(٢). متفق عليه من حديث كعب بن مالك.
(٣). قال محمود: «في هذه الآية سخط عظيم على المتثاقلين حيث أوعدهم عذابا أليما... الخ» قال أحمد: ويقرب إعادة الضمير إلى الرسول أن الضمير في قوله إِلَّا تَنْصُرُوهُ عقيب ذلك عائد إليه اتفاقا، والله أعلم.
271
للتخصيص. فإن قلت: كيف يكون قوله فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ جواباً للشرط؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: إلا تنصروه فسينصره من نصره حين لم يكن معه إلا رجل واحد ولا أقل من الواحد، فدلّ بقوله فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ على أنه ينصره في المستقبل، كما نصره في ذلك الوقت. والثاني:
أنه أوجب له النصرة وجعله منصوراً في ذلك الوقت: ، فلن يخذل من بعده. وأسند الإخراج إلى الكفار كما أسند إليهم في قوله مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ لأنهم حين هموا بإخراجه أذن الله له في الخروج، فكأنهم أخرجوه ثانِيَ اثْنَيْنِ أحد اثنين، كقوله ثالِثُ ثَلاثَةٍ وهما رسول الله ﷺ وأبو بكر الصديق رضى الله عنه. يروى أنّ جبريل عليه السلام لما أمره بالخروج قال: من يخرج معى؟ قال أبو بكر، وانتصابه على الحال: وقرئ ثانى اثنين، بالسكون. وإِذْ هُما بدل من إذ أخرجه. والغار: ثقب في أعلى ثور، وهو جبل في يمين مكة على مسيرة ساعة، مكثا فيه ثلاثا إِذْ يَقُولُ بدل ثان. قيل طلع المشركون فوق الغار فأشفق أبو بكر رضى الله عنه على رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم فقال: إن تصب اليوم ذهب دين الله «١» فقال عليه الصلاة والسلام: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما» : وقيل: لما دخلا الغار بعث الله تعالى حمامتين فباضتا في أسفله، والعنكبوت فنسجت عليه «٢».
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم أعم أبصارهم «٣» » : فجعلوا يتردّدون حول الغار ولا يفطنون. وقد أخذ الله بأبصارهم عنه. وقالوا: من أنكر صحبة أبى بكر رضى الله عنه فقد كفر، لإنكاره كلام الله، وليس ذلك لسائر الصحابة سَكِينَتَهُ ما ألقى في قلبه من الأمنة التي سكن عندها وعلم أنهم لا يصلون إليه. والجنود الملائكة يوم بدر، والأحزاب وحنين. وكلمة الذين كفروا: دعوتهم إلى الكفر وَكَلِمَةُ اللَّهِ دعوته إلى الإسلام. وقرئ «كلمة الله» بالنصب، والرفع أوجه. وهِيَ فصل أو مبتدأ، وفيها تأكيد فضل كلمة الله في العلوّ، وأنها المختصة به دون سائر الكلم خِفافاً وَثِقالًا خفافا في النفور لنشاطكم له، وثقالا عنه لمشقته عليكم، أو خفافا لقلة عيالكم وأذيالكم، وثقالا لكثرتها. أو خفافا من السلاح وثقالا منه. أو ركبانا ومشاة. أو شبابا وشيوخا. أو مهازيل
(١). لم أجده هكذا. وفي الصحيحين عن أبى بكر الصديق رضى الله عنه قال «نظرت إلى أقدام المشركين على رءوسنا ونحن في الغار. فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدميه لأبصرنا. فقال: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما.
(٢). أخرجه البزار من طريق عوف بن عمرو عن أبى مصعب المكي: سمعت أنس بن مالك وغيره «أن النبي ﷺ ليلة الغار أمر الله تعالى صخرة فثبتت في وجه النبي ﷺ فسترته وأمر العنكبوت فنسجت في وجهه فسترته. وأمر حمامتين وحشيتين فوقفتا بفم الغار- الحديث»
.
(٣). لم أجده
272
وسمانا. أو صحاحا ومراضا. وعن ابن أمّ مكتوم أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أعلىّ أن أنفر؟ قال: نعم، حتى نزل قوله لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ. وعن ابن عباس: نسخت بقوله لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وعن صفوان بن عمرو: كنت والياً على حمص، فلقيت شيخاً كبيراً قد سقط حاجباه من أهل دمشق على راحلته يريد الغزو. فقلت: يا عمّ لقد أعذر الله إليك فرفع حاجبيه وقال: يا بن أخى استنفرنا الله خفافا وثقالا، إلا أنه من يحبه الله يبتله. وعن الزهري: خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه، فقيل له: إنك عليل صاحب ضرر، فقال: استنفرنا الله الخفيف والثقيل، فإن لم يمكني الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ إيجاب للجهاد بهما إن أمكن، أو بأحدهما على حسب الحال والحاجة
[سورة التوبة (٩) : آية ٤٢]
لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٤٢)
العرض: ما عرض لك من منافع الدنيا. يقال: الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر، أى لو كان ما دعوا إليه غنما قريبا سهل المنال وَسَفَراً قاصِداً وسطا مقاربا الشُّقَّةُ المسافة الشاطة الشاقة. وقرأ عيسى بن عمر: بعدت عليهم الشقة، بكسر العين والشين.
ومنه قوله:
يَقُولُونَ لَا تَبْعُدْ وَهُمْ يَدْفِنُونَهُ وَلَا بُعْدَ إلّا مَا تُوَارِى الصَّفَائِحُ «١»
بِاللَّهِ متعلق بسيحلفون. أو هو من جملة كلامهم. والقول مراد في الوجهين، أى سيحلفون يعنى المختلفين عند رجوعك من غزوة تبوك معتذرين يقولون بالله لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ أو سيحلفون بالله يقولون: لو استطعنا، وقوله لَخَرَجْنا سدّ مسدّ جوابي القسم ولو جميعا، والإخبار بما سوف يكون بعد القفول من حلفهم واعتذارهم، وقد كان من جملة المعجزات.
ومعنى الاستطاعة: استطاعة العدّة، أو استطاعة الأبدان، كأنهم تمارضوا. وقرئ: لو استطعنا،
(١). يقال «بعد» ككرم وتعب، ومصدرهما: البعد بفتحتين، وبضم فسكون. وقد اشتهر باب تعب في معنى الهلاك، ولا تبعد- بالفتح- كلمة جارية على لسانهم عند المصيبة، دالة على تناهى الجزع، ولا بعد: معناه لا بعد إلا بعد ما تواريه الصفائح. أو ولا ذو بعد إلا ما تواريه. أو لا بعيد إلا ما تواريه، على أن المصدر بمعنى الوصف.
واستعمل «ما» في العاقل، لأن المراد بها الوصف. أو المراد بها الأجسام والأشباح مجردة عن الإدراكات والأرواح. والصفائح: أحجار عراض يسقف بها القبر، أى البعيد، حقيقته هو ما يستره القبر، كناية عن موته.
بضم الواو تشبيها لها بواو الجمع في قوله فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ. يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ إما أن يكون بدلا من سيحلفون، أو حالا بمعنى مهلكين. والمعنى: أنهم يوقعونها في الهلاك بحلفهم الكاذب وما يحلفون عليه من التخلف. ويحتمل أن يكون حالا من قوله لَخَرَجْنا أى لخرجنا معكم، وإن أهلكنا أنفسنا وألقيناها في التهلكة بما نحملها من المسير في تلك الشقة. وجاء به على لفظ الغائب، لأنه مخبر عنهم. ألا ترى أنه لو قيل: سيحلفون بالله لو استطاعوا لخرجوا، لكان سديدا. يقال: حلف بالله ليفعلنّ ولأفعلنّ، فالغيبة على حكم الإخبار، والتكلم على الحكاية.
[سورة التوبة (٩) : آية ٤٣]
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (٤٣)
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ كناية عن الجناية، لأنّ العفو رادف لها «١». ومعناه: أخطأت وبئس ما فعلت «٢». ولِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ بيان لما كنى عنه بالعفو. ومعناه: مالك أذنت لهم في القعود عن الغزو حين استأذنوك واعتلوا لك بعللهم وهلا استأنيت بالإذن حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ من صدق في عذره ممن كذب فيه. وقيل شيئان فعلهما رسول الله ﷺ ولم يؤمر بهما: إذنه للمنافقين وأخذه من الأسارى فعاتبه الله تعالى.
[سورة التوبة (٩) : آية ٤٤]
لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤)
لا يَسْتَأْذِنُكَ ليس من عادة المؤمنين «٣» أن يستأذنوك في أن يجاهدوا، وكان الخلص
(١). قال محمود: «هذا كناية عن الجناية، لأن العفو رادف لها... الخ» قال أحمد رحمه الله: ليس له أن يفسر هذه الآية بهذا التفسير، وهو بين أحد أمرين: إما أن لا يكون هو المراد. وإما أن يكون هو المراد، ولكن قد أجل الله نبيه الكريم عن مخاطبته بصريح العتب، وخصوصا في حق المصطفى عليه الصلاة والسلام، فالزمخشرى على كلا التقديرين ذاهل عما يجب من حقه عليه الصلاة والسلام. ولقد أحسن من قال في هذه الآية:
إن من لطف الله تعالى بنبيه أن بدأه بالعفو قبل العتب، ولو قال له ابتداء: لم أذنت لهم؟ لتفطر قلبه عليه الصلاة والسلام، فمثل هذا الأدب يجب احتذاؤه في حق سيد البشر عليه أفضل الصلاة والسلام.
(٢). قوله «ومعناه أخطأت وبئس ما فعلت» خاطب الله رسوله خطاب الرقة والرأفة، وفسره المصنف بخطاب الغلظة والقسوة، وشتان ما بينهما. (ع)
(٣). عاد كلامه. قال: وقوله لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ- إلى قوله- إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ... الآية قال: معناه ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوك في أن يجاهدوا... الخ» قال أحمد: وهذا الأدب يجب أن يقتفى مطلقا، فلا يليق بالمرء أن يستأذن أخاه في أن يسدى إليه معروفا، ولا بالمضيف أن يستأذن ضيفه في أن يقدم إليه طعاما، فإن الاستئذان في أمثال هذه المواطن أمارة التكلف والتكره، وصلوات الله على خليله وسلامه لقد بلغ من كرمه وأدبه مع ضيوفه، أنه كان لا يتعاطى شيأ من أسباب التهيؤ للضيافة بمرأى منهم، فلذلك مدحه الله تعالى على لسان رسوله ﷺ بهذه الخلة الجميلة والآداب الجليلة، فقال تعالى فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ أى ذهب على خفاء منهم كيلا يشعروا به، والمهتم بأمر ضيفه بمرأى منه ربما يعد كالمستأذن له في الضيافة، فهذا من الآداب التي ينبغي أن يتمسك بها ذوو المروءة وأولو الفتوة، وأشد من الاستئذان في الخروج للجهاد ونصرة الدين التثاقل عن المبادرة إليه بعد الحض عليه والمناداة، وأسوأ أحوال المتثاقل- وقد دعى الناس إلى الغزاة- أن يكون متمسكا بشعبة من النفاق نعوذ بالله من التعرض لسخطه.
من المهاجرين والأنصار يقولون: لا نستأذن النبي أبدا، ولنجاهدنّ أبدا معه بأموالنا وأنفسنا.
ومعنى أَنْ يُجاهِدُوا في أن يجاهدوا، أو كراهة أن يجاهدوا وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ شهادة لهم بالانتظام في زمرة المتقين، وعدة لهم بأجزل الثواب.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٤٥ الى ٤٨]
إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥) وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (٤٦) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (٤٨)
إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ يعنى المنافقين، وكانوا تسعة وثلاثين رجلا يَتَرَدَّدُونَ عبارة عن التحير، لأن التردّد ديدن المتحير، كما أنّ الثبات والاستقرار ديدن المستبصر. قرئ: عدّه، بمعنى عدّته، فعل بالعدّة ما فعل بالعدة من قال:
وَأَخْلَفُوكَ عِدَ الأَمْرِ الَّذِى وَعَدُوا «١»
من حذف تاء التأنيث، وتعويض المضاف إليه منها. وقرئ: عدّة، بكسر العين بغير إضافة، وعدّه بإضافة. فإن قلت: كيف موقع حرف الاستدراك؟ قلت: لما كان قوله وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ معطياً معنى نفى خروجهم واستعدادهم للغزو. قيل وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ كأنه قيل: ما خرجوا ولكن تثبطوا عن الخروج لكراهة انبعاثهم، كما تقول: ما أحسن إلىّ زيد، ولكن أساء إلىّ فَثَبَّطَهُمْ فكسلهم وخذلهم وضعف رغبتهم في الانبعاث وَقِيلَ اقْعُدُوا جعل إلقاء الله في قلوبهم كراهة الخروج أمراً بالقعود. وقيل: هو قول الشيطان
(١). مر شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ٣٢٣ فراجعه إن شئت اه مصححه
275
بالوسوسة. وقيل: هو قولهم لأنفسهم. وقيل: هو إذن رسول الله ﷺ لهم في القعود.
فإن قلت: كيف جاز أن يوقع الله تعالى في نفوسهم كراهة الخروج إلى الغزو وهي قبيحة، وتعالى الله عن إلهام القبيح «١» ؟ قلت: خروجهم كان مفسدة، لقوله لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا فكان إيقاع كراهة ذلك الخروج في نفوسهم حسناً ومصلحة. فإن قلت: فلم خطأ رسول الله ﷺ في الإذن لهم فيما هو مصلحة؟ قلت: لأنّ إذن رسول الله ﷺ لهم لم يكن للنظر في هذه المصلحة ولا علمها إلا بعد القفول بإعلام الله تعالى، ولكن لأنهم استأذنوه في ذلك واعتذروا إليه، فكان عليه أن يتفحص عن كنه معاذيرهم ولا يتجوّز في قبولها، فمن ثم أتاه العتاب. ويجوز أن يكون في ترك رسول الله ﷺ الإذن لهم مع تثبيط الله إياهم مصلحة أخرى، فبإذنه لهم فقدت تلك المصلحة، وذلك أنهم إذا ثبطهم الله فلم ينبعثوا وكان قعودهم بغير إذن من رسول الله ﷺ قامت عليهم الحجة ولم تبق لهم معذرة.
ولقد تدارك الله ذلك حيث هتك أستارهم وكشف أسرارهم وشهد عليهم بالنفاق، وأنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر. فإن قلت: ما معنى قوله مَعَ الْقاعِدِينَ؟ «٢» قلت: هو ذمّ لهم وتعجيز، وإلحاق بالنساء والصبيان والزمنى الذين شأنهم القعود والجثوم في البيوت، وهم القاعدون والخالفون والخوالف، ويبينه قوله تعالى رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ. إِلَّا خَبالًا ليس من الاستثناء المنقطع في شيء كما يقولون لأن الاستثناء المنقطع هو أن يكون المستثنى من غير جنس المستثنى منه، كقولك: ما زادوكم خيراً إلا خبالا، والمستثنى منه في هذا الكلام غير مذكور، وإذا لم يذكر وقع الاستثناء من أعم العام الذي هو الشيء، فكان استثناء متصلا، لأنّ الخبال بعض أعمّ العام، كأنه قيل: ما زادوكم شيئاً إلا خبالا. والخبال، الفساد والشرّ وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ ولسعوا بينكم بالتضريب «٣» والنمائم وإفساد ذات البين. يقال: وضع البعير وضعاً إذا أسرع وأوضعته أنا. والمعنى: ولأوضع ركائبهم بينكم، والمراد الإسراع بالنمائم، لأنّ الراكب أسرع من
(١). قال محمود: «إن قلت كيف جاز أن يوقع الله في نفوسهم كراهة الخروج للغزو... الخ» قال أحمد: وهذا الفصل من كلامه مبنى على قاعدتين فاسدتين: إيجاب مراعاة المصالح على الله تعالى، والتحسين والتقبيح. وقد تكرر بطلان ذلك فاحذره. واعلم أن معتقد أهل السنة أن الله تعالى ألقى كراهة الخروج في قلوبهم، لأنه أراد شقاوتهم، وانضاف إلى ذلك إرادة راحة المخلصين من مرافقتهم، إذ الأمر ليس شرطا في نفوذ المشيئة، والله الموفق. [.....]
(٢). عاد كلامه. قال: «فان قلت فما معنى قوله مع القاعدين... الخ» قال أحمد: وهذا من تنبيهاته الحسنة، ونزيده بسطاً فنقول: لو قيل اقعدوا مقتصراً عليه، لم يفد سوى أمرهم بالقعود، وكذلك: كونوا مع القاعدين، ولا تحصل هذه الفائدة مع إلحاقهم بهؤلاء الأصناف الموصوفين عند الناس بالتخلف والتقاعد، الموسومين بهذه السمة، إلا من عبارة الآية، ولعن الله فرعون: لقد بالغ في توعد موسى عليه السلام بقوله: لأجعلنك من المسجونين، ولم يقل: لأجعلنك مسجونا، لمثل هذه النكتة من المبالغة
(٣). قوله «بالتضريب» أى بالإغراء. (ع)
276
الماشي. وقرأ ابن الزبير رضى الله عنه: ولأرقصوا، من رقصت الناقة رقصاً إذا أسرعت وأرقصتها. قال:
وَالرَّاقِصَات إلَى مِنْى فَالغَبْغَبِ
وقرئ: ولأوفضوا. فإن قلت: كيف خطّ في المصحف: ولا أوضعوا، بزيادة ألف؟ قلت:
كانت الفتحة تكتب ألفاً قبل الخط العربي، والخط العربي اخترع قريباً من نزول القرآن، وقد بقي من ذلك الألف أثر في الطباع، فكتبوا صورة الهمزة ألفاً، وفتحتها ألفاً أخرى، ونحو:
أو لا أذبحنه. يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ يحاولون أن يفتنوكم. بأن يوقعوا الخلاف فيما بينكم ويفسدوا نياتكم في مغزاكم وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ أى نمامون يسماعون حديثكم فينقلونه إليهم. أو فيكم قوم يسماعون للمنافقين ويطيعونهم لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ أى العنت ونصب الغوائل والسعى في تشتيت شملك وتفريق أصحابك عنك، كما فعل عبد الله بن أبىّ يوم أحد حين انصرف بمن معه وعن ابن جريج رضى الله عنه: وقفوا لرسول الله ﷺ على الثنية ليلة العقبة وهم اثنا عشر رجلا ليفتكوا به مِنْ قَبْلُ من قبل غزوة تبوك وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ ودبروا لك الحيل والمكايد، ودوّروا الآراء في إبطال أمرك. وقرئ: وقلبوا بالتخفيف حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وهو تأييدك ونصرك وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وغلب دينه وعلا شرعه.
[سورة التوبة (٩) : آية ٤٩]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٤٩)
ائْذَنْ لِي في القعود وَلا تَفْتِنِّي ولا توقعني في الفتنة وهي الإثم، بأن لا تأذن لي فإنى إن تخلفت بغير إذنك أثمت. وقيل: ولا تلقني في الهلكة، فإنى إذا خرجت معك هلك مالى وعيالي وقيل: قال الجدّ بن قيس: قد علمت الأنصار أنى مستهتر بالنساء «١» فلا تفتني ببنات الأصفر، يعنى نساء الروم، ولكنى أعينك بمال فاتركنى. وقرئ: ولا تفتني، من أفتنه أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا أى إنّ الفتنة هي التي سقطوا فيها، وهي فتنة التخلف. وفي مصحف أبىّ رضى الله عنه: سقط، لأنّ «من» موحد اللفظ مجموع المعنى لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ يعنى أنها تحيط بهم يوم القيامة. أو هي محيطة بهم الآن، لأنّ أسباب الإحاطة معهم فكأنهم في وسطها.
[سورة التوبة (٩) : آية ٥٠]
إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (٥٠)
(١). قوله «إنى مستهتر» أى مولع لا أبالى بما يقال في شأنى انتهى. (ع)
إِنْ تُصِبْكَ في بعض الغزوات حَسَنَةٌ ظفر وغنيمة تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ نكبة وشدّة في بعضها نحو ما جرى في يوم أحد يفرحوا بحالهم في الانحراف عنك، ويَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا أى أمرنا الذي نحن متسمون به، من الحذر والتيقظ والعمل بالحزم مِنْ قَبْلُ من قبل ما وقع. وتولوا عن مقام التحدّث بذلك والاجتماع له إلى أهاليهم وَهُمْ فَرِحُونَ مسرورون. وقيل: تولوا: أعرضوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[سورة التوبة (٩) : آية ٥١]
قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (٥١)
قرأ ابن مسعود رضى الله عنه: قل هل يصيبنا. وقرأ طلحة رضى الله عنه: هل يصيبنا، بتشديد الياء. ووجهه أن يكون «يفيعل» لا «يفعل» لأنه من بنات الواو، كقولهم: الصواب، وصاب السهم يصوب، ومصاوب «١» في جمع مصيبة، فحق «يفعل» منه «يصوّب» ألا ترى إلى قولهم:
صوّب رأيه، إلا أن يكون من لغة من يقول: صاب السهم يصيب. ومن قوله «٢» أسهمى الصائبات والصيب، واللام في قوله إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا مفيدة معنى الاختصاص كأنه قيل: لن يصيبنا إلا ما اختصنا الله به بإثباته وإيجابه من النصرة عليكم أو الشهادة. ألا ترى إلى قوله هُوَ مَوْلانا أى الذي يتولانا ونتولاه، ذلك بأنّ الله مولى الذين آمنوا وأنّ الكافرين لا مولى لهم وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وحق المؤمنين أن لا يتوكلوا على غير الله، فليفعلوا ما هو حقهم.
[سورة التوبة (٩) : آية ٥٢]
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (٥٢)
إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ إلا إحدى العاقبتين اللتين كل واحدة منهما هي حسن العواقب، وهما النصرة والشهادة وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ إحدى السوأتين «٣» من العواقب، إمّا أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ وهو قارعة من السماء كما نزلت على عاد وثمود أَوْ بعذاب بِأَيْدِينا وهو القتل على الكفر فَتَرَبَّصُوا بنا ما ذكرنا من عواقبنا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ
(١). قوله «ومصاوب» في الصحاح: أجمعت العرب على همز المصائب، وأصله الواو كأنهم شبهوا الأصلى بالزائد، ويجمع أيضا على مصاوب، وهو الأصل. (ع)
(٢). قوله «ومن قوله» لعله: ومنه. أو لعله: ومنها. وفي الصحاح: صاب السهم القرطاس يصيبه صيبا لغة في أصابه. (ع)
(٣). قوله «إحدى السوأتين» لعله: السوأيين. (ع)
ما هو عاقبتكم، فلا بدّ أن يلقى كلنا ما يتربصه لا يتجاوزه
[سورة التوبة (٩) : آية ٥٣]
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (٥٣)
أَنْفِقُوا يعنى في سبيل الله ووجوه البر طَوْعاً أَوْ كَرْهاً نصب على الحال، أى طائعين أو مكرهين. فإن قلت: كيف أمرهم بالإنفاق ثم قال لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ؟ قلت: هو أمر في معنى الخبر، كقوله تبارك وتعالى قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا ومعناه: لن يتقبل منكم أنفقتم طوعاً أو كرهاً. ونحوه قوله تعالى اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ وقوله:
أسِيئِى بِنَا أوْ أحْسِنِى لَا مَلُومَةً «١»
أى لن يغفر الله لهم، استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم. ولا نلومك- أسأت إلينا أم أحسنت.
فإن قلت: متى يجوز نحو هذا؟ قلت: إذا دلّ الكلام عليه كما جاز عكسه في قولك رحم الله زيداً وغفر له. فإن قلت: لم فعل ذلك؟ قلت: لنكتة فيه، وهي أنّ كثيرا كأنه يقول لعزة: امتحنى لطف محلك عندي وقوّة محبتي لك، وعاملينى بالاساءة. والإحسان، وانظري هل بتفاوت حالى معك مسيئة كنت أو محسنة؟ وفي معناه قول القائل:
أخُوكَ الَّذِى إنْ قُمْتَ بِالسَّيْفِ عَامِدا لِتَضْرِبَهُ لَمْ يَسْتَفِثَّكَ فِى الْوَدِّ «٢»
وكذلك المعنى: أنفقوا وانظروا هل يتقبل منكم؟ واستغفر لهم أو لا تستغفر لهم، وانظر هل ترى اختلافا بين حال الاستغفار وتركه؟ فإن قلت: ما الغرض في نفى التقبل؟ أهو ترك رسول الله ﷺ تقبله منهم وردّه عليهم ما يبذلون منه؟ أم هو كونه غير مقبول
(١).
أسيئى بنا أو أحسنى لا ملومة لدينا ولا مقلية إن تقلت
لكثير صاحب عزة، يقول: امتحنيني في المحبة، وعاملينى بالاساءة والإحسان، وانظري هل يتغير حالى، وافعلي ما يجبرك زوجك عليه من شتمي، كما يأتى في كلامه، ولا تتحرجى عنه فانه مثل إحسانك، ولهذا ذكر الإحسان والمعنى: لا لوم ولا بغض، سواء أسأت أو أحسنت، فالأمر بمعنى الخبر، ثم التفت وقال: ليست عزة ملومة عندنا ولا مبغضة إن تبغضت، أى تكلفت البغض لنا وأظهرته. ويجوز أن المعنى: لا ملومة أنت ولا مقلية، فالالتفات في قوله «إن تبغضت، فقط.
(٢).
أخوك الذي إن قمت بالسيف عامداً لتضربه لم يستفثك في الود
ولو جئت تبغى كنفه لتبيتها تبادر إشفاقا عليك من الرد
يرى أنه في الود وان مقصر على أنه قد زاد فيه عن الجهد
روى يستفشك «بالشين بدل الثاء. والمعنى متقارب. والسين والتاء للعد، أى لم يعدك خائنا مضراً. وتبينها تقطعها. والإشفاق: الخوف. والوانى: المتوانى. يقول: إن أخاك الصدق هو الذي لو قصدته بالمكاره لم يعدها غشا منك في المودة، بل يبادرك بكل ما طلبته خوفا عليك من أذى المنع، يظن أو يعتقد أنه مقصر في الود، مع أنه جاوز فيه الحد، وتكلف غير طاقته.
عند الله تعالى ذاهباً هباء لا ثواب له؟ قلت: يحتمل الأمرين جميعاً. وقوله طَوْعاً أَوْ كَرْهاً معناه طائعين من غير إلزام من الله ورسوله، أو ملزمين. وسمى الإلزام إكراها، لأنهم منافقون، فكان إلزامهم الإنفاق شاقا عليهم كالإكراه. أو طائعين من غير إكراه من رؤسائكم، لأنّ رؤساء أهل النفاق كانوا يحملون على الإنفاق لما يرون من المصلحة فيه، أو مكرهين من جهتهم. وروى أنها نزلت في الجدّ بن قيس حين تخلف عن غزوة تبوك وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا مالى أعينك به فاتركنى إِنَّكُمْ تعليل لردّ إنفاقهم. والمراد بالفسق:
التمرّد والعتو.
[سورة التوبة (٩) : آية ٥٤]
وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (٥٤)
أَنَّهُمْ فاعل منع. وهم، وأن تقبل: مفعولاه. وقرئ: أن تقبل، بالتاء والياء على البناء للمفعول. ونفقاتهم، ونفقتهم، على الجمع والتوحيد. وقرأ السلمى: أن يقبل منهم نفقاتهم، على أن الفعل لله عزّ وجلّ كُسالى بالضم والفتح، جمع كسلان، نحو سكارى وغيارى، في جمع سكران وغيران، وكسلهم لأنهم لا يرجون بصلاتهم ثوابا، ولا يخشون بتركها عقابا فهي ثقيلة عليهم كقوله تعالى وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ وقرأت في بعض الأخبار أنّ رسول الله ﷺ كره للمؤمن أن يقول: كسلت، كأنه ذهب إلى هذه الآية، فإنّ الكسل من صفات المنافقين، فما ينبغي أن يسنده المؤمن إلى نفسه. فإن قلت: الكراهية خلاف الطواعية، وقد جعلهم الله تعالى طائعين في قوله طَوْعاً ثم وصفهم بأنهم لا ينفقون إلا وهم كارهون. قلت:
المراد بطوعهم أنهم يبذلونه من غير إلزام من رسول الله ﷺ أو من رؤسائهم، وما طوعهم ذاك إلا عن كراهية واضطرار، لا عن رغبة واختيار.
[سورة التوبة (٩) : آية ٥٥]
فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٥٥)
الإعجاب بالشيء: أن يسرّ به سرور راض به متعجب من حسنه. والمعنى: فلا تستحسن ولا تفتنن بما أوتوا من زينة الدنيا، كقوله تعالى وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ فإن الله تعالى إنما أعطاهم ما أعطاهم للعذاب، بأن عرّضه للتغنم والسبي، وبلاهم فيه بالآفات والمصائب، وكلفهم الإنفاق منه في أبواب الخير، وهم كارهون له على رغم أنوفهم، وأذاقهم أنواع الكلف
والمجاشم في جمعه واكتسابه وفي تربية أولادهم. فإن قلت: إن صح تعليق التعذيب «١» بإرادة الله تعالى، فما بال زهوق أنفسهم وَهُمْ كارِهُونَ؟ قلت: المراد الاستدراج بالنعم، كقوله تعالى إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً كأنه قيل: ويريد أن يديم عليهم نعمته إلى أن يموتوا وهم كافرون، ملتهون بالتمتع عن النظر للعاقبة.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٥٦ الى ٥٧]
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧)
لَمِنْكُمْ لمن جملة المسلمين يَفْرَقُونَ يخافون القتل وما يفعل بالمشركين، فيتظاهرون بالإسلام تقية مَلْجَأً مكاناً يلتجئون إليه متحصنين به من رأس جبل أو قلعة أو جزيرة أَوْ مَغاراتٍ أو غيرانا. وقرئ بضم الميم، من أغار الرجل وغار إذا دخل الغور. وقيل:
هو تعدية غار الشيء وأغرته أنا، يعنى: أمكنة يغيرون فيها أشخاصهم. ويجوز أن يكون من:
أغار الثعلب، إذا أسرع، بمعنى مهارب ومفارّ أَوْ مُدَّخَلًا أو نفقا يندسون فيه وينجحرون، وهو مفتعل من الدخول. وقرئ مدخلا من دخل، ومدخلا من أدخل: مكانا يدخلون فيه أنفسهم. وقرأ أبى بن كعب رضى الله عنه: متدخلا وقرئ: لو ألوا إليه لالتجؤا إليه يَجْمَحُونَ يسرعون إسراعا لا يردّهم شيء، من الفرس الجموح، وهو الذي إذا حمل لم يردّه اللجام. وقرأ أنس رضى الله عنه: يجمزون. فسئل فقال: يجمحون ويجمزون ويشتدّون «٢» واحد.
[سورة التوبة (٩) : آية ٥٨]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨)
يَلْمِزُكَ يعيبك في قسمة الصدقات ويطعن عليك. قيل: هم المؤلفة قلوبهم. وقيل هو ابن ذى الخويصرة رأس الخوارج، كان رسول الله ﷺ يقسم غنائم حنين فقال:
اعدل يا رسول الله، فقال صلوات الله عليه وسلامه «ويلك إن لم أعدل فمن يعدل؟ «٣» وقيل:
هو أبو الجواظ، من المنافقين، قال: ألا ترون إلى صاحبكم! إنما يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم،
(١). قوله «فان قلت إن صح تعليق... الخ» مبنى على أنه تعالى لا يريد الشر، وهو مذهب المعتزلة. وعند أهلى السنة: أنه يريده كالخير. (ع)
(٢). قوله «ويجمزون ويشتدون» فيقال: جمز بالجيم يجمز بالكسر: أسرع، وحمز بالحاء يحمز يضمها:
اشتد اه صحاح فتدبر. (ع)
(٣). متفق عليه من حديث أبى سعيد واللفظ للبخاري. ولهما: «إذ جاء ذو الخويصرة» وهو المحفوظ
وهو يزعم أنه يعدل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أبالك أما كان موسى راعياً أما كان داود راعياً» فلما ذهب قال عليه الصلاة والسلام «احذروا هذا وأصحابه فإنهم منافقون» »
وقرئ: يلمزك بالضم، ويلمزك ويلامزك. التثقيل والبناء على المفاعلة مبالغة في اللمز.
ثم وصفهم بأن رضاهم وسخطهم لأنفسهم، لا للدين وما فيه صلاح أهله، لأن رسول الله ﷺ استعطف قلوب أهل مكة يومئذ بتوفير الغنائم عليهم فضجر المنافقون منه. وإذا للمفاجأة: أى وإن لم يعطوا منها فاجئوا للسخط.
[سورة التوبة (٩) : آية ٥٩]
وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (٥٩)
جواب «لو» محذوف تقديره: ولو أنهم رضوا لكان خيراً لهم. والمعنى: ولو أنهم رضوا ما أصابهم به الرسول من الغنيمة وطابت به نفوسهم وإن قلّ نصيبهم وقالوا كفانا فضل الله وصنعه، وحسبنا ما قسم لنا سيرزقنا الله غنيمة أخرى فيؤتينا رسول الله ﷺ أكثر مما آتانا اليوم إِنَّا إِلَى اللَّهِ في أن يغنمنا ويخولنا فضله لراغبون.
[سورة التوبة (٩) : آية ٦٠]
إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠)
إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ قصر لجنس الصدقات على الأصناف المعدودة وأنها مختصة بها «٢» لا يتجاوزها إلى غيرها، كأنه قيل: إنما هي لهم لا لغيرهم. ونحوه قولك. إنما الخلافة لقريش. تريد لا تتعداهم ولا تكون لغيرهم فيحتمل أن تصرف إلى الأصناف كلها وأن تصرف إلى بعضها، وعليه مذهب أبى حنيفة رضى الله عنه. وعن حذيفة وابن عباس وغيرهما من الصحابة والتابعين رضى الله عنهم أنهم قالوا: في أى صنف منها وضعتها أجزأك. وعن سعيد بن جبير رضى الله عنه: لو نظرت إلى أهل بيت من المسلمين فقراء متعففين فأبرتهم بها
(١). لم أجده.
(٢). قال محمود: «هذا قصر لجنس الصدقات على الأصناف المعدودة وأنها مختصة بها الخ» قال أحمد: وهو مذهب مالك رضى الله عنه، والقول بوجوب صرفها إلى جميع الأصناف حتى لا يجوز ترك صنف واحد منها أخذا من إشعار اللام بالتمليك كما ذهب إليه الشافعي لا يساعده السياق فان الآية مصدرة بكلمة الحصر الدالة على أن غيرهم لا يستحق فيها نصيباً فهذا هو الغرض الذي سبقت له فلا اقتضاء فيها لما سواء والله أعلم.
282
كان أحب إلىّ. وعند الشافعىّ رضى الله عنه، لا بدّ من صرفها إلى الأصناف الثمانية. وعن عكرمة رضى الله عنه. أنها تفرّق في الأصناف الثمانية. وعن الزهري أنه كتب لعمر ابن عبد العزيز تفريق الصدقات على الأصناف الثمانية وَالْعامِلِينَ عَلَيْها السعاة الذين يقبضونها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ أشراف من العرب كان رسول الله ﷺ يستألفهم على أن يسلموا فيرضخ لهم شيئاً منها حين كان في المسلمين قلة. والرقاب: المكاتبون يعانون منها. وقيل:
الأسارى. وقيل: تبتاع الرقاب فتعتق وَالْغارِمِينَ الذين ركبتهم الديون ولا يملكون بعدها ما يبلغ النصاب. وقيل الذين تحملوا الحمالات فتداينوا فيها وغرموا وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ فقراء الغزاة والحجيج المنقطع بهم وَابْنِ السَّبِيلِ المسافر المنقطع عن ماله فهو فقير حيث هو غنىّ حيث ماله فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ في معنى المصدر المؤكد، لأنّ قوله إنما الصدقات للفقراء معناه فرض الله الصدقات لهم. وقرئ فريضة بالرفع على: تلك فريضة. فإن قلت: لم عدل عن اللام إلى «في» في الأربعة الأخيرة «١» ؟ قلت: للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره، لأنّ «في» للوعاء، فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات ويجعلوا مظنة لها ومصباً، وذلك لما في فك الرقاب من الكتابة أو الرق أو الأسر، وفي فك الغارمين من الغرم من التخليص والإنقاذ، ولجمع الغازي الفقير أو المنقطع في الحج بين الفقر والعبادة، وكذلك ابن السبيل جامع بين الفقر والغربة عن الأهل والمال، وتكرير «في» في قوله وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فيه فضل ترجيح لهذين على الرقاب والغارمين. فإن قلت: فكيف وقعت هذه الآية في تضاعف ذكر المنافقين ومكايدهم؟ قلت: دل بكون هذه الأصناف مصارف
(١). عاد كلامه. قال: فان قلت لم عدل عن اللام إلى في في الأربعة الأخيرة... الخ» قال أحمد: وثم سر آخر هو أظهر وأقرب وذلك أن الأصناف الأربعة الأوائل ملاك لما عساه يدفع إليهم، وإنما يأخذونه ملكا، فكان دخول اللام لائقا بهم. وأما الأربعة الأواخر فلا يملكون ما يصرف نحوهم، بل ولا يصرف إليهم. ولكن في مصالح تتعلق بهم، فالمال الذي يصرف في الرقاب إنما يتناوله السادة المكاتبون والبائعون، فليس نصيبهم مصروفا إلى أيديهم حتى يعبر عن ذلك باللام المشعرة بتملكهم لما يصرف نحوهم، وإنما هم محال لهذا الصرف والمصلحة المتعلقة به، وكذلك العاملون إنما يصرف نصيبهم لأرباب ديونهم تخليصاً لذممهم لا لهم. وأما سبيل الله فواضح فيه ذلك. وأما ابن السبيل فكأنه كان مندرجا في سبيل الله، وإنما أفرد بالذكر تنبيها على خصوصيته، مع أنه مجرد من الحرفين جميعاً، وعطفه على المجرور باللام ممكن، ولكنه على القريب منه أقرب والله أعلم. وكان جدي أبو العباس أحمد بن فارس الفقيه الوزير استنبط من تغاير الحرفين المذكورين وجها في الاستدلال لما لك على أن الغرض بيان المصرف، واللام لذلك لام الملك، فيقول: متعلق الجار الواقع خبرا عن الصدقات محذوف، فيتعين تقديره، فاما أن يكون التقدير: إنما الصدقات مصروفة لفقراء، كقول مالك: أو مملوكة للفقراء، كقول الشافعي، لكن الأول متعين، لأنه تقدير يكتفى به في الحرفين جميعاً يصح تعلق اللام به وفي معا، فيصح أن تقول: هذا الشيء مصروف في كذا وكذا، بخلاف تقديره مملوكة، فانه إنما يلتئم مع اللام، وعند الانتهاء إلى «في» يحتاج إلى تقدير مصروفة ليلتئم بها، فتقديره من اللام عام التعلق، شامل الصحة، متعين، والله الموفق. [.....]
283
الصدقات خاصة دون غيرهم على أنهم ليسوا منهم، حسما لأطماعهم وإشعاراً باستيجابهم الحرمان، وأنهم بعداء عنها وعن مصارفها، فما لهم وما لها؟ وما سلطهم على التكلم فيها ولمز قاسمها صلوات الله عليه وسلامه؟.
[سورة التوبة (٩) : آية ٦١]
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦١)
الأذن: الرجل الذي يصدق كل ما يسمع «١» ويقبل قول كل أحد، سمى بالجارحة التي هي آلة السماع، كأنّ جملته أذنٌ سامعة، ونظيره قولهم للربيئة «٢». عين. وإيذاؤهم له: هو قولهم فيه هُوَ أُذُنٌ. وأذن خير، كقولك: رجل صدق، تريد الجودة والصلاح. كأنه قيل: نعم هو أذن ولكن نعم الأذن. ويجوز أن يريد: هو أذن في الخير والحق وفيما يجب سماعه وقبوله، وليس بأذن في غير ذلك ودلّ عليه قراءة حمزة وَرَحْمَةٌ بالجرّ عطفاً عليه أى: هو أذن خير ورحمة لا يسمع غيرهما ولا يقبله. ثم فسر كونه أذن خير بأنه يصدق بالله، لما قام عنده من الأدلة ويقبل من المؤمنين الخلص من المهاجرين والأنصار، وهو رحمة لمن آمن منكم، أى أظهر الإيمان أيها المنافقون حيث يسمع منكم ويقبل إيمانكم الظاهر، ولا يكشف أسراركم ولا يفضحكم، ولا يفعل بكم ما يفعل بالمشركين، مراعاة لما رأى الله من المصلحة في الإبقاء عليكم، فهو أذن كما قلتم، إلا أنه أذن خير لكم لا أذن سوء فسلم لهم قولهم فيه، لا أنه فسر بما هو مدح له وثناء عليه، وإن كانوا قصدوا به المذمّة والتقصير بفطنته وشهامته، وأنه من أهل سلامة القلوب والغرّة.
وقيل: إنّ جماعة منهم ذمّوه صلوات الله عليه وسلامه وبلغه ذلك، فاشتغلت قلوبهم فقال بعضهم:
لا عليكم، فإنما هو أذن سامعة قد سمع كلام المبلغ فأذن، ونحن نأتيه ونعتذر إليه فيسمع عذرنا أيضاً فيرضى، فقيل: هو أذن خير لكم. وقرئ: أذن خير لكم، على أن أذن خبر مبتدإ محذوف، وخير كذلك، أى هو أذن هو خير لكم يعنى إن كان كما تقولون فهو خير لكم، لأنه يقبل
(١). قال محمود: «الأذن: الرجل الذي يصدق كل ما يسمع... سمى الرجل بالجارحة التي هي آلة السماع...
الخ»
قال أحمد: لا شيء أبلغ من الرد عليهم بهذا الوجه لأنه في الأول إطماع لهم بالموافقة، ثم كر على طمعهم بالحسم واعقبهم في تنقصه باليأس منه، ويضاهي هذا من مستعملات الفقهاء: القول بالموجب، لأن في أوله إطماعا للحصم بالتسليم، ثم بتا الطمع على قرب، ولا شيء أقطع من الاطماع ثم اليأس يتلوه ويعقبه، والله الموفق.
(٢). قوله «الربيئة» في الصحاح: الربيئة الطليعة. (ع)
معاذيركم ولا يكافئكم على سوء دخلتكم «١». وقرأ نافع بتخفيف الذال. فإن قلت: لم عدّى فعل الإيمان بالباء إلى الله تعالى، وإلى المؤمنين باللام؟ قلت: لأنه قصد التصديق بالله الذي هو نقيض الكفر به، فعدّى بالباء وقصد السماع من المؤمنين، وأن يسلم لهم ما يقولونه ويصدّقه، لكونهم صادقين عنده، فعدّى باللام ألا ترى إلى قوله وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ ما أنبأه «٢» عن الباء. ونحوه: فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ، أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ، آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ. فإن قلت: ما وجه قراءة ابن أبى عبلة: ورحمة بالنصب؟ قلت: هي علة معللها محذوف تقديره: ورحمة لكم يأذن لكم، فحذف لأنّ قوله أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يدل عليه.
[سورة التوبة (٩) : آية ٦٢]
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢)
لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ الخطاب للمسلمين وكان المنافقون يتكلمون بالمطاعن أو يتخلفون عن الجهاد، ثم يأتونهم فيعتذرون إليهم ويؤكدون معاذيرهم بالحلف ليعذروهم ويرضوا عنهم، فقيل لهم: إن كنتم مؤمنين كما تزعمون فأحق من أرضيتم الله ورسوله بالطاعة والوفاق. وإنما وحد الضمير لأنه لا تفاوت بين رضا الله ورضا رسوله صلى الله عليه وسلم، فكانا في حكم مرضىّ واحد، كقولك: إحسان زيد وإجماله نعشنى وجبر منى. أو والله أحق أن يرضوه، ورسوله كذلك.
[سورة التوبة (٩) : آية ٦٣]
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (٦٣)
المحادّة مفاعلة من الحدّ كالمشاقة من الشقّ فَأَنَّ لَهُ على حذف الخبر، أى. فحق أن له نارَ جَهَنَّمَ وقيل. معناه فله، وأنّ: تكرير، لأن في قوله أَنَّهُ تأكيداً، ويجوز أن يكون فَأَنَّ لَهُ معطوفا على أنه، على أن جواب مَنْ محذوف تقديره: ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله يهلك فأن له نار جهنم. وقرئ: ألم تعلموا بالتاء
(١). قوله «على سوء دخلتكم» أى مذمتكم. وفي الصحاح أن دخلة الرجل بالضم: باطن أمره اه، ولعلها غلبت في المذمة. (ع)
(٢). قوله «ما أنباه عن الباء ونحوه» أى: ما أبعده. (ع)

[سورة التوبة (٩) : آية ٦٤]

يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (٦٤)
كانوا يستهزؤن بالإسلام وأهله وكانوا يحذرون أن يفضحهم الله بالوحي فيهم، حتى قال بعضهم: والله لا أرانا إلا شر خلق الله، لوددت أنى قدمت فجلدت مائة جلدة، وأن لا ينزل فينا شيء يفضحنا. والضمير في عليهم وتنبئهم للمؤمنين. وفي قلوبهم: للمنافقين. وصحّ ذلك لأن المعنى يقود إليه. ويجوز أن تكون الضمائر للمنافقين، لأن السورة إذا نزلت في معناهم فهي نازلة عليهم. ومعنى تنبئهم بما في قلوبهم، كأنها تقول لهم: في قلوبكم كيت وكيت، يعنى أنها تذيع أسرارهم عليهم حتى يسمعوها مذاعة منتشرة فكأنها تخبرهم بها. وقيل: معنى يحذر:
الأمر بالحذر، أى ليحذر المنافقون. فإن قلت: الحذر واقع على إنزال السورة في قوله:
يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ فما معنى قوله مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ؟ قلت: معناه محصل مبرز إنزال السورة. أو أنّ الله مظهر ما كنتم تحذرونه، أى تحذرون إظهاره من نفاقكم.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٦٥ الى ٦٦]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (٦٥) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٦٦)
بينا رسول الله ﷺ يسير في غزوة تبوك وركب من المنافقين يسيرون بين يديه فقالوا: انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتتح قصور الشأم وحصونه، هيهات هيهات، فأطلع الله نبيه عليه السلام على ذلك فقال: احبسوا علىّ الركب، فأتاهم فقال: قلتم كذا وكذا، فقالوا:
يا نبى الله لا والله ما كنا في شيء من أمرك ولا من أمر أصحابك، ولكن كنا في شيء مما يخوض فيه الركب ليقصر بعضنا على بعض السفر «١» أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ لم يعبأ باعتذارهم لأنهم كانوا كاذبين فيه، فجعلوا كأنهم معترفون باستهزائهم، وبأنه موجود منهم، حتى وبخوا بأخطائهم موقع الاستهزاء، حيث جعل المستهزأ به يلي حرف التقرير، وذلك إنما يستقيم بعد وقوع الاستهزاء وثبوته لا تَعْتَذِرُوا لا تشتغلوا باعتذاراتكم الكاذبة، فإنها لا تنفعكم بعد ظهور سركم قَدْ كَفَرْتُمْ قد ظهر كفركم باستهزائكم بَعْدَ إِيمانِكُمْ يعد إظهاركم الإيمان إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ بإحداثهم التوبة وإخلاصهم الإيمان بعد النفاق نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ
(١). ذكره الواحدي عن قتادة بغير سند، ووصله الطبري.
مصرين على النفاق غير تائبين منه. أو إن نعف عن طائفة منكم لم يؤذوا رسول الله ﷺ ولم يستهزءوا فلم نعذبهم في العاجل، نعذب في العاجل طائفة بأنهم كانوا مجرمين مؤذين لرسول الله ﷺ مستهزئين. وقرأ مجاهد: إن تعف عن طائفة على البناء للمفعول مع التأنيث، والوجه التذكير، لأن المسند إليه الظرف، كما تقول: سير بالدابة، ولا تقول: سيرت بالدابة، ولكنه ذهب إلى المعنى، كأنه قيل: إن ترحم طائفة «فأنث لذلك وهو غريب، والجيد قراءة العامّة: إن يعف عن طائفة، بالتذكير. وتعذب طائفة، بالتأنيث. وقرئ: إن يعف عن طائفة يعذب طائفة، على البناء للفاعل وهو الله عزّ وجل.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٦٧ الى ٦٨]
الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٦٧) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٦٨)
بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أريد به نفى أن يكونوا من المؤمنين، وتكذيبهم في قولهم وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وتقرير قوله وَما هُمْ مِنْكُمْ ثم وصفهم بما يدل على مضادّة حالهم لحال المؤمنين يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ بالكفر والمعاصي وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ عن الإيمان والطاعات وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ شحا بالمبارّ والصدفات والإنفاق في سبيل الله نَسُوا اللَّهَ أغفلوا ذكره فَنَسِيَهُمْ فتركهم من رحمته وفضله هُمُ الْفاسِقُونَ هم الكاملون في الفسق الذي هو التمرد في الكفر والانسلاخ عن كل خير، وكفى المسلم زاجراً أن يلم بما يكسبه هذا الاسم الفاحش الذي وصف الله به المنافقين حين بالغ في ذمهم، وإذا كره رسول الله ﷺ للمسلم أن يقول كسلت «١»
، لأن المنافقين وصفوا بالكسل في قوله كُسالى
فما ظنك بالفسق خالِدِينَ فِيها مقدّرين الخلود هِيَ حَسْبُهُمْ دلالة على عظم عذابها، وأنه لا شيء أبلغ منه، وأنه بحيث لا يزاد عليه، نعوذ بالله من سخطه وعذابه وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وأهانهم من التعذيب، وجعلهم مذمومين ملحقين بالشياطين الملاعين، كما عظم أهل الجنة وألحقهم بالملائكة «٢» المكرمين وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ ولهم نوع من العذاب سوى الصلى بالنار، مقيم دائم كعذاب النار. ويجوز أن يريد:
(١). تقدم في أواخر البقرة.
(٢). قوله «وألحقهم بالملائكة» مبنى على مذهب المعتزلة، من تفضيل الملك على البشر. (ع)
ولهم عذاب مقيم معهم في العاجل لا ينفكون عنه، وهو ما يقاسونه من تعب النفاق، والظاهر المخالف للباطن، خوفا من المسلمين وما يحذرونه أبدأ من الفضيحة ونزول العذاب إن اطلع على أسرارهم.
[سورة التوبة (٩) : آية ٦٩]
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٩)
الكاف محلها رفع على: أنتم مثل الذين من قبلكم. أو نصب على: فعلتم مثل ما فعل الذين من قبلكم وهو أنكم استمتعتم وخضتم كما استمتعوا وخاضوا. ونحوه قول النمر:
كَالْيَوْمِ مَطْلُوباً وَلَا طَلبَا «١»
بإضمار «لم أر» وقوله كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً تفسير لتشبيههم بهم، وتمثيل فعلهم بفعلهم.
والخلاق: النصيب، وهو ما خلق للإنسان، أى قدّر من خير، كما قيل له «قسم» لأنه قسم.
ونصيب، لأنه نصب، أى أثبت. والخوض: الدخول في الباطل واللهو كَالَّذِي خاضُوا كالفوج الذي خاضوا، وكالخوض الذي خاضوه. فإن قلت: أى فائدة في قوله فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ وقوله كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ مغن عنه كما أغنى قوله كَالَّذِي خاضُوا عن أن يقال: وخاضوا فخضتم كالذي خاضوا؟ قلت: فائدته أن يذم الأوّلين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا ورضاهم بها، والتهائهم بشهواتهم الفانية عن النظر في العاقبة وطلب الفلاح في الآخرة، وأن يخسس أمر الاستمتاع ويهجن أمر الرضى به، ثم يشبه بعد ذلك حال المخاطبين بحالهم، كما تريد أن تنبه بعض الظلمة على سماجة فعله فتقول: أنت مثل فرعون، كان يقتل بغير جرم ويعذب ويعسف وأنت تفعل مثل فعله. وأما وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا فمعطوف على ما قبله مستند إليه مستغن
(١).
حتى إذا الكلاب قال لها كاليوم مطلوباً ولا طلباً
لأوس بن حجر. وقيل: للنمر بن تولب، وفيه حذف لا يستقيم إلا به، أى قال لها: لم أنظر كاليوم مطلوباً، والضمير لكلبة الصيد. والكلاب: معلم الكلاب أو الصياد بها، أى ليس المطلوب والطلب في هذا اليوم مثلهما في غيره بل أعظم، ولعل المراد بالطلب الطالب، ثم يحتمل أن هذا مقول القول، ويحتمل أنه جواب إذا ومقول القول محذوف، إشارة إلى سرعتها: أى قال لها: اذهبي مثلا.
باستناده إليه عن تلك التقدمة حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ نقيض قوله وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ.
[سورة التوبة (٩) : آية ٧٠]
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٧٠)
وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وأهل مدين وهم قوم شعيب وَالْمُؤْتَفِكاتِ مدائن قوم لوط. وقيل:
قريات قوم لوط وهود وصالح، وائتفاكهنّ: انقلاب أحوالهنّ عن الخير إلى الشر فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ فما صحّ منه أن يظلمهم وهو حكيم لا يجوز عليه القبيح وأن يعاقبهم بغير جرم، ولكن ظلموا أنفسهم حيث كفروا به فاستحقوا عقابه.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٧١ الى ٧٢]
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٧١) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢)
بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ في مقابلة قوله في المنافقين بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ. سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ السين مفيدة وجود الرحمة لا محالة، فهي تؤكد الوعد، كما تؤكد الوعيد في قولك: سأنتقم منك يوماً، تعنى أنك لا تفوتني وإن تباطأ ذلك، ونحوه سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا، وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى، سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ. عَزِيزٌ غالب على كل شيء قادر عليه، فهو يقدر على الثواب والعقاب حَكِيمٌ واضع كلا موضعه على حسب الاستحقاق وَمَساكِنَ طَيِّبَةً عن الحسن قصوراً من اللؤلؤ والياقوت الأحمر والزبرجد. وعَدْنٍ علم، بدليل قوله جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ ويدل عليه ما روى أبو الدرداء رضى الله عنه عن رسول الله ﷺ «عدن دار الله التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر، لا يسكنها غير ثلاثة: النبيون، والصدّيقون، والشهداء. يقول الله تعالى: طوبى لمن دخلك» «١» وقيل: هي مدينة
(١). أخرجه البزار من طريق زيادة بن محمد عن محمد بن كعب القرظي عن فضالة بن عبيد عنه، وقال: لا نعلمه إلا من هذا الوجه وزيادة لا يعلم وروى عنه غير الليث وأخرجه الطبراني والدارقطني في المؤتلف وابن مردويه من هذا الوجه.
في الجنة. وقيل: نهر جناته على حافاته وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ وشيء من رضوان الله أكبر من ذلك كله، لأنّ رضاه هو سبب كل فوز وسعادة، ولأنهم ينالون برضاه عنهم تعظيمه وكرامته، والكرامة أكبر أصناف الثواب، ولأن العبد إذا علم أن مولاه راض عنه فهو أكبر في نفسه مما وراءه من النعم، وإنما تتهنأ له برضاه، كما إذا علم بسخطته تنغصت عليه ولم يجد لها لذة وإن عظمت. وسمعت بعض أولى الهمة البعيدة والنفس المرّة «١» من مشايخنا يقول: لا تطمح عينى ولا تنازع نفسي إلى شيء مما وعد الله في دار الكرامة، كما تطمح وتنازع إلى رضاه عنى، وأن أحشر في زمرة المهديين المرضيين عنده ذلِكَ إشارة إلى ما وعد الله، أو إلى الرضوان:
أى هو الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وحده دون ما يعدّه الناس فوزاً. وروى «أن الله عز وجلّ يقول لأهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك، فيقول:
أنا أعطيكم أفضل من ذلك؟ قالوا: وأى شيء أفضل من ذلك؟ قال: أُدخل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا»
«٢»
[سورة التوبة (٩) : آية ٧٣]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣)
جاهِدِ الْكُفَّارَ بالسيف وَالْمُنافِقِينَ بالحجة «٣» وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ في الجهادين جميعاً، ولا تحابهم وكل من وقف منه على فساد في العقيدة فهذا الحكم ثابت فيه، يجاهد بالحجة، وتستعمل معه الغلظة ما أمكن منها. عن ابن مسعود: إن لم يستطع بيده فبلسانه، فإن لم يستطع فليكفهرّ في وجهه «٤» فإن لم يستطع فبقلبه «٥». يريد الكراهة والبغضاء والتبرأ منه. وقد حمل الحسن جهاد المنافقين على إقامة الحدود عليهم إذا تعاطوا أسبابها.
[سورة التوبة (٩) : آية ٧٤]
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٧٤)
(١). قوله «والنفس المرة» أى القوية الشديدة العقل، من المرة بالكسر، وهي القوة وشدة العقل، كما في الصحاح. (ع)
(٢). متفق عليه من حديث أبى سعيد.
(٣). قال محمود: «معناه جاهد الكفار بالسيف والمنافقين بالحجة... الخ» قال أحمد: والحمد لله الذي أنطقه بالحجة لنا في إغلاظنا عليه أحيانا، والله الموفق.
(٤). قوله «فليكفهر في وجهه» في الصحاح «اكفهر الرجل» إذا عبس. (ع)
(٥). أخرجه الطبري وابن مردويه من رواية عمرو بن أبى جندب عنه. [.....]
290
أقام رسول الله ﷺ في غزوة تبوك شهرين ينزل عليه القرآن، ويعيب المنافقين المتخلفين فيسمع من معه منهم، منهم الجلاس بن سويد. فقال الجلاس: والله لئن كان ما يقول محمد حقاً لإخواننا الذين خلفناهم وهم ساداتنا وأشرافنا، فنحن شر من الحمير. فقال عامر بن قيس الأنصارى للجلاس: أجل، والله إنّ محمداً لصادق وأنت شرّ من الحمار. وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستحضر فحلف بالله ما قال: فرفع عامر يده فقال: اللهم أنزل على عبدك ونبيك تصديق الكاذب وتكذيب الصادق «١» فنزلت يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا فقال الجلاس:
يا رسول الله، لقد عرض الله علىّ التوبة. والله لقد قلته وصدق عامر، فتاب الجلاس وحسنت «٢» توبته وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وأظهروا كفرهم بعد إظهارهم الإسلام وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وهو الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك عند مرجعه من تبوك: تواثق خمسة عشر منهم على أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذا تسنم العقبة بالليل، فأخذ عمار بن ياسر بخطام راحلته يقودها وحذيفة خلفها يسوقها، فبينما هما كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل وبقعقعة السلاح، فالتفت فإذا قوم متلثمون، فقال: إليكم إليكم يا أعداء الله «٣»، فهربوا. وقيل:
(١). قوله «تصديق الكاذب وتكذيب الصادق» لعله تصديق الصادق وتكذيب الكاذب. ويمكن أنه جعل نفسه كاذبا، والجلاس صادقا، لأنه مقتضى ظاهر الحلف. (ع)
(٢). أخرجه الثعلبي عن الكلبي بغير سند لكن سنده إليه أول الكتاب. وروى ابن سعد وعبد الرزاق والطبري من رواية هشام بن عروة عن أبيه قال: كانت أم عمير بنت سعيد عند الجلاس بن سويد. فقال الجلاس بن سويد في غزوة تبوك إن كان ما يقول محمد حقا فنحن شر من الحمير. فقال له عامر بن قيس الأنصارى، وهو ابن عمه- فذكره. وكذا ذكره موسى بن عقبة في المغازي ليس فيه كانت أم عمير إلى آخره، بل أوله في قصة تبوك إلى أن قال:
وقال الجلاس حين سمع ما أنزل الله في المنافقين.
(٣). أخرجه أحمد من حديث أبى الطفيل قال «لما قفل رسول الله ﷺ من غزوة تبوك أمر مناديا ينادى لا يأخذن العقبة أحد، فان رسول الله ﷺ يسير وحده، فكان النبي ﷺ يسير وحذيفة رضى الله عنه يقود به، وعمار رضى الله عنه يسوق به. فأقبل رهط متلثمين على الرواحل حتى غشوا النبي صلى الله عليه وسلم، فرجع عمار فضرب وجوه الرواحل. فقال النبي ﷺ لحذيفة: قد قد- فلحقه عمار فقال: سق سق حتى أناخ. فقال لعمار: هل تعرف القوم فقال: لا، كانوا متلثمين. وقد عرفت علمة الرواحل. فقال: أتدري ما أرادوا برسول الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم. فقال: أرادوا أن يمكروا برسول الله فطرحوه من العقبة. فلما كان بعد ذلك وقع بين عمار رضى الله عنه وبين رجل منهم شيء مما يكون بين الناس.
فقال: أنشدكم الله، كم أصحاب العقبة الذين أرادوا أن يمكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: ترى أنهم أربعة عشر، فان كنت فيهم فهم خمسة عشر»
ومن هذا الوجه رواه الطبراني والبزار وقال روى من طريق عن حذيفة وهذا أحسنها وأصلحها إسنادا. ورواه ابن إسحاق في المغازي ومن طريقه البيهقي في الدلائل عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبى البختري عن حذيفة بن اليمان. قال: كنت آخذا بخطام ناقة رسول الله ﷺ أقود به. وعمار رضى الله عنه يسوق الناقة حتى إذا كنا بالعقبة وإذا اثنى عشر راكبا قد اعترضوه فيها قال:
فانتهت إلى رسول الله ﷺ فصرخ بهم فولوا مدبرين.
291
همّ المنافقون بقتل عامر لردّه على الجلاس. وقيل: أرادوا أن يتوّجوا عبد الله بن أبىّ وإن لم يرض رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وَما نَقَمُوا وما أنكروا وما عابوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وذلك أنهم كانوا حين قدم رسول الله ﷺ المدينة في ضنك من العيش لا يركبون الخيل ولا يحوزون الغنيمة فأثروا بالغنائم وقتل للجلاس مولى، فأمر رسول الله ﷺ بديته اثنى عشر ألفاً فاستغنى فَإِنْ يَتُوبُوا هي الآية التي تاب عندها الجلاس فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ بالقتل والنار.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٧٥ الى ٧٧]
وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧)
روى أنّ ثعلبة بن حاطب قال: يا رسول الله، ادع الله أن يرزقني مالا، فقال صلى الله عليه وسلم: «يا ثعلبة، قليل تؤدّى شكره خير من كثير لا تطيقه «١» » فراجعه وقال: والذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالا لأعطينّ كل ذى حق حقه، فدعا له، فاتخذ غنما فنمت كما ينمى الدود حتى ضاقت بها المدينة، فنزل واديا وانقطع عن الجماعة والجمعة، فسأل عنه رسول الله ﷺ فقيل: كثر ماله حتى لا يسعه واد. قال: يا ويح ثعلبة، فبعث رسول الله ﷺ مصدّقين لأخذ الصدقات، فاستقبلهما الناس بصدقاتهم، ومرّا بثعلبة فسألاه الصدقة وأقرآه كتاب رسول الله ﷺ الذي فيه الفرائض، فقال: ما هذه إلا جزية، ما هذه إلا أخت الجزية، وقال: ارجعا حتى أرى رأيى، فلما رجعا قال لهما رسول الله ﷺ قبل أن يكلماه: يا ويح ثعلبة مرّتين، فنزلت، فجاءه ثعلبة بالصدقة، فقال: إنّ الله منعني أن
(١). أخرجه الطبراني والبيهقي في الدلائل والشعب وابن أبى حاتم والطبري وابن مردويه كلهم من طريق على بن زيد عن القاسم بن عبد الرحمن عن أمامة. وهذا إسناد ضعيف جدا. فقال السهيلي عن ابن إسحاق ثعلبة بن حاطب قمر البدريين. وعن ابن إسحاق أيضا في المنافقين وذكر هذه الآية التي نزلت فيه. فلعلهما اثنان.
أقبل منك، فجعل التراب على رأسه فقال: هذا عملك قد أمرتك فلم تطعني، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء بها إلى أبى بكر رضى الله عنه فلم يقبلها، وجاء بها إلى عمر رضى الله عنه في خلافته فلم يقبلها، وهلك في زمان عثمان رضى الله عنه. وقرئ «لنصدقن ولنكونن» بالنون الخفيفة فيهما مِنَ الصَّالِحِينَ قال ابن عباس رضى الله عنه: يريد الحج فَأَعْقَبَهُمْ عن الحسن وقتادة رضى الله عنهما: أنّ الضمير للبخل. يعنى: فأورثهم البخل نِفاقاً متمكنا فِي قُلُوبِهِمْ لأنه كان سببا فيه وداعياً إليه. والظاهر أن الضمير لله عزّ وجل. والمعنى: فخذلهم حتى نافقوا «١».
وتمكن في قلوبهم نفاقهم فلا ينفك عنها إلى أن يموتوا بسبب إخلافهم ما وعدوا الله من التصدّق والصلاح وكونهم كاذبين. ومنه: جعل خلف الوعد ثلث النفاق. وقرئ: يكذبون، بالتشديد.
وأ لم تعلموا، بالتاء. عن علىّ رضى الله عنه.
[سورة التوبة (٩) : آية ٧٨]
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٧٨)
سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ ما أسرّوه من النفاق والعزم على إخلاف ما وعدوه وما يتناجون به فيما بينهم من المطاعن في الدين، وتسمية الصدقة جزية وتدبير منعها.
[سورة التوبة (٩) : آية ٧٩]
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٩)
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ محله النصب أو الرفع على الذمّ. ويجوز أن يكون في محل الجرّ بدلا من الضمير في سرهم ونجواهم. وقرئ: يلمزون، بالضم الْمُطَّوِّعِينَ المتطوّعين المتبرعين.
روى أنّ رسول الله ﷺ حثّ على الصدقة فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب. وقيل: بأربعة آلاف درهم وقال: كان لي ثمانية آلاف، فأقرضت ربى أربعة وأمسكت أربعة لعيالي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت «٢» فبارك الله له حتى صولحت تماضر امرأته عن ربع الثمن على ثمانين ألفاً،
(١). قوله «والمعنى فخذلهم حتى نافقوا» فسره بذلك على مذهب المعتزلة، من أنه تعالى لا يخلق الشر. (ع)
(٢). أخرجه ابن مردويه من طريق على بن أبى طلحة عن ابن عباس في قوله الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ- الآية قال: جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية. من ذهب إلى رسول الله ﷺ وجاء رجل من الأنصار بصاع من تمر. فقال بعض المنافقين والله ما جاء عبد الرحمن بن عوف بما جاء به إلا رياء وإن كان الله ورسوله لغنيين عن هذا الصاع. ومن طريق عطية العوفى. وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال «خرج رسول الله ﷺ يوما إلى الناس، فنادى فيهم: أن اجمعوا صدقاتكم. فجمع الناس صدقاتهم. وجاء رجل بصاع من تمر. فقال: يا رسول الله بت ليلتي أجر بالجرير- الحديث. وجاء عبد الرحمن بن عوف فقال: يا رسول الله مالى ثمانية آلاف، فأربعة آلاف لي، وأربعة آلاف أقرضها ربى- فذكره» وقال عبد الرزاق في تفسيره أخبرنا معمر عن قتادة قال: تصدق عبد الرحمن بن عوف بشطر ماله. وكان له ثمانية آلاف دينار. فتصدق بأربعة آلاف دينار. فقال أناس من المنافقين: إن عبد الرحمن لعظيم الرياء. فقال الله عز وجل الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ وكان لرجل من الأنصار صاعان من تمر. فجاء بأحدهما. فقال أناس من المنافقين: إن كان الله لغنيا عن صاع هذا.
فقال الله عز وجل إِلَّا جُهْدَهُمْ وروى البزار من رواية عمر بن أبى مسلمة عن أبيه عن أبى هريرة قال: قال رسول الله ﷺ «تصدقوا فانى أريد أن أبعث بعثا فجاء عبد الرحمن بن عوف فقال: يا رسول الله، عندي أربعة آلاف درهم ألفان أقرضها ربى وألفان لعيالي- الحديث» وفيه «وبات رجل من الأنصار فأصاب صاعين من نمر» أخرجه عن طالوت بن عبادة عن أبى عوانة عنه وقال: تفرد طالوت بوصله ثم رواه عن أبى كامل عن أبى عوانة ومن طريقه ابن مردويه وفي المغازي بأربعة آلاف وقام عاصم بن عدى فتصدق بمائة وسق من تمر فألقاه في الصدقة فتضاحكوا به وقالوا: إن الله لغنى عن صاع أبى عقيل» انتهى وقصة أبى عقيل أخرجها إبراهيم الحربي والطبراني والطبري من رواية خالد بن يسار عن ابن أبى عقيل عن أبيه قال «بت أجر الجرير على ظهري على صاعين من تمر- الحديث» وفي إسناده موسى بن عبدة وهو ضعيف قلت: قصة أبى عقيل أخرجها البخاري من حديث أبى مسعود الأنصارى باختصار وفيه «جاء إنسان آخر بأكثر من ذلك» وفي رواية: بشيء كثير.
وتصدّق عاصم بن عدىّ بمائة وسق من تمر، وجاء أبو عقيل الأنصارى رضى الله عنه بصاع من تمر فقال: بت ليلتي أجرّ بالجرير «١» على صاعين، فتركت صاعا لعيالي، وجئت بصاع فأمره رسول الله ﷺ أن ينثره على الصدقات، فلمزهم المنافقون وقالوا: ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلا رياء، وإن كان الله ورسوله لغنيين عن صاع أبى عقيل، ولكنه أحب أن يذكر بنفسه ليعطى من الصدقات، فنزلت إِلَّا جُهْدَهُمْ إلا طاقتهم. قرئ بالفتح والضم سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ كقوله: الله يستهزئ بهم في أنه خبر غير دعاء. ألا ترى إلى قوله وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.
[سورة التوبة (٩) : آية ٨٠]
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٨٠)
سأل عبد الله بن عبد الله بن أبىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم- وكان رجلا صالحا- أن يستغفر لأبيه في مرضه ففعل، فنزلت، فقال رسول الله ﷺ «إنّ الله قد رخص لي فسأزيد على السبعين» «٢» فنزلت سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ وقد ذكرنا
(١). قوله «بالجرير» هو حبل البعير. ويروى: أجر بالجرير الماء كذبها، من أجر. (ع)
(٢). لم أجده بهذا السياق وأصله في المتفق عليه عن ابن عمر رضى الله عنهما قال «لما توفى عبد الله بن أبى جاء ابنه إلى رسول الله ﷺ فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه، فأعطاه ثم سأله أن يصلى عليه، فقام يصلى عليه فأخذ عمر رضى الله عنه بثوبه فقال: أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلى عليه فقال إنما خيرنى فقال: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ الآية وسأزيده على السبعين فصلى عليه فأنزل الله تعالى وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً فتركت الصلاة عليهم- لفظ مسلم
294
أن هذا الأمر في معنى الخبر، «١» كأنه قيل: لن يغفر الله لهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم، وإن فيه معنى الشرط، وذكرنا النكتة في المجيء به على لفظ الأمر، والسبعون جار مجرى المثل في كلامهم للتكثير، قال علىّ بن أبى طالب عليه السلام: فإن قلت: كيف خفى على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو أفصح العرب وأخبرهم بأساليب الكلام «٣» وتمثيلاته، والذي يفهم من ذكر هذا العدد كثرة الاستغفار، كيف وقد تلاه بقوله ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا... الآية فبين الصارف عن المغفرة لهم حتى قال: «قد رخص لي ربى فسأزيد على السبعين» قلت: لم يخف عليه ذلك، ولكنه خيل بما قال إظهاراً لغاية
لَأَصْبَحَنَّ الْعَاصِ وَابْنَ الْعَاصِى سَبْعِينَ ألْفاً عَاقِدِى النَّوَاصِى «٢»
(١). قال محمود: «قد ذكرنا أن هذا الأمر في معنى الخبر... الخ» قال أحمد: وما يدعيه الزمخشري في هذا وأمثاله من محذوف هو المقصود بالأمر وهذا واقع موقعه، كقول كثير عزة. أسيئى بنا أو أحسنى لا ملومة.
كأنه يقول لها: امتحنى محلك عندي وقوة محبتي لك، وعاملينى بالاساءة والإحسان، وانظري هل يتفاوت حالى معك مسيئة أو محسنة؟ وكذلك معنى الآية اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ وانظر هل يغفر لهم في حالتي الاستغفار وتركه؟
وهل يتفاوت الحالان أولا؟ قال أحمد: وقد ورد بصيغة الخبر في الآية الأخرى في قوله تعالى سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ.
(٢).
لأصبحن العاصي وابن العاصي سبعين ألفاً عاقدى النواصي
مستحقبين حلق الدلاص قد جنبوا الخيل مع القلاص
آساد محل حين لا مناص
لعلى بن أبى طالب رضى الله عنه في عمرو بن العاص. وصبحه: سقاء الصبوح وقت الصباح. ويروى «لأصحبن» من الصحبة ولعله تحريف. شبه إنالة المكروه بانالة المحبوب على سبيل التهكم، فهو استعارة تصريحية تهكمية. ويجوز أنه شبه الفرسان لإتيانهم صباحا بالصبوح على سبيل المكنية التهكمية. ولأصبحن: تخييل. وسبعين ألفاً: مفعول ثانى. والمراد به الكثرة. والعاقدين: جمع عاقد، والمراد: نواصي خيلهم أو أطراف عمائمهم من خلفهم أو شعور رؤوسهم. وعقد الناصية من أمارات الشجاعة والاشاحة في القتال. والحقاب: ما تلفه المرأة على وسطها، ويطلق على ذات وسطها. والحقيبة: خرج صغير خلف الراكب. والحلق- بالكسر-: جمع حلقة. والدلاص: الدرع الملساء المضيئة، يوصف به الواحد والجمع. فالمعنى: أنهم لابسون الدروع. أولا شيء في حقائبهم غيرها. والقلاص فتيات الإبل: أى جمعوا بين النوعين، وجعلهم كآساد المحل، أى الجدب، ليفيد أنهم جياع وعطاش إلى لحوم الأعداء ودمائهم، وحق اسم «لا» أن يبنى على الفتح، فيجوز أنه كسره القافية. والأوجه أنه الاسم بمعنى غير كما في الصحاح، أو حين غير مناص، أو بنى على الكسر لنية الاضاقة. وشبهه بنزال، أو هو مجرور بمن الاستغراقية مقدرة كما مر في «ولات أوان» ويجوز- على بعد- أن يكون في الكلام مضاف محذوف، أى لا حين لا وقت مناص، أى تأخر عن الحرب، ويمكن أن «لا» زائدة بين المتضايفين، كافى «بثرلا حور سرى» أى حين مناص الفرسان وفرارهم.
(٣). عاد كلامه. قال: فان قلت كيف خفى على رسول الله ﷺ وهو أفصح من نطق بالضاد...
الخ» قال أحمد: وقد أنكر القاضي رضى الله عنه حديث الاستغفار ولم يصححه، وتعالى قوم في قبوله حتى إنهم اتخذوه عمدة في مفهوم المخالفة، وبنوه على أنه عليه السلام فهم من تحديد نفى الغفران بالسبعين ثبوت الغفران بالزائد عليه، وذلك سبب إنكار القاضي عليهم.
295
رحمته ورأفته على من بعث إليه، كقول إبراهيم عليه السلام وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وفي إظهار النبي ﷺ الرأفة والرحمة: لطف لأمّته ودعاء لهم إلى ترحم بعضهم على بعض.
[سورة التوبة (٩) : آية ٨١]
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (٨١)
الْمُخَلَّفُونَ الذين استأذنوا رسول الله ﷺ من المنافقين فأذن لهم وخلفهم في المدينة في غزوة تبوك، أو الذين خلفهم كسلهم ونفاقهم والشيطان بِمَقْعَدِهِمْ بقعودهم عن الغزو خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ خلفه. يقال: أقام خلاف الحي، بمعنى بعدهم ظعنوا ولم يظعن معهم، وتشهد له قراءة أبى حيوة: خلف رسول الله. وقيل: هو بمعنى المخالفة لأنهم خالفوه حيث قعدوا ونهض، وانتصابه على أنه مفعول له أو حال، أى قعدوا لمخالفته أو مخالفين له أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ تعريض بالمؤمنين وبتحملهم المشاق العظام لوجه الله تعالى وبما فعلوا من بذل أموالهم وأرواحهم في سبيل الله تعالى وإيثارهم ذلك على الدعة والخفض.
وكره ذلك المنافقون. وكيف لا يكرهونه وما فيهم ما في المؤمنين من باعث الايمان وداعى الإيقان قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا استجهال لهم، لأن من تصوّن من مشقة ساعة فوقع بسبب ذلك التصوّن في مشقة الأبد، كان أجهل من كل جاهل: ولبعضهم:
مَسَرَّةُ أحْقَابٍ تَلَقَّيْتُ بَعْدَهَا مَسَاءَةَ يَوْمٍ أرْيُهَا شِبْهُ الصَّابِ
فَكَيْفَ بِأَنْ تَلْقَى مَسرَّةَ سَاعَةٍ وَرَاءَ تَقَضِّيهَا مَسَاءَةُ أحْقَابِ «١»
[سورة التوبة (٩) : آية ٨٢]
فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢)
معناه: فسيضحكون قليلا، ويبكون كثيرا جَزاءً إلا أنه أخرج على لفظ الأمر، للدلالة على أنه حتم واجب لا يكون غيره. يروى أن أهل النفاق يبكون في النار عمر الدنيا، لا يرقأ لهم دمع ولا يكتحلون بنوم.
(١). للزمخشري. و «الأحقاب» الأزمان الكثيرة المتتابعة، جمع حقب بالضم بمعنى الدهر. و «الأرى» العسل. و «الشبه» المثل. و «الصاب» نبت مر الطعم. وقيل: هو الحنظل يقول إن مسرة أزمان كثيرة ترى بعدها مساءة يوم واحد، حالها الشبيه بالعسل هو في الحقيقة شبيه بالحنظل، فكيف الحال بعكس ذلك؟.

[سورة التوبة (٩) : آية ٨٣]

فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (٨٣)
وإنما قال إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ لأنّ منهم من تاب عن النفاق وندم على التخلف، أو اعتذر بعذر صحيح. وقيل: لم يكن المخلفون كلهم منافقين، فأراد بالطائفة: المنافقين منهم فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ يعنى إلى غزوة بعد غزوة تبوك. وأَوَّلَ مَرَّةٍ هي الخروج إلى غزوة تبوك، وكان إسقاطهم عن ديوان الغزاة عقوبة لهم على تخلفهم الذي علم الله أنه لم يدعهم إليه إلا النفاق، بخلاف غيرهم من المتخلفين مَعَ الْخالِفِينَ قد مرّ تفسيره. قرأ مالك بن دينار رحمه الله. مع الخلفين، على قصر الخالفين. فإن قلت مَرَّةٍ نكرة وضعت موضع المرات للتفضيل، فلم ذكر اسم التفضيل المضاف إليها وهو دال على واحدة من المرات؟ قلت: أكثر اللغتين: هند أكبر النساء، وهي أكبرهنّ. ثم إنّ قولك: هي كبرى امرأة، لا تكاد تعثر عليه. ولكن هي أكبر امرأة، وأول مرة، وآخر مرة. وعن قتادة: ذكر لنا أنهم كانوا اثنى عشر رجلا قيل فيهم ما قيل.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٨٤ الى ٨٥]
وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (٨٤) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٨٥)
روى أنّ رسول الله ﷺ كان يقوم على قبور المنافقين ويدعو لهم «١» فلما
(١). لم أجده هكذا فأما أوله وهو «كان يقوم، إلى آخره» وأما قصة عبد الله ففي الجائز من المستدرك من طريق ابن إسحاق حدثني الزهري عن عروة عن أسامة بن زيد قال «دخل رسول الله ﷺ على عبد الله ابن أبى ليعوده في مرضه الذي مات فيه. فلما عرف فيه الموت قال له: أما والله إن كنت لأنهاك عن حب يهود فقال: قد أبغضتهم، أسعد بن زرارة. فما نفعه، فلما مات أتاه ابنه فقال: قد مات فأعطنى قميصك أكفنه فيه فنزع عليه الصلاة والسلام قميصه فأعطاه إياه» وأما قوله «بعثت إليك لتستغفر لي لا لتوبخنى» فزاده الطيراني من طريق معمر عن قتادة قال «أرسل عبد الله ابن أبى وهو مريض إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما دخل عليه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: أهلكك حب يهود. قال: يا رسول الله، أرسالات إليك لتستغفر لي ولم أرسل إليك لتوبخنى، وسأله قميصه أن يكفن فيه، فأعطاه إياه فاستغفر له ومات فكفنه في قميصه، ونفث في جلده ودلاه في قبره، فأنزل الله تعالى وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وفي الدلائل البيهقي من طريق الواقدي بإسناده في هذه القصة قال:
فقال «ليس هذا بحين عتاب، هو الموت، فان مت فاحضر غسلي وأعطنى قميصك أكفن فيه فأعطاه ثم قال: وصل على واستغفر لي»
وفي رواية له فقال له ابنه- وكان يقال له الحباب، فسماه رسول الله ﷺ عبد الله يا رسول الله أعطه قميصك الذي يلي جلدك» وأما قوله الحباب اسم شيطان فرواه ابن سعد والطبري من طريق عروة وغيره قال «لما ثقل عبد الله بن أبى انطلق ابنه فقال: إن أبى احتضر وأحب أن تشهده وتصلى عليه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما اسمك؟ قال: الحباب بن عبد الله قال: بلى، أنت عبد الله، إن الحباب اسم شيطان، قال: فانطلق معه حتى شهده وألبسه قميصه وصلى عليه وأما قول عمر فقد قدمنا أنه في الصحيحين.
297
مرض رأس النفاق عبد الله بن أبىّ بعث إليه ليأتيه، فلما دخل عليه قال: أهلكك حب اليهود.
فقال: يا رسول الله بعثت إليك لتستغفر لي لا لتؤنبنى «١» وسأله أن يكفنه في شعاره الذي يلي جلده ويصلى عليه، فلما مات دعاه ابنه حباب إلى جنازته، فسأله عن اسمه فقال: أنت عبد الله ابن عبد الله. الحباب اسم شيطان. فلما همّ بالصلاة عليه قال له عمر: أتصلي على عدوّ الله، فنزلت وقيل: أراد أن يصلى عليه فجذبه جبريل «٢». فإن قلت: كيف جازت له تكرمة المنافق وتكفينه في قميصه؟ قلت: كان ذلك مكافأة له على صنيع سبق له. وذلك أن العباس رضى الله عنه عم رسول الله ﷺ لما أخذ اسيراً ببدر لم يجدوا له قميصاً وكان رجلا طوالا «٣»، فكساه عبد الله قميصه «٤» وقال له المشركون يوم الحديبية: إنا لا نأذن لمحمد «٥» ولكنا نأذن لك، فقال:
لا، إن لي في رسول الله أسوة حسنة «٦» فشكر رسول الله ﷺ له ذلك، وإجابة له إلى مسألته إياه، فقد كان عليه الصلاة والسلام لا يرد سائلا، وكان يتوفر على دواعي المروءة ويعمل بعادات الكرام، وإكراماً لابنه الرجل الصالح، فقد روى أنه قال له: أسألك أن تكفنه في بعض قمصانك، وأن تقوم على قبره، لا يشمت به الأعداء «٧»، وعلماً بأن تكفينه في قميصه لا ينفعه مع كفره، فلا فرق بينه وبين غيره من الأكفان، وليكون إلباسه إياه لطفاً
(١). قوله «لا لتؤنبنى» أى تعنفني باللوم. [.....]
(٢). أخرجه أبو يعلى من رواية يزيد الرقاشي عن أنس «أن رسول الله ﷺ أراد أن يصلى على عبد الله بن أبى فأخذ جبريل بثوبه وقال وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ ويزيد ضعيف.
(٣). قوله «وكان رجلا طوالا»
في الصحاح: الطوال- بالضم: الطويل. (ع)
(٤). أخرجه البخاري من رواية عمرو بن دينار سمع جابراً «لما كان يوم بدر أتى بالأسارى وأتى بالعباس، ولم يكن عليه ثوب فنظر النبي ﷺ قميصا. فوجدوا قميص عبد الله بن أبى يقدر عليه فكساه النبي ﷺ إياه فلذلك نزع النبي ﷺ قميصه الذي ألبسه. قال ابن عتبة كانت له عند النبي ﷺ يد فأحب أن يكافئه. ورواه الحاكم في المستدرك من حديث جابر وأدرج فيه الكلام الأخير.
(٥). قوله «إنا لا نأذن لمحمد»
أى في دخوله مكة. (ع)
(٦). أخرجه الوافدى في المغازي: حدثنا جابر بن سليم عن صفوان بن عثمان قال «كانت قريش يوم الحديبية أرسالات إلى عبد الله بن أبى: إن أحببت أن تدخل فتطوف فافعل. وابنه جالس عنده. فقال له ابنه: يا أبت اذكر الله أن تطوف بالبيت قبل رسول الله ﷺ فأبى ابن أبى وقال: لا أطوف حتى يطوف رسول الله ﷺ فبلغ رسول الله ﷺ كلامه فسر».
(٧). لم أجده. وأصل سؤال ابنه في الصحيح كما تقدم.
298
لغيره، فقد روى أنه قيل له: لم وجهت إليه بقميصك وهو كافر؟ فقال: «إنّ قميصي لن يغنى عنه من الله شيئاً، وإن أؤمل في الله أن يدخل في الإسلام كثير بهذا السبب» «١» فيروى أنه أسلم ألف من الخزرج لما رأوه طلب الاستشفاء بثوب رسول الله ﷺ «٢» وكذلك ترحمه واستغفاره كان للدعاء إلى التراحم والتعاطف، لأنهم إذا رأوه يترحم على من يظهر الإيمان وباطنه على خلاف ذلك، دعا المسلم إلى أن يتعطف على من واطأ قلبه لسانه ورآه حتما عليه. فإن قلت: فكيف جازت الصلاة عليه؟ قلت: لم يتقدم نهى عن الصلاة عليهم، وكانوا يجرون مجرى المسلمين لظاهر إيمانهم، لما في ذلك من المصلحة. وعن ابن عباس رضى الله عنه: ما أدرى ما هذه الصلاة، إلا أنى أعلم أن رسول الله ﷺ لا يخادع «٣» ماتَ صفة لأحد. وإنما قيل: مات، وماتوا بلفظ الماضي- والمعنى على الاستقبال- على تقدير الكون والوجود، لأنه كائن موجود لا محالة إِنَّهُمْ كَفَرُوا تعليل للنهى، وقد أعيد قوله وَلا تُعْجِبْكَ لأنّ تجدد النزول له شأن في تقرير ما نزل له وتأكيده، وإرادة أن يكون على بال من المخاطب لا ينساه ولا يسهو عنه، وأن يعتقد أن العمل به مهمّ يفتقر إلى فضل عناية به، لا سيما إذا تراخى ما بين النزولين فأشبه الشيء الذي أهم صاحبه، فهو يرجع إليه في أثناء حديثه ويتخلص إليه، وإنما أعيد هذا المعنى لقوته فيما يجب أن يحذر منه.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٨٦ الى ٨٩]
وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (٨٦) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٨٧) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨٨) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٨٩)
(١). لم أره هكذا، وأصله أخرجه الطبري من رواية معمر عن قتادة قال ذكر لنا أن النبي ﷺ كلمه في ذلك. فقال: وما يغنى عنه قميصي من الله، وإنى لأرجو أن يسلم به ألف من قومه».
(٢). لم أره هكذا إلا في مرسل قتادة الذي قبله.
(٣). أخرجه سعيد بن داود في تفسيره من طريقه. قال حدثنا حجاج عن ابن جريج أخبرنى الحكم بن أبان سمع عكرمة عن عباس قال «لما مرض عبد الله بن أبى مرضه الذي مات فيه قال للنبي ﷺ امنن علي فكفني في قميصك وصل علي قال: فكفنه في قميصه وصلى عليه. قال ابن عباس: والله ما أدرى ما هذه الصلاة كانت: فالله أعلم، وما خادع محمدا إنسان قط».
يجوز أن يراد السورة بتمامها، وأن يراد بعضها في قوله وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ كما يقع القرآن والكتاب على كله وعلى بعضه. وقيل هي براءة، لأنّ فيها الأمر بالإيمان والجهاد أَنْ آمِنُوا هي أن المفسرة أُولُوا الطَّوْلِ ذوو الفضل والسعة، من طال عليه طولا مَعَ الْقاعِدِينَ مع الذين لهم علة وعذر في التخلف فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ ما في الجهاد من الفوز والسعادة وما في التخلف من الشقاء والهلاك لكِنِ الرَّسُولُ أى إن تخلف هؤلاء فقد نهد «١» إلى الغزو من هو خير منهم وأخلص نية ومعتقداً، كقوله فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً، فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ. الْخَيْراتُ تتناول منافع الدارين لإطلاق اللفظ. وقيل: الحور، لقوله فِيهِنَّ خَيْراتٌ.
[سورة التوبة (٩) : آية ٩٠]
وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٠)
الْمُعَذِّرُونَ من عذر في الأمر، إذا قصر فيه وتوانى ولم يجدّ: وحقيقته أنه يوهم أن له عذراً فيما يفعل ولا عذر له: أو المعتذرون بإدغام التاء في الذال ونقل حركتها إلى العين ويجوز في العربية كسر العين لالتقاء الساكنين وضمها لإتباع الميم. ولكن لم تثبت بهما قراءة، وهم الذين يعتذرون بالباطل، كقوله: يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم وقرئ. المعذرون، بالتخفيف:
وهو الذي يجتهد في العذر ويحتشد فيه، قيل: هم أسد وغطفان. قالوا: إن لنا عيالا: وإن بنا جهدا فائذن لنا في التخلف. وقيل: هم رهط عامر بن الطفيل قالوا: إن غزونا معك أغارت أعراب طىّ على أهالينا ومواشينا، فقال صلى الله عليه وسلم: سيغنيني الله عنكم. وعن مجاهد.
نفر من غفار، اعتذروا فلم يعذرهم الله تعالى: وعن قتادة: اعتذروا بالكذب: وقرئ:
المعذرون بتشديد العين والذال، من تعذر بمعنى اعتذر، وهذا غير صحيح، لأنّ التاء لا تدغم في العين إدغامها في الطاء والزاى والصاد، في المطوّعين، وأزكى وأصدق. وقيل: أريد المعتذرون بالصحة، وبه فسر المعذرون والمعذرون، على قراءة ابن عباس رضى الله عنه الذين لم يفرطوا في العذر وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ هم منافقو الأعراب الذين لم يجيئوا ولم يعتذروا، وظهر بذلك أنهم كذبوا الله ورسوله في ادعائهم الإيمان. وقرأ أبىّ: كذبوا، بالتشديد سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ من الأعراب عَذابٌ أَلِيمٌ في الدنيا بالقتل، وفي الآخرة بالنار
(١). قوله «فقد نهد» أى نهض، كما في الصحاح. (ع)

[سورة التوبة (٩) : الآيات ٩١ الى ٩٢]

لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (٩٢)
الضُّعَفاءِ الهرمى والزمنى. والذين لا يجدون: الفقراء. وقيل: هم مزينة وجهينة وبنو عذرة. والنصح لله ورسوله: الإيمان بهما، وطاعتهما في السر والعلن، وتوليهما، والحب والبغض فيهما كما يفعل الموالي الناصح بصاحبه عَلَى الْمُحْسِنِينَ على المعذورين الناصحين، ومعنى: لا سبيل عليهم: لا جناح عليهم. ولا طريق للعاتب عليهم قُلْتَ لا أَجِدُ حال من الكاف في أَتَوْكَ وقد قبله مضمرة، كما قيل في قوله أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أى إذا ما أتوك قائلا لا أجد تَوَلَّوْا ولقد حصر الله المعذورين في التخلف الذين ليس لهم في أبدانهم استطاعة، والذين عدموا آلة الخروج، والذين سألوا المعونة فلم يجدوها. وقيل «المستحملون» أبو موسى الأشعرى وأصحابه. وقيل البكاءون، وهم ستة نفر من الأنصار تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ كقولك. تفيض دمعاً، وهو أبلغ من يفيض دمعها، لأنّ العين جعلت كأن كلها دمع فائض، و «من» للبيان كقولك: أفديك من رجل، ومحل الجار والمجرور النصب على التمييز أَلَّا يَجِدُوا لئلا يجدوا. ومحله نصب على أنه مفعول له، وناصبه المفعول له الذي هو حزناً.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٩٣ الى ٩٤]
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٩٣) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٤)
فإن قلت: رَضُوا ما موقعه؟ قلت: هو استئناف، كأنه قيل: ما بالهم استأذنوا وهم أغنياء؟ فقيل: رضوا بالدناءة والضعة والانتظام في جملة الخوالف وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ يعنى أن السبب في استئذانهم رضاهم بالدناءة وخذلان الله تعالى إياهم. فإن قلت: فهل يجوز أن
يكون قوله قُلْتَ لا أَجِدُ استئنافاً مثله، كأنه قيل: إذا ما أتوك لتحملهم تولوا، فقيل: ما لهم تولوا باكين؟ فقيل: قلت لا أجد ما أحملكم عليه. إلا أنه وسط بين الشرط والجزاء كالاعتراض «قلت» نعم ويحسن لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ علة للنهى عن الاعتذار، لأن غرض المعتذر أن يصدق فيما يعتذر به، فإذا علم أنه مكذب وجب عليه الإخلال «١» وقوله قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ علة لانتفاء تصديقهم لأنّ الله عز وجلَّ إذا أوحى إلى رسوله الإعلام بأخبارهم وما في ضمائرهم من الشر والفساد، لم يستقم مع ذلك تصديقهم في معاذيرهم وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ أتنيبون أم تثبتون على كفركم ثُمَّ تُرَدُّونَ إليه وهو عالم كل غيب وشهادة وسر وعلانية، فيجازيكم على حسب ذلك.
[سورة التوبة (٩) : آية ٩٥]
سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥)
لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فلا توبخوهم ولا تعاتبوهم فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ فأعطوهم طلبتهم إِنَّهُمْ رِجْسٌ تعليل لترك معاتبتهم، يعنى أنّ المعاتبة لا تنفع فيهم ولا تصلحهم، إنما يعاتب الأديب ذو البشرة. والمؤمن يوبخ على زلة تفرط منه، ليطهره التوبيخ بالحمل على التوبة والاستغفار.
وأما هؤلاء فأرجاس لا سبيل إلى تطهيرهم وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ يعنى وكفتهم النار عتاباً وتوبيخاً، فلا تتكلفوا عتابهم.
[سورة التوبة (٩) : آية ٩٦]
يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٩٦)
لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ أى غرضهم في الحلف بالله طلب رضاهم لينفعهم ذلك في دنياهم فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فإن رضاكم وحدكم لا ينفعهم إذا كان الله ساخطاً عليهم وكانوا عرضة لعاجل عقوبته وآجلها. وقيل إنما قيل ذلك لئلا يتوهم متوهم أن رضا المؤمنين يقتضى رضا الله عنهم.
قيل: هم جد بن قيس ومعتب بن قشير وأصحابهما، وكانوا ثمانين رجلا منافقين فقال النبي ﷺ حين قدم المدينة، لا تجالسوهم ولا تكلموهم. وقيل: جاء عبد الله ابن أبىّ يحلف أن لا يتخلف عنه أبداً.
(١). قوله «وجب عليه الإخلال» أى الترك. يقال: أخل الرجل بمركزه، إذا تركه. (ع)

[سورة التوبة (٩) : آية ٩٧]

الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧)
الْأَعْرابُ أهل البدو أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً من أهل الحضر لجفائهم وقسوتهم وتوحشهم، ونشئهم في بعد من مشاهدة العلماء ومعرفة الكتاب والسنة وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا وأحق بجهل حدود الدن وما أنزل الله من الشرائع والأحكام. ومنه قوله ﷺ «١» «إن الجفاء والقسوة في الفدّادين» «٢» وَاللَّهُ عَلِيمٌ يعلم حال كل أحد من أهل الوبر والمدر حَكِيمٌ فيما يصيب به مسيئهم ومحسنهم ومخطئهم ومصيبهم من عقابه وثوابه.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٩٨ الى ٩٩]
وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩)
مَغْرَماً غرامة وخسراناً. والغرامة: ما ينفقه الرجل وليس يلزمه، لأنه لا ينفق إلا تقية من المسلمين ورياء، لا لوجه الله عزّ وجلّ وابتغاء المثوبة عنده وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ دوائر الزمان: دوله وعقبه «٣» لتذهب غلبتكم عليه ليتخلص من إعطاء الصدقة عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ دعاء معترض، دعى عليهم بنحو ما دعوا به، كقوله عز وجل وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وقرئ السوء بالضم وهو العذاب، كما قيل له سيئة. والسوء بالفتح، وهو ذمّ للدائرة، كقولك: رجل سوء، في نقيض قولك: رجل صدق، لأنَّ من دارت عليه ذامّ لها وَاللَّهُ سَمِيعٌ لما يقولون إذا توجهت عليهم الصدقة عَلِيمٌ بما يضمرون. وقيل هم أعراب أسد وغطفان وتميم قُرُباتٍ مفعول ثان ليتخذ. والمعنى: أنّ ما ينفقه سبب لحصول القربات
(١). متفق عليه من حديث أبى موسى الأشعرى في أثناء حديث فيه «وإن الجفاء وغلظ القلوب في الفدادين عند أصول أذناب الإبل» كذا البخاري ولمسلم «إن القسوة وغلظ القلوب».
(٢). قوله «والقسوة في الفدادين» الفدادين: هم الذين تعلو أصواتهم في حروثهم ومواشيهم. ورجل فداد:
شديد الفديد. وهو الصوت: أفاده الصحاح. (ع)
(٣). قال محمود: «دوائر الزمان: دوله، وعقبه لتذهب غلبتكم عليه... الخ» قال أحمد: وفي آية براءة مزيد على مناسبة الدعاء الحال المدعو عليهم ولقولهم، وذلك أن الذي نسب إليهم تربص الدوائر مطلقاً والذي دعى عليهم به دائرة السوء على التقييد بأسوإ الدوائر لا على الإطلاق، والله الموفق. [.....]
عند الله وَصَلَواتِ الرَّسُولِ لأن الرسول كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ويستغفر لهم، كقوله «اللهم صل على آل أبى أو في «١» » وقال تعالى وَصَلِّ عَلَيْهِمْ فلما كان ما ينفق سبباً لذلك قيل: يتخذ ما ينفق قربات وصلوات أَلا إِنَّها شهادة من الله للمتصدق بصحة ما اعتقد، من كون نفقته قربات وصلوات وتصديق لرجائه على طريق الاستئناف، مع حرفى التنبيه والتحقيق المؤذنين بثبات الأمر وتمكنه، وكذلك سَيُدْخِلُهُمُ وما في السين من تحقيق الوعد، وما أدل هذا الكلام على رضا الله تعالى عن المتصدقين، وأن الصدقة منه بمكان «٢» إذا خلصت النية من صاحبها. وقرئ قُرْبَةٌ بضم الراء. وقيل: هم عبد الله وذو البجادين ورهطه.
[سورة التوبة (٩) : آية ١٠٠]
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠)
السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ هم الذين صلوا إلى القبلتين. وقيل الذين شهدوا بدراً.
وعن الشعبي: من بايع بالحديبية وهي بيعة الرضوان ما بين الهجرتين وَمن الْأَنْصارِ أهل بيعة العقبة الأولى، وكانوا سبعة نفر، وأهل العقبة الثانية وكانوا سبعين، والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة مصعب بن عمير فعلمهم القرآن. وقرأ عمر رضى الله عنه: والأنصار بالرفع عطفا على السابقون «٣». وعن عمر أنه كان يرى أنّ قوله وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ بغير واو صفة للأنصار، حتى قال له زيد: إنه بالواو، فقال: ائتوني بأبىّ، فقال تصديق ذلك في أول الجمعة وَآخَرِينَ مِنْهُمْ وأوسط الحشر وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ وآخر الأنفال وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ. وروى أنه سمع رجلا يقرؤه بالواو، فقال: من أقرأك؟ قال: أبىّ، فدعاه فقال:
أقرأنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنك لتبيع القرظ بالبقيع، قال: صدقت، وإن شئت قلت: شهدنا وغبتم، ونصرنا وخذلتم، وآوينا وطردتم «٤». ومن ثم قال عمر: لقد كنت أرانا
(١). متفق عليه من حديث عبد الله بن أبى أو في قال «كان رسول الله ﷺ إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: اللهم صل عليه فأتى أبو أوفى بصدقة. فقال: اللهم صل على آل أبى أوفى».
(٢). قال محمود: «ما أدل هذا الكلام على أن الصدقة من الله بمكان... الخ» قال أحمد: وللقدرية كما علمت مذهب في أن الفاسق ليس بمؤمن ولا كافر، وأنه مخلد في النار وإن كان موحداً، وغرض الزمخشري أن يجعل الفسق الذي وسم به المنافق هو الذي يوسم به الموحد، حتى يكون استحقاقهما الخلود واحداً. فاحذره، والله أعلم.
(٣). لم أره هكذا.
(٤). لم أره هكذا، وفي الطبري من طريق أبى معشر عن محمد بن كعب قال «مر عمر بن الخطاب برجل يقرأ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ فأخذ عمر بيده. وقال: من أقرأك هذا؟ قال: أبى بن كعب فقال:
رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا، وارتفع السابقون بالابتداء، وخبره رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ومعناه: رضى عنهم لأعمالهم وَرَضُوا عَنْهُ لما أفاض عليهم من نعمته الدينية والدنيوية وفي مصاحف أهل مكة: تجرى من تحتها، وهي قراءة ابن كثير، وفي سائر المصاحف:
تحتها، بغير من.
[سورة التوبة (٩) : آية ١٠١]
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (١٠١)
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ يعنى حول بلدتكم وهي المدينة مُنافِقُونَ وهم جهينة وأسلم وأشجع وغفار، كانوا نازلين حولها وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عطف على خبر المبتدأ الذي هو ممن حولكم ويجوز أن يكون جملة معطوفة على المبتدأ والخبر إذا قدّرت: ومن أهل المدينة قوم مردوا على النفاق، على أنّ مَرَدُوا صفة موصوف محذوف، كقوله:
أنَا ابْنُ جَلَا.. «١»....
وعلى الوجه الأوّل لا يخلو من أن يكون كلاما مبتدأ أو صفة لمنافقون، فصل بينها وبينه بمعطوف على خبره مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ تمهروا فيه، من مرن فلان عمله، ومرد عليه: إذا درب به وضرى، حتى لان عليه ومهر فيه، ودلّ على مرانتهم عليه ومهارتهم فيه بقوله لا تَعْلَمُهُمْ
(١).
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا متى أضع العمامة تعرفوني
وماذا تبتغى الشعراء منى وقد جاوزت حد الأربعين
لسحيم بن وثيل الرياحي، كان عبداً حيشياً، فاتهم ببنت مولاه. فقتله. وقيل للمثقب العبدى، ونسب البيت الأول العرجى. وجلا: صفة لمحذوف، أى ابن رجل جلا واتضح أمره بالشجاعة، فالفعل لازم. أو جلا غمة الحرب وكشف همها، فهو متعد، وحذف المنعوت هنا ضرورة، لأنه لا يطرد إلا إذا صلح النعت لمباشرة العامل، أو كان المنعوت بعض اسم مجرور بمن، أو في كما مر، وإضافة «طلاع» لما بعده لفظية، فلا تفيده تعريفا. وتوسيط الواو بين النعوت لتوكيد ربطها بالمنعوت. والثنايا: العقبات الصعبة. استعارها لعظائم الأمور على سبيل التصريح، والطلوع ترشيح «متى أضع» بيضة الحرب على رأسى «تعرفوني» كناية عن نزول الحرب فنثبت شجاعته. وروى «تدرى» بدل «تبتغى» وهو افتعال من الدراية، أى: ماذا تستعلم الشعراء منى، والحال أنى جاوزت حد الأربعين سنة، وكسر نون الجمع لغة. ويجوز أنه جر بالكسر على لغة من يعربه كالحين.
أى يخفون عليك مع فطنتك «١» وشهامتك وصدق فراستك، لفرط تنؤقهم «٢» في تحامى ما يشكك في أمرهم، ثم قال نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ أى لا يعلمهم إلا الله، ولا يطلع على سرهم غيره، لأنهم يبطنون الكفر في سويداوات قلوبهم إبطانا، ويبرزون لك ظاهرا كظاهر المخلصين من المؤمنين، لا تشك معه في إيمانهم، وذلك أنهم مردوا على النفاق وضروا به، فلهم فيه اليد الطولى سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ قيل: هما القتل وعذاب القبر. وقيل الفضيحة وعذاب القبر. وعن ابن عباس رضى الله عنه أنهم اختلفوا في هاتين المرّتين، فقال: قام رسول الله ﷺ «٣» خطيبا يوم الجمعة فقال: «اخرج يا فلان فإنك منافق، اخرج يا فلان فإنك منافق «٤» » فأخرج ناسا وفضحهم، فهذا العذاب الأوّل، والثاني عذاب القبر. وعن الحسن: أخذ الزكاة من أموالهم ونهك أبدانهم إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ إلى عذاب النار.
[سورة التوبة (٩) : آية ١٠٢]
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢)
اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ أى لم يعتذروا من تخلفهم بالمعاذير الكاذبة كغيرهم، ولكن اعترفوا على أنفسهم بأنهم بئس ما فعلوا متذممين نادمين، وكانوا ثلاثة. أبو لبابة مروان بن عبد المنذر، وأوس بن ثعلبة، ووديعة بن حزام «٥». وقيل: كانوا عشرة، فسبعة منهم أو ثقوا أنفسهم: بلغهم ما نزل في المتخلفين فأيقنوا بالهلاك، فأوثقوا أنفسهم على سوارى المسجد، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل المسجد فصلى ركعتين- وكانت عادته ﷺ كلما قدم من سفر- فرآهم موثقين، فسأل عنهم، فذكر له أنهم أقسموا أن لا يحلوا أنفسهم حتى يكون رسول الله ﷺ هو الذي يحلهم، فقال: وأنا أقسم أن لا أحلهم حتى أومر فيهم، فنزلت،
(١). قال محمود: «معناه أنه مع شهامتك وفطنتك وصدق فراستك يخفون حالهم عليك... الخ» قال أحمد:
وكأن قوله تعالى مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ توطئة لتقرير خفاء حالهم عنه عليه الصلاة والسلام لما لهم من الخبرة في النفاق والضراوة به والله أعلم.
(٢). قوله «لفرط تنوقهم» أى تأنفهم. أفاده الصحاح. (ع)
(٣). قوله «فقال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم» ظاهره أن القائل هو ابن عباس. (ع)
(٤). أخرجه الطبري وابن مردويه والطبراني في الأوسط من طريق السدى عن أبى مالك عن ابن عباس بهذا إلى قوله «وفضحهم» وزاد «ولم يكن عمر بن الخطاب شهد تلك الجمعة لحاجة كانت له فلقيهم عمر فاختبأ منهم، ثم دخل المسجد فقال له رجل: يا عمر أبشر، فقد فضح الله المنافقين اليوم. فهذا العذاب الأول والعذاب الثاني عذاب القبر».
(٥). قوله «روى أن الذين اعترفوا بذنوبهم كانوا ثلاثة: أبو لبابة مروان بن عبد المنذر وأوس بن ثعلبة، ووديعة بن حزام» لم أجده.
فأطلقهم وعذرهم، فقالوا: يا رسول الله، هذه أموالنا التي خلفتنا عنك فتصدق بها وطهرنا، فقال:
ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً، فنزلت: خذ من أموالهم «١» عَمَلًا صالِحاً خروجا إلى الجهاد وَآخَرَ سَيِّئاً تخلفا عنه. عن الحسن وعن الكلبي: التوبة والإثم. فإن قلت: قد جعل كل واحد منهما مخلوطا فما المخلوط به «٢» ؟ قلت: كل واحد منهما مخلوط ومخلوط به، لأنّ المعنى خلط كل واحد منهما بالآخر، كقولك: خلطت الماء واللبن، ثريد: خلطت كل واحد منهما بصاحبه. وفيه ما ليس في قولك: خلطت الماء باللبن، لأنك جعلت الماء مخلوطاً واللبن مخلوطاً به، وإذا قلته بالواو جعلت الماء واللبن مخلوطين ومخلوطاً بهما، كأنك قلت: خلطت الماء باللبن واللبن بالماء، ويجوز أن يكون من قولهم: بعت الشاء شاة ودرهما، بمعنى شاة بدرهم. فإن قلت: كيف قيل أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ وما ذكرت توبتهم؟ قلت: إذا ذكر اعترافهم بذنوبهم، وهو دليل على التوبة، فقد ذكرت توبتهم.
[سورة التوبة (٩) : آية ١٠٣]
خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣)
تُطَهِّرُهُمْ صفة لصدقة. وقرئ: تطهرهم، من أطهره بمعنى طهره. وتطهرهم، بالجزم جوابا للأمر. ولم يقرأ وَتُزَكِّيهِمْ إلا بإثبات الياء. والتاء في تُطَهِّرُهُمْ للخطاب أو لغيبة المؤنث. والتزكية: مبالغة في التطهير وزيادة فيه. أو بمعنى الإنماء والبركة في المال وَصَلِّ عَلَيْهِمْ واعطف عليهم بالدعاء لهم وترحم، والسنة أن يدعو المصدّق لصاحب الصدقة «٣» إذا أخذها. وعن الشافعي رحمه الله: أحب أن يقول الوالي عند أخذ الصدقة: أجرك الله فيما أعطيت، وجعله طهوراً، وبارك لك فيما أبقيت. وقرئ: إنّ صلاتك، على التوحيد «٤» سَكَنٌ لَهُمْ
(١). أخرجه البيهقي في الدلائل وابن مردويه من طريق على ابن أبى طلحة عن ابن عباس في هذه الآية وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ- الآية كانوا عشرة رهط تخلفوا عن رسول الله ﷺ في غزوة تبوك فلما حضر رجوع النبي ﷺ أوثق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد- الحديث».
(٢). قال محمود: «إن قلت قد جعل كل واحد منهما مخلوطا فما المخلوط به... الخ» قال أحمد: والتحقيق في هذا أنك إذا قلت خلطت الماء باللبن فالمصرح به في هذا الكلام أن الماء المخلوط واللبن مخلوط به، والمدلول عليه لزوما لا تصريحا كون الماء مخلوطا به واللبن مخلوطا، وإذا قلت: خلطت الماء واللبن، فالمصرح به جعل كل واحد منهما مخلوطا. وأما ما خلط به كل واحد منهما فغير مصرح به، بل من اللازم أن كل واحد منهما مخلوط به. ويحتمل أن يكون قرينة أو غيره، فقول الزمخشري: «إن قولك خلطت الماء واللبن يفيد ما يفيده مع الباء وزيادة» ليس كذلك، فالظاهر في الآية- والله أعلم- أن العدول عن الباء إنما كان لتضمين الخلط معنى العمل، كأنه قيل: عملوا عملا صالحا وآخر سيئا، ثم انضاف إلى العمل معنى الخلط فعبر عنهما معا به، والله أعلم.
(٣). قوله «يدعو المصدق لصاحب الصدقة» المصدق اسم فاعل: الذي يأخذ الصدقات، أفاده الصحاح. (ع)
(٤). قوله «وقرئ إن صلاتك على التوحيد» بدل قراءة صلواتك على الجمع. (ع) [.....]
يسكنون إليه وتطمئنّ قلوبهم بأن الله قد تاب عليهم وَاللَّهُ سَمِيعٌ يسمع اعترافهم بذنوبهم ودعاءهم عَلِيمٌ بما في ضمائرهم، والغم من الندم لما فرط منهم.
[سورة التوبة (٩) : آية ١٠٤]
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤)
قرئ أَلَمْ يَعْلَمُوا بالياء والتاء، وفيه وجهان، أحدهما: أن يراد المتوب عليهم، يعنى:
ألم يعلموا قبل أن يتاب عليهم وتقبل صدقاتهم أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ إذا صحت، ويقبل الصدقات إذا صدرت عن خلوص النية، وهو للتخصيص والتأكيد، وأن الله تعالى من شأنه قبول توبة التائبين. وقيل: معنى التخصيص في هو: أن ذلك ليس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما الله سبحانه هو الذي يقبل التوبة ويردّها، فاقصدوه بها ووجهوها إليه.
[سورة التوبة (٩) : آية ١٠٥]
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥)
وَقُلِ لهؤلاء التائبين اعْمَلُوا فإن عملكم لا يخفى- خيراً كان أو شراً- على الله وعباده كما رأيتم وتبين لكم. والثاني: أن يراد غير التائبين ترغيباً لهم في التوبة، فقد روى أنهم لما تيب عليهم قال الذين لم يتوبوا: هؤلاء الذين تابوا كانوا بالأمس معنا لا يكلمون ولا يجالسون فما لهم فنزلت. فإن قلت: فما معنى قوله وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ قلت: هو مجاز عن قبوله لها، وعن ابن مسعود رضى الله عنه: إن الصدقة تقع في يد الله تعالى قبل أن تقع في يد السائل «١» والمعنى: أنه يتقبلها ويضاعف عليها، وقوله فَسَيَرَى اللَّهُ وعيد لهم وتحذير من عاقبة الإصرار والذهول عن التوبة.
[سورة التوبة (٩) : آية ١٠٦]
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠٦)
قرئ مرجون ومرجؤن من أرجيته. وأرجأته: إذا أخرته. ومنه المرجئة، يعنى:
وآخرون من المتخلفين موقوف أمرهم إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ إن بقوا على الإصرار ولم يتوبوا وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ
(١). أخرجه عبد الرزاق والطبراني من طريق عبد الله بن قتادة المحاربي عنه. وفي الصحيحين عن أبى هريرة مرفوعا «ما تصدق أحد بصدقة من طيب- ولا يقبل الله إلا الطيب- إلا أخذها الرحمن بيمينه... الحديث.
إن تابوا، وهم ثلاثة: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع:
أمر رسول الله ﷺ أصحابه أن لا يسلموا عليهم ولا يكلموهم، ولم يفعلوا كما فعل أبو لبابة وأصحابه من شدّ أنفسهم على السواري وإظهار الجزع والغم، فلما علموا أنّ أحداً لا ينظر إليهم فوّضوا أمرهم إلى الله تعالى، وأخلصوا نياتهم، ونصحت توبتهم، فرحمهم الله «١» وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وفي قراءة عبد الله: غفور رحيم. وإمّا للعباد: أى خافوا عليهم «٢» العذاب، وارجوا لهم الرحمة.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٠٧ الى ١٠٨]
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨)
في مصاحف أهل المدينة والشام: الذين اتخذوا بغير واو، لأنها قصة على حيالها. وفي سائرها بالواو على عطف قصة مسجد الضرار الذي أحدثه المنافقون على سائر قصصهم. روى أنّ بنى عمرو بن عوف لما بنوا مسجد قباء بعثوا إلى رسول الله ﷺ أن يأتيهم، فأتاهم فصلى فيه فحسدتهم إخوتهم بنو غنم بن عوف «٣» وقالوا: نبنى مسجداً ونرسل إلى
(١). لم أجده بهذا السياق. والقصة في الصحيحين من حديث كعب بن مالك: وهو حديث ابن عباس الذي قبله باختصار.
(٢). قوله «وإما للعباد أى خافوا عليهم» عبارة النسفي: وإما الشك وهو راجع إلى العباد. (ع)
(٣). لم أجده بهذا السياق إلا في الثعلبي بلا إسناد، وليس صدره بصحيح فان مسجد قباء كان قد أسس والنبي ﷺ بقباء أول ما هاجر، وبنى مسجد الضرار وكان في غزوة تبوك فبينهما تسع سنين لكن روى ابن مردويه من طريق محمد بن سعد العوفى عن أبيه عن عمه عن أبيه عن جده عطية بن سعد عن ابن عباس رضى الله عنهما قال «لما بنى رسول الله ﷺ مسجد قباء خرج رجال منهم عرج جد عبد الله بن حنيف، ووديعة ابن حزام، ومشجع بن حارثة، فبنو مسجدا- الحديث» من قوله «فبنوا مسجدا إلى مسجد قباء إلى آخره «ذكره ابن إسحاق في المغازي والطبري من طريقه عن الزهري ويزيد بن رومان وغيرهما قالوا: أقبل رسول الله ﷺ حتى نزل بذي أوان بينه وبين المدينة ساعة من نهار. وكان أصحاب مسجد الضرار قد أتوه وهو متجهز لغزوة تبوك- الحديث» ولم يذكر في الذين أرسلوا إلى هدمه سوى مالك بن الدخشم، ومعن بن عدى لم يذكر وحشيا قاتل حمزة وعامر بن السكن ورواه ابن مردويه من طريق ابن إسحاق قال: ذكر الزهري عن ابن أكيمة الليثي عن ابن أخى وهم أنه سمع أبا رهم الغفاري فذكر نحوه. وأما كونهم بنوه بسبب أبى عامر، فرواه ابن مردويه من طريق على بن أبى طلحة عن ابن عباس رضى الله عنهما.
309
رسول الله ﷺ يصلى فيه، ويصلى فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشام، ليثبت لهم الفضل والزيادة على إخوتهم، وهو الذي سماه رسول الله ﷺ الفاسق، وقال لرسول الله ﷺ يوم أحد: لا أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلتك معهم، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين، فلما انهزمت هوازن خرج هارباً إلى الشام، وأرسل إلى المنافقين.
أن استعدّوا بما استطعتم من قوة وسلاح، فإنى ذاهب إلى قيصر وآت بجنود ومخرج محمداً وأصحابه من المدينة، فبنوا مسجداً بجنب مسجد قباء، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والشاتية، ونحن نحب أن يصلى لنا فيه وتدعو لنا بالبركة، فقال صلى الله عليه وسلم: إنى على جناح سفر وحال شغل، وإذا قدمنا إن شاء الله صلينا فيه، فلما قفل من غزوة تبوك سألوه إتيان المسجد، فنزلت عليه، فدعا بمالك بن الدخشم ومعن بن عدى وعامر بن السكن ووحشى قاتل حمزة، فقال لهم: انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه، ففعلوا، وأمر أن يتخذ مكانه كناسة تلقى فيها الجيف والقمامة، ومات أبو عامر بالشام بقنسرين ضِراراً مضارّة لإخوانهم أصحاب مسجد فباء ومعازة وَكُفْراً وتقوية للنفاق وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ لأنهم كانوا يصلون مجتمعين في مسجد قباء فيغتص «١» بهم، فأرادوا أن يتفرقوا عنه وتختلف كلمتهم وَإِرْصاداً وإعداداً «ل» أجل لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وهو الراهب: أعدوه له ليصلى فيه ويظهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: كل مسجد بنى مباهاة أو رياء وسمعة أو لغرض سوى ابتغاء وجه الله أو بمال غير طيب، فهو لاحق بمسجد الضرار. وعن شقيق أنه لم يدرك الصلاة في مسجد بنى عامر، فقيل له: مسجد بنى فلان لم يصلوا فيه بعد، فقال: لا أحب أن أصلى فيه، فإنه بنى على ضرار، وكل مسجد بنى على ضرار أو رياء أو سمعة فإنّ أصله ينتهى إلى المسجد الذي بنى ضراراً. وعن عطاء: لما فتح الله تعالى الأمصار على يد عمر رضى الله عنه أمر المسلمين أن يبنوا المساجد وأن لا يتخذوا في مدينة مسجدين يضارّ أحدهما صاحبه. فإن قلت: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا ما محله من الإعراب؟ قلت: محله النصب على الاختصاص. كقوله الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وقيل: هو مبتدأ خبره محذوف، معناه: وفيمن وصفنا الذين اتخذوا كقوله وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ، فإن قلت: بم يتصل قوله مِنْ قَبْلُ؟ قلت. باتخذوا، أى اتخذوا مسجداً من قبل أن ينافق هؤلاء بالتخلف إِنْ أَرَدْنا ما أردنا ببناء هذا المسجد إِلَّا الخصلة الْحُسْنى أو الإرادة الحسنى، وهي الصلاة. وذكر الله والتوسعة على المصلين
(١). قوله «فيغتص» أى يمتلئ اه. (ع)
310
لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى قيل هو مسجد قباء أسسه رسول الله ﷺ وصلى فيه أيام مقامه بقباء، وهي يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وخرج يوم الجمعة، وهو أولى، لأنّ الموازنة بين مسجدى قباء أوقع. وقيل: هو مسجد رسول الله ﷺ بالمدينة: وعن أبى سعيد الخدري: سألت رسول الله ﷺ عن المسجد الذي أسس على التقوى، فأخذ حصباء فضرب بها الأرض وقال: هو مسجدكم هذا مسجد «١» المدينة مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ من أول يوم من أيام وجوده فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا قيل لما نزلت مشى رسول الله ﷺ ومعه المهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباء، فإذا الأنصار جلوس فقال: أمؤمنون أنتم؟ فسكت القوم، ثم أعادها: فقال عمر:
يا رسول الله إنهم لمؤمنون وأنا معهم. فقال صلى الله عليه وسلم: أترضون بالقضاء؟ قالوا:
نعم. قال: أتصرون على البلاء؟ قالوا: نعم. قال: أتشكرون في الرخاء؟ قالوا: نعم. قال:
صلى الله عليه وسلم: مؤمنون ورب الكعبة. فجلس ثم قال: يا معشر الأنصار، إن الله عزّ وجلّ قد أثنى عليكم فما الذي تصنعون عند الوضوء وعند الغائط، فقالوا يا رسول الله، نتبع الغائط الأحجار الثلاثة، ثم نتبع الأحجار الماء. فتلا النبي ﷺ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا «٢» وقرئ: أن يطهروا، بالإدغام. وقيل: هو عام في التطهر من النجاسات كلها. وقيل:
كانوا لا ينامون الليل على الجنابة، ويتبعون الماء أثر البول. وعن الحسن: هو التطهر من الذنوب بالتوبة. وقيل: يحبون أن يتطهروا بالحمى المكفرة لذنوبهم، فحموا عن آخرهم. فإن قلت: ما معنى المحبتين؟ قلت: محبتهم للتطهر أنهم يؤثرونه ويحرصون عليه حرص المحب للشيء المشتهى له على إيثاره. ومحبة الله تعالى إياهم: أنه يرضى عنهم ويحسن إليهم، كما يفعل المحب بمحبوبه.
[سورة التوبة (٩) : آية ١٠٩]
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩)
قرئ أَسس بنيانه، وأُسس بنيانه، على البناء للفاعل والمفعول. وأسس بنيانه، جمع أساس.
(١). رواه مسلم بلفظه.
(٢). لم أجده هكذا: وكأنه ملفق من حديثين: ذكر المخرج أولهما من الطبراني في الأوسط قال: حدثنا الهيثم ابن خلف الدوري بسنده إلى ابن عباس رضى الله عنهما قال «دخل رسول الله ﷺ على عمر. ومعه أناس، فقال: أمؤمنون أنتم؟ فسكتوا، ثلاث مرات، فقال عمر رضى الله عنه يا رسول الله، نؤمن بما أتيتنا به ونحمد الله في الرخاء، ونصبر في البلاء، ونرضى بالقضاء، فقال مؤمنون ورب الكعبة» انتهى، وهذا فيه من المخالفة بين السياقين ما لا يخفى، وأما الثاني، فروى ابن مردويه من طريق ابن عباس نحوه
على الإضافة، وأساس بنيانه، بالفتح والكسر: جمع أس، وآساس بنيانه على أفعال، جمع أس أيضا. وأس بنيانه. والمعنى: أفمن أسس بنيان دينه «١» على قاعدة قوية محكمة وهي الحق الذي هو تقوى الله ورضوانه خَيْرٌ أَمْ مَنْ أسسه على قاعدة هي أضعف القواعد وأرخاها وأقلها بقاء، وهو الباطل والنفاق الذي مثله مثل شَفا جُرُفٍ هارٍ في قلة الثبات والاستمساك، وضع شفا الجرف في مقابلة التقوى، لأنه جعل مجازا عما ينافي التقوى. فإن قلت: فما معنى قوله فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ؟ قلت: لما جعل الجرف الهائر مجازا عن الباطل قيل: فانهار به في نار جهنم، على معنى: فطاح به الباطل في نار جهنم، إلا أنه رشح المجاز فجيء بلفظ الانهيار الذي هو للجرف، وليصور أنّ المبطل كأنه أسس بنيانا على شفا جرف من أودية جهنم فانهار به ذلك الجرف فهوى في قعرها. والشفا: الحرف والشفير. وجرف الوادي: جانبه الذي يتحفر أصله بالماء وتجرفه السيول فيبقى واهيا. والهار: الهائر وهو المتصدع الذي أشفى على التهدم والسقوط. ووزنه فعل، قصر عن فاعل، كخلف من خالف. ونظيره: شاك وصات، في شائك وصائت. وألفه ليست بألف فاعل، إنما هي عينه. وأصله هور وشوك وصوت. ولا ترى أبلغ من هذا الكلام ولا أدلّ على حقيقة الباطل وكنه أمره. وقرئ: جرف. بسكون الراء.
فإن قلت: فما وجه ما روى سيبويه عن عيسى بن عمر: على تقوى من الله، بالتنوين؟ قلت:
قد جعل الألف للإلحاق لا للتأنيث، كتترى فيمن نوّن، ألحقها بجعفر. وفي مصحف أبىّ:
فانهارت به قواعده. وقيل: حفرت بقعة من مسجد الضرار فرؤى الدخان يخرج منه. وروى أن مجمع بن حارثة كان إمامهم في مسجد الضرار، فكلم بنو عمرو بن عوف أصحاب مسجد قباء عمر بن الخطاب في خلافته أن يأذن لمجمع فيؤمّهم في مسجدهم، فقال: لا، ولا نعمة عين، أليس بإمام مسجد الضرار؟ فقال: يا أمير المؤمنين، لا تعجل علىّ، فو الله لقد صليت بهم والله يعلم أنى لا أعلم ما أضمروا فيه، ولو علمت ما صليت معهم فيه، كنت غلاما قارئاً للقرآن وكانوا شيوخا لا يقرؤن من القرآن شيئا. فعذره وصدّقه وأمره بالصلاة بقومه.
[سورة التوبة (٩) : آية ١١٠]
لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠)
رِيبَةً شكا فى الدين ونفاقا، وكان القوم منافقين. وإنما حملهم على بناء ذلك المسجد كفرهم ونفاقهم كما قال عزّ وجلّ ضِراراً وَكُفْراً فلما هدمه رسول الله ﷺ ازدادوا
(١). قوله «فمن أسس بنيان دينه» هذا كما في الحديث «بنى الإسلام على خمس». (ع)
- لما غاظهم من ذلك وعظم عليهم- تصميما على النفاق ومقتاً للإسلام، فمعنى قوله لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ لا يزال هدمه سبب شكّ ونفاق زائد على شكهم ونفاقهم لا يزول وسمه عن قلوبهم ولا يضمحلّ أثره إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ قطعاً وتفرّق أجزاء، فحينئذ يسلون عنه. وأمّا ما دامت سالمة مجتمعة فالريبة باقية فيها متمكنة، فيجوز أن يكون ذكر التقطيع «١» تصويراً لحال زوال الريبة عنها. ويجوز أن يراد حقيقة تقطيعها وما هو كائن منه بقتلهم أو في القبور أو في النار. وقرئ: يقطع، بالياء. وتقطع، بالتخفيف. وتقطع، بفتح التاء بمعنى تتقطع.
وتقطع قلوبهم، على أن الخطاب للرسول أى إلا أن تقطع أنت قلوبهم بقتلهم. وقرأ الحسن:
إلى أن. وفي قراءة عبد الله: ولو قطعت قلوبهم. وعن طلحة: ولو قطعت قلوبهم على خطاب الرسول أو كل مخاطب. وقيل: معناه إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندما وأسفاً على تفريطهم.
[سورة التوبة (٩) : آية ١١١]
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١)
مثل الله إثابتهم بالجنة على بذلهم أنفسهم وأموالهم في سبيله بالشروى «٢». وروى: تاجرهم فأغلى لهم الثمن. وعن عمر رضى الله عنه فجعل لهم الصفقتين جميعاً. وعن الحسن أنفسا هو خلقها وأموالا هو رزقها. وروى أن الأنصار حين بايعوه على العقبة قال عبد الله بن رواحة: اشترط لربك ولنفسك ما شئت «٣». قال: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم. قال: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: لكم الجنة.
قالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل. ومرّ برسول الله ﷺ أعرابىّ وهو يقرؤها فقال: كلام من؟ قال كلام الله. قال: بيع والله مربح لا نقيله ولا نستقيله، فخرج إلى الغزو فاستشهد «٤» يُقاتِلُونَ فيه معنى الأمر، كقوله تُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ
(١). قوله «فيجوز أن يكون ذكر التقطيع» على قراءة تَقَطَّعَ بالتشديد، مبنيا للمفعول. (ع)
(٢). قوله «في سبيله بالشروى» كالجدوى. في الصحاح والوشاح هي المثل. والظن أنها هنا اسم للاشتراء. (ع)
(٣). أخرجه الطبري من طريق أبى معشر عن محمد بن كعب القرظي وغيره، قال «لما بايعت الأنصار ليلة العقبة- فذكره
(٤). ذكره الثعلبي هكذا بلا سند عن البصري مرسلا لكن سنده إلى الحسن البصري أول كتابه. قلت: أخرجه ابن أبى حاتم وابن مردويه من طريق أبى شيبة عن عطاء الخراساني عن جابر «نزلت هذه الآية على رسول الله ﷺ وهو في المسجد إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى فكبر الناس في المسجد. فأقبل رجل من الأنصار. فقال:
أنزلت هذه الآية؟ فقال: نعم، فقال بيع رابح. لا نقيل ولا نستقيل»
وأخرجه عبد بن حميد: حدثنا إبراهيم هو ابن عبد الحكم بن أبان عن أبيه عن عكرمة «لما نزلت هذه الآية إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى... قال رجل من الأنصار يا لها بيعة، ما أربحها. والله لا نقيل ولا نستقيل» وأخرجه الطبري من طريق محمد بن كعب وغيره قالوا: قال عبد الله ابن رواحة لرسول الله ﷺ «اشترط لربك ولنفسك ما شئت قال: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا. وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم قالوا فإذا فعلتا ذلك فما لنا؟ قال الجنة قالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل».
وقرئ: فيقتلون ويقتلون على بناء الأوّل للفاعل والثاني للمفعول، وعلى العكس وَعْداً مصدر مؤكد. أخبر بأن هذا الوعد الذي وعده للمجاهدين في سبيله وعد ثابت قد أثبته فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ كما أثبته في القرآن، ثم قال وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ لأنّ إخلاف الميعاد قبيح لا يقدم عليه الكرام من الخلق مع جوازه عليهم لحاجتهم، فكيف بالغنى الذي لا يجوز عليه القبيح قط، ولا ترى ترغيباً في الجهاد أحسن منه وأبلغ.
[سورة التوبة (٩) : آية ١١٢]
التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢)
التَّائِبُونَ رفع على المدح. أى: هم التائبون يعنى المؤمنين المذكورين. ويدل عليه قراءة عبد الله وأبىّ رضى الله عنهما: التائبين، بالياء إلى: والحافظين، نصباً على المدح. ويجوز أن يكون جراً صفة للمؤمنين. وجوّز الزجاج أن يكون مبتدأ خبره محذوف، أى: التائبون العابدون من أهل الجنة أيضاً وإن لم يجاهدوا، كقوله وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وقيل: هو رفع على البدل من الضمير في يقاتلون. ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره العابدون، وما بعده خبر بعد خبر، أى: التائبون من الكفر على الحقيقة الجامعون لهذه الخصال. وعن الحسن: هم الذين تابوا من الشرك وتبرؤا من النفاق. والْعابِدُونَ الذين عبدوا الله وحده وأخلصوا له العبادة وحرصوا عليها. والسَّائِحُونَ الصائمون شبهوا بذوي السياحة في الأرض في امتناعهم من شهواتهم. وقيل: هم طلبة العلم يسيحون في الأرض يطلبونه في مظانه.
[سورة التوبة (٩) : آية ١١٣]
ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣)
قيل قال ﷺ لعمه أبى طالب: أنت أعظم الناس علىَّ حقاً، وأحسنهم عندي
يداً، فقل كلمة تجب لك بها شفاعتي، فأبى، فقال: لا أزال أستغفر لك ما لم أنه عنه «١»، فنزلت.
وقيل: لما افتتح مكة سأل أى أبويه أحدث به عهداً؟ فقيل: أمك آمنة، فزار قبرها بالأبواء، ثم قام مستعبراً فقال: إنى استأذنت ربى في زيارة قبر أمى فأذن لي، واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي، فنزلت. وهذا أصح لأنّ موت أبى طالب كان قبل الهجرة، وهذا آخر ما نزل بالمدينة. وقيل: استغفر لأبيه. وقيل: قال المسلمون ما يمنعنا أن نستغفر لآبائنا وذوى قرابتنا وقد استغفر إبراهيم لأبيه، وهذا محمد يستغفر لعمه ما كانَ لِلنَّبِيِّ ما صح له الاستغفار في حكم الله وحكمته مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ لأنهم ماتوا على الشرك.
[سورة التوبة (٩) : آية ١١٤]
وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤)
قرأ طلحة وما استغفر ابراهيم لأبيه، وعنه: وما يستغفر إبراهيم، على حكاية الحال الماضية إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ أى وعدها إبراهيم أباه، وهو قوله لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ويدل عليه قراءة الحسن وحماد الرواية: وعدها أباه. فإن قلت كيف خفى على إبراهيم أن الاستغفار للكافر غير جائز حتى وعده؟ قلت: يجوز أن يظن أنه ما دام يرجى منه الإيمان جاز الاستغفار له، على أن امتناع جواز الاستغفار للكافر إنما علم بالوحي، لأن العقل يجوّز أن يغفر الله للكافر. ألا ترى إلى قوله عليه السلام لعمه: لأستغفرنّ لك ما لم أنه. وعن الحسن قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن فلاناً يستغفر لآبائه المشركين، فقال: ونحن نستغفر لهم فنزلت «٢» وعن على رضى الله عنه: رأيت رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان، فقلت له، فقال: أليس قد استغفر إبراهيم «٣» فإن قلت: فما معنى قوله فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ؟ قلت:
معناه: فلما تبين له من جهة الوحى أنه لن يؤمن وأنه يموت كافراً وانقطع رجاؤه عنه، قطع استغفاره فهو كقوله مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ. لَأَوَّاهٌ فعال، من أوه كلئال من اللؤلؤ، وهو الذي يكثر التأوه. ومعناه أنه لفرط ترحمه ورقته وحلمه كان يتعطف على أبيه الكافر ويستغفر له، مع شكاسته عليه «٤» وقوله لأرجمنك.
(١). متفق عليه من حديث سعيد بن المسيب عن أبيه في حديث، وغفل الحاكم فاستدركه.
(٢). لم أجده. [.....]
(٣). أخرجه الترمذي والنسائي والحاكم وأحمد وابن أبى شيبة وأبو يعلى والبزار من طريق أبى الخليل عن على قال «سمعت رجلا يستغفر لأبويه- الحديث».
(٤). قوله «مع شكاسته عليه» أى صعوبته. وفي الصحاح: رجل شكس- بالتسكين- أى صعب الخلق. (ع)

[سورة التوبة (٩) : الآيات ١١٥ الى ١١٦]

وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١١٦)
يعنى ما أمر الله باتقائه واجتنابه كالاستغفار للمشركين وغيره مما نهى عنه وبين أنه محظور لا يؤاخذ به عباده الذين هداهم للإسلام، ولا يسميهم ضلالا، ولا يخذلهم إلا إذا أقدموا عليه بعد بيان حظره عليهم وعلمهم أنه واجب الاتقاء والاجتناب. وأما قبل العلم والبيان فلا سبيل عليهم، كما لا يؤاخذون بشرب الخمر ولا ببيع الصاع بالصاعين قبل التحريم. وهذا بيان لعذر من خاف المؤاخذة بالاستغفار للمشركين قبل ورود النهى عنه. وفي هذه الآية شديدة ما ينبغي أن يغفل عنها: وهي أنّ المهدىَّ للإسلام إذا أقدم على بعض محظورات الله داخل في حكم الإضلال.
والمراد بما يتقون: ما يجب اتقاؤه للنهى، فأما ما يعلم بالعقل «١» كالصدق «٢» في الخبر، وردّ الوديعة فغير موقوف على التوقيف.
[سورة التوبة (٩) : آية ١١٧]
لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١١٧)
تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ كقوله لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وقوله وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وهو بعث للمؤمنين على التوبة، وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار حتى النبي والمهاجرون والأنصار، وإبانة لفضل التوبة ومقدارها عند الله، وأن صفة التوابين الأوّابين صفة الأنبياء، كما وصفهم بالصالحين ليظهر فضيلة الصلاح. وقيل: معناه تاب الله عليه من إذنه للمنافقين في التخلف عنه، كقوله عَفَا اللَّهُ عَنْكَ. فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ في وقتها، والساعة مستعملة في معنى الزمان المطلق، كما استعملت الغداة والعشية واليوم:
(١). قال محمود: «فأما ما يدرك حظره بالعقل... الخ» قال أحمد: هذا تفريع على قاعدة التحسين والتقبيح، وأن العقل حاكم، والشرع كاشف لما غمض عليه، تابع لمقتضاه. وهذه القاعدة قد سبق بطلانها في غير ما موضع، والله الموفق.
(٢). قوله «فأما ما يعلم بالعقل كالصدق» مبنى على مذهب المعتزلة أن الحكم قد يعلم بالعقل وعند أهل السنة لا حكم قبل الشرع. (ع)
316
غَدَاةَ طَفَتْ عَلْمَاءِ بَكْرُ بْنُ وَائِلِ «١»
وَكُنَّا حَسِبْنَا كُلَّ بَيْضَاءَ شَحْمَةً عَشِيَّةَ قَارَعْنَا جُذَامَ وَحِمْيَرَا «٢»
إذَا جَاءَ يَوْماً وَارِثِى يَبْتَغِى الْغِنَى يَجِدْ جُمْعَ كَفّ غَيْرَ مَلْأَى وَلَا صِفْرِ «٣»
(١).
غداة طفت علماء بكر بن وائل وعاجت صدور الخيل شطر تميم
المراد بالغداة مطلق الزمن ليناسب المدح. طفت- بالفاء- علت وارتفعت. ويروى بالغين، والمراد: العلو أيضاً. وعلماء: أصله على الماء، والمراد: ارتفع قدرهم في العز والمجد وانخفض غيرهم، كما يرتفع الشيء على وجه الماء ويرسب الآخر. أو المعنى: أنهم طغوا بالغين على أطغى شيء كالماء، فالماء طاغ على الناس وهم طاغون عليه. وفيه دلالة على الشجاعة. وبكر بن وائل: اسم أبى قبيله سميت هي باسمه. والوائل: أصله السابق الملتجئ.
وعاجت: أى أمالت صدور خيلها. وإيقاع الموج على الصدور، لأن السير والتحول من جهة إلى أخرى يظهران بها.
وشطر: أى جهة قبيلة تميم.
(٢).
وكنا حسبنا كل بيضاء شحمة عشية قارعنا جذام وحميرا
فلما قرعنا النبع بالنبع بعضه ببعض أبت عيدانه أن تكسرا
لزفر بن الحرث الكلابي من التابعين شهد وقعة صفين وغيرها. ويقال في المثل: ما كل بيضاء شحمة، ولا كل سوداء تمرة فما هنا تلميح له. والمراد بالعشية: مطلق الزمن لا آخر النهار فقط، لدلالة المقام على ذلك. والمقارعة: المضاربة بالرماح والسيوف. ويروى: ليالي لاقينا. وجذام: اسم قبيلة سميت به، وهي من اليمن كانت تنزل جبال حسمى، يقال: هي أول ما انحسر عنه الطوفان لارتفاعها. وحمير: أبو قبيلة أيضا سميت باسمه. ويروى: جذاما، بالتنوين للضرورة.
والنبع: شجر تتخذ منه الرماح. يقول: كنا ظننا أنهم ضعفاء نظفر بهم كغيرهم، فقوله «كل بيضاء شحمة» استعارة تمثيلية لذلك. وعشية: نصب بحسبنا، فلما التقت الرماح بيننا أبت أن تتكسر. وشبهها بما يصح منه الاباء على طريق الكناية. وأبت تخييل، وبعد ذلك فهو كناية عن قوة القبيلتين وعدم انخذالهما. وقيل: إنه يصفهما بالكرم وحسن القرى. فيكون الكلام كله بما فيه من المجاز والكناية، منقول من هيئة التقاء الصفوف في الحرب إلى هيئة التقاء الضيفان مع المضياف وعدم عجزه عن قراهم على طريق التمثيل، لكن العشية على حقيقتها. ومع توجيهنا له بذلك، يبعده قوله «حسبنا كل بيضاء شحمة» وهو قول من لم يقف على بقية القصيدة، فإنها مصرحة بأن المعنى محاربتهم إياهم ومكافأتهم لهم.
(٣).
إذا جاء يوما وارثي يبتغى الغنا يجد جمع كف غير ملأى ولا صفر
يجد فرسا مثل العنان وصار ما حساما إذا ما هز لم يرض بالهبر
وأسمر خطيا كأن كعوبه نوى القسب قد أربى ذراعا على العشر
لحاتم الطائي. والمراد باليوم: مطلق الزمن، بخلاف النهار فانه خاص بالمحدود الطرفين، وهكذا غالب استعمال العرب، والمراد بالغنى: التركة، لأنها سببه. وجمع الكف- بالضم-: الكف المقبوضة، فهو من إضافة الصفة للموصوف. والملأى: الممتلئة. وصفر الرجل- بالكسر- وأصفر فهو مصفر: افتقر. والصفر- بالضم، وقيل بالكسر-: الخالي. والصارم: السيف القاطع. وحسم الشيء: قطعه بالحسام الشديد القطع. ويطلق على الحديد الحد. والهبر: قطع بضعة كثيرة من اللحم. والسمرة: لون بين البياض والأدمة. والخط: موضع تنسب له الرماح الجيدة. والكعب: ما بين العقدتين. والقسب: نوع من التمر صلب النوى. وريا الشيء وأربى: زاد، وقد تقلب باؤه ميما، كما روى: قد أرمى. وذراعا: تمييز، أى زاد ذراعا على العشر الأذرع، فيكون مقداره أحد عشر ذراعا، والجملة وصف لأسمر. ويحتمل أنها حال من النوى، أى: زاد النوى حال كونه مقدار ذراع على العشر من النوى، فذراعا حال في ضمن الحال وإذا أشبهت كعوبه النوى في هذه الحالة، فكل ذراع منه يزيد على عشرة كعوب. ويجوز أن ذراعا تمييز محول عن الفاعل، أى: زاد كل ذراع من هذا الأسمر على عشرة كعوب. يقول:
إذا طلب وارثي تركتي يجد أشياء حقيقة بأن يقبض عليها بالكف حرصا عليها، فقوله «جمع كف» كناية عن ذلك غير ممتلئة عند من يحب المال، وغير خالية عند ملاقى الأبطال، ويجد الثاني بدل من الأول. وشبه فرسه بالعنان في الضمور والمكانة إذا هز أى حرك، كناية عن الضرب به، وشبهه بمن يصح منه الرضا على طريق الكناية ولم يرض تخييل: أى يجد فرسا ضامراً وسيفا قاطعا ورمحا طويلا أو صلبا. وجزم المضارع في جواب إذا وهو قليل.
317
والعسرة: حالهم في غزوة تبوك كانوا في عسرة من الظهر: يعتقب العشرة على بعير واحد.
وفي عسرة من الزاد: تزودوا التمر المدود والشعير المسوّس والإهالة الزنخة «١»، وبلغت بهم الشدّة أن اقتسم التمرة اثنان، وربما مصها الجماعة ليشربوا عليها الماء. وفي عسرة من الماء، حتى نحروا الإبل واعتصروا فروثها. وفي شدّة زمان، من حمارّة القيظ ومن الجدب والقحط والضيقة الشديدة كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ عن الثبات على الإيمان، أو عن اتباع الرسول في تلك الغزوة والخروج معه. وفي «كاد» ضمير الشأن، وشبهه سيبويه بقولهم: ليس خلق الله مثله. وقرئ: يزيغ، بالياء. وفي قراءة عبد الله: من بعد ما زاغت قلوب فريق منهم، يريد المتخلفين من المؤمنين كأبى لبابة وأمثاله ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ تكرير للتوكيد. ويجوز أن يكون الضمير للفريق: تاب عليهم لكيدودتهم.
[سورة التوبة (٩) : آية ١١٨]
وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨)
الثَّلاثَةِ كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية. ومعنى خُلِّفُوا خلفوا عن الغزو. وقيل: عن أبى لبابة وأصحابه حيث تيب عليهم بعدهم. وقرئ خُلِّفُوا أى خلفوا الغازين بالمدينة، أو فسدوا من الخالفة وخلوف الفم «٢». وقرأ جعفر الصادق رضى الله عنه:
خالفوا. وقرأ الأعمش: وعلى الثلاثة المخلفين بِما رَحُبَتْ برحبها، أى: مع سعتها، وهو مثل للحيرة في أمرهم، كأنهم لا يجدون فيها مكاناً يقرّون فيه قلقاً وجزعا مما هم فيه وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ أى قلوبهم، لا يسعها أنس ولا سرور، لأنها حرجت من فرط الوحشة والغمّ
(١). قوله «والاهالة الزنخة، أى الدهن المنتن. وحمارة القيظ بتشديد الراء شدة حره اه من الصحاح. (ع)
(٢). قوله «أو فسدوا من الخالفة وخلوف الفم»
الخالفة: الذي لا خير فيه. وخلوف الفم: تغيره: اه من الصحاح. (ع)
318
وَظَنُّوا وعلموا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ سخط اللَّهِ إِلَّا إلى استغفاره ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ثم رجع عليهم بالقبول والرحمة كرّة بعد أخرى، ليستقيموا على توبتهم ويثبتوا، وليتوبوا أيضاً فيما يستقبل إن فرطت منهم خطيئة، علماً منهم أن الله تواب على من تاب ولو عاد في اليوم مائة مرة. روى أن ناساً من المؤمنين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. منهم من بدا له وكره مكانه فلحق به. عن الحسن: بلغني أنه كان لأحدهم حائط كان خيراً من مائة ألف درهم فقال: يا حائطاه، ما خلفنى إلا ظلك وانتظار ثمرك، اذهب فأنت في سبيل الله. ولم يكن لآخر إلا أهله فقال: يا أهلاه ما بطأنى ولا خلفنى إلا الضنّ بك لا جرم، والله لأكابدنّ المفاوز حتى ألحق برسول الله، فركب ولحق به. ولم يكن لآخر إلا نفسه لا أهل ولا مال، فقال يا نفس ما خلفنى إلا حب الحياة لك والله لأكابدنّ الشدائد حتى ألحق برسول الله، فتأبط زاده ولحق به. قال الحسن: كذلك والله المؤمن يتوب من ذنوبه ولا يصر عليها. وعن أبى ذرّ الغفاري: أن بعيره أبطأ به فحمل متاعه على ظهره واتبع أثر رسول الله ﷺ ماشياً، فقال رسول الله ﷺ لما رأى سواده: كن أبا ذرّ، فقال الناس: هو ذاك، فقال: «رحم الله أبا ذرّ، يمشى وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده» «١» وعن أبى خيثمة «٢» أنه بلغ بستانه وكانت له امرأة حسناء، فرشت له في الظل، وبسطت له الحصير، وقربت إليه الرطب والماء البارد، فنظر فقال:
ظل ظليل، ورطب يانع، وماء بارد، وامرأة حسناء، ورسول الله ﷺ في الضحّ والريح «٣» : ما هذا بخير، فقام فرحل ناقته وأخذ سيفه ورمحه ومرّ كالريح، فمدّ رسول الله ﷺ طرفه إلى الطريق، فإذا براكب يزهاه السراب فقال: كن أبا خثيمة فكأنه. ففرح به رسول الله ﷺ واستغفر له. ومنهم من بقي لم يلحق به، منهم الثلاثة قال كعب:
(١). أخرجه ابن إسحاق في المغازي والحاكم والبيهقي في الدلائل، قال: حدثني بريدة بن سفيان عن محمد بن كعب القرظي عن عبد الله بن مسعود قال «لما سار رسول الله ﷺ إلى تبوك جعل لا يزال الرجل يتخلف- فذكره مطولا»
(٢). أخرجه ابن سعد بهذا بغير سند. وذكره الواقدي في المغازي حدثنا محمد بن رفاعة بن ثعلبة بن أبى مالك عن أبيه عن جده قال سألت زيد بن ثابت عن غزوة تبوك. فذكر القصة الطويلة وفيه وكان أبو خيثمة ويسمى عبد الله ابن خيثمة- السالمى رجع بعد أن سار رسول الله ﷺ عشرة أيام، حتى دخل على امرأتين له في يوم حار- فذكره وأخرجه ابن إسحاق في المغازي والحاكم والبيهقي من طريقه قال حدثني عبد الله بن أبى بكر بن عمرو بن حزم «أن أبا خيثمة سالم- فذكره. وله طريق أخرى عند الطبراني من طريق إبراهيم بن سعد بن خيثمة حدثنا أبى عن أبيه قال: تخلفت عن رسول الله ﷺ في غزوة تبوك، حتى مضى رسول الله ﷺ فدخلت حائطا- فذكر الحديث نحوه» وفي الصحيحين في حديث كعب بن مالك الطويل «فلما بلغ تبوك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما فعل كعب بن مالك فذكر الحديث وفيه: فبينما هم كذلك إذا هم برجل يزول به السراب. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم كن أبا خيثمة فإذا هو أبو خيثمة.
(٣). قوله «في الضح والريح»
الضح الشمس. ويزهاه السراب: يرفعه اه من الصحاح. (ع)
319
لما قفل رسول الله ﷺ سلمت عليه فردّ علىّ كالمغضب بعد ما ذكرني وقال: ليت شعري ما خلف كعباً؟ فقيل له: ما خلفه إلا حسن برديه والنظر في عطفيه. فقال: معاذ الله ما أعلم إلا فضلا وإسلاماً «١» ونهى عن كلامنا أيها الثلاثة، فتنكر لنا الناس ولم يكلمنا أحد من قريب ولا بعيد، فلما مضت أربعون ليلة أمرنا أن نعتزل نساءنا ولا نقربهنّ، فلما تمت خمسون ليلة إذا أنا بنداء من ذروة سلع «٢» : أبشر يا كعب بن مالك، فخررت ساجداً وكنت كما وصفني ربى ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وتتابعت البشارة، فلبست ثوبي وانطلقت إلى رسول الله ﷺ فإذا هو جالس في المسجد وحوله المسلمين، فقام إلىّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحنى وقال: لتهنك توبة الله عليك، فلن أنساها لطلحة، وقال رسول الله ﷺ وهو يستنير استنارة القمر: «أبشر يا كعب بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمّك» ثم تلا علينا الآية. وعن أبى بكر الورّاق أنه سئل عن التوبة النصوح فقال:
إن تضيق على التائب الأرض بما رحبت، وتضيق عليه نفسه، كتوبة كعب بن مالك وصاحبيه.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١١٩ الى ١٢١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩) ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١)
مَعَ الصَّادِقِينَ وقرئ: من الصادقين وهم الذين صدقوا في دين الله نية وقولا وعملا، أو الذين صدقوا في إيمانهم ومعاهدتهم لله ورسوله على الطاعة من قوله رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ وقيل: هم الثلاثة، أى كونوا مثل هؤلاء في صدقهم وثباتهم. وعن ابن عباس
(١). متفق عليه من حديث عبد الله بن كعب بن مالك عن كعب بن مالك مطولا، وقال فيه فقال رجل من بنى سلمة حبسه برداه فقال معاذ بن جبل: بئسما قلت- الحديث» قال المخرج: الوهم فيه من المصنف. وأخرجه أحمد وفيه: فقال رجل من قومي يا رسول الله خلفه برداه والنظر في عطفيه» وأفاد الواقدي في المغازي: أن الذي قال ذلك عبد الله بن قيس.
(٢). قوله «من ذروة سلع» سلع هو جبل بالمدينة، اه من الصحاح. (ع) [.....]
320
رضى الله عنه: الخطاب لمن آمن من أهل الكتاب، أى كونوا مع المهاجرين والأنصار، ووافقوهم وانتظموا في جملتهم، واصدقوا مثل صدقهم. وقيل لمن تخلف من الطلقاء عن غزوة تبوك. وعن ابن مسعود رضى الله عنه «١» : ولا يصلح الكذب في جدّ ولا هزل، ولا أن يعد أحدكم صبيه ثم لا ينجزه. اقرموا إن شئتم: وكونوا مع الصادقين. فهل فيها من رخصة؟
وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ أمروا بأن يصحبوه على البأساء. والضراء، وأن يكابدوا معه الأهوال برغبة ونشاط واغتباط، وأن يلقوا أنفسهم من الشدائد ما تلقاه نفسه، علما بأنها أعزُ نفس عند الله وأكرمها عليه، فإذا تعرضت مع كرامتها وعزتها للخوض في شدّة وهول، وجب على سائر الأنفس أن تتهافت «٢» فيما تعرضت له، ولا يكترث لها أصحابها ولا يقيموا لها وزنا، وتكون أخف شيء عليهم وأهونه، فضلا عن أن يربئوا «٣» بأنفسهم عن متابعتها ومصاحبتها ويضنوا بها على ما سمح بنفسه عليه، وهذا نهى بليغ، مع تقبيح لأمرهم، وتوبيخ لهم عليه، وتهييج لمتابعته بأنفة وحمية ذلِكَ إشارة إلى ما دل عليه قوله: ما كان لهم أن يتخلفوا، من وجوب مشايعته، كأنه قيل ذلك الوجوب «ب» سبب بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ شيء من عطش، ولا تعب. ولا مجاعة في طريق الجهاد، ولا يدوسون مكانا من أمكنة الكفار بحوافر خيولهم وأخفاف رواحلهم وأرجلهم، ولا يتصرفون في أرضهم تصرفا يغيظهم ويضيق صدورهم وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا ولا يرزءونهم شيئا بقتل أو أسر أو غنيمة أو هزيمة أو غير ذلك إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ واستوجبوا الثواب ونيل الزلفى عند الله، وذلك مما يوجب المشايعة. ويجوز أن يراد بالوطء الإيقاع والإبادة، لا الوطء بالأقدام والحوافر، كقوله عليه السلام «٤» :«آخر وطأة وطئها الله بوج «٥» » والموطئ إمّا مصدر كالمورد، وإمّا مكان. فإن كان مكانا فمعنى يغيظ الكفار: يغيظهم وطؤه. والنيل أيضاً يجوز أن يكون مصدراً مؤكداً، وأن يكون بمعنى المنيل. ويقال: نال منه إذا رزأه ونقصه، وهو عام في كل ما يسوؤهم وينكيهم ويلحق بهم ضرراً. وفيه دليل على أن من قصد خيراً كان سعيه فيه مشكوراً من قيام وقعود
(١). أخرجه الثعلبي من رواية وهب بن جرير عن شعبة عن عمرو بن مرة عن أبى عبيدة عن أبيه، موقوفا وكذا أخرجه إسحاق في مسنده عن وهب ورواه البيهقي في الشعب مختصراً. ورواه الحاكم مرفوعا بما من رواية أبى الأحوص عن عبد الله بن مسعود رفعه «لا يصلح الكذب في جد ولا هزل، ولا أن يعد الرجل ابنه ثم لا ينجزه».
(٢). قوله «تتهافت» أى تتساقط. (ع)
(٣). قوله «يربئوا» أى يرتفعوا. اه من الصحاح. (ع)
(٤). أخرجه أحمد وابن سعد والطبراني والبيهقي في الأسماء من حديث يعلى بن مرة الثقفي في أثناء حديث وأخرجه إسحاق والبيهقي أيضاً والطبراني من رواية عمر بن عبد العزيز قال: زعمت المرأة الصالحة خولة بنت حكيم.
(٥). قوله «بوج» هي بلد بالطائف اه صحاح. (ع)
321
ومشى وكلام وغير ذلك، وكذلك الشر. وبهذه الآية استشهد أصحاب أبى حنيفة أنّ المدد القادم بعد انقضاء الحرب يشارك لنا الجيش في الغنيمة، لأنّ وطء ديارهم مما يغيظهم وينكى فيهم، ولقد أسهم النبي ﷺ لا بنى عامر وقد قدما بعد تقضى الحرب «١»، وأمدّ أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه المهاجر بن أبى أمية وزياد بن أبى لبيد بعكرمة بن أبى جهل مع خمسمائة نفس، فلحقوا بعد ما فتحوا فأسهم لهم «٢». عند الشافعي: لا يشارك المدد الغانمين. وقرأ عبيد ابن عمير: ظماء بالمدّ. يقال: ظمئ ظماءة وظماء وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً ولو تمرة ولو علاقة سوط وَلا كَبِيرَةً مثل ما أنفق عثمان رضى الله عنه في جيش العسرة وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً أى أرضاً في ذهابهم ومجيئهم، والوادي كل منفرج بين جبال وآكام يكون منفذاً للسيل، وهو في الأصل «فاعل» من ودى إذا سال. ومنه الودي. وقد شاع في استعمال العرب بمعنى الأرض.
يقولون: لا تصلّ في وادى غيرك إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ ذلك من الإنفاق وقطع الوادي: ويجوز أن يرجع الضمير فيه إلى عمل صالح وقوله لِيَجْزِيَهُمُ متعلق بكتب أى أثبت في صحائفهم لأجل الجزاء.
[سورة التوبة (٩) : آية ١٢٢]
وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢)
اللام لتأكيد النفي. ومعناه أن نفير الكافة عن أوطانهم لطلب العلم غير صحيح ولا ممكن «٣».
(١). لم أره هكذا. وقد عزاه الطيبي لأبى داود والترمذي. وفي الصحيحين عن أبى موسى بلغنا مخرج النبي ﷺ ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه أنا وإخوان لي. أنا أصغرهم- الحديث قال: فأسهم لنا ولم يسهم لأحد غاب عن فتح خيبر إلا أصحاب سفينتنا».
(٢). أخرجه ابن أبى شيبة حدثنا عبد الله بن إدريس عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبى حبيب «أن أبا بكر بعث عكرمة بن أبى جهل ممدا للمهاجر بن أبى أمية، وزياد بن أسد. فانتهوا إلى القوم وقد فتح عليهم. قال:
فأشركهم في الغنيمة»
رواه الواقدي في المغازي: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن عقبة عن الحرث بن فضيل قال: لما جاء كتاب زياد بن لبيد- فذكر نحوه.
(٣). قال محمود: «معناه أن نفير الكافة لطلب العلم غير ممكن... الخ». قال أحمد: قوله وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً على التفسير الأول: أمر لا نهى. وعلى الثاني: خبر والمراد به النهى، لأنه في الأول راجع إلى تنفير أهل البوادي إلى المدينة للتفقه، وهذا لو أمكن الجميع فعله لكان جائزاً أو واجبا، وإن لم يمكن وجب على بعضهم القيام عن باقيهم على طريق وجوب الكفاية. وأما في الثاني فلأن المؤمنين نفروا من المدينة للجهاد أجمعين وكان ذلك ممكنا بل واقعا، فنهوا عن إطراح التفقه بالكلية وأمروا به أمر كفاية والله أعلم. قال أحمد: ولا أجد في تأخرى عن حضور الغزاة عذراً إلا صرف الهمة لتحذير هذا المصنف، فانى تفقهت في أصل الدين وقواعد العقائد مؤيداً بآيات الكتاب العزيز مع ما اشتمل عليه من صيانة حوزتها من مكايد أهل البدع والأهواء، وأنا مع ذلك أرجو من الله حسن التوجه بلغنا الله الخير، ووفقنا لما يرضيه، وجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم.
وفيه أنه لو صح وأمكن ولم يؤدّ إلى مفسدة لوجب، لوجوب التفقه على الكافة، ولأنّ طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة فَلَوْلا نَفَرَ فحين لم يمكن نفير الكافة ولم يكن مصلحة فهلا نفر مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ أى من كل جماعة كثيرة جماعة قليلة منهم يكفونهم النفير لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ليتكلفوا الفقاهة فيه، ويتجشموا المشاق في أخذها وتحصيلها وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ وليجعلوا غرضهم ومرمى همتهم في التفقه: إنذار قومهم وإرشادهم والنصيحة لهم، لا ما ينتحيه الفقهاء من الأغراض الخسيسة ويؤمّونها من المقاصد الركيكة، من التصدّر والترؤس والتبسط في البلاد، والتشبه بالظلمة في ملابسهم ومراكبهم ومنافسة بعضهم بعضاً، وفشوّداء الضرائر بينهم، وانقلاب حماليق أحدهم «١» إذا لمح ببصره مدرسة لآخر، أو شر ذمة جثوا بين يديه، وتهالكه على أن يكون موطأ العقب دون الناس كلهم، فما أبعد هؤلاء من قوله عزّ وجل لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً. لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ إرادة أن يحذروا الله فيعملوا عملا صالحاً. ووجه آخر: وهو أنّ رسول الله ﷺ كان إذا بعث بعثا- بعد غزوة تبوك وبعد ما أنزل في المتخلفين من الآيات الشداد- استبق المؤمنون عن آخرهم إلى النفير وانقطعوا جميعاً عن استماع الوحى والتفقه في الدين، فأمروا أن ينفر من كل فرقة منهم طائفة إلى الجهاد ويبقى أعقابهم يتفقهون، حتى لا ينقطعوا عن التفقه الذي هو الجهاد الأكبر، لأن الجدال بالحجّة أعظم أثراً من الجلاد بالسيف. وقوله لِيَتَفَقَّهُوا الضمير فيه للفرق الباقية بعد الطواف، النافرة من بينهم، وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ ولينذر الفرق الباقية قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم بما حصلوا في أيام غيبتهم من العلوم وعلى الأوّل الضمير للطائفة النافرة إلى المدينة للتفقه.
[سورة التوبة (٩) : آية ١٢٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣)
يَلُونَكُمْ يقربون منكم، والقتال واجب مع كافة الكفرة قريبهم وبعيدهم «٢»، ولكن الأقرب فالأقرب أوجب. ونظيره وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وقد حارب رسول الله ﷺ قومه، ثم غيرهم من عرب الحجاز، ثم غزا الشأم. وقيل: هم قريظة والنضير وفدك
(١). قوله «وانقلاب حماليق أحدهم» الحماليق: هي ما يسوده الكحل من باطن الجفن. وقيل: ما غطته الأجفان من بياض المقلة. اه من الصحاح. (ع)
(٢). قال محمود: «القتال واجب مع كافة الكفرة قريبهم وبعيدهم... الخ» قال أحمد: يتعين القتال على أحد فريقين: إما من نزل بهم عدو وفيهم قوة عليه، ثم على من قرب منهم حتى يكتفوا. وإما من عينهم الامام لذلك وإن بعدت بهم الدار. وإذا أوجب الله على هذه الأمة القتال وإزعاج العدو من دياره وإخراجه من قراره، فوجوبه وقد نزل العدو بدار الإسلام أجدر.
وخيبر. وقيل: الروم، لأنهم كانوا يسكنون الشأم والشأم أقرب إلى المدينة من العراق وغيره، وهكذا المفروض على أهل كل ناحية أن يقاتلوا من وليهم، ما لم يضطر إليهم أهل ناحية أخرى.
وعن ابن عمر رضى الله عنه أنه سئل عن قتال الديلم؟ فقال: عليك بالروم. وقرئ غِلْظَةً بالحركات الثلاث، فالغلظة كالشدّة، والغلظة كالضغطه، والغاظة كالسخطة ونحوه وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَلا تَهِنُوا وهو يجمع الجرأة والصبر على القتال وشدّة العداوة والعنف في القتل والأسر، ومنه وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ. مَعَ الْمُتَّقِينَ ينصر من اتقاه فلم يترأف على عدوّه
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٢٤ الى ١٢٥]
وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (١٢٥)
فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ فمن المنافقين من يقول بعضهم لبعض أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ السورة إِيماناً إنكاراً واستهزاء بالمؤمنين واعتقادهم زيادة الإيمان بزيادة العلم الحاصل بالوحي والعمل به.
وأيكم: مرفوع بالابتداء. وقرأ عبيد بن عمير: أيكم، بالفتح على إضمار فعل يفسره زادَتْهُ تقديره: أيكم زادت زادته هذه إيمانا فَزادَتْهُمْ إِيماناً لأنها أزيد لليقين والثبات، وأثلج للصدر. أو فزادتهم عملا، فإن زيادة العمل زيادة في الإيمان، لأنّ الإيمان يقع على الاعتقاد والعمل فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ كفراً مضموما إلى كفرهم، لأنهم كلما جدّدوا بتجديد الله الوحى كفراً ونفاقا، ازداد كفرهم واستحكم وتضاعف عقابهم.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٢٦ الى ١٢٧]
أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٢٧)
قرئ: ولا يرون، بالياء والتاء يُفْتَنُونَ يبتلون بالمرض والقحط وغيرهما من بلاء الله ثم لا ينتهون ولا يتوبون عن نفاقهم، ولا يذكرون، ولا يعتبرون، ولا ينظرون في أمرهم، أو يبتلون في الجهاد مع رسول الله ﷺ ويعاينون أمره وما ينزل الله عليه من نصرته وتأييده. أو يفتنهم الشيطان فيكذبون وينقضون العهود مع رسول الله ﷺ فيقتلهم وينكل بهم، ثم لا ينزجرون نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ تغامزوا بالعيون إنكاراً للوحى «١»
(١). قال محمود: «معناه تغامزوا بالعيون إنكاراً للوحى... الخ» قال أحمد: يحتمل الدعاء كما فسره. ويحتمل الاخبار بأن الله صرف قلوبهم أى منعها من تلقى الحق بالقبول، ولكن الزمخشري يفر من جعله خبرا لأن صرف القلوب عن الحق لا يجوز على الله تعالى عنده، بناء على قاعدة الصلاح والأصلح، ولا يزال يؤول الظاهر إذا اقتضى ذلك كما مر له في قوله خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فلما احتملت هذه الآية الدعاء والخبر على حد سواء، تعين عنده جعلها دعاء، ثم في هذا الدعاء مناسبة الفعل الصادر منهم وهو الانصراف، كقوله وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وكقوله وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ.
وسخرية به قائلين هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ من المسلمين لننصرف، فإنا لا نصبر على استماعه ويغلبنا الضحك، فنخاف الافتضاح بينهم. أو ترامقوا يتشاورون في تدبير الخروج والانسلال لو إذا يقولون: هل يراكم من أحد. وقيل: معناه: إذا ما أنزلت سورة في عيب المنافقين صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ دعاء عليهم بالخذلان وبصرف قلوبهم عما في قلوب أهل الإيمان من الانشراح بِأَنَّهُمْ بسبب أنهم قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ لا يتدبرون حتى يفقهوا.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٢٨ الى ١٢٩]
لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩)
مِنْ أَنْفُسِكُمْ من جنسكم ومن نسبكم عربى قرشي مثلكم، ثم ذكر ما يتبع المجانسة والمناسبة من النتائج بقوله عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ أى شديد عليه شاق- لكونه بعضاً منكم- عنتكم ولقاؤكم المكروه، فهو يخاف عليكم سوء العاقبة والوقوع في العذاب حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ حتى لا يخرج أحد منكم عن اتباعه والاستسعاد بدين الحق الذي جاء به بِالْمُؤْمِنِينَ منكم ومن غيركم رَؤُفٌ رَحِيمٌ. وقرئ: من أنفسكم، أى من أشرفكم وأفضلكم. وقيل: هي قراءة رسول الله ﷺ وفاطمة وعائشة رضى الله عنهما. وقيل: لم يجمع الله اسمين من أسمائه لأحد غير رسول الله ﷺ في قوله رَؤُفٌ رَحِيمٌ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فإن أعرضوا عن الإيمان بك وناصبوك فاستعن وفوّض إليه، فهو كافيك معرّتهم «١» ولا يضرونك وهو ناصرك عليهم.
وقرئ «العظيم» بالرفع. وعن ابن عباس رضى الله عنه: العرش لا يقدر أحد قدره. وعن أبىّ ابن كعب: آخر آية نزلت لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ.
عن رسول الله ﷺ «ما نزل علىّ القرآن إلا آية آية وحرفاً حرفاً، ما خلا سورة براءة وقل هو الله أحد، فإنهما أنزلتا علىّ ومعهما سبعون ألف صف من الملائكة» «٢»
(١). قوله «فهو كافيك معرتهم» المعرة: الإثم، كذا في الصحاح. (ع)
(٢). أخرجه الثعلبي من حديث عائشة بإسناد واه.
Icon