تفسير سورة التوبة

تفسير القاسمي
تفسير سورة سورة التوبة من كتاب محاسن التأويل المعروف بـتفسير القاسمي .
لمؤلفه جمال الدين القاسمي . المتوفي سنة 1332 هـ
٩- سورة التوبة
هي مدنية بإجماعهم. قيل : سوى آيتين في آخرها١ ﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم... ﴾ فإنهما نزلتا بمكة. وفيه نظر. فقد روى البخاري٢ عن البراء " أنها آخر سورة نزلت "، واستثنى بعضهم ﴿ ما كان للنبي... ﴾ ٣ الآية - لما ورد أنها نزلت في قوله عليه الصلاة والسلام لأبي طالب :" لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ". وهي مائة وتسع وعشرون آية ولهذه السورة عشرة أسماء :
١- براءة : سميت بها لافتتاحها بها، ومرجع أكثر ما ذكر فيها إليها.
٢- التوبة : لتكرارها فيها، كقوله تعالى٤ ﴿ فإن تبتم فهو خير لكم ﴾ ﴿ فإن تابوا وأقاموا الصلاة ﴾ ٥ وقوله٦ :﴿ ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء ﴾ وقوله٧ :﴿ فإن يتوبوا يك خيرا لهم ﴾ وقوله٨ :﴿ عسى الله أن يتوب عليهم ﴾ وقوله٩ :﴿ لقد تاب الله على النبي ﴾، وقوله١٠ :﴿ ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة ﴾ وقوله١١ :﴿ التائبون العابدون ﴾ وهما أشهر أسمائها.
٣- الفاضحة : أخرج البخاري١٢ عن سعيد بن جبير قال :" قلت لابن عباس : سورة / التوبة، قال التوبة هي الفاضحة، مازالت تنزل : ومنهم ومنهم حتى ظنوا أنها لم تبق أحدا منهم إلا ذكر فيها ".
٤- سورة العذاب : رواه الحاكم عن حذيفة، وذلك لتكرره فيها.
٥- المقشقشة : رواه أبو الشيخ عن ابن عمر، والقشقشة معناها التبرئة، وهي مبرئة من النفاق.
٦- المنقرة : أخرجه أبو الشيخ عن عبيد بن عمير لأنها نقرت عما في قلوب المشركين. أي بحثت.
٧- البحوت : بفتح الباء، صيغة مبالغة، رواه الحاكم عن المقداد.
٨- الحافرة : ذكره ابن الغرس، لأنها حفرت عن قلوب المنافقين، أي بحثت عنها، مجازا.
٩- المثيرة : رواه أبي حاتم عن قتادة لأنها أثارت مثالبهم وعوراتهم أي أخرجتها من الخفاء إلى الظهور.
١٠- المبعثرة : لأنها بعثرت أسرارهم أي أظهرتها.
١١- المدمدمة : أي المهلكة لهم.
١٢- المخزية.
١٣- المنكلة : أي المعاقبة لهم.
١٤- المشردة : أي الطاردة لهم والمفرقة جمعهم.
وليس في السور أكثر منها ومن الفاتحة.
تنبيه :
للسلف في وجه ترك كتابة البسملة في هذه السورة والتلفظ بها أقوال :
١- روى الحاكم في ( المستدرك ) عن ابن عباس قال :" سألت علي بن أبي طالب : لمَ لم تكتب في ( براءة ) البسملة ؟ قال : لأنها أمان، وبراءة نزلت بالسيف " أي فنزولها لرفع / الأمان الذي يأبي مقامه التصدير بما يشعر ببقائه من ذكر اسمه تعالى، مشفوعا بوصف الرحمة، ولذا قال ابن عيينية : اسم الله سلام وأمان، فلا يكتب في النبذ والمحاربة. قال الله تعالى١٣ :﴿ ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مومنا ﴾ قيل له : فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد كتب إلى أهل الحرب البسملة، قال : إنما ذلك ابتداء منه يدعوهم، ولم ينبذ إليهم ألا تراه يقول :" سلام على من اتبع الهدى ؟ فمن دعي إلى الله عز وجل فأجاب، ودعي إلى الجزية فأجاب، فقد اتبع الهدى، فظهر الفرق. وكذا قال المبرد : إن التسمية افتتاح للخير، وأول هذه السورة وعيد ونقض عهود، فلذلك لم تفتتح بالتسمية.
٢- عن ابن عباس قال :" قلت لعثمان : ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال، وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا سطر البسملة، ووضعتموها في السبع الطوال، ما حملكم على ذلك ؟ قال عثمان : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد، وكان إذا نزل عليه شيء دعا بعض من كان يكتب فيقول : ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وإذا نزلت عليه الآية يقول : ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت ( الأنفال ) من أوائل ما نزل بالمدينة، وكانت ( براءة ) من آخر القرآن نزولا، وكانت قصتها شبيها بقصتها، وظَنَنْتُ أنها منها. وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبين لنا أنها منها أو من غيرها، من أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب البسملة، ووضعتها في السبع الطوال " أخرجه أبو داود ١٤ والترمذي١٥ وقال : حديث حسن ورواه الإمام أحمد١٦ والنسائي وابن حبان في ( صحيحه ) والحاكم وصححه.
قال الزجاج : والشبه الذي بينهما أن في ( الأنفال ) ذكر العهود، وفي ( براءة ) نقضها.
٣- أخرج أبو الشيخ عن أبي روق قال : الأنفال و( براءة ) سورة واحدة. ونقل مثله عن مجاهد، وأخرجه ابن أبي حاتم عن سفيان. وقال ابن لهيعة : يقولون إن ( براءة ) من ( الأنفال )، ولذلك لم تكتب البسملة في ( براءة )، وشبهتهم اشتباه الطرفين، وعدم البسملة. ويردّه تسمية النبي صلى الله عليه وسلم، كلا منهما.
وقال الحاكم : استفاض النقل أنهما سورتان.
وقال أبو السعود : اشتهارها بهذه الأسماء، يعني الأربعة عشر اسما المتقدمة - يقضي بأنها سورة مستقلة، وليست بعضا من سورة الأنفال، وادعاء اختصاص الاشتهار بالقائلين باستقلالها، خلاف الظاهر. انتهى.
ونقل صاحب ( الإقناع ) أن البسملة ثابتة ( لبراءة ) في مصحف ابن مسعود، قال : ولا يؤخذ بهذا.
وعن مالك : أن أولها لما سقط، سقط معه البسملة، فقد ثبت أنها كانت تعدل البقرة لطولها. كذا في ( الإتقان ).
ثم اعلم أن القراء أجمعوا على ترك قراءة البسملة في أول هذه السورة اتباعاً لسقوطها في الرسم من مصحف الإمام، إلا ابن منادر، فإنه يسمي في أولها، كما في مصحف ابن مسعود.
وقال البخاريّ في ( جمال القراء )، إنه اشتهر تركها في أول براءة.
وروي عن عاصم التسمية في أولها، وهو القياس. لأن إسقاطها، إما لأنها نزلت بالسيف أو لأنهم لم يقطعوا بأنها سورة مستقلة، بل من الأنفال. ولا يتم الأول، لأنه مخصوص بمن نزلت فيه، ونحن إنما نسمي للتبرك. وأما الابتداء بما بعد أول براءة، فلا نص للمتقدمين من أئمة القراء فيه، وظاهر إطلاق كثير التخيير فيها، واختار السخاويّ / الجواز، وقال : ألا ترى أنه يجوز بغير خلاف أن يقول :﴿ بسم الله الرحمن الرحيم وقاتلوا المشركين ﴾ ١٧ وإلى منعها ذهب الجعبريّ، وتعقبه السخاويّ فقال : إن كان نقلاً فمسلَّم، وإلا فردٌّ عليه لأنه تقريع على غير أصل.
وقال ابن الجزريّ في ( النشر ) : من اعتبر بقاء أثر العلة التي من أجلها حذفت البسملة أولها، وهي نزولها بالسيف، لم يبسمل. ومن لم يعتبر ذلك، أو لم يرها، بسمل بلا نظر. والله أعلم.
١ ٩ / التوبة / ١٢٨. .
٢ أخرجه البخاري في : ٦٥- كتاب التفسير، ٩ سورة التوبة، ١- باب قوله ﴿براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتهم من المشركين﴾ حديث ١٩٤١. .
٣ ٩ / التوبة / ١١٣. .
٤ ٩ / التوبة / ٣..
٥ ٩ /ا التوبة / ٥ و ١١..
٦ ٩ / التوبة / ٢٧..
٧ ٩ / التوبة / ٧٤..
٨ ٩ / التوبة / ١٠٢..
٩ ٩ / التوبة / ١١٧..
١٠ ٩ / التوبة / ١٠٤..
١١ ٩ / التوبة / ١١٢..
١٢ أخرجه البخاري في : ٦٥- كتاب التفسير، ٥٩ - سورة الحشر، ١- حدثنا محمد بن عبد الرحيم، حديث رقم ١٨٦٩..
١٣ ٤ / النساء / ٩٤..
١٤ أخرجه أبو داود في : ٢- كتاب الصلاة، ١٢٢ باب من لم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، باب من جهر بها، حديث رقم ٧٨٦..
١٥ أخرجه الترمذي في : ٤٤ كتاب التفسير، ٩ سورة التوبة، ١- حدثنا محمد بن بشار..
١٦ أخرجه في المسند بالصفحة رقم ٥٧ من الجزء الأول (طبعة الحلبي) حديث ٣٩٩ (طبعة المعارف) وعلى هذا الحديث تعليق بقلم شيخنا الأستاذ أحمد شاكر في الكلام على رجال سند هذا الحديث وفي تضعيفه فانظر فإن البحث جليل جدا..
١٧ ٩ / التوبة / ٣٦..
ونقل صاحب (الإقناع) أن البسملة ثابتة (لبراءة) في مصحف ابن مسعود، قال: ولا يؤخذ بهذا.
وعن مالك: أن أولها لما سقط، سقط معه البسملة، فقد ثبت أنها كانت تعدل البقرة لطولها. كذا في (الإتقان).
ثم اعلم أن القراء أجمعوا على ترك قراءة البسملة في أول هذه السورة اتباعا لسقوطها في الرسم من مصحف الإمام، إلا ابن مناذر، فإنه يسمي في أولها، كما في مصحف ابن مسعود.
وقال السخاوي في (جمال القراء) : إنه اشتهر تركها في أول براءة.
وروي عن عاصم التسمية في أولها، وهو القياس. لأن إسقاطها، إما لأنها نزلت بالسيف أو لأنهم لم يقطعوا بأنها سورة مستقلة، بل من الأنفال. ولا يتم الأول، لأنه مخصوص بمن نزلت فيه، ونحن إنما نسمي للتبرك. وأما الابتداء بما بعد أول براءة، فلا نصّ للمتقدمين من أئمة القراء فيه، وظاهر إطلاق كثير التخيير فيها، واختار السخاوي الجواز، وقال: ألا ترى أنه يجوز بغير خلاف أن يقول: بسم الله الرحمن الرحيم وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة: ٣٦]. وإلى منعها ذهب الجعبري، وتعقبه السخاويّ فقال: إن كان نقلا فمسلّم، وإلا فردّ عليه، لأنه تفريع على غير أصل.
وقال ابن الجزري في (النشر) : من اعتبر بقاء أثر العلة التي من أجلها حذفت البسملة أولها، وهي نزولها بالسيف، لم يبسمل. ومن لم يعتبر ذلك، أو لم يرها، بسمل بلا نظر. والله أعلم.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١]
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١)
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ خبر لمحذوف، وتنوينه للتفخيم. أي هذه براءة. أو مبتدأ مخصص بصفة، وخبره إِلَى الَّذِينَ.
و (البراءة) في اللغة انقطاع العصمة، يقال: برئت من فلان براءة، أي انقطعت بيننا العصمة، ولم يبق بيننا علقة.
فإن قيل: حق البراءة أن تنسب إلى المعاهد، فلم لم تنسب إليهم، ونسبت إلى الله ورسوله؟
345
أجيب: أن عاهَدْتُمْ إخبار عن سابق صدر من الرسول صلّى الله عليه وسلّم والجماعة، فنسب إلى الكل، كما هو الواقع، وإن كان بإذن الله أيضا.
وأما البراءة فهي إخبار عن متجدّد، فكيف ينسب إليهم، وهم لم يحدثوه بعد، وإنما يسند إلى من أحدثه؟ وقال الناصر: إن سر ذلك أن نسبة العهد إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلّم في مقام نسب فيه النبذ إلى المشركين، لا يحسن أدبا. ألا ترى إلى وصية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأمراء السرايا حيث
يقول لهم «١» :«إذا نزلت بحصن فطلبوا النزول على حكم الله، فأنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أصادفت حكم الله فيهم أو لا! وإن طلبوا ذمة الله، فأنزلهم على ذمتك. فلأن تخفر ذمتك، خير من أن تخفر ذمة الله» !
فانظر إلى أمره صلّى الله عليه وسلّم بتوقير ذمة الله، مخافة أن تخفر، وإن كان لم يحصل بعد ذلك الأمر المتوقع، فتوقير عهد الله، وقد تحقق من المشركين النكث، وقد تبرأ منه الله ورسوله بألا ينسب العهد المنبوذ إلى الله- أحرى وأجدر. فلذلك نسب العهد إلى المسلمين دون البراءة منه.
وقال الشهاب: ولك أن تقول: إنما أضاف العهد إلى المسلمين، لأن الله علم أن لا عهد لهم، فلذا لم يضف العهد إليه، لبراءته منهم، ومن عهدهم في الأزل.
وهذا نكتة الإتيان بالجملة اسمية خبرية. وإن قيل: إنها إنشائية للبراءة منهم، ولذا دلت على التجدد. انتهى.
قال ابن إسحاق. نزلت براءة في نقض ما بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين المشركين من العقد الذي كانوا عليه فيما بينه وبينهم، ألا يصدّ عن البيت أحد جاءه، ولا يخاف أحد في الشهر الحرام. وكان ذلك عهدا عامّا بينه وبين الناس من أهل الشرك.
وكانت بين ذلك عهود بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين قبائل من العرب خصائص إلى آجال مسماة، فنزلت فيه وفيمن تخلف من المنافقين عنه في (تبوك)، وفي قول من قال منهم، فكشف الله سرائر أقوام كانوا يستخفون بغير ما يظهرون.
(١) أخرجه مسلم في: الجهاد، حديث رقم ٣.
وأخرجه أبو داود في: الجهاد، ٨٢- باب في دعاء المشركين، حديث رقم ٢٦١٢.
وأخرجه الترمذي في: السير، ٤٧- باب ما جاء في وصية النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في القتال.
وأخرجه ابن ماجة في: الجهاد، ٣٨- باب وصية الإمام، حديث رقم ٢٨٥٨.
346
وقال ابن كثير: وأول هذه السورة نزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما رجع من غزوة (تبوك)، وهمّ بالحج. ثم ذكر أن المشركين يحضرون عامهم هذا الموسم على عادتهم في ذلك. وأنهم يطوفون بالبيت عراة، فكره مخالطتهم، وبعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه أميرا على الحج تلك السنة، ليقيم للناس مناسكهم، ويعلم المشركون ألا يحجوا بعد عامهم هذا، وأن ينادي بالناس بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فلما قفل، أتبعه بعليّ بن أبي طالب، ليكون مبلغا عنه صلّى الله عليه وسلّم، لكونه عصبة له، كما سيأتي.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٢]
فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢)
فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أي فقولوا لهم: سيروا في الأرض بعد نبذنا العهد آمنين من القتل والقتال مدة أربعة أشهر، وذلك من يوم النحر إلى عشر يخلون من ربيع الآخر. والمقصود تأمينهم من القتل، وتفكرهم واحتياطهم، ليعلموا أنهم ليس لهم بعدها إلا السيف، وليعلموا قوة المسلمين إذ لم يخشوا استعدادهم لهم.
وهذه الأربعة الأشهر كانت عهدا لمن له عهد دون الأربعة الأشهر، فأتمت له. فأما من كان له عهد موقت، فأجله إلى مدته، مهما كانت، لقوله تعالى: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ [التوبة: ٤]، كما يأتي. روي هذا عن غير واحد، واختاره ابن جرير. وقال مجاهد: هذا تأجيل للمشركين مطلقا، فمن كانت مدة عهده أقل من أربعة أشهر رفع إليها، ومن كانت أكثر حط إليها، ومن كان عهده بغير أجل حدّ بها، ثم هو بعد ذلك حرب لله ولرسوله، يقتل حيث أدرك ويؤسر، إلا أن يتوب ويؤمن.
أقول: ولا يرد عليه إطلاق قوله تعالى: إِلى مُدَّتِهِمْ، لأن له أن يجيب بأن الإضافة للعهد، أي المدة المعهودة وهي الأربعة الأشهر. والله أعلم.
وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ يعني أن هذا الإمهال ليس لعجز عنكم، ولكن لحكمة ولطف بكم. أي فلا تفوتونه. وإن أمهلكم وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ أي مذلّهم بالقتل في الدنيا، والعذاب في الآخرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٣]
وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣)
وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ. (الأذان) بمعنى الإيذان، وهو الإعلام، كما أن الأمان والعطاء بمعنى الإيمان والإعطاء. وارتفاعه كارتفاع بَراءَةٌ وهذه الجملة معطوفة على مثلها، والفرق بين معنى الجملة الأولى والثانية أن تلك إخبار بثبوت البراءة، وهذه إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت، وإنما علقت البراءة بالذين عوهدوا من المشركين، وعلق الأذان بالناس، لأن البراءة مختصة بالمعاهدين والناكثين منهم، وأما الأذان فعامّ لجميع الناس، من عاهد ومن لم يعاهد، ومن نكث من المعاهدين ومن لم ينكث.
كذا في (الكشاف).
ويوم الحج الأكبر: قيل يوم عرفة، وقيل يوم النحر.
قال ابن القيم: وهو الصواب، لأنه ثبت في الصحيحين «١» أن أبا بكر وعليّا رضي الله عنهما، أذّنا بذلك يوم النحر، لا يوم عرفة.
وفي سنن أبي داود «٢» بأصح إسناد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: يوم الحج الأكبر يوم النحر، وكذلك قال أبو هريرة وجماعة من الصحابة.
ويوم عرفة مقدمة ليوم النحر بين يديه، فإن فيه يكون الوقوف والتضرع والتوبة والابتهال والاستقالة، ثم يوم النحر تكون الوفادة والزيارة، ولهذا سمي طوافه طواف الزيارة، لأنه قد طهروا من ذنوبهم يوم عرفة، ثم أذن لهم يوم النحر في زيارته، والدخول عليه إلى بيته، ولهذا كان فيه ذبح القرابين، وحلق الرؤوس، ورمي الجمار ومعظم أفعال الحج وعمل يوم عرفة، كالطهور والاغتسال بين يدي هذا اليوم، انتهى.
(١) أخرجه البخاري في: التفسير، ٩- سورة التوبة، ٢- باب قوله: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، و ٣- باب قوله: وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، حديث رقم ٢٤٥.
وأخرجه مسلم في: الحج، حديث رقم ٤٣٥.
(٢) أخرجه أبو داود في: المناسك، ٦٦- باب يوم الحج الأكبر، حديث رقم ١٩٤٥ و ١٩٤٦.
348
تنبيه:
روى الأئمة هاهنا آثارا كثيرة، نأتي منها على جوامعها:
قال ابن أبي نجيح عن مجاهد: قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من (تبوك) حين فرغ، فأراد الحج ثم قال: إنما يحضر المشركون فيطوفون عراة فلا أحب أن أحج. حتى لا يكون ذلك: فأرسل أبا بكر وعليّا فطافا بالناس في (ذي المجاز) وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها، وبالمواسم كلها، فآذنوا أصحاب العهد بأن يؤمنوا أربعة أشهر، فهي الأشهر المتواليات، عشرون من ذي الحجة، إلى عشر يخلون من ربيع الآخر، ثم لا عهد لهم، وآذن الناس كلهم بالقتال، إلى أن يؤمنوا.
وروى ابن إسحاق بسنده عن أبي جعفر محمد بن عليّ رضوان الله عليه قال: لما نزلت (براءة) على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد كان بعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه ليقيم للناس الحج، قيل له: يا رسول الله! لو بعثت بها إلى أبي بكر فقال: لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي. ثم دعا عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه، فقال له:
اخرج بهذه القصة من صدر براءة، وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى، أنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. ومن كان له عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عهد فهو له إلى مدته. فخرج عليّ بن أبي طالب على ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (العضباء) حتى أدرك أبا بكر الصديق، فلما رآه أبو بكر بالطريق قال: أمير أو مأمور؟ فقال: بل مأمور. ثم مضيا. ، فأقام أبو بكر للناس الحج، والعرب إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحج التي كانوا عليها في الجاهلية. حتى إذا كان يوم النحر قام عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فأذن في الناس بالذي أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقال: أيها الناس! إنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. ومن كان له عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عهد فهو له إلى مدته. وأجّل الناس أربعة أشهر من يوم أذّن فيهم، ليرجع كل قوم إلى مأمنهم وبلادهم، ثم لا عهد لمشرك ولا ذمة. إلا أحد كان له عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عهد إلى مدة، فهو له إلى مدته.
فلم يحجّ بعد ذلك العام مشرك، ولم يطف بالبيت عريان.
ثم قدما على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
قال ابن إسحاق: فكان هذا من أمر (براءة) فيمن كان من أهل الشرك من أهل العهد العامّ، وأهل المدة إلى الأجل المسمى.
349
وروى البخاري «١» عن أبي هريرة قال: بعثني أبو بكر رضي الله عنه في تلك الحجة في المؤذّنين. بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى: ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.
قال حميد: ثم أردف النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعليّ بن أبي طالب، فأمره أن يؤذن ببراءة.
قال أبو هريرة: فأذن معنا عليّ في أهل منى يوم النحر ببراءة، وألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.
وفي رواية أخرى للبخاري «٢»، قال أبو هريرة: يعثني أبو بكر فيمن يؤذّن يوم النحر بمنى: لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان ويوم الحج الأكبر يوم النحر. وإنما قيل (الأكبر) من أجل قول الناس- للعمرة- الحج الأصغر. فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام، فلم يحج عام حجة الوداع الذي حجّ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلّم مشرك. هذا لفظ البخاري في (كتاب الجهاد).
وروى الإمام أحمد «٣» عن أبي هريرة قال: كنت مع عليّ بن أبي طالب حين بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أهل مكة ب (براءة) فقال: ما كنتم تنادون؟ قال: كنا ننادي: أنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عهد فإن أجله- أو أمده- إلى أربعة أشهر، فإذا مضت الأربعة الأشهر، فإن الله بريء من المشركين ورسوله، ولا يحج هذا البيت بعد العام مشرك. قال: فكنت أنادي حتى صحل صوتي (صحل الرجل وصحل صوته: بحّ).
وقوله تعالى: فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أي فإن تبتم أيها المشركون، من كفركم ورجعتم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له دون الالهة والأنداد، فهو خير لكم من الإقامة على الشرك رأس الضلال والفساد وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أي عن الإيمان وأبيتم إلا الإقامة على ضلالكم وشرككم فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ أي غير فائتين أخذه وعقابه وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا أي جحدوا نبوّتك وخالفوا أمر ربهم بِعَذابٍ أَلِيمٍ أي موجع يحل بهم. وفيه من التهكم والتهديد ما فيه، كيلا يظن أن عذاب الدنيا، لو فات وزال خلصوا من العذاب. بل العذاب معدّ لهم يوم القيامة.
(١) أخرجه البخاري في: الحج، ٦٧- باب لا يطوف بالبيت عريان ولا يحج مشرك، حديث رقم ٢٤٥.
(٢) أخرجه البخاري في: الجزية والموادعة، ١٦- باب كيف ينبذ إلى أهل العهد، حديث رقم ٢٤٥. [.....]
(٣) أخرجه في المسند ٢/ ٢٩٩، والحديث رقم ٧٩٦٤.
350
ثم استثنى تعالى من ضرب مدة التأجيل، لمن له عهد مطلق بأربعة أشهر، من له عهد مؤقت بتأجيله إلى مدته المضروبة التي عوهد عليها، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٤]
إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤)
إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً أي من شروط الميثاق فلم يقتلوا منكم أحدا ولم يضروكم فقط. قال أبو السعود: وقرئ بالمعجمة، أي لم ينقضوا عهدكم شيئا، من (النقض)، وكلمة (ثم) للدلالة على ثباتهم على عهدهم مع تمادي المدة وَلَمْ يُظاهِرُوا أي لم يعاونوا عَلَيْكُمْ أَحَداً أي عدوّا من أعدائكم فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ ثم حرّض تعالى على الوفاء بذلك، منبها على أنه من باب التقوى بقوله سبحانه إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ أي فاتقوه في ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٥]
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)
فَإِذَا انْسَلَخَ أي انقضى الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ أي التي أبيح للذين عوهدوا فيها أن يسيحوا في الأرض وحرم فيها قتالهم فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ أي من حلّ أو حرم- كذا قاله غير واحد- قال ابن كثير: هذا عام، والمشهور تخصيصه بغير الحرم، لتحريم القتال فيه، لقوله تعالى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [البقرة: ١٩١]. وَخُذُوهُمْ أي ائسروهم وَاحْصُرُوهُمْ أي احبسوهم في المكان الذي هم فيه، لئلا يتبسطوا في سائر البلاد وَاقْعُدُوا لَهُمْ أي لقتالهم كُلَّ مَرْصَدٍ أي طريق وممرّ فَإِنْ تابُوا أي عن الكفر وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ أي فاتركوا التعرض لهم إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي يغفر لهم ما سلف من الكفر والغدر.
تنبيهات:
الأول- ما ذكرناه من أن المراد (بالأشهر الحرام) أشهر العهد، هو الذي
351
اختاره الأكثرون. سماها (حرما) لتحريم قتال المشركين فيها ودمائهم. فالألف واللام للعهد. ووضع المظهر موضع المضمر ليكون ذريعة إلى وصفها بالحرمة، تأكيدا لما ينبئ عنه إباحة السياحة من حرمة التعرض لهم، مع ما فيه من مزيد الاعتناء بشأنها. وقيل: المراد (بالأشهر الحرام) : رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، روي ذلك عن ابن عباس والضحاك والباقر، وأختاه ابن جرير. وضعف بأنه لا يساعده النظم الكريم، لأنه يأباه ترتبه عليه (بالفاء) فهو مخالف للسياق الذي يقتضي توالي هذه الأشهر.
قال ابن القيم: (الحرم) هاهنا هي أشهر التسيير، أولها يوم الأذان، وهو اليوم العاشر من ذي الحجة، وهو يوم الحج الأكبر، الذي وقع فيه التأذين بذلك، وآخرها العاشر من ربيع الآخر. وليست هي الأربعة المذكورة في قوله: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ [التوبة: ٣٦]، فإن تلك واحد فرد هو رجب، وثلاثة سرد وهي ذو القعدة وتالياه. ولم يسيّر المشركين في هذه الأربعة، فإن هذا لا يمكن، لأنها غير متوالية، وهو إنما أجلهم أربعة أشهر، ثم أمره بعد انسلاخها أن يقاتلهم. انتهى.
وقالوا: يلزم على هذا بقاء حرمة تلك الأشهر. وتكلف الجواب بنسخها، إما بانعقاد الإجماع عليه، أو بما صح من أنه صلّى الله عليه وسلّم حاصر الطائف لعشر بقين من المحرم، مع أن هذا الإجماع كلاما، وقد خالف بعضهم في بقاء حرمتها، إلا أنهم لم يعتدّوا به كما قاله في (العناية). وفيها: إن لك أن تقول: منع القتال في الأشهر الحرم في تلك السنة، لا يقتضي منعه في كل ما شابهها، بل هو مسكوت عنه، فلا يخالف الإجماع، ويكون حلّه معلوما من دليل آخر.
وأقول: يظهر لي هذا الثاني وأن المراد بالأربعة الأشهر هي المعروفة، وأن قوله تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ هي هذه الأربعة، لأنها حيثما أطلقت في التنزيل لا تنصرف إلا إليها، فصرفها إلى غيرها يحتاج إلى برهان قاطع.
قال في (فتح البيان) ومعنى الآية على هذا وجوب الإمساك عن قتال من لا عهد له من المشركين في هذه الأشهر الحرم. وقد وقع النداء والنبذ إلى المشركين بعهدهم يوم النحر، فكان الباقي من الأشهر الحرم، التي هي الثلاثة المسرودة، خمسين يوما، تنقضي بانقضاء شهر المحرم، فأمرهم الله بقتل المشركين حيث يوجدون، وبه قال جماعة من أهل العلم. انتهى.
352
ولا يقال: إن الباقي من الأشهر الحرم ثمانون يوما، إذ الحج في تلك السنة كان في العاشر من ذي القعدة، بسبب النسيء، ثم صار في السنة المقبلة في العاشر من ذي الحجة، وفيها حج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
وقال» : إن الزمان قد استدار... الحديث-
لأنا نقول: كان ذو القعدة عامئذ هو ذا الحجة بحسابهم، لا في الواقع، وكذلك ذو الحجة، المحرم، فعوملوا بحسابهم.
الثاني- قال السيوطي في (الإكليل) في قوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ هذه آية السيف الناسخة لآيات العفو والصفح والإعراض والمسالمة.
انتهى.
وروي عن الضحاك أنها منسوخة بقوله تعالى في سورة محمد: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً [محمد: ٤]. وردّه الحاكم بأنه لا شبهة في أن براءة نزلت بعد سورة محمد، ومقتضى كلام الحاكم، أنها لا ناسخة ولا منسوخة، قال: لأن الجمع، من غير منافاة، ممكن فحيث ورد في القرآن ذكر الإعراض، فالمراد به إعراض إنكار، لا تقرير. وأما الأسر والفداء، فالمراد به أنه خيّر بين ذلك، لا أن القتل حتم، إذ لو كان حتما، لم يكن للأخذ معنى بعد القتل. انتهى.
ويشمل عمومها مشركي العرب وغيرهم، واستدل بقوله تعالى: وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ على جواز حصارهم والإغارة عليهم وبياتهم.
الثالث- فهو من قوله تعالى: فَإِنْ تابُوا... الآية أن الأمر بتخلية السبيل معلق على شروط ثلاثة: التوبة، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، فحيث لم تحصل جاز ما تقدم من القتل والأخذ والحصر. ولهذا اعتمد الصديق رضي الله عنه، في قتال مانعي الزكاة، على هذه الآية الكريمة وأمثالها.
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يرحم الله أبا بكر، ما كان أفقهه!
وفي الصحيحين «٢» عن ابن عمر رضي الله عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله عنهما وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة.
(١) أخرجه البخاري في: التفسير، ٩- سورة التوبة، ٨- باب قوله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً، حديث رقم ٥٩ عن أبي بكرة.
(٢) أخرجه البخاري في: الإيمان، ١٧- باب فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ، حديث رقم ٢٤.
وأخرجه مسلم في: الإيمان، حديث رقم ٣٦.
353
وروى الإمام أحمد «١» عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فإذا شهدوا، واستقبلوا قبلتنا، وأكلوا ذبيحتنا، وصلوا صلاتنا، فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم. ورواه البخاري وغيره.
الرابع- ذكر ابن القيّم خلاصة بديعة في سياق ترتيب هديه صلّى الله عليه وسلّم مع الكفار والمنافقين، من حين بعث، إلى حين لقي الله عزّ وجلّ، مما يؤيد فهم ما تشير إليه هذا السورة، قال رحمه الله:
أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى أن يقرأ باسم ربه الذي خلق، وذلك أول نبوته، فأمره أن يقرأ في نفسه، ولم يأمره إذ ذاك بتبليغ، ثم أنزل عليه يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ [المدثر: ١- ٢] فنبأه بقوله اقْرَأْ [العلق: ١]، وأرسله ب يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين، ثم أنذر قومه، ثم أنذر من حولهم من العرب، ثم أنذر العرب قاطبة، ثم أنذر العالمين، فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية، ويؤمر بالكف والصبر والصفح، ثم أذن له في الهجرة، وأذن له في القتال ثم أمره أن يقاتل من قاتله، ويكفّ عمن لم يقاتله. ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله. ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام: أهل صلح وهدنة، وأهل حرب، وأهل ذمة. فأمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم، وأن يوفي لهم به ما استقاموا على العهد، فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم، ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد. وأمر أن يقاتل من نقض عهده، ولما نزلت سورة (براءة) نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها، فأمره فيها أن يقاتل عدوّه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية، أو يدخلوا في الإسلام.
وأمره فيها بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم، فجاهد الكفار بالسيف والسنان، والمنافقين بالحجة واللسان، وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار، ونبذ عهودهم إليهم، وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام:
قسما أمره بقتالهم، وهم الذين نقضوا عهده، ولم يستقيموا له، فحاربهم وظهر عليهم.
وقسما لهم عهد موقت لم ينقضوه، ولم يظاهروا عليه، فأمره أن يتم لهم عهدهم إلى مدتهم.
(١) أخرجه في المسند ٣/ ١٩٩.
354
وقسما لم يكن لهم عهد، ولم يحاربوه، أو كان لهم عهد مطلق، فأمره أن يؤجلهم أربعة أشهر، ثم أمره بعد انسلاخها أن يقاتلهم. فقتل الناقض لعهده، وأجّل من لا عهد له أو له عهد مطلق، أربعة أشهر، وأمره أن يتم للموفي بعهده إلى مدته، فأسلم هؤلاء كلهم، ولم يقيموا على كفرهم إلى مدتهم. وضرب على أهل الذمة الجزية فاستقرّ أمر الكفار معه بعد نزول (براءة) على ثلاثة أقسام: محاربين له، وأهل عهد، وأهل ذمة. ثم آلت حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام، فصاروا معه قسمين: محاربين، وأهل ذمة. والمحاربون له خائفون منه، فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام: مسلم مؤمن به، ومسالم له آمن. وخائف محارب.
وأما سيرته في المنافقين فإنه أمر أن يقبل منهم علانيتهم، ويكل سرائرهم إلى الله، وأن يجاهدهم بالعلم والحجة، وأمر أن يعرض عنهم، ويغلظ عليهم، وأن يبلغ بالقول البليغ إلى نفوسهم، ونهي أن يصلّي عليهم وأن يقوم على قبورهم، وأخبره أنه إن استغفر لهم أو لم يستغفر لهم، فلن يغفر الله لهم. فهذه سيرته في أعدائه من الكفار والمنافقين. انتهى.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٦]
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦)
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ: أي وإن استجارك أحد من المشركين الذين أمرت بقتالهم، أي استأمنك بعد انقضاء أشهر العهد، فأجبه إلى طلبته حتى يسمع كلام الله، أي القرآن الذي تقرؤه عليه، ويتدبره، ويطلع على حقيقة الأمر، وتقوم عليه حجة الله به، فإن أسلم ثبت له ما للمسلمين، وإن أبى فإنه يردّ إلى مأمنه ودراه التي يأمن فيها، ثم قاتله إن شئت. وقوله تعالى: ذلِكَ يعني الأمر بالإجارة وإبلاغ المأمن، بسبب أنهم قوم لا يعلمون، أي جهلة، فلا بد من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا ويفهموا الحق، ولا يبقى لهم معذرة.
تنبيهات:
الأول- دلت الآية على أن المستأمن لا يؤذى، وأنه يمكّن من العود من غير
355
غدر به ولا خيانة، ولذا ورد في الترهيب من عدم الوفاء بالعهد والغدر ما يزجر أشد الزجر.
فروى البخاري في (تاريخه) والنسائي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أمّن رجلا على دمه فقتله، فأنا بريء من القاتل وإن كان المقتول كافرا».
وروى أحمد والشيخان «١» عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة.
قال ابن كثير: من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام، في أداء رسالة أو تجارة، أو طلب صلح أو مهادنة، أو حمل جزية، أو نحو ذلك من الأسباب، وطلب من الإمام أو نائبه أمانا أعطي، ما دام مترددا في دار الإسلام، إلى أن يرجع إلى مأمنه ووطنه.
قال الحاكم: وإنما يجار ويؤمّن إذا لم يعلم أنه يطلب الخداع والمكر، لأنه تعالى علل لزوم الإجارة بقوله حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ.
الثاني- قال الحاكم: تدل الآية على أنه يجوز للكافر دخول المسجد لسماع كلام الله.
الثالث- استدل بهذه الآية من ذهب إلى كلام الله بحرف وصوت قديمين، وهم الحنابلة، ومن وافقهم كالعضد. قالوا: لأن منطوق الآية يدل على أن كلام الله يسمعه الكافر والمؤمن والزنديق والصديق، والذي يسمعه جمهور الخلق ليس إلا هذه الحروف والأصوات. فدل ذلك على أن كلام الله ليس هذه الحروف والأصوات.
والقول بأن كلام الله شيء مغاير لها باطل، لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما كان يشير بقوله (كلام الله) إلا لها، وقد اعترف الرازي بقوة هذا، لإلزام من خالف فيه، وقد مضى لنا في قوله تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النساء: ١٦٤] في آخر سورة النساء، فارجع إليه.
الرابع- قال الرازي: دلت الآية على أن التقليد غير كاف في الدين، وأنه لا بد من النظر والاستدلال، وذلك لأنه لو كان التقليد كافيا، لوجب أن لا يمهل هذا الكافر، بل يقال له: إما أن تؤمن، وإما أن نقتلك. فلما لم يقل له ذلك، بل أمهل وأزيل الخوف عنه، ووجب تبليغه مأمنه- علم أن ذلك لأجل عدم كفاية التقليد في الدين، وأنه لا بد من الحجة والدليل، فلذا أمهل ليحصل له النظر والاستدلال.
(١) أخرجه البخاري في: الجزية والموادعة، ٢٢- باب إثم الغادر للبر والفاجر، حديث رقم ١٥٠٤.
وأخرجه مسلم في: الجهاد والسير، حديث رقم ١٤.
356
ثم بيّن تعالى حكمته في البراءة من المشركين ونظرته إياهم أربعة أشهر، ثم بعدها السيف المرهف بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٧]
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧)
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ أي أمان عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ أي وهم كافرون بهما، فالاستفهام بمعنى الإنكار، والاستبعاد لأن يكون لهم عهد إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ يعني أهل مكة الذين عاهدهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الحديبية على ترك الحرب معهم عشر سنين فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ أي فما داموا مستقيمين على عهدهم، مراعين لحقوقكم، فاستقيموا لهم على عهدهم إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ أي فاتقوه في نقض عهد المستقيمين على عهدهم.
قال ابن كثير: وقد فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك والمسلمون، استمر العقد والهدنة مع أهل مكة من ذي القعدة سنة ست إلى أن نقضت قريش العهد، ومالئوا حلفاءهم، وهم بنو بكر، على خزاعة، أحلاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقتلوهم معهم في الحرم أيضا، فعند ذلك غزاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في رمضان سنة ثمان، ففتح الله عليه البلد الحرام، ومكنه من نواصيهم، ولله الحمد والمنة، فأطلق من أسلم منهم، بعد القهر والغلبة عليهم، فسموا الطلقاء، وكانوا قريبا من ألفين، ومن استمر على كفره، وفرّ من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بعث إليه بالأمان والتسيير في أربعة أشهر، يذهب حيث شاء. ومنهم صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل وغيرهما، ثم هداهم الله للإسلام.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٨]
كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨)
كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ أي يظفروا بكم بعد ما سبق لهم من تأكيد الإيمان والمواثيق لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا أي قرابة ويمينا وَلا ذِمَّةً أي عهدا. وهذه الجملة
مردودة على الآية الأولى، أي كيف يكون لهم عهد، وحالهم ما ذكر؟ وفيه تحريض للمؤمنين على التبرؤ منهم، لأن من كان أسير الفرصة، مترقيا لها، لا يرجى منه دوام العهد.
قال الناصر: ولما طال الكلام باستثناء الباقين على العهد، أعيدت (كيف) تطريه للذكر، وليأخذ بعض الكلام بحجزة بعض. انتهى.
ثم استأنف تعالى بيان حالهم المنافية لثباتهم على العهد بقوله يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ أي ما تتفوه به أفواههم وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ أي متمردون، لا عقيدة تزعمهم، ولا مروءة تردعهم. وتخصيص الأكثر، لما في بعض الكفرة من التفادي عن العذر، والتعفف عما يجرّ إلى أحدوثة السوء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٩]
اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩)
اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ أي استبدلوا بها ثَمَناً قَلِيلًا أي من متاع الدنيا. يعني أهويتهم الفاسدة فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ أي فعدلوا عنه أو صرفوا غيرهم إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١٠]
لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠)
لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ أي المجاوزون الغاية في الظلم والمساوئ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١١]
فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١)
فَإِنْ تابُوا أي مما هم عليه من الكفر وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ أي فهم إخوانكم، لهم ما لكم، وعليهم ما عليكم، فعاملوهم معاملة الإخوان، وفيه من استمالتهم واستجلاب قلوبهم ما لا مزيد عليه.
وقوله وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ جملة معترضة للحث على تأمل ما فصل من أحكام المشركين المعاهدين وعلى المحافظة عليها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١٢]
وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢)
وَإِنْ نَكَثُوا أي نقضوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ أي فقاتلوهم. وإنما أوثر ما عليه النظم الكريم، للإيذان بأنهم صاروا بذلك ذوي رئاسة وتقدم في الكفر، أحقاء بالقتل والقتال. وقيل: المراد بالأئمة رؤساؤهم وصناديدهم وتخصيصهم بالذكر إما لأهمّيّة قتلهم، أو للمنع من مراقبتهم، ولكونهم مظنة لها أو للدلالة على استئصالهم، فإن قتلهم غالبا يكون بعد قتل من دونهم أفاده أبو السعود. إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ جمع يمين أي لا عهود لهم على الحقيقة، حيث لا يراعونها ولا يعدّون نقضها محذورا، فهم، وإن تفوهوا بها، لا عبرة بها. وقرئ لا أَيْمانَ بكسر الهمزة، أي لا إسلام ولا تصديق لهم، حتى يرتدعوا عن النقض والطعن لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ أي عن الكفر والطعن ويرجعون إلى الإيمان.
تنبيه:
قال السيوطي في (الإكليل) : استدل بهذه الآية من قال إن الذّمّي يقتل إذا طعن في الإسلام أو القرآن أو ذكر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بسوء، سواء شرط انتقاض العهد به أم لا.
واستدل من قال بقبول توبته بقوله لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ. انتهى.
ثم حض على قتالهم بتهييج قلوب المؤمنين وإغرائهم بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١٣]
أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣)
أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ أي التي حلفوها في المعاهدة وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ يعني من مكة حين اجتمعوا في دار الندوة، حسبما ذكر في قوله
تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنفال: ٣٠] فيكون نعيا عليهم جنايتهم القديمة وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أي بالقتال يوم بدر، حين خرجوا لنصر عيرهم فما نجت وعلموا بذلك، استمروا على وجوههم طلبا للقتال، بغيا وتكبرا. وقيل:
بنقضهم العهد، وقتالهم مع حلفائهم بني بكر لخزاعة، أحلاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حتى سار إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام الفتح وكان ما كان. قاله ابن كثير.
وقال الزمخشري: أي وهم الذين كانت منهم البداءة بالمقاتلة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلّم جاءهم أولا بالكتاب المنير، وتحداهم به، فعدلوا عن المعارضة، لعجزهم عنها، إلى القتال، فهم البادئون بالقتال، والبادئ أظلم. فما يمنعكم من أن تقاتلوهم بمثله، وأن تصدموهم بالشر كما صدموكم أَتَخْشَوْنَهُمْ أي أتخافون أن ينالكم منهم مكروه حتى تتركوا قتالهم فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ بمخالفة أمره وترك قتالهم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يعني أن قضية الإيمان الصحيح أن لا يخشى المؤمن إلا ربه، ولا يبالي بمن سواه كقوله تعالى: وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ [الأحزاب: ٣٩]. قاله الزمخشري- وفيه من التشديد ما لا يخفى.
ثم عزم تعالى على المؤمنين الأمر بالقتال لحكمته بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١٤]
قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤)
قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ أي بآلام الجراحات والموت بِأَيْدِيكُمْ أي تغليبا لكم عليهم وَيُخْزِهِمْ أي بالأسر والاسترقاق، فيجتمع في حقهم العذاب الحسي والمعنوي وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ أي: ممن لم يشهد القتال.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١٥]
وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥)
وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ أي بما كابدوا من المكاره والمكايد وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ أي فيحصل لكم أجرهم وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي في أفعاله وأوامره. وقد أنجز الله سبحانه لهم هذه المواعيد كلها، فكان إخباره صلّى الله عليه وسلّم بذلك قبل وقوعه معجزة عظيمة دالة على صدقه وصحة نبوته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١٦]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٦)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا أي على ما أنتم عليه، ولا تؤمروا بالجهاد وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً. أي بطانه يفشون إليهم أسرارهم. والواو في (ولما) حالية، و (لما) للنفي مع التوقع، والمراد من نفي العلم نفي المعلوم بالطريق البرهاني، إذ لو شم رائحة الوجود، لعلم قطعا، فلما يعلم لزم عدمه قطعا وَلَمْ يَتَّخِذُوا عطف على جاهَدُوا داخل في حيز الصلة. والمعنى: أنكم لا تتركون على ما أنتم عليه، والحال أنه لم يتبين الخّلص من المجاهدين منكم من غيرهم، بل لا بد أن تختبروا، حتى يظهر المخلصون منكم، وهم الذين جاهدوا في سبيل الله، لوجه الله، ولم يتخذوا وليجة، أي بطانة من الذين يضادون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والمؤمنين رضوان الله عليهم. ودلت (لما) على أن تبين ذلك وإيضاحه متوقع كائن، وإن الذين لم يخلصوا دينهم لله يميز بينهم وبين المخلصين، وفي الآية اكتفاء بأحد القسمين، حيث لم يتعرض للمقصرين، وذلك لأنه بمعزل من الاندراج تحت إرادة أكرم الأكرمين، وهذا كما قال:
وما أدري إذا يمّمت أرضا أريد الخير أيّهما يلني
وقد قال الله تعالى في الآية الأخرى: الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ [العنكبوت: ١- ٣]. وقال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ..
[البقرة: ٢١٤] الآية- قال تعالى: ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ..
[آل عمران: ١٧٩] الآية- وكلها تفيد أن مشروعية الجهاد اختبار المطيع من غيره.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١٧]
ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧)
ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أي ما صحّ لهم وما استقام أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ أي التي بنيت على اسمه وحده لا شريك له، أي يعمروا شيئا منها، فهو جمع مضاف في سياق النفي، ويدخل فيه المسجد الحرام دخولا أوليا، إذ نفي الجمع يدل على النفي عن كل فرد، فيلزم نفيه عن الفرد المعيّن بطريق الكناية. وقرئ (مسجد الله) بالتوحيد، تصريحا بالمقصود، وهو المسجد الحرام، أشرف المساجد في الأرض، الذي بني من أول يوم على عبادة الله وحده، لا شريك له، وأسسه خليل الرحمن.
قال في (البصائر) :(يعمر) إما من العمارة التي هي حفظ البناء، أو من العمرة التي هي الزيارة، أو من قولهم: عمرت بمكان كذا أي أقمت به. انتهى.
شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أي بحالهم وقالهم، وهو حال من الضمير في يَعْمُرُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ وهذا كقوله تعالى: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ، إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ
[الأنفال: ٣٤] ولهذا قال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١٨]
إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨)
إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ أي لم يعبد إلا الله فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ أي إلى الجنة. وإبراز اهتدائهم مع ما بهم من الصفات السنية، في معرض التوقع، لقطع أطماع الكفرة عن الوصول إلى مواقف الاهتداء، والانتفاع بأعمالهم التي يحسبون أنهم في ذلك محسنون، ولتوبيخهم بقطعهم أنهم مهتدون. فإن المؤمنين، ما بهم من هذه الكمالات، إذا كان أمرهم دائرا بين (لعلّ وعسى)، فما بال الكفرة وهم هم، وأعمالهم أعمالهم!! وفيه لطف للمؤمنين، وترغيب لهم في ترجيح جانب الخوف على جانب الرجاء، ورفض الاغترار بالله تعالى. كذا حرره أبو السعود-.
وقال الناصر: وأكثرهم يقول: إن (عسى) من الله واجبة، بناء منهم على أن استعمالها غير مصروفة للمخاطبين. والحق أن الخطاب مصروف إليهم، كما قال الزمخشري. أي فحال هؤلاء المؤمنين حال مرجوّة، والعاقبة عند الله معلومة، ولله عاقبة الأمور.
362
تنبيهات:
الأول- قال الزمخشريّ: (العمارة) تتناول زمّ ما استرمّ منها وقمّها وتنظيفها وتنويرها بالمصابيح وتعظيمها واعتيادها للعبادة والذّكر. ومن الذكر درس العلم، بل هو أجلّه وأعظمه. وصيانتها مما لم تبن له المساجد من أحاديث الدنيا، فضلا عن فضول الحديث.
روى البخاري «١» ومسلم عن أبي هريرة أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: من غدا إلى المسجد أو راح، أعدّ الله له في الجنة نزلا كلما غدا أو راح.
ورويا «٢» أيضا عن عثمان بن عفان قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: من بنى لله مسجدا يبتغي به وجه الله تعالى، بنى الله له بيتا في الجنة.
وأخرج الترمذي «٣» عن أبي سعيد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد، فاشهدوا له بالإيمان، قال الله تعالى: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ..
الآية.
الثاني- إنما لم يذكر الإيمان بالرسول صلّى الله عليه وسلّم لدخوله في الإيمان بالله، فترك للمبالغة في ذكر الإيمان بالرسالة، دلالة على أنهما كشيء واحد، إذا ذكر أحدهما فهم الآخر. على أنه أشير بذكر المبدأ والمعاد إلى الإيمان بكل ما يجب الإيمان به، ومن جملته رسالة صلّى الله عليه وسلّم كما في قوله تعالى: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ [البقرة: ٨]. كذا في (العناية).
الثالث- في تخصيص الصلاة والزكاة بالذكر، تفخيم لشأنهما وحث على التنبه لهما.
الرابع- دلت الآيتان على أن عمل الكفار محبط لا ثواب فيه.
وقوله تعالى:
(١) أخرجه البخاري في: الأذان، ٣٧- باب فضل من غدا إلى المسجد ومن راح، حديث ٤١٧.
أخرجه مسلم في: المساجد ومواضع الصلاة، حديث رقم ٢٨٥.
(٢) أخرجه البخاري في: الصلاة، ٦٥- باب من بنى مسجدا، حديث ٢٩٧ وأخرجه مسلم في: المساجد ومواضع الصلاة حديث رقم ٢٤ و ٢٥.
(٣) أخرجه الترمذي في: التفسير، ٩- سورة التوبة، ٨- حدثنا أبو كريب.
363
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١٩]
أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩)
أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ روى العوفي في (تفسيره) عن ابن عباس أن المشركين قالوا: عمارة بيت الله، وقيام على السقاية، خير ممن آمن وجاهد. وكانوا يفخرون بالحرم، ويستكبرون به، من أجل أنهم أهله وعماره. فخير الله الإيمان والجهاد مع رسوله، على عمارة المشركين البيت، قيامهم على السقاية، وبيّن أن ذلك لا ينفعهم مع الشرك، وأنهم ظالمون بشركهم، لا تغني عمارتهم شيئا.
قال اللغويون: (السقاية) بالكسر والضم موضع السقي. وفي (التهذيب) : هو الموضع المتخذ فيه الشراب في المواسم وغيرها. انتهى.
وفي (التاج) : سقاية الحاج ما كانت قريش تسقيه للحجاج من الزبيب المنبوذ في الماء، وكان يليها العباس رضي الله عنه في الجاهلية والإسلام. انتهى.
وروى الإمام مسلم «١» عن النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال رجل: ما أبالي ألّا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام وقال الآخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو يوم الجمعة. ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه. فأنزل الله عز وجل أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ... الآية.
ورواه عبد الرزاق في (مصنفه) ولفظه: إن رجلا قال: ما أبالي ألا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج. وقال آخر: ما أبالي ألا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام... الحديث.
قال بعضهم: فظاهر هذه الرواية أن المفاضلة كانت بين بعض المسلمين المؤثرين للسقاية والعمارة على الهجرة والجهاد ونظائرهما، ونزلت الآية في ذلك، مع أن الرواية السالفة عن ابن عباس تنافيه. وكذا تخصيص ذكر الإيمان بجانب المشبه
(١) أخرجه مسلم في: الإمارة، حديث رقم ١١١.
به، وكذا وصفهم بالظلم لأجل تسويتهم المذكورة.
وأقول: لا منافاة. وظاهر النظم الكريم فيما قاله ابن عباس لا يرتاب فيه، وقول النعمان (فأنزل الله) بمعنى أن مثل هذا التحاور نزل فيه فيصل متقدم، وهو هذه الآية، لا بمعنى أنه كان سببا لنزولها كما بيناه غير ما مرة. وهذا الاستعمال شائع بين السلف، ومن لم يتفطن له تتناقض عنده الروايات، ويحار في المخرج، فافهم ذلك وتفطن له.
وتأييد أبي السعود نزولها في المسلمين بما أطال فيه، ذهول عن سياق الآية وعن سياقها، فيما صدعت فيه من شديد التهويل، وعن لاحقها في درجات التفضيل، وقصر الفوز والرحمة والرضوان على المشبه به.
لطيفة:
لا يخفى أن السقاية والعمارة مصدران لا يتصور تشبيههما بالأعيان، فلا بد من تقدير مضاف في أحد الجانبين. أي أجعلتم أهلهما كمن آمن بالله... إلخ ويؤيده قراءة من قرأ (سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام) أو: أجعلتموهما كإيمان من آمن... إلخ.
قال أبو البقاء: الجمهور على (سقاية) بالياء، وصحّت الياء لما كانت بعدها تاء التأنيث.
ثم بيّن تعالى مراتب فضل المؤمنين، إثر بيان عدم الاستواء وضلال المشركين وظلمهم، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٢٠]
الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠)
الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ أي من أهل السقاية والعمارة، وهم، وإن لم يكن لهم درجة عند الله، جاء على زعمهم ومدعاهم. قاله في (العناية). وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ أي لا أنتم. أي المختصون بالفوز دونكم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٢١]
يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١)
يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٢٢]
خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢)
خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ.
ثم نهاهم تعالى عن موالاة المشركين، وإن كانوا أقرب الأقربين، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٢٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ أي بطانة وأصدقاء، تفشون إليهم أسراركم، وتمدحونهم وتذبون عنهم إِنِ اسْتَحَبُّوا أي اختاروا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي لوصفهم الموالاة في غير موضعها، ولتعديهم وتجاوزهم عما أمر الله به.
ثم أشار تعالى إلى أن مقتضى الإيمان ترك الميل الطبيعي إذا كان مانعا من محبة الله، ومحبة واسطة الوصول إليه، ومحبة ما يعلي دينه بقوله
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٢٤]
قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٢٤)
قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ أي أقاربكم الأدنون، أو قبيلتكم. قال أهل اللغة: عشيرة الرجل بنو أبيه الأدنون، أو قبيلته،
366
كالعشير- بلا هاء- مأخوذة من (العشرة) أي المعاشرة، لأنها من شأنهم، أو من (العشرة) الذي هو العدد لكمالهم، لأنها عدد كامل وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها أي اكتسبتموها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها أي فوات وقت نفادها بفراقكم لها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أي منازل تعجبكم الإقامة فيها من الدور والبساتين أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ أي المنعم بالكل وَرَسُولِهِ وهو واسطة نعمه وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ أي مما يعلي دينه فَتَرَبَّصُوا أي انتظروا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ أي بقضائه، وهو عذاب عاجل، أو عقاب آجل، أو فتح مكة، وهذا أمر تهديد وتخويف. أي فارتقبوا قهر الله بدعوى محبته بالإيمان، وتكذيبها بترجيح محبة غيره وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ أي الخارجين عن الطاعة في موالاة المشركين والمؤثرين لما ذكر على رضاه تعالى.
تنبيهات:
الأول- قال بعضهم: ثمرة الآيتين تحريم موالاة الكفار، ولو كانوا أقرباء، وأنهم كبيرة لوصف متوليهم بالظلم، ووجوب الجهاد، وإيثاره على كل هذه المشتهيات المعدودة طاعة لله ورسوله.
الثاني- قال الرازي: الآية الثانية تدل على أنه إذا وقع التعارض بين مصلحة واحدة من مصالح الدين، وبين جميع مهمات الدنيا. وجب على المسلم ترجيح الدين على الدنيا.
الثالث- في هذه الآية وعيد وتشديد، لأن كل أحد قلما يخلص منها، فلذا قيل إنها أشد آية نعت على الناس كما فصّله في (الكشاف) بقوله:
وهذه آية شديدة لا ترى أشدّ منها، كأنها تنعي على الناس ما هم عليه من رخاوة عقد الدين، واضطراب حبل اليقين فلينصف أورع الناس وأتقاهم من نفسه، هل يجد عنده من التصلب في ذات الله، والثبات على دين الله، ما يستحبّ له دينه على الآباء والأبناء والأخوات والعشائر والمال والمساكن وجميع حظوظ الدنيا، ويتجرّد منها لأجله؟ أم يزوي الله عنه أحقر شيء منها لمصلحته فلا يدري أيّ طرفيه أطول؟ ويغويه الشيطان عن أجلّ حظ من حظوظ الدين، فلا يبالي كأنما وقع على أنفه ذباب فطيّره؟! وقوله تعالى:
367
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٢٥]
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥)
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ أي في مواقف حروب كثيرة، ووقعات شهيرة، كغزوة بدر وقريظة والنضير والحديبية وخيبر وفتح مكة. وكانت غزوات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- على ما ذكر في الصحيحين «١» - من حديث زيد بن أرقم، تسع عشرة غزوة. زاد بريدة في حديث: قاتل في ثمان منهن ويقال: إن جميع غزواته وسراياه وبعوثه سبعون، وقيل ثمانون وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ أي فاعتمدتم عليها، حيث قلتم: لن نغلب اليوم من قلة فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً أي من أمر العدوّ، مع قلتهم وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ أي برحبها وسعتها. والباء للملابسة والمصاحبة. أي ضاقت، مع سعتها، عليكم. وهو استعارة تبعية، إما لعدم وجدان مكان يقرّون به آمنين مطمئنين من شدة الرعب، أو أنهم لا يجلسون في مكان، كما لا يجلس في المكان الضيق ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ أي منهزمين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٢٦]
ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦)
ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ أي ما تسكنون به، وتثبتون من رحمته ونصره، وانهزام الكفار، واطمئنان قلوبهم للكرّ بعد الفرّ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ أي الذين انهزموا. وإعادة الجارّ للتنبيه على اختلاف حاليهما. أو الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولم يفروا: أو على الكل، وهو الأنسب. ولا ضير في تحقيق أصل السكينة في الثابتين من قبل، والتعرض لوصف الإيمان للإشعار بعليّة الإنزال. أفاده أبو السعود وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها يعني الملائكة وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي بالقتل والأسر والسبي وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ لكفرهم في الدنيا.
(١) أخرجه البخاري في: المغازي، ١- باب غزوة العشيرة أو العسيرة حديث رقم ١٨٣٩.
ومسلم في: الجهاد والسير، حديث رقم ١٤٣.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٢٧]
ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٧)
ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ أي منهم، لحكمة تقتضيه. أي يوفقه للإسلام وَاللَّهُ غَفُورٌ أي يتجاوز عما سلف منهم من الكفر والمعاصي رَحِيمٌ أي يتفضل عليهم ويثيبهم.
تنبيهات:
الأول- فيما نقل في غزوة (حنين)، وتسمى غزوة (أوطاس)، وهما موضعان بين مكة والطائف، فسميت الغزوة باسم مكانها، وتسمى غزوة (هوازن)، لأنهم الذين أتوا لقتال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكانت هذه الواقعة بعد فتح مكة، في شوال سنة ثمان من الهجرة، فإن الفتح كان لعشر بقين من رمضان، وبعده أقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة خمس عشرة ليلة، وهو يقصر الصلاة، فبلغه أن هوازن وثقيف جمعوا له، وهم عامدون إلى مكة، وقد نزلوا (حنينا) وكانوا، حين سمعوا بمخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة، يظنون أنه إنما يريهم. فاجتمعت هوازن إلى مالك بن عوف من بني نصر، وقد أوعب معه بني نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن وبني جشم بن معاوية وبني سعد بن بكر، وناسا من بني هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية والأحلاف وبني مالك بن ثقيف بن بكر. وفي جشم دريد بن الصمة رئيسهم وكبيرهم. شيخ كبير، ليس فيه إلا رأيه ومعرفته بالحرب، وكان شجاعا مجربا، وجميع أمر الناس إلى مالك ابن عوف. فلما أتاهم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتح مكة، أقبلوا عامدين إليه فأجمع السير إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وساق مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم، يرى أنه أثبت لموقفهم. فلما نزل بأوطاس، اجتمع إليه الناس، فقال دريد: بأي واد أنتم؟ قالوا:
بأوطاس. قال: نعم مجال الخيل، لا حزن ضرس، ولا سهل دهس. مالي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، ويعار الشاء وبكاء الصغير؟ قالوا: ساق مالك مع الناس نساءهم وأموالهم وأبناءهم ليقاتلوا عنها، فقال: راعي ضأن والله! وهل يرد المنهزم شيء؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسلاحه. وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك! ثم قال: ما فعلت كعب وكلاب؟ قالوا: لم يشهدها أحد منهم. قال: غاب الحدّ والجدّ، لو كان يوم علاء ورفعة لم يغب عنهم كعب ولا كلاب، ولوددت أنكم فعلتم ما فعلا. فمن شهدها منكم؟ قالوا: عمرو وعوف ابنا عامر. قال: ذانك
369
الجذعان، لا ينفعان ولا يضران! ثم أنكر على مالك رأيه في ذلك وقال له: لم تصنع بتقديم بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئا، أرفعهم إلى ممتنع بلادهم، وعليا قومهم، ثم ألق الصبيان على متون الخيل شيئا، فإن كانت لك، لحق بك من ورائك، وإن كانت لغيرك، كنت قد أحرزت أهلك ومالك. قال: لا، والله لا أفعل ذلك، إنك قد كبرت، وكبر عقلك. والله لتطيعنّني يا معشر هوازن، أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري! وكره أن يكون لدريد بن الصمة فيها ذكر أو رأي. قالوا أطعناك. فقال دريد: هذا يوم لم أشهده، ولم يفتني. ثم قال مالك للناس: إذا رأيتموهم فاكسروا جفون سيوفكم، ثم شدوا شدة رجل واحد. وبعث عيونا من رجاله فأتوه، وقد تفرقت أوصالهم، فقال: ويلكم! ما شأنكم؟ قالوا: رأينا رجالا بيضا، على خيل بلق: والله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى. فو الله ما رده ذلك عن وجهه أن مضى على ما يريد.
فلما سمع بهم نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم، بعث عبد الله بن أبي حدرد الأسلميّ يستعلم خبرهم، فجاءه وأطلعه على جلية الخبر، وأنهم قاصدون إليه، فاستعار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من صفوان بن أمية مائة درع- وقيل أربعمائة- وخرج في اثني عشر ألفا من المسلمين: عشرة آلاف الذين صحبوه من المدينة، وألفان من مسلمة الفتح، واستعمل على مكة عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية، ومضى لوجهه، وفي جملة من اتبعه عباس بن مرداس والضحاك بن سفيان الكلابي، وجموع من عبس وذبيان، ومزينة، وبني أسد. ومرّ في طريقه بشجرة سدر خضراء، وكان لهم في الجاهلية مثلها، يطوف بها الأعراب ويعظمونها، ويسمونها ذات أنواط فقالوا «١» : يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط،
فقال لهم: قلتم كما قال قوم موسى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف: ١٣٨] والذي نفسي بيده! لتركبن سنن من كان قبلكم
. ثم نهض حتى أتى وادي حنين من أودية تهامة، وهو واد حزن فتوسطوه في غبش الصبح، وقد كمنت هوازن في جانبيه، فحملوا على المسلمين حملة رجل واحد فولى المسلمون لا يلوي أحد على أحد، وناداهم صلّى الله عليه وسلّم فلم يرجعوا، وثبت معه أبو بكر وعمر وعلي والعباس وأبو سفيان بن الحرث وابنه جعفر، والفضل وقثم ابنا العباس، وجماعة سواهم، والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم على بغلته البيضاء (دلدل) والعباس آخذ بشكائمها، وكان جهير الصوت فأمره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن ينادي بالأنصار وأصحاب الشجرة، (قيل: والمهاجرين) فما سمعوا الصوت وذهبوا
(١) أخرجه الترمذي في: الفتن، ١٨- ما جاء: لتركبنّ سنن من كان قبلكم، عن أبي واقد الليثي.
370
ليرجعوا، صدهم ازدحام الناس عن أن يثنوا رواحلهم، فاستقاموا وتناولوا سيوفهم وتراسهم، واقتحموا عن الرواحل راجعين إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقد اجتمع منهم حواليه نحو المائة، فاستقبلوا هوازن، والناس متلاحقون، واشتد الحرب، وحمي الوطيس.
ولما غشوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نزل عن بغلته، ثم قبض قبضة من تراب الأرض، ثم استقبل به وجوههم
وقال: شاهت الوجوه! فما بقي إنسان منهم إلا أصابه منها في عينيه وفمه
، ثم صدق المسلمون الحملة عليهم، وقذف الله في قلوب هوازن الرعب. فلم يملكوا أنفسهم، فولوا منهزمين، ولحق آخر الناس، وأسرى هوازن مغلولة بين يديه، وغنم المسلمون عيالهم وأموالهم، واستحرّ القتل في بني مالك من ثقيف، فقتل منهم يومئذ سبعون رجلا، وانحازت طوائف هوازن إلى أوطاس، واتبعتهم طائفة من خيل المسلمين الذين توجهوا من (نخلة)، فأدركوا فيهم دريد بن الصمة فقتلوه.
وبعث صلّى الله عليه وسلّم إلى من اجتمع بأوطاس من هوازن، أبا عامر الأشعري عمّ أبي موسى، فقاتلهم، وقتل بسهم رماه به سلمة بن دريد بن الصمة، فأخذ أبو موسى الراية، وشدّ على قاتل عمه، فقتله، وانهزم المشركون، وانفضّت جموع أهل هوازن كلها، واستشهد من المسلمين يومئذ أربعة. ثم جمعت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سبايا حنين وأموالها، فأمر بها، فحبست (بالجعرانة) بنظر مسعود بن عمرو الغفاري. وسار صلّى الله عليه وسلّم من فوره إلى الطائف، فحاصر بها (ثقيف) خمس عشرة ليلة، وقاتلوا من وراء الحصون، وأسلم من كان حولهم من الناس، وجاءت وفودهم إليه. ثم انصرف صلّى الله عليه وسلّم عن الطائف، ونزل الجعرانة فيمن معه من الناس وأتاه هناك وفد هوازن، مسلمين راغبين، فخيرهم بين العيال والأبناء والأموال، فاختاروا العيال والأبناء، وكلموا المسلمين في ذلك بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم،
فقال صلّى الله عليه وسلّم: ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم
، وقال المهاجرون والأنصار: ما كان لنا فهو لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن لم تطب نفسه عوّضه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن نصيبه، ورد عليهم نساءهم وأبناءهم بأجمعهم.
وكان عدد سبي هوازن ستة آلاف بين ذكر وأنثى، والإبل أربعة وعشرون ألفا، والغنم أكثر من أربعين ألف شاة، وأربعة آلاف أوقية فضة، وقسم صلّى الله عليه وسلّم الأموال بين المسلمين، ونقل كثيرا من الطلقاء (وهم الذين منّ عليهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالإطلاق يوم فتح مكة من الأسر ونحوه) يتألفهم على الإسلام، مائة من الإبل، ومنهم مالك بن عوف النصريّ. فقال حين أسلم:
371
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله في الناس كلهم بمثل محمد
أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدى ومتى يشأ يخبرك عما في غد
وإذا الكتيبة عرّدت أنيابها بالسمهري وضرب كل مهند
فكأنه ليث على أشباله وسط الهباءة خادر في مرصد
الثاني- قال الإمام ابن القيّم في (زاد المعاد) في فصل جوّد فيه:
الإشارة إلى بعض ما تضمنته هذه الغزوة من المسائل الفقهية والنكت الحكمية ما نصه:
كان الله عزّ وجلّ قد وعد رسوله، وهو صادق الوعد، وأنه إذا فتح مكة، دخل الناس في دينه أفواجا، ودانت له العرب بأسرها، فلما تم له الفتح المبين، اقتضت حكمته تعالى أن أمسك قلوب هوازن ومن تبعها عن الإسلام، وأن يجمعوا ويتأهبوا لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلّم والمسلمين، ليظهر أمر الله، وتمام إعزازه لرسوله، ونصره لدينه، ولتكون غنائمهم شكرانا لأهل الفتح، وليظهر الله سبحانه لرسوله وعباده، قهره لهذه الشوكة العظيمة، التي لم يلق المسلمون مثلها، فلا يقاومهم بعد أحد من العرب، ولغير ذلك من الحكم الباهرة التي تلوح للمتأملين، وتبدو للمتوسمين.
فاقتضت حكمته سبحانه أن أذاق المسلمين أولا مرارة الهزيمة والكسرة، مع كثرة عددهم وعددهم، وقوة شوكتهم، ليطامن رؤوسا رفعت بالفتح، ولم تدخل بلده وحرمه، كما دخله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واضعا رأسه، منحنيا على فرسه حتى إن ذقنه تكاد أن تمس سرجه، تواضعا لربه، وخضوعا لعظمته، واستكانة لعزته أن أحلّ له حرمه وبلده، ولم يحل لأحد قبله، ولا لأحد بعده، وليبين الله لمن قال: (لن نغلب اليوم عن قلة)، أن النصر إنما هو من عنده، وأنه من ينصره فلا غالب له، ومن يخذله فلا ناصر له غيره، وأنه سبحانه هو الذي تولى نصر رسوله ودينه، لا كثرتكم التي أعجبتكم، فإنها لم تغن عنكم شيئا، فوليتم مدبرين. فلما انكسرت قلوبهم أرسلت إليها خلع الجبر مع بريد النصر ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها [التوبة: ٢٦] وقد اقتضت حكمته أنّ خلع النصر وجوائزه إنما تفيض على أهل الانكسار. وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ [القصص: ٥- ٦]. ومنها أن الله سبحانه لما منع الجيش غنائم أهل مكة، فلم يغنموا منها ذهبا ولا فضة ولا متاعا ولا سبيا ولا أرضا، كما روى أبو داود «١» عن وهب بن منبه قال: سألت جابرا: هل غنموا يوم الفتح شيئا؟ قال: لا!
(١) أخرجه أبو داود في: الخراج والإمارة والفيء، ٢٥- باب ما جاء في خبر مكة، حديث ٣٠٢٣.
372
وكانوا قد فتحوها بإيجاف الخيل والركاب، وهم عشرة آلاف، وفيهم حاجة إلى ما يحتاج إليه الجيش من أصحاب القوة، فحرك سبحانه قلوب المشركين لغزوهم، وقذف في قلوبهم إخراج أموالهم ونعمهم وشياههم، وسبيهم معهم نزولا وضيافة، وكرامة لحزبه وجنده، وتمم تقديره سبحانه بأن أطمعهم في الظفر، وألاح لهم مبادئ النصر، ليقضي الله أمرا كان مفعولا.
فما أنزل الله نصره على رسوله وأوليائه، وبرزت الغنائم لأهلها، وجرت فيها سهام الله ورسوله، قيل: لا حاجة لنا في دمائكم، ولا في نسائكم وذراريّكم. فأوحى الله سبحانه إلى قلوبهم التوبة والإنابة، فجاءوا مسلمين، فقيل: إن من شكران إسلامكم، وإتيانكم، أن ردّ عليكم نساءكم وأبناءكم وسبيكم إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنفال: ٧٠].
ومنها: أن الله سبحانه افتتح غزوات العرب بغزوة بدر، وختم غزوهم بغزوة حنين، ولهذا، يقرن بين هاتين الغزاتين بالذكر، فيقال: بدر وحنين، وإن كان بينهما سبع سنين، والملائكة قاتلت بأنفسها مع المسلمين في هاتين الغزاتين، والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم رمى في وجوه المشركين بالحصباء فيها، وبهاتين الغزاتين طفئت جمرة العرب لغزو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين، فالأولى خوفتهم وكسرت من خدتهم، والثانية استفرغت قواهم، واستنفدت سهامهم، وأذلت جميعهم، حتى لم يجدوا بدا من الدخول في دين الله.
ومنها: أن الله سبحانه جبر بها أهل مكة، وفرحهم بما نالوه من النصر والمغنم، وكانت كالدواء لما نالهم من كسرهم، وإن كان عين جبرهم، وعرفهم تمام نعمه عليهم، بما صرف عنهم من شر هوازن، فإنه لم يكن لهم بهم طاقة، وإنما نصروا عليهم بالمسلمين، ولو أفردوا عنهم لأكلهم عدوّهم. إلى غير ذلك من الحكم التي لا يحيط بها إلا الله تعالى. انتهى.
الثالث- قال بعضهم: دلت الآية على أنه يجب الانقطاع إلى الله تعالى، والاتكال عليه. ودل ما حكى في القصة على جواز ما ورد حسنه من جواز التأليف، وملاطفة المؤمنين والرمي بالحصا حالة الحرب، والأصوات التي يرهب بها. انتهى.
ولابن القيم في (زاد المعاد) فصول حسنة في فقه هذه الوقعة. فلينظر.
373
الرابع- قوله: (ويوم حنين)، قيل: منصوب بمضمر معطوف على (نصركم) أي ونصركم يوم حنين، واستظهر عطفه على محل (في مواطن) بحذف المضاف في أحدهما، أي ومواطن يوم حنين. أو في أيام مواطن كثيرة ويوم حنين.
قال أبو مسعود: ولعل التغيير للإيماء إلى ما وقع فيه من قلة الثبات من أول الأمر. انتهى.
قال الشهاب: فيكون عطف (يوم حنين) على منوال (ملائكته وجبريل) كأنه قيل: نصركم الله في أوقات كثيرة، وفي وقت إعجابكم بكثرتكم. ولا يرد عليه ما قيل إن المقام لا يساعد عليه، لأنه غير وارد، لتفضيل بعض الوقائع على بعض. ولم يذكر المواطن توطئة ليوم حنين كالملائكة، إذ ليس يوم حنين بأفضل من يوم بدر، وهو فتح الفتوح، وسيد الوقعات، وبه نالوا القدح المعلى، والدرجات العلى، لأن القصد في مثله إلى أن ذلك الفرد فيه من المزية ما صيّره مغايرا لجنسه. لأن المزية ليس المراد بها الشرف، وكثرة الثواب فقط، حتى يتوهم هذا. بل ما يشمل كون شأنه عجيبا، وما وقع فيه غريبا، للظفر بعد اليأس، والفرج بعد الشدة، إلى غير ذلك من المزايا. انتهى.
ثم أشار تعالى إلى أن موالاة المشركين، مع عدم إفادتها التقوية المحصلة للنصر، تضر بسريان نجاسة بواطنهم إلى بواطن المؤمنين الطاهرة، فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٢٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أي المطهرة بواطنهم بالإيمان إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ أي ذوو نجس، لأن معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس، فهو مجاز عن خبث الباطن، وفساد العقيدة، مستعار لذلك. أو هو حقيقة، لأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون، ولا يجتنبون النجاسات، فهي ملابسة لهم، أو جعلوا كأنهم النجاسة بعينها، مبالغة في وصفهم بها. فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ أي لحج أو عمرة كما كانوا يفعلون في الجاهلية. قال المهايمي: لأن المسجد الحرام يجتمع فيه المتفرّقون في الأرض، ليسري صفاء القلوب من بعض إلى بعض، وهاهنا يخاف سريان الظلمات
374
في العموم بَعْدَ عامِهِمْ هذا أي بعد حج عامهم هذا، وهو عام تسع من الهجرة، حين أمّر أبو بكر على الموسم، وتقدم لنا أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أتبع أبا بكر بعليّ رضي الله عنهما، لينادي في المشركين: ألا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. فأتم الله ذلك، وحكم به شرعا وقدرا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً أي فقرا بسبب منعهم من الحرم، لانقطاع أرفاق كانت لكم من قدومهم فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ أي من فتح البلاد، وحصول المغانم، وأخذ الجزية، وتوجه الناس من أقطار الأرض. قال ابن إسحاق: إن الناس قالوا:
لتقطعنّ عنا الأسواق، فلتهلكنّ التجارة، وليذهبنّ ما كنا نصيب فيها من المرافق، فقال الله تعالى وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً إلى قوله وَهُمْ صاغِرُونَ أي هذا عوض ما تخوفتم من قطع تلك الأسواق، فعوضهم الله مما قطع عنهم بأمر الشرك، ما أعطاهم من أعناق أهل الكتاب من الجزية. انتهى.
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ أي بما يصلحكم حَكِيمٌ أي فيما يأمر به وينهي عنه.
تنبيهات:
الأول- دلت الآية على نجاسة المشرك، كما
في الصحيح «١»
(المؤمن لا ينجس)
وأما نجاسة بدنه، فالجمهور على أنه ليس بنجس البدن والذات، لأن الله تعالى أحلّ طعام أهل الكتاب. وذهب بعض الظاهرية إلى نجاسة أبدانهم. وقال أشعث عن الحسن: من صافحهم فليتوضأ، رواه ابن جرير، ونقله ابن كثير.
وأقول: الاستدلال بكونه تعالى أحلّ طعام أهل الكتاب غير ناهض، لأن البحث في المشركين وقاعدة التنزيل الكريم، التفرقة بينهم وبين أهل الكتاب، فلا يتناول أحدهما الآخر فيه.
وقال بعض المفسرين اليمنيين: مذهب القاسم والهادي وغيرهما أن الكافر نجس العين، آخذا بظاهر الآية، لأنه الحقيقة ويؤيد ذلك
حديث «٢» أبي ثعلبة الخشني فإنه قال للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم إنا نأتى أرض أهل الكتاب فنسألهم آنيتهم، فقال صلّى الله عليه وسلّم:
اغسلوها ثم اطبخوا فيها.
(١) أخرجه البخاري في: الغسل، ٢٤- باب الجنب يخرج ويمشي في السوق وغيره، حديث رقم ٢٠٤، عن أبي هريرة.
وأخرجه مسلم في: الحيض، حديث رقم ١١٥ م.
(٢) أخرجه البخاري في: الذبائح والصيد، ٤- باب صيد القوس، حديث رقم ٢١٩٨.
وأخرجه مسلم في: الصيد والذبائح، حديث رقم ٨. [.....]
375
وقال زيد والمؤيد بالله والحنفية والشافعية: إن المشرك ليس نجس العين، لأنه صلى الله عليه وسلّم توضأ من مزادة مشرك، واستعار من صفوان دروعا ولم يغسلها، وكانت القصاع تختلف من بيوت أزواج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى الأسارى ولا تغسل، وكان أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يطبخون في أواني المشركين ولا تغسل. وأوّلوا الآية بما تقدم من الوجوه، وكلّ متأول ما احتج به الآخر. انتهى.
الثاني- قال السيوطي في (الإكليل) في قوله تعالى: فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا: إن الكافر يمنع من دخول الحرم، وإنه لا يؤذن له في دخوله، لا للتجارة ولا لغيرها، وإن كان مصلحة لنا، لأن المسجد الحرام حيث أطلق في القرآن فالمراد به الحرم كله، كما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس وابن جبير ومجاهد وعطاء وغيرهم. واستدل الشافعي بظاهر الآية من أباح دخوله الحرم سوى المسجد، لقصره في الآية عليه. واستدل الشافعي بظاهر الآية على أنهم لا يمنعون من دخول سائر المساجد، لقوله الْحَرامَ. وقاس عليه غيره سائر المساجد واستدل أبو حنيفة بظاهرها أيضا على أن الكتابي لا يمنع من دخوله لتخصيصه بالمشرك. انتهى. وهو المتجه.
قال الشهاب: وبالظاهر أخذ أبو حنيفة رحمه الله تعالى، إذ صرف المنع عن دخوله الحرم للحج والعمرة، بدليل قوله تعالى وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً، فإنه إنما يكون إذا منعوا من دخول الحرم، وهو ظاهر، أي لأن موضع التجارات ليس عين المسجد.
ونداء عليّ كرم الله وجهه بقوله: ألا لا يحج بعد عامنا هذا مشرك، بأمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، يعيّنه.
فلا يقال إن منطوق الآية يخالفه. انتهى.
الثالث- قال الناصر: قد يستدل بقوله تعالى فَلا يَقْرَبُوا... الآية- من يقول إن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، وخصوصا بالمناهي، فإن ظاهر الآية توجه النهي إلى المشركين، إلا أنه بعيد، لأن المعلوم من المشركين أنهم لا ينزجرون بهذا النهي، والمقصود تطهير المسجد الحرام بإبعادهم عنه، فلا يحصل هذا المقصود إلا بنهي المسلمين عن تمكينهم من قربانه. ويرشد إلى أن المخاطب في الحقيقة المسلمون، تصدير الكلام بخطابهم في قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وتضمينه نصّا بخطابهم بقوله وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً، وكثيرا ما يتوجه النهي على من المراد خلافه، وعلى ما المراد خلافه، إذا كانت ثمّ ملازمة كقوله: لا أرينّك ها هنا وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة: ١٣٢]. انتهى.
376
الرابع- (العيلة) مصدر من (عال) بمعنى افتقر. قرئ (عائلة). وهو إما مصدر بوزن فاعلة، أو اسم فاعل صفة لموصوف مؤنث مقدر، أي حالا عائلة، أي مفقرة.
قال ابن جني: هذه من المصادر التي جاءت على فاعلة، كالعاقبة والعافية.
ومنه قوله تعالى لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً [الغاشية: ١١]، أي لغوا ومنه قولهم:
مررت به خاصة، أي خصوصا وأما قوله تعالى: وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ [المائدة: ١٣] فيجوز أن يكون مصدرا، أي خيانة، وأن يكون على تقدير: نية أو عقيدة خائنة. وكذا ها هنا يقدر: إن خفتم حالا عائلة انتهى.
الخامس- إن قيل: ما وجه التعليق بالمشيئة في قوله تعالى إِنْ شاءَ مع أن المقام وسبب النزول، وهو خوفهم الفقر، يقتضي دفعه بالوعد بإغنائهم من غير تردد؟
فالجواب: أن الشرط لم يذكر للتردد، بل لبيان أنه بإرادته لا سبب له غيرها، فانقطعوا إليه، واقطعوا النظر عن غيره. ولينبّه على أنه متفضل به، لا واجب عليه، لأنه لو كان بالإيجاب لم يوكل إلى الإرادة، فلا يقال إن هذا لا حاجة إلى أخذه من الشرط، مع قوله تعالى: مِنْ فَضْلِهِ لأن قوله مِنْ فَضْلِهِ يفيد أنه عطاء وإحسان، وهذا يفيد أنه بغير إيجاب، وشتان بينهما، وقيل إنه للتنبيه على أنه بإرادته، لا بسعي المرء وحيلته:
لو كان بالحيل الغنى لوجدتني بنجوم أقطار السّماء تعلّقي
كذا في (العناية).
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٢٩]
قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (٢٩)
قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ اعلم أنه لما ذكر تعالى حكم المشركين في إظهار البراءة من عهدهم، وفي إظهار البراءة عنهم في أنفسهم، وفي وجوب مقاتلتهم، وفي تبعيدهم عن المسجد الحرام وعدم
377
الخوف من الفاقة المتوهمة من انقطاعهم- ذكر بعده حكم أهل الكتاب. هو أن يقاتلوا إلى أن يسلموا أو يعطوا الجزية، منبها في تضاعيف ذلك على بعض طرق الإغناء الموعود على الوجه الكلي، مرشدا إلى سلوكه ابتغاء لفضله، واستنجازا لوعده.
قال مجاهد: نزلت الآية حين أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بقتال الروم، فغزا بعد نزولها غزوة تبوك.
وقال الكلبي: نزلت في قريظة والنضير من اليهود، فصالحهم، فكانت أول جزية أصابها أهل الإسلام، وأول ذلّ أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين. انتهى.
ولا يخفي شمول الآية لكل ذلك بلا تخصيص.
قال ابن كثير: هذه الآية أول أمر نزل بقتال أهل الكتاب- اليهود والنصارى- وكان ذلك في سنة تسع، ولهذا تجهز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لقتال الروم، ودعا الناس إلى ذلك، وأظهره لهم، وبعث إلى أحياء العرب حول المدينة، فندبهم، فأوعبوا معه، واجتمع من المقاتلة نحو من ثلاثين ألفا، وتخلف بعض الناس من أهل المدينة، ومن حولها من المنافقين وغيرهم، وكان ذلك في عام جدب، ووقت قيظ وحرّ. وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يريد الشام لقتال الروم، فبلغ تبوك، ونزل بها، وأقام بها قريبا من عشرين يوما، ثم استخار الله في الرجوع، فرجع عامة ذلك لضيق الحال، وضعف الناس، كما سيأتي بيانه بعد إن شاء الله تعالى. انتهى.
والتعبير عن (أهل الكتاب) بالموصول المذكور، للإيذان بعلّية ما في حيز الصلة للأمر بالقتال، فإنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، كما أمر تعالى، إذ لديهم من فساد العقيدة، فيما يجب له تعالى، وفي البعث، أعظم ضلال وزيغ، وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، يعني ما ثبت تحريمه في الكتاب والسنة. وقيل: المراد برسوله الرسول الذي يزعمون اتباعه، فالمعنى أنهم يخالفون أصل دينهم المنسوخ اعتقادا وعملا، إذ غيّروا وبدّلوا اتباعا لأهوائهم.
قال الشهاب: فيكون المراد: لا يتبعون شريعتنا ولا شريعتهم، ومجموع الأمرين سبب لقتالهم. وقوله تعالى: دِينَ الْحَقِّ من إضافة الموصوف للصفة، أو المراد ب الْحَقِّ، الله تعالى. وقوله تعالى: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ أي ما تقرر عليهم أن يعطوه.
قال ابن الأثير: الجزية المال الذي يعقد عليه الكتابيّ الذمة، وهي (فعلة) من الجزاء كأنها جزت عن قتله.
378
وقال الراغب: سميت بذلك للاجتزاء بها عن حقن دمهم.
وقال الشهاب: قيل مأخذها من (الجزاء) بمعنى القضاء. يقال: جزيته بما فعل، أو جازيته. أو أصلها الهمز من (الجزء والتجزئة)، لأنها طائفة من المال يعطى.
وقيل: إنها معرب (كزيت) وهو الجزية بالفارسية. انتهى.
وقوله تعالى: عَنْ يَدٍ حال من فاعل يُعْطُوا و (اليد) هنا إمّا بمعنى الاستسلام والانقياد، يقال: هذه يدي لك، أي استسلمت إليك، وانقدت لك، وأعطى يده أي انقاد. كما يقال في خلافه: نزع يده من الطاعة. لأن من أبى وامتنع، لم يعط يده، بخلاف المطيع المنقاد، وإما بمعنى النقد، أي حتى يعطوها نقدا غير نسيئة، فيكون ك (اليد) في
قوله صلّى الله عليه وسلّم «١» :«لا تبيعوا الذهب والفضة... إلى قوله (يدا بيد) ».
وإما بمعنى الجارحة الحقيقة، و (عن) بمعنى الباء، أي لا يبعثون بها عن يد أحد، ولكن عن يد المعطي إلى يد الآخذ. وإما بمعنى: من طيبة نفس قال أبو عبيدة: كل من انطاع لقاهر بشيء أعطاه، من غير طيب نفس به وقهر له، من يد في يد، فقد أعطاه عن يد (مجاز القرآن ج ١ ص ٢٥٦). وإما بمعنى الجماعة، أنشد ابن الأعرابي:
أعطى فأعطاني يدا ودارا... وباحة حوّلها عقارا
ومنه
الحديث «٢»
(وهم يد على من سواهم)
أي هم مجتمعون على أعدائهم، يعاون بعضهم بعضا- قاله أبو عبيد- وإما بمعنى الذل- نقله ابن الأعرابي وحكاه وجها في الآية-.
هذا إن أريد باليد يد المعطي. وإن أريد بها يد الآخذ، فاليد إما بمعنى القوة، أي عن يد قاهرة مستولية ويقولون: ما لي به يد أي قوة. وإما بمعنى السلطان، وهو كالذي قبله، ومنه يد الريح سلطانها. قال لبيد:
نطاف أمرها بيد الشّمال
(١) أخرجه البخاري في: البيوع، ٧٨- باب بيع الفضة بالفضة، ٧٩- باب بيع الدينار بالدينار نسئا، حديث رقم ١٠٩٧ عن أبي سعيد الخدري.
وأخرجه مسلم في: المساقاة، حديث ٧٦ وانفرد مسلم بقوله (إلا يدا بيد).
(٢) أخرجه ابن ماجة في: الديات، ٣١- باب المسلمون تتكافأ دماؤهم، حديث رقم ٢٦٨٣ عن ابن عباس.
379
لما ملكت الريح تصريف السحاب، جعل لها سلطان عليه. وإما بمعنى النعمة، أي عن إنعام عليهم بذلك، لأن قبول الجزية، وترك أنفسهم عليهم، نعمة عليهم.
قال الناصر في (الانتصاف) : وهذا الوجه أملى بالفائدة.
وإما بمعنى الغنى، حكاه في (العناية)، ونقله (التاج) من معاني اليد.
وقوله تعالى: وَهُمْ صاغِرُونَ أي أذلاء.
تنبيهات:
الأول- قوله تعالى: عَنْ يَدٍ إما حال من الضمير في يُعْطُوا أو من الجزية أي مقرونة بالانقياد، ومسلمة بأيديهم، وصادرة عن غنى، ومقرونة بالذلة، وكائنة عن إنعام عليهم. كذا في (العناية).
الثاني- قال السيوطي في (الإكليل) : هذه الآية أصل قبول الجزية من أهل الكتاب.
الثالث- قال أيضا: استدل من قال بأن معنى اليد فيما تقدم، الغنى، أنها لا تجب على معسر. ومن قال بأنه لا يرسل بها، على أنه لا يجوز توكيل مسلم بها، ولا أن يضمنها عنه، ولا أن يحيل بها عليه.
الرابع- قال السيوطي أيضا: استدل بقوله تعالى: وَهُمْ صاغِرُونَ من قال إنها تؤخذ بإهانة، فيجلس الآخذ، ويقوم الذمي ويطأطئ رأسه، ويحني ظهره، ويضعها في الميزان، ويقبض الآخذ لحيته، ويضرب لهزمتيه. قال: ويردّ به على النووي حيث قال: إن هذه سيئة باطلة. انتهى.
قلت: ولقد صدق النووي عليه الرحمة والرضوان، فإنها سيئة قبيحة، تأباها سماحة الدين، والرفق المعلوم منه. ولولا قصد الرد على من قاله لما شوهت بنقلها ديباجة الصحيفة.
ثم رأيت ابن القيّم رد ذلك بقوله: هذا كله مما لا دليل عليه، ولا هو من مقتضى الآية، ولا نقل عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا عن أصحابه. قال: والصواب في الآية أن الصغار هو التزامهم بجريان أحكام الله تعالى عليهم، وإعطاء الجزية، فإن ذلك هو الصغار، وبه قال الشافعي. انتهى.
380
ثم قال السيوطي: واستدل بالآية من قال: إن أهل الذمة يتركون في بلد أهل الإسلام، لأن مفهومها الكف عنهم عند أدائها، ومن الكف ألا يجلوا. ومن قال لا حدّ لأقلها، ومن قال هي عوض حقن الدم لا أجرة الدار. انتهى.
الخامس- روى أبو عبيد في كتاب (الأموال) عن ابن شهاب قال: أول من أعطى الجزية من أهل الكتاب، أهل نجران، وكانوا نصارى.
السادس- قال أبو عبيد: ثبتت الجزية على اليهود والنصارى بالكتاب، وعلى المجوس بالسنّة.
وقال ابن القيّم: لما نزلت آية الجزية أخذها صلّى الله عليه وسلّم من ثلاث طوائف: من المجوس واليهود والنصارى، ولم يأخذها من عباد الأصنام. فقيل: لا يجوز أخذها من كافر غير هؤلاء، ومن دان بدينهم اقتداء بأخذه وتركه، وقيل: بل تؤخذ من أهل الكتاب وغيرهم من الكفار وهم كعبدة الأصنام من العجم، دون العرب والأول قول الشافعيّ وأحمد (في إحدى روايتيه)، والثاني قول أبي حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى. وأصحاب القول الثاني يقولون: إنما لم يأخذها من مشركي العرب لأنها إنما نزلت فرضيتها بعد أن أسلمت دارة العرب، ولم يبق فيها مشرك، فإنها نزلت بعد فتح مكة، ودخول العرب في دين الله أفواجا، فلم يبق بأرض العرب مشرك، ولهذا غزا بعد الفتح تبوك، وكانوا نصارى، ولو كان بأرض العرب مشركون لكانوا يلونه، وكانوا أولى بالغزو من الأبعدين. ومن تأمل السير وأيام الإسلام، علم أن الأمر كذلك، فلم تؤخذ منهم الجزية، لعدم من يؤخذ عنه، لا لأنهم ليسوا من أهلها. قالوا: وقد أخذها من المجوس فليسوا بأهل كتاب. ولا يصح أنه كان لهم كتاب ورفع، وهو حديث لا يثبت مثله، ولا يصح سنده. ولا فرق بين عبادة النار، وعبادة الأصنام. بل أهل الأوثان أقرب حالا من عباد النار. وكان فيهم من التمسك بدين إبراهيم ما لم يكن في عباد النار، بل عباد النار أعداء إبراهيم الخليل. فإذا أخذت منهم الجزية فأخذها من عباد الأصنام أولى. وعلى ذلك تدل سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كما
ثبت في صحيح مسلم «١» أنه قال: إذا لقيت عدوّك من المشركين، فادعهم إلى إحدى خلال ثلاث، فأيتهن أجابوك إليها، فاقبل منهم. وكف عنهم
. ثم أمره أن يدعوهم إلى الإسلام أو الجزية أو يقاتلهم.
(١) أخرجه مسلم في: الجهاد، حديث ٣ عن بريدة بن الحصيب.
381
وقال المغيرة لعامل كسرى: أمرنا نبيّنا أن نقاتلكم حتى تعبد الله أو تؤدي الجزية.
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لقريش «١» : هل لكم في كلمة تدين لكم بها العرب، وتؤدي العجم إليكم بها الجزية؟ قالوا: ما هي: قال: لا إله إلا الله.
ثم ذكر ابن القيم رحمه الله أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «٢» صالح أهل نجران على ألفي حلة، النصف في صفر، والبقية في رجب يؤدونها إلى المسلمين، وعارية ثلاثين درعا، وثلاثين فرسا، وثلاثين بعيرا، وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح، يغزون بها، والمسلمون ضامنون بها، حتى يردوها عليهم، إن كان باليمن كيدة أو غدرة.
وعلى ألا يهدم لهم بيعة، ولا يخرج لهم قسّ، ولا يفتنوا عن دينهم، ما لم يحدثوا حدثا، أو يأكلوا الربا.
ولما وجه «٣» صلى الله عليه وسلّم معاذا إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل محتلم دينارا، أو قيمته من ثياب. وفي هذا دليل على أن الجزية غير مقدرة الجنس، ولا القدر، بل يجوز أن تكون ثيابا وذهبا وحللا، وتزيد وتنقص بحسب حاجة المسلمين، واحتمال من تؤخذ منه، وحاله في الميسرة، وما عنده من المال. ولم يفرق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا خلفاؤه في الجزية بين العرب والعجم. بل أخذها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من نصارى العرب، وأخذها من مجوس «٤»
هجر. وكانت مدينة قاعدة البحرين، وكان أهلها عربا، فإن العرب أمة ليس لها في الأصل كتاب. وكانت كل طائفة تدين بدين من جاورها من الأمم، فكانت عرب البحرين مجوسا لمجاورتها فارس وتنوخ وبهرا. وبنو تغلب نصارى لمجاورتهم للروم. وكانت قبائل من اليمن يهود، لمجاورتهم ليهود اليمن.
فأجرى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحكام الجزية، ولم يعتبر آباءهم، ولا متى دخلوا في أهل الكتاب، هل كان دخولهم قبل النسخ والتبديل أو بعده، ومن أين يعرفون ذلك، وكيف ينضبط، وما الذي دل عليه؟ وقد ثبت في السير والمغازي أن من الأنصار من
(١) أخرجه الترمذي في: التفسير، ٣٨- سورة ص، ١- حدثنا محمود بن غيلان.
وأخرجه في المسند ص ٢٢٧ ج ١ والحديث رقم ٢٠٠٨.
(٢) أخرجه أبو داود في: الخراج والإمارة والفيء، ٣٠- باب في أخذ الجزية، حديث ٣٠٤١.
(٣) أخرجه أبو داود في: الزكاة، ٥- باب في زكاة السائمة حديث رقم ١٥٧٦.
(٤) أخرجه البخاري في: الجزية والموادعة، ١- باب الجزية والموادعة مع أهل الحرب، حديث ١٤٩١ و ١٤٩٢ و ١٤٩٣.
382
تهوّد أبناؤهم بعد النسخ بشريعة عيسى، وأراد آباؤهم إكراههم على الإسلام، فأنزل الله تعالى: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ [البقرة: ٢٥٦] وفي
قوله لمعاذ «١» : خذ من كلّ حالم دينارا،
دليل على أنها لا تؤخذ من صبي ولا امرأة.
السابع- قال الإمام أبو يوسف رحمه الله في كتاب (الخراج) :
وليس في شيء من أموالهم، الرجال منهم والنساء، زكاة، إلا ما اختلفوا به في تجارتهم، فإن عليهم نصف العشر، ولا يؤخذ من مال حتى يبلغ مائتي درهم، أو عشرين مثقالا من الذهب، أو قيمة ذلك من العروض للتجارة، ولا يضرب أحد من أهل الذمة في استيدائهم الجزية، ولا يقاموا في الشمس ولا غيرها، ولا يجعل عليهم في أبدانهم شيء من المكاره، ولكن يرفق بهم، ويحبسون حتى يؤدوا ما عليهم ولا يخرجون من الحبس حتى تستوفى منهم الجزية، ولا يحل للوالي أن يدع أحدا من النصارى واليهود والمجوس والصابئين والسامرة، إلا أخذ منهم الجزية، ولا يرخص لأحد منهم في ترك شيء من ذلك، ولا يحل أن يدع واحدا ويأخذ من واحد، ولا يسع ذلك، لأن دماءهم وأموالهم إنما أحرزت بأداء الجزية، والجزية بمنزلة مال الخراج.
ثم قال أبو يوسف مخاطبا هارون الرشيد:
وقد ينبغي يا أمير المؤمنين- أيدك الله- أن تتقدم في الرفق بأهل ذمة نبيك وابن عمك محمد صلّى الله عليه وسلّم، والتفقد لهم حتى لا يظلموا ولا يؤذوا، ولا يكلفوا فوق طاقتهم، ولا يؤخذ شيء من أموالهم إلا بحق يجب عليهم،
فقد روي «٢» عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: من ظلم معاهدا أو كلفه فوق طاقته فأنا حجيجه
. وكان فيما تكلم به عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند وفاته «٣»
: أوصي الخليفة من بعدي بذمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، ولا يكلفوا فوق طاقتهم.
قال: وحدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن سعيد بن زيد أنه مرّ على قوم قد
(١) أخرجه أبو داود في: الزكاة، ٥- باب في زكاة السائمة، حديث ١٥٧٦.
(٢) أخرجه أبو داود في: الخراج والفيء والإمارة، ٣٣- باب في تعشير أهل الذمة إذا اختلفوا بالنجارات، حديث ٣٠٥٢.
(٣) أخرجه البخاري في: فضائل أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ٨- باب قصة البيعة والاتفاق على عثمان بن عفان رضي الله عنه. حديث ٧٣٧.
383
أقيموا في الشمس في بعض أرض الشام، فقال: ما شأن هؤلاء؟ فقيل له أقيموا في الشمس في الجزية! قال: فكره ذلك، ودخل على أميرهم وقال: إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: من عذب الناس عذبه الله.
قال: وحدثنا هشام بن عروة عن أبيه أن عمر بن الخطاب مرّ بطريق الشام وهو راجع في مسيره من الشام على قوم قد أقيموا في الشمس، يصبّ على رؤوسهم الزيت، فقال: ما بال هؤلاء؟ فقال: عليهم الجزية لم يؤدوها، فهم يعذبون حتى يؤدوها! فقال عمر: فما يقولون هم وما يتعتذرون به في الجزية؟ قالوا: يقولون لا نجد! قال: فدعوهم لا تكلفوهم ما لا يطيقون. فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول:
لا تعذبوا الناس، فإن الذين يعذبون الناس في الدنيا، يعذبهم الله يوم القيامة، وأمر بهم فخلى سبيلهم.
ثم قال: وحدثني عمير بن نافع عن أبي بكر قال: مرّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بباب قوم وعليه سائل يسأل، شيخ ضرير البصر، فضرب عضده من خلفه وقال: من أي أهل الكتاب أنت؟ فقال: يهودي. قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال:
اسأل الجزية، والحاجة والسن. قال: فأخذ عمر بيده، وذهب به إلى منزله فرضخ له بشيء من المنزل، ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال: انظر هذا وضرباءه، فو الله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته، ثم نخذله عند الهرم إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ [التوبة: ٦٠]، والفقراء هم المسلمون، وهذا من المساكين من أهل الكتاب. ووضع عنه الجزية وعن ضربائه. قال: قال أبو بكر: أنا شهدت ذلك من عمر، ورأيت ذلك الشيخ. انتهى.
الثامن- في الغرض من الجزية ورأفة المسلمين بمن أظلوهم بسيوفهم.
قال الإمام الشيخ محمد عبده مفتي مصر في كتاب (الإسلام والنصرانية) في هذا المعنى، تحت بحث المقابلة بين الإسلام الحربيّ، المسيحية السلمية، ما نصه ص ٧٤:
الإسلام الحربي، كان يكتفي من الفتح بإدخال الأرض المفتوحة تحت سلطانه، ثم يترك الناس، وما كانوا عليه من الدين، يؤدون ما يجب عليهم في اعتقادهم كما شاء ذلك الاعتقاد، وإنما يكلفهم بجزية يدفعونها، لتكون عونا على صيانتهم، والمحافظة على أمنهم في ديارهم، وهم في عقائدهم ومعابدهم وعاداتهم بعد ذلك أحرار، لا يضايقون في عمل، ولا يضامون في معاملة. خلفاء المسلمين،
384
كانوا يوصون قوادهم باحترام العبّاد الذين انقطعوا عن العامة في الصوامع والأديار لمجرد العبادة، كما كانوا يوصونهم باحترام دماء النساء والأطفال وكل من لم يعن على القتال. جاءت السنة المتواترة بالنهي عن إيذاء أهل الذمة، وبتقرير ما لهم من الحقوق على المسلمين، لهم ما لنا، وعليهم ما علينا، ومن آذى ذميّا فليس منا.
واستمر العمل على ذلك ما استمرت قوة الإسلام. ولست أبالي إذا انحرف بعض المسلمين عن هذه الأحكام عند ما بدأ الضعف في الإسلام وضيق الصدر من طبع الضعيف، فذلك مما لا يلصق بطبيعته، ويخلط بطينته.
المسيحية السلمية كانت ترى لها حق القيام على كل دين يدخل تحت سلطانها، تراقب أعمال أهله، وتخصصهم دون الناس بضروب من المعاملة لا يحتملها الصبر، مهما عظم، حتى إذا تمت لها القدرة على طردهم بعد العجز عن إخراجهم من دينهم، وتعميدهم، أجلتهم عن ديارهم، وغسلت الديار من آثارهم، كما حصل ويحصل في كل أرض استولت عليها أمة مسيحية استيلاء حقيقيا، لا يمنع غير المسيحي من تعدي المسيحي إلا كثرة العدد، أو شدة العضد، كما شاهد التاريخ، وكما يشهد كاتبوه.
ثم قال: فأنت ترى الإسلام يكتفي من الأمم والطوائف التي يغلب على أرضها، بشيء من المال، أقل مما كانوا يؤدونه من قبل تغلّبه عليهم، وبأن يعيشوا في هدوء، لا يعكرون معه صفو الدولة، ولا يخلّون بنظام السلطة العامة، ثم يرخى لهم بعد ذلك عنان الاختيار في شؤونهم الخاصة بهم، لا رقيب عليهم فيها إلا ضمائرهم.
انتهى.
وفي كتاب (أشهر مشاهير الإسلام) في بحث إجلاء أهل نجران ما نصه:
إن أساس الدعوة إلى الإسلام التبليغ، وأنه لا إكراه في الدين، فمن قبلها كان من المسلمين، ومن أبى فعليه أن يخضع لسلطانهم، وأن يعطيهم جزءا من ماله يستعينون به على حماية ماله وعرضه ونفسه، وله عليهم حق الوفاء بما عاهدوه عليه، وأن لا يفتن عن دينه، وأن تكون له الذمة والعهد أنّى حل، وحيثما وجد من ممالك الإسلام، ما دام وافيا بعهده، مؤديا لجزيته، لا يخون المسلمين، ولا يمالئ عليهم عدوّهم، وأحسن شاهد على هذا نسوقه إليك في هذا الفصل، خبر أهل نجران اليمن، وكانوا من الكتابيين، لتعلم كيف كانت معاملة أهل الذمة، ومبلغ محافظة الخلفاء على عهودهم معهم، ما لم يخونوا أو يغدروا.
385
وتحرير الخبر عنهم أنه كان وفد وفدهم على رسول الله ودعاهم إلى الإسلام، فأبوا، وسألوه الصلح، وأن يقبل منهم الجزاء، فصالحهم على شيء معلوم، يؤدونه كل سنة للمسلمين وكتب لهم بذلك كتابا جعل لهم فيه ذمة الله وعهده، وأن لا يفتنوا عن دينهم، ومراتبهم فيه، ولا يحشروا، ولا يعشروا، وأن يؤمنوا على أنفسهم وملتهم وأرضهم وأموالهم وغائبهم وشاهدهم وعيرهم، وبعثهم وأمثلتهم. لا يغير ما كانوا عليه، ولا يغير حق من حقوقهم، ولا يطأ أرضهم جيش ومن سأل منهم حقّا فبينهم النصف، غير ظالمين ولا مظلومين، ولهم على ذلك جوار الله، وذمة رسوله أبدا، حتى يأتي أمر الله، ما نصحوا وأصلحوا. واشترط عليهم أن لا يأكلوا الربا، ولا يتعاملوا به.
ولما توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واستخلف أبو بكر الصديق رضي الله عنه، أقرهم على حالهم، وكتب لهم كتابا على نحو كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، مع أنه كان يتخوفهم، ويود إجلاءهم، لما
روي «١» أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يبقين في جزيرة العرب دينان».
ولما حضر أبا بكر الوفاة، أوصى عمر بن الخطاب بإجلائهم لنقضهم العهد بإصابتهم الربا.
فانظر كيف أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يرى أن لا يجتمع في جزيرة العرب دينان، لأن العرب أمة حديثة عهد بالإسلام، قد عانى صلّى الله عليه وسلّم ما عانى في جمع كلمتها، وتوحيد وجهتها، فمن الخطر أن يوجد بين ظهرانيها قوم يدينون بغير دينها، فيفتنون من جاورهم عن الإسلام، على حداثة عهدهم فيه، وعدم تمكنهم بعد من أصوله الصحيحة. هذا من وجه، ومن وجه آخر، فإن النجرانيين كانوا يتاجرون بالربا، ولا يخفى ما فيه من الضرر على من جاورهم من أهل اليمن، الذين ينضب التعامل بالربا معين ثروتهم، ويؤذن بفقرهم، على غير شعور منهم، لا سيّما وأن الشريعة الإسلامية قد حرمته تحريما باتّا، ولا يؤمن من أن النجرانيين، باستمرارهم على تعاطي الربا، يحملون بعض من جاورهم من المسلمين على ارتكاب الإثم بالتعامل معهم بالربا.
ومع هذه الأسباب التي تلجئ إلى إكراه النجرانيين على الإسلام، فإن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم
(١) أخرجه الإمام مالك في الموطأ مرسلا في: الجامع، الحديث رقم ١٧ و ١٨ و ١٩.
وأخرجه الإمام أحمد في المسند ص ٢٧٥ ج ٦ عن عائشة متصلا.
386
يكرههم على ذلك، لأن شريعته لم تأذن بإكراه أهل الكتاب على الإسلام، لهذا تركهم على دينهم، بعد أن دعاهم إلى الإسلام بالتي هي أحسن، فأبوا، وأعطاهم كتاب العهد المذكور، إلا أنه اشترط عليهم فيه أن لا يخونوا المسلمين، ولا يتعاملوا بالربا كما رأيت.
ولما استخلف أبو بكر أكد لهم عهدهم الأول، مع أنه كان يرى في وجودهم في جزيرة العرب من الخطر ما كان يراه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فلم يسعه في أمرهم إلا ما وسع الرسول صلّى الله عليه وسلّم، حتى إذا علم أنهم خانوا العهد، وتعاملوا بالربا، أمر في حال مرضه عمر ابن الخطاب رضي الله عنه بإجلائهم عن جزيرة العرب، دون أن يفتنوا في دينهم.
ولما استخلف عمر رضي الله عنه، كان أول بعث بعثه، بعث أبي عبيد إلى العراق، وبعث يعلى بن أمية إلى اليمن، وأمره بإجلاء أهل نجران، وأن يعاملهم بالرأفة ويشتري أموالهم، ويخيرهم عن أرضهم في أي أرض شاءوا من بلاد الإسلام، لا أن يعاملهم معاملة القوي الغالب، للضعيف المغلوب، كما هو شأن كل دولة من الدول قبل الإسلام وبعده، حتى الآن، في معاملة الأمم التي تخالف مذهبها، وتخضع لقوة سلطانها. فتفرقوا، فنزل بعضهم الشام، وبعضهم النجرانية بناحية الكوفة، وبهم سميت. ولم تقف العناية بهم في إجلائهم، والمحافظة على ما بيدهم من العهد، وتعويضهم عما تركوه من العقار والمال عند هذا الحد، بل كانوا يجدون بعد ذلك من الخلفاء كل رعاية ورفق. من ذلك أنهم شكوا مرة إلى عثمان رضي الله عنه- لما استخلف- ضيق أرضهم، ومزاحمة الدهاقين لهم، وطلبوا إليه تخفيف جزيتهم، فكتب إلى الوليد بن عقبة بن أبي معيط، عامله على الكوفة، كتابا يوصيه بهم، ويأمره أن يضع عنهم مائتي حلة من جزيتهم، لوجه الله، وعقبى لهم من أرضهم.
وروى البلاذري أنه لما ولي معاوية، أو يزيد بن معاوية، شكوا إليه تفرقهم، وموت من مات منهم، وإسلام من أسلم منهم، وأحضروه كتاب عثمان بن عفان، بما حطهم من الحلل، وقالوا: إنما ازددنا نقصانا وضعفا. فوضع عنهم مائتي حلة تتمة أربعمائة حلة. فلما ولي الحجّاج العراق، وخرج ابن الأشعث عليه، اتهمهم والدهاقين بموالاته، فردّ جزيتهم إلى ما كانت عليه. فلما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة، شكوا إليه ظلم الحجاج ونقصهم، فأمر فأحصوا فبلغوا العشر من عدتهم، فألزمهم مائتي حلة جزية عن رؤوسهم فقط. فلما ولي يوسف بن عمر العراق، في خلافة الوليد بن يزيد الأموي، ردّهم إلى ما كانوا عليه، عصبية للحجاج. فلما
387
انقضت دولة الأمويين واستخلف أبو العباس السفاح، رفعوا إليه أمرهم، وما كان من عمر بن عبد العزيز ويوسف بن عمر، فردّهم إلى مائتي حلة ولما استخلف هارون الرشيد شكوا إليه تعنت العمال معهم، فأمر فكتب لهم كتاب بالمائتي حلة، وبالغ بالرفق بهم، فأمر أن يعفوا من معاملة العمال، وأن يكون مؤداهم بيت المال بالحضرة، كي لا يتعنتهم أحد من العمال.
هذا ما رواه المؤرخون في شأن هؤلاء الكتابيين الذين أجلاهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن جزيرة العرب. وقد رأيت مما مرّ مبلغ عناية عمر رضي الله عنه بهم، لما لم ير بدّا من إجلائهم للأسباب التي مر ذكرها. وقد كان من السهل إكراههم على الإسلام، ودخولهم فيه، كما دخل أولئك الملايين من مشركي العرب، وعامة سكان الجزيرة العربية، طوعا أو كرها. وإنما هو الشرع الإسلامي، منع من إكراه غير مشركي العرب على الإسلام، كما منع من نقض العهد، وخفر الذمة إلا بسبب مشروع. لهذا، لما خان النجرانيون عهدهم بتعاملهم بالربا، وقد عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ألا يتعاملوا به في الجزيرة ساغ لأمير المؤمنين إجلاؤهم إلى غيرها، بعد أن عوّضهم عن المال والعقار بمثله. وما زال الخلفاء بعده- مبالغة بالرفق بأهل الكتاب، وقياما بواجب السيادة العادلة، ووفاء بعهد الله والرسول- يعاملون النجرانيين بأحسن ما تعامل به عامة الرعية من المسلمين، ويدفعون عنهم أذى الظلم والإجحاف كما رأيت.
ونتج من هذه القصة ثلاثة أمور:
الأمر الأول: - عدم إكراه النجرانيين على الإسلام، مع تعيّن الخطر من وجودهم في جزيرة العرب، لحداثة عهد أهلها بالإسلام. ذلك لأن عدم الإكراه من أصول الشريعة الإسلامية. والجهاد الذي يعظم أمره أعداء المسلمين إنما شرع لحماية الدعوة لا للإكراه، إلّا جهاد مشركي العرب يومئذ. فقد شرع لإرغامهم على الإسلام، لأسباب حكيمة لا تخفى على بصير، أهمها تطهير نفوس تلك الأمة العظيمة من شرور الوثنية، واستئصال شأفة الجهل والتوحش من جزيرة العرب، التي كانت وسطا بين ممالك الشرق والغرب، من آسيا وأفريقيا وأوربا، بل هي نقطة الصلة السياسية والتجارية بين تلك الممالك، فانتشار أنوار المدنية والدين فيها، يستلزم انتشارها بطبيعة المجاورة والإشراف على تلك الممالك أيضا، قد كان ذلك كما هو معلوم.
388
والأمر الثاني- عدم حيد الخلفاء عن أمر الشارع فيما أمر به من الوفاء بالعهود، وتأكيدهم لعهد النجرانيين، الواحد تلو الآخر، على ضعف هؤلاء وقلتهم، وقوة الخلافة الإسلامية وسلطانها. وإن ذلك لم يكن عن رهبة أو رغبة، بل عن محض تمسك بالعهد، وعدل بين الشعوب الخاضعين لسلطة الخلافة، وسلطان الإسلام، من كل ملة ودين.
والأمر الثالث- حرص أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه على قاعدة حماية الذميّ في نفسه وماله، بتعويضه النجرانيين عن أرضهم ومالهم بالمثل من أرض المسلمين ومالهم، لما قضت الضرورة بإجلائهم عن أرضهم، إلى غيرها من بلاد المسلمين: وقد ذكر في سيرة أبي بكر عن عمر رضي الله عنهما ما فعله من هذا القبيل من أهل عربسوس من ثغور الروم، وكيف أنه لما أمر بإجلائهم عن أرضهم لخيانتهم جوار المسلمين، ونكثهم عهد الأمانة والصدق، أمر بأن يعوّضوا عن مالهم وعقارهم ونعمهم ضعفين. وما زال الخلفاء في أيام الفتوح العظيمة وما بعدها يحافظون على حق القرار الثابت، والملك القديم، للأقوام المغلوبين للمسلمين، الخاضعين لسلطانهم، سواء كانوا من المسيحيين أو غيرهم. ولم يؤثر عن أحد منهم أنه طرد قوما من أرضهم، أو انتزعها منهم بغير حق ولا عوض. ولا عبرة بما ربما يقع من هذا القبيل على بعض الأفراد من جور بعض العمال الذين غلبت شهواتهم على الفضيلة، فحادوا عن طريق الشرع، فإنه قد يصيب أفراد المسلمين من جور هؤلاء أكثر مما يصيب غيرهم، وليس في هذا ما يقدح في أصول الحكم الإسلامي الذي يأبى الظلم، ويدعو إلى الرأفة والعدل. هذا شأن الإسلام في المحافظة على حقوق الأمم المغلوبة. وقد رأيت مما تقدم أنه لم يعط للمسلمين من حقوق الغلب التي ينتحلها الغالبون في كل عصر، إلا ما تدعو إليه الضرورة القصوى، وتستلزمه سلامة الملك والدين، لا ما تدعو إليه شهوات الملك، ورغبات الأمة الغالبة. وقد علم هذا المسلمون وخلفاؤهم، وأن لأهل الذمة ما لهم، وعليهم ما عليهم، فبالغوا في الرأفة بأهل جوارهم، والداخلين في ذمتهم من أرباب الملل الأخرى، فتركوا لهم حرية التملك والدين، لم ينازعوهم حقّا من حقوق المواطنة والجوار، بل كانوا يعتبرونهم جزءا من الدولة، وعضوا من أعضاء مجتمعهم لا غنى عن مشاركته في العمل، ومشاطرته أسباب السعادة المدنية، والحياة الوطنية. يؤيد هذا اعتماد الخلفاء الأمويين والعباسيين على أهل الكتاب من اليهود والنصارى في ترتيب دواوين
389
الخراج. وترجمة علوم اليونان، وتقريب النابغين منهم في علوم الهندسة والطب، إليهم. واعتمادهم في شفاء عللهم عليهم. بل بلغ بالمسلمين اعتبارهم لأهل الكتاب عضوا من جسم هيأتهم الاجتماعية، لا يجوز فصله في حال من الأحوال- أن جيوش التتار، لما اكتسحت بلاد الإسلام من حدود الصين إلى الشام، ووقع في أسرهم من وقع من المسلمين والنصارى، ثم خضد المسلمون شوكة التتار في الشام، ودان ملوكهم بالإسلام، خاطب شيخ الإسلام ابن تيمية رأس العلماء في عصره أمير التتار (قطلو شاه) بإطلاق الأسرى، فسمح له بالمسلمين، وأبى أن يسمح له بأهل الذمة، فقال له شيخ الإسلام: لا بد من افتكاك جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا، ولا ندع أسيرا لا من أهل الملة، ولا من أهل الذمة. فأطلقهم له- انتهى-.
ومنه يعلم شأن الحكم الإسلاميّ في أهل الذمة، ومبلغ عناية الخلفاء والعلماء بهم. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٣٠]
وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠)
وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ جملة مبتدأة، سيقت لتقرير ما مر من عدم إيمان أهل الكتابين بالله سبحانه، وانتظامهم بذلك في سلك المشركين. وقرئ عُزَيْرٌ بالتنوين على الأصل، وحذفه لالتقاء الساكنين على غير القياس تخفيفا. وهو مبتدأ وما بعده خبره، ولهم أوجه أخرى في إعرابه، والوجه ما ذكرناه.
وليعلم أن الذي دعا الفريقين إلى مقاليهما هو الغلوّ في التعظيم. فأما اعتقاد النصارى فهو مشهور معلوم، تكفل التنزيل الكريم بذكره مرارا، ودخر شبهه. وأما اليهود في (عزير) فغلاتهم أو جهلتهم يتفوهون بهذه الكلمة الشنعاء، وأما بقيتهم فيعتبرونه في مقام موسى، ويحترمون دائما ذكره، ويعتقدون أن الله تعالى قد أقامه لجمع التوراة المبددة. ولتجديد الملة الموسوية، وإرجاعها إلى عهدها، وإصلاح ما
390
فسد من آدابها وعوائدها، بإلهام، فإن نسخة التوراة الأصلية، وبقية أسفارهم، فقدت لما أغار أهل بابل، جند (بخت نصّر) على بيت المقدس، وهدموه، وسبوا أهله إلى مملكتهم بابل، وأقاموا هناك سبعين سنة، ثم لما نبغ فيهم (عزير) واشتهر، واستعطف أحد ملوكهم في سراحهم، فأطلق له الملك الإجازة، فعاد من بابل بمن بقي من اليهود إلى بيت المقدس، وجدد ما اندثر من الشريعة الموسوية.
قال بعض الكتابيين في قاموس له: زعم اليهود أن أئمتهم عقدوا مجمعا في عهد (عزرا)، وجمعوا الأسفار العبرانية في قانون متعارف عندهم اليوم، وضموا إليه ما لم يكن فيه من قبل جلاء بابل.
وفي (الذخيرة) من كتبهم ما نصه: أجمع القوم على أن (عزرا) الذي كان خبيرا بآثار وطنه وقدمها، وماهرا بمعرفة الطقوس اليهودية، وبارعا بالعلوم المقدسة، هو أول من قرر هذا القانون، وأثبت أجزاءه المختلفة، بعد الأسر البابلي في نحو السنة ٥٤٣ قبل ميلاد المسيح، ولما تفرقت التوراة آن الجلاء، قام (عزرا) وجمع ما وجد من النسخ المتناثرة، وألف منها نسخة صححها ونقحها ما استطاع، وبدل أسماء الأماكن التي انتسخ ثمّ استعمالها، بأسماء أخرى أشهر في عرفهم، ونسق الكل نسقا محكما، واتفق الجميع على أنه اعتاض في كل الأسفار عن حروف الخط العبراني بحروف كلدانية، ألف استعمالها اليهود مدة أسرهم الذي استمر سبعين سنة. انتهى.
فلهذا العمل المهم عندهم دعوه (ابنا). وفيه من الجراءة على المقام الرباني ما فيه. ولو زعموا إرادة المجاز في ذلك، فلا مناص لهم من لحوق الكفر بهم، فإنه يجب الاحتياط في تنزيهه تعالى، حتى بعفة اللسان، عن النطق بما يوهم نقصا في جانبه، فيتبرأ من مثل هذا اللفظ مطلقا ومن كل ما شاكله. هذا وقد قيل إن القائل لذلك بعض من متقدميهم، وقيل ناس من أهل المدينة في عهد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ولا دلالة في الآية على واحد منهما بخصوصه، ونسبة الشيء القبيح إذا صدر من بعض القوم إلى الكل، مما شاع.
لطيفة:
قرئ (عزير) بالتنوين على الأصل، لأنه منصرف، وقرئ بحذفه لالتقاء الساكنين على غير القياس، لا لأنه أعجمي غير منصرف للعلمية والعجمية، كما قيل، لأن ذلك إنما يصح لو كان على لفظه الأصلي، وهو (عزراء) أو (عزريا)،
391
لفظان عبرانيان، معنى الأول معين، والثاني الله مساعد. أما وقد تصرفت فيه العرب بالتصغير، فلا. وظاهر أن أغلب الأسماء القديمة، لانتقالها من أمة إلى أخرى وكثرة تداولها، تطرق إليها من شوائب التحريف والزيادة والنقصان، ما غير صيغتها الأصلية بعض التغيير ولما استعملت العرب من الأسماء العبرانية ونحوها ما أدخلته إلى لغتها، إما منحوتة من القديمة، أو محرفة منها، أصبحت بالاصطلاح من قبيل الأعلام العربية، إلا ما بقي على وضعه الأول.
وقوله تعالى: ذلِكَ إشارة إلى ما صدر عنهم من العظيمتين. وما فيه من معنى البعد، للدلالة على بعد درجة المشار إليه في الشناعة والفظاعة- قاله أبو السعود- قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ قال الزمخشريّ: فإن قلت: كل قول يقال بالفم، فما معنى بِأَفْواهِهِمْ؟ قلت: فيه وجهان:
أحدهما- أن يراد به أنه قول لا يعضده برهان، فما هو إلا لفظ يفوهون به، فارغ من معنى تحته، كالألفاظ المهملة التي هي أجراس ونغم، لا تدل على معان.
وذلك أن القول الدال على معنى، لفظه مقول بالفم، ومعناه مؤثر في القلب. وما لا معنى له، مقول بالفم لا غير.
والثاني- أن يراد بالقول المذهب، كقولهم (قول أبي حنيفة)، يريدون مذهبه، وما يقول به، كأنه قيل: ذلك مذهبهم ودينهم بأفواههم، لا بقلوبهم، لأنه لا حجة معه ولا شبهة، حتى يؤثر في القلوب. وذلك أنهم إذا اعترفوا أنه لا صاحبة له، لم تبق شبهة في انتفاء الولد. انتهى.
وثمّة وجه ثالث شائع في مثله، وهو التأكيد لنسبة هذا القول إليهم، مع التعجيب من تصريحهم بتلك المقالة الفاسدة. قال بعضهم: القول قد ينسب إلى الأفواه وإلى الألسنة، والأول أبلغ.
يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ أي يضاهئ قولهم قول الذين كفروا من قبلهم من الأمم، فضلوا كما ضل أولئك. قيل: المراد ب الَّذِينَ كَفَرُوا مشركو مكة، القائلون بأن الملائكة بنات الله، وهذا يتم إن أريد ب (اليهود والنصارى) في الآية، يهود المدينة ونصارى نجران في عهده صلّى الله عليه وسلّم، وهو وجه في الآية كما تقدم، فإنهم سبقوا من أهل مكة بالكفر به صلّى الله عليه وسلّم. وقيل: المراد بهم قدماؤهم، يعني أن من كان في
392
زمنه صلّى الله عليه وسلّم منهم، يضاهئ قولهم قول قدمائهم. والمراد عراقتهم في الكفر، أي أنه كفر قديم فيهم غير مستحدث.
قال أبو السعود: وفيه أنه لا تعدد في القول، حتى يتأتى التشبيه، وجعله بين قولي الفريقين، مع اتحاد المقول، ليس فيه مزيد مزيّة. وقيل: الضمير للنصارى، أي يضاهئ قولهم الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ قول اليهود عُزَيْرٌ... إلخ لأنهم أقدم منهم..
قال أبو السعود: وهو أيضا كما ترى، فإنه يستدعي اختصاص الرد والإبطال بقوله تعالى: ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ، بقول النصارى انتهى.
والمضاهاة المشابهة، يقال: ضاهيت، وضاهأت- كما قاله الجوهري- وقراءة العامة (يضاهون) بهاء مضمومة بعدها واو. وقرأ عاصم بهاء مكسورة بعدها همزة مضمومة، وهما بمعنى. من المضاهأة، وهي المشابهة، وهما لغتان. وقيل: الياء فرع عن الهمزة، كما قالوا: قريت وتوضيت وأخطيت قاتَلَهُمُ اللَّهُ أي لعنهم أو قتلهم، أو عاداهم أو تعجب من شناعة قولهم أَنَّى يُؤْفَكُونَ أي كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٣١]
اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١)
اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ زيادة تقرير لما سلف من كفرهم بالله تعالى، وفيه وصفهم بنوع آخر من الشرك. والأحبار علماء اليهود جمع (حبر) بكسر الحاء وفتحها، وهو العالم بتحبير الكلام وتحسينه- كذا ذكره أئمة اللغة- قال بعضهم: (الحبر) أعظم الأشراف بين الإسرائيليين، يكون عندهم وسيلة للتقرب لله، ومرتبة وراثية في آل هارون، يكون بكر أشيخ من فيها. انتهى.
و (الرهبان) جمع راهب بمعنى المتعبد الخاشع الزاهد. وأصل الترهب عند النصارى، التخلي عن أشغال الدنيا، وترك ملاذّها، والزهد فيها، والعزلة عن أهلها.
393
وفي الحديث «١»
(لا رهبانية في الإسلام)
. وقوله تعالى أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ قال الرازي: الأكثرون من المفسرين قالوا: ليس المراد من الأرباب أنهم اعتقدوا فيهم أنهم آلهة العالم، بل المراد أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم، أي لما
روى الترمذي «٢» عن عدي بن حاتم قال: أتيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: يا عدي! اطرح عنك هذا الوثن. وسمعته يقرأ في سورة براءة اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ
قال: أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه.
وروى الإمام أحمد والترمذي «٣» وابن جرير «٤»
من طرق، عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرّ إلى الشام، وكان قد تنصر في الجاهلية فأسرت أخته وجماعة من قومه، ثم منّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، على أخته، وأعطاها، فرجعت إلى أخيها، فرغّبته في الإسلام، وفي القدوم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقدم عدي المدينة، وكان رئيسا في قومه طيئ، وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم، فتحدث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفي عنق عدي صليب من فضة، وهو يقرأ هذه الآية اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ قال:
فقلت: إنهم لم يعبدوهم، فقال بلى إنهم حرّموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا عدي! ما تقول؟ أيضرك أن يقال: الله أكبر؟ فهل تعلم شيئا أكبر من الله؟ ما يضرك أن يقال: لا إله إلا الله، فهل تعلم إلها غير الله؟ ثم دعاه إلى الإسلام فأسلم وشهد شهادة الحق.
(١)
أخرج الإمام أحمد في المسند ٣/ ٨٢ ضمن حديث طويل عن أبي سعيد الخدريّ.. وعليك الجهاد فإنه رهبانية الإسلام.
وبالصفحة ٢٦٦ من هذا الجزء عن أنس بن مالك «لكل نبيّ رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله».
وبالصفحة ٢٢٦ من الجزء السادس عن عائشة «يا عثمان! إن الرهبانية لم تكتب علينا... »
وجاء في مسند الدارمي في: النكاح، ٣- باب النهي عن التبتل، عن سعد بن أبي وقاص «يا عثمان! إني لم أومر بالرهبانية».
(٢) أخرجه الترمذي في: التفسير، ٩- سورة التوبة، ١٠- حدثنا الحسين بن مرثد الكوفي.
(٣) أخرجه الترمذي في: التفسير، ٩- سورة التوبة، ١٠- حدثنا الحسين بن مرثد الكوفيّ. [.....]
(٤) تفسير الطبري ١٠/ ١١٤.
394
قال فلقد رأيت وجهه استبشر. ثم قال: إن اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون.
قال ابن كثير: وهكذا قال حذيفة بن اليمان وابن عباس وغيرهما في تفسير هذه الآية، أنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا.
وقال السدّي: استنصحوا الرجال، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم.
وقد ذكر بعض المفسرين وجها في تفسير اتخاذهم أربابا، قال: بأن أطاعوهم بالسجود لهم.
قال الشهاب: والأول هو تفسير النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فينبغي الاقتصار عليه، لأنه لما أتاه عديّ بن حاتم وهو يقرؤها قال له: إنا لم نعبدهم، فقال: ألم تتبعوهم في التحليل والتحريم؟ فهذه هي العبادة، والناس يقولون: فلان يعبد فلانا، إذا أفرط في طاعته، فهو استعارة بتشبيه الإطاعة بالعبادة أو مجاز مرسل بإطلاق العبادة، وهي طاعة مخصوصة على مطلقها، والأول أبلغ. انتهى.
قال الرازي: قال الربيع: قلت لأبي العالية: كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل؟ فقال: إنهم ربما وجدوا في كتاب الله ما يخالف أقوال الأحبار والرهبان، فكانوا يأخذون بأقوالهم، وما كانوا يقبلون حكم كتاب الله تعالى.
قال الرازي: قال شيخنا ومولانا خاتمة المحققين والمجتهدين رضي الله عنه:
قد شاهدت جماعة من مقلدة الفقهاء، قرأت عليهم آيات كثيرة في كتاب الله تعالى في بعض مسائل، وكانت مذاهبهم بخلاف تلك الآيات، فلم يقبلوا تلك الآيات ولم يلتفتوا إليها، وبقوا ينظرون إليّ كالمتعجب، يعني كيف يمكن العمل بظواهر هذه الآيات، مع أن الرواية عن سلفنا وردت على خلافها؟ ولو تأملت حق التأمل وجدت هذا الداء ساريا في عروق الأكثرين من أهل المدينة. انتهى.
وَما أُمِرُوا أي والحال أن أولئك الكفرة ما أمروا في كتابهم إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً أي يطيعوا أمره، ولا يطيعوا أمر غيره بخلافه، وقوله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ صفة ثانية ل (إلها)، أو استئناف مقرر للتوحيد سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أي به في العبادة والطاعة.
وقوله تعالى:
395
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٣٢]
يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢)
يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ أي يخمدوا حجته الدالة على وحدانيته، وتقدسه عن الولد، أو القرآن، أو نبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ أي بإعلاء التوحيد، وإعزاز الإسلام وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ أي بدلائل التوحيد، ذلك. قال أهل المعاني: نور الله استعارة أصلية تصريحية لحجته أو ما بعدها، لتشبيه كل منها بالنور في الظهر. والإطفاء ترشيح، أو هو استعارة تمثيلية، شبه حالهم في محاولتهم إبطال النبوة بالتكذيب، بحال من يطلب إطفاء نور عظيم، منبث في الآفاق، يريد الله أن يزيده بنفخه.
لطائف:
الأولى- قال الشهاب: روعي في كل من المشبه والمشبه به الإفراط والتفريط، حيث شبه الإبطال بالإطفاء بالفم، ونسب النور إلى الله. ومن شأن النور المضاف إليه أن يكون عظيما، فكيف يطفأ بنفخ الفم، مع ما بين الكفر الذي هو ستر وإزالة للظهور، والإطفاء من المناسبة.
الثانية- لا يخفى أن قوله تعالى: إِلَّا أَنْ يُتِمَّ استثناء مفرغ، وهو في محل نصب مفعول به، والاستثناء المفرغ يكون في الفعل المنفي لا الموجب، إلا أن يستقيم المعنى. وهنا صح التفريغ من الموجب وهو وَيَأْبَى اللَّهُ لأنه نفى في المعنى، لأنه وقع في مقابلة يُرِيدُونَ وفيه من المبالغة والدلالة على الامتناع ما ليس في نفي الإرادة، أي لا يريد شيئا من الأشياء إلا إتمام نوره، فيندرج في المستثنى منه بقاؤه على ما كان عليه، فضلا عن الإطفاء- أفاده أبو السعود- وقال الزجاج: المستثنى منه محذوف تقديره (ويكره الله كل شيء إلا إتمام نوره).
قال الشهاب: فالمعنى على العموم المصحح للتفريغ، عنده، فللناس في توجيه التفريغ هنا مسلكان. والحاصل أنه إن أريد كل شيء يتعلق بنوره بقرينة السياق، صح إرادة العموم، ووقوع التفريغ في الثابتات، كما ذهب إليه الزجاج، إذ ما من عامّ إلا وقد خصّص، فكل عموم نسبي، لكنه يكتفي به، ويسمى عموما. ألا ترى
أن مثالهم (قرأت إلا يوم كذا) قد قدّروه كل يوم، والمراد من أيام عمره، لا من أيام الدهر. فإن نظر إلى الظاهر في أمثاله كان عامّا، واستغنى عن النفي، وإن نظر إلى نفس الأمر، فهو ليس بعام، فيؤول بالنفي، والمعنى فيهما واحد وإنما أوّل به هنا عند من ذهب إلى تأويله، لاقتضاء المقابلة له، إذ ما من إثبات إلا ويمكن تأويله بالنفي، فيلزمه جريان التفريغ في كل شيء، وليس كذلك ما صرح به الرضي. ولذا قيل:
الاستثناء المفرغ، وإن اختص بالنفي، إلا أنه قد يمال مع المعنى بمعونة القرائن، ومناسبة المقامات، فيجري بعض الإيجابات مجرى النفي في صحة التفريغ معها- ذكره الشهاب أيضا-.
الثالثة- قال أبو السعود: وفي إظهار (النور) في مقام الإضمار مضافا إلى ضميره عز وجل- زيادة اعتناء بشأنه، وتشريف له على تشريف، وإشارة بعلة الحكم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٣٣]
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى أي القرآن الذي هو هدى للمتقين وَدِينِ الْحَقِّ أي التوحيد الثابت الذي لا يزول لِيُظْهِرَهُ أي الدين الحق عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ أي على سائر الأديان وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ أي أن يكون ذلك.
وجواب (لو) فيهما محذوف لدلالة ما قبله عليه، وجملة هُوَ الَّذِي إلخ بيان وتقرير لمضمون الجملة قبلها، لأن المراد من إتمام نوره إظهاره ولكونه بحسب المآل بمعناه، ذيله بما ذيله به بعينه، لكنه عبر عن الكافرين بالمشركين تفاديا عن صورة التكرار- كذا في العناية-.
وفي الصحيح «١» عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: إن الله زوى لي الأرض، مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها.
(١) أخرجه مسلم في: الفتن وأشراط الساعة، حديث رقم ١٩. عن ثوبان.
وأخرجه أبو داود في: الفتن والملاحم، ١- باب ذكر الفتن ودلائلها، حديث ٤٢٥٢.
والإمام أحمد في المسند ص ٢٧٨ ج ٥.
397
وروى الإمام أحمد «١» عن مسعود بن قبيصة أو قبيصة بن مسعود يقول: صلى هذا الحي من محارب الصبح، فلما صلّوا قال شاب منهم: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إنه ستفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها، وإن عمالها في النار، إلا من اتقى الله وأدى الأمانة.
وأخرج أيضا «٢» عن تميم الداري قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين، يعز عزيزا، ويذل ذليلا، عزّا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفر.
وكان تميم الداري يقول: قد عرفت ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعزّ. ولقد أصاب من كان كافرا منهم الذل والصغار والجزية.
وأخرج أيضا «٣» عن المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا وبر إلا دخلته كلمة الإسلام، يعز عزيزا، ويذل ذليلا، إما يعزهم الله فيجعلهم من أهلها، وإما يذلهم فيدينون لها.
وأخرج أيضا «٤» عن عدي بن حاتم قال: دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا عدي! أسلم تسلم. فقلت: إني من أهل دين. قال: أنا أعلم بدينك منك. فقلت:
أنت أعلم بديني مني؟ قال: نعم، ألست من الرّكوسية، وأنت تأكل مرباع قومك؟
قلت: بلى! قال: فإن هذا لا يحل لك في دينك. قال: فلم يعد أن قالها، فتواضعت لها. قال: أما إني أعلم ما الذي يمنعك عن الإسلام، تقول: إنما اتبعه ضعفة الناس، ومن لا قوة له، وقد رمتهم العرب، أتعرف الحيرة؟ قلت: لم أرها، وقد سمعت بها.
قال: فو الذي نفسي بيده! ليتمنّ الله هذا الأمر، حتى تخرج الظعينة من الحيرة، حتى تطوف بالبيت من غير جوار أحد، ولتفتحنّ كنوز كسرى بن هرمز، قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: نعم! كسرى بن هرمز، وليبذلنّ المال حتى لا يقبله أحد.
قال عدي بن حاتم: فهذه الظعينة تخرج من الحيرة، فتطوف بالبيت من غير جوار أحد ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز، والذي نفسي بيده! لتكوننّ الثالثة، لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد قالها.
(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند ص ٣٦٦ ج ٥.
(٢) أخرجه في المسند ٤/ ١٠٣.
(٣) أخرجه في المسند ٦/ ٤.
(٤) أخرجه في المسند ٤/ ٢٥٧.
398
وروى «١» مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزّى، فقلت: يا رسول الله! إن كنت لأظن حين أنزل الله عز وجل هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ.. الآية- إن ذلك تامّ! قال: إنه سيكون من ذلك ما شاء الله عز وجل، ثم يبعث الله ريحا طيبة، فيتوفى كل من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم.
قال في (اللباب) : معنى الآية ليظهرن دين الإسلام على الأديان كلها، وهو ألا يعبد الله إلا به. وكذا روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: هذا وعد من الله تعالى بأنه يجعل الإسلام عاليا على جميع الأديان، وتمام هذا إنما يحصل عند خروج عيسى. وكذلك قال الضحاك والسدّي: لا يبقى أحد إلا دخل في الإسلام. وقال الشافعي: قد أظهر الله دين رسوله صلّى الله عليه وسلّم على الأديان كلها، بأن أبان لكل من سمعه أنه الق، وما خالفه من الأديان باطل، وأظهره على الشرك دين أهل الكتاب، ودين الأميين، فقهر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأميين حتى دانوا بالإسلام طوعا وكرها، وقتل أهل الكتاب وسبى حتى دان بعضهم بالإسلام، وأعطى بعضهم الجزية صاغرين، وجرى عليهم حكمه. قال: فهذا هو ظهوره على الدين كله. انتهى.
قلت: ما ذكره الشافعي هو من ظهوره، والأدق ما تقدم، من أنه سوف يعتنقه كل فرقة، فإن ما تذهب إليه طوائف الإصلاح من الملل الأخرى لا يبعد الآن عن الإسلام إلا قليلا.
ثم بيّن تعالى حال الأحبار والرهبان في إغوائهم لأراذلهم، إثر بيان سوء حال الأتباع في اتخاذهم لهم أربابا يطيعونهم في الأوامر والنواهي، واتباعهم لهم فيما يأتون وما يذرون، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٣٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ
(١) أخرجه مسلم في صحيحه في: الفتن وأشراط الساعة، حديث رقم ٧٢.
أي بالطريق المنكر من الرّشا في الأحكام والتخفيف والمسامحة في الشرائع وغير ذلك. و (الأكل) مجاز عن الأخذ، بعلاقة العلّية والمعلولية: لأنه الغرض الأعظم منه. وفيه من التقبيح لحالهم، وتنفير السامعين عنه ما لا يخفى وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي عن دين الإسلام وحكمه، واتباع الدلائل، إلى ما يهوون. أو عن المسلك المقرر في التوراة والإنجيل، إلى ما افتروه وحرفوه.
ثم أشار إلى أن سبب ذلك هو إيثارهم حب المال وكنزه على أمر الله، وتناسيهم وعيده في الكنز بقوله سبحانه وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ أي يحفظونهما حفظ المدفون في الأرض وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي الذي هو الزكاة فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٣٥]
يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (٣٥)
يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها أي يوقد عليها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ أي ويقال لهم ضمّا إلى ما هم فيه، هذا ما كنزتم لِأَنْفُسِكُمْ أي لتتلذذوا به، فكان سبب تعذيبها فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ أي وباله، وهو ألمه وشدته بالكي.
وفي هذه الآية فوائد:
الأولى: قال بعضهم في قوله تعالى لَيَأْكُلُونَ دلالة على تحريم الرشا على الباطل،
وقد ورد «١»
(لعن الله الراشي والمرتشي).
وكذا تحريم أخذ العوض على فعل الواجب. وفي جواز الدفع ليتوصل إلى حقه خلاف. رجح الجواز ليتوصل إلى الحق، كالاستفداء. قال الحاكم يدخل في تحريم الرشا الأحكام والشهادات والفتاوى وأصول الدين وفروعه، وكل من حرّف شيئا لغرض الدنيا. انتهى.
الثانية- في الآية- كما قال ابن كثير- تحذير من علماء السوء وعبّاد الضلال، كما قال سفيان بن عيينة: من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود،
(١) أخرجه الترمذيّ في: الأحكام، ٩- باب ما جاء في الراشي والمرتشي في الحكم.
400
ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من النصارى
وفي الحديث الصحيح «١»
(لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة) قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟
وفي رواية: فارس والروم؟ قال: ومن الناس إلا هؤلاء؟ ثم أنشد لابن المبارك:
وهل أفسد الدين إلا الملو ك، وأحبار سوء ورهبانها
الثالثة- قوله تعالى: وَالَّذِينَ مبتدأ، والخبر يَكْنِزُونَ أو منصوب تقديره: بشر الذين يكنزون. والتعريف في الموصول للعهد والمعهود، إما الأحبار والرهبان، وإما المسلمون الكانزون، لجري ذكر الفريقين، وإما ما هو أعم. والأول روي عن معاوية، والثاني عن السدّيّ، والثالث عن ابن عباس وأبي ذرّ.
قال الزمخشري: يجوز أن يكون الموصول إشارة إلى الكثير من الأحبار والرهبان، للدلالة على اجتماع خصلتين مذمومتين فيهم: أخذ البراطيل، وكنز الأموال والضن بها عن الإنفاق في سبيل الله. ويجوز أن يراد المسلمون الكانزون غير المنفقين ويقرن بينهم وبين المرتشين من اليهود والنصارى تغليظا، ودلالة على أن من يأخذ منهم السحت، ومن لا يعطي منكم طيب ماله، سواء في استحقاق البشارة بالعذاب الأليم. انتهى.
قال في (الأنوار) : ويؤيد الثاني أنه لما نزل كبر على المسلمين، فذكر عمر رضي الله عنه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم
فقال: إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم- رواه «٢» أبو داود والحاكم
وصححه-
وقوله صلّى الله عليه وسلّم ما أدي زكاته فليس بكنز- أخرجه الطبراني والبيهقي
- أي ليس بالكنز المتوعّد عليه في الآية، فإن الوعيد على الكنز مع عدم الإنفاق فيما أمر الله أن ينفق فيه. وأما
قوله صلّى الله عليه وسلّم: من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها
ونحوه، فالمراد منها: ما لم يؤد حقها،
لقوله صلّى الله عليه وسلّم، فيما أورده
(١)
أخرجه البخاري في: الأنبياء، ٥٠- باب ما ذكر عن بني إسرائيل، حديث ١٦٢٢.
وفي مسلم في: العلم، حديث رقم ٦ نصه هكذا:
عن أبي سعيد الخدري: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال «لتتبعنّ سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع. حتى لو سلكوا حجر ضب لسلكتموه»، قلنا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: «فمن» ؟
أما
الحديث الذي جاء فيه حذو القذة بالقذة فقد أخرجه الإمام أحمد في المسند ص ١٢٥ ج ٤ ونصه:
عن شداد بن أوس: «ليحملنّ شرار هذه الأمة على سنن الذي خلوا من قبلهم، أهل الكتاب، حذو القذة بالقذة»
. (٢) أخرجه أبو داود في: الزكاة، ٣٢- باب في حقوق المال، حديث ١٦٦٤.
401
الشيخان: البخاري في تاريخه، ومسلم «١» في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره.
انتهى.
وقد اشتهرت محاورة معاوية لأبي ذر في هذه الآية.
روى البخاري «٢»
عن زيد بن وهب قال: مررت بالربذة، فإذا بأبي ذر، فقلت:
ما أنزلك هذا المنزل؟ قال: كنت في الشام، فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية:
وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ... فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب فقلت: نزلت فينا وفيهم. فكان بيني وبينه في ذلك كلام، فكتب إلى عثمان يشكوني، فكتب إليّ عثمان أن أقدم المدينة فقدمتها، فكثر عليّ الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان، فقال: إن شئت تنحيت، فكنت قريبا.
فذاك الذي أنزلني هذا المنزل، ولو أمّر عليّ عبد حبشي لسمعت وأطعت.
ولابن جرير في رواية (بعد قول عثمان له: تنح قريبا) قلت: والله لن أدع ما كنت أقول.
وروى أبو يعلى أن أبا ذر كان يحدث ويقول: لا يبيتنّ عند أحدكم دينار ولا درهم، إلا ما ينفقه في سبيل الله، أو يعدّه لغريم. فكتب معاوية إلى عثمان: إن كان لك بالشام حاجة، فابعث إلى أبي ذرّ فكتب إليه عثمان أن اقدم عليّ، فقدم.
قال ابن كثير: كان من مذهب أبي ذر رضي الله عنه تحريم ادخار ما زاد على نفقة العيال، وكان يفتي بذلك، ويحثهم عليه، ويأمرهم به، ويغلظ في خلافه. فنهاه معاوية فلم ينته. فخشي أن يضر بالناس في هذا، فكتب يشكوه إلى أمير المؤمنين عثمان، وأن يأخذه إليه، فاستقدمه عثمان إلى المدينة، ثم أنزله بالربذة، وبها مات رضي الله عنه في خلافة عثمان. وقد اختبره معاوية رضي الله عنه وهو عنده، هل يوافق عمله قوله، فبعث إليه بألف دينار، ففرقها من يومه، ثم بعث إليه الذي أتاه بها فقال: إن معاوية إنما بعثني إلى غيرك فأخطأت فهات الذهب. فقال: ويحك! إنها خرجت، ولكن إذا جاء مالي حاسبناك به.
(١) أخرجه مسلم في صحيحه في: الزكاة حديث رقم ٢٤.
(٢) أخرجه البخاري في صحيحه في: الزكاة، ٤- باب ما أدّي زكاته فليس بكنز، حديث رقم ٧٤٩.
402
وقال «١»
الأحنف بن قيس: قدمت المدينة فبينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش، إذ جاء رجل أخشن الثياب، أخشن الجسد، أخشن الوجه، فقام عليهم فقال:
بشر الكانزين برضف يحمى عليه في نار جهنم، ثم يوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفه، ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه، يتزلزل. قال: فوضع القوم رؤوسهم، فما رأيت أحدا منهم رجع إليه شيئا. قال: وأدبر واتبعته حتى جلس إلى معاوية فقلت: ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم، فقال:
إن هؤلاء لا يعلمون شيئا، إنما يجمعون الدنيا- رواه مسلم، وللبخاري نحوه-.
وفي الصحيح «٢» أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لأبي ذر: ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهبا، يمر عليّ ثلاثة أيام، وعندي منه شيء، إلا دينار أرصده لدين.
قال ابن كثير: فهذا- والله أعلم- هو الذي حدا أبا ذر على القول بهذا.
أي وما
أخرجه الشيخان «٣» أيضا عنه، قال: انتهيت إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو جالس في ظل الكعبة، فلما رآني قال: هم الأخسرون ورب الكعبة! قال: فجئت حتى جلست، فلم أتقارّ حتى قمت فقلت: يا رسول الله! فداك أبي وأمي، من هم؟ قال:
هم الأكثرون أموالا، إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا، من بين يديه من خلفه، وعن يمينه وعن شماله، وقليل ما هم.
وروى الإمام أحمد «٤»
عن عبد الله بن الصامت رضي الله عنه، أنه كان مع أبي ذر، فخرج عطاؤه ومعه جارية، فجعلت تقضي حوائجه، ففضلت معها سبعة، فأمرها أن تشتري به فلوسا. قال: قلت: لو ادخرته لحاجة بيوتك، وللضيف ينزل بك قال:
إن خليلي عهد إليّ أن أيّما ذهب أو فضة أوكئ عليه، فهو جمر على صاحبه، حتى يفرغه في سبيل الله عزّ وجلّ إفراغا.
قال ابن عبد البر: وردت عن أبي ذر آثار كثيرة، تدل على أنه كان يذهب إلى أن كل مال مجموع يفضل عن القوت، وسداد العيش، فهو كنز يذم فاعله، وأن آية الوعيد
(١) أخرجه البخاري في: الزكاة، ٤- باب ما أدّي زكاته فليس بكنز، حديث رقم ٧٥٠.
وأخرجه مسلم في: الزكاة، حديث ٣٤.
(٢) أخرجه البخاري في: الاستقراض وأداء الديون، ٣- باب أداء الديون، حديث رقم ٦٦٠. [.....]
(٣) أخرجه البخاري في: الأيمان والنذور، ٣- باب كيف كانت يمين النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، حديث ٧٧٥.
وأخرجه مسلم في: الزكاة، حديث ٣٠.
(٤) أخرجه الإمام أحمد في المسند ٥/ ١٧٥.
403
نزلت في ذلك، وخالفه جمهور الصحابة ومن بعدهم، وحملوا الوعيد على مانعي الزكاة، وأصح ما تمسكوا به حديث طلحة وغيره في قصة الأعرابي «١»
حيث قال: هل عليّ غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوّع. انتهى.
وبالجملة فالجمهور على أن الكنز المذموم ما لم تؤدّ زكاته. وقد ترجم لذلك البخاري «٢»
في (صحيحه) فقال (باب ما أدّي زكاته فليس بكنز). ويشهد له
حديث أبي هريرة «٣» مرفوعا: إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك- حسنه الترمذي وصححه الحاكم-.
وعن ابن عمر: كلّ ما أديت زكاته، وإن كان تحت سبع أرضين، فليس بكنز وكلّ ما لا تؤدي زكاته فهو كنز، وإن كان ظاهرا على وجه الأرض- أورده البيهقي مرفوعا، ثم قال: المشهور وقفه، كحديث جابر: إذا أديت زكاة مالك، فقد أذهبت عنك شره. أخرجه الحاكم، والمرجح وقفه.
هذا وذهب ابن عمر رضي الله عنهما ومن وافقه إلى أن الزكاة نسخت وعيد الكنز.
روى البخاري في (صحيحه) «٤»
أن أعرابيا قال لابن عمر: أخبرني عن قول الله تعالى وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ... الآية- قال ابن عمر: من كنزها فلم يؤد زكاتها، فويل له. إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلما أنزلت جعلها الله طهرا للأموال: زاد ابن ماجة «٥» : ثم قال ابن عمر: ما كنت أبالي لو كان لي مثل أحد ذهبا، أعلم عدده، أزكيه وأعمل فيه بطاعة الله تعالى. ورواه أبو داود في كتاب (الناسخ والمنسوخ). فهذا يشعر بأن الوعيد على الاكتناز. وهو حبس ما فضل عن الحاجة عن المواساة به- كان في أول الإسلام، ثم نسخ ذلك بفرض الزكاة، لما فتح الله الفتوح، وقدّرت نصب الزكاة. ويشعر أيضا بأن فرض الزكاة كان في السنة التاسعة من الهجرة، وجزم به ابن الأثير في (تاريخه) : وقواه بعضهم بما وقع في قصة ثعلبة بن حاطب المطولة، ففيها لما أنزلت آية الصدقة بعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عاملا فقال: ما هذه إلا
(١) يشير إلى حديث البخاري الذي رواه عن طلحة بن عبيد الله في: الإيمان، ٣٤- باب الزكاة من الإسلام، حديث ٤٢.
(٢) أخرجه في: الزكاة، ٤- باب ما أدي زكاته فليس بكنز.
(٣) أخرجه الترمذي في: الزكاة، ٢- باب ما جاء إذا أديت الزكاة فقد قضيت ما عليك.
(٤) أخرجه البخاري في: الزكاة، ٤- باب ما أدي زكاته فليس بكنز، حديث ٧٤٧.
(٥) أخرجه ابن ماجة في: الزكاة، ٣- باب ما أدي زكاته فليس بكنز، حديث ١٧٨٧.
404
جزية أو أخت الجزية. والجزية إنما وجبت في التاسعة.
وأقول: هذا الحديث ضعفوه. والأقوى منه كون هذه السورة التي فيها هذه الآية نزلت في السنة التاسعة كما قدمنا. فإذا نسخت بالزكاة كانت الزكاة في تلك السنة أو بعدها قطعا.
قال ابن حجر في (الفتح) : والظاهر أن ذلك كان في أول الأمر كما تقدم عن ابن عمر. واستدل له ابن بطال بقوله تعالى وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [البقرة:
٢١٩]، أي ما فضل عن الكفاية، فكان ذلك واجبا في أول الأمر، ثم نسخ- والله أعلم-.
وفي المسند «١» من طريق يعلى بن شداد بن أوس عن أبيه قال: كان أبو ذر يسمع الحديث من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيه الشدة. ثم يخرج إلى قومه، ثم يرخص فيه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فلا يسمع للرخصة، ويتعلق بالأمر الأول.
وما سقناه من مذهب أبي ذر، هو ما ساقه المفسرون وشراح الحديث. وزعم بعضهم أن الذي حدا أبا ذر لذلك ما رآه من استئثار معاوية بالفيء حيث قال: الذي صح أن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم كانوا يعتبرون الفيء لكافة المسلمين، يستوي فيه المقاتلون وغيرهم، ولعله باعتبار أن القتال فريضة على كل المسلمين، فكلهم داخل تحت ذلك الحكم. قال: والذي يؤيد أنه لكافة المسلمين، أن أبا ذر رضي الله عنه لما كان بالشام، والوالي عليها، من قبل الخليفة عثمان، معاوية رضي الله عنهما، ورأى من معاوية ما يشعر بحرصه على ادخار المال في بيت المال، لصرفه في وجوه المصالح التي يراها للمسلمين، وكان أبو ذر مشهورا بالورع شديد الحرص على حقوق المسلمين، يقول الحق ولو على نفسه. أخذ يتكلم بهذا الأمر بين الناس واتخذ له حزبا من أهل الشام يساعده على مطالبة معاوية برد المال للمسلمين، وبيان عدم الرضا بكنزه في بيت المال، لأي حال من الأحوال، إلا لتوزيعه على كافة المسلمين لاشتراكهم بما أفاء الله عليهم أجمعين وتابعه على قوله جماعة كثيرون، كانوا يجتمعون لهذا القصد سرّا وجهرا، حتى كادت تكون فتنة، فشكاه معاوية إلى الخليفة عثمان رضي الله عنهم أجمعين فنفاه إلى الربذة خوفا من حدوث ما لا تحمد عقباه. انتهى.
(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند ٤/ ١٢٥.
405
ونقل ما يقرب منه ابن حجر في (الفتح) حيث قال: والصحيح أن إنكار أبي ذر كان على السلاطين الذين يأخذون المال لأنفسهم ولا ينفقونه في وجهه.
الرابعة- إنما قيل وَلا يُنْفِقُونَها بضمير المؤنث، مع أن الظاهر التثنية، إذ المذكور شيئان لأن المراد بهما دنانير ودراهم كثيرة، وذلك لأن الكثير منهما هو الذي يكون كنزا، فأتى بضمير الجمع للدلالة على الكثرة، ولو ثنّى احتمل خلافه.
وقيل: الضمير عائد على الكنوز أو الأموال المفهومة من الكلام، فيكون الحكم عاما، ولذا عدل فيه عن الظاهر. وتخصيصهما بالذكر، لأنهما الأصل الغالب في الأموال للتخصيص. وقيل: الضمير للفضة، واكتفى بها، لأنها أكثر، والناس إليها أحوج، ولأن الذهب يعلم منها بالطريق الأولى، مع قربها لفظا.
الخامسة- في قوله تعالى فَبَشِّرْهُمْ تهكم بهم، كما في قوله:
تحيّة بينهم ضرب وجيع
وقيل: البشارة هي الخبر الذي يتغير له لون البشرة، لتأثيره في القلب، سواء كان من الفرح أو من الغم.
السادسة- قيل في تخصيص هذه الأعضاء الثلاثة بالكيّ دون غيرها: بأن جمع ذويها وإمساكهم كان لطلب الوجاهة بالغنى والتنعم بالمطاعم الشهية، والملابس البهية، فلوجاهتهم ورئاستهم المعروفة بوجوههم، كان الكيّ بجباههم، ولامتلاء جنوبهم بالطعام كووا عليها. ولما لبسوه على ظهورهم كويت. وقيل: لأنهم إذا سألهم فقير تبدو منهم آثار الكراهة والمنع، فتكلح وجوههم، وتقطب. ثم إذا كرر الطلب ازورّوا عنه وتركوه جانبا، ثم إذا ألحّ ولّوه، ظهورهم واستقبلوا جهة أخرى، وهي النهاية في الرد، والغاية في المنع، الدال على كراهية الإعطاء والبذل. وهذا دأب مانعي البر والإحسان، وعادة البخلاء، فكان ذلك سببا لكيّ على الأعضاء. وقيل: لأن هذه الأعضاء أشرف الأعضاء الظاهرة، إذ هي المشتملة على الأعضاء الرئيسية التي هي الدماغ والقلب والكبد. أو لأنها أصول الجهات الأربع التي هي مقاديم البدن ومآخره وجنباه، فيكون كناية عن جميع البدن.
وقال القاشاني: جمع المال وكنزه مع عدم الإنفاق لا يكون إلا لاستحكام رذيلة الشح، وحب المال. وكل رذيلة لها كيّة يعذب بها صاحبها في الآخرة ويخزى بها في الدنيا. ولما كانت مادة رسوخ تلك الرذيلة واستحكامها هي ذلك المال، وكان هو
406
الذي يحمى عليه في نار جحيم الطبيعة، وهاوية الهوى، فيكوى به. وإنما خصت هذه الأعضاء، لأن الشحّ مركوز في النفس، والنفس تغلب القلب من هذه الجهات، لا من جهة العلوّ التي هي جهة استيلاء الروح وممرّ الحقائق والأنوار، ولا من جهة السفل التي هي من جهة الطبيعة الجسمانية، لعدم تمكن الطبيعة من ذلك، فبقيت سائر الجهات، فيؤذى بها من الجهات الأربع ويعذب، كما تراه يعاب بها في الدنيا، ويجزى من هذه الجهات أيضا، إما بأن يواجه بها جهرا فيفضح، أو يسارّ بها في جنبه، أو يغتاب بها من وراء ظهره- انتهى-.
السابعة- قال أبو البقاء (يوم) من قوله تعالى يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها ظرف على المعنى. أي يعذبهم في ذلك اليوم. وقيل: تقديره عذاب يوم، وعذاب بدل من الأول، فلما حذف المضاف أقام (اليوم) مقامه. وقيل: التقدير اذكروا و (عليها) في موضع رفع لقيامه مقام الفاعل. وقيل: القائم مقام الفاعل مضمر، أي يحمى الوقود أو الجمر، و (بها) أي بالكنوز. وقيل: هي بمعنى (فيها) أي في جهنم وقيل:
(يوم) ظرف لمحذوف تقديره: يوم يحمى عليها يقال لهم هذا ما كنزتم.
ولما بيّن تعالى فيما تقدم إقدام الأحبار والرهبان على تغيير أحكام الله تعالى إيثارا لحظوظهم، أتبعه بما جرأ عليه المشركون في نظيره من تغيير الأشهر التي حرمها الله تعالى بغيرها. وهو النسيء الآتي، وقوفا مع شهواتهم أيضا، فنعى عليهم سعيهم في تغيير حكم السنة بحسب أهوائهم وآرائهم مما أوجب زيادة كفرهم، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٣٦]
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦)
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ أي عددها عِنْدَ اللَّهِ أي في حكمه اثْنا عَشَرَ شَهْراً وهي القمرية التي عليها يدور فلك الأحكام الشرعية فِي كِتابِ اللَّهِ أي في اللوح المحفوظ، أو فيما أثبته وأوجبه من حكمه. وقوله: يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ متعلق بما في الجار والمجرور من معنى الاستقرار. أراد ب (الكتاب) على أنه مصدر،
والمعنى: أن هذا أمر ثابت في نفس الأمر، منذ خلق الله تعالى الأجرام والحركات والأزمنة. أفاده أبو السعود مِنْها أي من تلك الشهور الاثني عشر أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثلاثة سرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وواحد فرد وهو رجب ذلِكَ أي تحريم الأشهر الأربعة المذكورة الدِّينُ الْقَيِّمُ أي المستقيم فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ أي بهتك حرمتها بالقتال فيها. وقال ابن إسحاق: أي لا تجعلوا حرامها حلالا، ولا حلالها حراما، كما فعل أهل الشرك وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً أي جميعا وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ أي بالنصر والإمداد.
ثم بيّن تعالى ثمرة هذه المقدمة، وهو تحريم تغيير ما عيّن تحريمه من الأشهر الحرم، وإيجاب الحذو بها على ما سبق في كتابه، ناعيا على المشركين كفرهم، بإهمالهم ذلك، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٣٧]
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٣٧)
إِنَّمَا النَّسِيءُ أي تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر مصدر (نسأه) إذا أخره زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ لأنه تحليل ما حرمه الله، وتحريم ما حلله، فهو كفر آخر مضموم إلى كفرهم يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا أي بالله عن أحكامه إذا يجمعون بين الحلّ والحرمة في شهر واحد يُحِلُّونَهُ عاماً أي: يحلون النسيء من الأشهر الحرم سنة، ويحرمون مكانه شهرا آخر وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً أي يتركونه على حرمته القديمة، ويحافظون عليها سنة أخرى، إذا لم يتعلق بتغييره غرض من أغراضهم، والتعبير عن ذلك بالتحريم، باعتبار إحلالهم له في العام الماضي، والجملتان تفسير للضلال، أو حال.
قال الزمخشري: النسيء تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر، وذلك أنهم كانوا أصحاب حروب وغارات، فإذا جاء الشهر الحرام، وهم محاربون، شق عليهم ترك المحاربة، فيحلونه ويحرمون مكانه شهرا آخر، حتى رفضوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم، فكانوا يحرمون من أشق شهور العام أربعة أشهر، وذلك قوله تعالى:
لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ أي ليوافقوا العدة التي هي الأربعة، ولا يخالفوها، وقد
408
خالفوا التخصيص الذي هو أحد الواجبين، وربما زادوا في عدد الشهور، فيجعلونها ثلاثة عشر، أو أربعة عشر، ليتسع لهم الوقت. ولذلك قال عز وعلا إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً يعني من غير زيادة زادوها فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ بتركهم التخصيص للأشهر بعينها زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ فاعتقدوا قبيحها حسنا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ.
اعلم أن في هاتين الآيتين مسائل:
الأولى- أن الأحكام تعلق بالأشهر العربية، وهي شهور الأهلة، دون الشهور الشمسية. قيل: جعل أول الشهور الهلالية المحرم، حدث في عهد عمر رضي الله عنه، وكان قبل ذلك يؤرخ بعام الفيل. ثم أرخ في صدر الإسلام بربيع الأول. وقد نقل ابن كثير هنا عن السخاوي وجوه تسمية الأشهر بما سميت به، ونحن نورد ذلك مأثورا عن أمهات اللغة المعول عليها فنقول:
١- المحرم: على أنه اسم المفعول، هو أول الشهور العربية. أدخلوا عليه الألف واللام لمحا للصفة في الأصل، وجعلوها علما بهما، مثل النجم والدبران ونحوهما، ولا يجوز دخولهما على غيره من الشهور عند قوم، وعند قوم يجوز على صفر وشوال. وجمع المحرم محرمات. والمحرم شهر الله، سمته العرب بهذا الاسم، لأنهم كانوا لا يستحلون فيه القتال، وأضيف إلى الله تعالى إعظاما له، كما قيل للكعبة (بيت الله). وقيل: سمي بذلك، لأنه من الأشهر الحرم. قال ابن سيده: وهذا ليس بقوي.
٢- صفر: الشهر الذي بعد المحرم. قال بعضهم: إنما سمي لأنهم كانوا يمتارون الطعام فيه من المواضع. وقيل: لإصفار مكة من أهلها إذا سافروا. وروي عن رؤية أنه قال: سموا الشهر (صفرا)، لأنهم كانوا يغزون فيه القبائل، فيتركون من لقوا صفرا من المتاع، وذلك أن صفرا بعد المحرم، فقالوا: صفر الناس منا صفرا. قال ثعلب: الناس كلهم يصرفون صفرا إلا أبا عبيدة، فمنعه للعلمية والتأنيث، بإرادة الساعة، يعني أن الأزمنة كلها ساعات، وإذا جمعوه مع المحرم قالوا: (صفران)، ومنه قول أبي ذؤيب:
أقامت به كمقام الحني ف شهري جمادى وشهري صفر
(استشهد به في اللسان في مادة (ص ف ر) وليس في ديوان الهذليين).
409
قال ابن دريد: الصفران من السنة شهران، سمي أحدهما في الإسلام المحرم وجمعه أصفار، مثل سبب وأسباب، وربما قيل (صفرات).
٣ و ٤- الربيع شهران بعد صفر، سميا بذلك لأنهما حدّا في هذا الزمن، فلزمهما في غيره قالوا: لا يقال فيهما إلا شهر ربيع الأول وشهر ربيع الآخر، بزيادة (شهر) وتنوين (ربيع)، وجعل (الأول) و (الآخر) وصفا تابعا في الإعراب، ويجوز فيه الإضافة، وهو من باب إضافة الشيء إلى نفسه عند بعضهم، لاختلاف اللفظين، نحو حَبَّ الْحَصِيدِ [ق: ٩]، وَلَدارُ الْآخِرَةِ [يوسف: ١٠٩]، وحَقُّ الْيَقِينِ [الواقعة: ٩٥] و [الحاقة: ٥١]، ومسجد الجامع «١». قال بعضهم: إنما التزمت العرب لفظ (شهر) قبل (ربيع) لأن لفظ (ربيع) مشترك بين الشهر والفصل، فالتزموا لفظ شهر (في الشهر) وحذفوه في (الفصل) للفصل.
قال الأزهري أيضا: والعرب تذكر الشهور كلها مجردة من لفظ (شهر) إلا شهري ربيع ورمضان. ويثنّى الشهر ويجمع، فيقال شهرا ربيع، وأشهر ربيع، وشهور ربيع.
٥ و ٦- جمادى الأولى والآخرة (كحبارى) الشهران التاليان لشهري ربيع.
وجمادى معرفة مؤنثة. قال ابن الأنباري: أسماء الشهور كلها مذكرة، إلا جماديين، فهما مؤنثان. تقول مضت جمادى بما فيها قال الشاعر:
إذا جمادى منعت قطرها... زان جناني عطن مغضف
ثم قال: فإن جاء تذكير جمادى في شعر، فهو ذهاب إلى معنى الشهر. كما قالوا: هذه ألف درهم، على معنى هذه الدراهم. والجمع على لفظها جماديات، والأولى والآخرة صفة لها. فالآخرة بمعنى المتأخرة. قالوا: ولا يقال جمادى الأخرى، لأن الأخرى بمعنى الواحدة فتتناول المتقدمة والمتأخرة، فيحصل اللبس. فقيل الآخرة لتختص بالمتأخرة. وإنما سميت بذلك لجمود الماء فيها، عند تسمية الشهور، من البرد. قال:
في ليلة من جمادى ذات أندية... لا يبصر الكلب من ظلمائها الطّنبا
لا ينبح الكلب فيها غير واحدة... حتى يلفّ على خرطومه الذّنبا
(١) أخرجه في المسند ٤/ ٢٤٧، ونصه: هشام عن محمد قال: دخلت مسجد الجامع.... إلخ.
410
٧- رجب: سمي به لتعظيمهم إياه في الجاهلية عن القتال فيه يقال: رجب فلانا، هابه وعظمه. كرجّبه. منصرف وله جموع: أرجاب وأرجبة وأرجب ورجاب ورجوب وأراجب وأراجيب ورجبانات. وإذا ضموا له شعبان قالوا (رجبان) للتغليب.
وفي الحديث «١» : رجب مضر الذي بين جمادى وشعبان. وقوله (بين جمادى وشعبان) تأكيد للشأن وإيضاح، لأنهم كانوا يؤخرونه من شهر إلى شهر، فيتحول عن موضعه الذي يختصّ به، فبيّن لهم أنه الشهر الذي بين جمادى وشعبان، لا ما كانوا يسمونه على حساب النسيء، وإنما قيل: رجب مضر وإضافة إليهم، لأنهم كانوا أشد تعظيما له من غيرهم، وكأنهم اختصوا به، وذكر له بعضهم سبعة عشر اسما.
٨- شعبان: جمعه شعبانات وشعابين. من (تشعب) إذا تفرق كانوا يتشعبون فيه في طلب المياه. وقيل في الغارات. وقال ثعلب: قال بعضهم: إنما سمي شعبان لأنه شعب أي ظهر بين شهر رمضان ورجب.
٩- رمضان: سمي به لأن وضعه وافق الرّمض (بفتحتين)، وهو شدة الحر، وجمعه رمضانات وأرمضاء. وعن يونس أنه سمع رماضين، مثل شعابين. وقيل: هو مشتق من (رمض الصائم يرمض) إذا اشتد حرّ جوفه من شدة العطش، وهو قول الفراء. قال بعض العلماء: يكره أن يقال جاء رمضان وشبهه، إذا أريد به الشهر، وليس معه قرينة تدلّ عليه. وإنما يقال: جاء شهر رمضان، واستدل
بحديث (لا تقولوا رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى، ولكن قولوا شهر رمضان)
وهذا الحديث ضعّفه البيهقي، وضعفه ظاهر، لأنه لم ينقل عن أحد من العلماء أن رمضان من أسماء الله تعالى، فلا يعمل به. والظاهر جوازه من غير كراهة، كما ذهب إليه البخاري وجماعة من المحققين، لأنه لم يصح في الكراهة شيء. وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة ما يدل على الجواز مطلقا، كقوله «٢» : إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلّقت أبواب النار وصفّدت الشياطين.
(١) أخرجه البخاري في: التفسير، ٩- سورة التوبة، ٨- باب قوله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، الحديث رقم ٥٩ عن أبي بكرة.
(٢) أخرجه البخاري في: الصوم، ٥- باب هل يقال: رمضان وشهر رمضان، حديث ٩٦٤.
ومسلم في: الصيام، حديث رقم ١ عن أبي هريرة.
وفي البخاري: وسلسلت الشياطين، وفي مسلم: صفّدت.
411
وحقق السهيلي أن لحذف (شهر) مقاما يباين مقام ذكره، يراعيه البليغ.
وحاصله أن في حذفه إشعارا بالعموم، وفي ذكره خلاف ذلك، لأنك إذا قلت شهر كذا، كان ظرفا وزال العموم من اللفظ، إذ المعنى في الشهر، ولذلك
قال صلّى الله عليه وسلّم «١»
(من صام رمضان)
ولم يقل (شهر رمضان) ليكون العمل فيه كله. انتهى. فليتأمل ١٠- شوال: شهر عيد الفطر، وأول أشهر الحج، وجمعه شوالات وشواويل، وقد تدخله الألف واللام. قال ابن فارس: وزعم ناس أن الشوال سمي بذلك لأنه وافق وقتا تشول فيه الإبل، أي ترفع ذنبها للقاح، وهو قول الفراء. وقال غيره: سمي بتشويل ألبان الإبل، وهو تولّيه وإدباره، وكذلك حال الإبل في اشتداد الحر، وانقطاع الرطب وكانت العرب تتطيّر من عقد المناكح فيه وتقول: إن المنكوحة تمتنع من ناكحها، حتى تمتنع طروقة الجمل إذا لقحت وشالت بذنبها. فأبطل النبي صلّى الله عليه وسلّم طيرتهم.
وقالت عائشة رضي الله عنها «٢» : تزوجني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في شوال، وبنى بي في شوال، وأيّ نسائه كان أحظى عنده مني؟
١١- ذو القعدة: بفتح القاف، والكسر لغة، سمي به لأن العرب كانوا يقعدون فيه عن الأسفار والغزو والميرة وطلب الكلأ، ويحجون في ذي الحجة: والجمع ذوات القعدة، وذوات القعدات، والتثنية ذواتا القعدة وذواتا القعدتين، فثنوا الاسمين وجمعوهما، وهو عزيز، لأن الكلمتين بمنزلة كلمة واحدة، ولا تتوالى على كلمة علامتا تثنية ولا جمع.
١٢- ذو الحجة: الشهر الذي يقع فيه الحج سمي بذلك للحج فيه، والجمع ذوات الحجة، ولم يقولوا (ذوو) على واحده، والفتح فيه أشهر من الكسر، و (الحجة) بالكسر المرأة الواحدة من الحج، وهو شاذّ لأن القياس في المرة الفتح- انتهى-.
وقد أوردنا هذا ملخصا عن (المصباح) و (القاموس) و (شرحه).
المسألة الثانية- قدمنا أن الأشهر الحرم الأربعة، ثلاثة سرد أي متتابعة، وواحد فرد وكانت العرب لا تستحل فيها القتال، إلّا حيّان: خثعم وطيّئ، فإنهما كانا
(١) أخرجه البخاري في: الصوم، ٦- باب من صام رمضان إيمانا واحتسابا ونية، حديث رقم ٣٣ عن أبي هريرة.
(٢) أخرجه مسلم في: النكاح، حديث رقم ٧٣.
412
يستحلان الشهور. وكان الذين ينسئون الشهور أيام الموسم يقولون: حرمنا عليكم القتال في هذه الشهور إلا دماء المحلين، فكانت العرب تستحل دماءهم خاصة في هذه الشهور. وكان لقوم من غطفان وقيس، يقال لهم الهباآت، ثمانية أشهر حرم، يقال لها (البسل) يحرمونها تشددا وتعمقا.
الثالثة: قال ابن كثير: إنما كانت الأشهر المحرمة أربعة: ثلاثة سرد، وواحد فرد، لأجل أداء المناسك- الحج والعمرة- فحرم، قبل أشهر الحج، شهر وهو ذو القعدة لأنهم يقعدون فيه عن القتال. وحرم شهر ذي الحجة لأنهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون بأداء المناسك. وحرم بعده شهر آخر وهو المحرم ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين. وحرم رجب في وسط الحول، لأجل زيارة البيت والاعتمار به، لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب، فيزوره ثم يعود إلى وطنه فيه آمنا.
الرابعة- قال النووي في (شرح مسلم) : وقد اختلفوا في كيفية عدتها على قولين حكاهما الإمام أبو جعفر النحاس في كتابه (صناعة الكاتب) قال: ذهب الكوفيون إلى أنه يقال: المحرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة قال: والكتاب يميلون إلى هذا القول ليأتوا بهن من سنة واحدة قال: وأهل المدينة يقولون: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب. وقوم ينكرون هذا ويقولون: جاءوا بهن من سنتين. قال أبو جعفر: وهذا غلط بيّن، وجهل باللغة، لأنه قد علم المراد، وأن المقصود ذكرها، وأنها في كل سنة، فكيف يتوهم أنها من سنتين؟ قال: والأولى والاختيار ما قاله أهل المدينة، لأن الأخبار قد تظاهرت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما قالوا، من رواية ابن عمر وأبي هريرة وأبي بكرة رضي الله عنهم، قال: وهذا أيضا قول أكثر أهل التأويل.
الخامسة- استنبط بعضهم من قوله تعالى: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ أن الإثم في هذه الأشهر المحرمة آكد وأبلغ في الإثم في غيرها، كما أن المعاصي في البلد الحرام تضاعف، لقوله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ [الحج: ٢٥] وكذلك الشهر الحرام تغلظ فيه الآثام، ولهذا تغلظ فيه الدية في مذهب الشافعي وطائفة كثيرة من العلماء، وكذا في حق من قتل في الحرم أو قتل ذا محرم. وقال ابن عباس فيما رواه عنه عليّ بن أبي طلحة: أنه تعالى اختص من الأشهر أربعة أشهر جعلهن حراما، وعظم حرماتهن، وجعل الذنب فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم.
وقال قتادة: إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرا من الظلم فيما
413
سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيما، ولكن الله يعظّم من أمره ما يشاء.
وقال: إن الله اصطفى صفايا من خلقه، اصطفى من الملائكة رسلا، ومن الناس رسلا، واصطفى من الكلام ذكره، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلة القدر. فعظّموا ما عظّم الله، فإنما تعظيم الأمور بما عظم الله به عند أهل الفهم، وأهل العقل- نقله ابن كثير- ثم ذكر أن ابن جرير اختار في قوله تعالى فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ما قاله ابن إسحاق فيما تقدم.
أقول: وهو الظاهر المتبادر.
السادسة- قال المهايمي: إنما كان منها أربعة حرم ليكون ثلث السنة تغليبا للتحليل الذي هو مقتضى سعة الرحمة، على التحريم الذي هو مقتضى الغضب فجعل أول السنة وآخرها وهو المحرم وذو الحجة. ولما لم يكن له وسط صحيح، أخذ أول النصف الآخر وهو رجب، فبقي من الثلث شهر، فأخذ قبل الآخر وهو ذو القعدة، ليكون مع آخر السنة المتصلة بأولها وترا، وبقي وترية رجب فتتم السنة على التحريم باعتبار أولها وآخرها، وأوسطها، مع تذكر وترية الحق المؤكد للتحريم.
انتهى.
السابعة- استدل جماعة بقوله تعالى فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التوبة: ٣٦] على أن تحريم القتال في الأشهر الحرم ثابت محكم لم ينسخ. وكذا بقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ [المائدة: ٢] وبقوله تعالى فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ..
[التوبة: ٥] الآية- وذهب آخرون إلى أن تحريم القتال فيها، منسوخ بآية السيف، يعني قوله تعالى: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [التوبة: ٣٦] قالوا: ظاهر السياق مشعر بأنه أمر بذلك أمرا عامّا ولو كان محرما في الشهر الحرام، لأوشك أن يقيده بانسلاخها، وبأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حاصر أهل الطائف في شهر حرام، وهو ذو القعدة، كما ثبت في الصحيحين «١» أنه خرج إلى هوازن في شوال، فلما كسرهم واستفاء
(١) أخرجه البخاري في: المغازي، ٥٦- باب غزوة الطائف في شوال سنة ثمان، حديث رقم ١٩٢٨ عن عبد الله بن عمر.
وأخرجه مسلم في: الجهاد والسير، حديث ٨٢. [.....]
414
أموالهم ورجع فلّهم، لجئوا إلى الطائف، فعمد إلى الطائف فحاصرهم أربعين يوما، وانصرف ولم يفتتحها، فثبت أنه حاصر في الشهر الحرام. وأجاب الأولون بأن الأمر بقتل المشركين ومقاتلتهم مقيد بانسلاخ الأشهر الحرم، كما في قوله تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ... [التوبة: ٥] الآية- فتكون سائر الآيات المتضمنة للأمر بالقتال مقيدة بما ورد في تحريم القتال في الأشهر الحرم، كما هي مقيدة بتحريم القتال في الحرم، للأدلة الواردة في تحريم القتال فيه. فقوله تعالى: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً... الآية- من باب التهييج والتحضيض، أي كما يجتمعون لحربكم إذا حاربوكم، فاجتمعوا كذلك لهم. أو هو إذن للمؤمنين بقتال المشركين في الشهر الحرام، إذا كانت البداءة منهم، كما قال تعالى: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ [البقرة: ١٩٤] وقال تعالى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ... [البقرة: ١٩١] الآية- وهكذا الجواب عن حصار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أهل الطائف، واستصحابه الحصار إلى أن دخل الشهر الحرام، فإنه من تتمة قتال هوازن وأحلافها من ثقيف، فإنهم هم الذين ابتدءوا القتال، وجمعوا الرجال، ودعوا إلى الحرب والنزال، فعندها قصدهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما تقدم. فلما تحصّنوا بالطائف، ذهب إليهم لينزلهم من حصونهم، فنالوا من المسلمين، وقتلوا جماعة واستمر الحصار بالمجانيق وغيرها قريبا من أربعين يوما، وكان ابتداؤه في شهر حلال، ودخل الشهر الحرام، فاستمر فيه أياما، ثم قفل عنهم، لأنه يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء، وهذا أمر مقرر، وله نظائر كثيرة.
فالمحرم هو ابتداء القتال في الأشهر الحرام، لا إتمامه، وبهذا يحصل الجمع، ولذا قال ابن جريج: حلف بالله عطاء بن أبي رباح ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم، ولا في الأشهر الحرم، وما نسخت إلا أن يقاتلوا فيها.
الثامنة- قال في (الإكليل) في قوله تعالى إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ... الآية- إنّ الله وضع هذه الأشهر وسماها ورتبها على ما هي عليه، وأنزل ذلك على أنبيائه، فيستدل بها لمن قال: إن اللغات توقيفية.
التاسعة- في (الإكليل) أيضا: استدل بقوله تعالى وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً من قال إن الجهاد في عهده صلّى الله عليه وسلّم كان فرض عين.
العاشرة- قال ابن إسحاق: كان أول من نسأ الشهور على العرب، فأحل منها ما حرم الله، وحرم منها ما أحل الله عزّ وجلّ (القلمّس) وهو حذيفة بن عبد فقيم بن
415
عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. ثم قام بعده على ذلك ابنه عبّاد، ثم ابنه قلع، ثم أمية بن قلع ثم ابنه عوف بن أمية، ثم ابنه أبو ثمامة جنادة بن عوف، وكان آخرهم، وعليه قام الإسلام، فكانت العرب، إذا فرغت من حجها، اجتمعت إليه، فقام فيهم خطيبا فحرم رجبا، وذا القعدة، وذا الحجة ويحل (المحرم) عاما، ويجعل مكانه (صفر) ويحرمه عاما ليواطئ عدة ما حرم الله، فيحل ما حرم الله يعني ويحرم ما أحل الله. انتهى.
و (القلمّس) بقاف فلام مفتوحتين ثم ميم مشددة. قال في (القاموس وشرحه) : هو رجل كناني من نسأة الشهور على معدّ في الجاهلية، كان يقف عند جمرة العقبة ويقول: أحد الصفرين، وحرمت صفر المؤخر، وكذا في الرجبين، (يعني رجبا وشعبان) ثم يقول: انفروا على اسم الله تعالى. قال شاعرهم:
وفينا ناسئ الشهر القلمّس
وقال عمير بن قيس المعروف بجذل الطّعان:
لقد علمت معدّ أنّ قومي كرام الناس أنّ لهم كراما
ألسنا الناسئين على معدّ شهور الحلّ نجعلها حراما
فأي الناس فاتونا بوتر وأي الناس لم نعلك لجاما
وروي «١»
أن أول من سن النسيء عمرو بن لحيّ،
والذي صح من حديث أبي هريرة وعائشة أن عمرو بن لحيّ أول من سيّب السوائب،
وقال فيه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم (رأيت عمرو بن لحيّ يجر قصبه في النار).
ثم حرّض تعالى المؤمنين على قتال الكفرة، إثر بيان طرف من قبائحهم الموجبة لذلك، وأشار إلى توجه العتاب والملامة إلى المتخلفين عنه، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٣٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨)
(١) أخرجه البخاري في: المناقب، ٩- باب قصة خزاعة، حديث ١٦٥٦ و ١٦٥٧ عن أبي هريرة.
وأخرجه مسلم في: صفة الجنة وصفة نعيمها وأهلها، حديث رقم ٥٠.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أي تثاقلتهم وتباطأتم. والاستفهام في ما لَكُمْ فيه معنى الإنكار والتوبيخ.
وقوله إِلَى الْأَرْضِ متعلق ب اثَّاقَلْتُمْ على تضمينه معنى الميل والإخلاد، أي اثاقلتم مائلين إلى الدنيا وشهواتها الفانية عما قليل، وكرهتم مشاقّ الغزو، المستتبعة للراحة الخالدة، كقوله تعالى: أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ [الأعراف: ١٧٦]. أو مائلين إلى الإقامة بأرضكم ودياركم. وكان ذلك في غزوة تبوك في سنة عشر بعد رجوعهم من الطائف، استنفروا لغزو الروم في وقت عسرة وقحط وقيظ، وقد أدركت ثمار المدينة وطابت ظلالها، مع بعد الشقة، وكثرة العدوّ، فشق عليهم.
وقوله تعالى: أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا أي الحقيرة الفانية مِنَ الْآخِرَةِ أي بدل الآخرة ونعيمها الدائم فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أظهر في مقام الإضمار لزيادة التقرير، أي فما التمتع بلذائذها فِي الْآخِرَةِ أي في جنب الآخرة أي إذا قيست إليها، و (في) هذه تسمى (في القياسية) لأن المقيس يوضع بجنب ما يقاس به إِلَّا قَلِيلٌ أي مستحقر لا يؤبه له.
روى الإمام أحمد «١» ومسلم»
عن المستورد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليم، فلينظر بم ترجع- وأشار بالسبابة-.
ثم توعد تعالى من لم ينفر إلى الغزو، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٣٩]
إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩)
إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ أي لنصرة نبيه، وإقامة دينه وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً لأنه الغني عن العالمين، أي وإنما تضرون أنفسكم. وقيل:
(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند ٤/ ٢٢٩.
(٢) أخرجه مسلم في: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، حديث رقم ٥٥.
الضمير للرسول صلّى الله عليه وسلّم، أي ولا تضروه، لأن الله وعده النصر، ووعده كائن لا محالة.
وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي من التعذيب والتبديل ونصرة دينه بغيرهم. وفي هذا التوعد، على من يتخلف عن الغزو، من الترهيب الرهيب ما لا يقدر قدره.
تنبيه:
قال بعضهم: ثمرة الآية لزوم إجابة الرسول صلّى الله عليه وسلّم إذا دعا إلى الجهاد، وكذا يأتي مثله في دعاء الأئمة، ويأتي مثل الجهاد، الدعاء إلى سائر الواجبات، وفي ذلك تأكيد من وجوه:
الأول- ما ذكره من التوبيخ.
الثاني- قوله تعالى اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ وأن الميل إلى المنافع والدعة واللذات لا يكون رخصة في ذلك.
الثالث- في قوله تعالى: أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا فهذا زجر.
الرابع- قوله تعالى: فَما مَتاعُ... الآية- وهذا تخسيس لرأيهم.
الخامس- ما عقب من الوعيد بقوله إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ.
السادس- ما بالغ فيه بقوله عَذاباً أَلِيماً.
السابع- قوله وَيَسْتَبْدِلْ... الآية.
الثامن- قوله وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ففيه تهديد.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٤٠]
إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠)
إِلَّا تَنْصُرُوهُ أي بالخروج معه إلى تبوك فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ
418
كَفَرُوا
يعني كفار مكة حين مكروا به، فصاروا سبب خروجه، فخرج ومعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه ثانِيَ اثْنَيْنِ حال من ضميره صلّى الله عليه وسلّم. أي أحد اثنين إِذْ هُما فِي الْغارِ بدل من إِذْ أَخْرَجَهُ بدل البعض، إذ المراد به زمان متسع. والغار نقب في أعلى ثور، وهو جبل في الجهة اليمنى من مكة على مسيرة ساعة، مكثا فيه ثلاثا، ليرجع الطلب الذين خرجوا في آثارهما، ثم يسيرا إلى المدينة إِذْ يَقُولُ بدل ثان، أي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لِصاحِبِهِ أي أبي بكر لا تَحْزَنْ وذلك أن أبا بكر رضي الله عنه أشفق من المشركين أن يعلموا بمكانهما، فيخلص إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم أذى، وطفق يجزع لذلك، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا أي بالنصرة والحفظ.
روى الإمام أحمد «١» والشيخان «٢» عن أبي بكر رضي الله عنه قال: نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار، وهم على رؤوسنا، فقلت: يا رسول الله! لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه! فقال: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما
فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ أي أمنته التي تسكن عندها القلوب عَلَيْهِ أي على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها يعني الملائكة، أنزلهم ليحرسوه في الغار، أو ليعينوه على العدوّ يوم بدر والأحزاب وحنين، فتكون الجملة معطوفة على قوله نَصَرَهُ اللَّهُ وقوّى أبو السعود الوجه الثاني بأن الأول يأباه وصفهم بعدم رؤية المخاطبين لهم.
قلت: لا إباءة، لأن هذا وصف لازم لإمداد القوة الغيبية في كل حال، وفي الثاني تفكيك في الأسلوب لبعد المتعاطفين، فافهم. والله أعلم.
وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى أي المغلوبة المقهورة، و (الكلمة) الشرك، أو دعوة الكفر، فهو مجاز عن معتقدهم الذي من شأنهم التكلم به على أنها الشرك، أو هي بمعنى الكلام مطلقا على أنها دعوة الكفر وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا يعني التوحيد، أو دعوة الإسلام كما تقدم، أي التي لا تزال عالية إلى يوم القيامة وَكَلِمَةُ اللَّهِ بالرفع على الابتداء وهِيَ الْعُلْيا مبتدأ وخبر. أو تكون (هي) فصلا. وقرئ بالنصب أي: وجعل كلمة الله، والأول أوجه وأبلغ، لأن الجملة الاسمية
(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند ١/ ٤ والحديث رقم ١١.
(٢) أخرجه البخاري في: التفسير، ٩- سورة التوبة، ٩- باب ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ، حديث ١٧١٦.
وأخرجه مسلم في: فضائل الصحابة، حديث رقم ١.
419
تدل على الدوام والثبوت. وإن الجعل لم يتطرق لها لأنها في نفسها عالية لا يتبدل شأنها ولا يتغير حالها. وفي إضافة (الكلمة) إلى (الله) إعلاء لمكانها، وتنويه لشأنها وَاللَّهُ عَزِيزٌ أي غالب على ما أراد حَكِيمٌ في حكمه وتدبيره.
تنبيه:
قال بعض مفسري الزيدية: استدل على عظيم محل أبي بكر من هذه الآية من وجوه: منها: قوله تعالى: إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ، وقوله إِنَّ اللَّهَ مَعَنا، وقوله:
فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ قيل: على أبي بكر. عن أبي علي والأصم. قال أبو علي:
لأنه الخائف المحتاج إلى الأمن، وقيل: على الرسول، عن الزجاج وأبي مسلم. قال جار الله: وقد قالوا: من أنكر صحبة أبي بكر فقد كفر، لأنه رد كتاب الله تعالى.
انتهى.
وقال السيوطي في (الإكليل) : أخرج ابن أبي حاتم عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: أنا، والله! صاحبه. فمن هنا قالت المالكية: من أنكر صحبة أبي بكر كفر وقتل، بخلاف غيره من الصحابة، لنص القرآن على صحبته- انتهى-.
وعن ابن عمر «١» أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لأبي بكر: أنت صاحبي على الحوض، وصاحبي في الغار- أخرجه الترمذي
وقال: حديث حسن غريب-.
وقد ساق الفخر الرازي اثني عشر وجها من هذه الآية على فضل الصديق رضي الله تعالى عنه، فأطال وأطاب.
ولما توعد تعالى من لا ينفر مع الرسول لتبوك، وضرب له من الأمثال ما فيه أعظم مزدجر، أتبعه بهذا الأمر الجزم فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٤١]
انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١)
انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا حالان من ضمير المخاطبين، أي على أي حال كنتم خفافا في النفور لنشاطكم له، وثقالا عنه، لمشقته عليكم. أو خفافا لقلة عيالكم
(١) أخرجه الترمذي في: المناقب، ١٦- باب في مناقب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، كليهما، حدثنا يوسف بن القطان البغداديّ.
420
وأذيالكم، وثقالا لكثرتها. أو خفافا من السلاح وثقالا منه. أو ركبانا ومشاة. أو شبابا وشيوخا أو مهازيل وسمانا. واللفظ الكريم يعم ذلك كله. والمراد حال سهولة النّفر وحال صعوبته.
وقد روي عن ثلة من الصحابة أنهم ما كانوا يتخلفون عن غزاة قط، ويستشهدون بهذه الآية.
ولما كانت البعوث إلى الشام، قرأ أبو طلحة رضي الله عنه سورة براءة حتى أتى على هذه الآية، فقال، أرى ربنا استنفرنا شيوخا وشبابا، جهزوني يا بنيّ! فقال بنوه يرحمك الله، قد غزوت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى مات، ومع أبي بكر حتى مات، ومع عمر حتى مات، فنحن نغزو عنك فقال: ما سمع الله عذر أحد، ثم خرج إلى الشام فقاتل حتى قتل.
وكان أبو أيوب الأنصارى رضي الله عنه يقرأ هذه الآية، ويقول: فلا أجدني إلا خفيفا أو ثقيلا ولم يتخلف عن غزاة المسلمين إلا عاما واحدا.
وقال أبو راشد الحراني: وافيت المقداد بن الأسود، فارس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالسا على تابوت من توابيت الصيارفة بحمص، وقد فصل عنها يريد الغزو، فقلت له: قد أعذر الله إليك، فقال: أتت علينا سورة البعوث انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا.
وعن حيّان بن زيد قال: نفرنا مع صفوان بن عمرو وكان واليا على حمص- فرأيت شيخا كبيرا همّا، قد سقط حاجباه على عينيه، من أهل دمشق، على راحلته فيمن أغار، فأقبلت إليه فقلت: يا عم! لقد أعذر الله إليك، قال. فرفع حاجبيه فقال:
يا ابن أخي! استنفرنا الله خفافا وثقالا، ألا إنه من يحبه الله يبتليه، ثم يعيده الله فيبقيه. وإنما يبتلي الله من عباده من شكر وصبر وذكر، ولم يعبد إلا الله عزّ وجلّ- روى ذلك كله ابن جرير-.
فرحم الله تلك الأنفس الزكية، وحيّاها من بواسل، باعت أرواحها في مرضاة ربها، وإعلاء كلمته، وأكرمت نفسها عن الاغترار بزخارف هذه الحياة الدنية.
ثم رغّب تعالى في النفقة في سبيله، وبذل المهج في مرضاته، ومرضاة رسوله، فقال: وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ما في اسم الإشارة إلى النفير والجهاد من معنى البعد، للإيذان ببعد منزلته في الشرف، والمراد بكونه خيرا، وأنه خير في نفسه، أو خير من الدعة، والتمتع بالأموال.
421
تنبيه:
قال الحاكم: الجهاد بالمال ضروب: منها إنفاقه على نفسه في السير في الجهاد، ومنها صرف ذلك إلى الآلات التي يستعان بها على الجهاد، ومنها صرفه إلى من ينوب عنه أو يخرج معه.
وقال بعض مفسري الزيدية: ذكر المؤيد بالله أن من له فضل مال، وجب عليه أن يدفعه إلى الإمام، إن دعت إليه حاجة.
وذكر الراضي بالله وجوب دفع ما دعت الحاجة إليه من الأموال في الجهاد، قليلا كان أو كثيرا، ويتعين ذلك بتعيين الإمام. وأما من طريق الحسبة، فقال الراضي بالله: يجب ذلك إن حصل خلل لا يسده إلا المال، ويدخل في هذا إلزام الضّيفة، وتنزيل الدور، وقد قال الراضي بالله: للإمام أن يلزم الرعية على ما يراه من المصلحة.
وعن المؤيد بالله: إن للإمام إنزال جيشه دور الرعية إذا لم يتم له الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بالجند، واحتاجوا إلى ذلك. كما يجوز دخول الدار المغصوبة لإزالة المنكر. وكذا ذكر أبو مضر أنه ينزل في الزائد على حاجة أهل الدور. وأما من ينزل الدار من جيشه بظلم أو فساد، فإن عرف ذلك عورض بين مطلب الإمام في دفعه المنكر، وبين هذا المنكر الواقع من الجند، أيهما أغلظ.
انتهى.
ثم صرف تعالى الخطاب عن المتخلفين، ووجّه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، معدّدا لما صدر عنهم من الهنات قولا وفعلا، مبينا لدناءة همهم في هذا الخطب، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٤٢]
لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٤٢)
لَوْ كانَ أي ما تدعوهم إليه عَرَضاً قَرِيباً أي نفعا سهل المأخذ وَسَفَراً قاصِداً أي وسطا لَاتَّبَعُوكَ أي لا لأجلك، بل لموافقة أهوائهم وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ بضم الشين، وقرئ بكسرها، أي الناحية التي ندبوا إليها. وسميت
الناحية التي يقصدها المسافر بذلك، للمشقة التي تلحقه في الوصول إليها. وقرئ (بعدت) بكسر العين. قال الشهاب: بعد يبعد كعلم يعلم، لغة فيه، لكنه اختص ببعد الموت غالبا. و (لا تبعد) يستعمل في المصائب للتفجع والتحسر كقوله:
لا يبعد الله إخوانا لنا ذهبوا أفناهم حدثان الدهر والأبد
وَسَيَحْلِفُونَ أي هؤلاء المتخلفون عن غزوة تبوك بِاللَّهِ متعلق ب (سيحلفون)، أو هو من جملة كلامهم. والقول مراد في الوجهين. أي سيحلفون عند رجوعك من غزوة تبوك، معتذرين بالعجز، يقولون بالله لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ أي إلى تلك الغزوة.
ثم بيّن تعالى أن هذه الدعوى الكاذبة والحلف لا يفيدانهم، بقوله سبحانه يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ أي بهذا الحلف والمخالفة ودعوى العجز وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ لأنهم كانوا يستطيعون الخروج مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٤٣]
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (٤٣)
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ أي لهؤلاء المنافقين بالتخلف حين اعتلّوا بعللهم حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ هلا تركتهم لما استأذنوك فلم تأذن لأحد منهم في القعود، لتعلم الصادق منهم في إظهار طاعتك من الكاذب، فإنهم قد كانوا مصرّين على القعود عن الغزو. ولهذا أخبر تعالى أنه لا يستأذنه في القعود عن الغزو أحد يؤمن بالله ورسوله، بقوله سبحانه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٤٤]
لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤)
لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ أي لمنع إيمانهم به، من مخالفته، مع القدرة وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لمنع إيمانهم به من ترك تعويض الثواب والحياة الأبديين إذا أمروا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أي لأنهم يودون الجهاد بها قربة، فيبذلونها في
سبيله وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ أي فيعطيهم من الأجر ما يناسب تقواهم. ففيه شهادة لهم بالانتظام في زمرة الأتقياء، وعدة لهم بأجزل الثواب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٤٥]
إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥)
إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ أي في ترك الجهاد بهما الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إذ لا يرجون ثوابه ولا حياته، وهم المنافقون، ولذا قال: وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ أي فيما تدعوهم إليه، أي رسخ فيها الريب فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ أي ليست لهم قدم ثابتة في شيء، فهم قوم حيارى هلكى، لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء.
تنبيهات:
الأول- اعلم أن في تصديره تعالى فاتحة الخطاب ببشارة العفو، دون ما يوهم العتاب، من مراعاة جانبه عليه الصلاة والسلام، وتعهده بحسن المفاوضة، ولطف المراجعة- ما لا يخفى على أولي الألباب.
قال سفيان بن عيينة: انظروا إلى هذا اللطف: بدأ بالعفو قبل ذلك المعفوّ. قال مكّي. (عفا الله عنك)، افتتاح كلام مثل (أصلحك الله وأعزك). وقال الداودي:
إنها تكرمة.
أقول: ويؤيد ذلك قوله عليّ بن الجهم يخاطب المتوكل وقد أمر بنفيه:
عفا الله عنك ألا حرمة... تعوذ بعفوك أن أبعد
ألم تر عبدا عدا طوره... ومولى عفا، ورشيدا. هدى
أقلني، أقالك من لم يزل... يقيك، ويصرف عنك الردى
وما اشتهر من كون العفو لا يكون إلا عن ذنب- غير صحيح- فالواجب تفسيره في كل مقام بما يناسبه..
قال الشهاب: وهو يستعمل حيث لا ذنب، كما تقول لمن تعظمه: عفا الله عنك، ما صنعت في أمري؟
وفي الحديث: عجبت من يوسف وصبره وكرمه، والله يغفر له
. وقال السخاوندي: هو تعليم لتعظيمه صلّى الله عليه وسلّم، ولولا تصدير العفو في الخطاب لما قام بصولة العتاب.
424
وقال القاضي عياض في (الشفا) : وأما قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ فأمر لم يتقدم للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم فيه من الله نهي، فيعدّ معصية ولا عدّه الله عليه معصية، بل لم يعده أهل العلم معاتبة، وغلّطوا من ذهب إلى ذلك.
قال نفطويه: وقد حاشاه الله من ذلك، بل ما كان مخيرا في أمرين. قالوا: وقد كان له أن يفعل ما يشاء فيما لم ينزل عليه وحي، وكيف؟ وقد قال الله تعالى:
فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ فلما أذن لهم أعلمه الله بما لم يطلع عليه من سرهم، أنه لو لم يأذن لهم لقعدوا لنفاقهم، وأنه لا حرج عليه فيما فعل، وليس (عفا) هنا بمعنى غفر، بل كما
قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «١» : عفا الله لكم عن صدقة الخيل والرقيق. ولم تجب عليهم قط.
أي لم يلزمهم ذلك.
ونحوه للقشيري قال: إنما يقول (العفو لا يكون إلا عن ذنب) من لم يعرف كلام العرب. قال: ومعنى (عفا الله عنك) أي لم يلزمك ذنبا. انتهى.
وقد عدّ ما وقع في الكشاف هنا من قبيح سقطاته.
وللعلامة أبي السعود مناقشة معه في ذلك. أوردها لبلوغها الغاية في البلاغة قال رحمه الله: ولقد أخطأ وأساء الأدب، وبئسما فعل فيما قال وكتب، من زعم أن الكلام كناية عن الجناية، وأن معناه أخطأت، وبئسما فعلت، هب أنه كناية، أليس إيثارها على التصريح بالجناية للتلطيف في الخطاب، والتخفيف في العتاب، وهب أن العفو مستلزم لكونه من القبح واستتباع اللائمة، بحيث يصحح هذه المرتبة من المشافهة بالسوء، أو يسوغ إنشاء الاستقباح بكلمة (بئسما) المنبئة عن بلوغ القبح إلى رتبة يتعجب منها. ولا يخفى أنه لم يكن في خروجهم مصلحة للدين، أو منفعة للمسلمين، بل كان فيه فساد وخبال، حسبما نطق به قوله عزّ وجلّ لَوْ خَرَجُوا... إلخ، وقد كرهه سبحانه كما يفصح عنه قوله تعالى وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ... الآية- نعم. كان الأولى تأخير الإذن حتى يظهر كذبهم آثر ذي أثير، ويفتضحوا على رؤوس الأشهاد، ولا يتمكنوا من التمتع بالعيش على الأمن والدعة، ولا يتسنى لهم الابتهاج فيما بينهم، بأنهم غروه صلّى الله عليه وسلّم، وأرضوه بالأكاذيب. على أنه لم يهنأ لهم عيش، ولا قرّت لهم عين، إذ لم يكونوا على أمن واطمئنان، بل كانوا على خوف من ظهور أمرهم وقد كان. انتهى.
(١)
أخرجه ابن ماجة في: الزكاة، ٤- باب زكاة الورق والذهب، حديث رقم ١٧٩٠ عن عليّ ونصه: إني قد عفوت عنكم عن صدقة الخيل والرقيق...
إلخ.
425
قال الخفاجي: وحاول بعضهم توجيه كلام الكشاف بأن مراده أن الأصل فيه ذلك، فأبدله بالعفو تعظيما لشأنه، ولذا قدم العفو على ما يوجب الجناية، فلا خطأ فيه.
قال رحمه الله: ولو اتقى هو والموجّه موضع التهم- كان أولى وأحرى.
انتهى.
الثاني- استدل بالآية على أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يحكم أحيانا بالاجتهاد، كما بسطه الرازي.
قال السيوطي في (الإكليل) : واستدل بها من قال: إن اجتهاده قد يخطئ ولكن ينبّه عليه بسرعة.
الثالث- قال الرازي: دلت الآية على وجوب الاحتراز عن العجلة، ووجوب التثبت والتأني، وترك الاغترار بظواهر الأمور، والمبالغة في التفحص، حتى يكمنه أن يعامل كل فريق بما يستحقه من التقريب أو الإبعاد.
الرابع- قال أبو السعود: تغيير الأسلوب بأن عبر عن الفريق الأول بالموصول الذي صلته فعل دالّ على الحدوث، وعن الفريق الثاني باسم الفاعل المفيد للدوام- للإيذان بأن ما ظهر من الأولين صدق حادث في أمر خاص غير مصحح لنظمهم في سلك الصادقين. وأن ما صدر من الآخرين، وإن كان كذبا حادثا متعلقا بأمر خاص، لكنه أمر جار على عادتهم المستمرة، ناشئ عن رسوخهم في الكذب. ودقق رحمه الله في بيان لطائف أخر. فلتراجع.
الخامس- قيل: نفي الفعل المستقبل الدالّ على الاستمرار في قوله تعالى لا يَسْتَأْذِنُكَ يفيد نفي الاستمرار. وهذا معنى قول الزمخشريّ: ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوك.
قال النحرير: ولا يبعد حمله على استمرار النفي كما في أكثر المواضع، أي عادتهم عدم الاستئذان.
قال الناصر: وهذا الأدب يجب أن يقتفى مطلقا، فلا يليق بالمرء أن يستأذن أخاه في أن يسدي له معروفا، ولا بالمضيف أن يستأذن ضيفه في أن يقدم إليه طعاما. فإن الاستئذان في أمثال هذه المواطن أمارة التكلف والتكرّه، وصلوات الله على خليله وسلامه، لقد بلغ من كرمه وأدبه مع ضيوفه أنه كان لا يتعاطى شيئا من
426
أسباب التهيؤ للضيافة بمرأى منهم، فلذلك مدحه الله تعالى على لسان رسوله صلّى الله عليه وسلّم بهذه الخلة الجميلة، والآداب الجليلة، فقال تعالى: فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ [الذاريات: ٢٦] أي ذهب على خفاء منهم، كيلا يشعروا به. والمهتم بأمر ضيفه بمرأى منه، ربما يعدّ كالمستأذن له في الضيافة، فهذا من الآداب التي ينبغي أن يتمسك بها ذوو المروءة، وأولو القوة. وأشد من الاستئذان في الخروج للجهاد ونصرة الدين، والتثاقل عن المبادرة إليه، بعد الحض عليه والمناداة. وأسوأ أحوال المتثاقل، وقد دعي الناس إلى الغزاة، أن يكون متمسكا بشعبة من النفاق. نعوذ بالله من التعرض لسخطه.
ثم بيّن تعالى جلية شأن أولئك المنافقين المستأذنين، بأنهم لم يريدوا الخروج للجهاد حقيقة، ولذلك خذلهم، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٤٦]
وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (٤٦)
وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً بضم العين وتشديد الدال، أي قوّة من مال وسلاح وزاد، ونحوها وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ أي نهوضهم للخروج فَثَبَّطَهُمْ أي فكسّلهم وضعّف رغبتهم وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ أي من النساء والصبيان.
تنبيهات:
الأول- دل قوله تعالى: لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً على أن عدة الحرب من الكراع والسلاح وجميع ما يستعان به على العدوّ، من جملة الجهاد. فما صرف في المجاهدين، صرف في ذلك. وهذا جلّي فيما يتقى به من العدة كالسلاح. فأما ما يحصل به الإرهاب من الرايات والطبول ونحو ذلك، مما يضعف به قلب العدوّ، فهو داخل في الجهاد. وقد قال تعالى في سورة الأنفال: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال: ٦٠]. ويكون ذلك كلباس الحرير حالة الحرب، وهذا جليّ حيث لا يؤدّي إلى السرف.
الثاني- إن الفعل يحسن بالنية، ويقبح بالنية، وإن استويا في الصورة. لأن النفير واجب مع نية النصر، وقبيح مع إرادة تحصيل القبيح. وذلك لأنه تعالى أخبر أنه كره انبعاثهم لما يحصل منه من إرادة المكر بالمسلمين.
الثالث- للإمام منع من يتهم بمضرة المسلمين، أن يخرج للجهاد. فله نفي الجاسوس والمرجف والمخذّل. ذكر ذلك كله بعض مفسري الزيدية.
الرابع- ذكروا أن قوله تعالى: وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ تمثيل لإلقاء الله تعالى كراهة الخروج في قلوبهم. يعني نزّل خلق داعية القعود فيهم، منزلة الأمر، والقول الطالب، كقوله تعالى: فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ [البقرة: ٢٤٣] أي أماتهم. أو هو تمثيل لوسوسة الشيطان بالأمر بالقعود. أو هو حكاية قول بعضهم لبعض. أو هو إذن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لهم بالقعود.
قال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى قوله مَعَ الْقاعِدِينَ؟ قلت: هو ذم لهم وتعجيز، وإلحاق بالنساء والصبيان والزّمنى الذين شأنهم القعود والجثوم في البيوت، وهم القاعدون والخالفون والخوالف. ويبينه قوله تعالى: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ.
قال الناصر: وهذا من تنبيهاته الحسنة. ونزيده بسطا فنقول: لو قيل اقْعُدُوا مقتصرا عليه، لم يفد سوى أمرهم بالقعود. وكذلك (كونوا مع القاعدين). ولا تحصل هذه الفائدة من إلحاقهم بهؤلاء الأصناف الموصوفين عند الناس بالتخلف والتقاعد، الموسومين بهذه السمة، إلا من عبارة الآية. ولعن الله فرعون، لقد بالغ في توعيد موسى عليه السلام بقوله لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [الشعراء: ٢٩].
ولم يقل: لأجعلنك مسجونا. لمثل هذه النكتة من البلاغة.
ثم بين تعالى سرّ كراهته لخروجهم بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٤٧]
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧)
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا أي فسادا وشرّا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ أي ولأسرعوا السير والمشي بينكم بالفساد.
قال الشهاب: الإيضاع: إسراع سير الإبل. يقال: وضعت الناقة تضع إذا أسرعت، وأوضعتها أنا. والمراد: الإسراع بالنمائم، لأن الراكب أسرع من الماشي. فقيل:
المفعول مقدّر، وهو النمائم. فشبه النمائم بالركائب في جريانها وانتقالها، وأثبت لها الإيضاع. ففيه تخييلية ومكنية. وقيل: إنه استعارة تبعية. شبه سرعة إفسادهم
لذات البيّن بالنميمة. بسرعة سير الركائب، ثم استعير لها الإيضاع، وهو للإبل.
و (خلال) جمع خلل، وهو الفرجة، استعمل ظرفا بمعنى (بين).
واعلم أن قوله وَلَأَوْضَعُوا مرسوم في الإمام بألفين، لأن الفتحة كانت تكتب ألفا قبل الخط العربي. والخط العربي اخترع قريبا من نزول القرآن، وقد بقي من تلك الألف أثر في الطباع، فكتبوا صورة الهمزة ألفا وفتحها ألفا أخرى ونحوه أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ [النمل: ٢١].
يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ أي يطلبون لكم ما تفتنون، بإيقاع الخلاف فيما بينكم، وإلقاء الرعب في قلوبكم، وإفساد نيّاتكم وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ أي منقادون لقولهم مستحسنون لحديثهم، وإن كانوا لا يعلمون حالهم، لضعف عقولهم، فيتوهمون منهم النصح والإعانة، وهم يريدون التخذيل والفتنة، فيؤدي إلى وقوع شرّ بين المؤمنين، وفساد كبير.
وقال مجاهد وزيد بن أسلم وابن جرير. أي فيكم عيون يسمعون لهم الأخبار وينقلونها إليهم.
قال ابن كثير: وهذا لا يبقى له اختصاص بخروجهم معهم، بل هذا عامّ في جميع الأحوال. والمعنى الأول أظهر في المناسبة بالسياق، وإليه ذهب قتادة وغيره من المفسرين.
قال محمد بن إسحاق: كان استأذن، فيما بلغني، من ذوي الشرف منهم، عبد الله بن أبيّ ابن سلول والجدّ بن قيس، وكانوا أشرافا في قومهم، فثبطهم الله، لعلمه بهم أن يخرجوا فيفسدوا عليه جنده. وكان في جنده قوم أهل محبة لهم وطاعة فيها يدعونهم إليه. لشرفهم فيهم، فقال: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ انتهى. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ولا يخفى عليه شيء من أمرهم. وفيه شمول للفريقين: القاعدين والسماعين.
ثم برهن تعالى على ابتغائهم الفتنة في كل مرة بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٤٨]
لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (٤٨)
لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ أي طلبوا الشر بتشتيت شملك، وتفريق صحبك عنك، من قبل غزوة تبوك، كما فعل عبد الله بن أبي ابن سلول حين انصرف بأصحابه يوم أحد عن المسلمين وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ أي دبروا لك الحيل والمكايد ودوّروا الآراء في إبطال أمرك.
قال الشهاب: المراد من (الأمور) المكايد، فتقليبها مجاز عن تدبيرها. أو (الآراء). فتقليبها تفتيشها وإحالتها.
حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وهو تأييدك ونصرك وظفرك وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ أي علا دينه وَهُمْ كارِهُونَ أي على رغم منهم.
قال ابن كثير: لما قدم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم المدينة رمته العرب عن قوس واحدة، وحاربته بهود المدينة ومنافقوها. فلما نصره الله يوم بدر، وأعلى كلمته. قال ابن أبيّ وأصحابه: هذا أمر قد توجّه (أي: أقبل) فدخلوا في الإسلام ظاهرا. ثم كلما أعز الله الإسلام وأهله، أغاظهم ذلك وساءهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٤٩]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٤٩)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي أي في القعود وَلا تَفْتِنِّي أي لا توقعني في الفتنة.
روي عن مجاهد وابن عباس أنها نزلت في الجدّ بن قيس، أخي بني سلمة، وذلك فيما
رواه محمد بن إسحاق أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال له ذات يوم وهو في جهازه: هل لك يا جدّ في جلاد بني الأصفر؟ فقال: يا رسول الله! أو تأذن لي ولا تفتنّي؟ فو الله! لقد عرف قومي ما رجل أشد عجبا بالنساء مني، وإني أخشى، إن رأيت نساء بني الأصفر، ألّا أصبر عنهن. فأعرض عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: قد أذنت لك!
قال الشهاب: يعني أنه يخشى العشق لهن. أو مواقعتهن من غير حلّ. وبنات الأصفر: للروم، كبني الأصفر. وقيل في وجه التسمية وجوه: منها أنهم ملكهم بعض الحبشة، فتولد بينهم نساء وأولاد ذهبية الألوان. انتهى.
قال ابن كثير: كان الجدّ بن قيس هذا من أشراف بني سلمة.
وفي الصحيح «١» أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لهم: من سيدكم يا بني سلمة؟ قالوا:
الجدّ بن قيس؟ على أنا نبخّله. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وأي داء أدوأ من البخل؟ ولكن سيّدكم الفتى الجعد الأبيض، بشر بن البراء بن معرور.
وقوله تعالى: أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا قال أبو السعود: أي في عينها ونفسها، وأكمل أفرادها، الغني عن الوصف بالكمال، الحقيق باختصاص اسم الجنس به، سقطوا. لا في شيء مغاير لها، فضلا عن أن يكون مهربا ومخلصا عنها. وذلك بما فعلوا من العزيمة على التخلف، والجرأة على الاستئذان بهذه الطريقة الشنيعة، ومن القعود بالإذن المبني عليه، وعلى الاعتذارات الكاذبة، وقرئ بإفراد الفعل، محافظة على لفظ (من). وفي تصدير الجملة بحرف التنبيه، مع تقديم الظرف، إيذان بأنهم وقعوا فيها، وهم يحسبون أنها منجى من الفتنة، زعما منهم أن الفتنة إنما هي التخلف بغير إذن. وفي التعبير عن (الافتتان) بالسقوط في الفتنة، تنزل لها منزلة المهواة المهلكة، المفصحة عن تردّيهم في درجات الردى أسفل سافلين. انتهى.
وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ أي ستحيط بهم يوم القيامة، فلا محيد لهم عنها ولا مهرب، وهذا وعيد لهم على ما فعلوا.
ثم بيّن تعالى عدواتهم، زيادة في تشهير مساوئهم، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٥٠]
إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (٥٠)
إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ أي من فتح وظفر وغنيمة تَسُؤْهُمْ أي تورثهم مساءة لفرط عداوتهم وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ أي من نوع شدة يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا أي بالحزم في القعود مِنْ قَبْلُ أي من قبل إصابة المصيبة، فيتبجحوا بما صنعوا حامدين لآرائهم وَيَتَوَلَّوْا أي عن مجتمعهم الذي أظهروا فيه الفرح برأيهم وَهُمْ فَرِحُونَ أي برأيهم وبما أصابكم وبما سلموا.
(١) ليس هذا الحديث في الصحيح ولا في السنن. ولكن رواه يعقوب بن سفيان في (تاريخه) وأبو الشيخ في (الأمثال) والوليد بن أبان في كتاب (الجود). انظر (الإصابة في تمييز الصحابة) للحافظ ابن حجر العسقلانيّ رقم ٦٥١، ترجمة بشر بن البراء بن معرور، على خلاف يسير في اللفظ.
ثم أرشد تعالى إلى جوابهم ببطلان ما بنوا عليه مسرتهم، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٥١]
قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (٥١)
قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا أي ما أثبته لمصلحتنا الدنيوية أو الأخروية، فلا وجه لهذا الفرح، لرضانا بقضائه في تلك المصيبة، فلم يسؤنا بالحقيقة كيف؟
ولم يكتبها علينا ليضرّنا بها، إذ هُوَ مَوْلانا أي يتولى أمورنا، فإنما كتبها علينا ليوفقنا للصبر عليها، والرضا بها، فيعطينا من الأجر ما هو خير منها وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أي لأنه لا ناصر ولا متولي لأمرهم غيره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٥٢]
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (٥٢)
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ أي تنتظرون بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ أي العاقبتين اللتين كل واحدة منهما هي حسنى العواقب، وهما النصر والشهادة وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أي إحدى السّوأتين من العواقب إما أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أي كما أصاب من قبلكم من الأمم أَوْ بعذاب بِأَيْدِينا وهو القتل على الكفر فَتَرَبَّصُوا أي بنا ما ذكر من عواقبنا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ أي منتظرون ما هو عاقبتكم فلا بدّ أن يلقى كلنا ما يتربصه، لا يتجاوزه، فلا تشاهدون إلا ما يسرنا، ولا نشاهد إلا ما يسوؤكم.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٥٣]
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (٥٣)
قُلْ أَنْفِقُوا يعني أموالكم في سبيل الله ووجوه البرّ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً مصدران وقعا موقع الفاعل، أي طائعين من قبل أنفسكم، أو كارهين مخافة القتل
لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ أي ذلك الإنفاق. ثم بيّن سبب ذلك بقوله: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ أي عاتين. متمردين.
لطائف:
قال الزمخشري: فإن قلت: كيف أمرهم بالإنفاق ثم قال لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ! قلت: هو أمر في معنى الخبر، كقوله تبارك وتعالى: قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا [مريم: ٧٥]. ومعناه: لن يتقبل منكم، أنفقتم طوعا أو كرها. ونحوه قوله تعالى: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ [التوبة: ٨٠].
وقوله:
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة
أي لن يغفر الله لهم، استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم. ولا نلومك، ، أسأت إلينا أم أحسنت.
فإن قلت: متى يجوز هذا؟ قلت: إذا دلّ الكلام عليه، كما جاز عكسه في قولك: رحم الله زيدا وغفر له. فإن قلت: لم فعل ذلك؟ قلت: لنكتة فيه، وهي أن كثيّرا كأنّه يقول لعزّة: امتحني لطف محلك عندي، وقوة محبتي لك، وعامليني بالإساءة والإحسان، وانظري: هل يتفاوت حالي معك، مسيئة كنت أو محسنة! وفي معناه قول القائل:
أخوك الذي إن قمت بالسيف عامدا لتضربه لم يستغشّك في الودّ
وكذلك المعنى: أنفقوا وانظروا، هل يتقبل منكم؟ واستغفر لهم أو لا تستغفر لهم، وانظر هل ترى اختلافا بين حال الاستغفار وتركه؟
فإن قلت: ما الغرض في نفي التقبّل، أهو ترك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تقبّله منهم، ورده عليهم ما يبذلون منه، أم هو كونه غير مقبول عند الله تعالى، ذاهبا هباء لا ثواب له؟
قلت: يحتمل الأمرين جميعا.
وقد روي أن الآية من تتمة جواب الجدّ بن قيس حيث قال للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: هذا مالي أعينك به، فاتركني ولا تفتني.
والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٥٤]
وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (٥٤)
وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى جمع كسلان، أي متثاقلين، إذ لا يرجون على فعلها ثوابا، ولا يرهبون من تركها عقابا وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ لأنهم يرون الإنفاق في سبيل الله مغرما، وتركه مغنما،
وفي الحديث «١» عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: إن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصا، وابتغي به وجهه- رواه النسائي عن أبي أمامة.
وقال تعالى: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة: ٢٧].
ولما بيّن تعالى قبائح أفعال المنافقين، وما لهم في الآخرة من العذاب المهين، وعدم قبول نفقاتهم، تأثره ببيان أن ما يظنونه من منافع الدنيا هو في الحقيقة سبب لعذابهم وبلائهم، فينجلي تمام الانجلاء أن النفاق مهواة الخسار، لجلبه آفات الدنيا والآخرة، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٥٥]
فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٥٥)
فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ أي لأن ذلك استدراج لهم، كما قال: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي بسبب ما يكابدون لجمعها وحفظها من المتاعب، وما يرون فيها من الشدائد والمصائب. وقوله لِيُعَذِّبَهُمْ قيل: اللام زائدة.
وقيل: المفعول محذوف، وهذه تعليلية، أي يريد إعطاءهم لتعذيبهم وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ أي فيموتوا كافرين، لاهين بالتمتع عن النظر في العاقبة، فيكون ذلك استدراجا لهم. وأصل (الزهوق) الخروج بصعوبة- أفاده القاضي-.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٥٦]
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦)
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ يعني المنافقين إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ في الدّين ليدفعوا، بدلالة اليمين، دلائل النفاق وَما هُمْ مِنْكُمْ في ذلك يعني أنهم كاذبون وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ أي يخافون القتل، وما يفعل بالمشركين، فيتظاهرون بالإسلام تقية، ويؤيدونه بالأيمان الفاجرة. ثم أشار إلى سبب الخوف، وهو اضطرارهم إلى مساكنهم مع ضعفهم، بقوله تعالى:
(١) رواه النسائي في: الجهاد، ٢٤- باب من غزا يلتمس الأجر والذكر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٥٧]
لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧)
لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أي حصنا يلتجئون إليه أَوْ مَغاراتٍ يعني غيرانا في الجبال يسكن كل واحد منهم غارا أَوْ مُدَّخَلًا يعني موضع دخول يدخلون فيه، وه والسرب في الأرض لَوَلَّوْا إِلَيْهِ أي لأقبلوا نحوه وَهُمْ يَجْمَحُونَ أي يسرعون إسراعا، لا يردهم شيء، كالفرس الجموح، أي النّفور الذي لا يرده لجام. أي لو وجدوا شيئا من هذه الأمكنة التي هي منفور عنها، مستنكرة، لأتوه لشدة خوفهم، وكراهتهم للمسلمين، وغمهم بعزّ الإسلام، ونصر أهله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٥٨]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ أي يعيبك فِي الصَّدَقاتِ أي في قسمتها. ثم بيّن فساد لمزهم، وأنه لا منشأ له سوى حرصهم على حطام الدنيا بقوله: فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها أي قدر ما يريدون رَضُوا فجعلوه عدلا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ فيجعلونه غير عدل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٥٩]
وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (٥٩)
وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ أي كفانا فضله، وما قسمه لنا سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ أي بعد هذا، حسبما نرجو ونؤمّل إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ أي في أن يغنمنا ويخوّلنا فضله. والجواب محذوف بناء على ظهوره.
أي لكان خيرا لهم.
روى الشيخان «١» عن أبي سعيد الخدري قال: بينما نحن عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
(١) أخرجه البخاري في: الأدب، ٩٥- باب ما جاء في قول الرجل: ويلك، حديث ١٥٨١.
وأخرجه مسلم في: الزكاة، حديث ١٤٨.
وهو يقسم فيئا، أتاه ذو الخويصرة- رجل من بني تميم- فقال: يا رسول الله! اعدل. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ويلك. من يعدل إذا لم أعدل؟ فقال عمر بن الخطاب:
ائذن لي فيه فأضرب عنقه! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرءون القرآن، لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدّين كما يمرق السهم من الرميّة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٦٠]
إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠)
إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ، فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لما ذكر تعالى لمزهم في الصدقات تأثره ببيان حقّيّة ما فعله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من القسمة، إذ لم يتجاوز فيها مصارفها المشروعة له، وهو عين العدل، وذلك أنه تعالى شرع قسمها لهؤلاء، ولم يكله إلى أحد غيره، ولم يأخذ صلّى الله عليه وسلّم منها لنفسه شيئا، ففيم اللمز لقاسمها، صلوات الله عليه؟
روى البخاري «١» عن معاوية قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم، والله يعطي.
وروى أبو داود «٢» عن زياد بن الحارث رضي الله عنه قال: أتيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فبايعته، فأتى رجل فقال: أعطني من الصدقة. فقال له: إن الله تعالى لم يرض بحكم نبيّ ولا غيره في الصدقات، حتى حكم فيها هو، فجزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك.
فالآية ردّ لمقالة أولئك اللمزة، وحسم لأطماعهم، ببيان أنهم بمعزل من الاستحقاق. وإعلام بمن إعطاؤهم عدل، ومنعهم ظلم.
(١) أخرجه البخاري في: العلم، ١٣- باب من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، حديث ٦٢.
(٢) أخرجه أبو داود في: الزكاة، ٢٤- باب من يعطى من الصدقة، وحدّ الغنى. الحديث رقم ١٦٣٠.
436
والفقراء. جمع فقير، فعيل، بمعنى فاعل، يقال فقر يفقر من باب تعب، إذا قل ماله.
والمساكين: جمع مسكين، من (سكن سكونا). ذهبت حركته، لسكونه إلى الناس، وهو بفتح الميم في لغة بني أسد، وبكسرها عند غيرهم. قال ابن السكّيت:
المسكين: الذي لا شيء له، والفقير: الذي له بلغة من العيش. وكذلك قال يونس، وجعل الفقير أحسن حالا من المسكين. قال: وسألت أعرابيا: أفقير أنت؟ فقال: لا، والله! بل مسكين وقال الأصمعيّ: المسكين أحسن حالا من الفقير، وهو الوجه لأن الله تعالى قال: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ [الكهف: ٧٩] وكانت تساوي جملة، وقال في حق الفقراء: لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ [البقرة: ٢٧٣] وقال ابن الأعرابي: المسكين هو الفقير، وهو الذي لا شيء له، فجعلهما سواء. كذا في (المصباح).
قال البدر القرافي: وإذا اجتمعا افترقا، كما إذا أوصي للفقراء والمساكين، فلا بد من الصرف للنوعين، وإن افترقا اجتمعا، كما إذا أوصي لأحد النوعين، جاز الصرف للآخر.
قال المهايمي: ثمّ ذكر تعالى من يحتاج إليهم المحتاجون إلى الصدقات فقال: وَالْعامِلِينَ عَلَيْها أي الساعين في تحصيلها: القابض والوازن والكيال والكاتب، ويعطون أجورهم منها. ثم ذكر من يحتاج إليهم الإمام فقال: وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ.
وهم قوم ضعفت نيتهم في الإسلام، فيحتاج الإمام إلى تأليف قلوبهم بالعطاء، تقوية لإسلامهم، لئلا يسري ضعفهم إلى غيرهم. أو أشراف يترقب بإعطائهم إسلام نظرائهم.
ثم ذكر تعالى من يعان بها في دفع الرقّ بقوله: وَفِي الرِّقابِ.
أي وللإعانة في فك الرقاب، فيعطي المكاتبون منها ما يستعينون به على أداء نجوم الكتابة، وإن كانوا كاسبين، وهو قول الشافعي والليث. أو: وللصرف في عتق الرقاب، بأن يبتاع منها الرقاب فتعتق قال ابن عباس والحسن: لا بأس أن تعتق الرقبة من الزكاة، وهو مذهب مالك وأحمد وإسحاق. ولا يخفى أن (الرقاب) يعم الوجهين. وقد ورد في ثواب الإعتاق وفك الرقبة أحاديث كثيرة.
437
ثم ذكر تعالى من نفك ذمته في الديون بقوله: وَالْغارِمِينَ.
وهم الذين ركبتهم الديون لأنفسهم في غير معصية، ولم يجدوا وفاء. أو لإصلاح ذات البين ولو أغنياء.
ثم ذكر تعالى الإعانة على الجهاد بقوله: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ.
فيصرف على المتطوعة في الجهاد، ويشتري لهم الكراع والسلاح. قال الرازي:
لا يوجب قوله وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ القصر على الغزاة، ولذا نقل القفّال في (تفسيره) عن بعض الفقهاء جواز صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى، وبناء الحصون، وعمارة المساجد، لأن قوله وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ عامّ في الكل. انتهى.
ولذا ذهب الحسن وأحمد وإسحاق إلى أن الحج من سَبِيلِ اللَّهِ فيصرف للحجاج منه. قال في (الإقناع) و (شرحه) : والحج من (سبيل الله) نصا، روي عن ابن عباس وابن عمر. لما
روى أبو داود «١»
، أن رجلا جعل ناقة في سبيل الله. فأرادت امرأته الحج، فقال لها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: اركبيها، فإن الحج من (سبيل الله)
. فيأخذ، إن كان فقيرا، من الزكاة ما يؤدي به فرض حج أو عمرة، أو يستعين به فيه، وكذا في نافلتهما. لأن كلا من (سبيل الله) انتهى.
قال ابن الأثير: و (سبيل الله) عام، يقع على كل عمل خالص سلك به طريق التقرب إلى الله عزّ وجلّ، بأداء الفرائض والنوافل، وأنواع التطوعات، وإذا أطلق فهو في الغالب واقع على الجهاد، حتى صار لكثرة الاستعمال كأنه مقصور عليه. انتهى.
وقال في (التاج) : كل سبيل أريد به الله عزّ وجلّ، وهو برّ، داخل في (سبيل الله).
ثم ذكر تعالى الإعانة لأبناء الطريق بقوله:
وَابْنِ السَّبِيلِ فيعطي المجتاز في بلد ما يستعين به على بلوغه لبلده.
وقوله تعالى: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ ناصبه مقدّر، أي فرض الله ذلك فريضة، وقوله وَاللَّهُ عَلِيمٌ أي بأحوال الناس ومراتب استحقاقهم. وقول: حَكِيمٌ أي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة من الأمور الحسنة التي منها سوق الحقوق إلى مستحقيها.
(١) أخرجه أبو داود في: المناسك، ٧٩- باب العمرة، حديث رقم ١٩٨٩، عن أم معقل.
438
تنبيهات:
الأول- ظاهر الآية يقضي بالقسمة بين الثمانية الأصناف ويؤيد هذا وجهان:
الأول- ما يقتضيه اللفظ اللغوي، إن قلنا: الواو للجمع والتشريك.
والثاني- ما
رواه أبو داود في سننه من قوله صلّى الله عليه وسلّم: إن الله لم يرض بحكم نبيّ ولا غيره في الصدقات، حتى حكم فيها، فجزأها ثمانية أجزاء.. الحديث.
وقد ذهب، إلى هذا، الشافعي وعكرمة والزهري، إلا إن استغنى أحدها فتدفع إلى الآخرين، بلا خلاف.
وذهبت طوائف إلى جواز الصرف في صنف واحد منهم عمر وابن عباس وحذيفة وعطاء وابن جبير والحسن ومالك وأبو حنيفة، والهادي والقاسم وأسباطهما، وزيد. قال في (التهذيب) : وخرجوا عن الظاهر في دلالة الآية المذكورة والخبر، بوجوه:
الأول- أن الله تعالى قال في سورة البقرة وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة: ٢٧١] فدل على أن ذكر العدد هنا لبيان جنس من يستحقها.
الثاني- الخبر وهو
قوله صلّى الله عليه وسلّم «١» لمعاذ: أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وتردّ في فقرائهم.
الثالث- حديث سلمة بن صخر. فإنه عليه الصلاة والسلام جعل له صدقة بني زريق.
الرابع- أنه لم يظهر في ذلك خلاف من جهة الصحابة فجرى كالمجمع عليه.
الخامس- المعارضة للفظ بالمعنى. فإن المقصود سدّ الخلة. وقال صاحب (النهاية) : وهذا أقرب إلى المعنى، والأول أقرب إلى اللفظ، ويؤيد أنها مستحقة بالمعنى لا بالاسم، أنا لو قلنا تستحق بالاسم لزم أن من كان فقيرا غازيا غارما مسافرا، أن يستحق سهاما لهذه الأسباب جميعا- كذا في تفسير بعض الزيدية-.
وقال الناصر في (الانتصاف) : القول بوجوب صرفها إلى جميع الأصناف، حتى لا يجوز ترك صنف واحد منها أخذا من إشعار (اللام) بالتمليك، كما ذهب إليه
(١) أخرجه البخاري: في: الزكاة، ١- باب وجوب الزكاة، حديث ٧٤٠ عن ابن عباس. [.....]
439
الشافعي- لا يسعده السياق، فإن الآية مصدرة بكلمة الحصر الدالة على قصر جنس الصدقات على الأصناف المعدودة، وأنها مختصة بهم، وأن غيرهم لا يستحق فيها نصيبا. كأنه قيل: إنما هي لهم لا لغيرهم، فهذا هو الغرض الذي سيقت له الآية، فلا اقتضاء فيها لما سواه. انتهى.
الثاني- قال بعضهم: لفظ (الصّدقات) بعمومه يجمع الصدقة الواجبة والنافلة. ثم إن الصدقة الواجبة تتنوّع أنواعا، منها الزكوات لما هو العشر أو نصف العشر أو ربع العشر، وزكاة المواشي والفطرة والكفارات، نحو كفارة اليمين والظهار والصوم، وكذلك الهدي في الحج، ومنها ما يؤخذ من أموال الكفار ورؤوسهم، ولهذا سمى الله الغنائم صدقة في سبب نزول الآية، وذلك في قسمة غنائم (حنين)، فإذا كان اللفظ يعمّ ما ذكر، فهل تحمل الآية على عمومها في قسمتها على ما ذكر، أو يخصص البعض؟
ثم قال: والعلماء قسموا الصدقات، وجعلوا مصارفها مختلفة، والكفارة لم يذكر أنها تصرف في الثمانية المصارف. وقد ورد قوله تعالى: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ [المائدة: ٨٩]. فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً [المجادلة: ٤]، وفي الحديث: أطعم عن كل يوم مسكينا، وورد في الفطرة: أغنوهم هذا اليوم. وورد في الغنيمة: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ.. [الأنفال: ٤١] الآية. فهل هذه الأدلة مخصصة لعموم لفظ (الصدقات) ؟ فإن الزكوات مجمع عليها في أن مصرفها الثمانية الأصناف. أم كيف تنزل الآية على القواعد الأصولية؟. انتهى كلامه.
ولا يخفى كونها مخصصة لعموم لفظ الصدقات، لأن الخاصّ يقضي على العامّ على أن المراد قصرها على هذه الأصناف، فكل ما ذكر لم يخرج عنها، لشمولها له.
والله أعلم.
الثالث- (المؤلفة قلوبهم) حكمهم باق، لأنه صلّى الله عليه وسلّم أعطى المؤلفة من المسلمين والمشركين، فيعطون عند الحاجة. ويحمل ترك عمر وعثمان وعليّ إعطاءهم، على عدم الحاجة إلى إعطائهم في خلافتهم، لا لسقوط سهمهم، فإن الآية من آخر ما نزل. وأعطى أبو بكر عدي بن حاتم والزبرقان بن بدر. ومنع وجود الحاجة على ممرّ الزمان، واختلاف أحوال النفوس في القوة والضعف- لا يخفى فساده. كذا في (الإقناع) و (شرحه).
والمؤلفة كما في (الإقناع) هم رؤساء قومهم: من كافر يرجى إسلامه، أو كف
440
شره، ومسلم يرجى بعطيته قوة إيمانه، أو إسلام نظيره، أو نصحه في الجهاد، أو في الدفع عن المسلمين، أو كف شره كالخوارج ونحوهم، أو قوة على جباية الزكاة ممن لا يعطيها. انتهى.
الرابع- قال في (الإكليل) : استدل بعموم الآية من أجاز الدفع للفقير القادر على الاكتساب. وللذمي، ولمن تلزمه نفقته، ولسائر القرابة، وللزوج، ولآله صلّى الله عليه وسلّم، حيث حرموا حظهم من الخمس، ولمواليهم، ولمن جوّز نقلها.
وقال ابن الفرس: يؤخذ من قوله تعالى: وَالْعامِلِينَ جواز أخذ الأجرة لكل من اشتغل بشيء من أعمال للمسلمين. قال: وقد احتج به أبو عبيد على جواز أحد القضاة الرزق فقال: قد فرض الله للعاملين على الصدقة، وجعل لهم منها حقّا بقيامهم فيها وسيعهم، فكذلك القضاة يجوز لهم أخذ الأجرة على عملهم، وكذا كل من شغل بشيء من أعمال المسلمين.
الخامس- قال الزمخشري: فإن قلت: لم عدل عن اللام إلى (في) في الأربعة الأخيرة؟ قلت: للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره، لأن (في) للوعاء، فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات، ويجعلوا مظنة لها ومصبّا. وذلك لما في فك الرقاب من الكتابة أو الرق أو الأسر، وفي فك الغارمين من الغرم- من التخليص والإنقاذ.
ولجمع الغازي الفقير أو المنقطع في الحج بين الفقر والعبادة، وكذلك ابن السبيل جامع بين الفقر والغربة عن الأهل والمال. وتكرير (في) في قوله تعالى:
وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فيه فضل ترجيح لهذين، على الرقاب والغارمين.
انتهى.
قال الناصر: وثم سر آخر هو أظهر وأقرب، وذلك أن الأصناف الأربعة الأوائل ملّاك لما عساه يدفع إليهم، وإنما يأخذونه ملكا، فكان دخول اللام لائقا بهم وأما الأربعة الأواخر فلا يملكون ما يصرف نحوهم، بل ولا يصرف إليهم، ولكن في مصالح تتعلق بهم. فالمال الذي يصرف في الرقاب إنما يتناوله السادة المكاتبون والبائعون، فليس نصيبهم مصروفا إلى أيديهم حتى يعبّر عن ذلك ب (اللام) المشعرة بتملكهم لما يصرف نحوهم، وإنما هم محالّ لهذا الصرف، والمصلحة المتعلقة به.
وكذلك (الغارمون) إنما يصرف نصيبهم لأرباب ديونهم، تخليصا لذممهم، لا لهم، وأما سَبِيلِ اللَّهِ فواضح فيه ذلك. وأما ابْنِ السَّبِيلِ فكأنه كان مندرجا في
441
سبيل الله، وإنما أفرد بالذكر تنبيها على خصوصيته، مع أنه مجرد من الحرفين جميعا، وعطفه على المجرور (باللام) ممكن، ولكنه على القريب منه أقرب. والله أعلم. ثم قال: وكان جدي أبو العباس أحمد بن فارس الفقيه استنبط من تغاير الحرفين المذكورين وجها في الاستدلال لمالك، رحمه الله، على أن الغرض بيان المصرف و (اللام) لذلك لام الملك، فيقول: متعلق الجارّ الواقع خبرا عن الصدقات محذوف، فيتعين تقديره، فإما أن يكون التقدير: إنما الصدقات مصروفة للفقراء، كقول مالك، أو مملوكة للفقراء، كقول الشافعي، لكن الأول متعين لأنه تقدير يكتفي به في الحرفين جميعا، يصح تعلق (اللام) به و (في) معا، فيصح أن نقول:
هذا الشيء مصروف في كذا ولكذا، بخلاف تقديره مملوكة، فإنه إنما يلتئم مع اللام، وعند الانتهاء إلى (في) يحتاج إلى تقدير: مصروفة ليلتئم بها. فتقديره من (اللام) عامّ التعلق، شامل الصحة، متعين، والله الموفق. انتهى.
السادس- قال الزمخشري: فإن قلت: فكيف وقعت هذه الآية في تضاعيف ذكر المنافقين ومكايدهم؟ قلت: دلّ بكون هذه الأصناف مصارف الصدقات خاصة دون غيرهم على أنهم ليسوا منهم حسما لأطماعهم، وإشعارا باستيجابهم الحرمان، وأنهم بعداء عنها وعن مصارفها. فما لهم وما لها، وما سلطهم على التكلم فيها، ولمز قاسمها صلوات الله عليه وسلامه. انتهى.
وتقدم بيانه أيضا.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٦١]
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦١)
وَمِنْهُمُ أي من الذين يحلفون بالله إنهم لمنكم، من هو أشدّ من اللامز في الصدقات إذ هم الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ أي يسمع كل ما يقال له ويصدقه، ويعنون إنه ليس بعيد الغور، بل سريع الاغترار بكل ما يسمع.
قال أبو السعود: وإنما قالوه لأنه صلوات الله عليه كان لا يواجههم بسوء ما صنعوا، ويصفح عنهم حلما وكرما، فحملوه على سلامة القلب، وقالوا ما قالوا.
442
قال اللغويون: (الأذن) الرجل المستمع القابل لما يقال له. وصفوا به الواحد والجمع، فيقال: رجل أذن، ورجال أذن، وامرأة أذن، فلا يثنى ولا يجمع، وإنما سموه باسم العضو تهويلا وتشنيعا، فهو مجاز مرسل، أطلق فيه الجزء على الكل مبالغة بجعل جملته، لفرط استماعه، آلة السماع، كما سمي الجاسوس عينا لذلك، ونحوه:
إذا ما بدت ليلى فكلّي أعين وإن حدثوا عنها فكلّي مسامع
وجعله بعضهم من قبيل التشبيه: ب (الأذن) في أنه ليس فيه وراء الاستماع تمييز حق عن باطل.
قال الشهاب: وليس بشيء يعتد به. وقيل إنه على تقدير مضاف، أي ذو أذن.
قال الشهاب: وهو مذهب لرونقه. وقيل: هو صفة مشبهة من (أذن إليه وله) كفرح: استمع. قال عمرو بن الأهيم:
فلما أن تسايرنا قليلا أذن إلى الحديث فهنّ صور
ولقعنب بن أم صاحب:
إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا مني، وما سمعوا من صالح دفنوا
صمّ إذا سمعوا خيرا ذكرت به وإن ذكرت بشرّ عندهم أذنوا
وفي الحديث «١» ما أذن الله لشيء ما أذن لنبيّ يتغنى بالقرآن. قال أبو عبيد:
يعني ما استمع الله لشيء كاستماعه لمن يتلوه، يجهر به. وقوله عز وجل: وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ [الانشقاق: ٢ و ٥]، أي استمعت. كذا في (تاج العروس).
وعلى هذا ف (أذن) صفة بمعنى سميع ولا تجوّز فيه، ففيه أربعة أوجه.
وعطف قوله تعالى: وَيَقُولُونَ عطف تفسير: لأنه نفس الإيذاء.
وقوله تعالى: قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ من إضافة الموصوف إلى الصفة للمبالغة، كرجل صدق. تريد المبالغة في الجودة والصلاح، كأنه قيل: نعم هو أذن، ولكن نعم الأذن أو إضافته على معنى (في) أي هو أذن في الخير والحق، وفيما يجب سماعه
(١) أخرجه البخاري في: فضائل القرآن، ١٩- باب من لم يتغنّ بالقرآن، حديث رقم ٢٠٨٨، عن أبي هريرة.
443
وقبوله، وليس بأذن في غير ذلك. ودل عليه قراءة حمزة. (ورحمة) بالجر عطفا عليه. أي هو أذن خير لكم ورحمة لا يسمع غيرهما ولا يقبله. ثم فسر كونه أذن خير بقوله: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ قال القاشاني: هو بيان لينه صلّى الله عليه وسلّم وقابليته، لأن الإيمان لا يكون إلا مع سلامة القلب ولطافة النفس ولينها وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ أي يصدق قولهم في الخيرات، ويسمع كلامهم فيها ويقبله، وَرَحْمَةٌ أي وهو رحمة لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ أي يعطف عليهم، ويرقّ لهم، فينجيهم من العذاب بالتزكية والتعليم، ويصلح أمر معاشهم ومعادهم، بالبر والصلة، وتعليم الأخلاق من الحلم والشفقة والأمر بالمعروف، باتباعهم إياه فيها، ووضع الشرائع الموجبة لنظام أمرهم في الدارين، والتحريض على أبواب البر بالقول والفعل، إلى غير ذلك.
قاله القاشاني.
وقال غيره: أي هو رحمة للذين أظهروا الإيمان منكم، معشر المنافقين، حيث يقبله، لا تصديقا لكم، بل رفقا بكم، وترحما عليكم، ولا يكشف أسراركم، ولا يفضحكم، ولا يفعل بكم ما يفعل بالمشركين، مراعاة لما رأى تعالى من الحكمة في الإبقاء عليكم.
قال الشهاب: والمعنى: هو أذن خير يسمع آيات الله ودلائله فيصدقها ويستمع للمؤمنين، فيسلم لهم ما يقولون، ويصدقهم. وهو تعريض بأن المنافقين أذن شر، يسمعون آيات الله ولا يثقون بها، ويسمعون قول المؤمنين ولا يقبلونه، وأنه صلّى الله عليه وسلّم لا يسمع أقوالهم إلا شفقة عليهم، لا أنه يقبلها لعدم تمييزه، كما زعموا.
وقال القاشاني في (تفسيره) : كانوا يؤذونه، صلوات الله عليه، ويغتابونه بسلامة القلب وسرعة القبول والتصديق لما يسمع، فصدقهم في ذلك وسلّم وقال:
هو كذلك، ولكن بالنسبة إلى الخير، فإن النفس الأبية والغليظة الجافية، والكزة القاسية التي تتصلب في الأمور، ولا تتأثر، غير مستعدة للكمال. إذ الكمال الإنساني لا يكون إلا بالقبول والتأثر، فكلما كانت النفس ألين عريكة، وأسلم قلبا، وأسهل قبولا، كانت أقبل للكمال، وأشد استعدادا له. وليس هذا اللين هو من باب الضعف والبلاهة الذي يقتضي الانفعال من كل ما يسمع، حتى المحال، والتأثر من كل ما يرد عليه ويراه، حتى الكذب والشرور والضلال، بل هو من باب اللطافة، وسرعة القبول لما يناسبه من الخير والصدق، فلذلك قال: قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ إذ صفاء الاستعداد، ولطف النفس، يوجب قبول ما يناسبه من باب الخيرات، لا ما ينافيه من
444
باب الشرور، فإن الاستعداد الخيريّ لا يقبل الشر، ولا يتأثر به، ولا ينطبع فيه، لمنافاته إياه، وبعده عنه. انتهى.
لطائف:
الأولى- في قوله تعالى: قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ أبلغ أسلوب في الرد عليهم، فإنه صدقهم في كونه أذنا، إلا أنه فسره بما هو مدح له، وثناء عليه.
قال الناصر: لا شيء أبلغ من الردّ عليهم بهذا الوجه، لأنه، في الأول، إطماع لهم بالموافقة، ثم كرّ على طمعهم بالحسم، وأعقبهم في تنقصه باليأس منه.
ويضاهي هذا، من مستعملات الفقهاء، القول بالموجب، لأن في أوله إطماعا للخصم بالتسليم، ثم بتّا للطمع على قرب، ولا شيء أقطع من الإطماع ثم اليأس يتلوه ويعقبه. والله الموفق.
الثانية- (اللام) في قوله تعالى: لِلْمُؤْمِنِينَ مزيدة للتفرقة بين الإيمان المشهور، وهو الاعتراف، وبين الإيمان بمعنى التسليم والتصديق- قاله أبو السعود تبعا للقاضي- قال الشهاب: يعني أن الإيمان بالله بمعنى الاعتراف والتصديق، يتعدى بالباء، فلذا قال (بالله) والإيمان للمؤمنين بمعنى جعلهم في أمان من التكذيب بتصديقه لهم، لما علم من خلوصهم، متعد بنفسه، فاللام فيه مزيدة للتقوية.
الثالثة- قال أبو السعود: إسناد الإيمان إليهم بصيغة الفعل، بعد نسبته إلى المؤمنين بصيغة الفاعل المنبئة عن الرسوخ والاستمرار- للإيذان بأن إيمانهم أمر حادث ما له من قرار.
وقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ أي بما نقل عنهم من قولهم هُوَ أُذُنٌ ونحوه لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي بما يجترءون عليه من إيذائه.
قال أبو السعود: وهذا اعتراض مسوق من قبله عزّ وجلّ على نهج الوعيد، غير تحت الخطاب. وإيراده صلّى الله عليه وسلّم بعنوان الرسالة مضافا إلى الاسم الجليل، لغاية التعظيم، والتنبيه على أن أذيته راجعة إلى جنابه عزّ وجلّ، موجبة لكمال السخط والغضب.
انتهى.
وقوله تعالى:
445
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٦٢]
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢)
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ قال الزمخشري: الخطاب للمسلمين، وكان المنافقون يتكلمون بالمطاعن، أو يتخلفون عن الجهاد، ثم يأتونهم فيعتذرون إليهم، ويؤكدون معاذيرهم بالحلف ليعذروهم، ويرضوا عنهم، فقيل لهم: إن كنتم مؤمنين كما تزعمون، فأحق من أرضيتم الله ورسوله بالطاعة والوفاق. انتهى.
ولما كان الظاهر بعد العطف بالواو التثنية، وقد أفرد- وجّهوه:
بأن إرضاء الرسول إرضاء لله تعالى لقوله تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء: ٨٠]، فلتلازمهما جعلا كشيء واحد، فعاد عليهما الضمير المفرد، وأَحَقُّ، على هذا، خبر عنهما من غير تقدير.
أو بأن الضمير عائد إلى الله تعالى، وأَحَقُّ خبره، لسبقه. والكلام جملتان، حذف خبر الجملة الثانية، لدلالة الأولى عليه. أي: والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك.
وسيبويه جعله للثاني، لأنه أقرب، مع السلامة من الفصل بين المبتدأ والخبر كقوله:
نحن بما عندنا وأنت بما عن دك راض والرأي مختلف
أو بأن الضمير لهما بتأويل ما ذكر، أو كل منهما، وأنه لم يثن تأدبا لئلا يجمع بين الله وغيره في ضمير تثنية، وقد نهى عنه، على كلام فيه.
أو بأن الكلام في إيذاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم وإرضائه، فيكون ذكر الله تعظيما له وتمهيدا. فلذا لم يخبر عنه، وخص الخبر بالرسول. قال الشهاب: وفيه تأمل. انتهى.
وقد عهد لهم القول بمثله في آيات كثيرة، وجواب الشرط مقدر يدل عليه ما قبله، وقراءة التاء على الالتفات، للتوبيخ.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٦٣]
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (٦٣)
أَلَمْ يَعْلَمُوا أي أولئك المنافقون. قال أبو السعود: والاستفهام للتوبيخ على ما أقدموا عليه من العظيمة، مع علمهم بسوء عاقبتها. وقرئ بالتاء على الالتفات، لزيادة التقريع والتوبيخ أي ألم يعلموا بما سمعوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من فنون القوارع والإنذارات أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها أي من يخالف الله ورسوله. قال الليث: حاددته أي خالفته، والمحاددة كالمجانبة والمعاداة والمخالفة، واشتقاقه من (الحدّ)، بمعنى الجهة والجانب، كما أن المشاقة من (الشق) بمعناه أيضا، فإن كل واحد من المتخالفين والمتعاديين في حدّ وشقّ، غير ما عليه صاحبه.
فمعنى يُحادِدِ اللَّهَ يصير في حدّ غير حدّ أولياء الله، بالمخالفة.
وقال أبو مسلم: المحادة مأخوذة من الحديد، حديد السلاح.
وقوله تعالى: ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ أي الذل والهوان الدائم. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٦٤]
يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (٦٤)
يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ أي في شأنهم، فإن ما نزل في حقهم، نازل عليهم سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ أي من الأسرار الخفية، فضلا عما كانوا يظهرونه فيما بينهم من أقاويل الكفر والنفاق. ومعنى تنبئتها إياهم بما في قلوبهم، مع أنه معلوم لهم، وأن المحذور عندهم اطّلاع المؤمنين على أسرارهم، لا اطّلاع أنفسهم عليها- أنها تذيع ما كانوا يخفونه من أسرارهم، فتنتشر فيما بين الناس، فيسمعونها من أفواه الرجال مذاعة، فكأنها تخبرهم بها. والمراد بالتنبئة المبالغة في كون السورة مشتملة على أسرارهم، كأنها تعلم من أحوالهم الباطنة ما لا يعلمونه، فتنبئهم بها، وتنعي عليهم قبائحهم. وقيل: معنى (يحذر) ليحذر، وقيل: الضميران الأولان للمؤمنين، والثالث للمنافقين، ولا يبالي بالتفكيك عند ظهور الأمر بعود المعنى إليه. أي يحذر المنافقون أن تنزل على المؤمنين سورة تخبرهم بما في قلوب المنافقين. أفاده أبو السعود.
فإن قلت: المنافق كافر، فكيف يحذر نزول الوحي على الرسول؟ أجيب: بأن القوم، وإن كانوا كافرين بدين الرسول، إلا أنهم شاهدوا أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يخبرهم بما يكتمونه، فلهذه التجربة وقع الحذر والخوف في قلوبهم.
وقال الأصمّ: إنهم كانوا يعرفون كونه رسولا صادقا من عند الله، إلا أنهم كفروا به حسدا وعنادا. وتعقبه القاضي بأن يبعد، في العالم بالله وبرسوله وصحة دينه، أن يكون محادّا لهما. لكن قال الرازي: هو غير بعيد، لأن الحسد إذا قوي في القلب، صار بحيث ينازع في المحسوسات. انتهى.
وقال أبو مسلم: هذا حذر أظهره المنافقون على وجه الاستهزاء حين رأوا الرسول صلّى الله عليه وسلّم يذكر كل شيء، ويدعي أنه عن الوحي، وكان المنافقون يكذبون بذلك فيما بينهم، فأخبر الله رسوله بذلك، وأمره أن يعلمهم أنه يظهر سرهم الذي حذروا ظهوره. ولذلك قال تعالى: قُلِ اسْتَهْزِؤُا أي بالله وآياته ورسوله، أو افعلوا الاستهزاء، وهو أمر تهديد إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ أي مظهر بالوحي ما تحذرون خروجه من إنزال السورة، ومن مثالبكم ومخازيكم المستكنة في قلوبكم الفاضحة لكم، كقوله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ... إلى قوله: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ.... الآية [محمد: ٢٩]- ولهذا قال قتادة: كانت تسمى هذه السورة (الفاضحة) فاضحة المنافقين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٦٥]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (٦٥)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي عن إتيانهم بتلك القبائح المتضمنة للاستهزاء بما ذكر لَيَقُولُنَّ أي في الاعتذار إنه لم يكن عن القلب حتى يكون نفاقا وكفرا بل إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ أي ندخل هذا الكلام لترويح النفس وَنَلْعَبُ أي نمزح قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ أي في ترويحكم ومزاحكم، ولم تجدوا لهما كلاما آخر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٦٦]
لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٦٦)
لا تَعْتَذِرُوا أي لا تشتغلوا باعتذاراتكم الكاذبة، فالنهي عن الاشتغال به
448
وإدامته إذ أصله وقع قَدْ كَفَرْتُمْ أي أظهرتم الكفر بإيذاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم والطعن فيه وباستهزائكم بمقالكم بَعْدَ إِيمانِكُمْ أي بعد إظهاركم الإيمان.
تنبيه:
قال في (الإكليل) : قال الكيا: فيه دلالة على أن اللاعب والجادّ في إظهار كلمة الكفر سواء، وأن الاستهزاء بآيات الله كفر- انتهى-.
قال الرازي: لأن الاستهزاء يدل على الاستخفاف. والعمدة الكبرى في الإيمان تعظيم الله تعالى بأقصى الإمكان، والجمع بينهما محال.
وقال الإمام ابن حزم في (الملل) : كل ما فيه كفر بالبارئ تعالى، واستخفاف به، أو بنبيّ من أنبيائه، أو بملك من ملائكته، أو بآية من آياته عزّ وجلّ، فلا يحلّ سماعه، ولا النطق به، ولا يحلّ الجلوس حيث يلفظ به. ثم ساق الآية.
وقوله تعالى: إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ أي لتوبتهم وإخلاصهم. أو تجنبهم عن الإيذاء والاستهزاء نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ أي مصرّين على النفاق، أو مقدمين على الإيذاء والاستهزاء.
تنبيه:
روي في صفة استهزاء المنافقين روايات عدة:
قال ابن إسحاق: كان رهط من المنافقين منهم وديعة بن ثابت، أخو بني عمرو ابن عوف، ومنهم رجل من أشجع حليف لبني سلمة يقال له مخشّن بن حميّر، (ويقال مخشيّ) يشيرون إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو منطلق إلى تبوك، فقال بعضهم لبعض: أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا. والله! لكأنا بكم غدا مقرنين في الحبال، إرجافا وترهيبا للمؤمنين، فقال مخشن بن حمير. والله! لوددت أن أقاضى على أن يضرب كل منا مائة جلدة، وأنا ننقلب أن ينزل فينا قرآن، لمقالتكم هذه.
وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما بلغني- لعمار بن ياسر: أدرك القوم، فإنهم قد احترقوا، فسلهم عما قالوا، فإن أنكروا فقل: بلى! قلتم: كذا وكذا. فانطلق إليهم عمار، فقال ذلك لهم، فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعتذرون إليه، فقال وديعة بن ثابت- ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم واقف على ناقته-: يا رسول الله! إنما كنا نخوض ونلعب، فأنزل الله عزّ وجلّ فيهم وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ
وقال مخشن بن حمير: يا رسول الله! قعد بي اسمي واسم أبي. وكان الذي عفي عنه في هذه الآية
449
مخشن، فتسمى عبد الرحمن، وسأل الله تعالى أن يقتله شهيدا لا يعلم بمكانه، فقتل بيوم اليمامة، فلم يوجد له أثر. انتهى.
وقال عكرمة: ممن إن شاء الله تعالى عفا عنه يقول: اللهم إني أسمع آية أنا أعنى بها، تقشعر منها الجلود، وتوجل منها القلوب. اللهم فاجعل وفاتي قتيلا في سبيلك، لا يقول أحد: أنا غسلت، أنا كفنت، أنا دفنت. قال: فأصيب يوم اليمامة، فما من أحد من المسلمين إلا وقد وجد، غيره.
وممن
روي في استهزائهم أن رجلا من المنافقين قال: ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء، أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنا، ولا أجبن عند اللقاء. فرفع ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجاء إلى النبيّ صلوات الله عليه وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله! إنما كنا نخوض ونلعب، فقال: أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ...
الآية- وهو متعلق بسيف الرسول، وما يلتفت إليه صلّى الله عليه وسلّم.
قال الزجاج: (الطائفة) في اللغة أصلها الجماعة، لأنها المقدار الذي يمكنها أن تطيف بالشيء، ثم يجوز أن يسمى الواحد بالطائفة. انتهى.
وإيقاع الجمع على الواحد معروف في كلام العرب.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٦٧]
الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٦٧)
الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أي متشابهون في النفاق والبعد عن الإيمان، كتشابه أبعاض الشيء الواحد. والمراد الاتحاد في الحقيقة والصفة. ف (من) اتصالية.
قال الزمخشري: أريد به نفي أن يكونوا من المؤمنين، وتكذيبهم في قولهم ويحلفون بالله إنهم لمنكر وتقرير قوله (وما هم منكم) ثم وصفهم بما يدل على مضادة حالهم لحال المؤمنين بقوله: يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ كالكفر والمعاصي وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ كالإيمان والطاعات وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ أي بخلا
بالمبرّات، والإنفاق في سبيل الله، فإن قبض اليد كناية عن الشح والبخل، كما أن بسطها كناية عن الجود، لأن من يعطي يمد يده، بخلاف من يمنع نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ أي أغفلوا ذكره وطاعته، فتركهم من رحمته وفضله.
قال الشهاب: معنى نَسُوا اللَّهَ أنهم لا يذكرونه ولا يطيعونه، لأن الذكر له مستلزم لإطاعته، فجعل النسيان مجازا عن الترك، وهو كناية عن ترك الطاعة، ونسيان الله منع لطفه وفضله عنهم.
قال النحرير: جعل النسيان مجازا لاستحالة حقيقته عليه تعالى، وامتناع المؤاخذة على نسيان البشر.
إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ أي الكاملون في الفسق، الذي هو التمرد في الكفر، والانسلاخ عن كل خير. وكفى المسلم زاجرا أن يلم بما يكسبه هذا الاسم الفاحش الذي وصف الله به المنافقين حين بالغ في ذمهم. وإذا كره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للمسلم أن يقول (كسلت) لأن المنافقين وصفوا بالكسل في قوله: كُسالى
[النساء: ١٤٢] فما ظنك بالفسق؟ أفاده الزمخشري.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٦٨]
وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٦٨)
وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها، هِيَ حَسْبُهُمْ أي عقابا وجزاء وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ، وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ أي لا ينقطع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٦٩]
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٩)
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي أنتم مثل الذين أو فعلتم مثلهم، أي ممن أنعم عليهم ثم عذبوا، والالتفات من الغيبة إلى الخطاب للتشديد كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً في أنفسهم وَأَكْثَرَ أَمْوالًا أي تفيدهم مزيد قوة، ومنافع جمة وَأَوْلاداً أي تفيدهم
451
مزيد قوة لا تفوت بفوات المال، ومنافع أخر فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ أي انتفعوا بنصيبهم، ثم أعطاكم أيها المنافقون أقل مما أعطاهم فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أي دخلتم في الباطل، كالخوض الذي خاضوه، أو كالفوج الذي خاضوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أي لم يستحقوا عليها ثوابا في الدارين، أما في الآخرة فظاهر، وأما في الدنيا فما لهم من الذل والهوان وغير ذلك وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ أي الذين خسروا الدارين.
روى ابن جريج عن أبي هريرة قال «١» : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: والذي نفسي بيده! لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، وباعا بباع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: ومن هم يا رسول الله؟ أهل الكتاب؟ قال: فمن؟
وفي رواية قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم القرآن: كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ... الآية (قال أبو هريرة: الخلاق: الدين) قالوا: يا رسول الله! كما صنعت فارس والروم؟ قال: فهل الناس إلا هم؟
وهذا الحديث له شاهد في الصحيح- أفاده ابن كثير-.
لطيفة:
قال الزمخشري: فإن قلت: أي فائدة في قوله فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ؟ وقوله كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ مغن منه، كما أغنى قوله كَالَّذِي خاضُوا عن أن يقال: وخاضوا فخضتم كالذي خاضوا؟ قلت: فائدته أن يذم الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا، ورضاهم بها، والتهائهم بشهواتهم الفانية عن النظر في العاقبة، وطلب الفلاح في الآخرة، وأن يخسس أمر الاستمتاع، ويهجن أمر الراضي به، ثم يشبه بعد ذلك حال المخاطبين بحالهم، كما تريد أن تنبه بعض الظلمة على سماجة فعله فتقول: أنت مثل فرعون، كان يقتل بغير جرم، ويعذب ويعسف، وأنت تفعل مثل فعله. وأما وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا فمعطوف على ما قبله مستند إليه، مستغن، باستناده إليه، عن تلك التقدمة.
ثم وعظ تعالى المنافقين بقوله:
(١) الحديث أخرجه ابن جرير الطبري في التفسير، ١٠/ ١٧٦.
وشاهده
في الصحيح ما أخرجه البخاري في: الاعتصام، ١٤- باب قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «لتتبعن سنن من كان قبلكم»، الحديث رقم ٢٥٨٩
.
452
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٧٠]
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٧٠)
أَلَمْ يَأْتِهِمْ أي بطريق التواتر نَبَأُ أي خبر الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وهو إهلاكهم بعد تنعيمهم لكفرهم قَوْمِ نُوحٍ أنعم عليهم بنعم، منها تطويل أعمارهم، ثم أهلكوا بالطوفان وَعادٍ قوم هود، أنعم عليهم بنعم منها مزيد قوتهم، ثم أهلكوا بالريح وَثَمُودَ قوم صالح، أنعم عليهم بنعم، منها القصور، ثم أهلكوا بالرجفة وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ أهلكوا بالهدم- كذا في (التنوير).
وقال المهايمي: أنعم عليهم بنعم منها عظم الملك ثم أهلك ملكهم نمرود بالبعوض الداخل في أنفه وَأَصْحابِ مَدْيَنَ قوم شعيب، أنعم عليهم بنعم، منها التجارة، ثم أهلكهم بإفاضة النار عليهم وَالْمُؤْتَفِكاتِ قريات قوم لوط، ائتفكت بهم، أي انقلبت بهم، فصار عاليها سافلها، وأمطروا حجارة من سجيل.
وقوله تعالى: أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ استئناف لبيان نبئهم. أن جاءتهم بالآيات الدالة على رسالتهم فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ أي بإهلاكه إياهم، لأنه أقام عليهم الحجة، بإرسال الرسل، وإزاحة العلل. والفاء للعطف على مقدّر ينسحب عليه الكلام ويستدعيه النظام. أي فكذبوهم فأهلكهم الله تعالى، فما ظلمهم بذلك وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ أي بالكفر والتكذيب، وترك شكره تعالى، وصرفهم نعمه إلى غير ما أعطاهم إياها لأجله، فاستحقوا ذلك العذاب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٧١]
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٧١)
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ في مقابلة قوله في المنافقين بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ [التوبة: ٦٧]، يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ أي فلا يزالون يذكرونه تعالى، فهو في مقابلة ما سبق من قوله
نَسُوا اللَّهَ [التوبة: ٦٧]، وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ بمقابلة قوله: وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ [التوبة: ٦٧]، وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي في كل امر ونهي، وهو بمقابلة وصف المنافقين، بكمال الفسق والخروج عن الطاعة أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٧٢]
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢)
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي من تحت شجرها ومساكنها أنهار الخمر والماء والعسل واللبن خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً أي منازل حسنة تستطيبها النفوس أو يطيب فيها العيش فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ أي إقامة وثبات ويقال عَدْنٍ علم لموضع معين في الجنة، لآثار فيه، ولما كان وَمَساكِنَ معطوفا على جَنَّاتٍ قيل: إن المتعاطفين إما أن يتغايرا بالذات، فيكونوا وعدوا بشيئين، وهما الجنات بمعنى البساتين ومساكن في الجنة، فلكل أحد جنة ومسكن. أو الجنات المقصود بها غير عدن، وهي لعامة المؤمنين، و (عدن) للنبيين عليهم الصلاة والسلام، والشهداء والصديقين. وإما أن يتحدا ذاتا. ويتغايرا صفة، فينزل التغاير الثاني منزلة الأول، ويعطف عليه، فكل منهما عام، ولكن الأول باعتبار اشتمالها على الأنهار والبساتين، والثاني باعتبار الدور والمنازل.
قال القاضي: فكأنه وصف الموعود أولا بأنه من جنس ما هو أبهى الأماكن التي يعرفونها لتميل إليه طباعهم، أول ما يقرع أسماعهم، ثم وصفه بأنه محفوف بطيب العيش، معرى من شوائب الكدورات التي لا تخلو عن شيء منها أماكن الدنيا، وفيها ما تشتهي الأنفس، وتلذ الأعين. ثم وصفه بأنه دار إقامة وثبات في جوار العلّيين، لا يعتريهم فيها فناء ولا تغيّر، ثم وعدهم بما هو أكبر من ذلك فقال وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ إذ عليه يدور فوز كل خير وسعادة، وبه يناط نيل كل شرف وسيادة، ولعل عدم نظمه في سلك الوعد مع عزته في نفسه لأنه متحقق في ضمن كل موعود، ولأنه مستمر في الدارين. أفاده أبو السعود.
وإيثار رضوان الله على ما ذكر، إشارة إلى إفادة أن قدرا يسيرا منه خير من ذلك.
وقد روى الإمام مالك والشيخان «١» عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: إن الله عزّ وجلّ يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟ فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟
فيقولون: يا رب، وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدا.
وروى المحاملي والبزار عن جابر، رفعه: إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال الله عزّ وجلّ: هل تشتهون شيئا فأزيدكم؟ قالوا: يا ربنا! ما هو خير مما أعطيتنا؟ قال:
رضواني أكبر.
ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أي لا ما يعدّه الناس فوزا من حظوظ الدنيا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٧٣]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ قيل: مجاهدة المنافقين بالحجة لا بالسيف. قال في (العناية) ظاهر الآية يقتضي مقاتلة المنافقين، وهم غير مظهرين للكفر، ونحن مأمورون بالظاهر، فلذا فسر الآية السلف بما يدفع ذلك، بناء على أن الجهاد بذل الجهد في دفع ما لا يرضى، سواء كان بالقتال أو بغيره، وهو إن كان حقيقة فظاهر، وإلا حمل على عموم المجاز، فجهاز الكفار بالسيف، وجهاد المنافقين بإلزامهم الحجج، وإزالة الشبه ونحوه. أو بإقامة الحدود عليهم، إذا صدر منهم موجبها، كما روي عن الحسن في الآية. وقيل عليه بأن إقامتها واجبة على غيرهم أيضا، وأجيب بأنها في زمنه صلّى الله عليه وسلّم أكثر ما صدرت عنهم. انتهى.
قال ابن العربي: هذه دعوى لا برهان عليها، وليس العاصي بمنافق، إنما المنافق بما يكون في قلبه من النفاق كامنا، لا بما تتلبس به الجوارح ظاهرا، وأخبار المحدودين يشهد سياقها أنهم لم يكونوا منافقين.
(١) أخرجه البخاري في: الرقاق، ٥١- باب صفة الجنة والنار: حديث رقم ٢٤٥٨.
وأخرجه مسلم في: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، حديث رقم ٩.
وقال ابن كثير: روي عن عليّ رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأربعة أسياف، سيف للمشركين: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة: ٥] وسيف للكفار أهل الكتاب: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ...
[التوبة: ٢٩] الآية- وسيف للمنافقين: جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ [التوبة:
٧٣] و [التحريم: ٩] وسيف للبغاة: فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي... [الحجرات: ٩] الآية
- وهذا يقتضي أنهم يجاهدون بالسيوف إذا أظهروا النفاق، وهو اختيار ابن جرير.
انتهى.
وفي (الإكليل) استدل بالآية من قال بقتل المنافقين. انتهى.
وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ أي اشدد على كلا الفريقين بالقول والفعل وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٧٤]
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٧٤)
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا أي فيك شيئا يسوءك وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ قال قتادة: نزلت في عبد الله بن أبيّ، وذلك أنه اقتتل رجلان: جهني وأنصاري، فعلا الجهني على الأنصاري، فقال عبد الله للأنصار: ألا تنصرون أخاكم! والله، ما مثلنا ومثل محمد إلّا كما قال القائل: (سمن كلبك يأكلك). وقال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ. فسعى بها رجل من المسلمين إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فأرسل إليه فسأله، فجعل يحلف بالله ما قاله، فأنزل الله فيه هذه الآية.
وروى الأموي في مغازيه عن ابن إسحاق أن الجلاس بن سويد بن الصامت- وكان ممن تخلف من المنافقين- لما سمع ما ينزل فيهم قال: والله لئن كان هذا الرجل صادقا فيما يقول، لنحن شرّ من الحمير، فسمعها عمير بن سعد، وكان في حجره، فقال: والله يا جلاس إنك لأحب الناس إليّ، وأحسنهم عندي بلاء، وأعزهم عليّ أن يصله شيئا تكرهه، ولقد قلت مقالة، فإن ذكرتها لتفضحني، ولئن كتمتها لتهلكني، ولإحداهما أهون عليّ من الأخرى. فمشى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فذكر له ما
456
قال الجلاس، فلما بلغ ذلك الجلاس، أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فحلف بالله ما قالها، فأنزل الله عزّ وجلّ فيه يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ الآية- فوقفه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليها، فزعموا أن الجلاس تاب فحسنت توبته، ونزع فأحسن النزوع.
وهاتان الروايتان وغيرهما مما روي هنا، كله مما يفيد تنوع مقالات وكلمات مكفرة لهم مما هو من هذا القبيل، وإن لم يمكنا تعيين شيء منها في هذه الآية.
وقوله تعالى: وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا قال ابن كثير: قيل أنزلت في الجلاس بن سويد، وذلك أنه هم بقتل عمير ابن امرأته، لما رفع كلمته المتقدمة إلى النبيّ صلوات الله عليه. وقد ورد أن نفرا من المنافقين هموا بالفتك بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وهو في غزوة تبوك، في بعض تلك الليالي، في حال السير، وكانوا بضعة عشر رجلا. قال الضحاك: ففيهم نزلت هذه الآية.
قال الإمام أحمد في مسنده «١» : حدثنا يزيد أخبرنا الوليد بن عبد الله بن جميع عن أبي الطفيل قال: لما أقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من غزوة تبوك، أمر مناديا فنادى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخذ العقبة، فلا يأخذها أحد. فبينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقوده حذيفة، ويسوق به عمّار، إذ أقبل رهط متلثمون على الرواحل، غشوا عمارا، وهو يسوق برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأقبل عمار رضي الله عنه يضرب وجوه الرواحل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لحذيفة: قد قد. حتى هبط رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فلما هبط رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نزل، ورجع عمار! فقال: يا عمار! هل عرفت القوم؟ فقال: قد عرفت عامة الرواحل، والقوم متلثمون. قال: هل تدري ما أرادوا؟ قال: الله ورسوله أعلم.
قال: أرادوا أن ينفروا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيطرحوه. قال: فسابّ عمار رجلا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: نشدتك بالله، كم تعلم كان أصحاب العقبة؟ قال: أربعة عشر رجلا. فقل: إن كنت فيهم فقد كانوا خمسة عشر. قال فعدّد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منهم ثلاثة، قالوا: والله ما سمعنا منادي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وما علمنا ما أراد القوم.
فقال عمار: أشهد أن الاثني عشر الباقين حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد. وَما نَقَمُوا أي ما أنكروا وما عابوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فإنهم كانوا قبل مقدمه صلى الله عليه وسلّم المدينة في ظنك من العيش، فأثروا بالغنائم، وقتل للجلاس مولى، فأمر له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بديته فاستغنى. والمعنى أن المنافقين عملوا بضد الواجب، فجعلوا موضع شكر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ما همّوا به، ولا ذنب إلا تفضله عليهم، فهو على حد قولهم: ما لي عندك ذنب إلا أني أحسنت إليك، وقول ابن قيس الرقيّات:
(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند ٥/ ٤٥٣.
457
ما نقم الناس من أميّة إلا أنّهم يحلمون إن غضبوا
وقول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم بهنّ فلول من قراع الكتائب
ويقال: نقم من فلان الإحسان (كعلم) إذا جعله مما يؤديه إلى كفر النعمة كما في (التاج) - ثم دعاهم تعالى إلى التوبة بقوله: فَإِنْ يَتُوبُوا أي من الكفر والنفاق يَكُ خَيْراً لَهُمْ، وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا أي بالقتل والهم والغم وَالْآخِرَةِ أي بالنار وغيرها وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ أي يشفع لهم في دفع العذاب وَلا نَصِيرٍ أي فيدفعه بقوته.
ثم بيّن تعالى بعض من نقم لإغناء الله تعالى إياه بما آتاه من فضله، ممن نكث في يمينه، وتولى عن التوبة، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٧٥]
وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥)
وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ أي حلف به لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ أي بإعطاء كل ذي حق حقه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٧٦]
فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦)
فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا أي من العهد وَهُمْ مُعْرِضُونَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٧٧]
فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧)
فَأَعْقَبَهُمْ أي فجعل الله عاقبة فعلهم ذلك، أو فأورثهم البخل نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ أي من التصدق والصلاح وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ في العهد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٧٨]
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٧٨)
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ أي ما أسروه من النفاق والعزم على إخلاف ما وعدوه وما يتناجون به فيما بينهم من المطاعن في الدين وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ أي ما غاب عن العباد.
تنبيهات:
الأول- قال السيوطي في (لباب النقول) : أخرج الطبراني وابن مردويه وابن أبي حاتم والبيهقي في (الدلائل) بسند ضعيف عن أبي أمامة أن ثعلبة بن حاطب قال: يا رسول الله! ادع الله أن يرزقني مالا. قال: ويحك يا ثعلبة! قليل تؤدي شكره، خير من كثير لا تطيقه. قال: والله لئن آتاني الله مالا لأوتين كل ذي حق حقه. فدعا له، فاتخذ غنما، فنمت حتى ضاقت عليه أزقة المدينة، فتنحى بها، وكان يشهد الصلاة ثم يخرج إليها، ثم نمت حتى تعذرت عليه مراعي المدينة، فتنحى بها، فكان يشهد الجمعة ثم يخرج إليها، ثم نمت، فتنحى بها، فترك الجمعة والجماعات. ثم أنزل الله على رسوله خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها [التوبة: ١٠٣]، فاستعمل على الصدقات رجلين، وكتب لهما كتابا، فأتيا ثعلبة، فأقرأه كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: انطلقا إلى الناس، فإذا فرغتم فمروا بي ففعلا، فقال: ما هذه إلا أخت الجزية، فانطلقا، فأنزل الله وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ... إلى قوله يَكْذِبُونَ الحديث.
وأخرج ابن جرير وابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس نحوه، وفيه أنه جاء بعد إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بصدقته فقال له: إن الله منعني أن أقبل منك، فجعل التراب على رأسه. فقال: هذا عملك، قد أمرتك فلم تطعني، فقبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجاء بها إلى أبي بكر رضي الله عنه فلم يقبلها، وكذا عمر وعثمان، ثم إنه هلك في أيام عثمان
. قال الشهاب: مجيء ثعلبة وحثوه التراب، ليس للتوبة من نفاقه، بل للعار من عدم قبول زكاته مع المسلمين. وقوله صلوات الله عليه: هذا عملك، أي جزاء عملك، وهو عدم إعطائه المصدقين، مع مقالته الشنعاء.
قال الحاكم: إن قيل: كيف لم تقبل صدقته وهو مكلف بالتصدق؟ أجيب:
459
بأنه يحتمل أن الله تعالى أمر بذلك، كيلا يجترئ الناس على نقض العهد، ومخالفة أمر الله تعالى، وردّ سعاة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ويكون لطفا في ترك البخل والنفاق.
الثاني- قال بعض المفسرين من الزيدية: ثمرة الآية وسبب نزولها أحكام:
منها- أن الوفاء بالوعد واجب، إذا تعلق العهد بواجب. والعهد إن حمل على اليمين بالله، فذلك ظاهر، وإن حمل على النذر، ففي ذلك تأكيد لما أوجب الله.
ومنها- أن للإمام أن يفعل مثل ذلك لمصلحة، أي يمتنع من أخذ الواجب إذا حصل له وجه شابه الوجه الذي حصل في قصة ثعلبة. انتهى.
الثالث- قال السيوطي في (الإكليل) : فيها أن إخلاف الوعد والكذب من خصال النفاق، فيكون الوفاء والصدق من شعب الإيمان. وفيها المعاقبة على الذنب بما هو أشد منه لقوله: فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً واستدل بها قوم على أن من حلف إن فعل كذا فلله عليّ كذا، أنه يلزمه. وآخرون على أن مانع الزكاة يعاقب بترك أخذها منه.
كما فعل بمن نزلت الآية فيه. انتهى.
الرابع- قال الرازي: ظاهر الآية يدل على أن نقض العهد، وخلف الوعد، يورث النفاق، فيجب على المسلم أن يبالغ في الاحتراز عنه، فإذا عاهد الله في أمر فليجتهد في الوفاء به. ومذهب الحسن البصري رحمه الله أنه يوجب النفاق لا محالة، وتمسك فيه بهذه الآية،
وبقوله عليه السلام «١» :(ثلاث من كن فيه فهو منافق، وإن صلى وصام وزعم أنه مؤمن: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان).
الخامس- دل قوله تعالى: إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ على أن ذلك المعاهد مات منافقا. قال الرازي: وهذا الخبر وقع مخبره مطابقا له، فإنه
روي أن ثعلبة أتى النبيّ صلى الله عليه وسلّم بصدقته فقال: إن الله تعالى منعني أن أقبل صدقتك.
وبقي على تلك الحالة.
وما قبل أحد من الخلفاء رضي الله عنهم صدقته حتى مات. فكان إخبارا عن غيب، فكان معجزا.
السادس- الضمير في (يلقونه) للفظ الجلالة، والمراد ب (اليوم) يوم القيامة.
وله نظائر كثيرة في التنزيل. وأعرب بعض المفسرين حيث قال: الضمير في (يلقونه)
(١) الحديث أخرجه البخاري في: الإيمان، ٢٤- باب علامة المنافق، حديث رقم ٣١ عن أبي هريرة.
وأخرجه مسلم في: الإيمان، حديث رقم ١٠٧- ١١٠.
460
إما لله، والمراد باليوم وقت الموت، أو للبخل والمراد يوم القيامة والمضاف محذوف، وهو الجزاء. انتهى.
واللقاء إذا أضيف إلى الكفار كان لقاء مناسبا لحالهم من وقوفهم للحساب مع حجبهم عنه تعالى، لأنهم ليسوا أهلا لرؤيته، تقدس اسمه. وإذا أضيف إلى المؤمنين، كما في قوله تعالى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ [الأحزاب: ٤٤]، كان لقيا مناسبا لمقامهم من رؤيته تعالى. وذلك لما أفصحت عنه آيات أخر من حال الفريقين، مما يتنزل مثل ذلك عليها. فمن وقف في بعض الآيات على لفظة، وأخذ يستنبط منها، ولم يراع من استعملت فيه، وأطلقت عليه، كان ذلك جمودا وتعصبا، لا أخذا بيد الحق. نقول ذلك ردّا لقول الجبائي: إن اللقاء في هذه الآية لا يفيد رؤيته تعالى، للإجماع على أن الكفار لا يرونه تعالى، فلا يفيدها أيضا في قوله تعالى:
تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ. وللرازي معه مناقشة من طريق أخرى. وما ذكرناه أمتن. والله أعلم.
السابع- قال الرازي: (السر) ما ينطوي عليه صدورهم، و (النجوى) ما يفاوض فيه بعضهم بعضا فيما بينهم، وهو مأخوذ من النجو، وهو الكلام الخفي، كأن المتناجيين منعا إدخال غيرهما معهما، وتباعدا من غيرهما.
ثم بين تعالى من مساوئ المنافقين نوعا آخر، وهو لمزهم المتصدقين بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٧٩]
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٩)
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ أي يعيبون الْمُطَّوِّعِينَ أي المتبرعين مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ فيزعمون أنهم تصدقوا رياء وَالَّذِينَ أي ويلمزون الذين لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ أي لا يجدون ما يتصدقون به إلا قليلا، وهو مقدار طاقتهم فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ أي يهزئون بهم، ويقولون إن الله غنّي عن صدقتهم سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ أي جازاهم على سخرهم وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ روى البخاري «١» في صحيحه عن أبي
(١) أخرجه البخاري في: الزكاة، ١٠- باب اتقوا النار ولو بشق تمرة، الحديث رقم ٧٥٥.
461
مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت آية الصدقة، كنا نحامل فجاء رجل فتصدق بشيء كثير، فقالوا: مرائي. وجاء رجل فتصدق بصاع، فقالوا: إن الله لغنيّ عن صدقة هذا، فنزلت:
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الآية- ورواه مسلم «١» أيضا.
وروى الإمام أحمد «٢» عن أبي السليل عن رجل حدثه عن أبيه أو عمه أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: من يتصدق بصدقة أشهد له بها يوم القيامة؟ فجاء رجل لم أرى رجلا أشدّ منه سوادا، ولا أصغر منه ولا أدمّ، بناقة لم أر أحسن منها، فقال: يا رسول الله، دونك هذه الناقة. قال: فلمزه رجل فقال: هذا يتصدق بهذه، فو الله لهي خير منه! فسمعها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: كذبت! بل هو خير منك ومنها (ثلاث مرات). ثم قال: ويل لأصحابك إلا من قال بالمال هكذا وهكذا، وجمع بين كفيه عن يمينه وعن شماله.
قال ابن إسحاق: كان المطّوّعون من المؤمنين في الصدقات عبد الرحمن بن عوف، وعاصم بن عدي أخا بني عجلان. وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رغّب في الصدقة، وحضّ عليها، فقام عبد الرحمن بن عوف فتصدق بأربعة آلاف، وقام عاصم بن عديّ وتصدق بمائة وسق من تمر، فلمزوهما وقالوا. ما هذا إلا رياء. وكان الذي تصدق بجهده أبا عقيل، أخا بني أنيف، أتى بصاع من تمر، فأفرغها في الصدقة فتضاحكوا به، وقالوا: إن الله لغنيّ عن صاع أبي عقيل.
وروى الحافظ البزار في مسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: تصدقوا فإني أريد أن أبعث بعثا. فجاء عبد الرحمن بن عوف فقال: يا رسول الله! عندي أربعة آلاف، ألفين أقرضهما لربي، وألفين لعيالي، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: بارك الله لك فيما أعطيت، وبارك لك فيما أمسكت. وبات رجل من الأنصار فأصاب صاعين من تمر، فقال: يا رسول الله! أصبت صاعين من تمر، صاع أقرضه لربي، وصاع لعيالي. قال، فلمزه المنافقون وقالوا: ما أعطى الذي أعطى ابن عوف إلا رياء، وقالوا ألم يكن الله ورسوله غنيين عن صاع هذا؟ فأنزل الله الآية.
وقوله صلّى الله عليه وسلّم (أريد أن أبعث بعثا)
أي لغزو الروم، وذلك في غزوة تبوك.
تنبيهات:
الأول- قال السيوطي في (الإكليل) : في هذه الآية تحريم اللمز والسخرية بالمؤمنين. انتهى.
(١) أخرجه مسلم في: الزكاة، حديث ٧٢.
(٢) أخرجه في المسند ٥/ ٣٤.
462
الثاني- في الَّذِينَ يَلْمِزُونَ وجوه من الإعراب: خير مبتدأ بتقدير (هم الذين) أو مفعول أعني أو أذم الذين، أو مجرور بدل من ضمير سِرَّهُمْ، وجوّز أيضا أن يكون مبتدأ خبره سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ، وقيل: فَيَسْخَرُونَ، ودخلت (الفاء) لما في (الّذين) من الشبه بالشرط. وأما الَّذِينَ لا يَجِدُونَ... إلخ فقيل:
معطوف على الَّذِينَ يَلْمِزُونَ وقيل: على الْمُؤْمِنِينَ، والأحسن أنه معطوف على (المطوعين).
قال في (الفتح) : ويكون من عطف الخاص على العام، والنكتة فيه التنويه بالخاص، لأن السخرية من المقلّ أشدّ من المكثر غالبا.
الثالث- قال في (الفتح) : قراءة الجمهور الْمُطَّوِّعِينَ بتشديد الطاء والواو.
وأصله المتطوعين، أدغمت التاء في الطاء. انتهى. أي لقرب المخرج. والتطوع التنفّل، وهو الطاعة لله تعالى بما ليس بواجب. و (الجهد)، قال الليث: هو شيء قليل يعيش به المقلّ، وبضم الجيم قرأ الجمهور. وقرأ ابن هرمز وجماعة بالفتح، فقيل: هما لغتان بمعنى واحد. وقيل: المفتوح بمعنى المشقة، والمضموم بمعنى الطاقة. وقيل: المضموم قليل يعاش به، والمفتوح: العمل. والمختار أنهما بمعنى، وهو الطاقة وما تبلغه القوة. قال الفراء: الضم لغة أهل الحجاز، والفتح لغيرهم. والهزء والسخرية بمعنى.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٨٠]
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٨٠)
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أي لهؤلاء المنافقين أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ أي فإنهما في حقهما سواء. ثم بيّن استحالة المغفرة لهم وإن بولغ في الاستغفار بقوله تعالى: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ، ذلِكَ أي عدم الغفران لهم بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ أي الخارجين عن حدوده.
تنبيهات:
الأول- جملة قوله تعالى اسْتَغْفِرْ لَهُمْ إلخ، إنشائية لفظا، خبرية معنى.
والمراد التسوية بين الاستغفار لهم، وتركه، في استحالة المغفرة. وتصويره بصورة
463
الأمر، للمبالغة في بيان استوائهما. كأنه عليه الصلاة والسلام أمر بامتحان الحال، بأن يستغفر تارة، ويترك أخرى، ليظهر له جلية الأمر، كما مر في قوله تعالى: قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً [التوبة: ٥٣]، وقد وردت بصيغة الخبر في سورة «المنافقون» في قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ [المنافقون: ٥- ٦].
الثاني- قال الزمخشري: (السبعون) جار مجرى المثل في كلامهم للتكثير.
قال عليّ بن أبي طالب عليه السلام:
لأصبحنّ العاص وابن العاصي سبعين ألفا عاقدي النّواصي
أي فذكرها للمبالغة في حسم مادة الاستغفار لهم، جريا على أساليب العرب في ذكرها للمبالغة لا للتحديد، بأن يكون ما زاد عليها بخلافها.
وقال أبو السعود: شاع استعمال السبعة والسبعين والسبعمائة في مطلق التكثير، لاشتمال السبعة على جملة أقسام العدد، فكأنها العدد بأسره. وقيل: هي أكمل الأعداد، لجمعها معانيها، ولأن الستة أول عدد تامّ، لتعادل أجزائها الصحيحة، إذ نصفها ثلاثة، وثلثها اثنان، وسدسها واحد، وجملتها ستة، وهي مع الواحد سبعة، فكانت كاملة إذ لا مرتبة بعد التمام إلا الكمال. ثم السبعون غاية الكمال، إذ الآحاد غايتها العشرات. والسبعمائة غاية الغايات- انتهى-.
الثالث-
روى البخاري «١» وغيره أن النبيّ صلى الله عليه وسلّم قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، لما أراد أن يصدّه عن الصلاة على عبد الله بن أبيّ: إنما خيّرني الله فقال:
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ الآية وسأزيده على السبعين
. فظاهر هذا أن (أو) للتخيير، وأن السبعين له حدّ يخالفه حكم ما وراءه، وهو من الإشكال بمكان. ولذا قال الزمخشري: فإن قلت: كيف خفي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو أفصح العرب وأخبرهم بأساليب الكلام وتمثيلاته؟ والذي يفهم من هذا العدد كثرة الاستغفار، كيف وقد تلاه بقوله: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا... الآية فبين الصارف عن المغفرة لهم، حتى قال:
قد رخص لي ربي فسأزيد على السبعين. ثم أجاب الزمخشري بقوله: قلت لم يخف
(١) أخرجه البخاري في: التفسير، ٩- سورة التوبة، ٨- باب قوله تعالى: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً، حديث ٧٢٢.
464
عليه ذلك، ولكنه خيل بما قال إظهارا لغاية رحمته ورأفته على من بعث إليه، كقول إبراهيم عليه السلام: وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إبراهيم: ٣٦] وفي إظهار النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الرأفة والرحمة لطف لأمته، ودعاء لهم إلى ترحم بعضهم على بعض.
انتهى.
قال الشراح: يعني أنه أوقع في خيال السامع أنه فهم العدد المخصوص دون التكثير، فجوّز الإجابة بالزيادة قصدا إلى إظهار الرأفة والرحمة، كما جعل إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم جزاء من عصاني أي لم يمتثل أمر ترك عبادة الأصنام، قوله فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ دون أن يقول: (شديد العقاب) فخيل أنه يرحمهم ويغفر لهم رأفة بهم، وحثّا على الاتباع. وفهم المعنى الحقيقي من لفظ اشتهر مجازه، لا ينافي فصاحته، ومعرفته باللسان، فإنه لا خطأ فيه، ولا بعد، إذ هو الأصل. ورجحه عنده شغفه بهدايتهم، ورأفته بهم، واستعطاف من عداهم.
قال الناصر: وقد أنكر القاضي رضي الله عنه حديث الاستغفار، ولم يصححه، وتغالى قوم في قبوله، حتى إنهم اتخذوه عمدة في مفهوم المخالفة، وبنوه على أنه عليه السلام فهم من تحديد نفي الغفران بالسبعين، ثبوت الغفران بالزائد عليه، وذلك سبب إنكار القاضي عليهم وقيل: لما سوى الله بين الاستغفار وعدمه، ورتب عليه عدم القبول، ولم ينه عنه، فهم أنه خير ومرخص فيه، وهذا مراده صلّى الله عليه وسلّم، لا أنه فهم التخيير من (أو)، حتى ينافي التسوية بينهما، المرتب عليها عدم المغفرة، وذلك تطيبا لخاطرهم، وأنه لم يأل جهدا في الرأفة بهم.
قال الشهاب: والتحقيق أن المراد التسوية في عدم الفائدة، وهي لا تنافي التخيير، ثبت فهو بطريق الاقتضاء، لوقوعها بين ضدين لا يجوز تركهما ولا فعلهما، فلا بد من أحدهما. فقد يكون في الإثبات كقوله تعالى: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ [البقرة: ٦]، لأنه مأمور بالتبليغ، وقد يكون في النفي كما هنا، وفي قوله:
سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ... [المنافقون: ٦] الآية- فهو محتاج إلى البيان.
ولذا
قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (إنه رخص لي)
ولعله رخص له في ابن أبيّ لحكمة، وإن لم يترتب عليه فائدة القبول. انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر في (الفتح) : روى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: لما نزلت اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: لأزيدنّ على السبعين، فأنزل الله تعالى: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ
465
لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ
ثم قال: ويحتمل أن تكون الآيتان معا نزلتا في ذلك انتهى.
ثم أشار تعالى إلى نوع آخر من مساوئ المنافقين وهو جعلهم الفرح مكان الحزن، والكراهة مكان الرضا. بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٨١]
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (٨١)
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ المخلفون: هم الذين استأذنوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المنافقين، فأذن لهم في التخلف كما قلنا، أو لأنه خلفهم في المدينة في غزوة تبوك. وإيثار الْمُخَلَّفُونَ على (المتخلفون)، لأنه صلّى الله عليه وسلّم منع بعضهم من الخروج، فغلب على غيرهم. أو المراد من خلفهم كسلهم أو نفاقهم. أو لأن الشيطان أغراهم بذلك، وحملهم عليه. وقوله تعالى: بِمَقْعَدِهِمْ متعلق ب (فرح)، أي بقعودهم عن غزوة تبوك. ف (مقعد) على هذا مصدر ميميّ، أو هو اسم مكان، والمراد به المدينة.
وقوله خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ أي خلفه، وبعد خروجه، حيث خرج ولم يخرجوا. ف (خلاف) ظرف بمعنى خلف وبعد. يقال: فلان أقام خلاف الحي أي بعدهم، ظعنوا ولم يظعن ويؤيده قراءة من قرأ (خلف رسول الله)، فانتصابه على أنه ظرف ل (مقعدهم)، إذ لا فائدة لتقييد فرحهم بذلك.
قال الشهاب: واستعمال (خلاف) بمعنى (خلف) لأن جهة الخلف خلاف الأمام، وجوز أن يكون (الخلاف) بمعنى (المخالفة)، فهو مصدر (خالف)، كالقتال. ويعضده قراءة من قرأ (خلف رسول الله) بضم الخاء، وفي نصبه وجهان:
الأول- أنه مفعول له، والعامل إما (فرح) أي فرحوا لأجل مخالفته صلّى الله عليه وسلّم بالقعود. وإما (مقعدهم) أي فرحوا بقعودهم لأجل مخالفته صلّى الله عليه وسلّم، فهو علة إما للفرح أو للقعود.
والثاني- أنه حال، والعامل أحد المذكورين، أي فرحوا مخالفين له صلّى الله عليه وسلّم بالقعود، أو فرحوا بالقعود مخالفين له.
466
وقوله تعالى: وَكَرِهُوا إلخ أي لما في قلوبهم من مرض النفاق.
قال أبو السعود: وإنما أوثر ما عليه النظم الكريم على أن يقال: (وكرهوا أن يخرجوا إلى الغزو) إيذانا بأن الجهاد في سبيل الله، مع كونه من أجلّ الرغائب، وأشرف المطالب، التي يجب أن يتنافس بها المتنافسون، قد كرهوه، كما فرحوا بأقبح القبائح الذي هو القعود خلاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
قال الزمخشري: في قوله تعالى: وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ تعريض بالمؤمنين، وبتحملهم المشاق العظام لوجه الله تعالى، وبما فعلوا من بذل أموالهم وأرواحهم في سبيل الله تعالى، وإيثارهم ذلك على الدعة والخفض (أي الراحة والتنعم بالمآكل والمشارب) وكره ذلك المنافقون. وكيف لا يكرهونه؟ وما فيهم ما في المؤمنين من باعث الإيمان، وداعي الإيقان.
قال الشهاب: ووجه التعريض ظاهر، لأن المراد كرهوه، لا كالمؤمنين الذين أحبوه.
وقوله تعالى: وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ أي قالوا لإخوانهم لا تنفروا إلى الجهاد في الحر، فإنه لا يستطاع شدته. وذلك أن الخروج في غزوة تبوك كان في شدة الحر، عند طيب الظلال والثمار، وذلك تثبيتا لهم على التخلف، وتواصيا فيما بينهم بالشر والفساد. أو قالوا للمؤمنين تثبيطا لهم عن الجهاد، ونهيا عن المعروف، وإظهارا لبعض العلل الداعية لهم إلى ما فرحوا به من القعود. فقد جمعوا ثلاث خلال من خصال الكفر والضلال: الفرح بالقعود، وكراهية الجهاد، ونهى الغير عن ذلك- أفاده أبو السعود-.
وقوله تعالى: قُلْ أي ردّا عليهم وتجهيلا لهم نارُ جَهَنَّمَ أي التي ستدخلونها بما فعلتم أَشَدُّ حَرًّا أي مما تحذرون من الحرّ المعهود، وتحذّرون الناس منه، فما لكم لا تحذرونها، وتعرضون أنفسكم لها، بإيثار القعود على النفير.
وقوله تعالى: لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ اعتراض تذييلي من جهته تعالى، غير داخل تحت القول المأمور به، مؤكد لمضمونه. وجواب (لو) إما مقدر، أي لو كانوا يفقهون أنها كذلك، أو كيف هي أو أن مآلهم إليها- لما فعلوا ما فعلوا، أو لتأثروا بهذا الإلزام. وإما غير منويّ، على أن (لو) لمجرد التمني المنبئ عن امتناع تحقق مدخولها. أي لو كانوا من أهل الفطانة والفقه، كما في قوله تعالى قُلِ انْظُرُوا ماذا
467
فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ
[يونس: ١٠١] كذا في (أبي السعود) -.
تنبيهان:
الأول- قال الزمخشري: قوله تعالى: قُلْ نارُ جَهَنَّمَ.. إلخ، استجهال لهم، لأن من تصوّن من مشقة ساعة، فوقع بسبب ذلك التصون في مشقة الأبد، كان أجهل من كل جاهل. ولبعضهم:
مسرّة أحقاب تلقّيت بعدها مساءة يوم، أريها شبه الصّاب
فكيف بأن تلقي مسرّة ساعة وراء تقضّيها مساءة أحقاب
- انتهى-.
أي فهم كما قال الآخر:
كالمستجير من الرمضاء بالنار
وقال آخر:
عمرك بالحمية أفنيته خوفا من البارد والحار
وكان أولى لك أن تتقي من المعاصي حذر النار
الثاني-
روى الإمام مالك «١» والشيخان عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: نار بني آدم التي يوقدون بها جزء من سبعين جزءا- زاد الإمام أحمد: من نار جهنم.
وروى الشيخان «٢» عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة، لمن له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل. لا يرى أن أحدا من أهل النار أشد عذابا منه، وإنه أهونهم عذابا.
ثم أخبر تعالى عن عاجل أمرهم وآجله من الضحك القليل، والبكاء الطويل، المؤدي إليه أعمالهم السيئة، التي من جملتها ما ذكر من الفرح، بقوله سبحانه.
(١) أخرجه مالك في الموطأ في: جهنم، حديث رقم ١.
وأخرجه البخاري في: بدء الخلق، ١٠- باب صفة النار وأنها مخلوقة، حديث رقم ١٥٤٥.
وأخرجه مسلم في: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، حديث رقم ٣٠.
(٢) أخرجه البخاري في: الرقاق، ٥١- باب صفة الجنة والنار، حديث ٢٤٦٥.
وأخرجه مسلم في: الإيمان، حديث رقم ٣٦٣.
468
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٨٢]
فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢)
فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا أي ضحكا قليلا، أو زمانا قليلا، غايته مدة حياتهم وَلْيَبْكُوا كَثِيراً أي بكاء، أو زمانا كثيرا، بعد الموت، أبد الآباد جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي بفرحهم بمخالفة الله ورسوله، من الكفر والمعاصي العظائم.
لطائف:
الأولى- سرّ إخراج حالهم الدنيوي والأخروي على صيغة الأمر، الدالة على تحتم وقوع المخبر به، فإن أمر الآمر المطاع مما لا يكاد يتخلف عنه المأمور به. فإن قيل: إنهم ذكروا أنه يعبر عن الأمر بالخبر للمبالغة، لاقتضائه تحقق المأمور به، فالخبر آكد، فما باله عكس هنا؟ فالجواب: لا منافاة بينهما، لأن لكل مقام مقالا، والنكت لا تتزاحم، فإذا عبر عن الأمر بالخبر، لإفادة أن المأمور، لشدة امتثاله، كأنه وقع منه ذلك، وتحقق قبل الأمر- كان أبلغ. وإذا عبر عن الخبر بالأمر كأنه لإفادة لزومه ووجوبه، فكأنه مأمور به- أفاد ذلك مبالغة من جهة أخرى.
الثانية- الجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل في قوله: بِما كانُوا يَكْسِبُونَ دلالة على الاستمرار التجددي ما داموا في الدنيا.
الثالثة- (جزاء) مفعول له للفعل الثاني. أي ليبكوا جزاء. أو مصدر حذف ناصبه. أي يجزون بما ذكر من البكاء الكثير جزاء.
ولما جلّى سبحانه ما جلى من أمرهم، فرّع عليه قوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٨٣]
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (٨٣)
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ أي ردّك من غزوة تبوك إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ أي من المنافقين المتخلفين في المدينة فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ معك إلى غزوة أخرى بعد تبوك، دفعا للعار السابق فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا، إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ أي فخذلكم الله، وسقطتم عن نظره، بل غضب عليكم، وألزمكم العار فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ أي من النساء والصبيان دائما.
لطائف:
قوله تعالى: لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً إخبار في معنى النهي للمبالغة، وذكر القتال لأنه المقصود من الخروج. فلو اقتصر على أحدهما كفى إسقاطا لهم عن مقام الصحبة، ومقام الجهاد، أو عن ديوان الغزاة، وديوان المجاهدين، وإظهارا لكراهة صحبتهم، وعدم الحاجة إلى عدّهم من الجند. أو ذكر الثاني للتأكيد، لأنه أصرح في المراد، والأول لمطابقته لسؤاله كقوله:
أقول له ارحل لا تقيمنّ عندنا
فهو أدل على الكراهة لهم- أفاده الشهاب-.
قال أبو السعود فكان محو أساميهم من دفتر المجاهدين، ولزّهم في قرن الخالفين، عقوبة لهم أيّ عقوبة. ثم قال: وتذكير اسم التفضيل المضاف إلى المؤنث، هو الأكثر الدائر على الألسنة. فإنك لا تكاد تسمع قائلا يقول: هي كبرى امرأة، أو أولى مرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٨٤]
وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (٨٤)
وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً قال المهايمي: لأنها شفاعة، ولا شفاعة في حقهم وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ أي لا تقف عليه للدفن أو للزيارة والدعاء. قال الشهاب: القبر مكان وضع الميت، ويكون بمعنى الدفن، وجوّز هنا: إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ في الحياة في الباطن وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ أي خارجون عن الإيمان الظاهر، الذي كانوا به في حكم المؤمنين.
تنبيهات:
الأول-
روى الشيخان «١» في سبب نزول الآية عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما توفي عبد الله بن أبيّ، جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فسأله أن
(١) أخرجه البخاري في: التفسير، ٩- سورة التوبة، ١٣- باب قوله تعالى: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ، حديث رقم ٦٧٥.
وأخرجه مسلم في: فضائل الصحابة، حديث رقم ٢٥.
470
يعطيه قميصه يكفن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليصلي عليه، فقام عمر، فأخذ بثوب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله! تصلي عليه، وقد نهاك ربك أن تصلي عليه، ؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنما خيّرني الله فقال:
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التوبة: ٨٠] وسأزيده على السبعين. قال: إنه منافق. قال: فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فأنزل الله عزّ وجلّ آية وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ... إلخ
. قال الحافظ أبو نعيم: وقع
في رواية في قول عمر: (أتصلي عليه وقد نهاك الله عن الصلاة على المنافقين؟)
ولم يبيّن محل النهي. فوقع بيانه في رواية أبي ضمرة عن العمري: وهو أن مراده بالصلاة عليهم الاستغفار لهم، ولفظه (وقد نهاك الله أن تستغفر لهم) انتهى. يعني في قوله تعالى: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى [التوبة: ١١٣] فإنها نزلت في قصة أبي طالب حين
قال صلّى الله عليه وسلّم: لأستغفرنّ لك، ما لم أنه عنك.
وكانت وفاة أبي طالب بمكة قبل الهجرة اتفاقا، ووفاة عبد الله بن أبيّ في ذي القعدة سنة تسع بعد قدوم النبيّ صلى الله عليه وسلّم من تبوك. كذا في (فتح الباري).
ووقع في مسند الإمام أحمد ما تقدم من حديث عمر نفسه.
قال عمر: لما توفي عبد الله بن أبيّ دعي له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقام عليه، فلما وقف عليه يريد الصلاة عليه، تحولت حتى قمت في صدره فقلت: يا رسول الله! أعلى عدوّ الله:
عبد الله بن أبيّ القائل يوم كذا، كذا وكذا؟ يعدّد أيامه- قال: ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يبتسم، حتى إذا أكثرت عليه قال: أخّر عني يا عمر. إني خيرت فاخترت. قد قيل لي: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ.. الآية- لو أعلم أني لو زدت على السبعين، غفر له، لزدت.
قال: ثم صلّى عليه ومشى معه وقام على قبره، حتى فرغ منه. قال: فعجبت من جرأتي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والله ورسوله أعلم. قال: فو الله! ما كان إلا يسيرا حتى نزلت هاتان الآيتان: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً الآية- فما صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعده على منافق، ولا قام على قبره، حتى قبضه الله عزّ وجلّ.
ورواه البخاري «١» والترمذي «٢» أيضا.
(١) أخرجه البخاري في: التفسير، ٩- سورة التوبة، ١٢- باب قوله تعالى: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً.. ، حديث رقم ٧٢٢.
(٢) أخرجه الترمذي في: التفسير، ٩- سورة التوبة، ١٢- حدثنا عبد بن حميد، و ١٣- حدثنا محمد بن بشار. [.....]
471
وروي الإمام أحمد «١» عن جابر قال: لما مات عبد الله بن أبيّ، أتى ابنه النبيّ صلى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله! إنك إن لم تأته لم نزل نعيّر به، فأتاه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فوجده قد أدخل في حفرته فقال: أفلا قبل أن تدخلوه؟ فأخرج من حفرته، وتفل عليه من ريقه من قرنه إلى قدمه، وألبسه قميصه «٢». ورواه النسائي. وروى «٣» نحوه البخاري والبزار في مسنده، وزاد: فأنزل الله الآية. زاد ابن إسحاق في المغازي بسنده قال: فما صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على منافق بعده حتى قبضه الله، ولا قام على قبره.
وقد روى «٤» الإمام أحمد عن أبي قتادة قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا دعي إلى جنازة سأل عنها، فإن أثني عليها خير قام فصلى عليها، وإن كان غير ذلك، قال لأهلها: شأنكم بها. ولم يصل عليها.
الثاني- إنما منع صلّى الله عليه وسلّم من الصلاة على أحدهم إذا مات، لأن صلاة الميت دعاء واستغفار واستشفاع له. والكافر ليس بأهل لذلك.
الثالث- قال: السيوطي في (الإكليل) : في قوله تعالى: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ الآية- تحريم الصلاة على الكافر، والوقوف على قبره، وأن دفنه جائز:
ومفهومه وجوب الصلاة على المسلم ودفنه، ومشروعية الوقوف على قبره، والدعاء له، والاستغفار. انتهى.
قال عثمان رضي الله عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا فرغ من دفن الميت، وقف عليه وقال: استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل- انفرد بإخراجه أبو داود «٥» -.
الرابع- قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) : ظاهر الآية أنها نزلت في جميع المنافقين، لكن ورد ما يدل على أنها نزلت في عدد معين منهم:
قال الواقدي: أنبأنا معمر عن الزهري قال: قال حذيفة: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إني مسرّ إليك سرا، فلا تذكره لأحد. إني نهيت أن أصلي على فلان وفلان، رهط ذوي عدد من المنافقين.
(١) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ص ٣٧١ ج ٣.
(٢) أخرجه النسائي في: الجنائز، ٩٢- باب إخراج الميت من اللحد بعد أن يوضع فيه.
(٣) أخرجه البخاري في: الجنائز، ٢٣- باب الكفن في القميص الذي يكفّ، أو لا يكفّ، ومن كفّن بغير قميص، حديث رقم ٦٧٦.
(٤) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ص ٢٩٩ ج ٥.
(٥) أخرجه أبو داود في: الجنائز، ٦٩- باب الاستغفار عند القبر للميت، حديث رقم ٣٢٢١.
472
قال، فلذلك كان عمر إذا أراد أن يصلي على أحد استتبع حذيفة، فإن مشى معه، وإلا لم يصلّ عليه.
ومن طريق أخرى، عن جبير بن مطعم أنهم اثنا عشر رجلا. وقال حذيفة مرة:
إنه لم يبق منهم غير رجل واحد. ولعل الحكمة في اختصاص المذكورين بذلك، أن الله علم أنهم يموتون على الكفر، بخلاف من سواهم، فإنهم تابوا. انتهى.
ثم بين تعالى أن دوام غضبه عليهم لا ينافي إعطاءهم الأموال والأولاد، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٨٥]
وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٨٥)
وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ أي لأنه لم يرد الله الإنعام عليهم بها، ليدل على رضاه عنهم، بل الانتقام منهم، قال: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا أي بالمشقة في تحصيلها وحفظها والحزن عليها وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ أي فيموتون كافرين غافلين عن التدبر في العواقب. وقد تقدمت الآية في هذه السورة مع تغاير في ألفاظها.
قال الزمخشري: أعيد قوله وَلا تُعْجِبْكَ، لأن تجدد النزول له شأن في تقرير ما نزل له وتأكيده، وإرادة أن يكون على بال من المخاطب لا ينساه، ولا يسهو عنه، وأن يعتقد أن العمل به مهم، يفتقر إلى فضل عناية به، لا سيما إذا تراخى ما بين النزولين، فأشبه الشيء الذي أهم صاحبه، فهو يرجع إليه في أثناء حديثه، ويتخلص إليه. وإنما أعيد هذا المعنى لقوته فيما يحب أن يحذر منه. انتهى.
وقال الفارسي: ليست للتأكيد، لأن تيك في قوم، وهذه في آخرين. وقد تغاير نطقها، فهنا: وَلا، بالواو لمناسبة عطف نهي على نهي قبله في قوله: وَلا تُصَلِّ.. إلخ فناسب الواو. وهناك بالفاء لمناسبة التعقيب لقوله قبله: وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ أي للإنفاق. فهم معجبون بكثرة الأموال والأولاد، فنهى عن الإعجاب المتعقب له. وهنا: وأولادهم. دون (لا)، لأنه نهي عن الإعجاب بهما مجتمعين، وهناك بزيادة (لا)، لأنه نهي كل واحد واحد، فدل مجموع الآيتين على النهي عن الإعجاب بهما مجتمعين ومنفردين. وهنا أَنْ يُعَذِّبَهُمْ وهناك
لِيُعَذِّبَهُمْ بلام التعليل. وحذف المفعول. أي إنما يريد اختيارهم بالأموال والأولاد وهنا المراد التعذيب، فقد اختلف متعلق الإرادة فيهما ظاهرا، وهناك فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وهنا فِي الدُّنْيا، تنبيها على أن حياتهم كلا حياة فيها، وناسب ذكرها بعد الموت، فكأنهم أموات أبدا. انتهى.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : الآيات ٨٦ الى ٨٧]
وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (٨٦) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٨٧)
وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ.
رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ إنكار وذم للمتخلفين عن الجهاد، الناكلين عنه، مع وجود الطّول الذي هو الفضل والسعة، وإخبار بسوء صنيعهم، إذ رضوا بالعار والقعود مع الخوالف، لحفظ البيوت، وهن النساء. وذلك لإيثارهم حب المال على حب الله، وأنه بسبب ذلك طُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ أي ختم عليها، فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ، أي ما في حب الله والتقرب إليه بالجهاد من الفوز والسعادة، وما في التخلف من الشقاء والهلاك.
فوائد:
الأولى- قال الزمخشري: يجوز أن يراد السورة بتمامها، وأن يراد بعضها، في قوله: وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ كما يقع (القرآن) و (الكتاب) على كله وعلى بعضه.
وقيل: هي (براءة)، لأن فيها الأمر بالإيمان والجهاد. انتهى.
وقيل: المراد كل سورة ذكر فيها الإيمان والجهاد.
قال الشهاب: وهذا أولى وأفيد، لأن استئذانهم عند نزول آيات براءة علم مما مرّ. وقد قيل: إن (إذا) تفيد التكرار بقرينة المقام لا بالوضع، وفيه كلام مبسوط في محله.
الثانية- إنما خص ذوي الطّول، لأنهم. المذمومون، وهم من له قدرة مالية، ويعلم منه البدنية أيضا بالقياس.
الثالثة- الخوالف: جمع (خالفة)، وهي المرأة المتخلفة عن أعمال الرجال، والمراد ذمهم وإلحاقهم بالنساء، كما قال:
كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جرّ الذيول
والخالفة تكون بمعنى من لا خير فيه، والتاء فيه للنقل للاسمية، فإن أريد هاهنا، فالمقصود من لا فائدة فيه للجهاد. وجمع على فواعل على الوجهين: أما الأول فظاهر، وأما الثاني فلتأنيث لفظه، لأن (فاعلا) لا يجمع على (فواعل) في العقلاء الذكور، إلا شذوذا، كنواكس، أفاده الشهاب.
ثم بيّن تعالى ما للمؤمنين من الثناء الحسن، والمثوبة الحسنى ضد أولئك، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٨٨]
لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨٨)
لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أي في سبيل الله، لغلبة حب الله عليهم، على حب الأموال والأنفس وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ أي منافع الدارين، النصر والغنيمة في الدنيا، والجنة والكرامة في العقبى وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي الفائزون بالمطلوب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٨٩]
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٨٩)
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أي الذي لا فوز وراءه.
ثم بيّن تعالى أحوال منافقي الأعراب، إثر بيان منافقي أهل المدينة، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٩٠]
وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٠)
وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ أي في ترك الجهاد، وهم أحياء ممن
حول المدينة. والْمُعَذِّرُونَ فيه قراءتان، التشديد والتخفيف، والمشددة لها تفسيران:
أحدهما- من (عذر في الأمر) إذا قصر فيه وتوانى ولم يجدّ، فتكلف العذر، فعذره باطل.
والثاني- من (اعتذر)، وهو محتمل لأن يكون عذره باطلا وحقّا، وأصله، عليهما، (معتذرون) نقلت فتحة التاء إلى العين، وقلبت التاء ذالا، وأدغمت فيها.
وأما التخفيف فهي من (أعذر) إذا كان له عذر، وهم صادقون على هذا.
وقوله تعالى: وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي في دعوى الإيمان، وهم منافقو الأعراب الذين لم يجيئوا، ولم يعتذروا، بل قعدوا من قلة المبالاة بالله ورسوله.
ثم أوعدهم تعالى بقوله: سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ الضمير في مِنْهُمْ إما للأعراب مطلقا، فالذين كفروا منافقوهم، أو أعم، وإما للمعذرين، فإن منهم من اعتذر لكسله، لا لكفر، وجوّز أن يكون المعنى بالذين كفروا منهم، المصرون على الكفر.
ثم بين تعالى الأعذار التي لا حرج على من قعد معها عن القتال، فذكر منها ما هو لازم للشخص لا ينفك عنه، وما هو عارض عنّ له بسبب مرض شغله عن الخروج في سبيل الله، أو بسبب عجزه عن التجهز للحرب، وبدأ بالأول فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٩١]
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١)
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وهم العاجزون مع الصحة، عن العدو، وتحمل المشاق، كالشيخ والصبي والمرأة والنحيف وَلا عَلَى الْمَرْضى أي العاجزين بأمر عرض لهم، كالعمى والعرج والزمانة وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ أي ولا على الأقوياء والأصحاء الفقراء والعاجزين عن الإنفاق في السفر والسلاح حَرَجٌ أي إثم في القعود، و (الحرج) أصل معناه الضيق، ثم استعمل للذنب، وهو المراد إِذا نَصَحُوا
لِلَّهِ وَرَسُولِهِ
أي أخلصوا الإيمان والعمل الصالح، فلم يرجفوا، ولم يثيروا الفتن، وأوصلوا الخيرات للجاهدين، وقاموا بمصالح بيوتهم.
وقوله تعالى: ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ استئناف مقرر لمضمون ما سبق، أي ليس عليهم جناح، ولا إلى معاتبتهم سبيل، و (من) مزيدة للتأكيد، ووضع الْمُحْسِنِينَ موضع الضمير، للدلالة على انتظامهم، بنصحهم لله ورسوله، في سلك المحسنين، أو تعليل لنفي الحرج عنهم، أي ما على جنس المحسنين من سبيل، وهم من جملتهم أفاده أبو السعود.
قال الشهاب: (ليس على محسن سبيل)، كلام جار مجرى المثل، وهو إما عامّ، ويدخل فيه من ذكر، أو مخصوص بهؤلاء فالإحسان: النصح لله والرسول، والإثم المنفي إثم التخلف، فيكون تأكيدا لما قبله بعينه على أبلغ وجه، وألطف سبك، وهو من بليغ الكلام، لأن معناه لا سبيل لعاتب عليه، أي لا يمرّ به العاتب، ويجوز في أرضه، فما أبعد العتاب عنه! فتقطن للبلاغة القرآنية كما قيل:
سقيا لأيامنا الّتي سلفت إذ لا يمرّ العذول في بلدي
وقوله تعالى: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ تذييل مؤيد لمضمون ما ذكر، مشير إلى أن بهم حاجة إلى المغفرة، وإن كان تخلفهم بعذر- أفاده أبو السعود، أي لأن المرء لا يخلو من تفريط ما، فلا يقال إنه نفى عنهم الإثم أولا، فما الاحتياج إلى المغفرة المقتضية للذنب؟ أفاده الشهاب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٩٢]
وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (٩٢)
وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ عطف على الْمُحْسِنِينَ، أو على الضُّعَفاءِ أي لتعطيهم ظهرا يركبونه إلى الجهاد معك قُلْتَ أي لهم لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ أي إلى الجهاد. وقوله تعالى: تَوَلَّوْا جواب (إذا) أي خرجوا من عندك وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ أي في الحملان، فهؤلاء وإن كانت لهم، قدرة على تحمل المشاق، فما عليهم من سبيل أيضا.
تنبيهات:
الأول- قال السيوطي في (الإكليل) : في قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ
477
إلخ رفع الجهاد عن الضعيف والمريض، ومن لا يجد نفقة ولا أهبة للجهاد ولا محملا، انتهى.
وقال بعض الزيدية: هذه الآية الكريمة قاضية بنفي الحرج، وهو الإثم، على ترك الجهاد لهذه الأعذار، بشرط النصيحة لله ولرسوله، أي بأن يريد لهم ما يريد لنفسه- عن أبي مسلم-.
الثاني- قال الحاكم: في الآية دلالة على أن النصح في الدين واجب، وأنه يدخل في ذلك: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والشهادات والأحكام والفتاوى وبيان الأدلة.
الثالث- قال ابن الفرس: يستدل بقوله تعالى: ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ على أن قاتل البهيمة الصائلة لا يضمنها. وقال بعض الزيدية: يدل على أن المستودع والوصيّ والملتقط لا ضمان عليهم مع عدم التفريط، وأنه لا يجب عليهم الرد، بخلاف المستعير.
الرابع- دل قوله تعالى: وَلا عَلَى الَّذِينَ... إلخ على أن العادم للنفقة، الطالب للإعانة، إذا لم تحصل له، فلا حرج عليه. وفيه إشارة إلى المعونة إذا بدلت له من الإمام، لزمه الخروج.
الخامس- دلت الآية على جواز البكاء وإظهار الحزن على فوات الطاعة، وإن كان معذورا.
السادس- قوله تعالى: تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ أبلغ من (يفيض دمعها)، لأن العين جعلت كأن كلها دمع فائض، و (من) للبيان. كقولك: أفديك من رجل.
ومحلّ الجار والمجرور النصب على التمييز- أفاده الزمخشري-.
السابع-
روى ابن أبي حاتم عن زيد بن ثابت قال: كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلّم فكنت أكتب (براءة) فإني لواضع القلم على أذني، إذ أمرنا بالقتال. فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينظر ما ينزل عليه، إذ جاء أعمى فقال: كيف بي يا رسول الله وأنا أعمى؟
فنزلت: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ.. الآية-.
وروى العوفي عن ابن عباس في هذه الآية، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمر الناس أن ينبعثوا غازين معه، فجاءته عصابة من أصحابه، فيهم عبد الله بن مغفل بن مقرّن المزني، فقالوا: يا رسول الله! احملنا. فقال لهم: والله! لا أجد ما أحملكم عليه،
478
فتولوا وهم يبكون، وعزّ عليهم أن يجلسوا عن الجهاد، ولا يجدون نفقة ولا محملا، فلما رأى الله حرصهم على محبته ومحبة رسوله، أنزل عذرهم في كتابه، فقال: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ..
وروى الإمام أحمد «١» عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لقد خلفتم بالمدينة رجالا، ما قطعتم واديا، ولا سلكتم طريقا، إلا أشركوكم في الأجر، حبسهم المرض- ورواه مسلم «٢».
ثم رد تعالى الملامة على المستأذنين في القعود وهم أغنياء، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٩٣]
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٩٣)
إِنَّمَا السَّبِيلُ أي بالعتاب والعقاب عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ أي قادرون على تحصيل الأهبة رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ أي من النساء والصبيان وسائر أصناف العاجزين. أي رضوا بالدناءة والضعة والانتظام في جملة الخوالف.
قال المهايمي: وهذا الرضا، كما هو سبب العتاب، فهو أيضا سبب العقاب، لأنه لما كان عن قلة مبالاتهم بالله، غضب الله عليهم وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي ما يترتب عليه من المصائب الدينية والدنيوية، أو لا يعلمون أمر الله فلا يصدقون.
لطيفة:
قال الشهاب: اعلم أن قولهم (لا سبيل عليه) معناه: لا حرج ولا عتاب، وأنه بمعنى لا عاتب يمر عليه، فضلا عن العتاب، وإذا تعدى ب (إلى) كقوله:
ألا ليت شعري هل إلى أمّ سالم سبيل؟ فأمّا الصبر عنها فلا صبر
فبمعنى الوصول كما قال:
هل من سبيل إلى خمر فأشربها أم من سبيل إلى نصر بن حجّاج
(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند ٣/ ٣٠٠.
(٢) أخرجه مسلم في: الإمارة، حديث رقم ١٥٩.
ونحوه، فتنبه لمواطن استعماله، فإنه من مهمات الفصاحة- انتهى-.
ثم أخبر تعالى عما سيتصدون له عند القفول من تلك الغزوة، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٩٤]
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٤)
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ أي سدّا للسبيل عليهم في التخلف قُلْ لا تَعْتَذِرُوا أي لظهور كذبكم، إذ لم يمنعكم فقر ولا مرض، ولا يفيدكم الاعتذار لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ أي لن نصدق قولكم، وقوله تعالى: قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ تعليل لانتفاء التصديق أي أعلمنا بالوحي من أسراركم ونفاقكم وفسادكم ما ينافي التصديق وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ أي من الرجوع عن الكفر، أو الثبات عليه، علما يتعلق به الجزاء ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي للجزاء بما ظهر منكم من الأعمال ووضع المظهر موضع المضمر، لتشديد الوعيد، وأنه تعالى مطلع على سرهم وعلنهم، لا يفوت عن علمه شيء من ضمائرهم وأعمالهم، فيجازيهم على حسب ذلك.
قال في (النبراس) : المراد بالغيب ما غاب عن العباد، أو ما لم يعلمه العباد، أو ما يكون وبالشهادة ما علمه العباد أو ما كان فَيُنَبِّئُكُمْ أي يخبركم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي في الدنيا. قبل إعلامهم به. وذكره لهم للتوبيخ.
قال أبو السعود: المراد بالتنبئة بذلك، المجازاة به، وإيثارها عليها، لمراعاة ما سبق من قوله تعالى: قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ.. إلخ. فإن المنبأ به الأخبار المتعلقة بأعمالهم.
وللإيذان بأنهم ما كانوا عالمين في الدنيا بحقيقة أعمالهم، وإنما يعلمونها حينئذ.
ثم أخبر تعالى عما سيؤكدون به معاذيرهم من أيمانهم الفاجرة، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٩٥]
سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥)
سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ أي فلا توبخوهم ولا
تعاتبوهم فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ أي فأعطوهم طلبتهم إِنَّهُمْ رِجْسٌ تعليل لترك معاتبتهم، يعني أن المعاتبة لا تنفع فيهم ولا تصلحهم، وإنما يعاتب الأديم ذو البشرة. والمؤمن يوبّخ على زلة تفرط منه ليطهره التوبيخ بالحمل على التوبة والاستغفار. وأما هؤلاء فأرجاس لا سبيل إلى تطهيرهم- أفاده الزمخشري-.
وقال الشهاب: يعني أنهم يتركون، ويجتنب عنهم كما تجتنب النجاسة، وهم طلبوا إعراض الصفح، فأعطوا إعراض مقت.
وقوله تعالى: وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ من تمام التعليل، فالعلة نجاسة جبلّتهم التي لا يمكن تطهيرها، لكونهم من أهل النار، فاللوم يغريهم ولا يجديهم. والكلب أنجس ما يكون إذا اغتسل، أو تعليل ثان يعني وكفتهم النار عتابا وتوبيخا، فلا تكلفوا عتابهم.
وقوله تعالى: جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ يجوز أن يكون مصدرا وأن يكون علة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٩٦]
يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٩٦)
يَحْلِفُونَ لَكُمْ بدل مما سبق، وعدم ذكر المحلوف به لظهوره، أي يحلفون به تعالى: لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ أي باعتقاد طهارة ضمائرهم وإخلاصهم فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ فيه تبعيد عن الرضا عنهم على أبلغ وجه وآكده، فإن الرضا عمن لا يرضى الله تعالى عنه، مما لا يكاد يصدر عن المؤمن.
ثم أشار تعالى إلى أن منافقي الأعراب أشد رجسا فلا يغتر بحلفهم، وإن لم يكذبهم الوحي، فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٩٧]
الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧)
الْأَعْرابُ وهم أهل البدو أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً أي من أن أهل الحضر، لجفائهم وقسوتهم وتوحشهم، ونشئهم في بعد من مشاهدة العلماء، ومعرفة الكتاب
481
والسنة وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ أي وأحق بجهل حدود الدين، وما أنزل الله من الشرائع والأحكام وَاللَّهُ عَلِيمٌ أي يعلم حال كل أحد من أهل الوبر والمدر حَكِيمٌ أي فيما يصيب به مسيئهم ومحسنهم، مخطئهم ومصيبهم، من عقابه وثوابه.
لطائف:
الأولى- قال الشهاب: العرب، هذا الجيل المعروف مطلقا، والأعراب سكان البادية منهم، فهو أعم. وقيل: العرب سكان المدن والقرى، والأعراب سكان البادية من العرب، أو مواليهم، فهما متباينان، ويفرق بين جمعه وواحده بالياء فيهما.
الثانية- ما ذكر في الآية من أجدرية جهل الأعراب من بعدهم عن سماع الشرائع، وملابسة أهل الحق، يشير إلى ذم سكان البادية، وهو يطابق ما
رواه الإمام أحمد، «١»، وأصحاب السنن، عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: من سكن البادية جفا وتتمته: ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى السلطان افتتن.
وقوله صلّى الله عليه وسلّم «٢» : إن الجفاء والقسوة في الفدادين
. قال ثعلب: الفدادون أصحاب الوبر، لغلظ أصواتهم، وهم أصحاب البادية ويقال: من صحب الفدادين، فلا دنيا نال ولا دين.
مأخوذ من (الفديد) وهو رفع الصوت أو شدته.
قال ابن كثير: ولما كانت الغلظة والجفاء في أهل البوادي، لم يبعث الله منهم رسولا، وإنما كانت البعثة من أهل القرى، كما قال تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى [يوسف: ١٠٩]. ولما أهدى ذلك الأعرابي تلك الهدية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فردّ عليه أضعافها حتى رضي قال: لقد هممت ألا أقبل هدية إلا من قرشي أو ثقفي أو أنصاري أو دوسي، لأن هؤلاء كانوا يسكنون المدن:
مكة والطائف والمدينة واليمن، فهم ألطف أخلاقا من الأعراب، لما في طباع الأعراب من الجفاء.
الثالثة- روي الأعمش عن إبراهيم قال: جلس أعرابي إلى زيد بن صوحان وهو
(١) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ١/ ٣٥٧ والحديث رقم ٣٣٦٢.
وأخرجه أبو داود في: الأضاحي، ٢٤- باب في اتباع الصيد، حديث رقم ٢٨٥٩.
وأخرجه الترمذي في: الفتن، ٦٩- باب حدثنا محمد بن بشار.
وأخرجه النسائي في: الصيد، ٢٤- باب اتباع الصيد.
(٢) أخرجه الإمام أحمد في المسند، ٢/ ٢٥٨.
482
يحدث أصحابه، وكانت يده قد أصيبت يوم (نهاوند) فقال الأعرابي: والله! إن حديثك ليعجبني وإن يدك لتريبني! فقال زيد: ما يريبك من يدي، إنها الشمال؟
فقال الأعرابي: والله! ما أدري اليمين يقطعون أو الشمال؟ فقال زيد بن صوحان:
صدق الله الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ.
ثم أشار تعالى إلى فريق آخر من منافقي الأعراب، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٩٨]
وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨)
وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً أي يعدّ ما يصرفه في سبيل الله، ويتصدق به صورة، غرامة وخسرانا، لأنه لا ينفق إلا تقية من المسلمين ورياء لا لوجه الله عزّ وجلّ، وابتغاء المثوبة عنده، والغرامة والمغرم والغرم (بالضم) : ما ينفقه المرء من ماله وليس يلزمه، ضررا محضا وخسرانا. وقال الراغب: الغرم ما ينوب الإنسان في ماله من ضرر لغير جناية منه وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ أي ينتظر بكم دوائر الدهر- جمع (دائرة) وهي النكبة والمصيبة تحيط بالمرء- فتربص الدوائر، انتظار المصائب، لينقلب أمر المسلمين ويتبدل، فيخلصوا مما عدّوه مغرما عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ اعتراض بالدعاء عليهم، بنحو ما يتربصونه، أو إخبار عن وقوع ما يتربصون عليهم.
قال الشهاب: (الدائرة) اسم للنائبة، وهي بحسب الأصل مصدر، كالعافية والكاذبة. أو اسم فاعل بمعنى عقبة دائرة. والعقبة أصلها اعتقاب الراكبين وتناوبهما. ويقال: للدهر عقب ونوب ودول، أي مرة لهم ومرة عليهم. و (السوء) يقرأ بضم السين وهو الضرر، وهو مصدر في الحقيقة. يقال: سؤته سوءا ومساءة ومسائية. ويقرأ بفتح السين وهو الفساد والرداءة- قاله أبو البقاء- وَاللَّهُ سَمِيعٌ أي لما يقولونه عند الإنفاق مما لا خير فيه عَلِيمٌ أي بما يضمرونه من الأمور الفاسدة التي منها تربصهم الدوائر. وفيه من شدة الوعيد ما لا يخفى.
ثم نوّه تعالى بمؤمني الأعراب الصادقين، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٩٩]
وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩)
وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ. امتثالا لأمره، وترجيحا لحبه، وقطعا لحب ما سواه. وقُرُباتٍ مفعول ثان ل يَتَّخِذُ، وجمعها باعتبار أنواعها، أو أفرادها.
قال الشهاب: القربة (بالضم) ما يتقرب به إلى الله، ونفس التقرب. فعلى الثاني يكون معنى اتخاذها تقربا اتخاذها سببا له، على التجوز في النسبة أو التقدير.
وعِنْدَ اللَّهِ صفة ل قُرُباتٍ أو ظرف ل يَتَّخِذُ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أي سبب دعواته بالرحمة المكملة لقصوره وكان صلّى الله عليه وسلّم يدعو للمتصدقين بالخير والبركة، ويستغفر لهم ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم «١» : اللهم صلّ على آل أبي أوفى أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ الضمير لما ينفق، والتأنيث باعتبار الخير، والتنكير للتفخيم، أي قربة عظيمة جامعة لأنواع القربات، يكملها الله بدعوة الرسول، ويزيد على مقتضاها بما أشار إليه بقوله:
سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ أي جنته إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يستر عيب المخلّ رَحِيمٌ يقبل جهد المقلّ.
قال الزمخشري: قوله تعالى: أَلا إِنَّها شهادة من الله للمتصدق بصحة ما اعتقد من كون نفقته قربات وصلوات وتصديقا لرجائه، على طريق الاستئناف، مع حرفي التنبيه والتحقيق، المؤذنين بثبات الأمر وتمكنه. وكذلك سَيُدْخِلُهُمُ وما في (السين) من تحقيق الوعد. وما أدل هذا الكلام على رضا الله تعالى عن المتصدقين، وأن الصدقة منه بمكان، إذا خلصت النية من صاحبها! انتهى.
وفي (الانتصاف) : النكتة في إشعار (السين) بالتحقيق أن معنى الكلام معها (أفعل كذا، وإن أبطأ الأمر) أي لا بد من فعله، قال الشهاب: وفيه تأمل.
ولما بيّن تعالى فضيلة مؤمني الأعراب بما تقدم. تأثره ببيان من هم فوقهم بمنازل من الفضيلة والكرامة، بقوله سبحانه:
(١) أخرجه البخاري في: الدعوات، ٣٢- باب هل يصلّى على غير النبيّ صلّى الله عليه وسلّم؟ حديث رقم ٨٠٠.
وأخرجه مسلم في: الزكاة، حديث رقم ١٧٦.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١٠٠]
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠)
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ أي ممن تقدم بالهجرة والنصرة.
وقيل: عني بالفريق الأول من صلى إلى القبلتين، أو من شهد بدرا، أو من أسلم قبل الهجرة وبالثاني أهل بيعة العقبة الأولى، وكانوا سبعة نفر، وأهل العقبة الثانية، وكانوا سبعين، والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة مصعب بن عمير، فعلمهم القرآن.
واختار الرازي الوجه الأول. قال: والصحيح عندي أنهم السابقون في الهجرة وفي النصرة، والذي يدل عليه أنه ذكر كونهم سابقين، ولم يبين أنهم سابقون فماذا، فبقي اللفظ مجملا، إلا أنه وصفهم بكونهم مهاجرين وأنصارا، فوجب صرف ذلك اللفظ إلى ما به صاروا مهاجرين وأنصارا، وهو الهجرة والنصرة، فوجب أن يكون المراد منه السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ في الهجرة والنصرة، إزالة للإجمال عن اللفظ. وأيضا فالسبق إلى الهجرة طاعة عظيمة، من حيث إن الهجرة فعل شاق على النفس، ومخالف للطبع، فمن أقدم عليه أولا، صار قدوة لغيره في هذه الطاعة، وكان ذلك مقوّيا لقلب الرسول عليه الصلاة والسلام، وسببا لزوال الوحشة عن خاطره، وكذلك السبق في النصرة، فإن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لما قدم المدينة، فلا شك أن الذين سبقوا إلى النصرة والخدمة فازوا بمنصب عظيم.
وقرئ (الأنصار) بالرفع، عطفا على السَّابِقُونَ.
وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ أي سلكوا سبيلهم بالإيمان والطاعة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لأن الهجرة أمر شاق على النفس، لمفارقة الأهل والعشيرة. والنصرة منقبة شريفة، لأنها إعلاء كلمة الله، ونصر رسوله وأصحابه والإحسان من أحوال المقربين أو مقاماتهم- قاله المهايمي- وَرَضُوا عَنْهُ بما وفقهم إليه من الإيمان والإحسان، وما آتاهم من الثواب والكرامة وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ وذلك بدل ما تركوا من دورهم وأهليهم، وبدل ما أعطوه للمهاجرين من أموالهم، ولغرسهم جنات القرب في قلوبهم، وإجرائهم أنهار المعارف في قلوبهم وقلوب من اتبعوهم بهذه الهجرة والنصرة والإحسان- قاله المهايمي.
وقرأ ابن كثير من تحتها الأنهار كما هو في سائر المواضع.
خالِدِينَ فِيها أَبَداً لتخليدهم هذا الدين بإقامة دلائله، وتأسيس قواعده، إلى يوم القيامة، والعمل بمقتضاه، واختيار الباقي على الفاني ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أي الذي لا فوز وراءه.
تنبيهات:
الأول- قال في (الإكليل) : في هذه الآية تفضيل السابق إلى الإسلام والهجرة، وأن السابقين من الصحابة أفضل ممن تلاهم.
الثاني- قيل: المراد ب (السابقين الأولين) جميع المهاجرين والأنصار، ف (من) بيانية لتقدمهم على من عداهم. وقيل: بعضهم- وهم قدماء الصحابة- و (من) تبعيضية. وقد اختار كثيرون الثاني، واختلفوا في تعيينهم على ما ذكرناه أولا، ورأى آخرون الأول. روي عن حميد بن زياد قال: قلت يوما لمحمد بن كعب القرظي: ألا تخبرني عن الصحابة فيما كان بينهم؟ وأردت الفتن- فقال لي: إن الله تعالى قد غفر لجميعهم، وأوجب لهم الجنة في كتابه، محسنهم ومسيئهم. قلت له:
وفي أي موضع أوجب لهم الجنة؟ فقال: سبحان الله! ألا تقرأ قوله تعالى:
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ... الآية فأوجب للجميع الجنة والرضوان، وشرط على تابعيهم أن يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة وألا يقولوا فيهم إلا حسنا لا سوءا. أي لقوله تعالى: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ..
الآية [الحشر: ١٠].
الثالث- قال الشهاب: تقديم المهاجرين لفضلهم على الأنصار كما ذكر في قصة السقيفة «١»، ومنه علم فضل أبي بكر رضي الله عنه على من عداه، لأنه أول من هاجر معه صلّى الله عليه وسلّم.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١٠١]
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (١٠١)
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ يعني حول بلدتكم، وهي المدينة
(١) أخرجه البخاري في: الحدود، ٣١- باب رجم الحبلى من الزنى إذا أحصنت حديث رقم ١٢١٤.
486
مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ أي مرنوا ومهروا فيه وقوله عز شأنه لا تَعْلَمُهُمْ دليل لمرانتهم عليه، ومهارتهم فيه، أي يخفون عليك، مع علوّ كعبك في الفطنة وصدق الفراسة، لفرط تأنقهم وتصنعهم في مراعاة التقية، والتحامي عن مواقع التهم.
قال في (الانتصاف) وكأن قوله تعالى: مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ توطئة لتقرير خفاء حالهم عنه صلّى الله عليه وسلّم لما لهم من الخبرة في النفاق والضراوة به. انتهى.
وقوله تعالى: نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ تقرير لما سبق من مهارتهم في النفاق، أي لا يعلمهم إلا الله، ولا يطلع على سرهم غيره، لما هم عليه من شدة الاهتمام بإبطان الكفر، وإظهار الإخلاص.
وقوله تعالى: سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ للمفسرين في المرتين وجوه: إظهار نفاقهم وإحراق مسجد الضرار أو الفضيحة وعذاب القبر، أو أخذ الزكاة لما أنهم يعدّونها مغرما بحتا، ونهك الأبدان، وإتعابها بالطاعات والفارغة عن الثواب.
وقال محمد بن إسحاق: هو- فيما بلغني عنهم- ما هم فيه من أمر الإسلام، وما يدخل عليهم من غيظ ذلك على غير حسبة، ثم عذابهم في القبور إذا صاروا إليها، ثم العذاب العظيم الذي يردّون إليه، عذاب الآخرة، ويخلدون فيه.
قال أبو السعود: ولعل تكرير عذابهم، لما فيهم من الكفر المشفوع بالنفاق، أو النفاق المؤكد بالتمرد فيه. ويجوز أن يكون المراد بالمرتين مجرد التكثير. كما في قوله تعالى: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الملك: ٣]، أي كرة بعد أخرى، لقوله تعالى:
أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ.. الآية [التوبة: ١٢٦].
تنبيه:
لا ينافي قوله تعالى: لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ قوله تعالى: وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد: ٣٠]، لأن هذا من باب التوسم فيهم بصفات يعرفون بها، لا أنه يعرف جميع من عنده من أهل النفاق والريب، على التعيين، وقد كان يعلم أن في بعض من يخالطه من أهل المدينة نفاقا، وإن كان يراه صباحا ومساء. وشاهد هذا بالصحة، ما
رواه الإمام أحمد «١» عن جبير
(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند ٤/ ٨٢.
487
ابن مطعم رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله! إنهم يزعمون أنه ليس لنا أجر بمكة، فقال: لتأتينكم أجوركم، ولو كنتم في حجر ثعلب. وأصغى إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم برأسه فقال: إن في أصحابي منافقين، أي يرجفون ويتكلمون بما لا صحة له.
وروى ابن عساكر عن أبي الدرداء أن رجلا يقال له حرملة أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال: الإيمان ها هنا، وأشار بيده، إلى لسانه، والنفاق ها هنا، وأشار بيده إلى قلبه، ولم يذكر الله إلا قليلا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اللهم اجعل له لسانا ذكرا، وقلبا شاكرا، وارزقه حبي وحب من يحبني، وصيّر أمره إلى خير. فقال: يا رسول الله! إنه كان لي أصحاب من المنافقين، وكنت رأسا فيهم، أفلا آتيك بهم؟ قال: من أتانا استغفرنا له، ومن أصرّ على دينه، فالله أولى به، ولا تخرقنّ على أحد سترا- ورواه الحاكم أيضا-.
وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في هذه الآية قال: ما بال أقوام يتكلفون علم الناس فلان في الجنة وفلان في النار، فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال: لا أدري! لعمري أنت بنصيبك أعلم منك بأحوال الناس، ولقد تكلفت شيئا ما تكلفه الأنبياء قبلك! قال نبيّ الله نوح عليه السلام: وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [الشعراء: ١١٢]. وقال نبي الله شعيب عليه السلام: بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ [هود: ٨٦]. وقال تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم: لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ.
لطيفة:
قوله تعالى: وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عطف على مِمَّنْ حَوْلَكُمْ عطف مفرد على مفرد. وقوله تعالى: مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ إما جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب، مسوقة لبيان علوّهم في النفاق. إثر بيان اتصافهم به، وإما صفة للمبتدأ المذكور، فصل بينها وبينه بها عطف على خبره. وإما صفة لمحذوف أقيمت هي مقامه، وهو مبتدأ خبره مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ والجملة عطف على الجملة السابقة، أي ومن أهل المدينة قوم مردوا على النفاق- أفاده أبو السعود-.
ولما بين تعالى حال المنافقين المتخلفين عن الغزاة، رغبة عنها وتكذيبا وشكا، بيّن حال المذنبين الذين تأخروا عن الجهاد كسلا وميلا إلى الراحة، مع إيمانهم وتصديقهم بالحق، فقال عز شأنه:
488
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١٠٢]
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢)
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ أي أقروا بها، وهي تخلفهم عن الغزو، وإيثار الدعة عليه، والرضا بسوء جوار المنافقين. أي لم يعتذروا من تخلفهم بالمعاذير الكاذبة، كغيرهم خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً كالندم وما سبق من طاعتهم وَآخَرَ سَيِّئاً كالتخلف عن الجهاد عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أي يقبل توبتهم إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يتجاوز عن التائب ويتفضل عليه.
تنبيهات:
الأول-
أخرج ابن مردويه وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس قال: غزا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتخلف أبو لبابة وخمسة معه، ثم إن أبا لبابة ورجلين معه تفكروا وندموا وأيقنوا بالهلاك وقالوا: نحن في الظلال والطمأنينة مع النساء، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنون معه في الجهاد! والله! لنوثقن أنفسنا بالسواري، فلا نطلقها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلّم هو الذي يطلقها: ففعلوا، وبقي ثلاثة نفر لم يوثقوا أنفسهم، فرجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من غزوته فقال: من هؤلاء الموثقون بالسواري؟ فقال رجل:
هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا، فعاهدوا الله ألا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم. فقال: لا أطلقهم حتى أومر بإطلاقهم، فأنزل الله وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ، فلما نزلت أطلقهم وعذرهم، وبقي الثلاثة الذين لم يوثقوا أنفسهم، لم يذكروا بشيء، وهم الذين قال الله فيهم: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ... الآية- فجعل أناس يقولون: هلكوا إذ لم ينزل عذرهم، وآخرون يقولون: عسى الله أن يتوب عليهم، حتى نزلت وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا.. [التوبة: ١١٨].
وأخرج ابن جرير من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس نحوه، وزاد: فجاء أبو لبابة وأصحابه بأموالهم حين أطلقوا، فقالوا: يا رسول الله! هذه أموالنا، فتصدق بها عنا، واستغفر لنا فقال: ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا، فأنزل الله: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً.. [التوبة: ١٠٣] الآية.
وأخرج هذا القدر وحده عن سعيد بن جبير والضحاك وزيد بن أسلم وغيرهم.
وأخرج عبد عن قتادة أنها نزلت في سبعة: أربعة منهم ربطوا أنفسهم
489
بالسواري، وهم أبو لبابة ومرداس وأوس بن خذام وثعلبة بن وديعة.
وأخرج أبو الشيخ وابن مندة في (الصحابة) من طريق الثوري عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال: كان ممن تخلف عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في تبوك ستة: أبو لبابة وأوس بن خذام وثعلبة بن وديعة وكعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية.
فجاء أبو لبابة وأوس وثعلبة، فربطوا أنفسهم بالسواري، وجاءوا بأموالهم، فقالوا: يا رسول الله! خذ هذا الذي حبسنا عنك، فقال: لا أحلهم حتى يكون قتال، فنزل القرآن: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ.. الآية-
إسناده قوي، كذا في (اللباب) -.
قال ابن كثير: هذه الآية، وإن كانت نزلت في أناس معينين، إلا أنها عامة في كل المذنبين الخاطئين المخلطين. وقد قال مجاهد: إنها نزلت في أبي لبابة لما قال لبني قريظة (إنه الذبح) وأشار بيده إلى حلقه، ثم نقل ما تقدم.
الثاني-
روى البخاري «١» في التفسير في هذه الآية، عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لنا: أتاني الليلة آتيان، فابتعثاني، فانتهيا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب، ولبن فضة، فتلقانا رجال، شطر من خلفهم كأحسن ما أنت راء، وشطر كأقبح ما أنت راء، قالا لهم:
اذهبوا فقعوا في ذلك النهر، فوقعوا فيه، ثم رجعوا إلينا، قد ذهب ذلك السوء عنهم، فصاروا في أحسن صورة، قالا لي: هذه جنة عدن، وهذاك منزلك. قالا: أما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح، فإنهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، تجاوز الله عنهم.
الثالث- قال الزمخشري: فإن قلت: قد جعل كل واحد منهما مخلوطا، فما المخلوط به؟ قلت: كل واحد منهما مخلوط ومخلوط به، لأن المعنى خلط كل واحد منهما بالآخر، كقولك: خلطت الماء واللبن، تريد خلطت كل واحد منهما بصاحبه، وفيه ما ليس في قولك (خلطت الماء باللبن)، لأنك جعلت الماء مخلوطا، واللبن مخلوطا به؟ وإذا قلته بالواو جعلت الماء واللبن مخلوطين ومخلوطا بهما، كأنك قلت: خلطت الماء باللبن واللبن بالماء.
وناقشه الناصر في (الانتصاف) فقال: التحقيق في هذا أنك إذا قلت (خلطت
(١) أخرجه البخاري في: التفسير، ٩- سورة التوبة، ١٥- باب وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، حديث رقم ٥٠١.
490
الماء باللبن) فالمصرح به في هذا الكلام أن الماء مخلوط، واللبن مخلوط به، والمدول عليه لزوما، لا تصريحا، كون الماء مخلوطا به، واللبن مخلوطا. وإذا قلت:
خلطت الماء واللبن، فالمصرح به جعل كل واحد منهما مخلوطا. وأما ما خلط به كل واحد منهما، فغير مصرح به، بل من اللازم أن كل واحد منهما له مخلوط به، يحتمل أن يكون قرينه أو غيره. فقول الزمخشري: إن قولك (خلطت الماء واللبن) يفيد ما يفيد مع الباء، وزيادة- ليس كذلك. فالظاهر في الآية- والله أعلم- أن العدول عن الباء إنما كان لتضمين الخلط معنى العمل، كأنه قيل عملوا صالحا وآخر سيئا، ثم انضاف إلى العمل معنى الخلط، فعبر عنهما معا به- انتهى-.
قال النحرير: يريد الزمخشري أن (الواو) كالصريح في خلط كلّ بالآخر، بمنزلة ما إذا قلت: (خلطت الماء باللبن)، و (خلطت اللبن بالماء)، بخلاف الباء، فإن مدلولها لفظا إلا خلط الماء مثلا باللبن. وأما خلط اللبن بالماء، فلو ثبت لم يثبت إلا بطريق الالتزام ودلالة العقل- انتهى-.
وهو متجه ولا حاجة للتضمين المذكور.
ثم قال الزمخشري: ويجوز أن يكون من قولهم (بعت الشاء شاة ودرهما) بمعنى شاة بدرهم، أي ف (الواو) بمعنى الباء، ونقل ذلك عن سيبويه، وقالوا: إنه استعارة، لأن (الباء) للإلصاق، و (الواو) للجمع، وهما من واد واحد. وقال ابن الحاجب في قولهم المذكور: أصله شاة بدرهم أي كل شاة بدرهم، وهو بدل من الشاء، أي مع درهم، ثم كثر، فأبدلوا من (باء المصاحبة) (واوا)، فوجب نصبه وإعرابه بإعراب ما قبله، كقولهم: كل رجل وضيعته.
قال الشهاب: وهو تكلف، ولذا قالوا: إنه تفسير معنى، لا إعراب- انتهى-.
قال الواحدي: العرب تقول: خلطت الماء باللبن، وخلطت الماء واللبن، كما تقول: جمعت زيدا وعمرا. و (الواو) في الآية أحسن من (الباء)، لأنه أريد معنى الجمع، لا حقيقية الخلط. ألا ترى أن العمل الصالح لا يختلط بالسّيء، كما يختلط الماء باللبن، لكن قد يجمع بينهما- انتهى-.
وفي الآية نوع من البديع يسمى (الاحتباك)، وهو مشهور، لأن المعنى:
خلطوا عملا صالحا بسيئ وآخر سيئا بصالح.
الرابع- قال الرازي: هاهنا سؤال، وهو أن كلمة (عسى) شك، وهو في حق الله تعالى محال. وجوابه من وجوه:
491
الأول- قال المفسرون: كلمة (عسى) من الله واجب، والدليل عليه قوله تعالى: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ، وفعل ذلك، وتحقيق القول فيه أن القرآن نزل على عرف الناس في الكلام، والسلطان العظيم إذا التمس المحتاج منه شيئا، فإنه لا يجيب إليه إلا على سبيل الترجي مع كلمة (عسى) أو (لعل) تنبيها على أنه ليس لأحد أن يلزمني شيئا، وأن يكلفني بشيء، بل كل ما أفعله فإنما أفعله على سبيل التفضل والتطوّل، فذكر كلمة (عسى)، الفائدة فيه هذا المعنى، مع أنه يفيد القطع بالإجابة.
الوجه الثاني: أن المقصود بيان أنه يجب أن يكون المكلف على الطمع والإشفاق، لأنه أبعد من الاتكال والإهمال.
الخامس- قال القاشاني: الاعتراف بالذنب هو إبقاء نور الاستعداد، ولين الشكيمة، وعدم رسوخ ملكة الذنب فيه، لأنه ملك الرجوع والتوبة، ودليل رؤية قبح الذنب التي لا تكون إلا بنور البصيرة، وانفتاح عين القلب، إذ لو ارتكمت الظلمة ورسخت الرذيلة، ما استقبحه، ولم يره ذنبا، بل رآه فعلا حسنا، لمناسبته لحاله، فإذا عرف أنه ذنب. ففيه خير.
ثم أمر تعالى رسوله صلوات الله عليه أن يأخذ من أموالهم التي تقدموا إليه، أن يتصدق بها عنهم كفارة لذنوبهم، كما تقدم في الروايات قبل، بقوله عزّ وجلّ:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١٠٣]
خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣)
خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ أي بعضها صَدَقَةً قال المهايمي: لتصدق توبتهم إذ تُطَهِّرُهُمْ أي عما تلطخوا به من أوضار التخلف. وعن حب المال الذي كان التخلف بسببه وَتُزَكِّيهِمْ بِها أي عن سائر الأخلاق الذميمة التي حصلت عن المال. قال الزمخشري: التزكية مبالغة في التطهير وزيادة فيه، أو بمعنى الإنماء والبركة في المال وَصَلِّ عَلَيْهِمْ أي واعطف عليهم بالدعاء لهم وترحّم إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ أي تسكن نفوسهم إليها، وتطمئن قلوبهم بها، ويثقون بأنه سبحانه قبل توبتهم.
وقال قتادة: (سكن) أي: وقار. وقال ابن عباس: رحمة لهم..
وقد روى
492
الإمام «١» أحمد عن حذيفة أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان إذا دعا للرجل، أصابته وأصابت ولده وولد ولده.
وفي رواية: إن صلاة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لتدرك الرجل وولده وولد ولده.
والجملة تعليل للأمر بالصلاة عليهم وَاللَّهُ سَمِيعٌ أي يسمع اعترافهم بذنوبهم ودعاءهم عَلِيمٌ أي بما في ضمائرهم من الندم والغم، لما فرط منهم.
تنبيهات:
الأول- تُطَهِّرُهُمْ قرئ مجزوما على أنه جواب للأمر. وأما بالرفع، فعلى أنه حال من ضمير المخاطب في (خذ). أو صفة ل (صدقة) والتاء للخطاب أو للصدقة.
والعائد على الأول محذوف ثقة بما بعده، أي: بها. وقرئ تطهرهم- من أطهره بمعنى طهره- ولم يقرأ (وتزكيهم) إلا بإثبات الياء، وهو خبر لمحذوف، والجملة حال من الضمير في الأمر أو في جوابه. أي: وأنت تزكيهم بها، هذا على قراءة (تطهرهم) بالجزم. وأما على قراءة الرفع ف (تزكيهم) عطف على (تطهرهم) حالا أو صفة.
الثاني- قرئ (صلاتك) بالتوحيد، و (صلواتك) بالجمع، مراعاة لتعدد المدعوّ لهم. وقال الشهاب: جمع (صلاة) لأنها اسم جنس، والتوحيد لذلك، أو لأنها مصدر في الأصل..
الثالث- قال الشهاب: السكن: السكون، وما يسكن إليه من الأهل والوطن، فإن كان المراد الأول، فجعلها نفس السكن والاطمئنان مبالغة، وهو الظاهر. وإن كان الثاني فهو مجاز بتشبيه دعائه، في الالتجاء إليه بالسكن، انتهى.
قال أبو البقاء: سكن بمعنى مسكون إليها، فلذلك لم يؤنثه، وهو مثل القبض بمعنى المقبوض.
الرابع- قيل: المأمور به في الآية الزكاة. و (من) تبعيضية، وكانوا أرادوا التصدق بجميع مالهم، فأمره الله أن يأخذ بعضها لتوبتهم، لأن الزكاة لم تقبل من بعض المنافقين، فترتبط الآية بما قبلها وقيل: ليست هذه الصدقة المفروضة، بل هم لما تابوا، بذلوا جميع ما لهم كفارة للذنب الصادر منهم، فأمره الله تعالى بأخذ بعضها وهو الثلث، وهذا مروي عن الحسن، وهو المختار عندهم. ونقل الرازي أن
(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند ٥/ ٣٨٥. [.....]
493
أكثر الفقهاء على أن هذه الآية كلام مبتدأ قصد به إيجاب أخذ الزكوات من الأغنياء، إذ هي حجتهم في إيجاب الزكاة، ثم نظر فيه بأن حملها على ما ذكروه يوجب ألا تنتظم الآية مع سابقها ولا حقها.
وأقول: لا ريب في ارتباط الآية بما قبلها، كما أفصحت عنه الرواية السابقة.
وخصوص سببها لا يمنع عموم لفظها، كما هو القاعدة في مثل ذلك. ولذا رد الصدّيق رضي الله عنه على من تأول من بعض العرب هذه الآية. أن دفع الزكاة لا يكون إلا للرسول صلوات الله عليه، لأنه المأمور بالأخذ، وبالصلاة على المتصدقين، فغيره لا يقوم مقامه- وأمر بقتالهم، فوافقته الصحابة، وقاتلوهم حتى أدوا الزكاة إلى الخليفة، كما كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فاستدل من ذلك على وجوب دفع الزكاة إلى الإمام، ومثله نائبه، وهؤلاء المتأولون المرتدون غاب عنهم أن الزكاة إنما أوجبها الله تعالى سدّا لحاجة المعدم، وتفريجا لكربة الغارم، وتحريرا لرقاب المستعبدين، وتيسيرا لأبناء السبيل، فاستلّ بذلك ضغائن أهل الفاقة، على من فضلوا عليهم في الرزق، وأشعر قلوب أولئك محبة هؤلاء، وساق الرحمة في نفوس هؤلاء على أولئك البائسين، فالإمام لا خصوصية لذاته فيها، بل لأنه يجمع ما يرد منها لديه، فينفقها في سبلها المذكورة.
الخامس- استدل بقوله تعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ على ندب الدعاء للمتصدق.
قال الشافعي رحمه الله: السنة للإمام، إذا أخذ الصدقة أن يدعو للمتصدق، ويقول: آجرك الله فيما أعطيت وجعله طهورا، وبارك لك فيما أبقيت، وقال آخرون:
يقول: اللهم! صلّ على فلان، ويدل عليه ما روي عن عبد الله بن أبي أوفى،
وكان من أصحاب الشجرة قال: كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذا أتاه قوم بصدقة قال: اللهم! صلّ عليهم، فأتاه أبي بصدقته فقال: اللهم! صلّ على آل أبي أوفى. أخرجاه في الصحيحين «١»
. قال ابن كثير: وفي الحديث الآخر أن امرأة قالت: يا رسول الله! صلّ علي وعلى زوجي، فقال: صلى الله عليك وعلى زوجك.
أقول: وبهذين الحديثين يردّ على من زعم أن المراد ب صَلِّ عَلَيْهِمْ الصلاة على الموتى حكاه السيوطي في (الإكليل).
(١) أخرجه البخاريّ في: الدعوات، ٣٢- باب هل يصلّى على غير النبيّ صلّى الله عليه وسلّم؟ حديث رقم ٨٠٠.
وأخرجه مسلم في: الزكاة، حديث رقم ١٧٦.
494
السادس- دلت الآية، كالحديثين، على جواز الصلاة على غير الأنبياء استقلالا، قال الرازي:
روى الكعبي في (تفسيره) أن عليّا رضي الله عنه قال لعمر رضي الله عنه وهو مسجّى: عليك الصلاة والسلام. ومن الناس من أنكر ذلك
ونقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لا تنبغي الصلاة من أحد على أحد، إلا في حق النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. ثم قال الرازيّ: إن أصحابنا يمنعون من ذكر (صلوات الله عليه)، و (عليه الصلاة والسلام)، إلا في حق الرسول، والشيعة يذكرونه في عليّ وأولاده، واحتجوا بأن نص القرآن دل على جوازه فيمن يؤدي الزكاة، فكيف يمنع في حق عليّ والحسن والحسين عليهم رضوان الله؟ قال: ورأيت بعضهم قال:
أليس أن الرجل إذا قال: سلام عليكم، يقال له: وعليكم السلام، فدل هذا على أن ذكر هذا اللفظ جائز في حق جمهور المسلمين، فأولى آل البيت- انتهى-.
وأقول: إن المنع من ذلك أدبي لا شرعي، لأنه صار، في العرف، دعاء خاصا به صلى الله عليه وسلّم، وشعارا له، كالعلم بالغلبة، فغيره لا يطلق عليه، إلا تبعية له، أدبا لفظيا.
السابع- قال الرازي: في سر كون صلاته عليه السلام سكنا لهم: أن روح محمد عليه السلام كانت روحا قوية مشرقة صافية باهرة، فإذا دعا لهم وذكرهم بالخير، فاضت آثار من قوته الروحانية على أرواحهم، فأشرقت بهذا السبب أرواحهم، وصفت أسرارهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١٠٤]
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤)
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ هذا تهييج إلى التوبة والصدقة اللتين كل منهما يحطّ الذنوب ويمحصها ويمحقها، وإخبار بأن كل من تاب إليه، تاب عليه. ومن تصدق، تقبل منه.
تنبيهات:
الأول- الضمير في يَعْلَمُوا للمتوب عليهم. فيكون ذكر قبول توبتهم، مع أنه تقدم ما يشير إليه، تحقيقا لما سبق من قبول توبتهم، وتطهير الصدقة وتزكيتها لهم، وتقريرا لذلك، وتوطينا لقلوبهم ببيان أن المتولي لقبول توبتهم، وأخذ صدقاتهم هو الله سبحانه، وإن أسند الأخذ والتطهير والتزكية إليه، صلى الله عليه وسلّم.
495
قال أبو مسلم: المقصود من الاستفهام التقرير في النفس. ومن عادة العرب، في إيهام المخاطب وإزالة الشك عنه، أن يقولوا: أما علمت أن من علمك يجب عليك خدمته؟ أما علمت أن من أحسن إليك يجب عليك شكره؟ فبشّر تعالى هؤلاء التائبين بقبول توبتهم وصدقاتهم- انتهى-.
وجوز عود الضمير لغيرهم من المنافقين فالاستفهام توبيخ وتقريع لهم على عدم التوبة وترغيب فيها، وإزالة لما يظنون من عدم قبولها. وقرئ بالتاء. وهو، على الأول، التفات، وعلى الثاني بتقدير (قل)، ويجوز أن يكون الضمير للمنافقين والتائبين معا، للتمكن والتخصيص.
الثاني- الضمير أعني (هو) إما للتأكيد، أو له مع التخصيص، بمعنى أن الله يقبل التوبة لا غيره، بمعنى أنه يفعل ذلك البتة، لأن ضمير الفصل يفيد ذلك، والخبر المضارع من مواقعه. وقيل: معنى التخصيص في (هو) أن ذلك ليس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، إنما الله سبحانه هو الذي يقبل التوبة ويردها، فاقصدوه بها، ووجهوها إليه، لأن كثرة رجوعهم إليه، صلوات الله عليه، مظنة لتوهم ذلك.
الثالث- تعدية القبول ب (عن) لتضمنه معنى التجاوز، والعفو عن ذنوبهم التي تابوا عنها: وقيل: (عن) هنا بمعنى (من) كما يقال: أخذت هذا منك وعنك.
الرابع- الأخذ هنا استعارة للقبول والإثابة، لأن الكريم والكبير إذا قبل شيئا عوّض عنه، وقد يجعل الإسناد إلى الله مجازا مرسلا. وقيل: في نسبة الأخذ إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم في قوله (خذ) ثم إلى ذاته تعالى- إشارة إلى أن أخذ الرسول صلّى الله عليه وسلّم، قائم مقام أخذ الله، تعظيما لشأن نبيه، كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الفتح: ١٠].
الخامس- جملة وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ تأكيد لما عطف عليه، وزيادة تقرير لما يقرره، مع زيادة معنى ليس فيه، كما أفادته صيغة المبالغة التي تفيد تكرر ذلك منه أي ألم يعلموا أنه المختص بقبول التوبة، وأن ذلك سنة مستمرة له، وشأن دائم؟
لطيفة:
نقل ابن كثير عن الحافظ ابن عساكر عن حوشب قال: غزا الناس في زمن
496
معاوية، وعليهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فغلّ رجل من المسلمين مائة دينار رومية، فلما قفل الجيش ندم، وأتى الأمير، فأبى أن يقبلها منه، وقال: قد تفرق الناس، ولن أقبلها منك حتى تأتي الله بها يوم القيامة، فجعل الرجل يأتي الصحابة، فيقولون له مثل ذلك. فلما قدم دمشق ذهب إلى معاوية ليقبلها منه، فأبى عليه، فخرج من عنده وهو يبكي ويسترجع، فمرّ بعبد الله ابن الشاعر السّكسكي، فقال له: ما يبكيك؟ فذكر له أمره، فقال له: أو مطيعي أنت؟ فقال: نعم. فقال: اذهب إلى معاوية فقل له: اقبل مني خمسك، فادفع إليه عشرين دينارا، وانظر إلى الثمانين الباقية، فتصدق بها عن ذلك الجيش، فإن الله يقبل التوبة عن عباده، وهو أعلم بأسمائهم ومكانهم، ففعل الرجل. فقال معاوية: لأن أكون أفتيت بها، أحب إليّ من كل شيء أملكه. أحسن الرجل. انتهى.
في هذه الرواية إثبات ولد لخالد، وفي ظني أن صاحب (أسد الغابة) ذكر أنه لم يعقب، فليحقق.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١٠٥]
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥)
وَقُلِ أي لأهل التوبة والتزكية، والصلاة، لا تكتفوا بها بل اعْمَلُوا جميع ما تؤمرون به فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ أي فيزيدكم قربا على قرب وَرَسُولُهُ فيزيدكم صلوات وَالْمُؤْمِنُونَ فيتبعونكم، فيحصل لكم أجرهم، من غير أن ينقص من أجورهم شيء- هكذا قاله المهايمي- وهو قوي في الارتباط.
وقال أبو مسلم: إن المؤمنين شهداء الله يوم القيامة، كما قال وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً... [البقرة: ١٤٣] الآية- والشهادة لا تصح إلا بعد الرؤية، فذكر تعالى أن الرسول عليه السلام والمؤمنين يرون أعمالهم، والمقصود التنبيه على أنهم يشهدون يوم القيامة، عند حضور الأولين والآخرين، بأنهم أهل الصدق والسداد والعفاف والرشاد.
ونقل عن مجاهد أن الآية وعيد للمخالفين أوامره، بأن أعمالهم ستعرض عليه تبارك وتعالى وعلى الرسول والمؤمنين.
قال ابن كثير: وهذا كائن لا محالة يوم القيامة، كما قال تعالى يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ [الحاقة: ١٨]. وقال تعالى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ [الطلاق: ٩]. وقال تعالى: وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ [العاديات: ١٠]. وقد يظهر الله تعالى ذلك للناس في الدنيا، كما
روى الإمام أحمد «١» عن أبي سعيد مرفوعا: لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء، ليس لها باب ولا كوّة، لأخرج الله عمله للناس كائنا من كان.
وروي أن أعمال الأحياء تعرض على الأموات من الأقرباء والعشائر في البرزخ- كما في مسند أحمد «٢» والطيالسي-.
وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي بالموت فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي بالمجازاة عليه.
قال أبو السعود: في وضع الظاهر موضع المضمر (أي حيث لم يقل: إليه) من تهويل الأمر، وتربية المهابة- ما لا يخفى. ووجه تقديم (الغيب) في الذكر لسعة عالمه، وزيادة خطره على الشهادة- غني عن البيان.
وعن ابن عباس: الغيب ما يسرونه من الأعمال، والشهادة ما يظهرونه. كقوله تعالى: يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ [البقرة: ٧٧] و [هود: ٥] و [النحل: ٢٣]، فالتقدم حينئذ لتحقق أن نسبة علمه المحيط بالسر والعلن واحدة، على أبلغ وجه وآكده. أو للإيذان بأن رتبة السر متقدمة على رتبة العلن، إذ ما من شيء يعلن إلا وهو، أو مبادئه القريبة، أو البعيدة، مضمر قبل ذلك في القلب. فتعلق علمه تعالى به في حالته الأولى، متقدم على تعلقه به في حالته الثانية.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١٠٦]
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠٦)
وَآخَرُونَ يعني من المتخلفين مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ أي مؤخرون أمرهم انتظارا لحكمه تعالى فيهم، لتردّد حالهم بين أمرين إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ لتخلفهم عن غزوة تبوك وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ يتجاوز عنهم وَاللَّهُ عَلِيمٌ أي بأحوالهم حَكِيمٌ أي فيما يحكم عليهم.
(١) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٣/ ٢٨.
(٢) انظر الصفحة ٣/ ١٦٥ من المسند عن أنس.
498
تنبيهات:
الأول. قرئ في السبعة (مرجؤون) بهمزة مضمومة، بعدها واو ساكنة. وقرئ مُرْجَوْنَ بدون همزة. كما قرئ تُرْجِي مَنْ تَشاءُ بهما، وهما لغتان، يقال:
أرجأته وأرجيته، وكأعطيته. ويحتمل أن تكون الياء بدلا من الهمزة، كقولهم: قرأت وقريت، وتوضأت وتوضيت، وهو في كلامهم كثير. وعلى كونه لغة أصلية فهو يائي. وقيل: إنه واوي كذا في (العناية) -.
الثاني- روي عن الحسن أنه عني بهذه الآية قوم من المنافقين. وكذا قال الأصم: إنهم منافقون أرجأهم الله، فلم يخبر عنهم ما علمه منهم، وحذرهم بهذه الآية، إن لم يتوبوا، أن ينزّل فيهم قرآنا، فقال: إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ.
وعن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وغير واحد: إنهم الثلاثة الذي خلفوا، أي عن التوبة، وهم مرارة بن الربيع وكعب بن مالك وهلال بن أمية، قعدوا في غزوة تبوك في جملة من قعد، كسلا وميلا إلى الدعة وطيب الثمار والظلال، لا شكّا ونفاقا، فكانت منهم طائفة ربطوا أنفسهم بالسواري، كما فعل أبو لبابة وأصحابه، وطائفة لم يفعلوا ذلك، وهم هؤلاء الثلاثة. فنزلت توبة أولئك قبل هؤلاء، وأرجئ هؤلاء عن التوبة، حتى نزلت الآية الآتية، وهي قوله تعالى: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ...
[التوبة: ١١٧] الآية، إلى قوله: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا... -.
قال في (العناية) : وإنما اشتد الغضب عليهم مع إخلاصهم، والجهاد فرض كفاية، لما قيل إنه كان على الأنصار خاصة فرض عين، لأنهم بايعوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عليه.
ألا ترى قول راجزهم في «١» الخندق:
نحن الّذين بايعوا محمّدا... على الجهاد ما بقينا أبدا
وهؤلاء من أجلّهم، فكان تخلفهم كبيرة.
الثالث- (إما) في الآية، إما للشك بالنسبة إلى المخاطب، أو للإبهام بالنسبة إليه أيضا، بمعنى أنه تعالى أبهم على المخاطبين أمرهم. والمعنى: ليكن أمرهم عندكم بين الرجاء والخوف. والمراد تفويض ذلك إلى إرادته تعالى ومشيئته، أو للتنويع، أي أمرهم دائر بين هذين الأمرين.
(١) أخرجه البخاريّ في صحيحه في: الجهاد، ٣٣- باب التحريض على القتال، حديث ١٣٥٨ عن أنس.
499
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١٠٧]
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧)
وَالَّذِينَ أي ومن المنافقين الذين اتَّخَذُوا أي بنوا مَسْجِداً ضِراراً أي مضارّة لأهل مسجد قباء وَكُفْراً أي تقوية للكفر الذي يضمرونه وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ أي الذين كانوا يجتمعون بمسجد قباء اجتماعا واحدا يؤدون أجلّ الأعمال، وهي الصلاة التي يقصد بها تقوية الإسلام بجمع قلوب أهله على الخيرات، ورفع الاختلاف من بينهم وَإِرْصاداً أي إعدادا وترقبا، وانتظارا لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ أي كفر بالله ورسوله من قبل، وهو أبو عامر الراهب الذي سماه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (فاسقا). وكانوا أعدوه له ليصلي فيه، ويظهر على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- كما سنفصله وَلَيَحْلِفُنَّ أي بعد ظهور نواياهم ومقاصدهم السيئة إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى أي ما أردنا، ببناء المسجد، إلا الخصلة الحسنى، أو الإرادة الحسنى، وهي الصلاة، وذكر الله، والتوسعة على المصلين وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أي في حلفهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١٠٨]
لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨)
لا تَقُمْ فِيهِ أي لا تصلّ في مسجد الشقاق أَبَداً أي في وقت من الأوقات، لكونه موضع غضب الله، ولذلك أمر بهدمه وإحراقه كما يأتي. وإطلاق (القائم) على المصلّي والمتهجد معروف، كما في قولهم: فلان يقوم الليل.
وفي الحديث «١»
(من قام رمضان إيمانا واحتسابا)
. لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى أي
(١) أخرجه البخاري في: الإيمان، ٢٧- باب تطوّع قيام رمضان من الإيمان، حدث رقم ٣٣، عن أبي هريرة.
بنيت قواعده على طاعة الله وذكره، وقصد التحفظ من معاصي الله، بفعل الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهو مسجد قباء مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أي من أيام وجوده أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ أي تصلي فِيهِ، فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ أي المبالغين في الطهارة الظاهرة والباطنة. ثم أشار إلى فضل مسجد التقوى على مسجد الضرار بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١٠٩]
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩)
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ أي مخافة منه وَرِضْوانٍ أي طلب رضوان منه خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا أي طرف جُرُفٍ بضم الراء وسكونها أي مهواة هارٍ أي مشرف على السقوط فَانْهارَ بِهِ أي سقط معه فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١١٠]
لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠)
لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ أي لا يزال هدمه سبب شك ونفاق زائد على شكهم ونفاقهم، لا يزول وسمه عن قلوبهم، ولا يضمحلّ أثره إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ أي قطعا، وتتفرق أجزاء، فحينئذ يسلون عنه. وأما مادامت سالمة مجتمعة، فالريبة باقية فيها متمكنة، فيجوز أن يكون ذرك التقطيع تصويرا لحال زوال الريبة عنها، ويجوز أن يراد حقيقة تقطيعها وتمزيقها بالموت، أو بعذاب النار.
وقيل: معناه إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندما وأسفا على تفريطهم وَاللَّهُ عَلِيمٌ أي بنياتهم حَكِيمٌ أي فيما أمر بهدم بنيانهم، حفظا للمسلمين عن مقاصدهم الرديئة.
تنبيهات:
الأول- قال الزمخشري: في مصاحف أهل المدينة والشام الَّذِينَ اتَّخَذُوا بغير (واو)، لأنها قصة على حيالها، وفي سائرها بالواو على عطف قصة مسجد
501
الضرار الذي أحدثه المنافقون على سائر قصصهم.
الثاني- سبب نزول هذه الآيات أنه كان بالمدينة، قبل مقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليها، رجل من الخزرج يقال له أبو عامر الراهب، وكان قد تنصر في الجاهلية، وقرأ علم أهل الكتاب، وكان فيه عبادة في الجاهلية، وله شرف في الخزرج كبير. فلما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مهاجرا إلى المدينة، واجتمع المسلمون عليه، وصار للإسلام كلمة عالية، وأظهرهم الله يوم بدر، شرق اللعين أبو عامر بريقه، وبارز بالعداوة، وظاهر بها، وخرج فارّا إلى كفار مكة يمالئهم على حرب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب، وقدموا عام (أحد)، فكان من أمر المسلمين ما كان، وامتحنهم الله عزّ وجلّ، وكانت العاقبة للمتقين. وتقدم أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار فخاطبهم واستمالهم إلى نصره وموافقته. فلما عرفوا كلامه قالوا: لا أنعم الله بك عينا، يا فاسق، يا عدو الله! ونالوا منه وسبّوه. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد دعاه إلى الله قبل فراره، وقرأ عليه من القرآن، فأبى أن يسلم وتمرّد.
فدعا عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يموت بعيدا طريدا فنالته هذه الدعوة. وذلك أنه لما فرغ الناس من (أحد)، ورأى أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم في ارتفاع وظهور، ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على رسول الله، فوعده ومنّاه، وأقام عنده، وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار، من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنّيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويغلبه ويرده عما هو فيه وكان أمرهم أن يتخذوا له معقلا ومرصدا له إذا قدم عليهم بعد ذلك، فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء، فبنوه وأحكموه، وفرغوا منه، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتجهز إلى تبوك. فأتوه فقالوا: يا رسول الله! إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية.
وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه.
فقال: إني على جناح سفر، وحال شغل، ولو قدمنا، إن شاء الله تعالى، أتيناكم، فصلينا لكم فيه.
فلما نزل بذي أوان- موضع على ساعة من المدينة- أتاه خبر المسجد، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مالك بن الدخشم ومعن بن عدي أو أخاه عامرا،
فقال: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فاهدماه وحرقاه.
فخرجا سريعين، حتى أتيا بني سالم بن عوف، وهم رهط مالك بن الدخشم، فقال مالك لمعن: انظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي، فدخل أهله، فأخذ سعفا من النخل، فأشعل فيه نارا، ثم خرجا يشتدّان، حتى دخلا المسجد، وفيه أهله، فحرقاه وهدماه، وتفرقوا عنه، ونزل فيهم ما نزل- ذكره ابن كثير، وأسند أطرافه إلى ابن إسحاق وابن مردويه-.
502
وروي أن بني عمرو بن عوف الذين بنوا مسجد قباء أتوا عمر بن الخطاب في خلافته، فسألوه أن يأذن لمجمّع بن جارية أن يؤمهم في مسجدهم فقال: لا، ونعمة عين! أليس هو إمام مسجد الضرار؟ قال مجمع: يا أمير المؤمنين! لا تعجل عليّ، فو الله! لقد صليت فيه وأنا لا أعلم ما أضمروا عليه، ولو علمت ما صليت معهم فيه، وكنت غلاما قارئا للقرآن، وكانوا شيوخا لا يقرءون، فصليت بهم، ولا أحسب إلا أنهم يتقربون إلى الله، ولم أعلم ما في نفوسهم. فعذره عمر، فصدقه وأمره بالصلاة في مسجد قباء.
الثالث- ما قدمناه من أن المسجد في الآية هو مسجد قباء، لأن السياق في معرضه، وبيان أحقية الصلاة فيه من ذاك، لأنه أسس على طاعة الله وطاعة رسوله، وجمع كلمة المؤمنين. ولما في الآية من الإشعار بالحث على تعاهده بالصلاة فيه،
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يزوره راكبا وماشيا، ويصلي فيه ركعتين- كما في الصحيح «١» -.
وقد روي عن عويم بن ساعدة الأنصاري أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أتاهم في مسجد قباء فقال: إن الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم، فما هذا الطهور الذي تطهرون به؟ فقالوا، يا رسول الله! ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط إلا غسل فرجه أو مقعدته بالماء، - رواه الإمام أحمد «٢» وأبو داود والطبراني، واللفظ له-.
وقد روي أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال: هو مسجده- رواه الإمام أحمد «٣» ومسلم.
قال ابن كثير: ولا منافاة. لأنه إذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى من أول يوم، فمسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بطريق الأولى والأحرى- انتهى-.
ومرجعه إلى أن هذا الوصف، وإن كان يصدق عليهما- إلا أن الأحرى به بعد،
(١) أخرجه البخاري في: فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، ٤- باب إتيان مسجد قباء ماشيا وراكبا، حديث رقم ٦٤٧ عن ابن عمر.
وأخرجه مسلم في: الحج، حديث رقم ٥١٥.
(٢) أخرجه الإمام أحمد في المسند ٣/ ٤٢٢.
(٣) أخرجه الإمام أحمد في المسند ٣/ ٨. عن أبي سعيد الخدري.
ورواه مسلم في: الحج، حديث رقم ٥١٤.
503
هو المسجد النبوي، أي فالحديث ليس في معرض تعيين ما في الآية، بل في بيان الأحق بهذا الوصف الآن.
وقال السهروردي: كل منهما مراد، لأن كلّا منهما أسس على التقوى من أول يوم تأسيسه.
والسر في إجابته صلّى الله عليه وسلّم السؤال عن ذلك، دفع ما توهمه السائل من اختصاص ذلك بمسجد قباء، والتنويه بمزية هذا عن ذاك.
الرابع- قال السهيلي، نور الله مرقده: في الآية- يعني قوله تعالى: مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ- من الفقه صحة ما اتفق عليه الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين مع عمر رضي الله عنه حين شاورهم في التاريخ، فاتفق رأيهم على أن يكون من عام الهجرة، لأنه الوقت الذي عزّ فيه الإسلام والحين الذي أمن فيه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وبنيت المساجد، وعبد الله كما يحب، فوافق رأيهم هذا ظاهر التنزيل، وفهمنا الآن بفعلهم أن قوله تعالى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أن ذلك اليوم هو أول أيام التاريخ الذي يؤرخ به الآن. فإن كان الصحابة أخذوه من هذه الآية، فهو الظن بهم، لأنهم أعلم الناس بتأويل كتاب الله وأفهمهم بما في القرآن من الإشارات. وإن كان ذلك على رأي واجتهاد، فقد علمه الله وأشار إلى صحته قبل أن يفعل، إذ لا يعقل قول القائل: فعلته أول يوم إلا بالإضافة إلى عام معلوم، أو شهر معلوم، أو تاريخ معلوم. وليس ها هنا إضافة في المعنى إلا إلى هذا التاريخ المعلوم، لعدم القرائن الدالة على غيره من قرينة لفظ أو حال، فتدبره، ففيه معتبر لمن ادّكر، وعلم لمن رأى بعين فؤاده واستبصر.
الخامس- (التأسيس) وضع الأساس، وهو أصل البناء، وأوله، وبه إحكامه، ففي الآية شبّه التقوى والرضوان تشبيها مكنيّا مضمرا في النفس، بما يعتمد عليه أصل البناء. و (أسس بنيانه) تخييل، فهو مستعمل في معناه الحقيقي، أو هو مجاز بناء على جوازه. فتأسيس البنيان بمعنى إحكام أمور دينه، أو تمثيل لحال من أخلص لله وعمل الأعمال الصالحة، بحال من بنى بناء محكما مؤسسا يستوطنه ويتحصن به. أو (البنيان) استعارة أصلية، و (التأسيس) ترشيح أو تبعية: و (الشفا) : الحرف والشفير. و (جرف الوادي) : جانبه الذي يتحفر أصله بالماء، وتجرفه السيول، فيبقى واهيا. و (الهار) : الهائر، وهو المتصدع الذي أشفى على التهدم والسقوط. قيل: هو مقلوب، وأصله (هاور) أو (هاير). وقيل: حذفت عينه اعتباطا، فوزنه (فال).
والإعراب على رائه كباب. وقيل: لا قلب فيه ولا حذف، ووزنه في الأصل (فعل)
504
بكسر العين، ككتف، وهو هور أو هير، ومعناه ساقط أو مشرف على السقوط.
وفاعل (انهار) إما ضمير البنيان، وضمير (به) للمؤسس، أي سقط بنيان الباني بما عليه. أو ل (الشفا)، وضمير (به) للبنيان. والظاهر في التقابل أن يقال: أم من أسس بنيانه على ضلال وباطل وسخط من الله، ولذا قال في الكشاف: المعنى أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة محكمة قوية، وهي الحق، الذي هو تقوى الله ورضوانه، خير أم من أسسه على قاعدة هي أضعف القواعد وأرخاها، وأقلها بقاء (وهو الباطل والنفاق) الذي مثله مثل شفا جرف هار في قلة الثبات والاستمساك. وضع (شفا الجرف) في مقابلة (التقوى)، لأنه جعل مجازا عما ينافي التقوى. يعني أنه شبه الباطل ب (شفا جرف هار) في قلة الثبات، فاستعير للباطل بقرينة مقابلته للتقوى، والتقوى حق، ومنافي الحق هو الباطل. وقوله (فانهار) ترشيح، وباؤه للتعدية، أو للمصاحبة. ف (شفا جرف هار) استعارة تصريحية تحقيقية، والتقابل باعتبار المعنى المجازيّ المراد منها.
فإن قلت: لماذا غاير بينهما حيث أتى بالأول على طريقة الكناية والتخييل، وبالثاني على طريق الاستعارة والتمثيل؟
قلت: التفنن في الطريق رعاية لحق البلاغة، وعدولا عن الظاهر، مبالغة في الطرفين. إذ جعل أولئك مبنيا على تقوى ورضوان، هو أعظم من كل ثواب، وحال هؤلاء على فساد أشرف بهم على أشد نكال وعذاب. ولو أتى به على مقتضى الظاهر لم يفده، ما فيه من التهويل.
وقولنا: (فانهار ترشيح) أوضحه الكشاف بقوله: لما جعل الجرف الهائر مجازا عن الباطل، قيل: فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ على معنى فطاح به الباطل في نار جهنم، إلا أنه رشح المجاز فجيء بلفظ الانهيار الذي هو للجرف، وليصور أن المبطل كأنه أسس بنيانا على شفا جرف من أودية جهنم، فانهار به ذلك الجرف، فهوى في قعرها.
السادس- دلت الآية على أن كل مسجد بني على ما بني عليه مسجد الضرار، أنه لا حكم له ولا حرمة، ولا يصح الوقف عليه. وقد حرق الراضي بالله كثيرا من مساجد الباطنية والمشبهة والمجبرة وسبل بعضها. نقله بعض المفسرين.
قال الزمخشري: قيل: كل مسجد بني مباهاة أو رياء وسمعة أو لغرض سوى ابتغاء وجه الله، أو بمال غير طيب- فهو لا حق بمسجد الضرار. وعن شقيق أنه لم
505
يدرك الصلاة في مسجد بني عامر، فقيل له: مسجد بني فلان لم يصلوا فيه بعد، فقال: لا أحب أن أصلي فيه، فإنه بني على ضرار، وكل مسجد بني على ضرار، أو رياء وسمعة فإن أصله ينتهي إلى المسجد الذي بني ضرارا.
وعن عطاء: لما فتح الله تعالى الأمصار على يد عمر رضي الله عنه، أمر المسلمين أن يبنوا المساجد، وألا يتخذوا في مدينة مسجدين، يضارّ أحدهما صاحبه- انتهى.
وقال الإمام ابن القيّم في (زاد المعاد) في فوائد غزوة تبوك:
ومنها تحريق أمكنة المعصية التي يعصى الله ورسوله فيها وهدمها، كما حرق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مسجد الضرار وأمر بهدمه. وهو مسجد يصلى فيه، ويذكر اسم الله فيه. لما كان بناؤه ضرارا وتفريقا بين المؤمنين، ومأوى للمنافقين. وكل مكان هذا شأنه، فواجب على الإمام تعطيله، إما بهدم أو تحريق، وإما بتغيير صورته، وإخراجه عما وضع له. وإذا كان هذا شأن مسجد الضرار، فمشاهد الشرك التي تدعو سدنتها إلى اتخاذ من فيها أندادا من دون الله، أحق بذلك وأوجب. وكذلك محال المعاصي والفسوق، كالحانات وبيوت الخمارين وأرباب المنكرات وقد حرق عمر رضي الله عنه قرية بكاملها يباع فيها الخمر، وحرق حانوت رويشد الثقفي وسماه (فريسقا)، وأحرق قصر سعد عليه لما احتجب عن الرعية. وهمّ «١» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بتحريق بيوت تاركي حضور الجماعة والجمعة، وإنما منعه من فيها من النساء والذرية الذين لا تجب عليهم، كما أخبر هو عن ذلك- انتهى-.
ثم قال ابن القيّم: ومنها أن الوقف لا يصح على غير بر ولا قربة، كما لم يصح وقف هذا المسجد. وعلى هذا فيهدم المسجد إذا بني على قبر، كما ينبش الميت إذا دفن في المسجد- نص على ذلك الإمام أحمد وغيره- فلا يجتمع في دين الإسلام مسجد وقبر، بل أيهما طرأ على الآخر منع منه، وكان الحكم للسابق، فلو وضعا معا لم يجز. ولا يصح هذا الوقف، ولا يجوز، ولا تصحّ الصلاة في هذا المسجد، لنهي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك «٢»، ولعنه من اتخذ القبر مسجدا، أو أوقد عليه سراجا.
(١) يشير إلى الحديث الذي رواه البخاريّ في صحيحه في: الأذان، ٢٩- باب وجوب صلاة الجماعة حديث رقم ٤٠٨ عن أبي هريرة.
(٢) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه في: الصلاة، ٥٥- باب حدثنا أبو اليمان، حديث رقم ٢٨٥ و ٢٨٦ عن عائشة وعبد الله بن عباس.
506
قال ابن القيّم: فهذا دين الإسلام الذي بعث به رسوله ونبيه، وغربته بين الناس كما ترى. انتهى.
السابع- قال بعض المفسرين اليمانين: في الآية دلالة على فضل المسجد الموصوف بهذه الصفة، يعني التأسيس على التقوى. وفيها: أن نية القربة في عمارة المسجد شرط، لأن النية هي التي تميز الأفعال. وفيها: أنه لا يجوز تكثير سواد الكفار- ذكر ذلك الحاكم، لأنه قال تعالى لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً وأراد ب (القيام) الصلاة.
الثامن- قال ابن كثير: في الآية دليل على استحباب الصلاة في المساجد القديمة المؤسسة من أول بنائها على عبادة الله وحده، لا شريك له، وعلى استحباب الصلاة مع الجماعة الصالحين، والعباد العاملين المحافظين على إسباغ الوضوء، والتنزه عن ملابسة القاذورات.
وقد روى الإمام أحمد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلّى بهم الصبح فقرأ الروم فأوهم فلما انصرف قال: إنه يلبس علينا القرآن، إن أقواما منكم يصلون معنا لا يحسنون الوضوء، فمن شهد الصلاة معنا فليحسن الوضوء
. فدلّ هذا على أن إكمال الطهارة يسهل القيام في العبادة، ويعين على إتمامها وإكمالها، والقيام بمشروعاتها.
التاسع- ذهب أبو العالية والأعمش إلى أن المراد من الطهارة في الآية، الطهارة من الذنوب، والتوبة منها، والتطهر من الشرك.
قال الرازيّ: وهذا القول متعين، لأن التطهر من الذنوب والمعاصي هو المؤثر في القرب من الله تعالى، واستحقاق ثوابه ومدحه، ولأنه تعالى وصف أصحاب مسجد الضرار بمضارّة المسلمين، والكفر بالله، والتفريق بين المسلمين، فوجب كون هؤلاء بالضد من صفاتهم، وما ذاك إلا كونهم مبرئين عن الكفر والمعاصي انتهى.
أقول: لا تسلم دعوى التعيّن، فإن اللفظ يتناول الطهارتين الباطنة والظاهرة. بل الثانية ما
رواه أصحاب السنن والإمام أحمد «١» وابن خزيمة في صحيحه أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال لأهل قباء: قد أثنى الله عليكم في الطهور، فماذا تصنعون؟ فقالوا: نستنجي بالماء.
(١) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٦/ ٦، عن محمد بن عبد الله بن سلام.
507
وروى البزّار عن ابن عباس قال: هذه الآية في أهل قباء، سألهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: إنا نتبع الحجارة بالماء. فإن صح ذلك كان المراد من الآية. وتكون حثّا على الطهارة المذكورة، ومدحا لها. وكون ذويها على الضد من صفات أولئك، يستفاد من عموم هذا، ومن قوله تعالى لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى... الآية.
العاشر- قال القاشاني: لما كان عالم الملك تحت قهر عالم الملكوت، وتسخيره، لزم أن يكون لنيات النفوس وهيئاتها تأثير فيما يباشرها من الأعمال، فكل ما فعل بنية صادقة لله تعالى عن هيئة نورانية، صحبته بركة ويمن وجمعية وصفاء، وكل ما فعل بنية فاسدة شيطانية عن هيئة مظلمة، صحبته تفرقة وكدورة ومحق وشؤم. ألا ترى الكعبة كيف شرفت وعظمت وجعلت متبركة لكونها مبنية على يدي نبيّ من أنبياء الله، بنية صادقة، ونفس شريفة صافية، عن كمال إخلاص لله تعالى؟ ونحن نشاهد أثر ذلك في أعمال الناس، ونجد أثر الصفاء والجمعية في بعض المواضع والبقاع، والكدورة والتفرقة في بعضها. وما هو إلا لذلك، فلهذا قال لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى... الآية- لأن الهيئات الجسمانية مؤثرة في النفوس، كما أن الهيئات النفسانية مؤثرة في الأجسام، فإذا كان موضع القيام مبنيّا على التقوى وصفاء النفس، تأثرت النفس باجتماع الهمة، وصفاء الوقت، وطيب الحال، وذوق الوجدان. وإذا كان مبنيّا على الرياء والضرار، تأثرت بالكدورة والتفرقة والقبض. وفيه إشعار بأن زكاء نفس الباني، وصدق نيته، مؤثر في البناء. وأن تبرّك المكان، وكونه مبنيّا على الخير، يقتضي أن يكون فيه أهل الخير والصلاح، ممن يناسب حاله حال بانيه، وأن محبة الله واجبة لأهل الطهارة لقوله وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١١١]
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١)
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ، يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ، وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ
508
فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ، وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
لما هدى الله تعالى المؤمنين إلى الإيمان، والأنفس مفتونة بمحبة الأموال والأنفس، استنزلهم لفرط عنايته بهم، عن مقام محبة الأموال والأنفس، بالتجارة المربحة، والمعاملة المرغوبة، بأن جعل الجنة ثمن أموالهم وأنفسهم، فعرض لهم خيرا مما أخذ منهم. فالآية ترغيب في الجهاد ببيان فضيلته، إثر بيان حال المتخلفين عنه.
قال أبو السعود: ولقد بولغ في ذلك على وجه لا مزيد عليه، حيث عبر عن قبول الله تعالى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم التي بذلوها في سبيله تعالى، وإثابته إياهم بمقابلتها الجنة، بالشراء على طريقة الاستعارة التبعية. ثم جعل المبيع، الذي هو العمدة والمقصد في العقد، أنفس المؤمنين وأموالهم. والثمن، الذي هو الوسيلة في الصفقة، الجنة. ولم يجعل الأمر على العكس بأن يقال: (إن الله باع الجنة من المؤمنين بأنفسهم وأموالهم) ليدل على أن المقصد في العقد هو الجنة، وما بذله المؤمنون في مقابلتها من الأنفس والأموال وسيلة إليها، إيذانا بتعلق كمال العناية بهم وبأموالهم. ثم إنه لم يقل (بالجنة) بل (بأن لهم الجنة) مبالغة في تقرر وصول الثمن إليهم، واختصاصه بهم. وكأنه قيل: (بالجنة الثابتة لهم، المختصة بهم).
وفي (الكشاف) و (العناية) ولا ترى ترغيبا في الجهاد أحسن ولا أبلغ من هذه الآية، لأنه أبرزه في صورة عقد عاقده رب العزة، وثمنه ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. ولم يجعل المعقود عليه كونهم مقتولين فقط، بل إذا كانوا قاتلين أيضا لإعلاء كلمته، ونصر دينه، وجعله مسجلا في الكتب السماوية، وناهيك به من صك. وجعل وعده حقا، ولا أحد أوفى من وعده، فنسيئته أقوى من نقد غيره. وأشار إلى ما فيه من الربح والفوز العظيم، وهو استعارة تمثيلية، صور جهاد المؤمنين، وبذل أموالهم وأنفسهم فيه، وإثابة الله لهم على ذلك الجنة، بالبيع والشراء، وأتى بقوله يُقاتِلُونَ... إلخ بيانا لمكان التسليم وهو المعركة، وإليه الإشارة
بقوله «١» صلى الله عليه وسلّم «الجنة تحت ظلال السيوف»
ثم أمضاه بقوله: وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. ولما في هذا من البلاغة واللطائف المناسبة للمقام، لم يلتفتوا إلى جعل (اشترى) وحده استعارة أو مجازا عن الاستبدال، وإن ذكروه في غير هذا الموضع، لأن قوله فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ يقتضي أنه شراء وبيع، وهذا لا يكون إلا بالتمثيل. ومنهم من جوز أن يكون معنى اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ بصرفها في
(١) أخرجه البخاري في: الجهاد، ٢٢- باب الجنة تحت بارقة السيوف، حديث رقم ١٣٤٦ عن عبد الله بن أبي أوفى.
509
العمل الصالح، وَأَمْوالَهُمْ بالبذل فيها. وجعل قوله يُقاتِلُونَ مستأنفا لذكر بعض ما شمله الكلام، اهتماما به. انتهى.
وقوله تعالى: وَعْداً عَلَيْهِ مصدر مؤكد لما يدل عليه كون الثمن مؤجلا.
وذكر كونه في التوراة وما عطف عليها، تأكيدا له، وإخبار بأنه منزل على الرسل في الكتب الكبار. وفيه أن مشروعية الجهاد ومثوبته ثابتة في شرع من قبلنا. وقد بقي في التوراة والإنجيل الموجودين، على تحريفهما، ما يشير إلى الجهاد والحث عليه، نقلها عنهما من ردّ على الكتابيّين الزاعمين أن الجهاد من خصائص الإسلام، فانظره في الكتب المتداولة في ذلك.
ثم وصف تعالى المؤمنين الذين اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١١٢]
التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢)
التَّائِبُونَ أي عن المعاصي، ورفعه على المدح، أي هم التائبون، كما دل عليه قراءة (التائبين) بالياء إلى قوله، و (الحافظين) نصبا على المدح، أو جرا صفة للمؤمنين. وجوز أن يكون مبتدأ وخبره ما بعده، أي التائبون من المعاصي حقيقة، الجامعون لهذه الخصال الْعابِدُونَ أي الذين عبدوا الله وحده، وأخلصوا له العبادة، وحرصوا عليها الْحامِدُونَ لله على نعمائه، أو على ما نابهم من السراء والضراء السَّائِحُونَ أي الصائمون، أو الضاربون في الأرض تدبرا واعتبارا. وسننبه عليه، الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ أي المصلّون الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ أي في تحليله وتحريمه وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ الموصوفين بالنعوت المذكورة. ووضع (المؤمنين) موضع ضميرهم، للتنبيه على أنّ ملاك الأمر هو الإيمان، وأن المؤمن الكامل من كان كذلك، وحذف المبشر به للتعظيم، أو للعلم به، لقوله في آية الأحزاب: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً
[الأحزاب: ٤٧].
تنبيهات:
الأول- ما قدمناه من تفسير (السائحين) بالصائمين. قال الزجاج: هو قول
510
أهل التفسير واللغة جميعا. ورواه الحاكم مرفوعا، وكذلك ابن جرير. قال ابن كثير:
ووقفه أصح.
وعن ابن عباس: كل ما ذكر الله في القرآن من السياحة، فهو الصيام.
وعن الحسن: السائحون الصائمون شهر رمضان.
قال الشهاب: استعيرت السياحة للصوم لأنه يعوق عن الشهوات، كما أن السياحة تمنع عنها في الأكثر.
ونقل الرازي عن أبي مسلم أن السائحين: السائرون في الأرض، وهو مأخوذ من (السيح) سيح الماء الجاري، والمراد به من خرج مجاهدا مهاجرا. وتقريره أنه تعالى حث المؤمنين في الآية الأولى على الجهاد، ثم ذكر هذه الآية في بيان صفات المجاهدين، فينبغي أن يكونوا موصوفين بجميع هذه الصفات. وروى مثله ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن أنه قال: هم المهاجرون. وعن عكرمة أنهم المنتقلون لطلب العلم.
قال ابن كثير: جاء ما يدل على أن السياحة الجهاد،
فقد روى «١» أبو داود من حديث أبي أمامة أن رجلا قال: يا رسول الله! ائذن لي في السياحة. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلّم: سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله.
أقول: لو أخذ هذا الحديث تفسيرا للآية لالتقى مع كل ما روي عن السلف فيها، لأن الجهاد في سبيل الله، كما يطلق على قتال المشركين، يطلق على كل ما فيه مجاهدة للنفس في عبادته تعالى، ومنه الهجرة والصوم، والسفر للتفقه في الدين أو للاعتبار، بل ذلك هو الجهاد الأكبر. هذا على إرادة التوفيق بين المأثورات. أما لو أريد باللفظ أصل حقيقته اللغوية، أعني الضرب في الأرض خاصة، الذي عبر عنه عكرمة بالمنتقلين لطلب العلم، لكان بمفرده كافيا في المعنى، مشيرا إلى وصف عظيم، وهذا ما حدا بأبي مسلم أن يقتصر عليه، وهو الحق في تأويل الآية.
وقد رأيت لبعض المحققين مقالة في تأييده، يجدر بالمحقق أن يقف عليها، وهاك خلاصتها: قال: الكتاب الحكيم يأمر الإنسان كثيرا بأن يضحي قسما من حياته في السياحة والتسيار، لأجل اكتشاف الآثار، والوقوف على أخبار الأمم البائدة،
(١) أخرجه أبو داود في: الجهاد، ٦- باب النهي عن السياحة، حديث رقم ٢٤٨٦.
511
ليكون ذلك مثال عظة واعتبار، يضرب على أدمغة الجامدين بيد من حديد. ولا أريد أن أحشر للقارئ تلك الآيات، فإن ذلك يؤدي إلى التطويل، بل أريد أن أجتزئ منها بما يكفل ثبوت الدعوى، وذلك في قوله تعالى: السَّائِحُونَ... في هذه الآية، ولم يقع لفظ (سائحون) في القرآن الكريم إلا هذه المرة الفذة. ومع ذلك فقد تغلب عليها أهل التفسير، فمنهم من قال هم الصائمون، ومنهم من قال غيره. والصحيح أن (السائحون) معناه السائرون، مأخوذا من السيح وهو الجري على وجه الأرض، والذهاب فيها، وهذه المادة تشعر بالانتشار. يقال: ساح الماء أي جرى وانتشر.
والسيح أيضا الماء الجاري الذاهب بالأرض. ويطلق السائح على معنى يضاد الجامد، وهو المائع المسفوح، لأنه بانمياعه ينتشر في وعائه. وقد عهدنا بألفاظ القرآن أنها يجب حملها على ظواهرها، وعلى معانيها الحقيقة، اللهم ما لم يمنع مانع عقليّ، ولا مانع هنا من إرادة الحقيقة وعليه فيجب حمل لفظ (السائحون) على معناه الظاهر الحقيقي، وهو السائرون الذاهبون في الديار، لأجل الوقوف على الآثار، توصلا للعظة بها والاعتبار، ولغير ذلك من الفوائد التي عرفها التاريخ. وكذلك عهدنا بالمعنى المجازيّ أنه لا تجوز إرادته إلا عند قيام القرينة على منع المعنى الحقيقيّ، في حال أن الأمر هنا بالعكس، لكثرة القرائن التي تطالب بإرادة المعنى الحقيقي دون المجازي. وذلك مثل آية سِيرُوا [الأنعام: ١١ والنمل: ٦٩ والعنكبوت: ٢٠ والروم: ٤٢ وسبأ: ١٨]، أَوَلَمْ يَسِيرُوا [الروم: ٩ وفاطر: ٤٤ وغافر: ٢١]، أَفَلَمْ يَسِيرُوا [يوسف: ١٠٩ والحج: ٤٦ وغافر: ٨٢ ومحمد: ١٠]، فَسِيرُوا [آل عمران: ١٣٧] و [النحل: ٣٦]، وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ [المزمل: ٢٠]، وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ... [النساء: ١٠٠] الآية- فهذه الآيات هي قرائن نيّرة تؤذن بأن السيح معناه السير. فإنها وإن تكن من مادة أخرى، إلا أن معناها يلاقي معنى السيح. على أننا لا نعدم قرينة على ذلك من نفس المادة، وذلك كآية فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ [التوبة: ٢]، فكلمة (سيحوا) هنا تفسر السَّائِحُونَ في الآية هذه، وهم يقولون: خير ما فسرته بالوارد. وبالجملة، فصرف هذا اللفظ عن ظاهره تكسيل للأمة، وتدبير على فتور همتها، وضعف نشاطها، وحيلولة بينها وبين سعادة الإحاطة بآثار الأمم البائدة، ورؤية عمران المسكونة، الأمر الذي هو الآن الضالة المنشودة عند الغربيين، وفيه ستر لنور الكتاب الذي هو أول مرشد للعالم ألا يألوا جهدا في السير والسياحة، وأن ينقب في البلاد أي تنقيب وسيأتي تتمة لهذا في تفسير آية سائِحاتٍ [التحريم: ٥] في سورة التحريم إن شاء الله تعالى.
512
قال الرازي: للسياحة أثر عظيم في تكميل النفس، لأنه يلقاه أنواع من الضرّ والبؤس، فلا بد له من الصبر عليها، وقد يلقى أفاضل مختلفين، فيستفيد من كلّ ما ليس عند الآخر. وقد يلقى الأكابر من الناس، فيحقر نفسه في مقابلتهم. وقد يصل إلى المرادات الكثيرة، فينتفع بها. وقد يشاهد اختلاف أحوال الدنيا بسبب ما خلق الله تعالى في كل طرف من الأحوال الخاصة بهم، فتقوى معرفته. وبالجملة فالسياحة لها آثار قوية في الدين. انتهى.
وقال بعضهم: لا يعزب عنك أيها اللبيب أنه تعالى حث بني الإنسان على السفر في محكم كتابه العزيز، وندد على من ارتدى منهم رداء الكسل، وأوقع نفسه في وهدة الخمول، وتلذذ بالتقاعد عن جوب البلاد، وقطع الوهاد، فقال تعالى:
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها [الحج: ١٤٦]،
وقال صلّى الله عليه وسلّم «١» :«سافروا تصحوا واغزوا تستغنوا».
وقد تكلم كثير من العلماء والحكماء والأدباء على مزايا السفر نظما ونثرا.
ومن أجل فوائده زيادة علمه، وانتفاع غيره بما يعلمه وما يكتسبه. ومنها، وهو أعظمها، رضا ربه، ومزيد ثوابه بنفعه لعباده، وأحب عباد الله إلى الله أنفعهم لعباده.
وكذلك باتعاظه بأحوال الناس، واعتباره بأمورهم، واطلاعه في ساحته على الأسرار المكنونة، والحكم التي دبر الله بها أمر المخلوقات وأحكم بها صنع الكائنات. فمن وقف على سر الخالق زاد في تعظيمه وتقرب إليه بالطاعة والامتثال لأوامره ونواهيه، وليس بخاف ما وقع للأنبياء والمرسلين، والصحابة والتابعين، والأولياء والصالحين، من التنقلات والأسفار، في القرى والأمصار، للنظر والاعتبار.
الثاني- قال القاضي: إنما جعل ذكر الركوع والسجود، كناية عن الصلاة، لأن سائر أشكال المصلّي موافق للعادة، وهو قيامه وقعوده، والذي يخرج عن العادة في ذلك هو الركوع والسجود، وبه يتبين الفضل بين المصلي وغيره. ويمكن أن يقال:
القيام أول مراتب التواضع لله تعالى، والركوع وسطها، والسجود غايتها. فخص الركوع والسجود بالذكر، لدلالتهما على غاية التواضع والعبودية، تنبيها على أن المقصود من الصلاة نهاية الخضوع والتعظيم. ذكره الرازي.
الثالث- ذكروا في سر العطف في موضعين من هذه النعوت وجوها:
فأما الأول: أعني قوله تعالى: وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ فقالوا: سر العطف فيه
(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند ٢/ ٣٨٠. عن أبي هريرة. [.....]
513
إما الدلالة على أنه بما عطف عليه في حكم خصلة واحدة، وصفة واحدة، لأن بينهما تلازما في الذهن والخارج، لأن الأوامر تتضمن النواهي ومنافاة بحسب الظاهر، لأن أحدهما طلب فعل، والآخر طلب ترك، فكانا بين كمال الاتصال والانقطاع المقتضي للعطف، بخلاف ما قبلهما. أو لأنه، لما عدد صفاتهم، عطف هذين ليدل على أنهما شيء واحد، وخصلة واحدة، والمعدود مجموعهما، كأنه قيل: الجامعون بين الوصفين. أو العطف لما بينهما من التقابل، أو لدفع الإيهام، وهذا معنى قول (المغني) الظاهر أن العطف في هذا الوصف إنما كان من جهة أن الأمر والنهي، من حيث هما أمر ونهي، متقابلان بخلاف بقية الصفات. أو لأن الآمر بالمعروف ناه عن المنكر، وهو ترك المعروف. والناهي عن المنكر آمر بالمعروف. فأشير إلى الاعتداد بكل من الوصفين، وأنه لا يكفي فيه ما يحصل في ضمن الآخر.
وأما الثاني: أعني قوله تعالى: وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ فقيل: سر العطف فيه الإيذان بأن التعداد قد تم بالسبع، من حيث إن السبعة هو العدد التامّ، والثامن ابتداء تعداد آخر معطوف عليه، ولذلك تسمى (واو الثمانية) ونظر فيه بأن الدال على التمام لفظ (سبعة) لاستعماله في التكثير، لا معدوده. والقول بواو الثمانية ذكروه في قوله تعالى: سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف: ٢٢] وضعفه في (المغني).
وقيل: سر العطف التنبيه على أن ما قبله مفصل الفضائل، وهذا مجملها، لأنه شامل لما قبله وغيره. ومثله يؤتى به معطوفا، نحو زيد وعمرو وسائر قبيلتهما كرماء، فلمغايرته لما قبله، بالإجمال والتفصيل، والعموم، والخصوص، عطف عليه.
وقيل: بقوة الجامع بالتلازم، لأن من حصل الأوصاف السابقة، فقد حفظ حدود الله.
وقيل: المراد بحفظ الحدود ظاهره، وهي إقامة الحد، كالقصاص على من استحقه. والصفات الأولى إلى قوله الْآمِرُونَ صفات محمودة للشخص في نفسه، وهذه له باعتبار غيره، فلذا تغاير تعبير الصنفين، فترك العاطف في القسم الأول، وعطف في الثاني. ولما كان لا بد من اجتماع الأول في شيء واحد، ترك فيها العطف لشدة الاتصال، بخلاف هذه، فإنه يجوز اختلاف فاعلها ومن تعلقت به. وهذا هو الداعي لإعراب (التائبون) مبتدأ موصوفا بما بعده، و (الآمرون) خبره. فكأنه قيل:
الكاملون في أنفسهم المكملون لغيرهم. وقدم الأول لأن المكمل لا يكون مكملا حتى يكون كاملا في نفسه، وبهذا اتسق النظم أحسن نسق من غير تكلف، والله أعلم بمراده. كذا في (العناية) و (حواشي المغني).
514
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : الآيات ١١٣ الى ١١٤]
ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤)
ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ.
وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ، إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ لما بين تعالى في أول السورة وما بعدها أن البراءة من المشركين والمنافقين واجبة، بيّن سبحانه هنا ما يزيد ذلك تأكيدا. حيث نهى عن الاستغفار لهم بعد تبين شركهم وكفرهم، لأن ظهوره موجب لقطع الموالاة، حتى مع الأقرباء، لأن قرابتهم، وإن أفادتهم المناسبة بهم والرحمة بهم، فلا تفيدهم قبول نور الاستغفار إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: ٤٨] فطلب المغفرة لهم في حكم المخالفة لوعد الله ووعيده. ثم ذكر تعالى أن السبب في استغفار إبراهيم لأبيه، أنه كان لأجل وعد تقدم منه له، بقوله: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي [مريم: ٤٧]، وقوله: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ [الممتحنة: ٤]، وأنه كان قبل أن يتحقق إصراره على الشرك فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ ذلك تَبَرَّأَ مِنْهُ أي من أبيه بالكلية، فضلا عن الاستغفار له.
وبيّن تعالى الحامل لإبراهيم على الاستغفار، بأنه فرط ترحّمه وصبره بقوله: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ أي كثير التأوه من فرط الرحمة، ورقة القلب، حَلِيمٌ أي صبور على ما يعترضه من الإيذاء، ولذلك حلم عن أبيه، مع توعده له بقوله: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ [مريم: ٤٦]، واستغفر له بقوله: سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي [مريم: ٤٧]، وذلك قبل التبين، فليس لغيره أن يأتسي به في ذلك.
وفي الآية تأكيد لوجوب الاجتناب بعد التبين، بأنه صلى الله عليه وسلّم تبرأ من أبيه بعد التبين، وهو في كمال رقة القلب والحلم، فلا بد أن يكون غيره أكثر منه اجتنابا وتبرؤا.
تنبيهات:
الأول- ساق المفسرون ها هنا روايات عديدة في نزول الآية. ولما رآها بعضهم متنافية، حاول الجمع بينها بتعدد النزول، ولا تنافي، لما قدمناه من أن قولهم (نزلت
515
في كذا) قد يراد به أن حكم الآية يشمل ما وقع من كذا بمعنى أن نزولها يتناوله.
وقد يراد به (أن كذا كان سببا لنزولها) وما هنا من الأول. ونظائره كثيرة في التنزيل، وقد نبهنا عليه مرارا، لا سيما في المقدمة. فاحفظه.
الثاني- قال عطاء بن أبي الرباح: ما كنت لأدع الصلاة على أحد من أهل القبلة، ولو كانت حبشية حبلى من الزنى، لأني لم أسمع الله حجب الصلاة إلا عن المشركين، ثم قرأ الآية. وهذا فقه جيّد.
الثالث- قال بعض اليمانين: استدل بالآية على أن من تأوه في الصلاة لم تبطل. وهذا يحكى عن أبي جعفر: إذا قال (آه) لم تبطل صلاته، لأنه تعالى مدح إبراهيم عليه السلام بذلك، ومذهب الأئمة بطلانها، سواء قال (آه) أو (أوه)، لأن ذلك من كلام الناس، ولم يذكر تعالى أن تأوه إبراهيم كان في الصلاة. انتهى.
الرابع- قال في (العناية) :(أوّاه) فعّال للمبالغة من (التأوّه) وقياس فعله أن يكون ثلاثيا، لأن أمثلة المبالغة إنما يطرد أخذها منه وحكى قطرب له فعلا ثلاثيا وهو (آه يؤوه) كقام يقوم، أوها، وأنكر عليه غيره بأنه لا يقال إلا أوّه وتأوّه قال:
إذا ما قمت أرحلها بليل... تأوّه آهة الرّجل الحزين
والتأوه قول (آه) ونحوه مما يقوله الحزين، فلذا كني به عن الحزن، ورقة القلب. انتهى.
و (أوّه) بفتح الواو المشدّدة ساكنة الهاء، وأواه، وأوه بسكون الواو والحركات الثلاث قال:
فأوه على زيارة أمّ عمرو... فكيف مع العدا، ومع الوشاة؟
وربما قلبوا الواو ألفا، فقالوا: آه من كذا قال:
آه من تيّاك آها... تركت قلبي متاها
و (آه) بكسر الهاء منونة وحكي أيضا آها وواها. وفيها لغات أخرى أوصلها (التاج) إلى اثنتين وعشرين لغة، وكلها كلمات تقال عند الشكاية والتوجع والتحزن، مبنيّات على ما لزم آخرها إلا (آها) فانتصابها لإجرائها مجرى المصادر، كأنه قيل: أتأسف تأسفا.
وقوله تعالى:
516
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١١٥]
وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥)
وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ هذا من تتمة ما تقدم من تأكد مباينة المشركين، والبراءة منهم، وترك الاستغفار لهم، وذلك لأنهم حقت عليهم الكلمة، حيث قامت عليهم الحجة بإبلاغ الرسول إليهم ما يتقون، ودلالته إياهم على الصراط السوي فضلّوا عنه، فأضلهم الله، واستحقوا عقابه.
وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تعليل لما سبق، أي أنه تعالى عليم بجميع الأشياء التي من جملتها حاجتهم إلى بيان قبح ما لا يستقل العقل بمعرفته، فبين لهم ذلك، كما فعل هنا.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١١٦]
إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١١٦)
إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ تقوية لما تقدم من التبرؤ منهم، وإرشاد للمؤمنين بأن يتكلوا على ربهم، ولا يرهبوا من أولئك، فإنه إذا كان ناصرهم فلا يضرهم كيدهم، وتنبيه على لزوم امتثال أمره، والانقياد لحكمه، والتوجه إليه وحده، إذ لا يتأتى لهم ولاية ولا نصر إلا منه تعالى.
تنبيه:
وقف كثير من المفسرين بالآية هنا، أعني قوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً الآية- على ما روي في الآية قبلها، من نزولها في استغفار وقع من المؤمنين للمشركين، فربطوا هذه الآية بتلك، على الرواية المذكورة، ونزّلوها على المؤمنين، فقالوا: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً أي ليحكم عليهم باستغفارهم للمشركين بالضلال بعد إذ هداهم بالنبوة والإيمان، حتى يتقدم إليكم بالنهي عنه، فتتركوا، فأما إذا لم يبين فلا ضلال، إلى آخر ما قالوه...
وما أبعده من تفسير وتأويل والرازيّ ذكره وجها، وأشفعه بما اعتمدناه، وهو الحق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١١٧]
لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١١٧)
لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ، إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ اعلم أن الله تعالى لما بين فيما تقدم مراتب الناس في أيام غزوة تبوك، مؤمنهم ومنافقهم، والمنفق لها طوعا أو كرها، والمرغّب فيها أو عنها، والمتخلف نفاقا أو كسلا، وأنبأ عما لحق كلّا من الوعد والوعيد، وميز الصادقين من غيرهم- ختم بفرقة منهم كانوا تخلفوا ميلا للدعة. وهم صادقون في إيمانهم، ثم ندموا فتابوا وأنابوا، وعلم الله صدق توبتهم، فقبلها، ثم أنزل توبتهم في هذه الآية، وصدرها بتوبته على رسوله، وكبار صحبه جبرا لقلوبهم، وتنويها لشأنهم بضمهم مع المقطوع بالرضا عنهم وبعثا للمؤمنين على التوبة، وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار، حتى النبيّ والمهاجرين والأنصار، كل على حسبه، وإبانة لفضل التوبة ومقدارها عند الله، وأنها صفة التوابين الأوابين صفة الأنبياء، كما وصفهم بالصالحين، ليظهر فضيلة الصلاح والوصف للمدح، كما يكون لمدح الموصوف، يكون لمدح الصفة، وهذا من لطائف البلاغة، وهو كما قال حسان رضي الله عنه:
ما إن مدحت محمّدا بمقالتي لكن مدحت مقالتي بمحمّد
وفي الآية بيان فضل المهاجرين والأنصار.
قال الحاكم: ودلت على فضل عثمان، لأنه جهز جيش العسرة بمال لم يبلغ غيره مبلغه. وقد جمع تعالى بين ذكر نبيه وذكرهم، ووصفهم باتّباعه، فوجب القطع بموالاتهم.
وقوله تعالى: فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ أي في وقتها والساعة تستعمل في معنى الزمان المطلق، كما تستعمل الغداة والعشية واليوم، والعسرة حالهم في غزوة تبوك.
كانوا في عسرة من الظّهر، يعتقب العشرة على بعير واحد، وفي عسرة من الزاد، حتى
518
إن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما، وكان النفر يتدالون التمرة بينهم، يمصها هذا، ثم يشرب عليها، ثم يمصها الآخر، ثم يشرب عليها: وفي عسرة من شدة لهبان الحرّ ومن الجدب. وفي عسرة من الماء، حتى بلغ بأحدهم العطش أن نحر بعيره، فعصر فرثه فشربه، وجعل ما بقي على كبده.
وقد حكى القالي في (أماليه) أن العرب كانوا إذا أرادوا توغل الفلوات التي لا ماء فيها، سقوا الإبل على أتم أظمائها ثم قطعوا مشافرها، أو خزموها لئلا ترعى، فإذا احتاجوا إلى الماء، افتظوا كروشها، فشربوا ثميلها، وهو كثير في الأشعار. كذا في (العناية).
ونقل الرازي عن أبي مسلم أنه يجوز أن يكون المراد ب (ساعة العسرة) جميع الأحوال والأوقات الشديدة على الرسول، وعلى المؤمنين، فيدخل فيه غزوة الخندق وغيرها. وقد ذكر تعالى بعضها في كتابه كقوله سبحانه: وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ [الأحزاب: ١٠]. وقوله: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ... [آل عمران: ١٥٢] الآية- والمقصود منه وصف المهاجرين والأنصار بأنهم اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلّم في الأوقات الشديدة، والأحوال الصعبة، وذلك يفيد نهاية المدح والتعظيم. انتهى.
أقول: هذا الاحتمال، وإن كان مما يسعه اللفظ الكريم، إلا أنه يبعده عنه سياق الآية، وسياقها، القاصران على غزوة تبوك. ولم يتفق في غيرها عسر في الخروج، واتباعه عليه السلام، بل وقع أحيانا في مصاف القتال. وقد اتفق علماء الأثر والسير على تسميتها (غزوة العسرة)، ومن خرج فيها (جيش العسرة).
وقوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ أي عن الحق، أو الثبات على الاتباع للذي نالهم من المشقة والشدة في سفرهم. وفي تكرير التوبة عليهم بقوله تعالى: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ تأكيد ظاهر، واعتناء بشأنها، هذا إذا كان الضمير راجعا إلى من تقدم ذكر التوبة عنهم، وإن كان الضمير إلى الفريق الثاني، فلا تكرار.
قال بعضهم: ذكر التوبة أولا قبل ذكر الذنب، تفضلا منه، وتطييبا لقلوبهم.
ثم ذكر الذنب بعد ذلك، وأردفه بذكر التوبة مرة أخرى، تعظيما لشأنهم، وليعلموا أنه تعالى قد قبل توبتهم، وعفا عنهم. ثم أتبعه بقوله: إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ تأكيدا لذلك.
519
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١١٨]
وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨)
وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا أي تركوا وأخروا عن قبول التوبة في الحال، كما قبلت توبة أولئك المتخلفين المتقدم ذكرهم، والثلاثة هم كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، وكلهم من الأنصار، لم يقبل النبيّ صلى الله عليه وسلّم توبتهم حتى نزل القرآن بتوبتهم.
وقوله تعالى: حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ أي مع سعتها، وهو مثل الحيرة في أمرهم، كأنهم لا يجدون فيها مكانا يقرون فيه، قلقا وجزعا مما هم فيه، إذ لم يمكنهم الذهاب لأحد، لمنع النبي صلى الله عليه وسلّم من مجالستهم ومحادثتهم.
و (إذا) يجوز كونها شرطية جوابها مقدر، وأن تكون ظرفية غاية لما قبلها وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ أي قلوبهم من فرط الوحشة والجفوة والغمّ، بحيث لا يسعها أنس ولا سرور، وذلك لأنهم لازموا بيوتهم، وهجروا نحوا من خمسين ليلة، وفيه ترقّ من ضيق الأرض إلى ضيقهم في أنفسهم، وهو في غاية البلاغة وَظَنُّوا أي علموا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ أي لا مفرّ من غضب الله إِلَّا إِلَيْهِ أي إلى استغفاره ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا أي ليستقيموا على توبتهم، ويستمروا عليها، أو ليعدّوا من جملة التائبين، أو المعنى: قبل توبتهم ليتوبوا في المستقبل، إذا صدرت منهم هفوة، ولا يقنطوا من كرمه إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١١٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ أي في إيمانهم ومعاهدتهم لله ولرسوله على الطاعة. من قوله تعالى: رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب: ٢٣]، أو هم الثلاثة، أي كونوا مثلهم في صدقهم وخلوص نيتهم.
520
تنبيهات:
الأول- روى الإمام أحمد والشيخان حديث كعب وصاحبيه مبسوطا بما يوضح هذه الآية:
قال الزهريّ: أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه- وكان قائد كعب من بنيه، حين عمي- قال: سمعت كعبا يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في غزوة تبوك. قال كعب: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في غزاة غزاها قط، إلا في غزاة تبوك، غير أني كنت تخلفت في غزاة بدر، ولم يعاتب أحد تخلف عنها، وإنما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يريد عير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوّهم على غير ميعاد. ولقد شهدت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة العقبة، حين توافقنا على الإسلام، وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها وأشهر. وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في غزوة تبوك، أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزاة. والله ما جمعت قبلها راحلتين قط، حتى جمعتهما في تلك الغزاة. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قلما يريد غزوة يغزوها، إلا ورّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة، فغزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حرّ شديد، واستقبل سفرا بعيدا ومفاوز، واستقبل عدوّا كثيرا، فجلى للمسلمين أمرهم، ليتأهبوا أهبة عدوهم، فأخبرهم وجهه الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم كثير، لا يجمعهم كتاب حافظ- يريد الديوان- قال كعب: فقلّ رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى عليه، ما لم ينزل فيه وحي من الله عزّ وجلّ. وغزا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تلك الغزاة، حين طابت الثمار والظلال وأنا إليها أصعر- أي أميل- فتجهز إليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنون معه، فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقض من جهازي شيئا، فأقول لنفسي: أنا قادر على ذلك إذا أردت، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد، فأصبح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غاديا، والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئا، وقلت: أتجهز بعد يوم أو يومين، ثم ألحقه، فغدوت بعد لأتجهز، فرجعت ولم أقض شيئا، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، فهممت أن أرتحل فألحقهم- وليتني فعلت- ثم لم يقدّر ذلك لي. فكنت إذا خرجت في الناس، بعد خروج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه في النفاق، أو رجلا ممن عذره الله عز وجل. ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى بلغ تبوك. فقال (وهو جالس في القوم بتبوك) : ما فعل كعب بن مالك؟
فقال رجل من بني سلمة: حبسه يا رسول الله برداه، والنظر في عطفيه! فقال معاذ بن جبل: بئسما قلت. والله! يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا! فسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
521
قال كعب بن مالك: فلما بلغني أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد توجه قافلا من تبوك، حضرني بثّي، وطفقت أتذكر الكذب، وأقول: بم أخرج من سخطته غدا؟ وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي. فلما قيل إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أظل قادما، زاح عني الباطل، وعرفت أني لم أنج منه بشيء أبدا، فأجمعت صدقه. فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلّم- وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى ركعتين ثم جلس للناس- فلما فعل ذلك، جاءه المتخلفون، فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فيقبل منهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علانيتهم، ويستغفر لهم، ويكل سرائرهم إلى الله تعالى، حتى جئت، فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب، ثم قال لي:
تعال! فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: ما خلفك؟ ألم تكن قد اشتريت ظهرا؟ فقلت: يا رسول الله! إني لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج من سخطه بعذر. لقد أعطيت جدلا، ولكني، والله لقد علمت، لئن حدثتك اليوم بحديث كذب ترضى به عني، ليوشكنّ الله أن يسخطك عليّ. ولئن حدثتك بصدق تجد عليّ فيه، إني لأرجو عقبى ذلك من الله عزّ وجلّ. والله ما كان لي عذر، والله! ما كنت قط أفرغ ولا أيسر مني حين تخلفت عنك. قال: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك! فقمت، وقام إليّ رجال من بني سلمة، واتبعوني، فقالوا لي: والله! ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا، ولقد عجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما اعتذر به المتخلفون، فقد كان كافيك من ذنبك استغفار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لك.
قال: فو الله! ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي.
قال: ثم قلت لهم: هل لقي معي هذا أحد؟ قالوا: نعم لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت، وقيل لهما مثل ما قيل لك. فقلت: فمن هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع العامريّ، وهلال بن أمية الواقفيّ، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا، لي فيهما أسوة.
قال: فمضيت حين ذكروهما لي.
فقال: ونهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن كلامنا، أيها الثلاثة، من بين من تخلف.
فاجتنبنا الناس، وتغيروا لنا، حتى تنكرت لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي كنت أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة. فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم، فكنت أشهد الصلاة مع
522
المسلمين، وأطوف بالأسواق، فلا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأسلم وأقول في نفسي: أحرّك شفتيه بردّ السلام عليّ أم لا؟
ثم أصلي قريبا منه وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليّ، فإذا التفتّ نحوه أعرض عني. حتى إذا طال عليّ ذلك من هجر المسلمين، مشيت حتى تسورت حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي، وأحب الناس إليّ، فسلمت عليه، فو الله! ما ردّ عليّ السلام. فقلت له: يا أبا قتادة! أنشدك الله، هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ قال:
فسكت. قال: فعدت له فنشدته فسكت، فعدت له فنشدته فسكت، فقال: الله ورسوله أعلم. قال: ففاضت عيناي، وتوليت حتى تسورت الجدار. فبينا أنا أمشي بسوق المدينة، إذا أنا بنبطي من أنباط الشام، ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة، يقول:
من يدل على كعب بن مالك؟ قال: فطفق الناس يشيرون له إليّ، حتى جاء فدفع إليّ كتابا من ملك غسان، وكنت كاتبا، فإذا فيه:
(أما بعد فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، وإن الله لم يجعلك بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسيك).
قال: فقلت- حين قرأته-: وهذا أيضا من البلاء. قال: فتيممت به التنور فسجرته به. حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين، إذا برسول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأتيني يقول: يأمرك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن تعتزل امرأتك. قال: فقلت: أطلّقها أم ماذا أفعل؟ فقال: بل اعتزلها ولا تقربها. قال: وأرسل إلى صاحبيّ بمثل ذلك. قال: فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ما يشاء! قال:
فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله! إن هلالا شيخ ضعيف، ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: لا، ولكن لا يقربك! قالت: وإنه، والله! ما به من حركة إلى شيء، وإنه والله! ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا.
قال: فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في امرأتك، فقد أذن لامرأة هلال أن تخدمه. قال: فقلت: والله! لا أستأذن فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما أدري ما يقول فيها إذا استأذنته، وأنا رجل شابّ. قال: فلبثنا عشر ليال، فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى عن كلامنا.
قال: ثم صليت صلاة الصبح، صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا، فبينما أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى منا، قد ضاقت عليّ نفسي، وضاقت
523
عليّ الأرض بما رحبت، سمعت صارخا أوفى على جبل سلع، يقول بأعلى صوته:
أبشر يا كعب بن مالك! قال: فخررت ساجدا، وعرفت أن قد جاء الفرج من الله عزّ وجلّ بالتوبة علينا، فآذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر، فذهب الناس يبشروننا، وذهب قبل صاحبيّ مبشرون، وركض إليّ رجل فرسا، وسعى ساع من أسلم وأوفى على الجبل، فكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبيّ فكسوته إياهما ببشراه.
والله! ما أملك يومئذ غيرهما- واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت أؤم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئونني بتوبة الله، يقولون: ليهنك توبة الله عليك! حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلّم جالس في المسجد، والناس حوله، فقام إليّ طلحة بن عبيد الله يهرول، حتى صافحني وهنأني- والله! ما قام إليّ رجل من المهاجرين غيره- قال: فكان كعب لا ينساها لطلحة. قال كعب. فلما سلمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال (وهو يبرق وجهه من السرور) : أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمك! قال، قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال:
لا، بل من عند الله. قال، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا سرّ استنار وجهه، حتى كأنه قطعة قمر، حتى يعرف ذلك منه، فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله! إن من توبتي أن أنخلع من مالي، صدقة إلى الله وإلى رسوله: قال: أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك. قال، فقلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر. وقلت: يا رسول الله! إنما نجاني الله بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقا ما بقيت. قال، فو الله! ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله من الصدق في الحديث، منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أحسن مما أبلاني الله تعالى. والله! ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله عزّ وجلّ فيما بقي.
قال، وأنزل الله لَقَدْ تابَ اللَّهُ... إلى آخر الآيات.
قال كعب: فو الله! ما أنعم عليّ من نعمة قط، بعد أن هداني للإسلام، أعظم في نفسي من صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ ألا أكون كذبته، فأهلك كما هلك الذين كذبوه، فإن الله تعالى قال للذين كذبوه، حين أنزل الوحي، شرّ ما قال لأحد. فقال الله تعالى: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ، فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ، إِنَّهُمْ رِجْسٌ، وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ، فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ [التوبة: ٩٥- ٩٦].
524
قال: وكنا أيها الثلاثة الذين خلّفنا عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين خلفوا، فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمرنا حتى قضى الله فيه، فبذلك قال تعالى: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا وليس الذي ذكر مما خلفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا، وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له، واعتذر إليه، فقبل منه.
وفي رواية: ونهى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن كلامي، وكلام صاحبيّ، ولم ينه عن كلام أحد من المتخلفين غيرنا، فاجتنب الناس كلامنا، فلبثت كذلك حتى طال عليّ الأمر، فما من شيء أهمّ إليّ من أن أموت، فلا يصلّ عليّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. أو يموت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأكون من الناس بتلك المنزلة، فلا يكلمني أحد منهم، ولا يصلّى عليّ، ولا يسلّم عليّ.
قال: وأنزل الله عز وجل توبتنا على نبيه صلّى الله عليه وسلّم حين بقي الثلث الأخير من الليل، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند أم سلمة، وكانت أم سلمة محسنة في شأني، معتنية بأمري. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا أم سلمة تيب على كعب بن مالك. قالت: أفلا أرسل إليه فأبشره؟ قال: إذا يحطمكم الناس فيمنعونكم النوم سائر الليل. حتى إذا صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة الفجر، آذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بتوبة الله علينا- أخرجه البخاري ومسلم-.
قال ابن كثير: هذا حديث صحيح ثابت متفق على صحته، وقد تضمن تفسير الآية بأحسن الوجوه وأبسطها.
الثاني- قال بعض المفسرين: في الآية دليل على الشدة على من فعل الخطيئة، وعلى قطع ما يلهي عن الطاعة.
الثالث- في الآية دلالة على التحريض على الصدق.
قال القاشانيّ: في قوله تعالى هنا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ أي في جميع الرذائل بالاجتناب عنها، خاصة رذيلة الكذب. وذلك معنى قوله وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ فإن الكذب أسوأ الرذائل وأقبحها، لكونه ينافي المروءة. وقد قيل: (لا مروءة لكذوب) إذ المراد من الكلام الذي يتميز به الإنسان عن سائر الحيوان إخبار الغير عما لا يعلم، فإذا كان الخبر غير مطابق، لم تحصل فائدة النطق، وحصل منه اعتقاد غير مطابق، وذلك من خواص الشيطنة فالكاذب شيطان. وكما أن الكذب أقبح الرذائل، فالصدق أحسن الفضائل، وأصل كل حسنة، ومادة كل خصلة
525
محمودة، وملاك كل خير وسعادة، به يحصل كل كمال، وأصله الصدق في عهد الله تعالى الذي هو نتيجة الوفاء بميثاق الفطرة أو نفسه، كما قال: رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب: ٢٣] في عقد العزيمة، ووعد الخليقة. كما قال في إسماعيل: إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ [مريم: ٥٤]. وإذا روعي في المواطن كلها، حتى الخاطر والفكر والنية والقول والعمل، صدقت المنامات والواردات، والأحوال والمقامات والمواهب والمشاهدات، كأنه أصل شجرة الكمال، وبذر ثمرة الأحوال.
انتهى.
ولما أوجب تعالى الكون مع الصادقين، أشار تعالى إلى أن النفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم واجب كفاية، فلا يجوز تخلف الجميع، ولا يلزم النفر للناس كافة، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١٢٠]
ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠)
ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ أي المتيسر لهم ملازمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصحابته وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أي عند توجهه إلى الغزو وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ أي لا يضنوا بأنفسهم عما يصيب نفسه. أي لا يختاروا إبقاء أنفسهم على نفسه في الشدائد.
قال الزمخشري: أمروا بأن يصحبوه على البأساء والضراء، وأن يكابدوا معه الأهوال برغبة ونشاط واغتباط، وأن يلقوا أنفسهم من الشدائد ما تلقاه نفسه، علما بأنها أعز نفس عند الله وأكرمها عليه، فإذا تعرضت، مع كرامتها وعزتها، للخوض في شدة وهول، وجب على سائر الأنفس أن تتهافت فيما تعرضت له، ولا يكترث لها أصحابها، ولا يقيموا لها وزنا، وتكون أخف شيء عليهم وأهونه، فضلا عن أن يربئوا بأنفسهم عن متابعتها ومصاحبتها، ويضنوا بها على ما سمح بنفسه عليه. وهذا نهي بليغ، مع تقبيح لأمرهم، وتوبيخ لهم عليه، وتهييج لمتابعته بأنفة وحمية. انتهى.
526
روي أن أبا ذر رضي الله عنه، أبطأ به بعيره، فحمل متاعه على ظهره، واتبع أثر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ماشيا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما رأى سواده: كن أبا ذر! فقال الناس:
هو ذاك! فقال: رحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده.
وروي أن أبا خيثمة الأنصاري رضي الله عنه، بلغ بستانه، وكانت له امرأة حسناء فرشت له في الظل، وبسطت له الحصير، وقربت إليه الرطب، والماء البارد. فنظر فقال: ظل ظليل، ورطب يانع، وماء بارد، وامرأة حسناء، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الضح والريح، ما هذا بخير! فقام فرحل ناقته، وأخذ سيفه ورمحه، ومرّ كالريح.
فمدّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طرفه إلى الطريق، فإذا براكب يزهاه السراب، فقال: كن أبا خيثمة! فكأنه، ففرح به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واستغفر له.
قال السهيليّ في (الروض) : كن أبا ذر، كن أبا خيثمة، لفظه لفظ الأمر، ومعناه كما تقول: أسلم، أي سلمك الله- انتهى-.
وكذا قال غيره من المتقدمين كالفارسي وذكره المطرزي في قول الحريري:
كن أبا زيد.
وفي شعر ابن هلال:
ومعذّر قال الإله لحسنه:... كن فتنة للعالمين فكأنها
ولم يزيدوا في بيانه على هذا. وهو تركيب بديع غريب. ومعناه ساقه الله إلينا، وجعله إياه، ليكون هو القادم علينا. فأقيم فيه العلة مقام المعلول في الجملة الدعائية الإنشائية، على حد
قوله في الحديث «١» : أبل، وأخلق.
أي عمرك الله، ومتعك الله بلباسك لتبلى وتخلق. وقولهم: أسلم. أي سلمك الله لتسلم. ثم لما أقيم مقامه أبقي مسندا إلى فاعله، وإن كان المطلوب منه هو الله، وهو قريب من قولهم (لا أرينّك ها هنا) أي لا تجلس حتى أراك. وهو تمثيل أو كناية. كذا في (العناية).
ذلِكَ إشارة إلى ما دل عليه قوله ما كانَ من النهي عن التخلف أو وجوب المشابهة بِأَنَّهُمْ أي بسبب أنهم لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ أي شيء من العطش وَلا نَصَبٌ أي تعب من السير لا سيما مع العطش وَلا مَخْمَصَةٌ أي مجاعة
(١) الحديث أخرجه البخاري في: الجهاد، ١٨٨- باب من تكلم بالفارسية والرطانة، والحديث رقم ١٤٥٥.
527
تضعفهم عن السير فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً أي لا يدوسون مكانا يَغِيظُ الْكُفَّارَ أي الذين هم أعداء الله. وإغضاب العدوّ يفيد رضا عدوّه وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا أي قتلا أو هزيمة أو أسرا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ أي على إحسانهم. وهو تعليل ل كُتِبَ، وتنبيه على أن تحمل المشاق إحسان، لأن القصد به إعلاء كلمة الله تعالى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١٢١]
وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١)
وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً أي لا يشق مثلها وَلا كَبِيرَةً مثل ما أنفق عثمان رضي الله عنه في غزوة تبوك، وهو ألف دينار وثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً في مسيرهم، وهو كل منفرج ينفذ فيه السيل. اسم فاعل من (ودى) إذا سال، فهو السيل نفسه، ثم شاع في محله، ثم صار حقيقة في مطلق الأرض، وجمعه (أودية) كناد، بمجلس، جمعه (أندية)، وناج جمعه (أنجية) ولا رابع لها في كلام العرب إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ أي أثبت لهم به عمل صالح لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي ليجزيهم على كل عمل لهم، كامل أو قاصر، جزاء أحسن أعمالهم. أي فإذا مالوا بأنفسهم فاتهم ذلك، وكانت المؤاخذة عليهم أشد.
ولما بين تعالى، فيما تقدم، خطر التخلف عن الرسول في الجهاد، وشدّد الوعيد على المتخلفين التاركين للنفير، دفع ما يتوهم من وجوب النفر على الجميع، وفيه ما فيه من الحرج، والإخلال بأمر المعاش، بأن وجوبه كفائي، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١٢٢]
وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢)
وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً أي ما صح لهم ذلك ولا استقام، بحيث تخلو بلدانهم عن الناس فَلَوْلا نَفَرَ أي فحين لم يمكن نفير الكافة، ولم يكن مصلحة، فهلا نفر مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ أي من كل جماعة كثيرة، جماعة قليلة
528
منهم يكفونهم النفير لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ أي ليتعلموا أمر الدين من النبي صلّى الله عليه وسلّم وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ أي يعلموهم ويخبروهم ما أمروا به، وما نهوا عنه إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ أي من غزوتهم لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ أي فيصلحون أعمالهم.
تنبيهات:
الأول- قال السيوطي في (الإكليل) : في الآية أن الجهاد فرض كفاية، وأن التفقه في الدين، ونشر العلم، وتعليم الجاهلين كذلك. وفيها الرحلة في طلب العلم. واستدل بها قوم على قبول خبر الواحد، لأن الطائفة نفر يسير، بل قال مجاهد: إنها تطلق على الواحد. انتهى.
وقال الجصّاص في (الأحكام) : في الآية دلالة على لزوم خبر الواحد في الديانات التي لا تلزم العامة، ولا تعمّ الحاجة إليها، وذلك لأن الطائفة لما كانت مأمورة بالإنذار انتظم فحوى الدلالة عليه من وجهين:
أحدهما- أن الإنذار يقتضي فعل المأمور به، وإلا لم يكن إنذارا.
والثاني- أمره إيانا بالحذر عند إنذار الطائفة، لأن معنى قوله: لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ليحذروا. وذلك يتضمن لزوم العمل بخبر الواحد، لأن الطائفة تقع على الواحد، فدلالتها ظاهرة. انتهى.
وفي القاموس: أن الطائفة من الشيء القطعة منه، أو الواحدة، فصاعدا، أو إلى الألف، أو أقلها رجلان، أو رجل. فيكون بمعنى (النفس الطائفة).
قال الراغب: إذا أريد بالطائفة الجمع، فجمع (طائف) وإذا أريد به الواحد، فيصح أن يكون جمعا، وكني به عن الواحد، وأن يجعل ك (رواية) و (علّامة) ونحو ذلك.
الثاني- إن قيل: كان الظاهر في الآية (ليتفقهوا في الدين وليعلموا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يفقهون) فلم وضع موضع (التعليم) الإنذار، وموضع (يفقهون) يحذرون؟ يجاب. بأن ذلك آذن بالغرض منه، وهو اكتساب خشية الله، والحذر من بأسه.
قال الغزالي رحمه الله: كان اسم الفقه في العصر الأول، اسما لعلم الآخرة، ومعرفة دقائق آفات النفوس، ومفسدة الأعمال، والإحاطة بحقارة الدنيا، وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة، واستيلاء الخوف على القلب. ويدل عليه هذه الآية. كذا في (العناية).
529
قال الزمخشري في الآية: وليجعلوا غرضهم ومرمى همتهم في التفقه، إنذار قومهم وإرشادهم والنصيحة لهم. لا ما ينتحيه الفقهاء من الأغراض الخسيسة، ويؤمونه من المقاصد الركيكة، من التصدر والترؤس والتبسط في البلاد، والتشبه بالظلمة في ملابسهم ومراكبهم، ومنافسة بعضهم بعضا، وفشوّ داء الضرائر بينهم، وانقلاب حماليق أحدهم إذا لمح ببصره مدرسة لآخر، أو شرذمة جثوا بين يديه.
وتهالكه على أن يكون موطّأ العقب دون الناس كلهم. فما أبعد هؤلاء من قوله عز وجل: لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً [القصص: ٨٣] انتهى.
الثالث- قال القاشاني في الآية: يجب على كل مستعد من جماعة، سلوك طريق طلب العلم، إذا لا يمكن لجميعهم. أما ظاهرا فلفوات المصالح، وأما باطنا فلعدم الاستعداد. ثم قال: والتفقه في الدين هو من علوم القلب، لا من علوم الكسب، إذ ليس كل من يكتسب العلم يتفقه، كما قال: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ [الأنعام: ٢٥] و [الإسراء: ٤٦]، والأكنة هي الغشاوات الطبيعية، والحجب النفسانية فمن أراد التفقه فلينفر في سبيل الله، وليسلك طريق التزكية والتصفية، حتى يظهر العلم من قلبه على لسانه، فالمراد من التفقه علم راسخ في القلب، ضارب بعروقه في النفس، ظاهر أثره على الجوارح، بحيث لا يمكن صاحبه ارتكاب ما يخالف ذلك العلم، وإلا لم يكن عالما. ألا ترى كيف سلب الله الفقه عمن لم تكن رهبة الله أغلب عليه من رهبة الناس بقوله: لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ [الحشر: ١٣]، لكون رهبة الله لازمة للعلم، كما قال:
إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: ٢٨] وسلب العلم عمن لم يعمل به في قوله: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر: ٩]، وإذا تفقهوا، وظهر علمهم على جوارحهم، أثّر في غيرهم، وتأثروا منه، لارتوائهم به، وترشحهم منه، كما كان حال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلزم الإنذار الذي هو غايته. انتهى.
ولما أمر تعالى، في صدر السورة، بالبراءة من مشركي العرب وقتالهم، ثم شرح أحوال المنافقين ومخازيهم، أشار إلى خاتمتها بما يطابق فاتحتها بذلك، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١٢٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ أي يقربون منكم، وهم مشركو جزيرة العرب، كما قلنا.
وقوله تعالى: وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً قالوا إنها كلمة جامعة للجرأة والصبر على القتال، وشدة العداوة، والعنف في القتل والأسر. وظاهرها أمر الكفار بأن يجدوا في المؤمنين غلظة، والمقصود أمر المؤمنين بالاتصاف بصفات كالصبر وما معه، حتى يجدهم الكفار متصفين بها، فهي على حدّ قولهم: لا أرينك هاهنا. والغلظة هي ضد الرقة، مثلثة الغين، وبها قرئ. لكن السبعة، على الكسر وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ أي بالنصرة والمعونة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١٢٤]
وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤)
وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أي طائفة من القرآن المعجز المحيط بجملة من الحجج ورفع الشبه فَمِنْهُمْ أي من المنافقين مَنْ يَقُولُ بعضهم لبعض أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ أي السورة إِيماناً إنكارا واستهزاء بالمؤمنين، واعتقادهم زيادة الإيمان بزيادة العلم الحاصل بالوحي والعمل به فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً لأنها أزيد لليقين والثبات، وأثلج للصدر، لكثرة الدلائل، ورفع الشبهة وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ أي بنزولها وبما فيه من المنافع الدينية والدنيوية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١٢٥]
وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (١٢٥)
وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي كفر وسوء عقيدة فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ أي كفرا بها مضموما إلى الكفر بغيرها وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ أي واستحكم ذلك الكفر فيهم، بسبب الزيادة إلى موتهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١٢٦]
أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦)
أَوَلا يَرَوْنَ يعني المنافقين أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ أي يبتلون بإظهار مكرهم
وخيانتهم، أو بنقض عهدهم فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ أي من صنيعهم ونقض عهدهم وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ أي يتعظون بأنها آيات قاطعة، وكون الابتلاء بسبب مخالفتها.
ثم بيّن أحوالهم عند نزولها وهم في محفل تبليغ الوحي، إثر بيان مقالتهم، وهمّ غائبون عنه بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١٢٧]
وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٢٧)
وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ قال الزمخشري:
يعني تغامزوا بالعيون إنكارا للوحي، وسخرية به، قائلين: هل يراكم من أحد من المسلمين لننصرف، فإنا لا نصبر على استماعه، ويغلبنا الضحك، فنخاف الافتضاح بينهم. أو ترامقوا يتشاورون في تدبير الخروج والانسلال لواذا. يقولون: هل يراكم من أحد ثُمَّ انْصَرَفُوا أي عن محفل الوحي خوفا من الافتضاح صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ أي عن الإيمان حسب انصرافهم عن حضرته عليه السلام. والجملة إخبارية أو دعائية بِأَنَّهُمْ أي بسبب أنهم قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ أي لا يتدبرون أمر الله حتى يفقهوا.
تنبيهات:
الأول- دلت الآية المتقدمة على زيادة الإيمان بما ذكر، وسواء قلنا بدخول الأعمال في مسمى الإيمان، وهو الحق، أو لا، وأنه مجرد التصديق القلبي، فالزيادة مما يقبلها قطعا، والأول بديهي، والثاني مثله، إذ ليس إيمان الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، والصحابة رضي الله عنهم، كإيمان غيرهم وهذا مما لا يرتاب فيه.
الثاني- ذكر تعالى من مخازي المنافقين نوعين: عدم اعتبارهم بالابتلاء، وتمكن الكفر منهم، وازدياده في وقت يقتضي زيادة الإيمان، وهو تكرير التنزيل.
ولما كان القصد بيان إصرارهم على كفرهم، وعدم نفع العظات فيهم، ختم مخازيهم بذلك، لأنه نتيجتها. وقدم عليه ما يصيبهم من الابتلاء، لأن فيه ردعا عظيما لو تذكروا.
وقد تلطف القاشاني في إيضاح ذلك، وجود التقرير فيه، وعبارته:
البلاء قائد من الله تعالى يقود الناس إليه. وقد ورد في الحديث: (البلاء سوط
من سياط الله تعالى يسوق به عباده إليه)، فإن كل مرض وفقر وسوء حال يحل بأحد، يكسر سورة نفسه وقواها، ويقمع صفاتها وهواها، فيلين القلب، ويبرز من حجابها، وينزعج من الركون إلى الدنيا ولذاتها، وينقبض منها ويشمئز، فيتوجه إلى الله. وأقل درجاته أنه إذا اطّلع على أن لا مفر منه إلا إليه، ولم يجد مهربا ومحيصا من البلاء سواه، تضرع إليه وتذلل بين يديه، كما قال: وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [لقمان: ٣٢] وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً [يونس: ١٢] وبالجملة يوجب رقة الحجاب أو ارتفاعه، فليغتنم وقته وليتعوّد، وليتخذ ملكة يعود إليها أبدا حتى يستقر التيقظ والتذكر، وتتسهل التوبة والحضور، فلا يتعوذ الغفلة عند الخلاص فتغلب، وتتقوى النفس عند الأمان، وينسبل الحجاب أغلظ مما كان، كما قال: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت: ٦٥] فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ [يونس: ١٢] انتهى.
الثالث- قال السيوطي في (الإكليل) : أخذ ابن عباس من قوله ثُمَّ انْصَرَفُوا كراهية أن يقال: انصرفت من الصلاة- أخرجه ابن أبي حاتم- ومرجع هذا إلى أدب لفظي، باجتناب ما يوهم، أو ما نعي به على العصاة.
وقد عقد الإمام ابن القيم في (زاد المعاد) فصلا في هدي النبي صلّى الله عليه وسلّم في حفظ المنطق، واختيار الألفاظ، فليراجع.
ثم بيّن تعالى ما امتن به على المؤمنين من بعثة خاتم النبيين بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١٢٨]
لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨)
لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي رسول عظيم من جنسكم، ومن نسبكم، عربيّ قرشيّ مثلكم، كما قال إبراهيم عليه السلام: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة: ١٢٩] وقال تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمران: ١٦٤].
وكلّم جعفر بن أبي طالب النجاشي، والمغيرة بن شعبة رسول كسرى، فقالا:
إن الله بعث فينا رسولا منا، نعرف نسبه وصفته ومدخله ومخرجه وصدقه وأمانته...
الحديث.
ثم ذكر تعالى ما يتبع المجانسة والمناسبة من النتائج بقوله عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ أي شديد عليه شاق، لكونه بعضا منكم، عنتكم ولقاؤكم المكروه، فهو يخاف عليكم سوء العاقبة، والوقوع في العذاب حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ أي على هدايتكم، كي لا يخرج أحد منكم عن اتباعه، والاستسعاد بدين الحق الذي جاء به بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ إذ يدعوهم لما ينجيهم من العقاب بالتحذير عن الذنوب والمعاصي، لفرط رأفته رَحِيمٌ إذ يفيض عليهم العلوم والمعارف والكمالات المقربة بالتعليم والترغيب فيها، برحمته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١٢٩]
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩)
فَإِنْ تَوَلَّوْا أي أعرضوا عن الإيمان بك، وناصبوك فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ أي فاستعن به، وفوض إليه، فهو كافيك وناصرك عليهم.
وقال القاشاني: أي لا حاجة لي بكم، ولا باستعانتكم، كما لا حاجة للإنسان إلى العضو المألوم المتعفّن الذي يجب قطعه عقلا. أي الله كافيني فلا مؤثر غيره، ولا ناصر إلا هو كما قال: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ أي فوضت أمري إليه، وبه وثقت وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أي المحيط بكل شيء، يأتي منه حكمه وأمره إلى الكل. وتخصيصه لكونه أعظم المخلوقات، فيدخل ما دونه، وقرئ (العظيم) بالرفع، على أنه صفة الرب جل وعزّ.
ثم ما علقناه على سورة التوبة صباح الاثنين في ٢٤ رجب سنة ١٣٢٢ هـ في سدة جامع السنانية بدمشق الشام اللهم يسر لنا بفضلك الإتمام. والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وآله أجمعين إلى يوم الدين ويليه الجزء السادس وفيه تفسير سور: يونس وهود ويوسف والرعد.
534
فهرس الجزء الخامس
من كتاب تفسير القاسمي المسمى محاسن التأويل
535
فهرس الجزء الخامس سورة الأعراف الآيات ١- ٣ ٤ الآيات ٤- ٦ ٥ الآيات ٧- ٩ ٦ الآيتان ١٠ و ١١ ١١ الآية ١٢ ١٢ الآيات ١٣- ١٥ ١٩ الآية ١٦ ٢٠ الآية ١٧ ٢١ الآية ١٨ ٢٢ الآيتان ١٩- ٢٠ ٢٣ الآيتان ٢١ و ٢٢ ٢٥ الآيتان ٢٣ و ٢٤ ٢٦ الآيتان ٢٥ و ٢٦ ٢٧ الآية ٢٧ ٣٠ الآية ٢٨ ٣٢ الآية ٢٩ ٣٥ الآية ٣٠ ٣٦ الآية ٣١ ٣٧ الآية ٣٢ ٤٦ الآية ٣٣ ٤٨ الآية ٣٤ ٤٩ الآية ٣٥ ٥٠ الآية ٣٦ ٥١ الآيتان ٣٧ و ٣٨ ٥٢ الآية ٣٩ ٥٣ الآية ٤٠ ٥٤ الآيتان ٤١ و ٤٢ ٥٨ الآية ٤٣ ٥٩ الآيتان ٤٤ و ٤٥ ٦٠ الآية ٤٦ ٦١ الآية ٤٧ ٦٢ الآيتان ٤٨ و ٤٩ ٦٣ الآيتان ٥٠ و ٥١ ٦٤ الآيتان ٥٢ و ٥٣ ٦٦ الآية ٥٤ ٦٧ الآية ٥٥ ١٠٢ الآية ٥٦ ١٠٤ الآية ٥٧ ١٠٦ الآية ٥٨ ١٠٧ الآية ٥٩ ١٠٩ الآية ٦٠ ١١٠ الآيتان ٦١ و ٦٢ ١١١ الآيتان ٦٣ و ٦٤ ١١٢ الآية ٦٥ ١١٣
537
الآيات ٦٦- ٦٨ ١١٥ الآية ٦٩ ١١٦ الآية ٧٠ ١١٧ الآية ٧١ ١١٨ الآية ٧٢ ١١٩ الآية ٧٣ ١٢٥ الآية ٧٤ ١٢٦ الآية ٧٥ ١٢٧ الآيتان ٧٦ و ٧٧ ١٢٨ الآيتان ٧٨ و ٧٩ ١٢٩ الآية ٨٠ ١٣٧ الآية ٨١ ١٣٨ الآية ٨٢ ١٣٩ الآيتان ٨٣ و ٨٤ ١٤٢ الآية ٨٥ ١٤٦ الآية ٨٦ ١٤٧ الآيتان ٨٧ و ٨٨ ١٤٨ الآية ٨٩ ١٤٩ الآيات ٩٠- ٩٢ ١٥٤ الآية ٩٣ ١٥٥ الآيتان ٩٤ و ٩٥ ١٥٦ الآيات ٩٦- ٩٨ ١٥٨ الآية ٩٩ ١٥٩ الآية ١٠٠ ١٦٠ الآيات ١٠١- ١٠٣ ١٦١ الآيتان ١٠٤ و ١٠٥ ١٦٢ الآيات ١٠٦- ١١٠ ١٦٣ الآيتان ١١١ و ١١٢ ١٦٤ الآيات ١١٣- ١١٦ ١٦٥ الآيات ١١٧- ١١٩ ١٦٦ الآيات ١٢٠- ١٢٤ ١٦٧ الآيات ١٢٥- ١٢٧ ١٦٨ الآية ١٢٨ ١٦٩ الآيات ١٢٩- ١٣١ ١٧٠ الآيتان ١٣٢ و ١٣٣ ١٧١ الآيتان ١٣٤ و ١٣٥ ١٧٢ الآية ١٣٦ ١٧٣ الآية ١٣٧ ١٧٤ الآيتان ١٣٨ و ١٣٩ ١٧٥ الآية ١٤٠ ١٧٦ الآيتان ١٤١ و ١٤٢ ١٧٧ الآية ١٤٣ ١٧٨ الآية ١٤٤ ١٨١ الآيتان ١٤٥ و ١٤٦ ١٨٢ الآية ١٤٧ ١٨٣ الآية ١٤٨ ١٨٤ الآية ١٤٩ ١٨٥ الآية ١٥٠ ١٨٧ الآيتان ١٥١ و ١٥٢ ١٨٨ الآيتان ١٥٣ و ١٥٤ ١٨٩ الآية ١٥٥ ١٩٠ الآية ١٥٦ ١٩٢
538
الآية ١٥٧ ١٩٣ الآية ١٥٨ ٢٠٦ الآيتان ١٥٩ و ١٦٠ ٢٠٧ الآيات ١٦١- ١٦٣ ٢٠٨ الآيات ١٦٤- ١٦٦ ٢١٠ الآية ١٦٧ ٢١٣ الآيتان ١٦٨ و ١٦٩ ٢١٤ الآية ١٧٠ ٢١٥ الآيتان ١٧١ و ١٧٢ ٢١٦ الآية ١٧٣ ٢١٨ الآيات ١٧٤- ١٧٦ ٢٢٢ الآية ١٧٧ ٢٢٣ الآيتان ١٧٨ و ١٧٩ ٢٢٥ الآية ١٨٠ ٢٢٦ الآية ١٨١ ٢٢٩ الآيات ١٨٢- ١٨٤ ٢٣٠ الآيتان ١٨٥ و ١٨٦ ٢٣١ الآية ١٨٧ ٢٣٢ الآية ١٨٨ ٢٣٣ الآية ١٨٩ ٢٣٤ الآية ١٩٠ ٢٣٥ الآيتان ١٩١ و ١٩٢ ٢٣٧ الآيتان ١٩٣ و ١٩٤ ٢٣٨ الآية ١٩٥ ٢٣٩ الآية ١٩٦ ٢٤٠ الآيتان ١٩٧ و ١٩٨ ٢٤١ الآية ١٩٩ ٢٤٢ الآيتان ٢٠٠ و ٢٠١ ٢٤٣ الآيتان ٢٠٢ و ٢٠٣ ٢٤٤ الآية ٢٠٤ ٢٤٥ الآية ٢٠٥ ٢٤٧ الآية ٢٠٦ ٢٤٩ سورة الأنفال الآية ١ ٢٥٢ الآية ٢ ٢٥٥ الآيتان ٣ و ٤ ٢٥٦ الآية ٥ ٢٥٩ الآيتان ٦- ٨ ٢٦٠ الآية ٩ ٢٦١ الآيتان ١٠ و ١١ ٢٦٣ الآية ١٢ ٢٦٤ الآيات ١٣- ١٥ ٢٦٥ الآية ١٦ ٢٦٦ الآية ١٧ ٢٦٩ الآيتان ١٨ و ١٩ ٢٧١ الآية ٢٠ ٢٧٢ الآيات ٢١- ٢٣ ٢٧٣ الآية ٢٤ ٢٧٤ الآية ٢٥ ٢٧٧ الآية ٢٦ ٢٧٨ الآية ٢٧ ٢٧٩ الآيتان ٢٨ و ٢٩ ٢٨٠
539
الآية ٣٠ ٢٨١ الآية ٣١ ٢٨٢ الآية ٣٢ ٢٨٣ الآية ٣٣ ٢٨٥ الآية ٣٤ ٢٨٦ الآية ٣٥ ٢٨٧ الآية ٣٦ ٢٩٠ الآية ٣٧ ٢٩١ الآيتان ٣٨ و ٣٩ ٢٩٢ الآيتان ٤٠ و ٤١ ٣٩٣ الآية ٤٢ ٢٩٩ الآيتان ٤٣ و ٤٤ ٣٠٢ الآيتان ٤٥ و ٤٦ ٣٠٤ الآيتان ٤٧ و ٤٨ ٣٠٦ الآيتان ٤٩ و ٥٠ ٣٠٨ الآية ٥١ ٣٠٩ الآيتان ٥٢ و ٥٣ ٣١٠ الآية ٥٤ ٣١١ الآيتان ٥٥ و ٥٦ ٣١٢ الآيتان ٥٧ و ٥٨ ٣١٣ الآيتان ٥٩ و ٦٠ ٣١٥ الآية ٦١ ٣١٧ الآيتان ٦٢ و ٦٣ ٣١٨ الآية ٦٤ ٣٢٠ الآية ٦٥ ٣٢١ الآية ٦٦ ٣٢٢ الآية ٦٧ ٣٢٥ الآية ٦٨ ٣٢٦ الآيتان ٦٩ و ٧٠ ٣٢٨ الآية ٧١ ٣٢٩ الآية ٧٢ ٣٣١ الآية ٧٣ ٣٣٥ الآيتان ٧٤ و ٧٥ ٣٣٦ سورة التوبة الآية ١ ٣٤٥ الآية ٢ ٣٤٧ الآية ٣ ٣٤٨ الآيتان ٤ و ٥ ٣٥١ الآية ٦ ٣٥٥ الآيتان ٧ و ٨ ٣٥٧ الآيتان ٩- ١١ ٣٥٨ الآيتان ١٢ و ١٣ ٣٥٩ الآيتان ١٤ و ١٥ ٣٦٠ الآيتان ١٦ و ١٧ ٣٦١ الآية ١٨ ٣٦٢ الآية ١٩ ٣٦٤ الآية ٢٠ ٣٦٥ الآيات ٢١- ٢٤ ٣٦٦ الآيتان ٢٥ و ٢٦ ٣٦٨ الآية ٢٧ ٣٦٩ الآية ٢٨ ٣٧٤ الآية ٢٩ ٣٧٧
540
الآية ٣٠ ٣٩٠ الآية ٣١ ٣٩٣ الآية ٣٢ ٣٩٦ الآية ٣٣ ٣٩٧ الآية ٣٤ ٣٩٩ الآية ٣٥ ٤٠٠ الآية ٣٦ ٤٠٧ الآية ٣٧ ٤٠٨ الآية ٣٨ ٤١٦ الآية ٣٩ ٤١٧ الآية ٤٠ ٤١٨ الآية ٤١ ٤٢٠ الآية ٤٢ ٤٢٢ الآيتان ٤٣ و ٤٤ ٤٢٣ الآية ٤٥ ٤٢٤ الآية ٤٦ ٤٢٧ الآية ٤٧ ٤٢٨ الآية ٤٨ ٤٢٩ الآية ٤٩ ٤٣٠ الآية ٥٠ ٤٣١ الآيات ٥١- ٥٣ ٤٣٢ الآية ٥٤ ٤٣٣ الآيتان ٥٥ و ٥٦ ٤٣٤ الآيات ٥٧- ٥٩ ٤٣٥ الآية ٦٠ ٤٣٦ الآية ٦١ ٤٤٢ الآية ٦٢ ٤٤٦ الآيتان ٦٣ و ٦٤ ٤٤٧ الآيتان ٦٥ و ٦٦ ٤٤٨ الآية ٦٧ ٤٥٠ الآيتان ٦٨ و ٦٩ ٤٥١ الآيتان ٧٠ و ٧١ ٤٥٣ الآية ٧٢ ٤٥٤ الآية ٧٣ ٤٥٥ الآية ٧٤ ٤٥٦ الآيات ٧٥- ٧٧ ٤٥٨ الآية ٧٨ ٤٥٩ الآية ٧٩ ٤٦١ الآية ٨٠ ٤٦٣ الآية ٨١ ٤٦٦ الآيتان ٨٢ و ٨٣ ٤٦٩ الآية ٨٤ ٤٧٠ الآية ٨٥ ٤٧٣ الآيتان ٨٦ و ٨٧ ٤٧٤ الآيات ٨٨- ٩٠ ٤٧٥ الآية ٩١ ٤٧٦ الآية ٩٢ ٤٧٧ الآية ٩٣ ٤٧٩ الآيتان ٩٤ و ٩٥ ٤٨٠ الآيتان ٩٦ و ٩٧ ٤٨١ الآية ٩٨ ٤٨٣ الآية ٩٩ ٤٨٤
541
الآية ١٠٠ ٤٨٥ الآية ١٠١ ٤٨٦ الآية ١٠٢ ٤٨٩ الآية ١٠٣ ٤٩٢ الآية ١٠٤ ٤٩٥ الآية ١٠٥ ٤٩٧ الآية ١٠٦ ٤٩٨ الآيتان ١٠٧ و ١٠٨ ٥٠٠ الآيتان ١٠٩ و ١١٠ ٥٠١ الآية ١١١ ٥٠٨ الآية ١١٢ ٥١٠ الآيتان ١١٣ و ١١٤ ٥١٥ الآيتان ١١٥ و ١١٦ ٥١٧ الآية ١١٧ ٥١٨ الآيتان ١١٨ و ١١٩ ٥٢٠ الآية ١٢٠ ٥٢٦ الآيتان ١٢١ و ١٢٢ ٥٢٨ الآية ١٢٣ ٥٣٠ الآيات ١٢٤- ١٢٦ ٥٣١ الآية ١٢٧ ٥٣٢ الآية ١٢٨ ٥٣٣ الآية ١٢٩ ٣٤
542

[المجلد السادس]

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة يونس
سميت به، عليه السّلام، لتضمنها قوله: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ [يونس: ٩٨]، ففيه غاية ما يفيد فيه الإيمان وضرر تركه وتأخيره، وهو المقصد الأعلى من إنزال الكتاب- قاله المهايميّ-.
وهذه السورة مكية، واستثنى منها قوله تعالى: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ...
[يونس: ٩٤- ٩٥]. الآيتين. وقوله: وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ... [يونس: ٤٠] الآية، قيل: نزلت في اليهود. وقيل: من أولها إلى رأس أربعين مكيّ، والباقي مدنيّ- حكاه ابن الفرس والسخاويّ في (جمال القراء).
وآياتها مائة وتسعة.
3
Icon