تفسير سورة سورة التوبة من كتاب محاسن التأويل
المعروف بـتفسير القاسمي
.
لمؤلفه
جمال الدين القاسمي
.
المتوفي سنة 1332 هـ
٩- سورة التوبة
هي مدنية بإجماعهم. قيل : سوى آيتين في آخرها١ ﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم... ﴾ فإنهما نزلتا بمكة. وفيه نظر. فقد روى البخاري٢ عن البراء " أنها آخر سورة نزلت "، واستثنى بعضهم ﴿ ما كان للنبي... ﴾ ٣ الآية - لما ورد أنها نزلت في قوله عليه الصلاة والسلام لأبي طالب :" لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ". وهي مائة وتسع وعشرون آية ولهذه السورة عشرة أسماء :
١- براءة : سميت بها لافتتاحها بها، ومرجع أكثر ما ذكر فيها إليها.
٢- التوبة : لتكرارها فيها، كقوله تعالى٤ ﴿ فإن تبتم فهو خير لكم ﴾ ﴿ فإن تابوا وأقاموا الصلاة ﴾ ٥ وقوله٦ :﴿ ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء ﴾ وقوله٧ :﴿ فإن يتوبوا يك خيرا لهم ﴾ وقوله٨ :﴿ عسى الله أن يتوب عليهم ﴾ وقوله٩ :﴿ لقد تاب الله على النبي ﴾، وقوله١٠ :﴿ ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة ﴾ وقوله١١ :﴿ التائبون العابدون ﴾ وهما أشهر أسمائها.
٣- الفاضحة : أخرج البخاري١٢ عن سعيد بن جبير قال :" قلت لابن عباس : سورة / التوبة، قال التوبة هي الفاضحة، مازالت تنزل : ومنهم ومنهم حتى ظنوا أنها لم تبق أحدا منهم إلا ذكر فيها ".
٤- سورة العذاب : رواه الحاكم عن حذيفة، وذلك لتكرره فيها.
٥- المقشقشة : رواه أبو الشيخ عن ابن عمر، والقشقشة معناها التبرئة، وهي مبرئة من النفاق.
٦- المنقرة : أخرجه أبو الشيخ عن عبيد بن عمير لأنها نقرت عما في قلوب المشركين. أي بحثت.
٧- البحوت : بفتح الباء، صيغة مبالغة، رواه الحاكم عن المقداد.
٨- الحافرة : ذكره ابن الغرس، لأنها حفرت عن قلوب المنافقين، أي بحثت عنها، مجازا.
٩- المثيرة : رواه أبي حاتم عن قتادة لأنها أثارت مثالبهم وعوراتهم أي أخرجتها من الخفاء إلى الظهور.
١٠- المبعثرة : لأنها بعثرت أسرارهم أي أظهرتها.
١١- المدمدمة : أي المهلكة لهم.
١٢- المخزية.
١٣- المنكلة : أي المعاقبة لهم.
١٤- المشردة : أي الطاردة لهم والمفرقة جمعهم.
وليس في السور أكثر منها ومن الفاتحة.
تنبيه :
للسلف في وجه ترك كتابة البسملة في هذه السورة والتلفظ بها أقوال :
١- روى الحاكم في ( المستدرك ) عن ابن عباس قال :" سألت علي بن أبي طالب : لمَ لم تكتب في ( براءة ) البسملة ؟ قال : لأنها أمان، وبراءة نزلت بالسيف " أي فنزولها لرفع / الأمان الذي يأبي مقامه التصدير بما يشعر ببقائه من ذكر اسمه تعالى، مشفوعا بوصف الرحمة، ولذا قال ابن عيينية : اسم الله سلام وأمان، فلا يكتب في النبذ والمحاربة. قال الله تعالى١٣ :﴿ ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مومنا ﴾ قيل له : فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد كتب إلى أهل الحرب البسملة، قال : إنما ذلك ابتداء منه يدعوهم، ولم ينبذ إليهم ألا تراه يقول :" سلام على من اتبع الهدى ؟ فمن دعي إلى الله عز وجل فأجاب، ودعي إلى الجزية فأجاب، فقد اتبع الهدى، فظهر الفرق. وكذا قال المبرد : إن التسمية افتتاح للخير، وأول هذه السورة وعيد ونقض عهود، فلذلك لم تفتتح بالتسمية.
٢- عن ابن عباس قال :" قلت لعثمان : ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال، وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا سطر البسملة، ووضعتموها في السبع الطوال، ما حملكم على ذلك ؟ قال عثمان : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد، وكان إذا نزل عليه شيء دعا بعض من كان يكتب فيقول : ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وإذا نزلت عليه الآية يقول : ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت ( الأنفال ) من أوائل ما نزل بالمدينة، وكانت ( براءة ) من آخر القرآن نزولا، وكانت قصتها شبيها بقصتها، وظَنَنْتُ أنها منها. وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبين لنا أنها منها أو من غيرها، من أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب البسملة، ووضعتها في السبع الطوال " أخرجه أبو داود ١٤ والترمذي١٥ وقال : حديث حسن ورواه الإمام أحمد١٦ والنسائي وابن حبان في ( صحيحه ) والحاكم وصححه.
قال الزجاج : والشبه الذي بينهما أن في ( الأنفال ) ذكر العهود، وفي ( براءة ) نقضها.
٣- أخرج أبو الشيخ عن أبي روق قال : الأنفال و( براءة ) سورة واحدة. ونقل مثله عن مجاهد، وأخرجه ابن أبي حاتم عن سفيان. وقال ابن لهيعة : يقولون إن ( براءة ) من ( الأنفال )، ولذلك لم تكتب البسملة في ( براءة )، وشبهتهم اشتباه الطرفين، وعدم البسملة. ويردّه تسمية النبي صلى الله عليه وسلم، كلا منهما.
وقال الحاكم : استفاض النقل أنهما سورتان.
وقال أبو السعود : اشتهارها بهذه الأسماء، يعني الأربعة عشر اسما المتقدمة - يقضي بأنها سورة مستقلة، وليست بعضا من سورة الأنفال، وادعاء اختصاص الاشتهار بالقائلين باستقلالها، خلاف الظاهر. انتهى.
ونقل صاحب ( الإقناع ) أن البسملة ثابتة ( لبراءة ) في مصحف ابن مسعود، قال : ولا يؤخذ بهذا.
وعن مالك : أن أولها لما سقط، سقط معه البسملة، فقد ثبت أنها كانت تعدل البقرة لطولها. كذا في ( الإتقان ).
ثم اعلم أن القراء أجمعوا على ترك قراءة البسملة في أول هذه السورة اتباعاً لسقوطها في الرسم من مصحف الإمام، إلا ابن منادر، فإنه يسمي في أولها، كما في مصحف ابن مسعود.
وقال البخاريّ في ( جمال القراء )، إنه اشتهر تركها في أول براءة.
وروي عن عاصم التسمية في أولها، وهو القياس. لأن إسقاطها، إما لأنها نزلت بالسيف أو لأنهم لم يقطعوا بأنها سورة مستقلة، بل من الأنفال. ولا يتم الأول، لأنه مخصوص بمن نزلت فيه، ونحن إنما نسمي للتبرك. وأما الابتداء بما بعد أول براءة، فلا نص للمتقدمين من أئمة القراء فيه، وظاهر إطلاق كثير التخيير فيها، واختار السخاويّ / الجواز، وقال : ألا ترى أنه يجوز بغير خلاف أن يقول :﴿ بسم الله الرحمن الرحيم وقاتلوا المشركين ﴾ ١٧ وإلى منعها ذهب الجعبريّ، وتعقبه السخاويّ فقال : إن كان نقلاً فمسلَّم، وإلا فردٌّ عليه لأنه تقريع على غير أصل.
وقال ابن الجزريّ في ( النشر ) : من اعتبر بقاء أثر العلة التي من أجلها حذفت البسملة أولها، وهي نزولها بالسيف، لم يبسمل. ومن لم يعتبر ذلك، أو لم يرها، بسمل بلا نظر. والله أعلم.
هي مدنية بإجماعهم. قيل : سوى آيتين في آخرها١ ﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم... ﴾ فإنهما نزلتا بمكة. وفيه نظر. فقد روى البخاري٢ عن البراء " أنها آخر سورة نزلت "، واستثنى بعضهم ﴿ ما كان للنبي... ﴾ ٣ الآية - لما ورد أنها نزلت في قوله عليه الصلاة والسلام لأبي طالب :" لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ". وهي مائة وتسع وعشرون آية ولهذه السورة عشرة أسماء :
١- براءة : سميت بها لافتتاحها بها، ومرجع أكثر ما ذكر فيها إليها.
٢- التوبة : لتكرارها فيها، كقوله تعالى٤ ﴿ فإن تبتم فهو خير لكم ﴾ ﴿ فإن تابوا وأقاموا الصلاة ﴾ ٥ وقوله٦ :﴿ ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء ﴾ وقوله٧ :﴿ فإن يتوبوا يك خيرا لهم ﴾ وقوله٨ :﴿ عسى الله أن يتوب عليهم ﴾ وقوله٩ :﴿ لقد تاب الله على النبي ﴾، وقوله١٠ :﴿ ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة ﴾ وقوله١١ :﴿ التائبون العابدون ﴾ وهما أشهر أسمائها.
٣- الفاضحة : أخرج البخاري١٢ عن سعيد بن جبير قال :" قلت لابن عباس : سورة / التوبة، قال التوبة هي الفاضحة، مازالت تنزل : ومنهم ومنهم حتى ظنوا أنها لم تبق أحدا منهم إلا ذكر فيها ".
٤- سورة العذاب : رواه الحاكم عن حذيفة، وذلك لتكرره فيها.
٥- المقشقشة : رواه أبو الشيخ عن ابن عمر، والقشقشة معناها التبرئة، وهي مبرئة من النفاق.
٦- المنقرة : أخرجه أبو الشيخ عن عبيد بن عمير لأنها نقرت عما في قلوب المشركين. أي بحثت.
٧- البحوت : بفتح الباء، صيغة مبالغة، رواه الحاكم عن المقداد.
٨- الحافرة : ذكره ابن الغرس، لأنها حفرت عن قلوب المنافقين، أي بحثت عنها، مجازا.
٩- المثيرة : رواه أبي حاتم عن قتادة لأنها أثارت مثالبهم وعوراتهم أي أخرجتها من الخفاء إلى الظهور.
١٠- المبعثرة : لأنها بعثرت أسرارهم أي أظهرتها.
١١- المدمدمة : أي المهلكة لهم.
١٢- المخزية.
١٣- المنكلة : أي المعاقبة لهم.
١٤- المشردة : أي الطاردة لهم والمفرقة جمعهم.
وليس في السور أكثر منها ومن الفاتحة.
تنبيه :
للسلف في وجه ترك كتابة البسملة في هذه السورة والتلفظ بها أقوال :
١- روى الحاكم في ( المستدرك ) عن ابن عباس قال :" سألت علي بن أبي طالب : لمَ لم تكتب في ( براءة ) البسملة ؟ قال : لأنها أمان، وبراءة نزلت بالسيف " أي فنزولها لرفع / الأمان الذي يأبي مقامه التصدير بما يشعر ببقائه من ذكر اسمه تعالى، مشفوعا بوصف الرحمة، ولذا قال ابن عيينية : اسم الله سلام وأمان، فلا يكتب في النبذ والمحاربة. قال الله تعالى١٣ :﴿ ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مومنا ﴾ قيل له : فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد كتب إلى أهل الحرب البسملة، قال : إنما ذلك ابتداء منه يدعوهم، ولم ينبذ إليهم ألا تراه يقول :" سلام على من اتبع الهدى ؟ فمن دعي إلى الله عز وجل فأجاب، ودعي إلى الجزية فأجاب، فقد اتبع الهدى، فظهر الفرق. وكذا قال المبرد : إن التسمية افتتاح للخير، وأول هذه السورة وعيد ونقض عهود، فلذلك لم تفتتح بالتسمية.
٢- عن ابن عباس قال :" قلت لعثمان : ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال، وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا سطر البسملة، ووضعتموها في السبع الطوال، ما حملكم على ذلك ؟ قال عثمان : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد، وكان إذا نزل عليه شيء دعا بعض من كان يكتب فيقول : ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وإذا نزلت عليه الآية يقول : ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت ( الأنفال ) من أوائل ما نزل بالمدينة، وكانت ( براءة ) من آخر القرآن نزولا، وكانت قصتها شبيها بقصتها، وظَنَنْتُ أنها منها. وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبين لنا أنها منها أو من غيرها، من أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب البسملة، ووضعتها في السبع الطوال " أخرجه أبو داود ١٤ والترمذي١٥ وقال : حديث حسن ورواه الإمام أحمد١٦ والنسائي وابن حبان في ( صحيحه ) والحاكم وصححه.
قال الزجاج : والشبه الذي بينهما أن في ( الأنفال ) ذكر العهود، وفي ( براءة ) نقضها.
٣- أخرج أبو الشيخ عن أبي روق قال : الأنفال و( براءة ) سورة واحدة. ونقل مثله عن مجاهد، وأخرجه ابن أبي حاتم عن سفيان. وقال ابن لهيعة : يقولون إن ( براءة ) من ( الأنفال )، ولذلك لم تكتب البسملة في ( براءة )، وشبهتهم اشتباه الطرفين، وعدم البسملة. ويردّه تسمية النبي صلى الله عليه وسلم، كلا منهما.
وقال الحاكم : استفاض النقل أنهما سورتان.
وقال أبو السعود : اشتهارها بهذه الأسماء، يعني الأربعة عشر اسما المتقدمة - يقضي بأنها سورة مستقلة، وليست بعضا من سورة الأنفال، وادعاء اختصاص الاشتهار بالقائلين باستقلالها، خلاف الظاهر. انتهى.
ونقل صاحب ( الإقناع ) أن البسملة ثابتة ( لبراءة ) في مصحف ابن مسعود، قال : ولا يؤخذ بهذا.
وعن مالك : أن أولها لما سقط، سقط معه البسملة، فقد ثبت أنها كانت تعدل البقرة لطولها. كذا في ( الإتقان ).
ثم اعلم أن القراء أجمعوا على ترك قراءة البسملة في أول هذه السورة اتباعاً لسقوطها في الرسم من مصحف الإمام، إلا ابن منادر، فإنه يسمي في أولها، كما في مصحف ابن مسعود.
وقال البخاريّ في ( جمال القراء )، إنه اشتهر تركها في أول براءة.
وروي عن عاصم التسمية في أولها، وهو القياس. لأن إسقاطها، إما لأنها نزلت بالسيف أو لأنهم لم يقطعوا بأنها سورة مستقلة، بل من الأنفال. ولا يتم الأول، لأنه مخصوص بمن نزلت فيه، ونحن إنما نسمي للتبرك. وأما الابتداء بما بعد أول براءة، فلا نص للمتقدمين من أئمة القراء فيه، وظاهر إطلاق كثير التخيير فيها، واختار السخاويّ / الجواز، وقال : ألا ترى أنه يجوز بغير خلاف أن يقول :﴿ بسم الله الرحمن الرحيم وقاتلوا المشركين ﴾ ١٧ وإلى منعها ذهب الجعبريّ، وتعقبه السخاويّ فقال : إن كان نقلاً فمسلَّم، وإلا فردٌّ عليه لأنه تقريع على غير أصل.
وقال ابن الجزريّ في ( النشر ) : من اعتبر بقاء أثر العلة التي من أجلها حذفت البسملة أولها، وهي نزولها بالسيف، لم يبسمل. ومن لم يعتبر ذلك، أو لم يرها، بسمل بلا نظر. والله أعلم.
١ ٩ / التوبة / ١٢٨. .
٢ أخرجه البخاري في : ٦٥- كتاب التفسير، ٩ سورة التوبة، ١- باب قوله ﴿براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتهم من المشركين﴾ حديث ١٩٤١. .
٣ ٩ / التوبة / ١١٣. .
٤ ٩ / التوبة / ٣..
٥ ٩ /ا التوبة / ٥ و ١١..
٦ ٩ / التوبة / ٢٧..
٧ ٩ / التوبة / ٧٤..
٨ ٩ / التوبة / ١٠٢..
٩ ٩ / التوبة / ١١٧..
١٠ ٩ / التوبة / ١٠٤..
١١ ٩ / التوبة / ١١٢..
١٢ أخرجه البخاري في : ٦٥- كتاب التفسير، ٥٩ - سورة الحشر، ١- حدثنا محمد بن عبد الرحيم، حديث رقم ١٨٦٩..
١٣ ٤ / النساء / ٩٤..
١٤ أخرجه أبو داود في : ٢- كتاب الصلاة، ١٢٢ باب من لم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، باب من جهر بها، حديث رقم ٧٨٦..
١٥ أخرجه الترمذي في : ٤٤ كتاب التفسير، ٩ سورة التوبة، ١- حدثنا محمد بن بشار..
١٦ أخرجه في المسند بالصفحة رقم ٥٧ من الجزء الأول (طبعة الحلبي) حديث ٣٩٩ (طبعة المعارف) وعلى هذا الحديث تعليق بقلم شيخنا الأستاذ أحمد شاكر في الكلام على رجال سند هذا الحديث وفي تضعيفه فانظر فإن البحث جليل جدا..
١٧ ٩ / التوبة / ٣٦..
٢ أخرجه البخاري في : ٦٥- كتاب التفسير، ٩ سورة التوبة، ١- باب قوله ﴿براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتهم من المشركين﴾ حديث ١٩٤١. .
٣ ٩ / التوبة / ١١٣. .
٤ ٩ / التوبة / ٣..
٥ ٩ /ا التوبة / ٥ و ١١..
٦ ٩ / التوبة / ٢٧..
٧ ٩ / التوبة / ٧٤..
٨ ٩ / التوبة / ١٠٢..
٩ ٩ / التوبة / ١١٧..
١٠ ٩ / التوبة / ١٠٤..
١١ ٩ / التوبة / ١١٢..
١٢ أخرجه البخاري في : ٦٥- كتاب التفسير، ٥٩ - سورة الحشر، ١- حدثنا محمد بن عبد الرحيم، حديث رقم ١٨٦٩..
١٣ ٤ / النساء / ٩٤..
١٤ أخرجه أبو داود في : ٢- كتاب الصلاة، ١٢٢ باب من لم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، باب من جهر بها، حديث رقم ٧٨٦..
١٥ أخرجه الترمذي في : ٤٤ كتاب التفسير، ٩ سورة التوبة، ١- حدثنا محمد بن بشار..
١٦ أخرجه في المسند بالصفحة رقم ٥٧ من الجزء الأول (طبعة الحلبي) حديث ٣٩٩ (طبعة المعارف) وعلى هذا الحديث تعليق بقلم شيخنا الأستاذ أحمد شاكر في الكلام على رجال سند هذا الحديث وفي تضعيفه فانظر فإن البحث جليل جدا..
١٧ ٩ / التوبة / ٣٦..
ونقل صاحب (الإقناع) أن البسملة ثابتة (لبراءة) في مصحف ابن مسعود، قال: ولا يؤخذ بهذا.
وعن مالك: أن أولها لما سقط، سقط معه البسملة، فقد ثبت أنها كانت تعدل البقرة لطولها. كذا في (الإتقان).
ثم اعلم أن القراء أجمعوا على ترك قراءة البسملة في أول هذه السورة اتباعا لسقوطها في الرسم من مصحف الإمام، إلا ابن مناذر، فإنه يسمي في أولها، كما في مصحف ابن مسعود.
وقال السخاوي في (جمال القراء) : إنه اشتهر تركها في أول براءة.
وروي عن عاصم التسمية في أولها، وهو القياس. لأن إسقاطها، إما لأنها نزلت بالسيف أو لأنهم لم يقطعوا بأنها سورة مستقلة، بل من الأنفال. ولا يتم الأول، لأنه مخصوص بمن نزلت فيه، ونحن إنما نسمي للتبرك. وأما الابتداء بما بعد أول براءة، فلا نصّ للمتقدمين من أئمة القراء فيه، وظاهر إطلاق كثير التخيير فيها، واختار السخاوي الجواز، وقال: ألا ترى أنه يجوز بغير خلاف أن يقول: بسم الله الرحمن الرحيم وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة: ٣٦]. وإلى منعها ذهب الجعبري، وتعقبه السخاويّ فقال: إن كان نقلا فمسلّم، وإلا فردّ عليه، لأنه تفريع على غير أصل.
وقال ابن الجزري في (النشر) : من اعتبر بقاء أثر العلة التي من أجلها حذفت البسملة أولها، وهي نزولها بالسيف، لم يبسمل. ومن لم يعتبر ذلك، أو لم يرها، بسمل بلا نظر. والله أعلم.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١]
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١)
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ خبر لمحذوف، وتنوينه للتفخيم. أي هذه براءة. أو مبتدأ مخصص بصفة، وخبره إِلَى الَّذِينَ.
و (البراءة) في اللغة انقطاع العصمة، يقال: برئت من فلان براءة، أي انقطعت بيننا العصمة، ولم يبق بيننا علقة.
فإن قيل: حق البراءة أن تنسب إلى المعاهد، فلم لم تنسب إليهم، ونسبت إلى الله ورسوله؟
وعن مالك: أن أولها لما سقط، سقط معه البسملة، فقد ثبت أنها كانت تعدل البقرة لطولها. كذا في (الإتقان).
ثم اعلم أن القراء أجمعوا على ترك قراءة البسملة في أول هذه السورة اتباعا لسقوطها في الرسم من مصحف الإمام، إلا ابن مناذر، فإنه يسمي في أولها، كما في مصحف ابن مسعود.
وقال السخاوي في (جمال القراء) : إنه اشتهر تركها في أول براءة.
وروي عن عاصم التسمية في أولها، وهو القياس. لأن إسقاطها، إما لأنها نزلت بالسيف أو لأنهم لم يقطعوا بأنها سورة مستقلة، بل من الأنفال. ولا يتم الأول، لأنه مخصوص بمن نزلت فيه، ونحن إنما نسمي للتبرك. وأما الابتداء بما بعد أول براءة، فلا نصّ للمتقدمين من أئمة القراء فيه، وظاهر إطلاق كثير التخيير فيها، واختار السخاوي الجواز، وقال: ألا ترى أنه يجوز بغير خلاف أن يقول: بسم الله الرحمن الرحيم وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة: ٣٦]. وإلى منعها ذهب الجعبري، وتعقبه السخاويّ فقال: إن كان نقلا فمسلّم، وإلا فردّ عليه، لأنه تفريع على غير أصل.
وقال ابن الجزري في (النشر) : من اعتبر بقاء أثر العلة التي من أجلها حذفت البسملة أولها، وهي نزولها بالسيف، لم يبسمل. ومن لم يعتبر ذلك، أو لم يرها، بسمل بلا نظر. والله أعلم.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١]
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١)
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ خبر لمحذوف، وتنوينه للتفخيم. أي هذه براءة. أو مبتدأ مخصص بصفة، وخبره إِلَى الَّذِينَ.
و (البراءة) في اللغة انقطاع العصمة، يقال: برئت من فلان براءة، أي انقطعت بيننا العصمة، ولم يبق بيننا علقة.
فإن قيل: حق البراءة أن تنسب إلى المعاهد، فلم لم تنسب إليهم، ونسبت إلى الله ورسوله؟
345
أجيب: أن عاهَدْتُمْ إخبار عن سابق صدر من الرسول صلّى الله عليه وسلّم والجماعة، فنسب إلى الكل، كما هو الواقع، وإن كان بإذن الله أيضا.
وأما البراءة فهي إخبار عن متجدّد، فكيف ينسب إليهم، وهم لم يحدثوه بعد، وإنما يسند إلى من أحدثه؟ وقال الناصر: إن سر ذلك أن نسبة العهد إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلّم في مقام نسب فيه النبذ إلى المشركين، لا يحسن أدبا. ألا ترى إلى وصية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأمراء السرايا حيث
يقول لهم «١» :«إذا نزلت بحصن فطلبوا النزول على حكم الله، فأنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أصادفت حكم الله فيهم أو لا! وإن طلبوا ذمة الله، فأنزلهم على ذمتك. فلأن تخفر ذمتك، خير من أن تخفر ذمة الله» !
فانظر إلى أمره صلّى الله عليه وسلّم بتوقير ذمة الله، مخافة أن تخفر، وإن كان لم يحصل بعد ذلك الأمر المتوقع، فتوقير عهد الله، وقد تحقق من المشركين النكث، وقد تبرأ منه الله ورسوله بألا ينسب العهد المنبوذ إلى الله- أحرى وأجدر. فلذلك نسب العهد إلى المسلمين دون البراءة منه.
وقال الشهاب: ولك أن تقول: إنما أضاف العهد إلى المسلمين، لأن الله علم أن لا عهد لهم، فلذا لم يضف العهد إليه، لبراءته منهم، ومن عهدهم في الأزل.
وهذا نكتة الإتيان بالجملة اسمية خبرية. وإن قيل: إنها إنشائية للبراءة منهم، ولذا دلت على التجدد. انتهى.
قال ابن إسحاق. نزلت براءة في نقض ما بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين المشركين من العقد الذي كانوا عليه فيما بينه وبينهم، ألا يصدّ عن البيت أحد جاءه، ولا يخاف أحد في الشهر الحرام. وكان ذلك عهدا عامّا بينه وبين الناس من أهل الشرك.
وكانت بين ذلك عهود بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين قبائل من العرب خصائص إلى آجال مسماة، فنزلت فيه وفيمن تخلف من المنافقين عنه في (تبوك)، وفي قول من قال منهم، فكشف الله سرائر أقوام كانوا يستخفون بغير ما يظهرون.
وأما البراءة فهي إخبار عن متجدّد، فكيف ينسب إليهم، وهم لم يحدثوه بعد، وإنما يسند إلى من أحدثه؟ وقال الناصر: إن سر ذلك أن نسبة العهد إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلّم في مقام نسب فيه النبذ إلى المشركين، لا يحسن أدبا. ألا ترى إلى وصية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأمراء السرايا حيث
يقول لهم «١» :«إذا نزلت بحصن فطلبوا النزول على حكم الله، فأنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أصادفت حكم الله فيهم أو لا! وإن طلبوا ذمة الله، فأنزلهم على ذمتك. فلأن تخفر ذمتك، خير من أن تخفر ذمة الله» !
فانظر إلى أمره صلّى الله عليه وسلّم بتوقير ذمة الله، مخافة أن تخفر، وإن كان لم يحصل بعد ذلك الأمر المتوقع، فتوقير عهد الله، وقد تحقق من المشركين النكث، وقد تبرأ منه الله ورسوله بألا ينسب العهد المنبوذ إلى الله- أحرى وأجدر. فلذلك نسب العهد إلى المسلمين دون البراءة منه.
وقال الشهاب: ولك أن تقول: إنما أضاف العهد إلى المسلمين، لأن الله علم أن لا عهد لهم، فلذا لم يضف العهد إليه، لبراءته منهم، ومن عهدهم في الأزل.
وهذا نكتة الإتيان بالجملة اسمية خبرية. وإن قيل: إنها إنشائية للبراءة منهم، ولذا دلت على التجدد. انتهى.
قال ابن إسحاق. نزلت براءة في نقض ما بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين المشركين من العقد الذي كانوا عليه فيما بينه وبينهم، ألا يصدّ عن البيت أحد جاءه، ولا يخاف أحد في الشهر الحرام. وكان ذلك عهدا عامّا بينه وبين الناس من أهل الشرك.
وكانت بين ذلك عهود بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين قبائل من العرب خصائص إلى آجال مسماة، فنزلت فيه وفيمن تخلف من المنافقين عنه في (تبوك)، وفي قول من قال منهم، فكشف الله سرائر أقوام كانوا يستخفون بغير ما يظهرون.
(١) أخرجه مسلم في: الجهاد، حديث رقم ٣.
وأخرجه أبو داود في: الجهاد، ٨٢- باب في دعاء المشركين، حديث رقم ٢٦١٢.
وأخرجه الترمذي في: السير، ٤٧- باب ما جاء في وصية النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في القتال.
وأخرجه ابن ماجة في: الجهاد، ٣٨- باب وصية الإمام، حديث رقم ٢٨٥٨.
وأخرجه أبو داود في: الجهاد، ٨٢- باب في دعاء المشركين، حديث رقم ٢٦١٢.
وأخرجه الترمذي في: السير، ٤٧- باب ما جاء في وصية النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في القتال.
وأخرجه ابن ماجة في: الجهاد، ٣٨- باب وصية الإمام، حديث رقم ٢٨٥٨.
346
وقال ابن كثير: وأول هذه السورة نزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما رجع من غزوة (تبوك)، وهمّ بالحج. ثم ذكر أن المشركين يحضرون عامهم هذا الموسم على عادتهم في ذلك. وأنهم يطوفون بالبيت عراة، فكره مخالطتهم، وبعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه أميرا على الحج تلك السنة، ليقيم للناس مناسكهم، ويعلم المشركون ألا يحجوا بعد عامهم هذا، وأن ينادي بالناس بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فلما قفل، أتبعه بعليّ بن أبي طالب، ليكون مبلغا عنه صلّى الله عليه وسلّم، لكونه عصبة له، كما سيأتي.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٢]
فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢)
فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أي فقولوا لهم: سيروا في الأرض بعد نبذنا العهد آمنين من القتل والقتال مدة أربعة أشهر، وذلك من يوم النحر إلى عشر يخلون من ربيع الآخر. والمقصود تأمينهم من القتل، وتفكرهم واحتياطهم، ليعلموا أنهم ليس لهم بعدها إلا السيف، وليعلموا قوة المسلمين إذ لم يخشوا استعدادهم لهم.
وهذه الأربعة الأشهر كانت عهدا لمن له عهد دون الأربعة الأشهر، فأتمت له. فأما من كان له عهد موقت، فأجله إلى مدته، مهما كانت، لقوله تعالى: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ [التوبة: ٤]، كما يأتي. روي هذا عن غير واحد، واختاره ابن جرير. وقال مجاهد: هذا تأجيل للمشركين مطلقا، فمن كانت مدة عهده أقل من أربعة أشهر رفع إليها، ومن كانت أكثر حط إليها، ومن كان عهده بغير أجل حدّ بها، ثم هو بعد ذلك حرب لله ولرسوله، يقتل حيث أدرك ويؤسر، إلا أن يتوب ويؤمن.
أقول: ولا يرد عليه إطلاق قوله تعالى: إِلى مُدَّتِهِمْ، لأن له أن يجيب بأن الإضافة للعهد، أي المدة المعهودة وهي الأربعة الأشهر. والله أعلم.
وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ يعني أن هذا الإمهال ليس لعجز عنكم، ولكن لحكمة ولطف بكم. أي فلا تفوتونه. وإن أمهلكم وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ أي مذلّهم بالقتل في الدنيا، والعذاب في الآخرة.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٢]
فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢)
فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أي فقولوا لهم: سيروا في الأرض بعد نبذنا العهد آمنين من القتل والقتال مدة أربعة أشهر، وذلك من يوم النحر إلى عشر يخلون من ربيع الآخر. والمقصود تأمينهم من القتل، وتفكرهم واحتياطهم، ليعلموا أنهم ليس لهم بعدها إلا السيف، وليعلموا قوة المسلمين إذ لم يخشوا استعدادهم لهم.
وهذه الأربعة الأشهر كانت عهدا لمن له عهد دون الأربعة الأشهر، فأتمت له. فأما من كان له عهد موقت، فأجله إلى مدته، مهما كانت، لقوله تعالى: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ [التوبة: ٤]، كما يأتي. روي هذا عن غير واحد، واختاره ابن جرير. وقال مجاهد: هذا تأجيل للمشركين مطلقا، فمن كانت مدة عهده أقل من أربعة أشهر رفع إليها، ومن كانت أكثر حط إليها، ومن كان عهده بغير أجل حدّ بها، ثم هو بعد ذلك حرب لله ولرسوله، يقتل حيث أدرك ويؤسر، إلا أن يتوب ويؤمن.
أقول: ولا يرد عليه إطلاق قوله تعالى: إِلى مُدَّتِهِمْ، لأن له أن يجيب بأن الإضافة للعهد، أي المدة المعهودة وهي الأربعة الأشهر. والله أعلم.
وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ يعني أن هذا الإمهال ليس لعجز عنكم، ولكن لحكمة ولطف بكم. أي فلا تفوتونه. وإن أمهلكم وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ أي مذلّهم بالقتل في الدنيا، والعذاب في الآخرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٣]
وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣)
وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ. (الأذان) بمعنى الإيذان، وهو الإعلام، كما أن الأمان والعطاء بمعنى الإيمان والإعطاء. وارتفاعه كارتفاع بَراءَةٌ وهذه الجملة معطوفة على مثلها، والفرق بين معنى الجملة الأولى والثانية أن تلك إخبار بثبوت البراءة، وهذه إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت، وإنما علقت البراءة بالذين عوهدوا من المشركين، وعلق الأذان بالناس، لأن البراءة مختصة بالمعاهدين والناكثين منهم، وأما الأذان فعامّ لجميع الناس، من عاهد ومن لم يعاهد، ومن نكث من المعاهدين ومن لم ينكث.
كذا في (الكشاف).
ويوم الحج الأكبر: قيل يوم عرفة، وقيل يوم النحر.
قال ابن القيم: وهو الصواب، لأنه ثبت في الصحيحين «١» أن أبا بكر وعليّا رضي الله عنهما، أذّنا بذلك يوم النحر، لا يوم عرفة.
وفي سنن أبي داود «٢» بأصح إسناد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: يوم الحج الأكبر يوم النحر، وكذلك قال أبو هريرة وجماعة من الصحابة.
ويوم عرفة مقدمة ليوم النحر بين يديه، فإن فيه يكون الوقوف والتضرع والتوبة والابتهال والاستقالة، ثم يوم النحر تكون الوفادة والزيارة، ولهذا سمي طوافه طواف الزيارة، لأنه قد طهروا من ذنوبهم يوم عرفة، ثم أذن لهم يوم النحر في زيارته، والدخول عليه إلى بيته، ولهذا كان فيه ذبح القرابين، وحلق الرؤوس، ورمي الجمار ومعظم أفعال الحج وعمل يوم عرفة، كالطهور والاغتسال بين يدي هذا اليوم، انتهى.
وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣)
وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ. (الأذان) بمعنى الإيذان، وهو الإعلام، كما أن الأمان والعطاء بمعنى الإيمان والإعطاء. وارتفاعه كارتفاع بَراءَةٌ وهذه الجملة معطوفة على مثلها، والفرق بين معنى الجملة الأولى والثانية أن تلك إخبار بثبوت البراءة، وهذه إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت، وإنما علقت البراءة بالذين عوهدوا من المشركين، وعلق الأذان بالناس، لأن البراءة مختصة بالمعاهدين والناكثين منهم، وأما الأذان فعامّ لجميع الناس، من عاهد ومن لم يعاهد، ومن نكث من المعاهدين ومن لم ينكث.
كذا في (الكشاف).
ويوم الحج الأكبر: قيل يوم عرفة، وقيل يوم النحر.
قال ابن القيم: وهو الصواب، لأنه ثبت في الصحيحين «١» أن أبا بكر وعليّا رضي الله عنهما، أذّنا بذلك يوم النحر، لا يوم عرفة.
وفي سنن أبي داود «٢» بأصح إسناد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: يوم الحج الأكبر يوم النحر، وكذلك قال أبو هريرة وجماعة من الصحابة.
ويوم عرفة مقدمة ليوم النحر بين يديه، فإن فيه يكون الوقوف والتضرع والتوبة والابتهال والاستقالة، ثم يوم النحر تكون الوفادة والزيارة، ولهذا سمي طوافه طواف الزيارة، لأنه قد طهروا من ذنوبهم يوم عرفة، ثم أذن لهم يوم النحر في زيارته، والدخول عليه إلى بيته، ولهذا كان فيه ذبح القرابين، وحلق الرؤوس، ورمي الجمار ومعظم أفعال الحج وعمل يوم عرفة، كالطهور والاغتسال بين يدي هذا اليوم، انتهى.
(١) أخرجه البخاري في: التفسير، ٩- سورة التوبة، ٢- باب قوله: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، و ٣- باب قوله: وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، حديث رقم ٢٤٥.
وأخرجه مسلم في: الحج، حديث رقم ٤٣٥.
(٢) أخرجه أبو داود في: المناسك، ٦٦- باب يوم الحج الأكبر، حديث رقم ١٩٤٥ و ١٩٤٦.
وأخرجه مسلم في: الحج، حديث رقم ٤٣٥.
(٢) أخرجه أبو داود في: المناسك، ٦٦- باب يوم الحج الأكبر، حديث رقم ١٩٤٥ و ١٩٤٦.
348
تنبيه:
روى الأئمة هاهنا آثارا كثيرة، نأتي منها على جوامعها:
قال ابن أبي نجيح عن مجاهد: قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من (تبوك) حين فرغ، فأراد الحج ثم قال: إنما يحضر المشركون فيطوفون عراة فلا أحب أن أحج. حتى لا يكون ذلك: فأرسل أبا بكر وعليّا فطافا بالناس في (ذي المجاز) وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها، وبالمواسم كلها، فآذنوا أصحاب العهد بأن يؤمنوا أربعة أشهر، فهي الأشهر المتواليات، عشرون من ذي الحجة، إلى عشر يخلون من ربيع الآخر، ثم لا عهد لهم، وآذن الناس كلهم بالقتال، إلى أن يؤمنوا.
وروى ابن إسحاق بسنده عن أبي جعفر محمد بن عليّ رضوان الله عليه قال: لما نزلت (براءة) على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد كان بعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه ليقيم للناس الحج، قيل له: يا رسول الله! لو بعثت بها إلى أبي بكر فقال: لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي. ثم دعا عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه، فقال له:
اخرج بهذه القصة من صدر براءة، وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى، أنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. ومن كان له عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عهد فهو له إلى مدته. فخرج عليّ بن أبي طالب على ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (العضباء) حتى أدرك أبا بكر الصديق، فلما رآه أبو بكر بالطريق قال: أمير أو مأمور؟ فقال: بل مأمور. ثم مضيا. ، فأقام أبو بكر للناس الحج، والعرب إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحج التي كانوا عليها في الجاهلية. حتى إذا كان يوم النحر قام عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فأذن في الناس بالذي أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقال: أيها الناس! إنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. ومن كان له عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عهد فهو له إلى مدته. وأجّل الناس أربعة أشهر من يوم أذّن فيهم، ليرجع كل قوم إلى مأمنهم وبلادهم، ثم لا عهد لمشرك ولا ذمة. إلا أحد كان له عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عهد إلى مدة، فهو له إلى مدته.
فلم يحجّ بعد ذلك العام مشرك، ولم يطف بالبيت عريان.
ثم قدما على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
قال ابن إسحاق: فكان هذا من أمر (براءة) فيمن كان من أهل الشرك من أهل العهد العامّ، وأهل المدة إلى الأجل المسمى.
روى الأئمة هاهنا آثارا كثيرة، نأتي منها على جوامعها:
قال ابن أبي نجيح عن مجاهد: قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من (تبوك) حين فرغ، فأراد الحج ثم قال: إنما يحضر المشركون فيطوفون عراة فلا أحب أن أحج. حتى لا يكون ذلك: فأرسل أبا بكر وعليّا فطافا بالناس في (ذي المجاز) وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها، وبالمواسم كلها، فآذنوا أصحاب العهد بأن يؤمنوا أربعة أشهر، فهي الأشهر المتواليات، عشرون من ذي الحجة، إلى عشر يخلون من ربيع الآخر، ثم لا عهد لهم، وآذن الناس كلهم بالقتال، إلى أن يؤمنوا.
وروى ابن إسحاق بسنده عن أبي جعفر محمد بن عليّ رضوان الله عليه قال: لما نزلت (براءة) على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد كان بعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه ليقيم للناس الحج، قيل له: يا رسول الله! لو بعثت بها إلى أبي بكر فقال: لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي. ثم دعا عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه، فقال له:
اخرج بهذه القصة من صدر براءة، وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى، أنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. ومن كان له عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عهد فهو له إلى مدته. فخرج عليّ بن أبي طالب على ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (العضباء) حتى أدرك أبا بكر الصديق، فلما رآه أبو بكر بالطريق قال: أمير أو مأمور؟ فقال: بل مأمور. ثم مضيا. ، فأقام أبو بكر للناس الحج، والعرب إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحج التي كانوا عليها في الجاهلية. حتى إذا كان يوم النحر قام عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فأذن في الناس بالذي أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقال: أيها الناس! إنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. ومن كان له عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عهد فهو له إلى مدته. وأجّل الناس أربعة أشهر من يوم أذّن فيهم، ليرجع كل قوم إلى مأمنهم وبلادهم، ثم لا عهد لمشرك ولا ذمة. إلا أحد كان له عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عهد إلى مدة، فهو له إلى مدته.
فلم يحجّ بعد ذلك العام مشرك، ولم يطف بالبيت عريان.
ثم قدما على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
قال ابن إسحاق: فكان هذا من أمر (براءة) فيمن كان من أهل الشرك من أهل العهد العامّ، وأهل المدة إلى الأجل المسمى.
349
وروى البخاري «١» عن أبي هريرة قال: بعثني أبو بكر رضي الله عنه في تلك الحجة في المؤذّنين. بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى: ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.
قال حميد: ثم أردف النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعليّ بن أبي طالب، فأمره أن يؤذن ببراءة.
قال أبو هريرة: فأذن معنا عليّ في أهل منى يوم النحر ببراءة، وألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.
وفي رواية أخرى للبخاري «٢»، قال أبو هريرة: يعثني أبو بكر فيمن يؤذّن يوم النحر بمنى: لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان ويوم الحج الأكبر يوم النحر. وإنما قيل (الأكبر) من أجل قول الناس- للعمرة- الحج الأصغر. فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام، فلم يحج عام حجة الوداع الذي حجّ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلّم مشرك. هذا لفظ البخاري في (كتاب الجهاد).
وروى الإمام أحمد «٣» عن أبي هريرة قال: كنت مع عليّ بن أبي طالب حين بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أهل مكة ب (براءة) فقال: ما كنتم تنادون؟ قال: كنا ننادي: أنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عهد فإن أجله- أو أمده- إلى أربعة أشهر، فإذا مضت الأربعة الأشهر، فإن الله بريء من المشركين ورسوله، ولا يحج هذا البيت بعد العام مشرك. قال: فكنت أنادي حتى صحل صوتي (صحل الرجل وصحل صوته: بحّ).
وقوله تعالى: فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أي فإن تبتم أيها المشركون، من كفركم ورجعتم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له دون الالهة والأنداد، فهو خير لكم من الإقامة على الشرك رأس الضلال والفساد وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أي عن الإيمان وأبيتم إلا الإقامة على ضلالكم وشرككم فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ أي غير فائتين أخذه وعقابه وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا أي جحدوا نبوّتك وخالفوا أمر ربهم بِعَذابٍ أَلِيمٍ أي موجع يحل بهم. وفيه من التهكم والتهديد ما فيه، كيلا يظن أن عذاب الدنيا، لو فات وزال خلصوا من العذاب. بل العذاب معدّ لهم يوم القيامة.
قال حميد: ثم أردف النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعليّ بن أبي طالب، فأمره أن يؤذن ببراءة.
قال أبو هريرة: فأذن معنا عليّ في أهل منى يوم النحر ببراءة، وألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.
وفي رواية أخرى للبخاري «٢»، قال أبو هريرة: يعثني أبو بكر فيمن يؤذّن يوم النحر بمنى: لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان ويوم الحج الأكبر يوم النحر. وإنما قيل (الأكبر) من أجل قول الناس- للعمرة- الحج الأصغر. فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام، فلم يحج عام حجة الوداع الذي حجّ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلّم مشرك. هذا لفظ البخاري في (كتاب الجهاد).
وروى الإمام أحمد «٣» عن أبي هريرة قال: كنت مع عليّ بن أبي طالب حين بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أهل مكة ب (براءة) فقال: ما كنتم تنادون؟ قال: كنا ننادي: أنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عهد فإن أجله- أو أمده- إلى أربعة أشهر، فإذا مضت الأربعة الأشهر، فإن الله بريء من المشركين ورسوله، ولا يحج هذا البيت بعد العام مشرك. قال: فكنت أنادي حتى صحل صوتي (صحل الرجل وصحل صوته: بحّ).
وقوله تعالى: فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أي فإن تبتم أيها المشركون، من كفركم ورجعتم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له دون الالهة والأنداد، فهو خير لكم من الإقامة على الشرك رأس الضلال والفساد وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أي عن الإيمان وأبيتم إلا الإقامة على ضلالكم وشرككم فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ أي غير فائتين أخذه وعقابه وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا أي جحدوا نبوّتك وخالفوا أمر ربهم بِعَذابٍ أَلِيمٍ أي موجع يحل بهم. وفيه من التهكم والتهديد ما فيه، كيلا يظن أن عذاب الدنيا، لو فات وزال خلصوا من العذاب. بل العذاب معدّ لهم يوم القيامة.
(١) أخرجه البخاري في: الحج، ٦٧- باب لا يطوف بالبيت عريان ولا يحج مشرك، حديث رقم ٢٤٥.
(٢) أخرجه البخاري في: الجزية والموادعة، ١٦- باب كيف ينبذ إلى أهل العهد، حديث رقم ٢٤٥. [.....]
(٣) أخرجه في المسند ٢/ ٢٩٩، والحديث رقم ٧٩٦٤.
(٢) أخرجه البخاري في: الجزية والموادعة، ١٦- باب كيف ينبذ إلى أهل العهد، حديث رقم ٢٤٥. [.....]
(٣) أخرجه في المسند ٢/ ٢٩٩، والحديث رقم ٧٩٦٤.
350
ثم استثنى تعالى من ضرب مدة التأجيل، لمن له عهد مطلق بأربعة أشهر، من له عهد مؤقت بتأجيله إلى مدته المضروبة التي عوهد عليها، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٤]
إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤)
إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً أي من شروط الميثاق فلم يقتلوا منكم أحدا ولم يضروكم فقط. قال أبو السعود: وقرئ بالمعجمة، أي لم ينقضوا عهدكم شيئا، من (النقض)، وكلمة (ثم) للدلالة على ثباتهم على عهدهم مع تمادي المدة وَلَمْ يُظاهِرُوا أي لم يعاونوا عَلَيْكُمْ أَحَداً أي عدوّا من أعدائكم فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ ثم حرّض تعالى على الوفاء بذلك، منبها على أنه من باب التقوى بقوله سبحانه إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ أي فاتقوه في ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٥]
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)
فَإِذَا انْسَلَخَ أي انقضى الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ أي التي أبيح للذين عوهدوا فيها أن يسيحوا في الأرض وحرم فيها قتالهم فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ أي من حلّ أو حرم- كذا قاله غير واحد- قال ابن كثير: هذا عام، والمشهور تخصيصه بغير الحرم، لتحريم القتال فيه، لقوله تعالى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [البقرة: ١٩١]. وَخُذُوهُمْ أي ائسروهم وَاحْصُرُوهُمْ أي احبسوهم في المكان الذي هم فيه، لئلا يتبسطوا في سائر البلاد وَاقْعُدُوا لَهُمْ أي لقتالهم كُلَّ مَرْصَدٍ أي طريق وممرّ فَإِنْ تابُوا أي عن الكفر وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ أي فاتركوا التعرض لهم إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي يغفر لهم ما سلف من الكفر والغدر.
تنبيهات:
الأول- ما ذكرناه من أن المراد (بالأشهر الحرام) أشهر العهد، هو الذي
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٤]
إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤)
إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً أي من شروط الميثاق فلم يقتلوا منكم أحدا ولم يضروكم فقط. قال أبو السعود: وقرئ بالمعجمة، أي لم ينقضوا عهدكم شيئا، من (النقض)، وكلمة (ثم) للدلالة على ثباتهم على عهدهم مع تمادي المدة وَلَمْ يُظاهِرُوا أي لم يعاونوا عَلَيْكُمْ أَحَداً أي عدوّا من أعدائكم فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ ثم حرّض تعالى على الوفاء بذلك، منبها على أنه من باب التقوى بقوله سبحانه إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ أي فاتقوه في ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٥]
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)
فَإِذَا انْسَلَخَ أي انقضى الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ أي التي أبيح للذين عوهدوا فيها أن يسيحوا في الأرض وحرم فيها قتالهم فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ أي من حلّ أو حرم- كذا قاله غير واحد- قال ابن كثير: هذا عام، والمشهور تخصيصه بغير الحرم، لتحريم القتال فيه، لقوله تعالى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [البقرة: ١٩١]. وَخُذُوهُمْ أي ائسروهم وَاحْصُرُوهُمْ أي احبسوهم في المكان الذي هم فيه، لئلا يتبسطوا في سائر البلاد وَاقْعُدُوا لَهُمْ أي لقتالهم كُلَّ مَرْصَدٍ أي طريق وممرّ فَإِنْ تابُوا أي عن الكفر وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ أي فاتركوا التعرض لهم إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي يغفر لهم ما سلف من الكفر والغدر.
تنبيهات:
الأول- ما ذكرناه من أن المراد (بالأشهر الحرام) أشهر العهد، هو الذي
351
اختاره الأكثرون. سماها (حرما) لتحريم قتال المشركين فيها ودمائهم. فالألف واللام للعهد. ووضع المظهر موضع المضمر ليكون ذريعة إلى وصفها بالحرمة، تأكيدا لما ينبئ عنه إباحة السياحة من حرمة التعرض لهم، مع ما فيه من مزيد الاعتناء بشأنها. وقيل: المراد (بالأشهر الحرام) : رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، روي ذلك عن ابن عباس والضحاك والباقر، وأختاه ابن جرير. وضعف بأنه لا يساعده النظم الكريم، لأنه يأباه ترتبه عليه (بالفاء) فهو مخالف للسياق الذي يقتضي توالي هذه الأشهر.
قال ابن القيم: (الحرم) هاهنا هي أشهر التسيير، أولها يوم الأذان، وهو اليوم العاشر من ذي الحجة، وهو يوم الحج الأكبر، الذي وقع فيه التأذين بذلك، وآخرها العاشر من ربيع الآخر. وليست هي الأربعة المذكورة في قوله: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ [التوبة: ٣٦]، فإن تلك واحد فرد هو رجب، وثلاثة سرد وهي ذو القعدة وتالياه. ولم يسيّر المشركين في هذه الأربعة، فإن هذا لا يمكن، لأنها غير متوالية، وهو إنما أجلهم أربعة أشهر، ثم أمره بعد انسلاخها أن يقاتلهم. انتهى.
وقالوا: يلزم على هذا بقاء حرمة تلك الأشهر. وتكلف الجواب بنسخها، إما بانعقاد الإجماع عليه، أو بما صح من أنه صلّى الله عليه وسلّم حاصر الطائف لعشر بقين من المحرم، مع أن هذا الإجماع كلاما، وقد خالف بعضهم في بقاء حرمتها، إلا أنهم لم يعتدّوا به كما قاله في (العناية). وفيها: إن لك أن تقول: منع القتال في الأشهر الحرم في تلك السنة، لا يقتضي منعه في كل ما شابهها، بل هو مسكوت عنه، فلا يخالف الإجماع، ويكون حلّه معلوما من دليل آخر.
وأقول: يظهر لي هذا الثاني وأن المراد بالأربعة الأشهر هي المعروفة، وأن قوله تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ هي هذه الأربعة، لأنها حيثما أطلقت في التنزيل لا تنصرف إلا إليها، فصرفها إلى غيرها يحتاج إلى برهان قاطع.
قال في (فتح البيان) ومعنى الآية على هذا وجوب الإمساك عن قتال من لا عهد له من المشركين في هذه الأشهر الحرم. وقد وقع النداء والنبذ إلى المشركين بعهدهم يوم النحر، فكان الباقي من الأشهر الحرم، التي هي الثلاثة المسرودة، خمسين يوما، تنقضي بانقضاء شهر المحرم، فأمرهم الله بقتل المشركين حيث يوجدون، وبه قال جماعة من أهل العلم. انتهى.
قال ابن القيم: (الحرم) هاهنا هي أشهر التسيير، أولها يوم الأذان، وهو اليوم العاشر من ذي الحجة، وهو يوم الحج الأكبر، الذي وقع فيه التأذين بذلك، وآخرها العاشر من ربيع الآخر. وليست هي الأربعة المذكورة في قوله: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ [التوبة: ٣٦]، فإن تلك واحد فرد هو رجب، وثلاثة سرد وهي ذو القعدة وتالياه. ولم يسيّر المشركين في هذه الأربعة، فإن هذا لا يمكن، لأنها غير متوالية، وهو إنما أجلهم أربعة أشهر، ثم أمره بعد انسلاخها أن يقاتلهم. انتهى.
وقالوا: يلزم على هذا بقاء حرمة تلك الأشهر. وتكلف الجواب بنسخها، إما بانعقاد الإجماع عليه، أو بما صح من أنه صلّى الله عليه وسلّم حاصر الطائف لعشر بقين من المحرم، مع أن هذا الإجماع كلاما، وقد خالف بعضهم في بقاء حرمتها، إلا أنهم لم يعتدّوا به كما قاله في (العناية). وفيها: إن لك أن تقول: منع القتال في الأشهر الحرم في تلك السنة، لا يقتضي منعه في كل ما شابهها، بل هو مسكوت عنه، فلا يخالف الإجماع، ويكون حلّه معلوما من دليل آخر.
وأقول: يظهر لي هذا الثاني وأن المراد بالأربعة الأشهر هي المعروفة، وأن قوله تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ هي هذه الأربعة، لأنها حيثما أطلقت في التنزيل لا تنصرف إلا إليها، فصرفها إلى غيرها يحتاج إلى برهان قاطع.
قال في (فتح البيان) ومعنى الآية على هذا وجوب الإمساك عن قتال من لا عهد له من المشركين في هذه الأشهر الحرم. وقد وقع النداء والنبذ إلى المشركين بعهدهم يوم النحر، فكان الباقي من الأشهر الحرم، التي هي الثلاثة المسرودة، خمسين يوما، تنقضي بانقضاء شهر المحرم، فأمرهم الله بقتل المشركين حيث يوجدون، وبه قال جماعة من أهل العلم. انتهى.
352
ولا يقال: إن الباقي من الأشهر الحرم ثمانون يوما، إذ الحج في تلك السنة كان في العاشر من ذي القعدة، بسبب النسيء، ثم صار في السنة المقبلة في العاشر من ذي الحجة، وفيها حج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
وقال» : إن الزمان قد استدار... الحديث-
لأنا نقول: كان ذو القعدة عامئذ هو ذا الحجة بحسابهم، لا في الواقع، وكذلك ذو الحجة، المحرم، فعوملوا بحسابهم.
الثاني- قال السيوطي في (الإكليل) في قوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ هذه آية السيف الناسخة لآيات العفو والصفح والإعراض والمسالمة.
انتهى.
وروي عن الضحاك أنها منسوخة بقوله تعالى في سورة محمد: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً [محمد: ٤]. وردّه الحاكم بأنه لا شبهة في أن براءة نزلت بعد سورة محمد، ومقتضى كلام الحاكم، أنها لا ناسخة ولا منسوخة، قال: لأن الجمع، من غير منافاة، ممكن فحيث ورد في القرآن ذكر الإعراض، فالمراد به إعراض إنكار، لا تقرير. وأما الأسر والفداء، فالمراد به أنه خيّر بين ذلك، لا أن القتل حتم، إذ لو كان حتما، لم يكن للأخذ معنى بعد القتل. انتهى.
ويشمل عمومها مشركي العرب وغيرهم، واستدل بقوله تعالى: وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ على جواز حصارهم والإغارة عليهم وبياتهم.
الثالث- فهو من قوله تعالى: فَإِنْ تابُوا... الآية أن الأمر بتخلية السبيل معلق على شروط ثلاثة: التوبة، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، فحيث لم تحصل جاز ما تقدم من القتل والأخذ والحصر. ولهذا اعتمد الصديق رضي الله عنه، في قتال مانعي الزكاة، على هذه الآية الكريمة وأمثالها.
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يرحم الله أبا بكر، ما كان أفقهه!
وفي الصحيحين «٢» عن ابن عمر رضي الله عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله عنهما وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة.
وقال» : إن الزمان قد استدار... الحديث-
لأنا نقول: كان ذو القعدة عامئذ هو ذا الحجة بحسابهم، لا في الواقع، وكذلك ذو الحجة، المحرم، فعوملوا بحسابهم.
الثاني- قال السيوطي في (الإكليل) في قوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ هذه آية السيف الناسخة لآيات العفو والصفح والإعراض والمسالمة.
انتهى.
وروي عن الضحاك أنها منسوخة بقوله تعالى في سورة محمد: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً [محمد: ٤]. وردّه الحاكم بأنه لا شبهة في أن براءة نزلت بعد سورة محمد، ومقتضى كلام الحاكم، أنها لا ناسخة ولا منسوخة، قال: لأن الجمع، من غير منافاة، ممكن فحيث ورد في القرآن ذكر الإعراض، فالمراد به إعراض إنكار، لا تقرير. وأما الأسر والفداء، فالمراد به أنه خيّر بين ذلك، لا أن القتل حتم، إذ لو كان حتما، لم يكن للأخذ معنى بعد القتل. انتهى.
ويشمل عمومها مشركي العرب وغيرهم، واستدل بقوله تعالى: وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ على جواز حصارهم والإغارة عليهم وبياتهم.
الثالث- فهو من قوله تعالى: فَإِنْ تابُوا... الآية أن الأمر بتخلية السبيل معلق على شروط ثلاثة: التوبة، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، فحيث لم تحصل جاز ما تقدم من القتل والأخذ والحصر. ولهذا اعتمد الصديق رضي الله عنه، في قتال مانعي الزكاة، على هذه الآية الكريمة وأمثالها.
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يرحم الله أبا بكر، ما كان أفقهه!
وفي الصحيحين «٢» عن ابن عمر رضي الله عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله عنهما وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة.
(١) أخرجه البخاري في: التفسير، ٩- سورة التوبة، ٨- باب قوله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً، حديث رقم ٥٩ عن أبي بكرة.
(٢) أخرجه البخاري في: الإيمان، ١٧- باب فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ، حديث رقم ٢٤.
وأخرجه مسلم في: الإيمان، حديث رقم ٣٦.
(٢) أخرجه البخاري في: الإيمان، ١٧- باب فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ، حديث رقم ٢٤.
وأخرجه مسلم في: الإيمان، حديث رقم ٣٦.
353
وروى الإمام أحمد «١» عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فإذا شهدوا، واستقبلوا قبلتنا، وأكلوا ذبيحتنا، وصلوا صلاتنا، فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم. ورواه البخاري وغيره.
الرابع- ذكر ابن القيّم خلاصة بديعة في سياق ترتيب هديه صلّى الله عليه وسلّم مع الكفار والمنافقين، من حين بعث، إلى حين لقي الله عزّ وجلّ، مما يؤيد فهم ما تشير إليه هذا السورة، قال رحمه الله:
أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى أن يقرأ باسم ربه الذي خلق، وذلك أول نبوته، فأمره أن يقرأ في نفسه، ولم يأمره إذ ذاك بتبليغ، ثم أنزل عليه يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ [المدثر: ١- ٢] فنبأه بقوله اقْرَأْ [العلق: ١]، وأرسله ب يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين، ثم أنذر قومه، ثم أنذر من حولهم من العرب، ثم أنذر العرب قاطبة، ثم أنذر العالمين، فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية، ويؤمر بالكف والصبر والصفح، ثم أذن له في الهجرة، وأذن له في القتال ثم أمره أن يقاتل من قاتله، ويكفّ عمن لم يقاتله. ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله. ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام: أهل صلح وهدنة، وأهل حرب، وأهل ذمة. فأمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم، وأن يوفي لهم به ما استقاموا على العهد، فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم، ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد. وأمر أن يقاتل من نقض عهده، ولما نزلت سورة (براءة) نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها، فأمره فيها أن يقاتل عدوّه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية، أو يدخلوا في الإسلام.
وأمره فيها بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم، فجاهد الكفار بالسيف والسنان، والمنافقين بالحجة واللسان، وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار، ونبذ عهودهم إليهم، وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام:
قسما أمره بقتالهم، وهم الذين نقضوا عهده، ولم يستقيموا له، فحاربهم وظهر عليهم.
وقسما لهم عهد موقت لم ينقضوه، ولم يظاهروا عليه، فأمره أن يتم لهم عهدهم إلى مدتهم.
الرابع- ذكر ابن القيّم خلاصة بديعة في سياق ترتيب هديه صلّى الله عليه وسلّم مع الكفار والمنافقين، من حين بعث، إلى حين لقي الله عزّ وجلّ، مما يؤيد فهم ما تشير إليه هذا السورة، قال رحمه الله:
أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى أن يقرأ باسم ربه الذي خلق، وذلك أول نبوته، فأمره أن يقرأ في نفسه، ولم يأمره إذ ذاك بتبليغ، ثم أنزل عليه يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ [المدثر: ١- ٢] فنبأه بقوله اقْرَأْ [العلق: ١]، وأرسله ب يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين، ثم أنذر قومه، ثم أنذر من حولهم من العرب، ثم أنذر العرب قاطبة، ثم أنذر العالمين، فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية، ويؤمر بالكف والصبر والصفح، ثم أذن له في الهجرة، وأذن له في القتال ثم أمره أن يقاتل من قاتله، ويكفّ عمن لم يقاتله. ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله. ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام: أهل صلح وهدنة، وأهل حرب، وأهل ذمة. فأمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم، وأن يوفي لهم به ما استقاموا على العهد، فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم، ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد. وأمر أن يقاتل من نقض عهده، ولما نزلت سورة (براءة) نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها، فأمره فيها أن يقاتل عدوّه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية، أو يدخلوا في الإسلام.
وأمره فيها بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم، فجاهد الكفار بالسيف والسنان، والمنافقين بالحجة واللسان، وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار، ونبذ عهودهم إليهم، وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام:
قسما أمره بقتالهم، وهم الذين نقضوا عهده، ولم يستقيموا له، فحاربهم وظهر عليهم.
وقسما لهم عهد موقت لم ينقضوه، ولم يظاهروا عليه، فأمره أن يتم لهم عهدهم إلى مدتهم.
(١) أخرجه في المسند ٣/ ١٩٩.
354
وقسما لم يكن لهم عهد، ولم يحاربوه، أو كان لهم عهد مطلق، فأمره أن يؤجلهم أربعة أشهر، ثم أمره بعد انسلاخها أن يقاتلهم. فقتل الناقض لعهده، وأجّل من لا عهد له أو له عهد مطلق، أربعة أشهر، وأمره أن يتم للموفي بعهده إلى مدته، فأسلم هؤلاء كلهم، ولم يقيموا على كفرهم إلى مدتهم. وضرب على أهل الذمة الجزية فاستقرّ أمر الكفار معه بعد نزول (براءة) على ثلاثة أقسام: محاربين له، وأهل عهد، وأهل ذمة. ثم آلت حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام، فصاروا معه قسمين: محاربين، وأهل ذمة. والمحاربون له خائفون منه، فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام: مسلم مؤمن به، ومسالم له آمن. وخائف محارب.
وأما سيرته في المنافقين فإنه أمر أن يقبل منهم علانيتهم، ويكل سرائرهم إلى الله، وأن يجاهدهم بالعلم والحجة، وأمر أن يعرض عنهم، ويغلظ عليهم، وأن يبلغ بالقول البليغ إلى نفوسهم، ونهي أن يصلّي عليهم وأن يقوم على قبورهم، وأخبره أنه إن استغفر لهم أو لم يستغفر لهم، فلن يغفر الله لهم. فهذه سيرته في أعدائه من الكفار والمنافقين. انتهى.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٦]
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦)
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ: أي وإن استجارك أحد من المشركين الذين أمرت بقتالهم، أي استأمنك بعد انقضاء أشهر العهد، فأجبه إلى طلبته حتى يسمع كلام الله، أي القرآن الذي تقرؤه عليه، ويتدبره، ويطلع على حقيقة الأمر، وتقوم عليه حجة الله به، فإن أسلم ثبت له ما للمسلمين، وإن أبى فإنه يردّ إلى مأمنه ودراه التي يأمن فيها، ثم قاتله إن شئت. وقوله تعالى: ذلِكَ يعني الأمر بالإجارة وإبلاغ المأمن، بسبب أنهم قوم لا يعلمون، أي جهلة، فلا بد من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا ويفهموا الحق، ولا يبقى لهم معذرة.
تنبيهات:
الأول- دلت الآية على أن المستأمن لا يؤذى، وأنه يمكّن من العود من غير
وأما سيرته في المنافقين فإنه أمر أن يقبل منهم علانيتهم، ويكل سرائرهم إلى الله، وأن يجاهدهم بالعلم والحجة، وأمر أن يعرض عنهم، ويغلظ عليهم، وأن يبلغ بالقول البليغ إلى نفوسهم، ونهي أن يصلّي عليهم وأن يقوم على قبورهم، وأخبره أنه إن استغفر لهم أو لم يستغفر لهم، فلن يغفر الله لهم. فهذه سيرته في أعدائه من الكفار والمنافقين. انتهى.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٦]
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦)
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ: أي وإن استجارك أحد من المشركين الذين أمرت بقتالهم، أي استأمنك بعد انقضاء أشهر العهد، فأجبه إلى طلبته حتى يسمع كلام الله، أي القرآن الذي تقرؤه عليه، ويتدبره، ويطلع على حقيقة الأمر، وتقوم عليه حجة الله به، فإن أسلم ثبت له ما للمسلمين، وإن أبى فإنه يردّ إلى مأمنه ودراه التي يأمن فيها، ثم قاتله إن شئت. وقوله تعالى: ذلِكَ يعني الأمر بالإجارة وإبلاغ المأمن، بسبب أنهم قوم لا يعلمون، أي جهلة، فلا بد من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا ويفهموا الحق، ولا يبقى لهم معذرة.
تنبيهات:
الأول- دلت الآية على أن المستأمن لا يؤذى، وأنه يمكّن من العود من غير
355
غدر به ولا خيانة، ولذا ورد في الترهيب من عدم الوفاء بالعهد والغدر ما يزجر أشد الزجر.
فروى البخاري في (تاريخه) والنسائي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أمّن رجلا على دمه فقتله، فأنا بريء من القاتل وإن كان المقتول كافرا».
وروى أحمد والشيخان «١» عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة.
قال ابن كثير: من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام، في أداء رسالة أو تجارة، أو طلب صلح أو مهادنة، أو حمل جزية، أو نحو ذلك من الأسباب، وطلب من الإمام أو نائبه أمانا أعطي، ما دام مترددا في دار الإسلام، إلى أن يرجع إلى مأمنه ووطنه.
قال الحاكم: وإنما يجار ويؤمّن إذا لم يعلم أنه يطلب الخداع والمكر، لأنه تعالى علل لزوم الإجارة بقوله حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ.
الثاني- قال الحاكم: تدل الآية على أنه يجوز للكافر دخول المسجد لسماع كلام الله.
الثالث- استدل بهذه الآية من ذهب إلى كلام الله بحرف وصوت قديمين، وهم الحنابلة، ومن وافقهم كالعضد. قالوا: لأن منطوق الآية يدل على أن كلام الله يسمعه الكافر والمؤمن والزنديق والصديق، والذي يسمعه جمهور الخلق ليس إلا هذه الحروف والأصوات. فدل ذلك على أن كلام الله ليس هذه الحروف والأصوات.
والقول بأن كلام الله شيء مغاير لها باطل، لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما كان يشير بقوله (كلام الله) إلا لها، وقد اعترف الرازي بقوة هذا، لإلزام من خالف فيه، وقد مضى لنا في قوله تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النساء: ١٦٤] في آخر سورة النساء، فارجع إليه.
الرابع- قال الرازي: دلت الآية على أن التقليد غير كاف في الدين، وأنه لا بد من النظر والاستدلال، وذلك لأنه لو كان التقليد كافيا، لوجب أن لا يمهل هذا الكافر، بل يقال له: إما أن تؤمن، وإما أن نقتلك. فلما لم يقل له ذلك، بل أمهل وأزيل الخوف عنه، ووجب تبليغه مأمنه- علم أن ذلك لأجل عدم كفاية التقليد في الدين، وأنه لا بد من الحجة والدليل، فلذا أمهل ليحصل له النظر والاستدلال.
فروى البخاري في (تاريخه) والنسائي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أمّن رجلا على دمه فقتله، فأنا بريء من القاتل وإن كان المقتول كافرا».
وروى أحمد والشيخان «١» عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة.
قال ابن كثير: من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام، في أداء رسالة أو تجارة، أو طلب صلح أو مهادنة، أو حمل جزية، أو نحو ذلك من الأسباب، وطلب من الإمام أو نائبه أمانا أعطي، ما دام مترددا في دار الإسلام، إلى أن يرجع إلى مأمنه ووطنه.
قال الحاكم: وإنما يجار ويؤمّن إذا لم يعلم أنه يطلب الخداع والمكر، لأنه تعالى علل لزوم الإجارة بقوله حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ.
الثاني- قال الحاكم: تدل الآية على أنه يجوز للكافر دخول المسجد لسماع كلام الله.
الثالث- استدل بهذه الآية من ذهب إلى كلام الله بحرف وصوت قديمين، وهم الحنابلة، ومن وافقهم كالعضد. قالوا: لأن منطوق الآية يدل على أن كلام الله يسمعه الكافر والمؤمن والزنديق والصديق، والذي يسمعه جمهور الخلق ليس إلا هذه الحروف والأصوات. فدل ذلك على أن كلام الله ليس هذه الحروف والأصوات.
والقول بأن كلام الله شيء مغاير لها باطل، لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما كان يشير بقوله (كلام الله) إلا لها، وقد اعترف الرازي بقوة هذا، لإلزام من خالف فيه، وقد مضى لنا في قوله تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النساء: ١٦٤] في آخر سورة النساء، فارجع إليه.
الرابع- قال الرازي: دلت الآية على أن التقليد غير كاف في الدين، وأنه لا بد من النظر والاستدلال، وذلك لأنه لو كان التقليد كافيا، لوجب أن لا يمهل هذا الكافر، بل يقال له: إما أن تؤمن، وإما أن نقتلك. فلما لم يقل له ذلك، بل أمهل وأزيل الخوف عنه، ووجب تبليغه مأمنه- علم أن ذلك لأجل عدم كفاية التقليد في الدين، وأنه لا بد من الحجة والدليل، فلذا أمهل ليحصل له النظر والاستدلال.
(١) أخرجه البخاري في: الجزية والموادعة، ٢٢- باب إثم الغادر للبر والفاجر، حديث رقم ١٥٠٤.
وأخرجه مسلم في: الجهاد والسير، حديث رقم ١٤.
وأخرجه مسلم في: الجهاد والسير، حديث رقم ١٤.
356
ثم بيّن تعالى حكمته في البراءة من المشركين ونظرته إياهم أربعة أشهر، ثم بعدها السيف المرهف بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٧]
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧)
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ أي أمان عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ أي وهم كافرون بهما، فالاستفهام بمعنى الإنكار، والاستبعاد لأن يكون لهم عهد إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ يعني أهل مكة الذين عاهدهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الحديبية على ترك الحرب معهم عشر سنين فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ أي فما داموا مستقيمين على عهدهم، مراعين لحقوقكم، فاستقيموا لهم على عهدهم إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ أي فاتقوه في نقض عهد المستقيمين على عهدهم.
قال ابن كثير: وقد فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك والمسلمون، استمر العقد والهدنة مع أهل مكة من ذي القعدة سنة ست إلى أن نقضت قريش العهد، ومالئوا حلفاءهم، وهم بنو بكر، على خزاعة، أحلاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقتلوهم معهم في الحرم أيضا، فعند ذلك غزاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في رمضان سنة ثمان، ففتح الله عليه البلد الحرام، ومكنه من نواصيهم، ولله الحمد والمنة، فأطلق من أسلم منهم، بعد القهر والغلبة عليهم، فسموا الطلقاء، وكانوا قريبا من ألفين، ومن استمر على كفره، وفرّ من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بعث إليه بالأمان والتسيير في أربعة أشهر، يذهب حيث شاء. ومنهم صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل وغيرهما، ثم هداهم الله للإسلام.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٨]
كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨)
كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ أي يظفروا بكم بعد ما سبق لهم من تأكيد الإيمان والمواثيق لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا أي قرابة ويمينا وَلا ذِمَّةً أي عهدا. وهذه الجملة
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٧]
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧)
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ أي أمان عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ أي وهم كافرون بهما، فالاستفهام بمعنى الإنكار، والاستبعاد لأن يكون لهم عهد إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ يعني أهل مكة الذين عاهدهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الحديبية على ترك الحرب معهم عشر سنين فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ أي فما داموا مستقيمين على عهدهم، مراعين لحقوقكم، فاستقيموا لهم على عهدهم إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ أي فاتقوه في نقض عهد المستقيمين على عهدهم.
قال ابن كثير: وقد فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك والمسلمون، استمر العقد والهدنة مع أهل مكة من ذي القعدة سنة ست إلى أن نقضت قريش العهد، ومالئوا حلفاءهم، وهم بنو بكر، على خزاعة، أحلاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقتلوهم معهم في الحرم أيضا، فعند ذلك غزاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في رمضان سنة ثمان، ففتح الله عليه البلد الحرام، ومكنه من نواصيهم، ولله الحمد والمنة، فأطلق من أسلم منهم، بعد القهر والغلبة عليهم، فسموا الطلقاء، وكانوا قريبا من ألفين، ومن استمر على كفره، وفرّ من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بعث إليه بالأمان والتسيير في أربعة أشهر، يذهب حيث شاء. ومنهم صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل وغيرهما، ثم هداهم الله للإسلام.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٨]
كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨)
كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ أي يظفروا بكم بعد ما سبق لهم من تأكيد الإيمان والمواثيق لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا أي قرابة ويمينا وَلا ذِمَّةً أي عهدا. وهذه الجملة
مردودة على الآية الأولى، أي كيف يكون لهم عهد، وحالهم ما ذكر؟ وفيه تحريض للمؤمنين على التبرؤ منهم، لأن من كان أسير الفرصة، مترقيا لها، لا يرجى منه دوام العهد.
قال الناصر: ولما طال الكلام باستثناء الباقين على العهد، أعيدت (كيف) تطريه للذكر، وليأخذ بعض الكلام بحجزة بعض. انتهى.
ثم استأنف تعالى بيان حالهم المنافية لثباتهم على العهد بقوله يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ أي ما تتفوه به أفواههم وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ أي متمردون، لا عقيدة تزعمهم، ولا مروءة تردعهم. وتخصيص الأكثر، لما في بعض الكفرة من التفادي عن العذر، والتعفف عما يجرّ إلى أحدوثة السوء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٩]
اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩)
اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ أي استبدلوا بها ثَمَناً قَلِيلًا أي من متاع الدنيا. يعني أهويتهم الفاسدة فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ أي فعدلوا عنه أو صرفوا غيرهم إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١٠]
لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠)
لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ أي المجاوزون الغاية في الظلم والمساوئ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١١]
فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١)
فَإِنْ تابُوا أي مما هم عليه من الكفر وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ أي فهم إخوانكم، لهم ما لكم، وعليهم ما عليكم، فعاملوهم معاملة الإخوان، وفيه من استمالتهم واستجلاب قلوبهم ما لا مزيد عليه.
قال الناصر: ولما طال الكلام باستثناء الباقين على العهد، أعيدت (كيف) تطريه للذكر، وليأخذ بعض الكلام بحجزة بعض. انتهى.
ثم استأنف تعالى بيان حالهم المنافية لثباتهم على العهد بقوله يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ أي ما تتفوه به أفواههم وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ أي متمردون، لا عقيدة تزعمهم، ولا مروءة تردعهم. وتخصيص الأكثر، لما في بعض الكفرة من التفادي عن العذر، والتعفف عما يجرّ إلى أحدوثة السوء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٩]
اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩)
اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ أي استبدلوا بها ثَمَناً قَلِيلًا أي من متاع الدنيا. يعني أهويتهم الفاسدة فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ أي فعدلوا عنه أو صرفوا غيرهم إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١٠]
لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠)
لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ أي المجاوزون الغاية في الظلم والمساوئ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١١]
فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١)
فَإِنْ تابُوا أي مما هم عليه من الكفر وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ أي فهم إخوانكم، لهم ما لكم، وعليهم ما عليكم، فعاملوهم معاملة الإخوان، وفيه من استمالتهم واستجلاب قلوبهم ما لا مزيد عليه.
وقوله وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ جملة معترضة للحث على تأمل ما فصل من أحكام المشركين المعاهدين وعلى المحافظة عليها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١٢]
وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢)
وَإِنْ نَكَثُوا أي نقضوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ أي فقاتلوهم. وإنما أوثر ما عليه النظم الكريم، للإيذان بأنهم صاروا بذلك ذوي رئاسة وتقدم في الكفر، أحقاء بالقتل والقتال. وقيل: المراد بالأئمة رؤساؤهم وصناديدهم وتخصيصهم بالذكر إما لأهمّيّة قتلهم، أو للمنع من مراقبتهم، ولكونهم مظنة لها أو للدلالة على استئصالهم، فإن قتلهم غالبا يكون بعد قتل من دونهم أفاده أبو السعود. إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ جمع يمين أي لا عهود لهم على الحقيقة، حيث لا يراعونها ولا يعدّون نقضها محذورا، فهم، وإن تفوهوا بها، لا عبرة بها. وقرئ لا أَيْمانَ بكسر الهمزة، أي لا إسلام ولا تصديق لهم، حتى يرتدعوا عن النقض والطعن لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ أي عن الكفر والطعن ويرجعون إلى الإيمان.
تنبيه:
قال السيوطي في (الإكليل) : استدل بهذه الآية من قال إن الذّمّي يقتل إذا طعن في الإسلام أو القرآن أو ذكر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بسوء، سواء شرط انتقاض العهد به أم لا.
واستدل من قال بقبول توبته بقوله لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ. انتهى.
ثم حض على قتالهم بتهييج قلوب المؤمنين وإغرائهم بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١٣]
أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣)
أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ أي التي حلفوها في المعاهدة وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ يعني من مكة حين اجتمعوا في دار الندوة، حسبما ذكر في قوله
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١٢]
وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢)
وَإِنْ نَكَثُوا أي نقضوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ أي فقاتلوهم. وإنما أوثر ما عليه النظم الكريم، للإيذان بأنهم صاروا بذلك ذوي رئاسة وتقدم في الكفر، أحقاء بالقتل والقتال. وقيل: المراد بالأئمة رؤساؤهم وصناديدهم وتخصيصهم بالذكر إما لأهمّيّة قتلهم، أو للمنع من مراقبتهم، ولكونهم مظنة لها أو للدلالة على استئصالهم، فإن قتلهم غالبا يكون بعد قتل من دونهم أفاده أبو السعود. إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ جمع يمين أي لا عهود لهم على الحقيقة، حيث لا يراعونها ولا يعدّون نقضها محذورا، فهم، وإن تفوهوا بها، لا عبرة بها. وقرئ لا أَيْمانَ بكسر الهمزة، أي لا إسلام ولا تصديق لهم، حتى يرتدعوا عن النقض والطعن لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ أي عن الكفر والطعن ويرجعون إلى الإيمان.
تنبيه:
قال السيوطي في (الإكليل) : استدل بهذه الآية من قال إن الذّمّي يقتل إذا طعن في الإسلام أو القرآن أو ذكر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بسوء، سواء شرط انتقاض العهد به أم لا.
واستدل من قال بقبول توبته بقوله لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ. انتهى.
ثم حض على قتالهم بتهييج قلوب المؤمنين وإغرائهم بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١٣]
أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣)
أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ أي التي حلفوها في المعاهدة وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ يعني من مكة حين اجتمعوا في دار الندوة، حسبما ذكر في قوله
تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنفال: ٣٠] فيكون نعيا عليهم جنايتهم القديمة وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أي بالقتال يوم بدر، حين خرجوا لنصر عيرهم فما نجت وعلموا بذلك، استمروا على وجوههم طلبا للقتال، بغيا وتكبرا. وقيل:
بنقضهم العهد، وقتالهم مع حلفائهم بني بكر لخزاعة، أحلاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حتى سار إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام الفتح وكان ما كان. قاله ابن كثير.
وقال الزمخشري: أي وهم الذين كانت منهم البداءة بالمقاتلة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلّم جاءهم أولا بالكتاب المنير، وتحداهم به، فعدلوا عن المعارضة، لعجزهم عنها، إلى القتال، فهم البادئون بالقتال، والبادئ أظلم. فما يمنعكم من أن تقاتلوهم بمثله، وأن تصدموهم بالشر كما صدموكم أَتَخْشَوْنَهُمْ أي أتخافون أن ينالكم منهم مكروه حتى تتركوا قتالهم فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ بمخالفة أمره وترك قتالهم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يعني أن قضية الإيمان الصحيح أن لا يخشى المؤمن إلا ربه، ولا يبالي بمن سواه كقوله تعالى: وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ [الأحزاب: ٣٩]. قاله الزمخشري- وفيه من التشديد ما لا يخفى.
ثم عزم تعالى على المؤمنين الأمر بالقتال لحكمته بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١٤]
قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤)
قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ أي بآلام الجراحات والموت بِأَيْدِيكُمْ أي تغليبا لكم عليهم وَيُخْزِهِمْ أي بالأسر والاسترقاق، فيجتمع في حقهم العذاب الحسي والمعنوي وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ أي: ممن لم يشهد القتال.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١٥]
وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥)
وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ أي بما كابدوا من المكاره والمكايد وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ أي فيحصل لكم أجرهم وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي في أفعاله وأوامره. وقد أنجز الله سبحانه لهم هذه المواعيد كلها، فكان إخباره صلّى الله عليه وسلّم بذلك قبل وقوعه معجزة عظيمة دالة على صدقه وصحة نبوته.
بنقضهم العهد، وقتالهم مع حلفائهم بني بكر لخزاعة، أحلاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حتى سار إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام الفتح وكان ما كان. قاله ابن كثير.
وقال الزمخشري: أي وهم الذين كانت منهم البداءة بالمقاتلة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلّم جاءهم أولا بالكتاب المنير، وتحداهم به، فعدلوا عن المعارضة، لعجزهم عنها، إلى القتال، فهم البادئون بالقتال، والبادئ أظلم. فما يمنعكم من أن تقاتلوهم بمثله، وأن تصدموهم بالشر كما صدموكم أَتَخْشَوْنَهُمْ أي أتخافون أن ينالكم منهم مكروه حتى تتركوا قتالهم فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ بمخالفة أمره وترك قتالهم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يعني أن قضية الإيمان الصحيح أن لا يخشى المؤمن إلا ربه، ولا يبالي بمن سواه كقوله تعالى: وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ [الأحزاب: ٣٩]. قاله الزمخشري- وفيه من التشديد ما لا يخفى.
ثم عزم تعالى على المؤمنين الأمر بالقتال لحكمته بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١٤]
قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤)
قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ أي بآلام الجراحات والموت بِأَيْدِيكُمْ أي تغليبا لكم عليهم وَيُخْزِهِمْ أي بالأسر والاسترقاق، فيجتمع في حقهم العذاب الحسي والمعنوي وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ أي: ممن لم يشهد القتال.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١٥]
وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥)
وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ أي بما كابدوا من المكاره والمكايد وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ أي فيحصل لكم أجرهم وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي في أفعاله وأوامره. وقد أنجز الله سبحانه لهم هذه المواعيد كلها، فكان إخباره صلّى الله عليه وسلّم بذلك قبل وقوعه معجزة عظيمة دالة على صدقه وصحة نبوته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١٦]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٦)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا أي على ما أنتم عليه، ولا تؤمروا بالجهاد وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً. أي بطانه يفشون إليهم أسرارهم. والواو في (ولما) حالية، و (لما) للنفي مع التوقع، والمراد من نفي العلم نفي المعلوم بالطريق البرهاني، إذ لو شم رائحة الوجود، لعلم قطعا، فلما يعلم لزم عدمه قطعا وَلَمْ يَتَّخِذُوا عطف على جاهَدُوا داخل في حيز الصلة. والمعنى: أنكم لا تتركون على ما أنتم عليه، والحال أنه لم يتبين الخّلص من المجاهدين منكم من غيرهم، بل لا بد أن تختبروا، حتى يظهر المخلصون منكم، وهم الذين جاهدوا في سبيل الله، لوجه الله، ولم يتخذوا وليجة، أي بطانة من الذين يضادون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والمؤمنين رضوان الله عليهم. ودلت (لما) على أن تبين ذلك وإيضاحه متوقع كائن، وإن الذين لم يخلصوا دينهم لله يميز بينهم وبين المخلصين، وفي الآية اكتفاء بأحد القسمين، حيث لم يتعرض للمقصرين، وذلك لأنه بمعزل من الاندراج تحت إرادة أكرم الأكرمين، وهذا كما قال:
وقد قال الله تعالى في الآية الأخرى: الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ [العنكبوت: ١- ٣]. وقال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ..
[البقرة: ٢١٤] الآية- قال تعالى: ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ..
[آل عمران: ١٧٩] الآية- وكلها تفيد أن مشروعية الجهاد اختبار المطيع من غيره.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١٧]
ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٦)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا أي على ما أنتم عليه، ولا تؤمروا بالجهاد وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً. أي بطانه يفشون إليهم أسرارهم. والواو في (ولما) حالية، و (لما) للنفي مع التوقع، والمراد من نفي العلم نفي المعلوم بالطريق البرهاني، إذ لو شم رائحة الوجود، لعلم قطعا، فلما يعلم لزم عدمه قطعا وَلَمْ يَتَّخِذُوا عطف على جاهَدُوا داخل في حيز الصلة. والمعنى: أنكم لا تتركون على ما أنتم عليه، والحال أنه لم يتبين الخّلص من المجاهدين منكم من غيرهم، بل لا بد أن تختبروا، حتى يظهر المخلصون منكم، وهم الذين جاهدوا في سبيل الله، لوجه الله، ولم يتخذوا وليجة، أي بطانة من الذين يضادون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والمؤمنين رضوان الله عليهم. ودلت (لما) على أن تبين ذلك وإيضاحه متوقع كائن، وإن الذين لم يخلصوا دينهم لله يميز بينهم وبين المخلصين، وفي الآية اكتفاء بأحد القسمين، حيث لم يتعرض للمقصرين، وذلك لأنه بمعزل من الاندراج تحت إرادة أكرم الأكرمين، وهذا كما قال:
وما أدري إذا يمّمت أرضا | أريد الخير أيّهما يلني |
[البقرة: ٢١٤] الآية- قال تعالى: ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ..
[آل عمران: ١٧٩] الآية- وكلها تفيد أن مشروعية الجهاد اختبار المطيع من غيره.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١٧]
ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧)
ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أي ما صحّ لهم وما استقام أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ أي التي بنيت على اسمه وحده لا شريك له، أي يعمروا شيئا منها، فهو جمع مضاف في سياق النفي، ويدخل فيه المسجد الحرام دخولا أوليا، إذ نفي الجمع يدل على النفي عن كل فرد، فيلزم نفيه عن الفرد المعيّن بطريق الكناية. وقرئ (مسجد الله) بالتوحيد، تصريحا بالمقصود، وهو المسجد الحرام، أشرف المساجد في الأرض، الذي بني من أول يوم على عبادة الله وحده، لا شريك له، وأسسه خليل الرحمن.
قال في (البصائر) :(يعمر) إما من العمارة التي هي حفظ البناء، أو من العمرة التي هي الزيارة، أو من قولهم: عمرت بمكان كذا أي أقمت به. انتهى.
شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أي بحالهم وقالهم، وهو حال من الضمير في يَعْمُرُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ وهذا كقوله تعالى: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ، إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ
[الأنفال: ٣٤] ولهذا قال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١٨]
إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨)
إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ أي لم يعبد إلا الله فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ أي إلى الجنة. وإبراز اهتدائهم مع ما بهم من الصفات السنية، في معرض التوقع، لقطع أطماع الكفرة عن الوصول إلى مواقف الاهتداء، والانتفاع بأعمالهم التي يحسبون أنهم في ذلك محسنون، ولتوبيخهم بقطعهم أنهم مهتدون. فإن المؤمنين، ما بهم من هذه الكمالات، إذا كان أمرهم دائرا بين (لعلّ وعسى)، فما بال الكفرة وهم هم، وأعمالهم أعمالهم!! وفيه لطف للمؤمنين، وترغيب لهم في ترجيح جانب الخوف على جانب الرجاء، ورفض الاغترار بالله تعالى. كذا حرره أبو السعود-.
وقال الناصر: وأكثرهم يقول: إن (عسى) من الله واجبة، بناء منهم على أن استعمالها غير مصروفة للمخاطبين. والحق أن الخطاب مصروف إليهم، كما قال الزمخشري. أي فحال هؤلاء المؤمنين حال مرجوّة، والعاقبة عند الله معلومة، ولله عاقبة الأمور.
قال في (البصائر) :(يعمر) إما من العمارة التي هي حفظ البناء، أو من العمرة التي هي الزيارة، أو من قولهم: عمرت بمكان كذا أي أقمت به. انتهى.
شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أي بحالهم وقالهم، وهو حال من الضمير في يَعْمُرُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ وهذا كقوله تعالى: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ، إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ
[الأنفال: ٣٤] ولهذا قال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١٨]
إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨)
إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ أي لم يعبد إلا الله فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ أي إلى الجنة. وإبراز اهتدائهم مع ما بهم من الصفات السنية، في معرض التوقع، لقطع أطماع الكفرة عن الوصول إلى مواقف الاهتداء، والانتفاع بأعمالهم التي يحسبون أنهم في ذلك محسنون، ولتوبيخهم بقطعهم أنهم مهتدون. فإن المؤمنين، ما بهم من هذه الكمالات، إذا كان أمرهم دائرا بين (لعلّ وعسى)، فما بال الكفرة وهم هم، وأعمالهم أعمالهم!! وفيه لطف للمؤمنين، وترغيب لهم في ترجيح جانب الخوف على جانب الرجاء، ورفض الاغترار بالله تعالى. كذا حرره أبو السعود-.
وقال الناصر: وأكثرهم يقول: إن (عسى) من الله واجبة، بناء منهم على أن استعمالها غير مصروفة للمخاطبين. والحق أن الخطاب مصروف إليهم، كما قال الزمخشري. أي فحال هؤلاء المؤمنين حال مرجوّة، والعاقبة عند الله معلومة، ولله عاقبة الأمور.
362
تنبيهات:
الأول- قال الزمخشريّ: (العمارة) تتناول زمّ ما استرمّ منها وقمّها وتنظيفها وتنويرها بالمصابيح وتعظيمها واعتيادها للعبادة والذّكر. ومن الذكر درس العلم، بل هو أجلّه وأعظمه. وصيانتها مما لم تبن له المساجد من أحاديث الدنيا، فضلا عن فضول الحديث.
روى البخاري «١» ومسلم عن أبي هريرة أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: من غدا إلى المسجد أو راح، أعدّ الله له في الجنة نزلا كلما غدا أو راح.
ورويا «٢» أيضا عن عثمان بن عفان قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: من بنى لله مسجدا يبتغي به وجه الله تعالى، بنى الله له بيتا في الجنة.
وأخرج الترمذي «٣» عن أبي سعيد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد، فاشهدوا له بالإيمان، قال الله تعالى: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ..
الآية.
الثاني- إنما لم يذكر الإيمان بالرسول صلّى الله عليه وسلّم لدخوله في الإيمان بالله، فترك للمبالغة في ذكر الإيمان بالرسالة، دلالة على أنهما كشيء واحد، إذا ذكر أحدهما فهم الآخر. على أنه أشير بذكر المبدأ والمعاد إلى الإيمان بكل ما يجب الإيمان به، ومن جملته رسالة صلّى الله عليه وسلّم كما في قوله تعالى: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ [البقرة: ٨]. كذا في (العناية).
الثالث- في تخصيص الصلاة والزكاة بالذكر، تفخيم لشأنهما وحث على التنبه لهما.
الرابع- دلت الآيتان على أن عمل الكفار محبط لا ثواب فيه.
وقوله تعالى:
الأول- قال الزمخشريّ: (العمارة) تتناول زمّ ما استرمّ منها وقمّها وتنظيفها وتنويرها بالمصابيح وتعظيمها واعتيادها للعبادة والذّكر. ومن الذكر درس العلم، بل هو أجلّه وأعظمه. وصيانتها مما لم تبن له المساجد من أحاديث الدنيا، فضلا عن فضول الحديث.
روى البخاري «١» ومسلم عن أبي هريرة أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: من غدا إلى المسجد أو راح، أعدّ الله له في الجنة نزلا كلما غدا أو راح.
ورويا «٢» أيضا عن عثمان بن عفان قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: من بنى لله مسجدا يبتغي به وجه الله تعالى، بنى الله له بيتا في الجنة.
وأخرج الترمذي «٣» عن أبي سعيد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد، فاشهدوا له بالإيمان، قال الله تعالى: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ..
الآية.
الثاني- إنما لم يذكر الإيمان بالرسول صلّى الله عليه وسلّم لدخوله في الإيمان بالله، فترك للمبالغة في ذكر الإيمان بالرسالة، دلالة على أنهما كشيء واحد، إذا ذكر أحدهما فهم الآخر. على أنه أشير بذكر المبدأ والمعاد إلى الإيمان بكل ما يجب الإيمان به، ومن جملته رسالة صلّى الله عليه وسلّم كما في قوله تعالى: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ [البقرة: ٨]. كذا في (العناية).
الثالث- في تخصيص الصلاة والزكاة بالذكر، تفخيم لشأنهما وحث على التنبه لهما.
الرابع- دلت الآيتان على أن عمل الكفار محبط لا ثواب فيه.
وقوله تعالى:
(١) أخرجه البخاري في: الأذان، ٣٧- باب فضل من غدا إلى المسجد ومن راح، حديث ٤١٧.
أخرجه مسلم في: المساجد ومواضع الصلاة، حديث رقم ٢٨٥.
(٢) أخرجه البخاري في: الصلاة، ٦٥- باب من بنى مسجدا، حديث ٢٩٧ وأخرجه مسلم في: المساجد ومواضع الصلاة حديث رقم ٢٤ و ٢٥.
(٣) أخرجه الترمذي في: التفسير، ٩- سورة التوبة، ٨- حدثنا أبو كريب.
أخرجه مسلم في: المساجد ومواضع الصلاة، حديث رقم ٢٨٥.
(٢) أخرجه البخاري في: الصلاة، ٦٥- باب من بنى مسجدا، حديث ٢٩٧ وأخرجه مسلم في: المساجد ومواضع الصلاة حديث رقم ٢٤ و ٢٥.
(٣) أخرجه الترمذي في: التفسير، ٩- سورة التوبة، ٨- حدثنا أبو كريب.
363
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ١٩]
أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩)
أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ روى العوفي في (تفسيره) عن ابن عباس أن المشركين قالوا: عمارة بيت الله، وقيام على السقاية، خير ممن آمن وجاهد. وكانوا يفخرون بالحرم، ويستكبرون به، من أجل أنهم أهله وعماره. فخير الله الإيمان والجهاد مع رسوله، على عمارة المشركين البيت، قيامهم على السقاية، وبيّن أن ذلك لا ينفعهم مع الشرك، وأنهم ظالمون بشركهم، لا تغني عمارتهم شيئا.
قال اللغويون: (السقاية) بالكسر والضم موضع السقي. وفي (التهذيب) : هو الموضع المتخذ فيه الشراب في المواسم وغيرها. انتهى.
وفي (التاج) : سقاية الحاج ما كانت قريش تسقيه للحجاج من الزبيب المنبوذ في الماء، وكان يليها العباس رضي الله عنه في الجاهلية والإسلام. انتهى.
وروى الإمام مسلم «١» عن النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال رجل: ما أبالي ألّا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام وقال الآخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو يوم الجمعة. ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه. فأنزل الله عز وجل أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ... الآية.
ورواه عبد الرزاق في (مصنفه) ولفظه: إن رجلا قال: ما أبالي ألا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج. وقال آخر: ما أبالي ألا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام... الحديث.
قال بعضهم: فظاهر هذه الرواية أن المفاضلة كانت بين بعض المسلمين المؤثرين للسقاية والعمارة على الهجرة والجهاد ونظائرهما، ونزلت الآية في ذلك، مع أن الرواية السالفة عن ابن عباس تنافيه. وكذا تخصيص ذكر الإيمان بجانب المشبه
أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩)
أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ روى العوفي في (تفسيره) عن ابن عباس أن المشركين قالوا: عمارة بيت الله، وقيام على السقاية، خير ممن آمن وجاهد. وكانوا يفخرون بالحرم، ويستكبرون به، من أجل أنهم أهله وعماره. فخير الله الإيمان والجهاد مع رسوله، على عمارة المشركين البيت، قيامهم على السقاية، وبيّن أن ذلك لا ينفعهم مع الشرك، وأنهم ظالمون بشركهم، لا تغني عمارتهم شيئا.
قال اللغويون: (السقاية) بالكسر والضم موضع السقي. وفي (التهذيب) : هو الموضع المتخذ فيه الشراب في المواسم وغيرها. انتهى.
وفي (التاج) : سقاية الحاج ما كانت قريش تسقيه للحجاج من الزبيب المنبوذ في الماء، وكان يليها العباس رضي الله عنه في الجاهلية والإسلام. انتهى.
وروى الإمام مسلم «١» عن النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال رجل: ما أبالي ألّا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام وقال الآخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو يوم الجمعة. ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه. فأنزل الله عز وجل أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ... الآية.
ورواه عبد الرزاق في (مصنفه) ولفظه: إن رجلا قال: ما أبالي ألا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج. وقال آخر: ما أبالي ألا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام... الحديث.
قال بعضهم: فظاهر هذه الرواية أن المفاضلة كانت بين بعض المسلمين المؤثرين للسقاية والعمارة على الهجرة والجهاد ونظائرهما، ونزلت الآية في ذلك، مع أن الرواية السالفة عن ابن عباس تنافيه. وكذا تخصيص ذكر الإيمان بجانب المشبه
(١) أخرجه مسلم في: الإمارة، حديث رقم ١١١.
به، وكذا وصفهم بالظلم لأجل تسويتهم المذكورة.
وأقول: لا منافاة. وظاهر النظم الكريم فيما قاله ابن عباس لا يرتاب فيه، وقول النعمان (فأنزل الله) بمعنى أن مثل هذا التحاور نزل فيه فيصل متقدم، وهو هذه الآية، لا بمعنى أنه كان سببا لنزولها كما بيناه غير ما مرة. وهذا الاستعمال شائع بين السلف، ومن لم يتفطن له تتناقض عنده الروايات، ويحار في المخرج، فافهم ذلك وتفطن له.
وتأييد أبي السعود نزولها في المسلمين بما أطال فيه، ذهول عن سياق الآية وعن سياقها، فيما صدعت فيه من شديد التهويل، وعن لاحقها في درجات التفضيل، وقصر الفوز والرحمة والرضوان على المشبه به.
لطيفة:
لا يخفى أن السقاية والعمارة مصدران لا يتصور تشبيههما بالأعيان، فلا بد من تقدير مضاف في أحد الجانبين. أي أجعلتم أهلهما كمن آمن بالله... إلخ ويؤيده قراءة من قرأ (سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام) أو: أجعلتموهما كإيمان من آمن... إلخ.
قال أبو البقاء: الجمهور على (سقاية) بالياء، وصحّت الياء لما كانت بعدها تاء التأنيث.
ثم بيّن تعالى مراتب فضل المؤمنين، إثر بيان عدم الاستواء وضلال المشركين وظلمهم، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٢٠]
الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠)
الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ أي من أهل السقاية والعمارة، وهم، وإن لم يكن لهم درجة عند الله، جاء على زعمهم ومدعاهم. قاله في (العناية). وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ أي لا أنتم. أي المختصون بالفوز دونكم.
وأقول: لا منافاة. وظاهر النظم الكريم فيما قاله ابن عباس لا يرتاب فيه، وقول النعمان (فأنزل الله) بمعنى أن مثل هذا التحاور نزل فيه فيصل متقدم، وهو هذه الآية، لا بمعنى أنه كان سببا لنزولها كما بيناه غير ما مرة. وهذا الاستعمال شائع بين السلف، ومن لم يتفطن له تتناقض عنده الروايات، ويحار في المخرج، فافهم ذلك وتفطن له.
وتأييد أبي السعود نزولها في المسلمين بما أطال فيه، ذهول عن سياق الآية وعن سياقها، فيما صدعت فيه من شديد التهويل، وعن لاحقها في درجات التفضيل، وقصر الفوز والرحمة والرضوان على المشبه به.
لطيفة:
لا يخفى أن السقاية والعمارة مصدران لا يتصور تشبيههما بالأعيان، فلا بد من تقدير مضاف في أحد الجانبين. أي أجعلتم أهلهما كمن آمن بالله... إلخ ويؤيده قراءة من قرأ (سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام) أو: أجعلتموهما كإيمان من آمن... إلخ.
قال أبو البقاء: الجمهور على (سقاية) بالياء، وصحّت الياء لما كانت بعدها تاء التأنيث.
ثم بيّن تعالى مراتب فضل المؤمنين، إثر بيان عدم الاستواء وضلال المشركين وظلمهم، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٢٠]
الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠)
الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ أي من أهل السقاية والعمارة، وهم، وإن لم يكن لهم درجة عند الله، جاء على زعمهم ومدعاهم. قاله في (العناية). وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ أي لا أنتم. أي المختصون بالفوز دونكم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٢١]
يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١)
يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٢٢]
خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢)
خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ.
ثم نهاهم تعالى عن موالاة المشركين، وإن كانوا أقرب الأقربين، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٢٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ أي بطانة وأصدقاء، تفشون إليهم أسراركم، وتمدحونهم وتذبون عنهم إِنِ اسْتَحَبُّوا أي اختاروا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي لوصفهم الموالاة في غير موضعها، ولتعديهم وتجاوزهم عما أمر الله به.
ثم أشار تعالى إلى أن مقتضى الإيمان ترك الميل الطبيعي إذا كان مانعا من محبة الله، ومحبة واسطة الوصول إليه، ومحبة ما يعلي دينه بقوله
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٢٤]
قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٢٤)
قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ أي أقاربكم الأدنون، أو قبيلتكم. قال أهل اللغة: عشيرة الرجل بنو أبيه الأدنون، أو قبيلته،
يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١)
يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٢٢]
خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢)
خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ.
ثم نهاهم تعالى عن موالاة المشركين، وإن كانوا أقرب الأقربين، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٢٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ أي بطانة وأصدقاء، تفشون إليهم أسراركم، وتمدحونهم وتذبون عنهم إِنِ اسْتَحَبُّوا أي اختاروا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي لوصفهم الموالاة في غير موضعها، ولتعديهم وتجاوزهم عما أمر الله به.
ثم أشار تعالى إلى أن مقتضى الإيمان ترك الميل الطبيعي إذا كان مانعا من محبة الله، ومحبة واسطة الوصول إليه، ومحبة ما يعلي دينه بقوله
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٢٤]
قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٢٤)
قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ أي أقاربكم الأدنون، أو قبيلتكم. قال أهل اللغة: عشيرة الرجل بنو أبيه الأدنون، أو قبيلته،
366
كالعشير- بلا هاء- مأخوذة من (العشرة) أي المعاشرة، لأنها من شأنهم، أو من (العشرة) الذي هو العدد لكمالهم، لأنها عدد كامل وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها أي اكتسبتموها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها أي فوات وقت نفادها بفراقكم لها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أي منازل تعجبكم الإقامة فيها من الدور والبساتين أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ أي المنعم بالكل وَرَسُولِهِ وهو واسطة نعمه وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ أي مما يعلي دينه فَتَرَبَّصُوا أي انتظروا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ أي بقضائه، وهو عذاب عاجل، أو عقاب آجل، أو فتح مكة، وهذا أمر تهديد وتخويف. أي فارتقبوا قهر الله بدعوى محبته بالإيمان، وتكذيبها بترجيح محبة غيره وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ أي الخارجين عن الطاعة في موالاة المشركين والمؤثرين لما ذكر على رضاه تعالى.
تنبيهات:
الأول- قال بعضهم: ثمرة الآيتين تحريم موالاة الكفار، ولو كانوا أقرباء، وأنهم كبيرة لوصف متوليهم بالظلم، ووجوب الجهاد، وإيثاره على كل هذه المشتهيات المعدودة طاعة لله ورسوله.
الثاني- قال الرازي: الآية الثانية تدل على أنه إذا وقع التعارض بين مصلحة واحدة من مصالح الدين، وبين جميع مهمات الدنيا. وجب على المسلم ترجيح الدين على الدنيا.
الثالث- في هذه الآية وعيد وتشديد، لأن كل أحد قلما يخلص منها، فلذا قيل إنها أشد آية نعت على الناس كما فصّله في (الكشاف) بقوله:
وهذه آية شديدة لا ترى أشدّ منها، كأنها تنعي على الناس ما هم عليه من رخاوة عقد الدين، واضطراب حبل اليقين فلينصف أورع الناس وأتقاهم من نفسه، هل يجد عنده من التصلب في ذات الله، والثبات على دين الله، ما يستحبّ له دينه على الآباء والأبناء والأخوات والعشائر والمال والمساكن وجميع حظوظ الدنيا، ويتجرّد منها لأجله؟ أم يزوي الله عنه أحقر شيء منها لمصلحته فلا يدري أيّ طرفيه أطول؟ ويغويه الشيطان عن أجلّ حظ من حظوظ الدين، فلا يبالي كأنما وقع على أنفه ذباب فطيّره؟! وقوله تعالى:
تنبيهات:
الأول- قال بعضهم: ثمرة الآيتين تحريم موالاة الكفار، ولو كانوا أقرباء، وأنهم كبيرة لوصف متوليهم بالظلم، ووجوب الجهاد، وإيثاره على كل هذه المشتهيات المعدودة طاعة لله ورسوله.
الثاني- قال الرازي: الآية الثانية تدل على أنه إذا وقع التعارض بين مصلحة واحدة من مصالح الدين، وبين جميع مهمات الدنيا. وجب على المسلم ترجيح الدين على الدنيا.
الثالث- في هذه الآية وعيد وتشديد، لأن كل أحد قلما يخلص منها، فلذا قيل إنها أشد آية نعت على الناس كما فصّله في (الكشاف) بقوله:
وهذه آية شديدة لا ترى أشدّ منها، كأنها تنعي على الناس ما هم عليه من رخاوة عقد الدين، واضطراب حبل اليقين فلينصف أورع الناس وأتقاهم من نفسه، هل يجد عنده من التصلب في ذات الله، والثبات على دين الله، ما يستحبّ له دينه على الآباء والأبناء والأخوات والعشائر والمال والمساكن وجميع حظوظ الدنيا، ويتجرّد منها لأجله؟ أم يزوي الله عنه أحقر شيء منها لمصلحته فلا يدري أيّ طرفيه أطول؟ ويغويه الشيطان عن أجلّ حظ من حظوظ الدين، فلا يبالي كأنما وقع على أنفه ذباب فطيّره؟! وقوله تعالى:
367
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٢٥]
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥)
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ أي في مواقف حروب كثيرة، ووقعات شهيرة، كغزوة بدر وقريظة والنضير والحديبية وخيبر وفتح مكة. وكانت غزوات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- على ما ذكر في الصحيحين «١» - من حديث زيد بن أرقم، تسع عشرة غزوة. زاد بريدة في حديث: قاتل في ثمان منهن ويقال: إن جميع غزواته وسراياه وبعوثه سبعون، وقيل ثمانون وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ أي فاعتمدتم عليها، حيث قلتم: لن نغلب اليوم من قلة فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً أي من أمر العدوّ، مع قلتهم وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ أي برحبها وسعتها. والباء للملابسة والمصاحبة. أي ضاقت، مع سعتها، عليكم. وهو استعارة تبعية، إما لعدم وجدان مكان يقرّون به آمنين مطمئنين من شدة الرعب، أو أنهم لا يجلسون في مكان، كما لا يجلس في المكان الضيق ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ أي منهزمين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٢٦]
ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦)
ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ أي ما تسكنون به، وتثبتون من رحمته ونصره، وانهزام الكفار، واطمئنان قلوبهم للكرّ بعد الفرّ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ أي الذين انهزموا. وإعادة الجارّ للتنبيه على اختلاف حاليهما. أو الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولم يفروا: أو على الكل، وهو الأنسب. ولا ضير في تحقيق أصل السكينة في الثابتين من قبل، والتعرض لوصف الإيمان للإشعار بعليّة الإنزال. أفاده أبو السعود وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها يعني الملائكة وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي بالقتل والأسر والسبي وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ لكفرهم في الدنيا.
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥)
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ أي في مواقف حروب كثيرة، ووقعات شهيرة، كغزوة بدر وقريظة والنضير والحديبية وخيبر وفتح مكة. وكانت غزوات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- على ما ذكر في الصحيحين «١» - من حديث زيد بن أرقم، تسع عشرة غزوة. زاد بريدة في حديث: قاتل في ثمان منهن ويقال: إن جميع غزواته وسراياه وبعوثه سبعون، وقيل ثمانون وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ أي فاعتمدتم عليها، حيث قلتم: لن نغلب اليوم من قلة فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً أي من أمر العدوّ، مع قلتهم وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ أي برحبها وسعتها. والباء للملابسة والمصاحبة. أي ضاقت، مع سعتها، عليكم. وهو استعارة تبعية، إما لعدم وجدان مكان يقرّون به آمنين مطمئنين من شدة الرعب، أو أنهم لا يجلسون في مكان، كما لا يجلس في المكان الضيق ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ أي منهزمين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٢٦]
ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦)
ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ أي ما تسكنون به، وتثبتون من رحمته ونصره، وانهزام الكفار، واطمئنان قلوبهم للكرّ بعد الفرّ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ أي الذين انهزموا. وإعادة الجارّ للتنبيه على اختلاف حاليهما. أو الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولم يفروا: أو على الكل، وهو الأنسب. ولا ضير في تحقيق أصل السكينة في الثابتين من قبل، والتعرض لوصف الإيمان للإشعار بعليّة الإنزال. أفاده أبو السعود وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها يعني الملائكة وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي بالقتل والأسر والسبي وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ لكفرهم في الدنيا.
(١) أخرجه البخاري في: المغازي، ١- باب غزوة العشيرة أو العسيرة حديث رقم ١٨٣٩.
ومسلم في: الجهاد والسير، حديث رقم ١٤٣.
ومسلم في: الجهاد والسير، حديث رقم ١٤٣.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٢٧]
ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٧)
ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ أي منهم، لحكمة تقتضيه. أي يوفقه للإسلام وَاللَّهُ غَفُورٌ أي يتجاوز عما سلف منهم من الكفر والمعاصي رَحِيمٌ أي يتفضل عليهم ويثيبهم.
تنبيهات:
الأول- فيما نقل في غزوة (حنين)، وتسمى غزوة (أوطاس)، وهما موضعان بين مكة والطائف، فسميت الغزوة باسم مكانها، وتسمى غزوة (هوازن)، لأنهم الذين أتوا لقتال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكانت هذه الواقعة بعد فتح مكة، في شوال سنة ثمان من الهجرة، فإن الفتح كان لعشر بقين من رمضان، وبعده أقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة خمس عشرة ليلة، وهو يقصر الصلاة، فبلغه أن هوازن وثقيف جمعوا له، وهم عامدون إلى مكة، وقد نزلوا (حنينا) وكانوا، حين سمعوا بمخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة، يظنون أنه إنما يريهم. فاجتمعت هوازن إلى مالك بن عوف من بني نصر، وقد أوعب معه بني نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن وبني جشم بن معاوية وبني سعد بن بكر، وناسا من بني هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية والأحلاف وبني مالك بن ثقيف بن بكر. وفي جشم دريد بن الصمة رئيسهم وكبيرهم. شيخ كبير، ليس فيه إلا رأيه ومعرفته بالحرب، وكان شجاعا مجربا، وجميع أمر الناس إلى مالك ابن عوف. فلما أتاهم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتح مكة، أقبلوا عامدين إليه فأجمع السير إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وساق مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم، يرى أنه أثبت لموقفهم. فلما نزل بأوطاس، اجتمع إليه الناس، فقال دريد: بأي واد أنتم؟ قالوا:
بأوطاس. قال: نعم مجال الخيل، لا حزن ضرس، ولا سهل دهس. مالي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، ويعار الشاء وبكاء الصغير؟ قالوا: ساق مالك مع الناس نساءهم وأموالهم وأبناءهم ليقاتلوا عنها، فقال: راعي ضأن والله! وهل يرد المنهزم شيء؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسلاحه. وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك! ثم قال: ما فعلت كعب وكلاب؟ قالوا: لم يشهدها أحد منهم. قال: غاب الحدّ والجدّ، لو كان يوم علاء ورفعة لم يغب عنهم كعب ولا كلاب، ولوددت أنكم فعلتم ما فعلا. فمن شهدها منكم؟ قالوا: عمرو وعوف ابنا عامر. قال: ذانك
ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٧)
ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ أي منهم، لحكمة تقتضيه. أي يوفقه للإسلام وَاللَّهُ غَفُورٌ أي يتجاوز عما سلف منهم من الكفر والمعاصي رَحِيمٌ أي يتفضل عليهم ويثيبهم.
تنبيهات:
الأول- فيما نقل في غزوة (حنين)، وتسمى غزوة (أوطاس)، وهما موضعان بين مكة والطائف، فسميت الغزوة باسم مكانها، وتسمى غزوة (هوازن)، لأنهم الذين أتوا لقتال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكانت هذه الواقعة بعد فتح مكة، في شوال سنة ثمان من الهجرة، فإن الفتح كان لعشر بقين من رمضان، وبعده أقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة خمس عشرة ليلة، وهو يقصر الصلاة، فبلغه أن هوازن وثقيف جمعوا له، وهم عامدون إلى مكة، وقد نزلوا (حنينا) وكانوا، حين سمعوا بمخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة، يظنون أنه إنما يريهم. فاجتمعت هوازن إلى مالك بن عوف من بني نصر، وقد أوعب معه بني نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن وبني جشم بن معاوية وبني سعد بن بكر، وناسا من بني هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية والأحلاف وبني مالك بن ثقيف بن بكر. وفي جشم دريد بن الصمة رئيسهم وكبيرهم. شيخ كبير، ليس فيه إلا رأيه ومعرفته بالحرب، وكان شجاعا مجربا، وجميع أمر الناس إلى مالك ابن عوف. فلما أتاهم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتح مكة، أقبلوا عامدين إليه فأجمع السير إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وساق مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم، يرى أنه أثبت لموقفهم. فلما نزل بأوطاس، اجتمع إليه الناس، فقال دريد: بأي واد أنتم؟ قالوا:
بأوطاس. قال: نعم مجال الخيل، لا حزن ضرس، ولا سهل دهس. مالي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، ويعار الشاء وبكاء الصغير؟ قالوا: ساق مالك مع الناس نساءهم وأموالهم وأبناءهم ليقاتلوا عنها، فقال: راعي ضأن والله! وهل يرد المنهزم شيء؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسلاحه. وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك! ثم قال: ما فعلت كعب وكلاب؟ قالوا: لم يشهدها أحد منهم. قال: غاب الحدّ والجدّ، لو كان يوم علاء ورفعة لم يغب عنهم كعب ولا كلاب، ولوددت أنكم فعلتم ما فعلا. فمن شهدها منكم؟ قالوا: عمرو وعوف ابنا عامر. قال: ذانك
369
الجذعان، لا ينفعان ولا يضران! ثم أنكر على مالك رأيه في ذلك وقال له: لم تصنع بتقديم بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئا، أرفعهم إلى ممتنع بلادهم، وعليا قومهم، ثم ألق الصبيان على متون الخيل شيئا، فإن كانت لك، لحق بك من ورائك، وإن كانت لغيرك، كنت قد أحرزت أهلك ومالك. قال: لا، والله لا أفعل ذلك، إنك قد كبرت، وكبر عقلك. والله لتطيعنّني يا معشر هوازن، أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري! وكره أن يكون لدريد بن الصمة فيها ذكر أو رأي. قالوا أطعناك. فقال دريد: هذا يوم لم أشهده، ولم يفتني. ثم قال مالك للناس: إذا رأيتموهم فاكسروا جفون سيوفكم، ثم شدوا شدة رجل واحد. وبعث عيونا من رجاله فأتوه، وقد تفرقت أوصالهم، فقال: ويلكم! ما شأنكم؟ قالوا: رأينا رجالا بيضا، على خيل بلق: والله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى. فو الله ما رده ذلك عن وجهه أن مضى على ما يريد.
فلما سمع بهم نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم، بعث عبد الله بن أبي حدرد الأسلميّ يستعلم خبرهم، فجاءه وأطلعه على جلية الخبر، وأنهم قاصدون إليه، فاستعار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من صفوان بن أمية مائة درع- وقيل أربعمائة- وخرج في اثني عشر ألفا من المسلمين: عشرة آلاف الذين صحبوه من المدينة، وألفان من مسلمة الفتح، واستعمل على مكة عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية، ومضى لوجهه، وفي جملة من اتبعه عباس بن مرداس والضحاك بن سفيان الكلابي، وجموع من عبس وذبيان، ومزينة، وبني أسد. ومرّ في طريقه بشجرة سدر خضراء، وكان لهم في الجاهلية مثلها، يطوف بها الأعراب ويعظمونها، ويسمونها ذات أنواط فقالوا «١» : يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط،
فقال لهم: قلتم كما قال قوم موسى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف: ١٣٨] والذي نفسي بيده! لتركبن سنن من كان قبلكم
. ثم نهض حتى أتى وادي حنين من أودية تهامة، وهو واد حزن فتوسطوه في غبش الصبح، وقد كمنت هوازن في جانبيه، فحملوا على المسلمين حملة رجل واحد فولى المسلمون لا يلوي أحد على أحد، وناداهم صلّى الله عليه وسلّم فلم يرجعوا، وثبت معه أبو بكر وعمر وعلي والعباس وأبو سفيان بن الحرث وابنه جعفر، والفضل وقثم ابنا العباس، وجماعة سواهم، والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم على بغلته البيضاء (دلدل) والعباس آخذ بشكائمها، وكان جهير الصوت فأمره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن ينادي بالأنصار وأصحاب الشجرة، (قيل: والمهاجرين) فما سمعوا الصوت وذهبوا
فلما سمع بهم نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم، بعث عبد الله بن أبي حدرد الأسلميّ يستعلم خبرهم، فجاءه وأطلعه على جلية الخبر، وأنهم قاصدون إليه، فاستعار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من صفوان بن أمية مائة درع- وقيل أربعمائة- وخرج في اثني عشر ألفا من المسلمين: عشرة آلاف الذين صحبوه من المدينة، وألفان من مسلمة الفتح، واستعمل على مكة عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية، ومضى لوجهه، وفي جملة من اتبعه عباس بن مرداس والضحاك بن سفيان الكلابي، وجموع من عبس وذبيان، ومزينة، وبني أسد. ومرّ في طريقه بشجرة سدر خضراء، وكان لهم في الجاهلية مثلها، يطوف بها الأعراب ويعظمونها، ويسمونها ذات أنواط فقالوا «١» : يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط،
فقال لهم: قلتم كما قال قوم موسى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف: ١٣٨] والذي نفسي بيده! لتركبن سنن من كان قبلكم
. ثم نهض حتى أتى وادي حنين من أودية تهامة، وهو واد حزن فتوسطوه في غبش الصبح، وقد كمنت هوازن في جانبيه، فحملوا على المسلمين حملة رجل واحد فولى المسلمون لا يلوي أحد على أحد، وناداهم صلّى الله عليه وسلّم فلم يرجعوا، وثبت معه أبو بكر وعمر وعلي والعباس وأبو سفيان بن الحرث وابنه جعفر، والفضل وقثم ابنا العباس، وجماعة سواهم، والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم على بغلته البيضاء (دلدل) والعباس آخذ بشكائمها، وكان جهير الصوت فأمره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن ينادي بالأنصار وأصحاب الشجرة، (قيل: والمهاجرين) فما سمعوا الصوت وذهبوا
(١) أخرجه الترمذي في: الفتن، ١٨- ما جاء: لتركبنّ سنن من كان قبلكم، عن أبي واقد الليثي.
370
ليرجعوا، صدهم ازدحام الناس عن أن يثنوا رواحلهم، فاستقاموا وتناولوا سيوفهم وتراسهم، واقتحموا عن الرواحل راجعين إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقد اجتمع منهم حواليه نحو المائة، فاستقبلوا هوازن، والناس متلاحقون، واشتد الحرب، وحمي الوطيس.
ولما غشوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نزل عن بغلته، ثم قبض قبضة من تراب الأرض، ثم استقبل به وجوههم
وقال: شاهت الوجوه! فما بقي إنسان منهم إلا أصابه منها في عينيه وفمه
، ثم صدق المسلمون الحملة عليهم، وقذف الله في قلوب هوازن الرعب. فلم يملكوا أنفسهم، فولوا منهزمين، ولحق آخر الناس، وأسرى هوازن مغلولة بين يديه، وغنم المسلمون عيالهم وأموالهم، واستحرّ القتل في بني مالك من ثقيف، فقتل منهم يومئذ سبعون رجلا، وانحازت طوائف هوازن إلى أوطاس، واتبعتهم طائفة من خيل المسلمين الذين توجهوا من (نخلة)، فأدركوا فيهم دريد بن الصمة فقتلوه.
وبعث صلّى الله عليه وسلّم إلى من اجتمع بأوطاس من هوازن، أبا عامر الأشعري عمّ أبي موسى، فقاتلهم، وقتل بسهم رماه به سلمة بن دريد بن الصمة، فأخذ أبو موسى الراية، وشدّ على قاتل عمه، فقتله، وانهزم المشركون، وانفضّت جموع أهل هوازن كلها، واستشهد من المسلمين يومئذ أربعة. ثم جمعت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سبايا حنين وأموالها، فأمر بها، فحبست (بالجعرانة) بنظر مسعود بن عمرو الغفاري. وسار صلّى الله عليه وسلّم من فوره إلى الطائف، فحاصر بها (ثقيف) خمس عشرة ليلة، وقاتلوا من وراء الحصون، وأسلم من كان حولهم من الناس، وجاءت وفودهم إليه. ثم انصرف صلّى الله عليه وسلّم عن الطائف، ونزل الجعرانة فيمن معه من الناس وأتاه هناك وفد هوازن، مسلمين راغبين، فخيرهم بين العيال والأبناء والأموال، فاختاروا العيال والأبناء، وكلموا المسلمين في ذلك بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم،
فقال صلّى الله عليه وسلّم: ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم
، وقال المهاجرون والأنصار: ما كان لنا فهو لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن لم تطب نفسه عوّضه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن نصيبه، ورد عليهم نساءهم وأبناءهم بأجمعهم.
وكان عدد سبي هوازن ستة آلاف بين ذكر وأنثى، والإبل أربعة وعشرون ألفا، والغنم أكثر من أربعين ألف شاة، وأربعة آلاف أوقية فضة، وقسم صلّى الله عليه وسلّم الأموال بين المسلمين، ونقل كثيرا من الطلقاء (وهم الذين منّ عليهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالإطلاق يوم فتح مكة من الأسر ونحوه) يتألفهم على الإسلام، مائة من الإبل، ومنهم مالك بن عوف النصريّ. فقال حين أسلم:
ولما غشوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نزل عن بغلته، ثم قبض قبضة من تراب الأرض، ثم استقبل به وجوههم
وقال: شاهت الوجوه! فما بقي إنسان منهم إلا أصابه منها في عينيه وفمه
، ثم صدق المسلمون الحملة عليهم، وقذف الله في قلوب هوازن الرعب. فلم يملكوا أنفسهم، فولوا منهزمين، ولحق آخر الناس، وأسرى هوازن مغلولة بين يديه، وغنم المسلمون عيالهم وأموالهم، واستحرّ القتل في بني مالك من ثقيف، فقتل منهم يومئذ سبعون رجلا، وانحازت طوائف هوازن إلى أوطاس، واتبعتهم طائفة من خيل المسلمين الذين توجهوا من (نخلة)، فأدركوا فيهم دريد بن الصمة فقتلوه.
وبعث صلّى الله عليه وسلّم إلى من اجتمع بأوطاس من هوازن، أبا عامر الأشعري عمّ أبي موسى، فقاتلهم، وقتل بسهم رماه به سلمة بن دريد بن الصمة، فأخذ أبو موسى الراية، وشدّ على قاتل عمه، فقتله، وانهزم المشركون، وانفضّت جموع أهل هوازن كلها، واستشهد من المسلمين يومئذ أربعة. ثم جمعت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سبايا حنين وأموالها، فأمر بها، فحبست (بالجعرانة) بنظر مسعود بن عمرو الغفاري. وسار صلّى الله عليه وسلّم من فوره إلى الطائف، فحاصر بها (ثقيف) خمس عشرة ليلة، وقاتلوا من وراء الحصون، وأسلم من كان حولهم من الناس، وجاءت وفودهم إليه. ثم انصرف صلّى الله عليه وسلّم عن الطائف، ونزل الجعرانة فيمن معه من الناس وأتاه هناك وفد هوازن، مسلمين راغبين، فخيرهم بين العيال والأبناء والأموال، فاختاروا العيال والأبناء، وكلموا المسلمين في ذلك بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم،
فقال صلّى الله عليه وسلّم: ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم
، وقال المهاجرون والأنصار: ما كان لنا فهو لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن لم تطب نفسه عوّضه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن نصيبه، ورد عليهم نساءهم وأبناءهم بأجمعهم.
وكان عدد سبي هوازن ستة آلاف بين ذكر وأنثى، والإبل أربعة وعشرون ألفا، والغنم أكثر من أربعين ألف شاة، وأربعة آلاف أوقية فضة، وقسم صلّى الله عليه وسلّم الأموال بين المسلمين، ونقل كثيرا من الطلقاء (وهم الذين منّ عليهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالإطلاق يوم فتح مكة من الأسر ونحوه) يتألفهم على الإسلام، مائة من الإبل، ومنهم مالك بن عوف النصريّ. فقال حين أسلم: