تفسير سورة التوبة

أوضح التفاسير
تفسير سورة سورة التوبة من كتاب أوضح التفاسير المعروف بـأوضح التفاسير .
لمؤلفه محمد عبد اللطيف الخطيب . المتوفي سنة 1402 هـ
﴿بَرَآءَةٌ﴾ اختلف في التسمية في ابتداء هذه السورة - كسائر سور القرآن الكريم - فعن علي وابن عباس رضي الله تعالى عنهم: أن بسم الله الرحمن الرحيم: أمان، وبراءة نزلت لرفع الأمان. وهو قول غير جائز - ولعله قد دس على الراوين - ف الله جل شأنه: رحيم ورحمن؛ سواء أمر بالقتال، أو أمر بالسلم، أمر بالعذاب، أو أمر بالثواب وقال بعض الصحابة رضوان الله تعالى عليهم: إن الأنفال وبراءة سورة واحدة؛ نزلت في القتال. وهو قول خير من سابقه، ولا بأس به. و ﴿بَرَآءَةٌ﴾ أي تخلص وتبرؤ من المواثيق والعهود وهذا التبرؤ ﴿مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ أي عقدتم معهم مواثيق بعدم الاعتداء؛ فنقضوها
﴿فَسِيحُواْ﴾ فسيروا آمنين أيها المشركون. والسيح: السير على مهل ﴿أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾ وهي مدة الهدنة التي ضربها الله تعالى لهم للتوبة من الشرك ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ﴾ أي غير فائتي عذابه وانتقامه بل سيدرككم بالأخذ والعقوبة
﴿وَأَذَانٌ﴾ إيذان وإعلام ﴿مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ﴾ جميعاً: من عاهد منهم ومن لم يعاهد، ومن نقض عهده ومن لم ينقض ﴿يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ﴾ يوم عرفة
-[٢٢٢]- ﴿أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ ومن عهودهم ﴿وَرَسُولُهُ﴾ بريء منهم أيضاً. ومن بريء منه الله تعالى فإن رسوله بريء منه، ومن برىء منه الرسول فإن الله تعالى بريء منه ﴿فَإِن تُبْتُمْ﴾ أيها المشركون من كفركم ونقضكم للعهود ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ لأنكم ضمنتم الأمان في الدنيا، والأمن في الآخرة ﴿وَإِن تَوَلَّيْتُمْ﴾ أعرضتم عن ذلك ﴿فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ﴾ غير فائتي عذابه
﴿إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً﴾ مما عاهدوكم عليه ﴿وَلَمْ يُظَاهِرُواْ﴾
لم يعاونوا ﴿عَلَيْكُمْ أَحَداً﴾ من أعدائكم ﴿فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ﴾ التي ضربتموها في العهد. يؤخذ من ذلك أنه كانت تعقد بين المؤمنين والمشركين معاهدات ومحالفات، مؤقتة بمواقيت؛ كما يفعل كبار ساسة العالم اليوم؛ بغير فارق سوى أن هؤلاء ناقضون للعهد، صارمون للود؛ وأولئك لعهدهم راعون، ولأماناتهم حافظون
﴿فَإِذَا انسَلَخَ﴾ أي مضى ﴿الأَشْهُرُ الْحُرُمُ﴾ وهي ذي القعدة وذي الحجة والمحرم ﴿فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ﴾ ناكثي العهد ﴿حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾ في الحل أو الحرم، وفي الأشهر الحرم، أو غير الأشهر الحرم ﴿وَخُذُوهُمْ﴾ الأخذ: الانتقام والأسر ﴿وَاحْصُرُوهُمْ﴾ حاصروهم؛ حتى يضطروا إلى الإسلام، أو الاستسلام ﴿وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾ كل طريق؛ وترصدونهم به، وتترقبونهم فيه ﴿فَإِن تَابُواْ﴾ عن الشرك وآمنوا ﴿وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ﴾ في أوقاتها ﴿وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ﴾ المفروضة ﴿فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ﴾ أطلقوا سراحهم من الأسر ولا تتعرضوا لهم بأذى
﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ الذين أمرت بقتالهم ﴿اسْتَجَارَكَ﴾ أي استجار بك، وطلب منك الأمن ﴿فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ﴾ ومن هنا نعلم أن الإسلام لم ينتشر بالشدة والقسوة - كما يزعم بعض أعدائه وشانئيه - وإنما انتشر وشاع بالحجة والإقناع وباللطف لا العنف؛ ولم تكن مهمة المسلمين النيل من الكافرين؛ بل إقناعهم وهدايتهم حتى يعرفوا الحق فيتبعوه؛ وليس بعد ذلك مطعن لطاعن، أو مغمز لغامز؛ ممن طمس الله تعالى بصائرهم، وجعلهم من حزب الشيطان فهو يدعوهم دائماً إلى نار السعير ﴿ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ﴾ موضع أمنه؛ وهو المكان الذي يختاره لنفسه بنفسه. والمعنى: حافظ عليه حتى يصل إلى ديار قومه. وبعد ذلك يجوز قتاله إذا بدت منه إذاية للمسلمين، أو إضرار بمصالحهم
﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ﴾ أي لا يجوز أن يكون لهم عهد؛ لأنهم قوم لا أمان لهم ﴿إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ﴾ منهم ﴿عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ ولم ينكثوا بعهدهم ﴿فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ﴾ أي أقاموا على العهد.
-[٢٢٣]- ﴿فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ﴾ على الوفاء بعهدهم
﴿كَيْفَ﴾ تكرار للتأكيد؛ أي «كيف يكون للمشركين عهد» هم ﴿وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ﴾ أي إن يظفروا بكم ﴿لاَ يَرْقُبُواْ﴾ لا يراعوا ﴿فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً﴾ الإل: الحلف، والقرابة، والجوار و «الذمة»: العهد ﴿يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ رياء ونفاقاً ﴿وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ﴾ الإيمان
﴿اشْتَرَوْاْ﴾ استبدلوا ﴿بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ القرآن ﴿ثَمَناً قَلِيلاً﴾ هو اتباع الشهوات ﴿فَصَدُّواْ﴾ منعوا ﴿عَن سَبِيلِهِ﴾ دين الله القويم
﴿فَإِن تَابُواْ﴾ عن الشرك ﴿وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ﴾ في أوقاتها ﴿وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ﴾ المفروضة ﴿فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ﴾ وأخوة الدين: تفضل أخوة النسب، وترتقي عنها في السبب
﴿وَإِن نَّكَثُواْ﴾ نقضوا ﴿أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ﴾ أي وإن نكثوا عهدهم الموثق بالأيمان ﴿وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ﴾ القويم المستقيم؛ فهم من أئمة الفجرة الكفرة ﴿فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ﴾ رؤساءه؛ لأنه بقتل الرؤساء: يخضع المرءوسون ويذلوا ويستكينوا ﴿لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ﴾ يرجعون عما هم فيه
﴿أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ﴾ نقضوها ﴿وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ﴾ هموا بإخراجه عليه الصلاة والسلام من مكة؛ حين تشاورا بدار الندوة ﴿وَهُم بَدَءُوكُمْ﴾ بالقتال ﴿أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ ببدر؛ حين قالوا: لن ننصرف حتى نستأصل محمداً وأصحابه، وتغنينا القيان، وننحر الجزور، ونشرب الخمور
﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ﴾ بالقتل والجراح ﴿وَيُخْزِهِمْ﴾ أَن كُنتُم يَشَآء حَكِيمٌ وَاللَّهُ أَوَّلَ بَدَءوكُمْ يُعَذّبْهُمُ ﴿وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ
-[٢٢٤]- وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ﴾
أَمْ بَدَءوكُمْ يَشَآء عَلَى حَكِيمٌ مُّؤُمِنِينَ.
﴿وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ﴾ بالنصر على الكافرين
﴿وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ﴾ مما نالهم من أذى المشركين
﴿أَمْ حَسِبْتُمْ﴾ أي هل ظننتم ﴿أَن تُتْرَكُواْ﴾ بغير امتحان وابتلاء ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ﴾ لم يعلم حتى الآن؛ بمعنى أنه تعالى لم يظهر ما يعلم؛ لأنه جل شأنه عالم بكل معلوم، محيط بكل موجود أي لم يعلم ﴿الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ غيره ﴿وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً﴾ من الولوج؛ وهو الدخول. والمراد بها بطانة الرجل وخاصته؛ أي لم يتخذوا من الكفار والمنافقين أصدقاء وخلصاء. قال تعالى: ﴿لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرْكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾
﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ﴾ لا يحق لهم ﴿أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله﴾ بأن يدخلوها؛ وقد كانوا يدخلون المسجد الحرام: حاجين أو طائفين؛ بعد ما نودي فيهم بالمنع عن المسجد الحرام بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾ وقد كانت فيهم السدانة، والسقاية، والرفادة ﴿شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ﴾ بعبادتهم للأصنام، وسجودهم لها؛ مع معرفتهم وإقرارهم بأنها مخلوقة ﴿أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ﴾ بطلت ﴿أَعْمَالُهُمْ﴾ الحسنة التي يعملونها في الدنيا؛ لأن الكفر محبط لسائر الأعمال
﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ﴾ يدخلها ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ﴾ وخشيته تعالى: إحدى دعائم الإيمان؛ التي لا يتم إلا بها، ولا يقوم إلا عليها؛ إذ كيف يكون مؤمناً بالله، من لم يخشالله؟ أو كيف يكون مؤمناً باليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب من يخشى مع الله غيره؟ ولو تأملت بعين الاستبصار والاعتبار؛ لوجدت أن كل الأعمال الموصلة إلى الجنة توصل إلى النار - إذا صحبتها خشية المخلوقين، دون خشية رب العالمين - فكم مصيب يدخل النار؛ لخبث نيته، وسوء طويته وكم من مخطىء يدخل الجنة لصدق نيته، ومزيد خشيته ومن هنا نعلم أن خشية الله تعالى هي الإيمان كله، وأنها موصلة لخيري الدارين، وأنها طاعة من أجلِّ الطاعات، وأن خشية ما سوى الله تعالى معصية من أقبح المعاصي ويندرج تحت ذلك سائر الطاعات؛ فالجهاد: خشيةلله تعالى، والإحجام عنه: خشية من الأعداء
﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً﴾ والإنفاق: خشيةلله تعالى، والإمساك: خشية من الإملاق والفقر ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَآءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً﴾ وسائر العبادات - ما لم يشبها رياء أو نفاق - فهي خشية من الله تعالى؛ فإذا شابها شيء منهما فهي خشية لسواه
﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ
-[٢٢٥]- الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾
قيل: افتخر العباس بالسقاية، وشيبة بالعمارة، وعلي رضي الله تعالى عنه بالإسلام والجهاد؛ فصدق الله تعالى علياً؛ لأن
﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ﴾ والمؤمن المهاجر: أعظم درجة من المؤمن الذي لم يهاجر
﴿يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ﴾ أصدقاء وخلصاء ﴿إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ﴾ وذلك لأن الكفر نهاية العداء، وغاية البغضاء
﴿قُلْ﴾ يا محمد للمتخلفين عن الهجرة معك ﴿إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ﴾ والتمتع بصحبتهم ﴿وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا﴾ اكتسبتموها؛ وتريدون المحافظة عليها ﴿وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ﴾ تركها، وتخافون ﴿كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ﴾ وترتاحون في الإقامة بها. إن كان ذلك ﴿أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ﴾ انتظروا ﴿حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾ بعقوبته؛ يوم فتح مكة؛ و
﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ﴾ بقدرته ومعونته؛ لا بقوتكم وكثرتكم؛ كوقعة بدر، وقريظة والنضير، والحديبية، وخيبر، وفتح مكة. وقيل: إن المواطن التي نصر الله تعالى فيها الإسلام ثمانون موطناً ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ﴾ وهو وادٍ بين مكة والطائف؛ دارت فيه رحى القتال بين المؤمنين والمشركين، وانتصر المشركون فترة من الزمن. والمعنى: «ويوم حنين» نصركم الله فيه أيضاً بعد أن أذاقكم مرارة الهزيمة؛ عقوبة على تقصيركم في الاعتماد عليه، وإعجابكم بكثرتكم ﴿إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ﴾ وقلتم: لن نغلب اليوم عن قلة. وكانوا اثني عشر ألفاً؛ والكافرون أربعة آلاف ﴿فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ﴾ هذه الكثرة ﴿شَيْئاً﴾ فالنصر يأتي به الله لمن شاء أنى شاء؛ ليس تبعاً لكثرة أو لقلة
﴿ثُمَّ أَنَزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ﴾ طمأنينته ﴿عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ فنادى الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام فيهم: يا معشر الأنصار، يا معشر المهاجرين، يا أصحاب سورة البقرة فرجع المسلمون إليه ﴿وَأَنزَلَ﴾ الله تعالى ﴿جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا﴾ من الملائكة (انظر آية ٤٢ من سورة الأنفال) ﴿وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ بالقتل والأسر
﴿ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذلِكَ عَلَى مَن يَشَآءُ﴾ إسلامه وهدايته من المشركين، أو يتوب على من يشاء من المدبرين المنهزمين؛ لأن الواجب على المجاهد ألا يولي العدو دبره. قال تعالى: ﴿وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾
﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ لخبث باطنهم، وقذارة ظاهرهم؛ لأنهم لا يغتسلون، ولا يتطهرون، ولا يتجنبون النجاسات؛ فهي دائماً ملابسة لهم ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً﴾ فقراً
﴿حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ﴾ سميت جزية: لأنها جزاء على الكفر ﴿عَن يَدٍ﴾ أي نقداً مقبوضة؛ غير نسيئة ﴿وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ أي تؤخذ منهم الجزية على الصغار؛ وهو الذل والهوان
﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ﴾ وهو أحد أنبياء بني إسرائيل؛ وربما قال هذا القول الأوائل منهم، أو قالوه في زمن الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام - عناداً له - لما رأوه منه من تقديس الإله، وتنزيهه عن الولد والوالد، أو نزلت هذه الآية بسبب أن اليهود سمعوا مقالة النصارى بمثل ذلك؛ فلم ينكروا عليهم، أو يردعوهم. وخلاصة القول: إنه لا يوجد الآن بين اليهود من يقول: ﴿عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ﴾ فوجب أن نتأول ذلك بما قلناه. هذا ولو أنه من المعلوم أن اليهود يرتكبون ما هو أشد من نسبة الولد إلى الله
-[٢٢٧]- ﴿يُضَاهِئُونَ﴾ يشابهون بقولهم هذا ﴿قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ﴾
وهم الذين قالوا: الملائكة بناتالله. وقول المشركين: اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ﴿قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ كيف يصرفون عن الحق؛ مع قيام الدلائل الواضحة على صدقه
﴿اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ﴾ علماءهم ﴿وَرُهْبَانَهُمْ﴾ نساكهم ﴿أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ﴾ أي كالأرباب؛ حيث أطاعوهم في كل شيء. ومنه قوله تعالى: ﴿انفُخُواْ حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً﴾ أي كالنار. وقد كان الأحبار والرهبان يحلون لهم الحرام فيستحلونه، ويحرمون عليهم الحلال فيحرمونه ﴿وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ﴾ عطف على ﴿اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ﴾ أي اتخذواالمسيح ابن مريم رباً لهم ﴿وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ﴾ تنزه وتقدس عن الولد، وعن الشبيه والنظير
﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ﴾ شرعه وبراهينه، وأدلة توحيده ﴿وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ﴾ يظهر ﴿نُورَهُ﴾ دينه وشرعه؛ ويعليه على سائر الأديان والشرائع
﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى﴾ القرآن ﴿وَدِينِ الْحَقِّ﴾ الإسلام ﴿لِيُظْهِرَهُ﴾ ليعليه ﴿عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ على سائر الأديان المخالفة
﴿وَيَصُدُّونَ﴾ يمنعون الناس ﴿عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾ دينه ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ﴾ ولا يؤدون زكاتها، ولا يتصدقون منها ﴿وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ ذهب أبو ذر الغفاري رضي الله تعالى عنه إلى أن المسلم لا ينبغي له أن يكون في ملكه أكثر من قوت يومه وليلته. والإجماع على غير ذلك؛ ما دام مؤدياً حق الله تعالى فيه. وقد زعم بعضهم أنها نزلت في أهل الكتاب فحسب؛ وهو زعم باطل
﴿يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا﴾ أي على الذهب والفضة
﴿فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ﴾ وقد اختيرت الجباه والجنوب والظهور بالكي: لأن البخيل يرى الفقير قادماً عليه فيقطب جبهته، فإذا جاءه أعرض ونأى بجانبه، فإذا طالبه بإحسان ولاه ظهره؛ فوجب أن يكوى بما بخل به على جبهته وجنبه وظهره وقد يكون المراد بذلك كيّ سائر الجسم؛ فالجبهة تدل على الأمام، والجنوب والظهور على باقي الجسم. وقد يقال: كيف يحمى على أوراق العملة المتداولة الآن إن كانت مكتنزة؟ والجواب: إنه يحمى على ما يوازيها من الذهب والفضة؛ فتكوى بها الجباه والجنوب والظهور؛ وجميع ذلك على وجه التمثيل: فقد يحمى على أطنان كثيرة من الذهب والفضة؛ فتصب على البخلاء صباً؛ ويومئذٍ يتذكرون ما فعلوه في دنياهم ﴿فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ﴾ والمراد من الآية: أن الذهب والفضة اللذين هما موضع إعجابهم في الدنيا واهتمامهم وحرصهم؛ سيكونان في الآخرة موضع ألمهم وتعذيبهم نعوذ به تعالى من غضبه وعذابه ﴿هَذَا مَا كَنَ
-[٢٢٨]- زْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ﴾
أي يقال لهم: إنكم لم تكنزوا خيراً لأنفسكم؛ بل كنزتم لها الشر المقيم، والعذاب الأليم ﴿فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ﴾ أي جزاءه وعقوبته
﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ لوحه المحفوظ؛ الذي كتب فيه ﴿يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ﴾ كل ما هو كائن ﴿مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾ يحرم القتال فيها وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب ﴿ذلِكَ﴾ أي تحريم هذه الشهور؛ هو ﴿الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ المستقيم ﴿فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ أي لا تظلموا أنفسكم في الأشهر الحرم؛ بارتكاب المعاصي؛ فإنها فيها أعظم إثماً، وأشد وزراً وقيل: الضمير في «فيهن» عائد على الأشهر كلها: الإثني عشر. أما الأشهر الحرم فإن الذنب فيهن أكبر، كما أن العمل الصالح والأجر فيهن أعظم. وقد اصطفى الله تعالى من خلقه صفايا: فاصطفى من الملائكة والناس رسلاً، واصطفى من الكلام القرآن، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام الجمعة، واصطفى من الليالي ليلة القدر؛ فعظموا ما عظم الله تعالى واصطفاه: تفوزوا بجنته ورضاه ﴿وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً﴾ أي مجتمعين غير مفترقين، مؤتلفين غير مختلفين
﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾ النسيء: التأخير؛ وقد كانوا يؤخرون حرمة الأشهر الحرم لغيرها؛ طبقاً لأهوائهم ورغبتهم في القتال ﴿لِّيُوَاطِئُواْ﴾ ليوافقوا ﴿عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ﴾ وذلك بتحريم شهر حلال، مكان شهر حرام استحلوه؛ فكانوا يحرمون صفر عاماً - مكان المحرم - ويحرمون المحرم عاماً؛ وذلك معنى قوله جل شأنه ﴿فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ﴾ بإحلالهم المحرم؛ الذي هو من الأشهر الحرم
﴿يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ﴾ أي اخرجوا للقتال ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ﴾ تثاقلتم وتباطأتم عن الجهاد ﴿إِلَى الأَرْضِ﴾ أي ملتم إلى القعود ﴿أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ﴾ أي أرضيتم بما في الدنيا من متاع زائل، وراحة مؤقتة؛ عما في الآخرة من نعيم مقيم، وسعادة دائمة ﴿فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي﴾ جنب متاع ﴿الآخِرَةِ﴾ ونعيمها الباقي الدائم ﴿إِلاَّ قَلِيلٌ﴾ حقير زائل
﴿إِلاَّ﴾ إن لم ﴿تَنفِرُواْ﴾ تخرجوا مع النبي للجهاد ﴿يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ في الدنيا؛ بالجدب والقحط ﴿وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ﴾ يطيعونه إذا أمر، ويخرجون معه إذا استنفر ﴿وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً﴾ أي ولا تضروا الله شيئاً بترككم النفير وعصيانكم؛ لأنه تعالى ليس في حاجة إليكم.
﴿إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ﴾ أي إن لم تنصروه فسينصره من نصره حين لم يكن معه سوى رجل واحد ﴿ثَانِيَ اثْنَيْنِ﴾ هو وأبو بكر رضي الله تعالى عنه ﴿إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ﴾ والغار: نقب في الجبل؛ وقد كانا في غار بجبل ثور؛ وهو من جبال مكة المكرمة ﴿إِذْ يَقُولُ﴾ محمد ﴿لِصَاحِبِهِ﴾ أبي بكر رضي الله تعالى عنه؛ حين رأى المشركين يجوبون الجبل بحثاً عن النبي ليقتلوه؛ فقال للنبي: لو نظر أحدهم تحت قدميه لأبصرنا. فقال عليه أفضل الصَّلاة وأتم السلام ﴿لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ بنصره وعونه وكلاءته ﴿فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ﴾ السكينة: الطمأنينة ﴿وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا﴾ ملائكة يحفظونه من أن يراه الكفار، ومن أن ينال منه أحدهم لو رآه ﴿وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ دعوتهم إلى الشرك ﴿السُّفْلَى﴾ المنحطة المغلوبة ﴿وَكَلِمَةُ اللَّهِ﴾ دينه، والدعوة إلى توحيده ﴿هِيَ الْعُلْيَا﴾ الظاهرة الغالبة
﴿انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً﴾ أي اخرجوا للقتال ركباناً ومشاة، أو شباباً وشيوخاً، أو أغنياء وفقراء
﴿لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً﴾ أي لو كان ما دعوتهم إليه مغنماً سهل المأخذ ﴿وَسَفَراً قَاصِداً﴾ وسطاً، غير بعيد ﴿لاَّتَّبَعُوكَ﴾ جرياً وراء منافعهم الدنيوية ﴿وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ﴾ المسافة الشاقة ﴿وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ بالكذب والنفاق، وتعريضها للعذاب الأليم
﴿عَفَا اللَّهُ عَنكَ﴾ هو من ألطف العتاب ﴿لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ﴾ في التخلف عن الجهاد؟
من هذه الآية نعلم مكانة الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه عند ربه، وعلوّ قدره، وسمو منزلته؛ فقد بشره مولاه جل شأنه بالعفو قبل أن يخبره بالذنب؛ ولأنه لو قال له معاتباً: لم أذنت لهم؟ لخيف عليه أن ينشق قلبه حزناً وكمداً
﴿وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ شكت في صحة الدين
﴿وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ﴾ كره نهوضهم للخروج للجهاد معك؛ على ما هم عليه من شك ونفاق؛ لا يتوفر معهما الإقدام، وصدق الدفاع ﴿فَثَبَّطَهُمْ﴾ الله عن الخروج؛ أي كسلهم عنه ﴿وَقِيلَ﴾ لهم ﴿اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ﴾ مع المرضى والنساء والشيوخ والصبيان؛ الذين أقعدهم المرض والضعف والعجز والصغر؛ وهؤلاء الشاكون المرتابون
﴿لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم﴾ للقتال ﴿مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً﴾ الخبال: النقصان، والهلاك، والعناء، والكل؛ والمعنى: ما زادوكم إلا فساداً وتعويقاً ﴿ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ﴾ لمشوا بينكم بالدس والنميمة، وإفساد ذات البين ﴿يَبْغُونَكُمُ﴾ يطلبون لكم ﴿الْفِتْنَةِ﴾ الإفساد والعداوة، أو يبغون لكم الكفر، أو المراد بالفتنة: الدس والوقيعة؛ لقوله تعالى ﴿وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾ أي مصدقون لما يقولونه، أو ﴿سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾ أي جواسيس من المنافقين: يسمعون أسراركم، ويبلغونها لهم
﴿لَقَدِ ابْتَغَوُاْ﴾ طلبوا وأرادوا لك ﴿الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ﴾ حين قدمت المدينة ﴿وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ﴾ دبروا لك الحيل والمكائد لإبطال دينك ﴿حَتَّى جَآءَ الْحَقُّ﴾ النصر الذي وعدك الله تعالى به ﴿وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ﴾ فشا دينه، وسطع نوره
﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي﴾ في القعود عن الجهاد ﴿وَلاَ تَفْتِنِّي﴾ أي لا توقعني في الفتنة؛ وهي الإثم. قال تعالى رداً على قولهم ﴿أَلا فِي الْفِتْنَةِ﴾ الكفر والعذاب والإثم ﴿سَقَطُواْ﴾ وقعوا؛ بسبب ما قالوا. وما فعلوا، وبسبب تخلفهم عن الجهاد ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ لا ينجو منها أحد منهم
﴿إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ﴾ نصر وغنيمة ﴿تَسُؤْهُمْ﴾ لأنهم لا يبتغون لك الخير؛ لخبث باطنهم ﴿وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ﴾ شدة وهزيمة ﴿يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا﴾ من الحذر والتيقظ؛ ولم نقع فيما وقعوا فيه
﴿قُل لَّن يُصِيبَنَآ﴾ من خير أو شر ﴿إِلاَّ مَا كَتَبَ﴾ قدر وقضى ﴿اللَّهُ لَنَا﴾ فلا دافع له، ولا مناص من وقوعه.
-[٢٣١]- ﴿هُوَ مَوْلاَنَا﴾ ناصرنا ومتولي أمورنا ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ في سائر أمورهم (انظر آية ٨١ من سورة النساء)
﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ﴾ تنتظرون لنا ﴿إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ﴾ النصر، أو الشهادة: وكلاهما حسن. بل الشهادة التي تتوقعونها لنا: أحسن وألذ من النصر ﴿وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ﴾ ننتظر لكم ﴿أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ﴾ بقارعة من السماء؛ كقارعة عاد وثمود ﴿أَوْ بِأَيْدِينَا﴾ بأن نقتلكم
﴿قُلْ أَنفِقُواْ﴾ في طاعة الله تعالى ﴿طَوْعاً﴾ بإرادتكم ﴿أَوْ كَرْهاً﴾ رغم أنوفكم ﴿لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ﴾ ما تنفقونه ﴿إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ﴾ كافرين
﴿وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ﴾ بنفاقهم، ورغبتهم في إيصال السوء إليك ﴿وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى﴾ لأنهم لا يبتغون من أدائها ثواباً، ولا يخشون من تركها عقاباً وإنما يقومون بها اتقاء للمؤمنين، ومراءاة لهم
﴿فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ﴾ وكثرتها ﴿وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ﴾ ولا تظنن أن ذلك إنعام منا عليهم، أو رضاء عن أعمالهم ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ بما يلقونه في سبيل تحصيل الأموال والحرص عليها، والكدر عند إنفاقها، وبما يلقونه من عنت الأولاد، ومرضهم وفقدهم؛ في حين أن المؤمن لا يحرص على الجمع، ولا يألم للإنفاق؛ ويكتب له بكل أذى يلقاه حسنة ﴿وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ﴾ تخرج أرواحهم؛ والزهوق: الخروج بصعوبة
﴿وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ﴾ جبناء؛ يخافون القتل إذا هم أظهروا ما يبطنون
﴿لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً﴾ يلجأون إليه خوفاً من القتال ﴿أَوْ مَغَارَاتٍ﴾ سراديب في الجبال ﴿أَوْ مُدَّخَلاً﴾ نفقاً ﴿وَهُمْ يَجْمَحُونَ﴾ يسرعون كالفرس الجموح الذي لا يرد
﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ﴾ يعيبك ﴿فِي الصَّدَقَاتِ﴾ أي في توزيعها. والمراد بالصدقات الزكاة المفروضة؛ وقد كانت تجمع، وتوزع بمعرفة الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه ﴿فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ﴾ أي إن رضاهم وسخطهم للدنيا؛ لا للدين، ولأنفسهم لا للمسلمين.
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾ أي بما آتاهم من الأموال والغنائم وطابت به نفوسهم، من غير تطلع إلى ما أوتي غيرهم ﴿وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ﴾ كافينا
﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ﴾ الذين يسألون الناس لأنهم لا يجدون ما ينفقون ﴿وَالْمَسَاكِينِ﴾ الذين لا يسألون أحداً؛ لأن عندهم ما يكفيهم في الحال؛ كمن يملك قوت يومه، أو من لا يجد الكفاف الجباة الذين يحصلونها ﴿وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ﴾ قوم من أشراف العرب؛ كان الرسول يتألفهم ليسلموا، أو هم كل من أسلم من اليهود أو النصارى، أو غيرهم من المشركين: ليثبتوا على إيمانهم؛ وقد كان ذلك في صدر الإسلام ﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾ أي المكاتبين. وهم الذين يكاتبون مواليهم بثمنهم؛ فإذا أدوه فهم أحرار. وقد أجاز الله تعالى عليهم الزكاة؛ ليعانوا على تحرير أنفسهم ﴿وَالْغَارِمِينَ﴾ المثقلين بالديون، أو الذين أصابهم اضطهاد وغرم في سبيل الدين والوطن؛ اللهم إلا من تداين في سفاهة أو محرم؛ فهو واجب المحاربة لا الإعانة ﴿وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي للقائمين بالجهاد ﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ الذي انقطع به الطريق في السفر ﴿فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ﴾ أي فرض الله تعالى الزكاة لهؤلاء الأصناف فرضاً
﴿وَمِنْهُمُ﴾ أي من هؤلاء الجبناء والمنافقين ﴿الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ﴾ بكلامهم ﴿وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ﴾ أي سماع لما يقال له من الشر ﴿قُلْ﴾ هو ﴿أُذُنُ خَيْرٍ﴾ أي سماع لكل خير ﴿لَكُمْ﴾ ولا يستمع للشر كما تزعمون
﴿أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ﴾ يجاوز الحد. والمقصود أنه يحارب ويخالف ﴿اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ ولا يطعهما
﴿يَحْذَرُ﴾ يخاف ﴿الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ﴾ أي على المؤمنين ﴿سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم﴾ أي بما في قلوب المنافقين من تبييت العداوة والشر، والاستهزاء بالمؤمنين
-[٢٣٣]- ﴿قُلِ اسْتَهْزِءُواْ﴾ ما شئتم أن تستهزئوا ﴿إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ﴾ أي مظهر ما تخفونه وتحذرون ظهوره من النفاق
﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ﴾ عن استهزائهم بك، وبما أنزل إليك من القرآن ﴿لَيَقُولُنَّ﴾ معتذرين عن استهزائهم ﴿إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ﴾ في الحديث ﴿وَنَلْعَبُ﴾ نلهو ونمزح ﴿قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ﴾ والاستهزاء والسخرية بالله، أو بآياته، أو بملائكته، أو برسله - ولو على سبيل المزاح - كفر لا يمحوه اعتذار
﴿لاَ تَعْتَذِرُواْ﴾ وكيف يجدي الاعتذار، و ﴿قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ وكم نرى بعض المتظرفين الثقلاء يقذف بالنكتة الوقحة، وبالمزحة السمجة؛ ينال بها من دينه وخالقه ومن عجب أن نرى أناساً يضحكون لنكتة هذا الفاجر الكافر؛ ولم يعلموا أنهم شركاء له في فجوره وكفره، قرناء له في جهنم وبئس المصير نعوذ ب الله الحليم، من الاستهانة بقدره العظيم، أو بكتابه الكريم أو برسله البررة، أو بملائكته الخيرة ﴿إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ﴾ لحسن نيتها، وصدق طويتها، ورجوعها إلى محجة الصواب ﴿نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ﴾ مصرين على كفرهم واستهزائهم
﴿وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ﴾ عن الإنفاق في الطاعات ﴿نَسُواْ اللَّهَ﴾ تركوا طاعته، ونسوا أجره الذي وعد به؛ لأنه تعالى وعد المنفقين أجراً عظيماً؛ فقبضوا أيديهم؛ فكانوا بذلك مكذبين لوعده، ناسين لأجره
﴿فَنَسِيَهُمْ﴾ تركهم من رحمته وفضله؛ وجعلهم كالمنسيين
﴿هِيَ حَسْبُهُمْ﴾ تكفيهم جزاءً وعقاباً
﴿فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ﴾ بنصيبهم من الدنيا ﴿وَخُضْتُمْ﴾ في الباطل والطعن في الرسول، وفي الكتاب المنزل عليه ﴿كَالَّذِي خَاضُواْ﴾ أي كالخوض الذي خاضوه
-[٢٣٤]- ﴿أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ بطلت أعمالهم الحسنة التي عملوها ﴿فِي الدنْيَا﴾ لأن الكفر محبط لسائر الأعمال ﴿وَالآخِرَةِ﴾ لأنه لا جزاء لها
﴿أَلَمْ يَأْتِهِمْ﴾ أي ألم يأت هؤلاء الخائضين ﴿نَبَأُ الَّذِينَ﴾ خاضوا ﴿مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ﴾ قوم هود ﴿وَثَمُودَ﴾ قوم صالح ﴿وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ﴾ قوم شعيب؛ عليهم الصلاة والسلام ﴿وَالْمُؤْتَفِكَاتِ﴾ قرى قوم لوط والمراد بها أهلها ﴿أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ بالآيات الواضحات، والمعجزات الظاهرات؛ فاستهزأوا برسلهم؛ فعذبهم الله تعالى عذاباً لم يعذبه أحداً من العالمين ﴿فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ﴾ بالعذاب الذي أنزله بهم ﴿وَلَكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ بالكفر وارتكاب المعاصي، وتعريضها للعقاب. هذا حال الكافرين، والمنافقين، والخائضين؛ أما حال المؤمنين فقد أوضحه الله تعالى بقوله:
﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ﴾ أي هم لبعض أنصار وأعوان؛ لأنهم ﴿يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ بالإيمان، والاستقامة ﴿وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ وهو كل ما ينكره العرف والشرع ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ﴾ في أوقاتها ﴿وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ المفروضة ﴿وَيُطِيعُونَ اللَّهَ﴾ فيما أمر به، ونهى عنه ﴿وَرَسُولُهُ﴾ فيما سنه لأمته من كريم الفعال، وحميد الخصال ﴿أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾.
يا معشر المؤمنين: لقد جاءكم البشير النذير، بقول الرحمن الرحيم ﴿أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ﴾ فأي شيء تبتغون فوق رحمته؟ وأي شيء تطلبون بعد جنته؟ ولم يجعل جل شأنه سبب الوصول إلى رحمته عسيراً شاقاً؛ بل هو طلبة كل إنسان كامل، وبغية كل شخص عاقل وقد وصف الله تعالى أولئك الذين اصطفاهم لجنته، واختصهم برحمته بقوله: ﴿يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ فهل ترى أيها المؤمن العاقل أن النهي عن المعروف، والأمر بالمنكر؛ أولى وأجدر من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؟
ووصفهم تعالى أيضاً بإقامة الصلاة: ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ﴾ وإقامتها - كما تعلم - قيام بشكره تعالى على ما وهب من واسع العطاء، وأنعم من مزيد النعم؛ وابتهال إليه تعالى ليمنّ بالهداية إلى دينه القويم، وصراطه المستقيم
ووصفهم جل شأنه بإيتاء الزكاة: ﴿وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ فهل ترى أيها المتقلب في نعمة الله، المتمتع بهباته وفيوضاته؛ أن تأكل كما تأكل الأنعام فلا تلتفت إلى من هم دونك من الأنام؛ وتذرهم يموتون عرياً،
-[٢٣٥]- ويتضورون جوعاً؟ وهل هذا شأن بني الإنسان؛ الذين فضلهم ربهم على كثير ممن خلق تفضيلاً، وميزهم بالعقل الراجح، والقلب الرحيم.
ووصفهم تعالى أيضاً بأحسن ما يوصف به العباد المقربون؛ وهل يقرب الإنسان من ربه سوى طاعته؟ ﴿وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ وهل تجب على العاقل طاعة الشيطان، أم طاعة الرحمن؟ هل تجب طاعة من يدعوك إلى الجنة، أم من يدعوك إلى النار؟ إن الله تعالى قد ألبسك ثوب محبته ودعاك إلى جنته، ووعدك بمزيد رحمته فهلم - يا رعاك الله وهداك - إلى رحمة الله رحمنا الله تعالى وإياك، ووهبنا مزيد رضوانه ووفقنا لما يؤهلنا إلى فيض إحسانه
﴿وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً﴾ يطيب فيها العيش والإقامة ﴿فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾ ﴿الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ﴾ وهي من عدن في المكان: إذا أقام فيه. والمعنى: جنات الإقامة ﴿وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ أي أكبر من ذلك النعيم الموصوف ﴿ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ الذي لا فوز بعده و ﴿لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ﴾
﴿يأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ﴾ بالسيف ﴿وَالْمُنَافِقِينَ﴾ بالحجة ﴿وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾ في القتال والمحاجة؛ فلا تأخذك بهم رأفة ولا رحمة
﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ﴾ قيل: نزلت في الجلاسبن سويد بن الصامت؛ وقد أقبل هو وابن امرأته مصعب من قباء؛ على حمير لهم. فقال الجلاس: إن كان ما جاء به محمد حقاً؛ لنحن أشر من حميرنا هذه التي نحن عليها. فقال مصعب: أما والله يا عدو الله لأخبرن رسول الله بما قلت؛ فإني إن لا أفعل أخاف أن تصيبني قارعة وأؤاخذ بخطيئتك فلما أتيا النبي؛ قال مصعب: يا رسول الله أقبلت أنا والجلاس من قباء، فقال كذا وكذا. فقال للجلاس: «أقلت الذي قال مصعب»؟ فحلف ما قال؛ فنزلت ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ﴾ ﴿وَهَمُّواْ﴾ بالفتك بالنبي ﴿بِمَا لَمْ يَنَالُواْ﴾ لأن الله تعالى عصمه منهم؛ قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ ﴿وَمَآ﴾ أي وما أنكروا، وما عابوا ﴿إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ﴾
قيل: قتل مولى للجلاس؛ فقضى رسول الله له بديته؛ فكانت سبباً في غناه ﴿فَإِن يَتُوبُواْ﴾ عن النفاق، وعن كلمة الكفر ﴿يَكُ خَيْراً لَّهُمْ﴾ في الدنيا والآخرة ﴿وَإِن يَتَوَلَّوْا﴾ يعرضوا ويصروا على النفاق ﴿يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا﴾ بالقتل، والأسر، والذل ﴿وَالآخِرَةِ﴾ بالنار وبئس القرار
﴿وَمِنْهُمُ﴾ أي من المنافقين ﴿مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ﴾ رزقه وسعته. قيل: هو ثعلبة بن حاطب
﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ﴾ أي جعل عاقبتهم النفاق في القلب، وهو البخل لأن البخيل يخفي نعمة الله تعالى عليه
-[٢٣٦]- ولا يبديها. ونفاق القلب: أسوأ مراتب النفاق
﴿وَنَجْوَاهُمْ﴾ ما يتناجون به فيما بينهم؛ وهي المسارة
﴿يَلْمِزُونَ﴾ يعيبون ﴿الْمُطَّوِّعِينَ﴾ المتطوعين، المتبرعين ﴿وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ﴾ إلا طاقتهم؛ فيقدمونه ﴿فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ﴾ أي فيسخر المنافقون من المتطوعين: إن أكثروا زعموا أنه رياء، وإن أقلوا قالوا: إن الله غني عن مثله.
﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ نزلت في المنافقين وقيل: في عبد الله بن أُبي بن سلول حين صلى رسول الله على جنازته ﴿إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً﴾ المقصود من العدد التكثير، لا التحديد؛ إذ لو استغفر لهم طول حياته ﴿فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾ وهؤلاء هم أشقى الناس بلا مراء: فقد حرموا من قبول استغفار من لو استغفر لعصاة الجن والإنس: لغفر لهم
﴿فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ﴾ الذين تخلفوا عن الجهاد ﴿بِمَقْعَدِهِمْ﴾ أي بقعودهم ﴿خِلاَفَ رَسُولِ اللَّهِ﴾ أي بعد ذهابه للجهاد، أو قعدوا مخالفين له ﴿وَقَالُواْ﴾ لبعضهم، أو قالوا للمسلمين ﴿لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ﴾ أي لا تخرجوا للقتال في الحر لئلا يؤذيكم ﴿قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً﴾ فإن كنتم تخشون الجهاد في الحر الذي يطيقه ويتحمله كل مخلوق - والجهاد موصل إلى ظل الجنة الوارف، ونعيمها الدائم - فكيف بنار جهنم الذي لا يطيقه الصخر، ويذوب من حره صم الجلاميد؟ وهل الوصول إلى الجنة بطريق مشوب بالحر المحتمل أولى، أم الوصول إلى الجحيم بطريق ممتلىء بالهواء العليل، والجو الجميل؟
﴿فَلْيَضْحَكُواْ﴾ أي فليضحك هؤلاء القاعدون في الدنيا ﴿قَلِيلاً﴾ حتى انتهاء آجالهم - وهو قليل وإن طال - ﴿وَلْيَبْكُواْ﴾ في الآخرة ﴿كَثِيراً جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ في الدنيا من البخل، والنفاق، وعيب الكرماء والسخرية منهم، وتخلفهم عن الجهاد وكراهتهم له
﴿فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ﴾ ردك من الجهاد ﴿إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ﴾ أي من المنافقين ﴿فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ﴾ أي غزوة أخرى ﴿فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ﴾ المتخلفين: من الشيوخ، والصبيان والمرضى، والنساء
﴿وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ﴾ نهى تعالى عن الصلاة على موتى الكفار؛ وهي مفروضة على موتى المؤمنين - صالحين كانوا أو من أهل الكبائر - ما لم يكونوا من البغاة وأهل الضلالات؛ إلا الشهيد؛ فإنه لا يغسل، ولا يصلي عليه؛ وذلك لأن الغسل لمحو النجاسات والقاذورات؛ والشهيد يبعث يوم القيامة بدمه - تشريفاً له، وإشادة بموقفه المجيد - والصلاة على الميت دعاء له بالأجر وغفران الذنب؛ والشهيد مأجور مغفور
وصلاة الجنازة: أربع تكبيرات؛ يقرأ في الأولى فاتحة الكتاب سراً، ثم يصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم- في الثانية،
-[٢٣٧]- ثم يخلص الدعاء للميت بعد الثالثة، ثم يكبر الرابعة ويقول: اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده؛ ثم يسلم. وليس في صلاة الجنازة ركوع ولا سجود. ﴿وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ﴾ كافرون
﴿وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ﴾ وكثرتها ﴿وَأَوْلاَدُهُمْ﴾ وشدتها ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا﴾ يعذبهم بجمع الأموال والحرص عليها، وبعقوق الأولاد وجموحهم ﴿وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ﴾ تخرج أرواحهم وهي كارهة
﴿اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ﴾ ذوو الغنى ﴿وَقَالُواْ ذَرْنَا﴾ دعنا واتركنا ﴿نَكُنْ مَّعَ الْقَاعِدِينَ﴾ عن الجهاد
﴿رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ﴾ النساء ﴿وَطَبَعَ﴾ غطى ﴿عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ بسبب كفرهم وجبنهم
﴿لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ﴾ لم يتخلفوا، و ﴿جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ﴾ منافع الدارين. وقيل: المراد بالخيرات: النساء الحسان؛ لقوله تعالى: ﴿لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾
﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ﴾ حدائق وبساتين
﴿وَجَآءَ الْمُعَذِّرُونَ﴾ المعتذرون الذين انتحلوا الأعذار، ليتخلفوا عن الجهاد ﴿لِيُؤْذَنَ لَهُمْ﴾ في القعود. وقيل: المعتذرون بعذر حقيقي يمنعهم من الجهاد ﴿وَقَعَدَ﴾ عن الجهاد المشركون ﴿الَّذِينَ كَذَبُواْ اللَّهَ﴾ أي كذبوا عليه؛ فادعوا الإيمان ونافقوا؛ فلم يجاهدوا مع المجاهدين، ولم يعتذروا مع المعتذرين؛ وقرأ أبيّ «كذبوا الله» فلم يصدقوا وعده بأجر المجاهدين؛ وما أعده لهم من خير عميم، ونعيم مقيم
﴿لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَآءِ﴾ حرج في ترك الجهاد ﴿وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى﴾ لأنهما سيكونان عبئاً ثقيلاً على المجاهدين ﴿وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ﴾ في سبيل الله: من مال، أو سلاح، أو مركب ﴿حَرَجٌ﴾ إثم في التخلف ﴿إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ في حال تخلفهم؛ فلا يثبطون همم غيرهم، ولا يقعدونهم عن الجهاد.
والنصح: إخلاص العمل من الغش ﴿مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ لأعمالهم؛ الذين نصحوا لله ورسوله، ولم يمنعهم عن الجهاد إلا العذر الشديد ﴿مِن سَبِيلٍ﴾ يدعو إلى مؤاخذتهم أو لومهم.
﴿وَلاَ عَلَى الَّذِينَ﴾ رغبوا في الجهاد رغبة صادقة، ولم يمنعهم عنه سوى أنهم ﴿إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ﴾ أي لتعطيهم ما يركبون عليه للجهاد ﴿قُلْتَ﴾ لقلة ما عندك من المراكب؛ وكثرة المجاهدين الذين استنفدوا كل ما عندك من خيل وأبعرة أعددتها وجمعتها للجهاد؛ قلت لهم ﴿لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ﴾ وعند ذاك يظهر الأسى على وجوههم، والحسرة في قلوبهم - لمزيد إيمانهم وإخلاصهم - و ﴿تَوَلَّوْاْ﴾ انصرفوا ﴿وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ﴾ في سبيل الله؛ فيشترون ما يركبونه - لهم ولأمثالهم ممن منعهم عن الجهاد قلة المراكب -
﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ﴾ الطريق للمؤاخذة والعقوبة ﴿عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ﴾ في التخلف ﴿وَهُمْ أَغْنِيَآءُ﴾ أقوياء يستطيعون الجهاد في سبيله تعالى بالأنفس والأموال؛ لكنهم ﴿رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ﴾ النساء؛ لأنهم خلف الرجال في البيوت ﴿وَطَبَعَ﴾ غطى ﴿اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ بسبب نفاقهم ﴿فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ ما ينفعهم فيوصلهم إلى الجنة، وما يضرهم فيلقي بهم في الجحيم هذا وقد طبع الله تعالى على قلوبهم؛ بعد أن أنزل عليهم آياته البينات، وأراهم معجزاته الظاهرات؛ فأبوا طريق الهدى والفلاح، واتبعوا طريق الشيطان؛ فكان لزاماً أن يطبع الله تعالى على قلوبهم، ويختم على أبصارهم ﴿فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾
﴿سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ﴾ أي رجعتم من الجهاد ﴿لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ﴾ فلا تعاتبوهم على تخلفهم وقعودهم ﴿فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ﴾ فلا تشيروا إلى تقصيرهم، ولا تعاتبوهم؛ وذلك لأن المعاتبة: تصفية للقلوب، وإبقاء للمودة؛ ألا ترى إلى وصفه تعالى لأهل النار: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لاَّ ينفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾ ﴿إِنَّهُمْ رِجْسٌ﴾ قذر لخبث باطنهم؛ فلا يطهرون بالعتاب والتوبيخ. والرجس: القذر المؤدي إلى العذاب والعقاب.
﴿الأَعْرَابُ﴾ أهل البدو ﴿أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً﴾ لجفائهم وقسوتهم، وغلظ طباعهم، وبعدهم عن العلم والعلماء، ﴿وَأَجْدَرُ﴾ أحق وأولى ﴿أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ﴾ من شرائعه وفرائضه وأدلة توحيده؛ لقصر نظرهم، وقلة تبصرهم
﴿وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ﴾ في سبيل الله ﴿مَغْرَماً﴾ غرامة وخسراناً؛ لأنه ينفقه رياء وخوفاً ﴿وَيَتَرَبَّصُ﴾ ينتظر ﴿بِكُمُ الدَّوَائِرَ﴾ دوائر الزمان: وهي أنكاده، وتقلباته، ومصائبه، وهزائمه ﴿عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ﴾ دعاء بنزول العذاب - الذي ينتظرونه لكم - بهم، وحلول الهلاك بساحتهم
﴿وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ﴾ إيماناً يقينياً ﴿وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ وما فيه من ثواب وعقاب ﴿وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللَّهِ﴾ تقربهم منه، وتدنيهم من رحمته ﴿وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ﴾ دعواته ﴿أَلا إِنَّهَا﴾ أي نفقاتهم، أو دعوات الرسول عليه الصلاة والسلام، واستغفاره لهم ﴿قُرْبَةٌ﴾ تقربهم من الله تعالى ﴿سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ﴾ بسبب ذلك ﴿فِي رَحْمَتِهِ﴾ نعيمه ورضوانه وجنته
﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ﴾ هم من شهد بدراً، أو بيعة الرضوان ﴿رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ﴾ (انظر آية ٢٢ من سورة المجادلة)
﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ﴾ يا أهل المدينة ﴿مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ﴾ كقبائل أشجع وأسلم وغفار ومزينة وجهينة ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ﴾ منافقون أيضاً ﴿مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ﴾ أي لجوا واستمروا عليه ﴿لاَ تَعْلَمُهُمْ﴾ لتسترهم ونفاقهم وتظاهرهم بالإيمان ﴿سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ﴾ في الدنيا: بالقتل والأسر والخزي والهوان، أو بالأمراض والفضيحة ﴿ثُمَّ يُرَدُّونَ﴾ يوم القيامة.
﴿وَآخَرُونَ﴾ من المنافقين ﴿اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ﴾ بأن تابوا منها. وأقلعوا عنها
﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ﴾ بها من دنس الشح، والبخل، والإثم ﴿وَتُزَكِّيهِمْ﴾ تنمي أعمالهم وحسناتهم ﴿وَصَلِّ عَلَيْهِمْ﴾ ادع لهم ﴿إِنَّ صَلَوَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ﴾ رحمة وسلام وطمأنينة
﴿أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ﴾ يغفر لهم ذنوبهم ﴿وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ﴾ يتقبلها، ويجزي عليها
﴿وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ﴾ لأنه تعالى مطلع على السرائر ﴿وَرَسُولُهُ﴾ بإطلاع الله تعالى له على أعمالكم؛ قال: «تعرض عليَّ أعمالكم فإن وجدت خيراً حمدت الله، وإن وجدت شراً استغفرت لكم» ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ سيرون بفراستهم ما تنطوي عليه أفئدتكم، وما تنطق به ألسنتكم وتخفيه قلوبكم؛ فإن المؤمن يريه الله تعالى ببصيرته ما لا يراه المنافق ببصره وقد جرت عادة الله تعالى على فضح المنافق وانكشاف أمره؛ قال الشاعر:
ومهما تكن عند امرىء من خليقةوإن خالها تخفي على الناس تعلم
﴿وَسَتُرَدُّونَ﴾ ترجعون يوم القيامة ﴿إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ ما خفي وما ظهر ﴿فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ يجازيكم عليه
﴿وَآخَرُونَ﴾ غير من ذكر من المتخلفين ﴿مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ﴾ مؤخرون إلى أن يظهر أمر الله تعالى فيهم ﴿إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ﴾ فلا يتوب عليهم، ويموتون بلا توبة؛ ويعرضهم للعذاب الأكبر يوم القيامة ﴿وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾ فيتوبون إلى ربهم، ويحسنون أعمالهم؛ قال تعالى: ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ﴾ ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ﴾ بخلقه ﴿حَكِيمٌ﴾ في صنعه؛ فيعلم من يستحق منهم العفو، ممن لا يستحق
﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً﴾ مضارة. أي بقصد الإضرار بالمؤمنين. وهم أناس من المنافقين. قيل: كانوا اثني عشر رجلاً، وقصدوا ببنائه الإضرار بالذين بنوا مسجد قباء ﴿وَإِرْصَاداً﴾ إعداداً وترقباً ﴿لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ من الكفار والمنافقين ﴿وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا﴾ ما أردناه ببناء هذا المسجد ﴿إِلاَّ الْحُسْنَى﴾ والتوسعة على المصلين.
﴿لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ﴾ وهو مسجد قباء
﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ﴾ وهو حافة الوادي المتصدع، المشرف على السقوط
﴿لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً﴾ شكاً ﴿فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ﴾ تتقطع ﴿قُلُوبِهِمْ﴾ بالموت؛ أو إلا أن يتوبوا
﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّةَ﴾ مثل تعالى إثابتهم بالجنة على بذلهم أنفسهم وأموالهم في سبيله؛ بالشراء. عن الحسن رضي الله تعالى عنه: أنفساً هو خلقها، وأموالاً هو رزقها
ومر أعرابي بالرسول عليه الصلاة والسلام وهو يقرؤها فقال: بيع والله مربح؛ لا نقيله ولا نستقيله؛ وخرج إلى الغزو فاستشهد ﴿يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ﴾ أي يقتل بعضهم بعض الكفار ﴿يُقَاتِلُونَ﴾ يقتل بعض الكفار بعضهم ﴿وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً﴾ أي إن جزاء المؤمن على جهاده بالجنة: وعد من الله حق ﴿فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ﴾ ومن هنا يعلم أن فريضة الجهاد، ومقاومة الأعداء، وبذل النفس والمال في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى: كان من أقدم العصور التي نزل فيها تشريع إلهي، ودين سماوي؛ وأنه قد نص على أجر المجاهدين وثوابهم ﴿فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ﴾ قبل أن ينزل به القرآن الكريم؛ الذي جاء مصدقاً لما تقدمه من الرسل والكتب ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ﴾ أي لا أحد أوفى منه تعالى ﴿فَاسْتَبْشِرُواْ﴾ أيها المجاهدون ﴿بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ﴾ الله ﴿وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ وأي فوز أعظم من التمتع بالجنة، والفوز برضا الله تعالى؟ ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَآئِزُونَ﴾
﴿التَّائِبُونَ﴾ عن المعاصي ﴿الْحَامِدُونَ﴾ لله تعالى في كل حالة.
-[٢٤٢]- ﴿السَّائِحُونَ﴾ المجاهدون، أو الصائمون. وذلك لأن الصائم تصفو روحه، وتضعف شهوته، وتنجلي قريحته، ويعتدل نظره، ويقل هواه؛ فيكون أقرب شبهاً بالملائكة؛ فيسيح في ملكوت الله تعالى، ويتفكر في خلق السموات والأرض؛ وقيل: هم طلبة العلم؛ لأنهم يسيحون في الأرض ابتغاء طلبه وتحصيله؛ أو هم الجائلون بأفكارهم في ملك ربهم وتوحيده ﴿وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ﴾ أحكامه، والعمل بما فيها، والحض عليها ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ الذين هذا حالهم بالجنة
﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ﴾ أي ما يجوز لهم ولا يحق ﴿أَن يَسْتَغْفِرُواْ﴾ يطلبوا من الله المغفرة ﴿لِلْمُشْرِكِينَ﴾ الذين يتخذون مع الله إلهاً آخر ﴿وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى﴾ أي ولو كان المشركون ذوي قرابة للنبي والذين آمنوا. قيل: نزلت حين استغفر لعمه أبي طالب، واستغفر بعض المؤمنين لآبائهم المشركين ﴿مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ لأنهم ماتوا على الكفر؛ وليس بعد الكفر ذنب. قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ﴾
﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ﴾ حين استغفر له ﴿إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ﴾ وهي قوله لأبيه حال حياته ﴿سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي﴾ والمعنى: أنه لا يجوز لكم أيها المؤمنون المستغفرون للمشركين؛ أن تحتجوا باستغفار إبراهيم لأبيه؛ لأنه استغفر له عن موعدة وعدها إياه، ولأنه لم يتبين له بعد أنه من أعداء الله، وأنه من أصحاب الجحيم ﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ﴾ بإبائه الإيمان، وموته على الكفر ﴿تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾ وترك الاستغفار له ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ﴾ كثير التأوه من خشية الله تعالى
﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ﴾ وإنما يضل من أصر على الكفر ﴿وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ﴾ ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ﴾
﴿لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ﴾ تاب عليهم: رزقهم الإنابة إلى أمره وطاعته ﴿الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ﴾ في غزوة تبوك: كان للعشرة رجال البعير الواحد، وكان زادهم التمر المدود، والشعير المسوس؛ وربما اقتسم اثنان منهم التمرة الواحدة.
﴿وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ﴾ أي وتاب أيضاً على الثلاثة الذين خلفوا عن التوبة؛ فلم يقبل رسول الله توبتهم وهم: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية. وقيل ﴿الَّذِينَ خُلِّفُواْ﴾ أي تخلفوا عن الجهاد في غزوة تبوك ﴿حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ﴾ فلم يبق فيها أنس ولا سرور، وذلك بسبب أن الرسول عليه الصلاة والسلام دعا لمقاطعتهم؛ فكان أحدهم يفشي السلام لأقرب أقربائه فلا يرد عليه، وهجرتهم نساؤهم وأهلوهم تيقنوا ﴿أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ﴾ فأكثروا من الابتهال والاستغفار، إلى أن تاب عليهم العزيز الغفار ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ﴾ لما ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم بما وسعت: لجأوا إلى اللطيف المنان، الرحيم الرحمن؛ فتاب عليهم ليتوبوا فانظر - يا رعاك الله وهداك - إلى رحمة مولاك يتوب عليك لتتوب ﴿تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ﴾ ويحببك لتحبه ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ ويرضى عنك لترضى عنه ﴿رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ﴾ فاسأله أن يتوب عليك، وأن يحببك، وأن يرضى عنك تاب الله علينا فيمن تاب، وأحبنا فيمن أحب، ورضي عنا فيمن رضي
﴿مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ﴾ مدينة الرسول ﴿وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ﴾ أي ما صح وما جاز لهم أن يقعدوا عن طاعته، ويتخلفوا عن الجهاد معه ﴿وَلاَ يَرْغَبُواْ﴾ لا يضنوا ﴿بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ﴾ أي عما يصيب نفسه من أذى وغم؛ بل يجب عليهم أن يفدوه بأنفسهم وأموالهم وأهليهم، وأن يكونوا معه في الضراء قبل السراء، وفي الشدة قبل الرخاء ﴿ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ﴾ عطش ﴿وَلاَ نَصَبٌ﴾ تعب ﴿وَلاَ مَخْمَصَةٌ﴾ جوع ﴿وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ﴾
أي لا يحتلون بلداً، ولا يدوسون موضعاً ﴿يَغِيظُ الْكُفَّارَ﴾ وطؤهم له ﴿وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً﴾ منالاً. أي لا يقتلون منهم قتيلاً، أو يأسرون أسيراً، أو يجرحون جريحاً ﴿إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ﴾ ينالون أجره، ويكسبون ثوابه
﴿وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً﴾ أرضاً ﴿إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ﴾ أجرهم وجزاؤهم
﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ ما صح، وما جاز لهم ﴿لِيَنفِرُواْ﴾ للحرب، أو لطلب العلم ﴿كَآفَّةً﴾ عامة؛ ويتركوا أهلهم بلا عائل، وأوطانهم بلا حافظ؛ بل ينفر بعضهم للجهاد، وبعضهم للتفقه في الدين، ويبقى باقيهم لحماية الذمار، وحفظ الديار
-[٢٤٤]- ﴿فَلَوْلاَ﴾ فهلا ﴿نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ﴾ جماعة ﴿مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ﴾ يتعلموا ويتبصروا ﴿وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ﴾ بما تعلموه وتفقهوا فيه ﴿لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ الجهل فيتجنبونه.
﴿يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ الْكُفَّارِ﴾ أي القريبين منكم؛ لأنك لو قاتلت الأبعدين؛ لم تأمن غدر الأقربين. وذلك النظام من أدق فنون القتال؛ لتحمي ظهرك ممن يلونك من الأعداء ﴿وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً﴾ قسوة وشدة؛ ليكونوا عبرة لمن بعدوا عنكم من الكفار؛ وليتم أمر الله تعالى وإعلاء دينه
﴿وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ﴾ من القرآن ﴿فَمِنْهُمْ﴾ أي من المنافقين ﴿مَّن يَقُولُ﴾ لأصحابه تعجباً ﴿أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ﴾ السورة ﴿إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً﴾ بالله؛ ويقيناً بوحدانيته، وتصديقاً برسوله ﴿وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ بما أعده الله تعالى لهم من ثواب وأجر
﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ شك ونفاق ﴿فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ﴾ الرجس: القذر. وهو كل عمل يؤدي إلى العذاب؛ أي زادتهم كفراً على كفرهم
﴿أَوَلاَ يَرَوْنَ﴾ أي أو لا يرى هؤلاء المنافقون ﴿أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ﴾ ما أعده الله تعالى لهم من ثواب وأجر ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ شك ونفاق ﴿فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ﴾ الرجس: القذر. وهو كل عمل يؤدي إلى العذاب؛ أي زادتهم كفراً على كفرهم ﴿أَوَلاَ يَرَوْنَ﴾ أي أو لا يرى هؤلاء المنافقون ﴿أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ﴾ جعون ﴿وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ يتذكرون
﴿وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ﴾ على الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام ﴿سُورَةٌ﴾ من القرآن ﴿نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ قائلين ﴿هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ﴾ من المؤمنين ﴿ثُمَّ انصَرَفُواْ﴾ من مجلس الرسول؛ معرضين عن سماع القرآن
﴿صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم﴾ بعد أن مهد لهم تعالى سبل الإيمان فأنكروها، وأبان لهم دواعي الحق فتنكروا لها، وأنزل عليهم آياته فانصرفوا عنها؛ بعد كل ذلك ﴿صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم﴾ جزاء لهم على انصرافهم؛ وهو كقوله تعالى ﴿فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ وقد يكون معنى قوله تعالى: ﴿صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم﴾ دعاء عليهم؛ كقوله ﴿قَاتَلَهُمُ اللَّهُ﴾ هذا شأن الزائغين المنصرفين؛ أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات؛ فأولئك ﴿يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ﴾
﴿لَقَدْ جَآءَكُمْ﴾ أيها الناس ﴿رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ﴾ أي من جنسكم، وقرىء ﴿مِّنْ أَنفُسِكُمْ﴾ بفتح الفاء؛ من النفاسة. أي من أشرفكم وأفضلكم، أو أكثركم طاعة وتقرباً إلى الله تعالى ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ﴾ شاق على نفسه ارتكابكم الإثم، وتعرضكم للهلاك والتلف والخسران؛ وهو من العنت؛ أي المشقة والحرج ﴿حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ﴾ أي حريص على إيمانكم وهدايتكم ونجاتكم
﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ﴾ أعرضوا عن الإيمان ﴿فَقُلْ حَسْبِيَ﴾ كافيّ ﴿اللَّهِ﴾ وحده.
245
سورة يونس

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

245
Icon