تفسير سورة التوبة

حدائق الروح والريحان
تفسير سورة سورة التوبة من كتاب حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن المعروف بـحدائق الروح والريحان .
لمؤلفه محمد الأمين الهرري . المتوفي سنة 1441 هـ
دعوتهم إلى التوبة من الشرك وإنذارهم سوء العاقبة، ثم أمر بما يترتب على النبذ - وهو عود حال الحرب معهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم التي وقتت بها - بمناجزة المشركين بكل أنواع القتال المعروفة في ذلك العصر، من قتل وأسر وحصر وقطع طرق الوصول عليهم إلا من يستجير بالرسول يسمع كلام الله، فإنه يجار حتى يسمعه.. أردف ذلك ببيان أنَّ هذا النبذ وما يترتب عليه إنَّما هو معاملة للأعداء بمثل ما عاملوا به المؤمنين، أو دونه.
قوله تعالى: ﴿اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لمَّا ذكر (١) غلبة الفسق والخروج من الفضائل الفطرية والتقليدية على أكثرهم، حتى مراعاة القرابة والوفاء، ونحوهما مما يمدح عندهم.. أردف ذلك بذكر السبب في هاتين الآيتين.
قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لمَّا بين عداوة المشركين للمؤمنين.. أردف ذلك بما سيكون من أمرهم بعد ذلك، وهو لا يعدو أحد أمرين، فصلهما في هاتين الآيتين.
التفسير وأوجه القراءة
١ - وقوله: ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾: خبرٌ لمبتدأ محذوف، تقديره: هذه (٢) الآيات الآتية التي أُمر عليُّ بن أبي طالب بالنداء بها يوم النحر - وهي أربعون آية تنتهي إلى قوله: ﴿وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ - براءة من جهة الله ورسوله، واصلة ﴿إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾؛ أي: هذه الآيات دالة على البراءة، أي: على التبري والتباعد من الله ورسوله، أي: على انقطاع الوصلة بينهما وبين المشركين، و ﴿من﴾ ابتدائية، وقرىء شاذًا: ﴿من الله﴾ - بكسر النون - على أصل التقاء الساكنين، ذكره أبو البقاء. أي: تبرّؤ وتباعدٌ مبتدأ من الله ورسوله من عهود المشركين الناقضين للعهد؛ فإنَّ الله سبحانه وتعالى قد أذن في معاهدة المشركين،
(١) المراغي.
(٢) الفتوحات.
124
فاتفق المسلمون مع رسول الله - ﷺ - وعاهدهم، ثم إن المشركين نقضوا العهد، فأوجب الله تعالى النبذ إليهم، فخوطب المسلمون بما يحذرهم من ذلك، وقيل لهم: اعلموا أنَّ الله ورسوله قد برئا مما عاهدتم من المشركين، ونسب (١) البراءة إليهما من قبل أنَّه تشريع جديد شرعه الله تعالى، وأمر رسوله - ﷺ - بتنفيذه، ونسب معاهدة المشركين إلى جماعة المؤمنين - وإن كان الرسول هو الذي عقد العهد -؛ لأنه عقده بوصف كونه الإِمام والقائد لهم، وهو عقد ينفذ بمراعاتهم له وعملهم بموجبه، فجمهور المؤمنين هم الذين ينفذون أحكام المعاهدات، وللقادة من أهل الحل والعقد الاجتهاد فيما لا نصَّ فيه منها ومن أحكام الحرب والصلح. وقرأ عيسى بن عمر: ﴿براءةً﴾ بالنصب، قال ابن عطية: أي: الزموا، وفيه معنى الإغراء. وقال الزمخشري: اسمعوا براءةً، قال البغوي: لمَّا خرج رسول الله - ﷺ - (٢) إلى تبوك.. كان المنافقون يرجفون الأراجيف، وجعل المشركون ينقضون عهودًا كانت بينهم وبين رسول الله - ﷺ -، فأمره الله بنقض عهودهم، وذلك قوله عز وجل: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ﴾ اهـ.
وقال الحافظ ابن كثير (٣): اختلف المفسرون في هذه الآية اختلافًا كثيرًا، فقال قائلون: هذه الآية لذوي العهود المطلقة غير المؤقتة، ومن له عهد دون أربعة أشهر فيكمَّل له أربعة أشهر، فأما من كان له عهدٌ مؤقت.. فأجله إلى مدته مهما كانت؛ لقوله تعالى: ﴿فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ﴾ ولما سيأتي في الحديث "ومن كان بينه وبين رسول الله - ﷺ - عهدٌ.. فعهد إلى مدته" وهذا أحسن الأقوال وأقواها، واختاره ابن جرير رحمه الله اهـ.
رُوي (٤): أنَّ رسول الله - ﷺ - أراد أن يحجَّ سنة تسع، فقيل له: إن المشركين يحضرون الحج ويطوفون بالبيت عراة، فقال: "لا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك"، فبعث أبا بكر تلك السنة أميرًا على الموسم، ليقيم للناس الحج، وبعث
(١) المراغي.
(٢) البغوي.
(٣) ابن كثير.
(٤) المراح.
125
معه أربعين آية من صدر براءة، ليقرأها على أهل الموسم، ثم بعث بعده عليًّا على ناقته العضباء، ليقرأ على الناس صدر براءة، وأمره أن يؤذِّن بمكة ومنى وعرفة: أن قد برئت ذمة الله وذمة رسوله - ﷺ - من كل شرك، ولا يطوف بالبيت عريانٌ، فسار أبو بكر أميرًا على الحجاج، وعليٌّ بن أبي طالب يؤذِّن ببراءة، فلمَّا كان قبل يوم التروية بيوم.. قام أبو بكر رضي الله عنه فخطب الناس، وحدثهم عن مناسكهم، وأقام للناس الحجَّ، والعرب في تلك السنة على معاهداتهم التي كانوا عليها في الجاهلية من أمر الحج، حتى إذا كان يوم النحر.. قام عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فأذَّن في الناس بالذي أمر به، وقرأ عليهم أول سورة براءة، وقال عليٌّ: بعثت بأربع: لا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين النبي - ﷺ - عهد.. فهو إلى مدته، ومن لم يكن له عهد.. فأجله أربعة أشهر، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يجتمع المشركون والمسلمون بعد عامهم هذا في الحج، فقال المشركون لعليٍّ عند ذلك: أبلغ ابن عمك أنا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا، وإنه ليس بيننا وبينه عهد إلا طعن بالرماح، وضرب بالسيوف. ثم حج رسول الله - ﷺ - سنة عشر حجة الوداع، وقال: "إن الزمان قد استدار... " الحديث.
٢ - وقوله: ﴿فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾ مقول لقول محذوف، هو خطاب من الله تعالى للمؤمنين مبين لما يجب عليهم أن يقولوه للمشركين الذين برىء الله ورسوله من عهودهم؛ أي: فقولوا أيها المسلمون للمشركين: سيحوا في الأرض؛ أي: سيروا في نواحي الأرض كيف شئتم، مقبلين ومدبرين، آمنين غير خائفين، لا يتعرض لكم أحد من المسلمين بقتل ولا قتال مدة أربعة أشهر، تبتدىء من عاشر ذي الحجة من سنة تسع للهجرة - وهو يوم النحر الذي بلِّغوا فيه هذه الدعوة - وتنتهي في عاشر شهر ربيع الآخر من سنة عشر. قال الكلبي: إنّما كانت الأربعة الأشهر لمن كان بينه وبين رسول الله - ﷺ - عهد دون أربعة أشهر، ومن كان عهده أكثر من ذلك.. فهو الذي أمر الله أن يتم له عهده بقوله: ﴿فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ﴾.
والحكمة في تحديد هذه المدة (١): ليكون لهم فسحة من الوقت للنظر والتفكير في عاقبة أمرهم، والتخير بين الإِسلام والاستعداد للقتال إذا هم أصروا على شركهم وعدوانهم، وهذا منتهى ما يكون من السماحة والرحمة والإعذار إلى أعدى أعدائه المحاربين، حتى لا يقال: إنه أخذهم على غرة.
﴿وَاعْلَمُوا﴾ أيها المشركون ﴿أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ﴾؛ أي: غير فائتي عذاب الله تعالى، وأن هذا الإمهال ليس لعجز عنكم، بل للطف بكم؛ ليتوب من تاب منكم؛ أي: اعلموا أني أمهلتكم وأطلقت لكم، فافعلوا كل ما أمكنم فعله من إعداد الآلات وتحصيل الأسباب، فإنكم لا تعجزون الله، بل الله يعجزكم ويأخذكم؛ لأنكم في ملكه ﴿و﴾ اعلموا أيضًا ﴿أن الله﴾ سبحانه وتعالى ﴿مُخْزِي الْكَافِرِينَ﴾؛ أي: مذلهم في الدنيا بالقتل والأسر، وفي الآخرة بالعذاب.
والمعنى (٢): واعلموا أنَّكم لن تعجزوا الله تعالى، ولن تفوتوه فتجدوا مهربًا منه إذا أنتم أصررتم على شرككم وعدوانكم لله ورسوله، بل سيسلط عليكم المؤمنين ويؤيِّدهم بنصره الذي وعدهم به، والعاقبة للمتقين، فقد جرت سنة الله بخزي الكافرين منكم ومن غيركم في معاداتهم وقتالهم لرسله في الدنيا والآخرة، كما جاء في مشركي مكة ومن نحا نحوَهم: ﴿كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦)﴾.
٣ - وقوله: ﴿وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ خبر لمحذوف، تقديره: أي وهذه الآيات الآتي ذكرها أذان وإعلام صادر من الله سبحانه وتعالى ورسوله - ﷺ - واصل ﴿إِلَى النَّاسِ﴾ كافة، غير مختص بقوم دون قوم، واقع ﴿يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ﴾ وهو يوم العيد؛ لأنَّ فيه تمام معظم أفعال الحج من الطواف والنحر والحلق والرمي، وعن (٣) علي بن أبي طالب قال: سألت رسول الله - ﷺ - عن يوم الحج الأكبر،
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
(٣) الخازن.
127
فقال: "يوم النحر" أخرجه الترمذي، قال: ويروى موقوفًا عليه، وهو أصح. وعن عمر: أنَّ رسول الله - ﷺ - وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج فيها، فقال: "أيُّ يوم هذا؟ " فقالوا: يوم النحر، فقال: "هذا يوم الحج الأكبر" أخرجه أبو داود. وقيل: هو يوم عرفة؛ لأنَّ الوقوف بعرفه معظم أفعال الحج، ويروى ذلك عن ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وعطاء وطاووس ومجاهد وسعيد بن المسيب.
ووصف الحج بالأكبر؛ احترازًا عن العمرة، فهي الحج الأصغر، لأنَّ أعمالها أقلُّ من أعمال الحج؛ إذ يزيد عليها بأمور، كالرمي والمبيت، فكان أكبر بهذا الاعتبار.
وقوله: ﴿أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾ على حذف الجار، والتقدير: أي: هذه الآيات أذان وإعلام صادر من الله ورسوله إلى الناس كافة بأن الله سبحانه وتعالى بريء من موالاة المشركين الناقضين للعهد، ورسوله بريءٌ منهم أيضًا.
فإن قلت (١): لا فرق بين قوله: ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١)﴾ وبين قوله: ﴿أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾ فما فائدة هذا التكرار؟
قلت: المقصود من الآية الأولى: البراءة من العهد، ومن الآية الثانية: البراءة التي هي نقيض الموالاة الجارية مجرى الزجر والوعيد، والذي يدل على صحة هذا الفرق: أنَّه قال في أولها ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى﴾ يعني بريءٌ إليهم، وفي الثانية: بريء منهم.
والمعنى: وهذا الآتي من الآيات إعلامٌ (٢) من الله سبحانه وتعالى ورسوله - ﷺ - بالبراءة من عهود المشركين وموالاتهم وسائر خرافات شركهم وضلالهم في وقت يسهل فيه ذلك التبليغ والإعلام، وهو يوم الحج الأكبر الذي هو يوم النحر الذي تنتهي فيه فرائض الحج، ويجتمع فيه الحجاج لإتمام مناسكهم في مِنى.
(١) الخازن.
(٢) الخازن.
128
وقرأ الضحاك وعكرمة وأبو المتوكل (١): ﴿واذْن﴾ بكسر الهمزة وسكون الذال. وقرأ الحسن والأعرج: ﴿إن الله﴾ بكسر الهمزة والفتح على تقدير: بأن والكسر على إضمار القول على مذهب البصريين، أو لأن الأذان في معنى القول، فكسرت على مذهب الكوفيين، وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر وزيد بن علي وأبو رزين وأبو مجلز وأبو رجاء ومجاهد وابن يعمر: ﴿ورسولَه﴾ بالنصب عطفًا على لفظ اسم إنَّ، وأجاز الزمخشري أن ينصب على أنه مفعول معه، وقرىء بالجر شاذًّا، ورويت عن الحسن، وخرجوا على العطف على الجوار، كما أنهم نعتوا وأكدوا على الجوار، وقيل: هي واو القسم، وهذا تخريج ضعيف جدًّا، إذ لا معنى للقسم برسول الله - ﷺ - هنا مع ما ثبت من النهي عن الحلف بغير الله، وروي أن أعرابيًّا سمع من يقرأ بالجر، فقال: إن كان الله بريئًا من رسوله.. فأنا برىءٌ منه: فلبَّبه القارئ إلى عمر، فحكى الأعرابيُّ قراءته، فعندها أمر عمر بتعليم العربية، وأما قراءة الجمهور بالرفع، فعلى الابتداء. والخبر محذوف؛ أي: ورسوله بريء منهم، وحذف لدلالة ما قبله عليه، كما سيأتي في مبحث الإعراب إن شاء الله تعالى.
ثم أكد ما يجب أن يبلَّغوه بلا تأخير بقوله: ﴿فَإِنْ تُبْتُمْ﴾ أيها المشركون من الشرك.. ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾؛ أي: فالتوب خير لكم في الدارين لا شر؛ أي: قولوا لهم أيها المبلِّغون، فإن تبتم ورجعتم عن شرككم وعن خيانتكم وغدركم، بنقض العهد وقبلتم هدى الإِسلام.. فذلك المتاب خير لكم في الدنيا والآخرة؛ لأنَّ في هدايته سعادتكم فيهما ﴿وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ﴾، أي: أعرضتم عن المتاب من الشرك ﴿فَاعْلَمُوا﴾ أيها المشركون ﴿أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ﴾، أي: غير فائتين من عذاب الله، فإن الله قادرٌ على إنزال أشد العذاب بكم، والمعنى: وإن أعرضتم عن إجابة الدعوة إلى التوبة.. فاعلموا أنكم غير سابقيه سبحانه، ولا فائتيه، فلن تفلتوا من حكم سننه، ووعده لرسله وللمؤمنين بالنصر والغلب كما قال: ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ ﴿وَبَشِّرِ﴾ أيها الرسول الكريم ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وجحدوا رسالتك ولم
(١) الخازن.
129
يؤمنوا بالله وملائكته واليوم الآخر ﴿بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ في الآخرة وهذا من أنباء الغيب التي لا تعلم إلا بوحي من الله عز وجل، وفي استعمال البشارة فيما يسوء ويكره، ضرب من التهكم بهم، وفيه من الوعيد ما لا يخفى، فالبشارة على سبيل الاستهزاء، كما يقال إكرامهم الشتم وتحيتهم الضرب، أو المعنى أخبرهم بالقتل بعد أربعة أشهر،
٤ - وقوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ قال الزجاج (١): إنه استثناء من قوله: ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ الخ والتقدير: براءة من الله ورسوله إلى المعاهدين من المشركين إلا الذين لم ينقضوا العهد منهم، وقال في "الكشاف": إنه مستثنى من قوله: ﴿فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ﴾ والتقدير: فقولوا لهم: سيحوا في الأرض إلا الذين عاهدتم من المشركين ﴿ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا﴾ من شروط الميثاق ولم يضروكم؛ أي: لم يقع منهم أيُّ نقص وإن كان يسيرًا.
وفيه دليلٌ على أنه كان من أهل العهد من خان بعهده، ومنهم من ثبت عليه فأذن الله سبحانه لنبيه - ﷺ -، بنقض عهد من نقض وبالوفاء لمن لم ينقض إلى مدته ﴿وَلَمْ يُظَاهِرُوا﴾؛ أي: ولم يعاونوا ﴿عَلَيْكُمْ أَحَدًا﴾ من أعدائكم، وقرأ عطاء بن السائب الكوفي وعكرمة وأبو زيد وابن السميقع ﴿ينقضوكم﴾ بالضاد المعجمة، وهو على حذف مضاف؛ أي: ثم لم ينقضوا عهدكم فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، لدلالة الكلام عليه.
﴿فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ﴾؛ أي: إلى وقت أجلهم تسعة أشهر، كما سيأتي قريبًا، والمعنى (٢): لا تمهلوا الناكثين للعهد فوق أربعة أشهر، إلا الذين عاهدتموهم ثم لم ينكثوا عهدهم فلا تجروهم مجرى الناكثين في المسارعة إلى قتالهم، بل أتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم، بشرط أن لا ينقضوا شيئًا من شروط الميثاق، ولا يضاروكم ولا يعاونوا عليكم أحدا من أعدائكم؛ أي: فلا تجعلوا الوافين كالغادرين، وهم بنو ضمرة حيٌّ من كنانة، أمر الله رسوله - ﷺ -، بإتمام عهدهم إلى مدتهم، وكان قد بقي من مدتهم تسعة أشهر، فإنهم ما غدروا من
(١) المراغي.
(٢) المراح.
130
هذين الوجهين.
وفي ذلك (١) إيماءٌ إلى أن الوفاء بالعهد من فرائض الإِسلام ما دام العهد معقودًا، وإلى أنَّ العهد المؤقت لا يجوز نقضه إلا بانتهاء وقته، وإلى أنَّ من شروط وجوب الوفاء به محافظة العدوِّ المعاهد لنا على ذلك العهد بحذافيره، بنصه وفحواه، فإن نقص شيئًا منه وأخل بغرض من أغراضه.. عد ناقضًا له، كما قال: ﴿ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا﴾ ويدخل في الإخلال مظاهرة أحد من الأعداء على المسلمين؛ لأن المقصود من المعاهدات ترك قتال كل من الفريقين المتعاهدين للآخر، وحرية التعامل بينهما.
﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾؛ أي: الذين يتقون نقض العهد، وخفر الذمم وسائر المفاسد التي تخل بالنظام، وتمنع جريان العدل بين الناس.
وفي ذلك إيماء إلى أنَّ مراعاة حقوق العهد تدخل في حدود التقوى، وإلى أن التسوية بين الوفيِّ والغادر منافية لذلك، وإن كان المعاهد مشركًا.
وقد ورد في تنفيذ أمر الله بهذه البراءة والأذان بها؛ أي: التبليغ العلني، أحاديث في الصِّحاح، أشهرها: أنَّ النبي - ﷺ - جعل أبا بكر رضي الله عنه أميرًا على الحج سنة تسع، وأمره أن يبلغ المشركين الذين يحضرون الحجَّ أنهم يمنعون منه بعهد ذلك العام، ثم أردفه بعليِّ كرم الله وجهه ليبلغهم عنه نبذ عهودهم المطلقة وإعطاءهم مهلة أربعة أشهر، لينظروا في أمرهم، وأن العهود المؤقتة أجلها نهاية وقتها، ويتلو عليهم الآيات المتضمنة لنبذ العهود وما يتعلق بها، من أول سورة براءة وهي نحو أربعين آية.
وقد كان من عادة العرب أنَّ العهود ونبذها إنما يكون ممن عاقدها أو من أحد عصبته القريبة، وإنَّ عليًّا اختصَّ بذلك مع بقاء إمارة الحج لأبي بكر، وكان يساعده على ذلك بعض الصحابة كأبي هريرة.
(١) المراغي.
131
روى البخاري ومسلم، عن أبي هريرة، قال: بعثني أبو بكر في تلك الحجة في مؤذِّنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى، ألَّا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ثم أردف رسول الله - ﷺ - بعلي بن أبي طالب: وأمره أن يؤذِّن ببراءة وأن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان.
٥ - ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ﴾: أي: انقضى ومضى وخرج ﴿الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ﴾؛ أىِ: الباقي منها من وقت نبذ العهد، وهو يوم النحر، والباقي منها خمسون يومًا ينقضي بانقضاء المحرم، فالمراد بالأشهر الحرم على هذا المعنى الأشهر المعروفة التي هي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، ثلاثة سرد، واحدٌ فردٌ، وقد وقع النداء والنبذ إلى المشركين بعهدهم يوم النحر، فكان الباقي من الأشهر الحرم التي هي الثلاثة المسرودة، خمسين يومًا تنقضي بانقضاء شهر المحرم، فأمرهم الله تعالى، بقتل المشركين حيث يوجدون، وبه قال جماعة من أهل العلم، منهم الضحاك والباقر وروي عن ابن عباس واختاره ابن جرير.
وقيل: المراد بها شهور العهد المشار إليها بقوله: ﴿فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ﴾ وسميت حرمًا؛ لأن الله سبحانه حرَّم فيها على المسلمين دماء المشركين والتعرض لهم، وإلى هذا ذهب جماعة من أهل العلم، منهم مجاهد وابن إسحاق وابن زيد وغيرهم.
وقيل: هي الأشهر المذكورة في قوله: ﴿فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾ وقد روي ذلك عن ابن عباس وجماعة، ورجحه ابن كثير، وحكاه عن مجاهد وعمر وابن شعيب ومحمد ابن إسحاق وقتادة وغيرهم، وسيأتي بيان حكم القتال في الأشهر الحرم الدائرة في كل سنة في هذه السورة إن شاء الله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ﴾ الناكثين خاصَّةً ﴿حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾؛ أي: في أيِّ مكان وجدتموهم من حلٍّ أو حرم، وفي أيِّ وقت، قال الشوكاني (١): وهذه الآية المتضمنة للأمر بقتل المشركين عند انسلاخ الأشهر الحرم عامة لكل مشرك، لا يخرج عنها إلا من
(١) فتح القدير.
132
خصته السنة، وهو المرأة والصبي والعاجز الذي لا يقاتل، وكذلك يخصص منها أهل الكتاب، الذين يعطون الجزية على فرض تناول لفظ المشركين لهم، وهذه الآية نسخت كلَّ آية فيها ذكر الإعراض عن المشركين والصبر على أذاهم. انتهى.
﴿وَخُذُوهُمْ﴾؛ أي: وأسروهم والأخيذ الأسير ﴿وَاحْصُرُوهُمْ﴾؛ أي: وامنعوهم من إتيان المسجد الحرام ومن التقلب في البلاد، وقرىء: ﴿وحاصروهم﴾ شاذًّا ﴿وَاقْعُدُوا لَهُمْ﴾؛ أي: لأجل مراقبتهم ﴿كُلَّ مَرْصَدٍ﴾؛ أي: في كل ممر وطريق يسلكونه، لئلا ينبسطوا في البلاد.
والمعنى (١): فإذا انقضت الأشهر الأربعة التي حرم عليكم فيها قتال المشركين.. فافعلوا معهم كل ما ترونه موافقًا للمصلحة، من تدابير الحرب وشؤونها؛ لأنَّ الحال بينكم وبينهم عادت إلى حال الحرب بانقضاء أجل التأمين الذي منحتموه، وذلك بعمل أحد الأمور الآتية:
١ - قتلهم في أي مكان وجدوا فيه من حل أو حرم.
٢ - أخذهم أسارى، وقد أبيح هنا الأسر الذي حظر في سورة الأنفال بقوله: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ﴾؛ لأن الإثخان، وهو الغلب والقوة والسيادة قد وجد.
٣ - حصرهم وحبسهم حيث يعتصمون بمعقل أو حصن، بأن يحاط بهم، ويمنعوا من الخروج والانفلات، حتى يسلموا أو ينزلوا على حكمهم بشرط ترضونه، أو بدون شرط.
٤ - القعود لهم كل مرصد؛ أي: مراقبتهم في كل مكان يمكن الإشراف عليهم فيه، ورؤية تجولهم وتقلبهم في البلاد.
وهذه الآية تسمى: آية السيف، إذ جاء الأمر فيها بالقتال، وقد كان مؤجلًا ومنسّأً إلى أن يقوى المسلمون، وكان الواجب عليه في حال الضعف الصبر على الأذى.
(١) المراغي.
133
﴿فَإِنْ تَابُوا﴾ عن الشرك الذي يحملهم على عدواتكم وقتالكم ودخلوا في الإِسلام، بأن نطقوا بالشهادتين ﴿وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾ المفروضة كما تقيمونها في الأوقات الخمسة، والصلاة مظهر الإِسلام وأكبر أركانه وهي مطلوبة من الغني والفقير والأمير والمأمور، وهي حق الله على عباده، تزكى أنفسهم وتهذب أخلاقهم وتؤهلهم للقيام بحقوق عباده. ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾.
﴿وَآتَوُا الزَّكَاةَ﴾؛ أي: وأدوا الزكاة المفروضة في أموال الأغنياء للفقراء والمصالح العامة ﴿فَخَلُّوا﴾ أيها المؤمنون ﴿سَبِيلَهُمْ﴾؛ أي: واتركوا لهم طريق حريتهم بالكف عن قتالهم، إذا كانوا مقاتلين، وبالكف عن حصرهم إذا كانوا محاصرين، وبالكف عن رصد مسالكهم إلى البيت الحرام وغيره إذا كانوا مراقبين ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿غَفُورٌ﴾ يغفر لهم ما سبق من الشرك، وغيره من سيئاتهم ﴿رَحِيمٌ﴾ يرحمهم فيمن يرحم من عباده، وقد جاء في الأثر: "الإِسلام يجب ما قبله".
وفي الآية إيماء إلى أن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة يوجبان لمن يؤدِّيهما حقوق المسلمين، من حفظ الدم والمال، إلا بما يوجب عليه الشرع من جناية تقتضي حدًّا معلومًا أو جريمةٍ توجب تعزيرًا أو تغريمًا.
روى الشيخان عن عبد الله بن عمر مرفوعًا: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك.. عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحق الإِسلام وحسابهم على الله".
والخلاصة: أن اشتراط الأشياء الثلاثة للكف عن قتال المشركين للتحقق من دخولهم في جماعة المسلمين بالفعل، والتزامهم شرائع الإِسلام وإقامة شعائره، إذ مقتضى الشهادة الأولى: ترك عبادة غير الله تعالى، ومقتضى الشهادة الثانية: طاعة الرسول فيما يبلغه عن الله تعالى، واكتفى من أركان الإِسلام بالصلاة التي تجب في اليوم والليلة خمس مرات لأنها الرابطة الدينية والروحية
134
الاجتماعية بين المسلمين، وبالزكاة؛ لأنها الرابطة المالية الاجتماعية، فمن أقامهما.. كان أجدر بإقامة غيرهما.
٦ - ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ الذين أمرت بقتالهم وقتلهم بعد انقضاء الأشهر الحرم ﴿اسْتَجَارَكَ﴾؛ أي: استأمنك؛ أي: طلب منك الأمان والجوار ليسمع كلام الله منك، أو لحاجة أخرى.. ﴿فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ﴾؛ أي: فأمنه حتى يسمع قراءتك لكلام الله، ويطلع على حقيقة ما تدعو إليه، ونقل عن ابن عباس أنه قال: إن رجلًا من المشركين، قال لعلي بن أبي طالب: إن أردنا أن نأتي الرسول بعد انقضاء هذا الأجل لسماع كلام الله، أو لحاجةٍ أخرى.. فهل نقتل؟ فقال علي: لا، فإن الله تعالي قال: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ﴾. ﴿ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ﴾؛ أي: ثم أوصله إلى ديار قومه التي يأمنون فيها على أنفسهم وأموالهم، ثم بعد ذلك يجوز قتالهم وقتلهم، والمعنى: اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، إلا من طلب منكم الأمان، ليعلم ما أنزل الله تعالى وأمر به من دعوة الإِسلام، فإنَّ بعض المشركين لم تبلغهم الدعوة بلاغًا مقنعًا، ولم يسمعوا شيئًا من القرآن، أو لم يسمعوا منه ما تقوم به الحجة عليهم، فأعرضوا وعادوا الداعي وقاتلوه؛ لأنه جاء بتفنيد ما هم عليه من الشرك وتسفيه ما كان عليه آباؤهم منه.
والخلاصة: وإن استأمنك أيها الرسول الكريم أحد من المشركين لكي يسمع كلام الله، ويعلم منه حقيقة ما تدعو إليه أو ليلقاك، وإن لم يذكر سببًا.. فأجره وأمنه على نفسه وأمواله؛ لكي يسمع أو لكي يراك، فإنّ هذه فرصة للتبليغ والاستماع، فإن اهتدى وآمن عن علم وإقناع.. فذاك، وإلا فالواجب أن تبلغه المكان الذي يأمن فيه على نفسه، ويكون حُرًّا في عقيدته، حيث لا يكون للمسلمين سلطان عليه، وتعود حال الحرب إلى ما كانت عليه من غير غدر.
والمراد بالسماع: أن يسمع المقدار الذي تقوم به الحجة، ويتبين به بطلان الشرك، وحقيقة التوحيد، والبعث، وصدق الرسول في تبليغه عن الله فإنه إذا ألقى إليه السمع.. لا يلبث أن يظهر له الحق إذا لم تصده العصبية والعدوان للداعي،
فإن لم يفعل ذلك.. كان له شأنه: وكانت له حريته، ولكنه يمنع من مساكنة المسلمين في دار الإسلام وهو على هذا الحال.
﴿ذَلِكَ﴾ المذكور من إجارة المستجير من المشركين، وإعطاء الأمان له إلى أن يسمع كلام الله ﴿بـ﴾ سبب ﴿أنهم قوم لا يعلمون﴾؛ أي: لا يفقهون ولا يدرون ما الكتاب وما الإيمان، وما أعرضوا إلا عن جهل وعصبيةٍ واغترارٍ بالقوة وإصرارٍ على الجفوة، فإذا هم شعروا بضعفهم وصدق وعد الله بنصر المؤمنين عليهم، وطلبوا الأمان لهذا السبب أو لغرض آخر يترتب عليه إمكان تبليغهم الدعوة وإسماعهم كلام الله.. أجيبوا إلى ذلك؛ لأنَّ هذه الطريق المثلى لتعليمهم وهدايتهم، والرسول صلوات الله عليه إنما أرسل مبشرًا ونذيرًا.
وفي الآية إيماءٌ إلى أن التقليد في الدِّين غير كاف، وأنه لا بد عن النظر والاستدلال؛ لأنه لو كان كافيًا.. لوجب أن لا يمهل الكافر بل يقال له: إما أن تؤمن، وإما أن نقتلك؟ فأمهلناه ليحصل له النظر والاستدلال، فإن ظهر على المشرك علامات القبول للحق، ببحثه عن الدليل والتفكير فيه.. أمهل، وترك، وإن ظهر أنه معرض عن الحق.. لم يلتفت إليه ووجب تبليغه إلى مأمنه.
٧ - والاستفهام في قوله: ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ﴾ للتعجب المتضمن للإنكار والاستبعاد وفي الآية إضمار، والمعنى كيف يكون للمشركين عهدٌ عند الله وعند رسوله يَأْمَنُون به من عذابه؟ أي: لا يكون لهم عهد عند الله ولا عند رسوله، وهم يغدرون وينقضون العهد. وقيل (١) معنى الآية: محالٌ أن يثبت لهؤلاء عهدٌ، وهم أضدادٌ لكم مضمرون للغدر، فلا يطمعوا في ذلك ولا يحدِّثوا به أنفسهم، ثم استدرك على ذلك فقال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾؛ أي: لكن الذين عاهدتم عند المسجد الحرام؛ أي: عند قرب أرض الحرم يوم الحديبية، ولم ينقضوا ولم ينكثوا، فلا تقاتلوهم ﴿فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ﴾؛ أي: فما داموا مستقيمين لكم على العهد الذي بينكم وبينهم
(١) الشوكاني.
﴿فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ﴾؛ أي: فدوموا لهم على عهدهم ولا تقاتلوهم، قيل: هم بنو بكر، وقيل: بنو كنانة وبنو ضمرة، وهم الذين كانوا قد دخلوا في عهد قريش يوم الحديبية، ولم يكن نقض العهد أحدٌ إلا قريش وبنو الدِّيل من بني بكر، فأمر بإتمام العهد لمن لم ينقض العهد، وهم بنو ضمرة، وهذا القول هو الصواب وإنما (١) كان صوابًا؛ لأن هذه الآيات نزلت بعد نقض قريش العهد، وذلك قبل فتح مكة؛ لأن بعد الفتح كيف يقول لشيءٍ قد مضى: فما استقاموا لكم.. فاستقيموا لهم، وإنما هم الذين قال الله عَزَّ وَجَلَّ فيهم: ﴿إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا﴾ كما نقصكم قريشٌ ولم يظاهروا عليكم أحدًا، كما ظاهرت قريش بني بكر على خزاعة وهم حلفاء رسول الله - ﷺ -، وجملة قوله ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ الذين يوفون بالعهد إذا عاهدوا، ويتقون نقضه، تعليلٌ للأمر بالاستقامة المذكور قبله
٨ - والاستفهام في قوله: ﴿كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ﴾: تعجبيٍّ إنكاري أيضًا كرره للتأكيد؛ والتقدير: كيف يكون لهم عهدٌ عند الله، وعند رسوله، والحال أنهم إن يظهروا عليكم بالغلبة لكم؛ أي: إن يظفروا بكم ويغلبوكم ويعلوا عليكم ﴿لَا يَرْقُبُوا﴾؛ أي: لا يحفظوا ولا يراعوا ﴿فِيكُمْ﴾ أيها المؤمنون ﴿إِلًّا﴾ أي: قرابة ورحمًا، وقرىء ﴿إيلًا﴾ بوزن ريح ﴿وَلَا﴾ يراعون فيكم ﴿ذِمَّةً﴾؛ أي: عهدًا؛ أي: لا يتركونكم لأجل القرابة التي بينكم وبينهم ولا للعهد الذي عاهدوه لكم.
والمعنى (٢): كيف لا تقتلونهم وهم إن يغلبوكم لا يحفظوا في شأنكم قرابةً ولا ضمانًا، بل يؤذونكم ما استطاعوا، وقوله: ﴿يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ كلام مستأنف لبيان حالهم عند عدم الظفر، فهو مقابل في المعنى لقوله: ﴿وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ...﴾ الخ. أي: يقولون بألسنتهم كلاما حلوًا طيبًا من الوعد بالإيمان والوفاء بالعهد، مجاملةً لكم وتطيبًا لقلوبكم ﴿وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ﴾؛ أي: تمتنع قلوبهم ذلك الذي يقولونه بألسنتهم من الإيمان والوفاء بالعهد؛ أي تخالفه وتود ما فيه مساءتكم ومضرتكم كما يفعله أهل النفاق وذو الوجهين، فإنهم لا يضمرون لكم
(١) الخازن.
(٢) المراح.
إلا الشر والإيذاء إن قدروا ﴿وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ﴾؛ أي: كاذبون ناقضون للعهد خارجون عن الحق، مذمومون عند جميع الناس، وفي جميع الأديان، والمعنى: هم يخادعونكم (١)، حال الضعف بما يفوهون به من كلام معسولٍ، يرون أنه يرضيكم، سواء أكان عهدًا، أم وعدًا أم أيمانًا مؤكدة، وقلوبهم مملوءة ضغنًا وحقدًا ﴿يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ فهم إن ظهروا عليكم.. نكثوا العهود وحنثوا بالأيمان وفتكوا بكم بقدر ما يستطيعون، وإنما يفعلون ذلك؛ لأنَّ أكثرهم خارجون من قيود العهود والمواثيق، متجاوزون لحدود الصدق والوفاء، فليس لهم مروءة رادعةٌ، ولا عقيدة وازعة، ولا يتعففون عن الغدر، وعما يجر إلى سوء الأحدوثة وثلم العرض، وإنما وصف الأكثر؛ لأنهم هم الناكثون الناقضون لعهودهم، وأقلهم الموفون الذين استثناهم الله تعالى، وأمر المؤمنين بالاستقامة لهم ما استقاموا لهم.
فإن قلت: (٢) إن الموصوفين بهذه الصفة كفار، والكفر أخبث وأقبح من الفسق، فكيف وصفهم بالفسق في معرض الذم، وما الفائدة في قوله: ﴿وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ﴾، مع أنَّ الكفار كلهم فاسقون؟
قلتُ: قد يكون الكافر عدلًا في دينه، وقد يكون فاسقًا خبيث الفسق في دينه، فالمراد بوصفهم بكونهم فاسقين: أنهم نقضوا العهد، وبالغوا في العداوة فوصفهم بكونهم فاسقين مع كفرهم، فيكون أبلغ في الذم، وإنما قال: أكثرهم، ولم يقل: كلهم فاسقون؛ لأنَّ منهم من وفى بالعهد ولم ينقضه، وأكثرهم نقضوا العهد، فلهذا قال سبحانه وتعالى: ﴿وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ﴾ وقيل (٣): معنى وأكثرهم: وكلهم فاسقون، قاله: ابن عطية والكرماني.
٩ - ﴿اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ﴾؛ أي: استبدلوا بآيات القرآن والإيمان بها؛ أي: تركوا آيات الله الآمرة بالاستقامة في كل أمر وأخذوا بدلها ﴿ثَمَنًا قَلِيلًا﴾؛ أي: عوضًا يسيرًا من الدنيا لأجل تحصيل الشهوات، والمعنى استبدلوا آيات الله بالأعراض
(١) المراغي.
(٢) الخازن.
(٣) البحر المحيط.
الفانية والشهوات الزائلة، وذلك أن أبا سفيان بن حرب أطعم حلفاءه وترك حلفاء النبي - ﷺ -، وحملتهم تلك الأكلة على نقض العهد، فنقضوا العهد الذي كان بينهم وبين الرسول - ﷺ -، بسبب تلك الأكلة ﴿فَصَدُّوا﴾؛ أي: منعوا الناس عن ﴿سَبِيلِهِ﴾؛ أي: عن الدخول في دين الله تعالى، أو صدُّوا الناس عن سبيل البيت الحرام، حيث كانوا يصدُّون الحجاج والعمار عنه، أو معنى فصدوا عن سبيله؛ أي: فعدلوا وأعرضوا عن سبيل الحق ﴿إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾؛ أي: بئس ما كانوا يعملونه من الشرك ونقضهم العهد، ومنعهم الناس عن الدخول في دين الإِسلام.
وحاصل المعنى: أنهم (١) استبدلوا بآيات الله الدالة على توحيده بالعبادة وعلى الوحي والرسالة وما فيها من الهداية للناس وعلى البعث والجزاء على الأعمال ثمنًا قليلًا من حطام الدنيا، وهو ما هم فيه من رخاء العيش، وكثرة الأموال، فصدوا بسبب هذا الشراء الخسيس أنفسهم عن الإِسلام، وما يقتضيه من الوفاء، وصدوا غيرهم أيضًا، وجعله قليلًا؛ لأنه زائلٌ غير باق، وما عند الله باق دائم، وهو خير وأبقى، روي أن أبا سفيان لمَّا أراد حمل قريش وحلفائها على نقض عهد الحديبية.. صنع لهم طعامًا استمالهم به، فأجابوه إلى ما طلب ﴿إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾؛ أي: قبح عملهم الذي يعملونه، من اشتراء الكفر بالإيمان والضلالة بالهدى، والصد عن دين الله، وما جاء به رسول الله - ﷺ -، من البينات والهدى.
١٠ - وقوله: ﴿لَا يَرْقُبُونَ﴾؛ أي: لا يرقب هؤلاء المشركون الناقضون للعهد ولا يحفظون ﴿فِي مُؤْمِنٍ﴾ أيَّ مؤمن كان، سواء كان منكم أيها المخاطبون، أو من غيركم ﴿إِلًّا﴾؛ أي: قرابةً ورحمًا ﴿وَلَا ذِمَّةً﴾؛ أي: ولا عهدًا؛ أي: لا يلتفتون إلى قرابته ولا إلى عهده، إذا قدروا عليه.. قتلوه، فلا تبقوا أنتم عليهم، كما لا يبقوا عليكم إذ ظهروا عليكم، ولا تكرار (٢) هنا؛ لأن الأول: على الخصوص،
(١) المراغي.
(٢) النسفي.
حيث قال: فيكم، والثاني: على العموم، حيث قال: في مؤمن، كما أشرنا إليه في الحل آنفًا؛ أي: ومن أجل هذا الكفر الذي رسخ فيهم لا يرعون في مؤمن يقدرون على الفتك به قرابةً تقتضي الود، ولا ذمةً توجب الوفاء بالعهد، ولا ربًّا يحرم الخيانة والغدر، فذنب المؤمن عندهم أنه لا ينقض عهدًا ولا يستحل غدرًا ولا يقطع رحمًا ﴿وَأُولَئِكَ﴾ المشركون الناقضون للعهد ﴿هُمُ الْمُعْتَدُونَ﴾؛ أي: المجاوزون للحلال إلى الحرام أو البالغون في الشر والتمرد إلى الغاية القصوى، والعلة في هذا رسوخهم في الشرك وكراهتهم للإيمان وأهله، فلا علاج لهم إلا الرجوع عن الكفر، والاعتصام بالإيمان، والتمسك بفضائل الأخلاق، وما يقتضيه الإيمان من صالح الأعمال.
١١ - ﴿فَإِنْ تَابُوا﴾؛ أي: فإن رجع هؤلاء المشركون، الذين أمرتكم بقتالهم عن شركهم بالله تعالى، إلى الإيمان به وبرسوله، وأنابوا إليه وأطاعوه ﴿وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾؛ أي: أدوها بشروطها وأركانها ﴿وَآتَوُا الزَّكَاةَ﴾ المفروضة، كرر (١) هذا الشرط؛ لاختلاف جزائه مع جزاء الأول، إذ جزاء الشرط في الأول تخلية سبيلهم في الدنيا، وفي الثاني أخوَّتهم لنا في الدين، وهي ليست عين تخليتهم، بل سبيلها ﴿فـ﴾ هم ﴿إخوانكم في الدين﴾ الذي أمركم به، لَهُمْ مَا لَكُمْ، وعليهم ما عليكم، وبهذه الأخوة يزول كل ما كان بينكم من إحن وعداوات، ولا تعارف أجمل من التعارف في المساجد؛ لإقامة الصلوات، وأداء الصدقات، بمواساة الغني للفقير، وهذه المزية الدنيوية كانوا محرومين منها، إذ كان بعضهم حربًا لبعض إلا ما كان من عهد أو جوار.
﴿وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ﴾؛ أي: وإنا نبين حجج آياتنا وأدلة أحكامنا، ونوضحها ﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾؛ أي: لقوم يفهمون ما نبين لهم بعد أن نشرحها مفصلة فيفقهونها، دون الجهال الذين لا يعقلون عن الله بيانه ومحكم آياته، وهذه (٢) الجملة اعتراضية، للحث على تأمل ما فصل من أحكام المعاهدين، أو خصال
(١) الفتوحات.
(٢) البيضاوي.
التائبين،
١٢ - ﴿وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ﴾؛ أي: نقضوا عهودهم التي بينكم وبينهم ﴿مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ﴾؛ أي: من بعد ما عادوكم على أن لا يقاتلوكم ولا يظاهروا عليكم أحدًا من أعدائكم، والمراد بهؤلاء الذين نقضوا العهد، كفار قريش، وفي "أبي السعود" ﴿وَإِنْ نَكَثُوا﴾ عطف (١) على قوله: ﴿فَإِنْ تَابُوا﴾؛ أي: وإن لم يفعلوا ذلك، بل نقضوا أيمانهم من بعد عهدهم الموثق بها، وأظهروا ما في ضمائرهم من الشر وأخرجوه من القول إلى حسبما ينبىء عنه، قوله تعالى: ﴿وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا﴾ الآية وثبتوا على ما هم عليه من النكث، لا أنهم ارتدوا بعد الإيمان كما قيل اهـ.
﴿وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ﴾؛ أي: عابوا دينكم بالتكذيب، وتقبيح الأحكام، وفي هذا دليل على الذمي، إذا طعن في دين الإِسلام وعابه ظاهرًا لا يبقى له عهد، وعطف (٢) ﴿وَطَعَنُوا﴾ على ما قبله، مع أن نقض العهد كافٍ في إباحة القتل؛ لزيادة تحريض المؤمنين على قتالهم وقيل معناه: وإن نكثوا أيمانهم بطعنهم في دينكم فيكون عطف تفسيرٍ ﴿فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ﴾؛ أي: قاتلوا رؤساء المشركين وقادتهم، والمراد: قاتلوا الكفار بأسرهم، فإنهم صاروا بذلك ذوي تقدم في الكفر أحقاء بالقتل والقتال، قال ابن عباس (٣): نزلت في أبي سفيان بن حرب والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو وأبي جهل وابنه عكرمة وسائر رؤساء قريش، وهم الذين نقضوا عهدهم، وهموا بإخراج الرسول، وقيل: أراد جميع الكفار، وإنما ذكر الأئمة لأنهم الرؤساء والقادة، ففي قتالهم قتال الأتباع، وقال مجاهد: هم فارس والروم، وقل غير ذلك، وقال ابن عطية: أصوب ما في هذا أن يقال: إنه لا يعني بها معين؛ وإنما دفع الأمر بقتال أئمة الناكثين للعهود من الكفرة إلى يوم القيامة من غير تعيين ﴿إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ﴾؛ أي: إنهم لا عهود لهم على الحقيقة؛ لأنهم لا يعدون نقضها محذورًا، وهم لمَّا لم يفوا بها.. صارت أيمانهم كأنها ليست بأيمان، وإن أجروها على ألسنتهم.
(١) أبو السعود.
(٢) زاده.
(٣) الخازن.
141
والمعنى: أي وإن نكث (١) هؤلاء ما أبرمته أيمانهم من الوفاء بالعهد الذي عقدوه معكم، وعابوا دينكم، واستهزؤوا به، وصدوا الناس عنه، ومن ذلك الطعن في القرآن، وفي النبي - ﷺ -، كما كان يفعل شعراؤهم، الذين أهدر النبي - ﷺ -، دماءهم.. فقاتلوهم، فهم أئمة الكفر، وحملة لوائه، المقدمون على غيرهم بزعمهم، فهم الأجدر بالقتل والقتال ﴿إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ﴾؛ أي: إن عهودهم لا قيمة لها، فهي مخادعة لسانية، لا يقصد الوفاء بها، كما قال سبحانه: ﴿يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ فما أسرع ما تنقض إذا وجدت الفرصة سانحة.
﴿لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ﴾؛ أي: قاتلوهم رجاء أن ينتهوا بقتالكم إياهم عن الكفر ونكث الإيمان ونقض العهود، والعودة إلى قتالكم كلما قدروا عليه.
وفي ذلك (٢) إيماء: إلى أن القتال لا يكون اتباعًا لهوى النفس، أو إرادة منافع الدنيا، من السلب والنهب وإرادة الانتقام، وهذه مزيّة الإِسلام إذ جعل الحرب ضرورةً لإرادة منع الباطل وتقرير الحق.
وقرأ الحرميان (٣) - نافع وابن كثير - وأبو عمرو: ﴿أيمة الكفر﴾ بإبدال الهمزة الثانية ياءً، وروي عن نافع مد الهمزة وقرأ باقي السبعة وابن أبي أريس عن نافع بهمزتين وأدخل هشام بينهما ألفًا، وأصله: أأممة، بوزن أفعلة، جمع إمام أدغموا الميم في الميم، فنقلت حركتها إلى الهمزة قبلها، وقرأ الجمهور: ﴿لَا أَيْمَانَ لَهُمْ﴾ بفتح الهمزة، وقرأ الحسن وعطاء وزيد بن علي وابن عامر: ﴿لا إيمان لهم﴾ بكسر الهمزة؛ أي: لا إسلام وتصديق لهم ولا يعطون الأمان بعد النكث والطعن، ولا سبيل إليه، وبقراءة الفتح استشهد أبو حنيفة على أن يمين الكافر لا يكون يمينًا، وعند الشافعي يمينهم يمين، وقال: معناه: أنهم لا يوفون بها.
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
142
الإعراب
﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١)﴾.
﴿بَرَاءَةٌ﴾ خبر لمبتدأ محذوف جوازًا، تقديره: هذه الآيات الآتية براءة ﴿مِنَ اللَّهِ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿بَرَاءَةٌ﴾ تقديره: صادرةٌ من الله ﴿وَرَسُولِهِ﴾، معطوف على الجلالة، والجملة الاسمية مستأنفة ومتعلق المبتدأ محذوف اكتفاء بذكره في المنفي وفرارًا من التكرار في اللفظ، تقديره: من المشركين؛ أي: من الوفاء بعهودهم إذا نقضوها. والجملة الاسمية مستأنفة استئنافًا نحويًّا ﴿إِلَى الَّذِينَ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿بَرَاءَةٌ﴾ كما تقول: برئت إليك من كذا، وقيل: إن ﴿بَرَاءَةٌ﴾ مبتدأ و ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ نعت لها، و ﴿إِلَى الَّذِينَ﴾ خبرها ﴿عَاهَدْتُمْ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: عاهدتموهم ﴿مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ حال من الموصول، أو من العائد المحذوف.
﴿فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ﴾.
﴿فَسِيحُوا﴾ ﴿الفاء﴾ فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم براءة الله سبحانه، وبراءة رسوله - ﷺ -، من المشركين، وأردتم بيان ما تقولون لهم.. فأقول لكم: قولوا لهم: سيحوا في الأرض، ﴿سيحوا﴾ فعل وفاعل ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ متعلق به ﴿أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق به، الجملة الفعلية في محل النصب مقول للقول المحذوف، وجملة القول المحذوف في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿وَاعْلَمُوا﴾ فعل وفاعل والجملة في محل النصب، معطوفة على جملة ﴿فَسِيحُوا﴾ ﴿أَنَّكُمْ﴾ ناصب واسمه ﴿غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ﴾ خبره ومضاف إليه، وجملة ﴿أن﴾ في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي ﴿اعلموا﴾ تقديره: واعلموا عدم إعجازكم الله ﴿وَأَنَّ اللَّهَ﴾ ناصب واسمه ﴿مُخْزِي الْكَافِرِينَ﴾ خبره ومضاف إليه وجملة ﴿أن﴾ معطوفة على جملة ﴿أن﴾ الأولى.
143
﴿وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾.
﴿وَأَذَانٌ﴾ خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: وهذه الآية الآتي ذكرها أذان ﴿مِنَ اللَّهِ﴾: جار ومجرور صفة له، أو متعلق به ﴿وَرَسُولِهِ﴾ معطوف على الجلالة، والجملة الاسمية معطوفة على جملة ﴿بَرَاءَةٌ﴾ ﴿إِلَى النَّاسِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أذان﴾ أو صفة له أيضًا، والتقدير: وهذه الآية الآتي ذكرها ﴿أذان﴾ صادر من الله ورسوله، واصل إلى المشركين ﴿يَوْمَ الْحَجِّ﴾: ظرف ومضاف إليه ﴿الْأَكْبَرِ﴾ صفة لـ ﴿الْحَجِّ﴾ والظرف متعلق بما تعلق به الجار والمجرور في قوله: ﴿إِلَى النَّاسِ﴾ وقيل (١): متعلق بـ ﴿أذان﴾ وهو فاسد من وجهين:
أحدهما: وصف المصدر قبل عمله.
والثاني: للفصل بينه وبين معموله بأجنبي وهو الخبر. اهـ "سمين". ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾ ناصب واسمه ﴿بَرِيءٌ﴾ خبره ﴿مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ متعلق به وجملة ﴿أَنَّ﴾ في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: ببراءة الله من المشركين، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿أذان﴾ ﴿ورسولُه﴾: بالرفع، باتفاق السبعة: مبتدأ خبره محذوف، تقديره: ورسوله بريء منهم، وحذف الخبر لدلالة ما قبله عليه، والجملة الاسمية في محل الجر معطوفة على جملة ﴿أَنَّ﴾ أو معطوف على الضمير المستتر في بريء أو معطوف على محل اسم ﴿أَنَّ﴾ وهذا (٢) عند من يجيز ذلك في المفتوحة قياسًا على المكسورة وقريء شاذًا بالجر على المجاورة، أو على أن ﴿الواو﴾ للقسم وقرىء شاذًّا أيضًا بالنصب، على أنه مفعول معه.
﴿فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾.
﴿فَإِنْ﴾ ﴿الفاء﴾ فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم براءة الله ورسوله منكم، وأردتم بيان ما هو النصيحة لكم..
(١) الفتوحات.
(٢) الفتوحات.
144
فنقول لكم ﴿إن﴾ حرف شرط ﴿تُبْتُمْ﴾ فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها ﴿فَهُوَ خَيْرٌ﴾ مبتدأ وخبر و ﴿الفاء﴾ رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها ﴿لَكُمْ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿خَيْرٌ﴾ وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول لقول محذوف، تقديره: فقولوا لهم أيها المبلِّغون: فإن تبتم.. فهو خير لكم ﴿وَإِنْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿إن﴾ حرف شرط ﴿تَوَلَّيْتُمْ﴾ فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها ﴿فَاعْلَمُوا﴾ ﴿الفاء﴾ رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية ﴿اعلموا﴾ فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ والشرطية على كونه جوابًا لها وجملة ﴿إن﴾ الشرطية: في محل النصب معطوفة على جملة ﴿إن﴾ الأولى ﴿أَنَّكُمْ﴾: ناصب واسمه ﴿غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ﴾ خبره ومضاف إليه، وجملة. ﴿إن﴾ في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي ﴿اعلموا﴾ ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ﴾ فعل ومفعول به وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة ﴿كَفَرُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول ﴿بِعَذَابٍ﴾ متعلق بـ ﴿كَفَرُوا﴾ ﴿أَلِيمٍ﴾ صفة لعذاب.
﴿إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤)﴾.
﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء ﴿الَّذِينَ﴾ اسم موصول في محل النصب على الاستثناء ﴿عَاهَدْتُمْ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول والعائد محذوف، تقديره: إلا الذين عاهدتموهم ﴿مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ جار ومجرور حال من ﴿الْمُشْرِكِينَ﴾ أو من العائد المحذوف ﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف وترتيب ﴿لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا﴾ جازم وفعل وفاعل ومفعولان إن جعلنا ﴿شَيْئًا﴾ مفعولًا ثانيًا ويجوز نصبه على المصدرية؛ أي: شيئًا من النقصان، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة ﴿وَلَمْ يُظَاهِرُوا﴾ جازم وفعل وفاعل ﴿عَلَيْكُمْ﴾ متعلق به ﴿أَحَدًا﴾ مفعول به، والجملة معطوفة على جملة ﴿لَمْ يَنْقُصُوكُمْ﴾. ﴿فَأَتِمُّوا﴾ ﴿الفاء﴾ فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم هذا الاستثناء وأردتم بيان ما يلزمكم فيهم..
145
فأقول لكم: أتموا إليهم عهدهم ﴿أتموا﴾ فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة وجملة إذا المقدرة مستأنفة ﴿إِلَيْهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿أتموا﴾ على تضمينه بمعنى: أدوا إليهم ﴿عَهْدَهُمْ﴾، مفعول به ﴿إِلَى مُدَّتِهِمْ﴾: جار ومجرور حال من ﴿عَهْدَهُمْ﴾ تقديره: حالة كونه تامًّا إلى انقضاء مدتهم ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾ وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾.
﴿فَإِذَا﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا قلتم لهم سيحوا في الأرض أربعة أشهر، وأردتم بيان حكمهم إذا انقضت تلك الأشهر.. فأقول ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان ﴿انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ﴾: فعل وفاعل ﴿الْحُرُمُ﴾: صفة له، والجملة في محل الخفض فعل شرط لـ ﴿إذا﴾ والظرف متعلق بالجواب الآتي ﴿فَاقْتُلُوا﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إذا﴾ وجوبًا ﴿اقتلوا المشركين﴾ فعل وفاعل، ومفعول والجملة، جواب ﴿إذا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذا﴾ في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذ المقدرة مستأنفة ﴿حَيْثُ﴾ في محل النصب على الظرفية المكانية، مبني على الضم، لشبهه بالحرف شبهًا افتقاريًّا، والظرف متعلق بـ ﴿اقتلوا﴾ ﴿وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿حَيْثُ﴾ ﴿وَخُذُوهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿فَاقْتُلُوا﴾ وكذلك قوله ﴿وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا﴾. معطوفان على ﴿فَاقْتُلُوا﴾ ﴿لَهُمْ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿اقعدوا﴾ ﴿كُلَّ مَرْصَدٍ﴾ منصوب على الظرفية بـ ﴿اقعدوا﴾ أو بنزع الخافض والخافض (١) المقدر هو: على، أو الباء الظرفية، أو في.
﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
(١) الفتوحات.
146
﴿فَإِنْ﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة على محذوف، تقديره: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، وخذوهم واحصروهم إن لم يتوبوا، فإن تابوا... إلخ ﴿إن﴾ حرف شرط ﴿تَابُوا﴾ فعل وفاعل، في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها ﴿وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، معطوف على ﴿تَابُوا﴾ ﴿وَآتَوُا الزَّكَاةَ﴾ فعل وفاعل ومفعول معطوف عليه أيضًا، ﴿فَخَلُّوا﴾ ﴿الفاء﴾ رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية وجوبًا ﴿خَلُّوا سَبِيلَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه جوابًا لها، وجملة ﴿إنْ﴾ الشرطية معطوفة على ذلك المحذوف ﴿إِنَّ﴾ حرف نصب ﴿اللَّهَ﴾ اسمها ﴿غَفُورٌ﴾ خبر أول لها ﴿رَحِيمٌ﴾: خبر ثان وجملة ﴿إنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (٦)﴾.
﴿وَإِنْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿إن﴾: حرف شرط ﴿أَحَدٌ﴾: فاعل بفعل محذوف وجوبًا، يفسره المذكور بعده، تقديره: وإن استجارك ﴿أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿أَحَدٌ﴾ ﴿اسْتَجَارَكَ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿أَحَدٌ﴾ والجملة: جملة مفسرة لذلك المحذوف، لا محل لها من الإعراب ﴿فَأَجِرْهُ﴾ ﴿الفاء﴾ رابطة الجواب ﴿أجره﴾: فعل ومفعول في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه جوابًا لها، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية مستأنفة ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية. ﴿يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ﴾: فعل ومفعول منصوب بأن المضمرة وجوبًا، وفاعله ضمير يعود على ﴿أَحَدٌ﴾ والجملة الفعلية في تأويل مصدر، مجرور بـ ﴿حَتَّى﴾ بمعنى: إلى، تقديره إلى سماعه كلام الله، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿فَأَجِرْهُ﴾ ﴿ثم﴾: حرف عطف وترتيب. ﴿أَبْلِغْهُ﴾ فعل ومفعول في محل الجزم، معطوف على ﴿أجره﴾ وفاعله ضمير يعود على محمَّد ﴿مَأْمَنَهُ﴾ منصوب على الظرفية، متعلق بـ ﴿أبلغ﴾ ﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ ﴿بِأَنَّهُمْ﴾ ﴿الباء﴾: حرف جر وسبب ﴿أنَّ﴾: حرف نصب و ﴿الهاء﴾: اسمها ﴿قَوْمٌ﴾: خبرها، وجملة ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ صفة لـ ﴿قَوْمٌ﴾ وجملة
147
﴿أن﴾ في تأويل مصدر مجرور بالباء، تقديره: سبب عدم علمهم، الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، تقديره: ذلك كائن بسبب عدم علمهم كلام الله تعالى ودينه والجملة الاسمية مستأنفة.
﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧)﴾.
﴿كَيْفَ﴾: اسم استفهام، للاستفهام التعجبي، في محل النصب خبر ﴿يَكُونُ﴾ مقدم عليه وجوبًا للزومه الصدارة ﴿يَكُونُ﴾ فعل مضارع ناقص ﴿لِلْمُشْرِكِينَ﴾ متعلق بـ ﴿يَكُونُ﴾ ﴿عَهْدٌ﴾: اسم ﴿يَكُونُ﴾ ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾: ظرف ومضاف إليه، متعلق بمحذوف صفة لـ ﴿عَهْدٌ﴾؛ أي: عهد كائن عند الله، أو متعلق بـ ﴿يَكُونُ﴾ ﴿وَعِنْدَ رَسُولِهِ﴾: معطوف على ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ وجملة ﴿يَكُونُ﴾ مستأنفة وقال أبو (١) البقاء: قوله تعالى: ﴿كَيْفَ يَكُونُ﴾ اسم يكون ﴿عَهْدٌ﴾ وفي الخبر ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه كيف وقدم للاستفهام وهو مثل قوله: ﴿كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ﴾.
والثاني: أنه للمشركين، و ﴿عنده﴾ على هذين: ظرف للعهد، أو لـ ﴿يَكُونُ﴾ أو للجار أو هي وصف الـ ﴿عَهْدٌ﴾.
والثالث: الخبر عند الله وللمشركين تبين، أو متعلق بـ ﴿يَكُونُ﴾ و ﴿كَيْفَ﴾ حال من الـ ﴿عَهْدٌ﴾ انتهى. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء ﴿الَّذِينَ﴾ في محل النصب على الاستثناء ﴿عَاهَدْتُمْ﴾ فعل وفاعل ﴿عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ ظرف متعلق به، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: إلا الذين عاهدتموهم ﴿فَمَا﴾ ﴿الفاء﴾ فصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم الاستثناء المذكور، وأردتم بيان حكمهم.. فأقول لكم ﴿ما﴾ اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ والخبر جملة الشرط، أو الجواب أو هما
(١) العكبري.
148
﴿اسْتَقَامُوا﴾، فعل وفاعل، في محل الجزم بـ ﴿ما﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها ﴿لَكُمْ﴾، متعلق به ﴿فَاسْتَقِيمُوا﴾ ﴿الفاء﴾ رابطة الجواب ﴿استقيموا﴾ فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿مَا﴾ الشرطية على كونه جوابًا لها ﴿لَهُمْ﴾ متعلق به، وجملة ﴿ما﴾ الشرطية محل النصب مقول، لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ ناصب واسمه، وجملة ﴿يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ خبر ﴿إِنَّ﴾ وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (٨)﴾.
﴿كَيْفَ﴾: اسم استفهام في محل النصب خبر ليكون المحذوفة، تقديرها: كيف يكون عهد للمشركين عند الله وعند رسوله - ﷺ -، وجملة يكون المحذوفة: مستأنفة ﴿وَإِنْ﴾ ﴿الواو﴾ واو الحال و ﴿إن﴾ حرف شرط ﴿يَظْهَرُوا﴾ فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها ﴿عَلَيْكُمْ﴾ متعلق به ﴿لَا يَرْقُبُوا﴾ فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه جوابًا لها ﴿فِيكُمْ﴾ متعلق به ﴿إِلًّا﴾ مفعول به ﴿وَلَا ذِمَّةً﴾ معطوف عليه وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب حال من المشركين المحذوف تقديره: كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله، حالة كونهم لا يرقبون فيكم إلًّا ولا ذمة، إن يظهروا عليكم؟ ﴿يُرْضُونَكُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول ﴿بِأَفْوَاهِهِمْ﴾: جار ومجرور متعلق به والجملة مستأنفة، مسوقة لبيان حالهم عند عدم الظفر، فهو مقابل في المعنى لقوله: ﴿وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ...﴾ إلخ ﴿وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ﴾ فعل وفاعل معطوف على جملة ﴿يُرْضُونَكُمْ﴾ ﴿وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ﴾ مبتدأ وخبر والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠)﴾.
﴿اشْتَرَوْا﴾ فعل وفاعل ﴿بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ متعلق به ﴿ثَمَنًا﴾: مفعول به ﴿قَلِيلًا﴾ صفة له، والجملة مستأنفة ﴿فَصَدُّوا﴾: ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتفريع ﴿صدوا﴾
149
فعل وفاعل ﴿عَنْ سَبِيلِهِ﴾ متعلق به، والجملة معطوفة على جملة ﴿اشْتَرَوْا﴾ ﴿إِنَّهُمْ﴾ ناصب واسمه ﴿سَاءَ مَا﴾ فعل وفاعل ومفعول ﴿سَاءَ﴾ محذوف تقديره: ساءهم إن قلنا ﴿سَاءَ﴾ متصرف متعد إلى المفعول بمعنى: عابهم ﴿كَانُوا﴾ فعل ناقص واسمه وجملة ﴿يَعْمَلُونَ﴾: خبر ﴿كان﴾ وجملة ﴿كان﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: ما كانوا يعملونه وجملة ﴿سَاءَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿إنَّ﴾ وجملة ﴿إنَّ﴾ مستأنفة وفي "الفتوحات": يجوز في ﴿سَاءَ﴾ أن يكون على بابه من التصرف والتعدي، ومفعوله محذوف، أي: ساءهم الذي كانوا يعملونه، أو عملهم وأن يكون جاريًا مجرى بئس، فيحول إلى فعل بالضم، ويمتنع تصرفه، ويصير للذم، ويكون المخصوص بالذم محذوفًا تقديره: عملهم هذا. اهـ. "سمين".
﴿لَا يَرْقُبُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿فِي مُؤْمِنٍ﴾ متعلق به ﴿إِلًّا﴾ مفعول به ﴿وَلَا ذِمَّةً﴾ معطوف عليه ﴿وَأُولَئِكَ﴾ مبتدأ ﴿هُمُ﴾ ضمير فصل ﴿الْمُعْتَدُونَ﴾ خبر والجملة الاسمية مستأنفة.
﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١)﴾.
﴿فَإِنْ تَابُوا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة على محذوف تقديره: هذا الحكم المذكور فيهم إن لم يتوبوا ﴿فَإِنْ تَابُوا...﴾ إلخ ﴿إن﴾ حرف شرط جازم ﴿تَابُوا﴾ فعل وفاعل، في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، ﴿وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ﴾ في محل الجزم معطوفان على تابوا ﴿فَإِخْوَانُكُمْ﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة الجواب وجوبًا ﴿إخوانكم﴾ خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: فهم إخوانكم ﴿فِي الدِّينِ﴾: جار ومجرور، حال من ﴿إخوانكم﴾ والجملة الاسمية في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها وجملة ﴿إن﴾ الشرطية معطوفة على الجملة المحذوفة ﴿وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة ﴿لِقَوْمٍ﴾: متعلق بـ ﴿نفصل﴾ وجملة ﴿يَعْلَمُونَ﴾ صفة ﴿لِقَوْمٍ﴾.
150
﴿وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢)﴾.
﴿وَإِنْ نَكَثُوا﴾ فعل وفاعل، في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه فعل شرط لها ﴿أَيْمَانَهُمْ﴾ مفعوله به ﴿مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿نَكَثُوا﴾ ﴿وَطَعَنُوا﴾ فعل وفاعل، معطوف على ﴿نَكَثُوا﴾ ﴿فِي دِينِكُمْ﴾ جار ومجرور متعلق به ﴿فَقَاتِلُوا﴾ ﴿الفاء﴾ رابطة الجواب ﴿قاتلوا﴾ فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه جوابًا لها ﴿أَئِمَّةَ الْكُفْرِ﴾ مفعول به ومضاف إليه ﴿إِنَّهُمْ﴾ ناصب واسمه ﴿لَا﴾ نافية للجنس، تعمل عمل إن ﴿أَيْمَانَ﴾ في محل النصب اسمها ﴿لَهُمْ﴾ جار ومجرور خبر ﴿لَا﴾ وجملة ﴿لَا﴾ النافية في محل الرفع خبر ﴿إن﴾ وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها ﴿لَعَلَّهُمْ﴾ ناصب واسمه وجملة ﴿يَنْتَهُونَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿لعل﴾، وجملة ﴿لعل﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
التصريف ومفردات اللغة
﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾: مأخوذ من برىء من الدين، يبرأ براءة، إذا أسقط عنه، وبرىء من الذنب ونحوه، إذا تركه وتباعد عنه، وأصل (١) البراءة في اللغة: انقطاع العصمة، يقال: برئت من فلان، أبرأ براءة؛ أي: انقطعت بيننا العصمة ولم يبق بيننا علاقة، وقيل، معناها: هنا التباعد مما تكره مجاورته، ﴿عَاهَدْتُمْ﴾ والمعاهدة (٢): عقد العهد بين فريقين على شروط يلتزمونها، وكان كل فريق يضع يمينه في يمين الآخر، ويوثقونها بالأيمان، ومن جراء ذلك سميت أيمانًا في قوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ﴾؛ أي: لا عهود لهم ﴿فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ﴾ والسياحة في الأرض: الانتقال والتجول فيها، ويراد بها هنا: حرية الانتقال مع الأمان مدة أربعة أشهر، لا يتعرض المسلمون لهم فيها بقتال، يقال: ساح فلان في الأرض، يسيح سياحة وسيوحًا وسيحانًا، ومنه سيح الماء في الأرض وسيح الخيل. {غَيْرُ
(١) الخازن.
(٢) المراغي.
151
مُعْجِزِي اللَّهِ}؛ أي: لا تفوتونه بالهرب والتحصن ﴿مُخْزِي الْكَافِرِينَ﴾ والخزي: الذل والفضيحة بما فيه عار ﴿وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ﴾ والأذان: الإعلام بما ينبغي أن يعلم ﴿يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ﴾ هو يوم النحر الذي تنتهي فيه فرائض الحج، ويجتمع فيه الناس لإتمام مناسكهم.
﴿ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا﴾؛ أي: من شروط الميثاق، فلم يقتلوا أحدًا منكم ولم يضروكم ﴿وَلَمْ يُظَاهِرُوا﴾؛ أي: لم يعاونوا ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ﴾ انسلاخ الشهر: تكامله جزءًا فجزءًا إلى أن ينقضي، كانسلاخ الجلد عما يحويه، شبه خروج المتزمن عن زمانه بانفصال المتمكن عن مكانه، وأصله: الانسلاخ الواقع بين الحيوان وجلده فأستعير لانقضاء الشهر، يقال: سلخت الشهر، تسلخه سلخًا وسلوخًا، بمعنى: خرجت منه، ويقال: سلخت المرأة درعها نزعته قال تعالى: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ﴾.
والحُرُم: واحدها حرام، وهي الأشهر التي حرم الله فيها قتالهم في الأذان والتبليغ بقوله: ﴿فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾. ﴿وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾ والمرصد: الموضع الذي يرقب فيه العدو، يقال: رصدت فلانًا، أرصده إذا ترقبته؛ أي: أقعدوا لهم على كل مرصد، قال أبو حيان (١) المرصد: مفعل من رصد يرصد، من باب قتل، يكون مصدرًا وزمانًا ومكانًا، وقال عامر بن الطفيل:
وَلَقَدْ عَلِمْت وَمَا أَخَالُكَ نَاسِيًا أَنَّ الْمَنِيَّةَ لِلْفَتَى بِالْمَرْصِدِ
﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ﴾ يقال: استجاره إذا طلب جواره؛ أي: حمايته وأمانه، وقد كان من عادات العرب حماية الجار والدفاع عنه، حتى يسمون النصير جارًا ﴿فَأَجِرْهُ﴾؛ أي: أمنه ﴿مَأْمَنَهُ﴾؛ أي: مسكنه الذي يأمن فيه على نفسه، وهو دار قومه ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ﴾؛ أي: ما الإِسلام وما حقيقته، فلا بد من إعطاء الأمان حتى يفهموا الحق ولا يبقى لم معذرة.
﴿وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ﴾ يقال: ظهر عليه، إذا غلبه وظفر به ﴿لَا يَرْقُبُوا﴾
(١) البحر المحيط.
152
يقال: رقب الشيء إذا رعاه وحاذره؛ لأن الخائف يرقب العقاب ويتوقعه، ومنه: فلان لا يرقب الله في أموره؛ أي: لا ينظر إلى عقابه ﴿فِيكُمْ إِلًّا﴾ والإلُّ القرابة، قال ابن مُقْبل:
أَفْسَدَ النَّاسَ خُلُوْفٌ خَلَفُوْا قَطَّعُوْا الإلَّ وَأَعْرَاقَ الرَّحِمْ
وفي "السمين" (١) قوله: ﴿إِلًّا﴾ مفعولٌ به لـ ﴿يَرْقُبُوا﴾. وفي الإلِّ أقوال لأهل اللغة:
أحدها: أن المراد به العهد، قاله أبو عبيدة وابن زيد والسدّي.
الثاني: أن المراد به القرابة، وبه قال الفراء.
الثالث: أن المراد به الله تعالى؛ أي: هو اسمٌ من أسمائه.
الرابع: أنَّ الإلَّ الجؤار، وهو رفع الصوت عند التحالف، وذلك أنهم كانوا إذا تحالفوا.. جأروا بذلك جؤارًا.
الخامس: أنه من ألَّ البرق إذا لمع، ويجمع الإلُّ في القلَّة على أُلِّ، والأصل أألُلٌ، بزنة أفلس، فأبدلت الهمزة الثانية ألفًا، لكونها بعد أخرى مفتوحة، وأدغمت اللام في اللام، وفي الكثرة على إلالٍ، كذئب وذئاب، والأل بالفتح: قيل: شدة القنوط، قال الهروي: في الحديث: "عجب ربكم من ألكم وقنوطكم" اهـ. وفي "القاموس": الإلُّ بالكسر: العهد والحلف وموضعٌ والجؤار والقربة والمعدن والحقد والعداوة والربوبية، واسم الله تعالى وكل اسم آخره إل أو إيل فمضاف إلى الله تعالى، والرخاء والأمان والجزع عند المصيبة، ومنه ما روي: "عجب ربكم من إلكم" فيمن رواه بالكسر ورواية الفتح أكثر اهـ.
﴿وَلَا ذِمَّةً﴾ والذمة والذمام: العهد الذي يلزم من ضيعه الذم، ونقض العهد عندهم من العار، فيكون مما كرر لاختلاف لفظه، إذا قلنا إن الإلَّ العهد أيضًا، فهو كقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ﴾ وقيل: الذمة (٢) الضمان، يقال: هو في ذمتي، أي: في ضماني وبه يسمي أهل الذمة، لدخولهم
(١) الفتوحات.
(٢) الفتوحات.
153
في ضمان المسلمين، وقال: الراغب: الذِّمام: ما يذم الرجل على إضاعته من عهد. وكذلك الذمة والمَذَمَة والمِذَمة. يعني بالفتح والكسر، وقيل: لي ذمة فلا تهتكها، وقال غيره: سميت ذمة؛ لأن كل حرمة يلزمك من تضييعها الذم، يقال لها: ذمة وقال الأزهري: الذمة الأمان، وفي الحديث "يَسْعى بذمتهم أدناهم" اهـ "سمين".
﴿وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ﴾ يقال: أبي يأبى، إذا اشتد امتناعه. فكل إباء امتناعٌ، من غير عكس، ولم يصب من فسره بمطلق الامتناع، ومجيء (١) مضارعه على يفعل بفتح العين شاذٌّ. ومنه قلى يَقَلى في لغةٍ، ومنه آبي اللحم لرجلٍ من الصحابة وقال الشاعر:
أَبَى اللَّهُ إلَّا عَدْلَهُ وَوَفَاءَهُ فَلاَ النُّكْرُ مَعْرُوْفٌ وَلاَ الْعُرْفُ ضَائِعُ
﴿وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ﴾؛ أي (٢) خارجون من قيود العهود والمواثيق، متجاوزون لحدود الصدق والوفاء من قولهم: فسقت الرطبة، إذا خرجت من قشرتها.
﴿فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ﴾ ووزن (٣) أئمة أفعلة؛ لأنه جمع إمام، كحمار وأحمرة وزمام وأزمة، والأصل أأممة، فألتقى ميمان، فأريد إدغامهما، فنقلت حركة الميم الأولى للساكن قبلها، وهو الهمزة الثانية، فأدى ذلك إلى اجتماع همزتين ثانيتهما مكسورة، فالبصريون يوجبون إبدال الثانية ياء، وغيرهم يحقق، أو يسهل بين بين، ومن أدخل الألف.. فللخفة حتى يفرق بين الهمزتين.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التكرارُ في قوله: ﴿مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾، وفي قوله: {أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
(٣) الفتوحات.
154
اللَّهِ}، وقوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ﴾، وفي قوله: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ﴾، وفي قوله: ﴿إِلًّا وَلَا ذِمَّةً﴾ وفي قوله: ﴿كَيْفَ﴾ لإفادة التأكيد.
ومنها: التنوين في قوله: ﴿براءة﴾ لإفادة التفخيم.
ومنها: التقييد بأنها من الله ورسوله، لزيادة التفخيم والتهويل.
ومنها: الأسلوب التهكمي في قوله: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾؛ لأن البشارة بالعذاب تهكم.
ومنها: الجناس المماثل بين ﴿بَرِيءٌ﴾ و ﴿بَرَاءَةٌ﴾ وبين ﴿اسْتَجَارَكَ﴾ و ﴿فَأَجِرْهُ﴾ وبين ﴿اسْتَقَامُوا﴾ و ﴿فَاسْتَقِيمُوا﴾.
ومنها: الاستفهام التعجبي في قوله: ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ﴾.
ومنها: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله: ﴿فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: أيها المشركون.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ﴾؛ لأنه كناية عن عقد الأمان لهم أربعة أشهر؛ أي: يباح لكم أن تعقدوا الأمان لهم أربعة أشهر بعد نقضهم العهد المطلق، أو المقيد بدونها أو فوقها.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ﴾ شبه انقضاء الشهر وخروجه بانسلاخ الجلد من الحيوان، بجامع الانفصال في كل، ثم اشتق من الانسلاخ بمعنى الانقضاء، انسلخ بمعنى: انقضى، على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية. أو يقال (١): شبه خروج المتزمن عن زمانه، بانفصال المتمكن عن مكانه، كما ذكره الشوكاني.
ومنها: وضع الظاهر موضع المضمر في قوله: ﴿فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ﴾ لزيادة التقبيح عليهم، حيث وصفهم بكونهم رؤساء في الكفر، وكان مقتضى الظاهر، فقاتلوهم.
(١) الشوكاني.
155
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ﴾؛ لأن (١) النكث في الأصل الرجوع إلى خلف، ثم استعمل في النقض مجازًا، بجامع أن كلَّا متأخر عن مطلوبه، وفيه المقابلة أيضًا؛ لأنه مقابل لقوله: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا﴾.
ومنها: الإطناب في قوله: ﴿لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ﴾ لمزيد (٢) التشنيع والتقبيح عليهم؛ لأن مقام الذم كمقام المدح، البلاغة فيه الإطناب.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ﴾؛ لأنّ (٣) الطعن هنا مجاز عن العيب؛ لأنه حقيقة في الإصابة بالرمح أو العود وشبهه.
ومنها: الاعتراض بقوله: ﴿وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾؛ لأنه اعتراض بين الشرطين بين قوله: ﴿فَإِنْ تَابُوا﴾ وقوله: ﴿وَإِنْ نَكَثُوا﴾ لإفادة الحث والتحريض على تأمل ما فصَّله تعالى من الأحكام.
ومنها: الزيادة والحذف في مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(١) الصاوي.
(٢) الصاوي.
(٣) البحر المحيط.
156
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٦) مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (١٧) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨) أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (٢٤)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لما أمر (١) بقتال أئمة الكفر.. ذكر السبب الذي يبعث على قتالهم، ولعل الله سبحانه وتعالى قد علم أن في نفس
(١) المراغي.
157
جماعة من المؤمنين كرهًا لقتال من بقي من المشركين بعد فتح مكة وظهور الإِسلام، لأمنهم من ظهورهم عليهم، ورجائهم في إيمانهم، وعلم أنه يوجد من المنافقين من يزينون لهم ذلك، والله يريد أن تطهير جزيرة العرب من الشرك وأدران الوثنية، ويمحص المؤمنين من النفاق ومثالبه، من جراء هذا أعاد الكرَّة بإقامة الأدلة على وجوب قتال الناكثين للعهد، المعتدين عليهم بالحرب، الذين بدؤوهم بالقتال وهموا بإخراج الرسول أو حبسه أو قتله.
قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (١): أن الله سبحانه وتعالى لمَّا ذكر البراءة من المشركين وأنواعًا من قبائحهم توجب البراءة منهم.. ذكروا أنهم موصوفون بصفاتٍ حميدةٍ توجب انتفاء البراءة منها، كونهم عامري المسجد الحرام، روي أنه أقبل المهاجرون والأنصار على أسارى بدر يعيرونهم بالشرك، وطفق عليٌّ يوبخ العباس، فقال: الرسول - ﷺ -، واقطيعة الرحم، وأغلظ له في القول، فقال العباس: تظهرون مساوينا وتكتمون محاسننا، فقال: أو لكم محاسن، قالوا: نعم، ونحن أفضل منكم أجرًا، إنا لنعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة، ونسقي الحجيج، ونفك العاني، فأنزل الله تعالى هذه الآية ردًّا عليهم.
قوله تعالى: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنها مكملة (٢) لما قبلها، مبينة أنَّ عمارة المسجد الحرام للمسلمين دون المشركين، وأن إسلامهم أفضل مما كان يفخر به المشركون، من عمارة المسجد وسقاية الحاج فيه.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لمَّا أعلن براءته وبراءة رسوله من المشركين، وآذنهم بنبذ عهودهم، بعد أن ثبت أنه لا عهد لهم.. عَزَّ ذلك على بعض المسلمين، وتبرَّم به ضعفاء الإيمان، وكان أكثرهم من الطلقاء الذين أعتقهم
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
158
النبيُّ - ﷺ -، يوم فتح مكة، وكان موضع الضعف، نصرة القرابة وعصبية النسب، إذ كان لا يزال الكثير منهم أولو قرابة من المشركين، يكرهون قتالهم ويتمنون إيمانهم، بل كان لبعض ضعفاء الإيمان وليجةٌ وبطانةٌ منهم.
من أجل هذا، بين الله سبحانه وتعالى في هاتين الآيتين، أن فضل الإيمان والهجرة والجهاد، وقيل ما بشر الله به أهله من رحمته ورضوانه ودخول جناته لا يكمل إلا بترك ولاية الكافرين، وإيثار حب الله ورسوله، والجهاد في سبيله على حب الوالد والولد، والأخ والزوج والعشيرة والمال والسكن.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه (١) أبو الشيخ عن قتادة، قال: ذكر لنا أن هذه الآية نزلت في خزاعة، حين جعلوا يقتلون بني بكرٍ بمكة، وأخرج عن عكرمة، قال: نزلت هذه الآية في خزاعة، وأخرج عن السدي ﴿وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ﴾ قال: هم خزاعة حلفاء النبي - ﷺ -، يشف صدورهم من بني بكر.
قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ...﴾ الآيات، أخرج ابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قال: قال العباس، حين أسر يوم بدر: إن كنتم سبقتمونا بالإِسلام والهجرة والجهاد.. لقد كنا نعمر المسجد الحرام، ونسقي الحاج، ونفك العاني، فأنزل الله تعالى: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ...﴾ الآية.
وأخرج مسلم وابن حبان وأبو داود عن النعمان بن بشير، قال: كنت (٢) عند رسول الله - ﷺ -، في نفر من أصحابه فقال رجل منهم: ما أُبالي أن لا أعمل عملًا بعد الإِسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر ما أبالي أن لا أعمل عملًا بعد الإِسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام، وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل
(١) لباب النقول.
(٢) مسلم.
159
مما قلتم، فزجرهم عمر، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله - ﷺ -، وهو يوم الجمعة، ولكن إذا صليت الجمعة.. دخلت على رسول الله - ﷺ - لأستفتيه فيما اختلفتم فيه، فدخل بعد الصلاة، فاستفتاه، فأنزل الله عز وجل: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ الآية إلى قوله: ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾.
وأخرج (١) الفريابي عن ابن سيرين قال: قدم عليُّ بن أبي طالب مكة، فقال للعباس: أي عم، ألا تهاجر، ألا تلحق برسول الله - ﷺ -؟ فقال: أعمر المسجد وأحجب البيت، فأنزل الله ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ﴾ الآية وقال لقوم سماهم: ألا تهاجروا ألا تلحقوا برسول الله - ﷺ -؟ فقالوا: نقيم مع إخواننا وعشائرنا ومساكننا، فأنزل الله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ...﴾ الآية كلها، وأخرج عبد الرزاق، عن الشعبي نحوه، وأخرج ابن جرير عن محمَّد بن كعب القرظي، قال: افتخر طلحة بن شيبة والعباس وعليُّ بن أبي طالب، فقال طلحة: أنا صاحب البيت معي مفتاحه، وقال العباس: أنا صاحب السقاية والقائم عليها، فقال عليُّ: لقد صليت إلى القبلة قبل الناس، وأنا صاحب الجهاد، فأنزل الله ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ...﴾ الآية كلها.
التفسير وأوجه القراءة
١٣ - ﴿أَلَا تُقَاتِلُونَ﴾؛ أي: هلَّا تقاتلون أيها المؤمنون ﴿قَوْمًا﴾ من كفار مكة ﴿نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ﴾؛ أي: نقضوا عهودهم التي عاهدوكم يوم الحديبية، حيث نقضوها بإعانتهم لبني بكر، الذين هم حلفاؤهم، بإعطاء السلاح لهم على خزاعة، الذين هم حلفاؤكم، وألا هنا: للتحضيض، كما قاله السيوطي في "تفسير الجلالين" وهو الطلب بحثٍّ وإزعاج، ودخول (٢) حرف التحضيض على مستقبلٍ حث على الفعل وطلبٌ له، وعلى الماضي توبيخٌ على ترك الفعل، وأدواته خمسةٌ: ألا بالتخفيف، وألا بالتشديد، وهلَّا، ولولا، ولوما، كما ذكرته
(١) لباب النقول.
(٢) الفتوحات القيومية على الآجرومية.
160
في "الفتوحات القيومية".
وقال أبو حيان (١): وألا هنا حرف عرض وهو الطلب برفق ولين ومعناه هنا: الحض على قتالهم، وزعموا أنها مركبةٌ من همزة الاستفهام ولا النافية، فصار فيها معنى التحضيض اهـ وليس هذا الزعم بشيءٍ يعتد.
فالمعنى: (٢) قاتلوا قومًا اجتمعت فيهم أسبابٌ ثلاثةٌ، كل منها يقتضي قتالهم، فما بالكم باجتماعها؟ وهي نقض العهد، وإخراج الرسول، وقتال حلفائكم ﴿وَهَمُّوا﴾؛ أي: أرادوا ﴿بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ﴾ الكريم محمدٍ - ﷺ -، من مكة، لكن لم يخرجوه، بل خرج باختياره بإذن الله تعالى له في الهجرة ﴿وَهُمْ بَدَءُوكُمْ﴾ أيها المؤمنون بالقتال ﴿أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾؛ أي: والحال أنهم بدؤوكم بالقتال يوم بدر أول مرة؛ لأنهم حين سلمت العير، قالوا لا ننصرف حتى نستأصل محمدًا ومن معه، أبو بدؤوا بقتال خزاعة، حلفاء النبي - ﷺ -؛ لأن إعانة بني بكر عليهم بالسلاح قتالٌ معهم، فالإعانة على القتال تسمى قتالًا وقرأ زيد بن عليّ ﴿بدوكم﴾ بوزن رموكم: بغير همزٍ ووجهه: أنه سهل الهمزة من بدأت بإبدالها ياءً، كما قالوا في قرأت قريت، فصار كرميت، فلما أسند الفعل إلى واو الضمير سقطت، فصار بدوكم كرموكم، ذكره أبو حيان في "البحر" والاستفهام في قوله: ﴿أَتَخْشَوْنَهُمْ﴾ للتوبيخ والتقريع؛ أي: أتخافون أيها المؤمنون أن ينالكم منهم مكروه، حتى تتركوا قتالهم لهذه الخشية، ثم بين ما يجب أن يكون الأمر عليه فقال: ﴿فَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿أَحَقُّ﴾ وأجدر وأولى ﴿أَنْ تَخْشَوْهُ﴾ في ترك أمره، وقوله: ﴿أَنْ تَخْشَوْهُ﴾ بدل اشتمال من لفظ الجلالة الواقع مبتدأً؛ أي: فخشية الله تعالى أحق وأولى لكم من خشيتهم ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: مذعنين بأنه تعالى هو الضار النافع فاخشوه، ومن خشيتكم له أن تقاتلوا من أمركم بقتالهم.
وحاصل المعنى: أي قاتلوا هؤلاء المشركين لأسبابٍ ثلاثة:
١ - أنهم نكثوا الأيمان التي حلفوها لتأكيد عهدهم الذي عقدوه مع النبي - ﷺ -
(١) البحر المحيط.
(٢) الفتوحات.
161
وأصحابه على ترك القتال عشر سنين، يأمن فيها الفريقان على أنفسهم، ويكونون فيها أحرارًا في دينهم، لكنهم لم يلبثوا أن ظاهروا حلفاءهم بني بكر على خزاعة - حلفاء النبي - ﷺ - ليلًا بالقرب من مكة، على ماءٍ يسمى الهجير، وكان هذا من أفظع أنواع الغدر، ولمَّا علم بذلك الرسول - ﷺ -.. قال: "لا نُصِرت إن لم أنصركم" وتجهز إلى مكة سنة ثمان من الهجرة.
٢ - أنهم هَمُّوا بإخراج الرسول - ﷺ - من وطنه، أو حبسه حتى لا يبلِّغ رسالته، أو قتله بأيدي عصبةٍ من بطون قريش، ليتفرق دمه في القبائل فتتعذَّر المطالبة به، إلى ذلك يشير قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾.
٣ - أنهم بدؤوا بقتال المؤمنين في بدر، حين قالوا بعد العلم بنجاة عيرهم: لا ننصرف حتى نستأصل محمدًا وأصحابه، ونقيم في بدر أيامًا نشرب الخمر، وتعزف على رؤوسنا القيان، وكذا في أحد والخندق وغيرهما. وبعد أن أورد البراهين والحجج الموجبة لقتالهم، قال: ﴿أَتَخْشَوْنَهُمْ﴾؛ أي: أبعد هذا كله تتركون قتالهم خوفًا منكم وجبنًا ﴿فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ﴾؛ أي: فالله أحق أن تخشوا مخالفة أمره، وترك مخالفة عدوه، إذ المؤمن حق الإيمان لا يخشى إلا الله؛ لأنه يعلم أنه هو الذي بيده النفع والضر، ولا يقدر أحد على مضرة أو نفع إلا بمشيئته، فإن خشي غيره بمقتضى سننه تعالى في أسباب الضر والنفع.. فلا ترجح خشيته على خشية الله، بأن تحمله على عصيانه ومخالفة أمره، بل يرجح خشيته تعالى على خشية غيره.
وخلاصة ما سلف: أنه بعد تلك الحجج التي تقدم ذكرها، لم يبق من سببٍ يمنع قتالهم إلا الخشية لهم والخوف من قتالهم، وخشية الله أحق وأجدر إن كنتم مؤمنين حقًّا، كيف وقد نصركم الله عليهم في مواطن كثيرة مع ضعفكم وقوتهم، وقلتكم وكثرة عددهم، وفي الآية إيماءٌ إلى أن المؤمن يجب عليه أن يكون أشجع الناس، وأعلاهم همةً، ولا يخشى إلا الله.
وبعد أن أقام الأدلة على وجوب قتالهم وفند الشبه المانعة من ذلك..
162
أمرهم به أمرًا صريحًا مع وعده لهم بالنصر وإظهار المؤمنين عليهم، وهذه العدة من أخبار الغيب في وقعةٍ معينة،
١٤ - وقد صدق الله وعده فقال: ﴿قَاتِلُوهُمْ﴾؛ أي: قاتلوا أيها المؤمنون المشركين الذين نقضوا العهد وبدؤوا بالقتال، فأمر الله سبحانه وتعالى نبيه - ﷺ - والمؤمنين بقتال من قاتلهم أو نقض عهدهم؛ أي: قاتلوهم كما أمرتكم، فإنكم إن فعلتم ذلك.. ﴿يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿بِأَيْدِيكُمْ﴾؛ أي: يقتلهم بسيوفكم ورماحكم وسلاحكم، والمراد بالتعذيب هنا: القتل.
فإن قلت (١): كيف الجمع بين قوله: هنا ﴿يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ﴾ وبين قوله: في الأنفال: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾؟
قلت: المراد بقوله: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾ عذاب الاستئصال، يعني وما كان الله ليستأصلهم بالعذاب جميعًا وأنت فيهم، وبالعذاب هنا قتل من نقض العهد، والفرق بين العذابين: أن عذاب الاستئصال يتعدى إلى المذنب وغير المذنب، وإلى المخالف والموافق، وعذاب القتل لا يتعدى إلا إلى المذنب المخالف. ﴿وَيُخْزِهِمْ﴾؛ أي: يذلهم بالقهر والأسر وينزل بهم الذل والهوان ﴿وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ﴾؛ أي: يبرىءُ داء قلوب طائفة ﴿مُؤْمِنِينَ﴾ مما أصابهم من أذى المشركين، ومن المعلوم أن من طال تأذيه من خصمه ثم مكنه الله منه.. فإنه يشفى ويفرح بذلك، ويعظم سروره ويصير ذلك سببًا لقوة اليقين وثبات العزية، قال مجاهد والسدي: أراد صدور خزاعة حلفاء رسول الله - ﷺ -، وكان يومئذٍ في خزاعة مؤمنون كثير، حيث أعانت قريش بني بكر حلفاءهم على خزاعة حلفاء رسول الله - ﷺ -، حتى قتلوا منهم،
١٥ - ثم شفى الله صدور خزاعة من بني بكر، حين أخذ النبيُّ - ﷺ - وأصحابه ثأرهم منهم يوم فتح مكة ﴿وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ﴾؛ أي: يذهب الله سبحانه وتعالى وجد قلوب طائفة من المؤمنين المذكورين وحزنها بما ناله من بني بكر من الفتك، روي أن النبي - ﷺ - قال يوم فتح مكة: "ارفعوا السيف إلا خزاعة من بني بكر إلى العصر" ذكره البغوي بغير سند.
(١) الخازن.
وقد وفي الله سبحانه وتعالى بما وعدهم، من الأمور الخمسة، والآية من المعجزات الدالة على صدق نبوته - ﷺ -.
والحاصل: أن الله سبحانه وتعالى ذكر في جواب الأمر بالقتال خمسة أمور، وقوله: ﴿وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ﴾ مستأنفٌ ولم يجزم (١)؛ لأن توبته على من يشاء ليست جزاء على قتال الكفار؛ أي: ويهدي الله سبحانه وتعالى من يشاء هدايته من أهل مكة وغيرهم إلى الإِسلام، فيمنُّ عليه بالتوبة من الشرك والكفر، ويهديه إلى الإِسلام، كما فعل بأبي سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو، فهؤلاء كانوا من أئمة الكفر ورؤساء المشركين، ثم مَنَّ الله عليهم بالإِسلام يوم فتح مكة، فأسلموا ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلِيمٌ﴾ بسرائر عباده ومن سبقت له العناية الأزلية بالسعادة، فيتوب عليه ويهديه إلى الإِسلام وهو العليم بما لا تعلمون من استعدادهم في الحال والاستقبال ﴿حَكِيمٌ﴾ فيما شرعه لهم من الأحكام، لإقامة دينه وإظهاره على الدين كله.
ومن سننه تعالى: تفاوت البشر في العقائد والأخلاق والأعمال، وقابليَّة التحول من حال إلى حال بما يطرأ عليهم من الأسباب والمؤثرات، بحسب المقادير الإلهية الثابتة بآيات التنزيل ونظم الاجتماع.
وقرأت فرقة (٢): ﴿ويذهب غيظ﴾ فعلًا لازمًا غيظ فاعل به، وقرأ زيد بن عليّ كذلك، إلا أنه رفع الباء، وقرأ الجمهور: ﴿وَيَتُوبُ اللَّهُ﴾ رفعًا وهو استئناف، وقرأ زيد بن عليّ والأعرج وابن أبي إسحاق وعيسى الثقفيُّ وعمرو بن عبيد وعمر ابن فائد وأبو عمرو ويعقوب فيما روي عنهما: ﴿ويتوبَ الله﴾ بنصب الباء جعله داخلًا في جواب الأمر من طريق المعنى، قيل: ويمكن أن تكون التوبة داخلة في الجزاء.
١٦ - و ﴿أم﴾ في قوله: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ﴾ بمعنى همزة الاستفهام التوبيخي، وبل التي للإضراب الانتقالي، أي: بل أظننتم أيها المؤمنون ﴿أَنْ تُتْرَكُوا﴾؛ أي: أن
(١) الكرخي.
(٢) البحر المحيط.
164
يترككم الله سبحانه وتعالى بدون تكليفكم بالقتال الذي سئمتموه ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ﴾؛ أي: والحال أنه لم يظهر الله سبحانه وتعالى الذين جاهدوا منكم بالإخلاص؛ أي: لم يميزهم عن غيرهم، ممن جاهدوا بدون إخلاص، وقوله: ﴿وَلَمْ يَتَّخِذُوا﴾ عطف على ﴿جَاهَدُوا﴾ داخل في الصلة؛ أي: ولم يظهر الذين لم يتخذوا ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ تعالى ﴿وَلَا رَسُولِهِ﴾ - ﷺ -، ﴿وَلَا﴾ من دون ﴿الْمُؤْمِنِينَ﴾ المخلصين ﴿وَلِيجَةً﴾؛ أي: بطانة وأصدقاء من الكفار؛ أي: أم حسبتم أن يترككم الله سدى بلا امتحان بالتكاليف، والحال أنه لم يميز بين المجاهدين المخلصين الذين لم يتخذوا وليجةً وبطانةً من الكفار، وبين غيرهم ممن لم يخلصوا في جهادهم واتخذوا وليجةً من الكفار؛ أي: أم حسبتم أن تتركوا من غير أن تبتلوا بما يظهر به المؤمن والمنافق، الذي يستحق به الثواب والعقاب.
والمعنى: كيف تحسبون أنكم تتركون، ولما يتبين المخلص منكم في جهاده من غير المخل، ولم يتبين المتخذ وليجةً من غير المتخذ؟
والخلاصة (١): أم حسبتم أن تتركوا وشأنكم، بغير فتنةٍ ولا امتحانٍ، ولم يتبين المجاهدون المخلصون منكم، الذين لم يتخذوا لأنفسهم بطانة من المشركين، من المنافقين الذين اتخذوا لأنفسهم وليجة، من المشركين الذين يطلعون أولئك الولائج على أسرار الملة الإِسلامية، ويقفونهم على سياسة الأمة المحمدية، كما يفعل المنافقون في كل زمان؟
وقد عبَّر سبحانه عن عدم ظهور هؤلاء المجاهدين، وعن عدم تميزهم من المنافقين وضعفاء الإيمان بعدم علمه بهم؛ لأن عدم علمه بالشىء دليلٌ على عدم وجوده، ولا يظهر هؤلاء الممتازون إلا بالابتلاء بالشدائد، وذلك أنه لما فرض القتال.. تبين المنافق من غيره، ومن يوالي المؤمنين ممن يوالي أعداءهم، وقد مضت سنته تعالى بأن التكليف الذي يشق على الأنفس هو الذي يمحص ما في
(١) المراغي.
165
القلوب، ويطهر السرائر بقدر ما فيها من حسن الاستعداد، ويبرز السرائر الخبيثة ويظهر سوء استعدادها.
﴿وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ من موالاة المشركين وغيرها، فيجازيكم عليه، فيجب على الإنسان أن يبالغ في أمر النية ورعاية القلب.
وخلاصة المعنى: أظننتم أن تتركوا قبل أن يتم التمحيص والتمييز بين الصادقين في جهادهم، والكاذبين فاسدي السريرة، ومتخذي الوليجة، وهو لم يعلم الصادقين في الجهاد؛ لأنهم لم يتميزوا من غيرهم بالفعل، وما لا يعلم الله وجوده فلا وجود له، إذ لا يخفى عليه شيءٌ من أمركم وهو الخبير بكل ما تعملون.
وقرأ الجمهور (١): ﴿تَعْمَلُونَ﴾ بالتاء على الخطاب، مناسبةً لقوله: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ﴾ وقرأ الحسن ويعقوب في رواية رُوُيْسٍ وسلَّام: بالياء على الغيبة التفاتًا.
١٧ - ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ﴾؛ أي: ما ينبغي ولا يصح ولا يستقيم للمشركين ﴿أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ﴾ تعالى ومتعبداته بدخولها والقعود فيها وخدمتها، فإذا دخل الكافر بغير إذن المسلم.. عزر، وإن دخل بإذنه.. لم يعزر، لكن لا بد من حاجة، فيشترط للجواز الإذن والحاجة، ويدل على جواز دخول الكافر المسجد بالإذن: (أن النبي - ﷺ - شد ثمامة بن أثال إلى سارية من سواري المسجد، وهو كافر) حالة كونهم ﴿شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ﴾ قولًا وفعلًا، حال من فاعل يعمروا؛ أي: ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين، عمارة متعبدات الله، والكفر بالله قولًا؛ لأنهم يقولون في طوافهم: لبيك لا شريك لك، إلّا شريكًا هو لك تملكه وما ملك، مع قولهم: نحن نعبد اللات والعزى، وفعلًا؛ لأنهم كلما طافوا.. سجدوا للأصنام، فلم يزدادوا بذلك إلا بعدًا من الله ومن مساجده.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿يَعْمُرُوا﴾ بفتح حرف المضارعة وضم الميم، من عمر
(١) البحر المحيط.
(٢) البحر المحيط والشوكاني.
166
يعمر، من باب قتل، وقرأ ابن السميقع: ﴿أن يُعمِروا﴾ بضم الياء وكسر الميم، من أعمر الرباعي؛ أي: أن يعينوا على عمارته، وقرأ ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وابن كثير وأبو عمرو وابن محيصن والجحدري ويعقوب: ﴿مسجد الله﴾ بالإفراد وقرأ باقي السبعة، ومجاهد وقتادة، وأبو جعفر والأعرج وشيبة: ﴿مَسَاجِدَ اللَّهِ﴾ بالجمع، ومن قرأ بالإفراد: فيحتمل أن يراد به المسجد الحرام لقوله: ﴿وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ أو الجنس، فيندرج فيه سائر المساجد، ويدخل المسجد الحرام دخولًا أوليًّا، ومن قرأ: بالجمع فيحتمل، أن يراد به المسجد الحرام، وإنما جمعه؛ لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها، فكان عامره عامر المساجد، وأن يراد به سائر المساجد، كما هو ظاهر اللفظ. وقرأ زيد بن علي ﴿شَاهِدُونَ﴾ على إضمار ﴿هم شاهدون﴾.
وحاصل الآية: أي ما كان (١) من شأن المشركين ولا مما ينبغي لهم، أن يعمروا مساجد الله التي منها المسجد الأعظم، وهو بيته الحرام بالإقامة فيه للعبادة، أو الخدمة والولاية عليه، ولا أن يزوروه حجاجًا أو معتمرين، وقد شهدوا على أنفسهم بالكفر، قولًا وعملًا، بعبادتهم للأصنام، والاستشفاع بها، والسجود لما وضعوه منها في البيت عقب كل شوط من طوافهم، وقولهم حينئذٍ: لبيك لا شريك لك، إلا شريكًا، هو لك تملكه وما ملك.
إذ في عملهم هذا جمع بين الضدين، فإن عمارة البيت الحسية إنما تكون لعمارته المعنوية، بعبادته تعالى وحده، وذلك لا يقع إلا من المؤمن الموحد، لكنهم يشركون به غيره ويساوونه ببعض خلقه في العبادة.
وخلاصة ذلك: أنهم يجمعون بين أمرين لا يعقل الجمع بينهما على وجه صحيح، عمارة البيت الحرام بزيارته للحج أو العمرة، والكفر بربه بمساواته ببعض خلقه من الأصنام والأوثان، وقوله: ﴿شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾؛ أي: إنهم كفروا كفرًا صريحًا، معترفًا به لا تمكن المكابرة فيه، والمراد بالعمارة الممنوعة
(١) المراغي.
167
عن المشركين للمساجد: الولاية عليها، والاستقلال بالقيام بمصالحها، كأن يكون الكافر ناظرًا للمسجد وأوقافه، أما استخدام الكافر في عمل لا ولاية فيه، كنحت الحجارة والبناء والنجارة.. فلا يدخل في ذلك.
وللمسلمين أن يقبلوا من الكافر مسجدًا بناه كافر، أو أوصى ببنائه أو ترميمه، إذا لم يكن في ذلك ضرر ديني ولا سياسي، كما لو عرض اليهود الآن على المسلمين أن يعمروا المسجد الأقصى، بترميم ما كان قد تداعى من بنائه، أو بذلوا لذلك مالًا.. لم يقبل منهم؛ لأنهم يطمعون في الاستيلاء على هذا المسجد، فربما جعلوا ذلك ذريعةً لادعاء حق لهم فيه. ﴿أُولَئِكَ﴾ المشركون الكافرون بالله، وبما جاء به رسوله قد ﴿حَبِطَتْ﴾ وبطلت ﴿أَعْمَالُهُمْ﴾ التي يفتخرون بها من عمارة المسجد الحرام، وسقاية الحاج، وقرى الضيف، وصلة الرحم، ونحو ذلك، مما كانوا يعملونه في دنياهم، فلم يبق له أثرٌ ما في صلاح أنفسهم، ما داموا مقيمين على الشرك ومفاسده، فصارت هباءً منثورًا.
ونحو هذه الآية قوله: ﴿وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ وقوله: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٦٥)﴾.
﴿وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ﴾؛ أي: وهم مقيمون في دار العذاب إقامة خلود ودوام؛ لكفرهم الذي أحبط أحسن أعمالهم ودسَّى أنفسهم، حتى لم يبق لها أدنى استعداد لجوار ربهم في دار الكرامة والنعيم.
وقرأ زيد بن علي (١): ﴿خَالِدِينَ﴾ بالياء نصبًا على الحال، وفي النار هو الخبر، كما تقول: في الدار زيد قاعدًا
١٨ - ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ﴾ بنحو البناء والتزيين بالفرش والسرج، وقال أبو حيان (٢): ويتناول عمارتها رمَّ ما تهدّمَ منها، وتنظيفها وتنويرها وتعظيمها واعتيادها للعبادة والذكر - ومن الذكر درس العلم، بل هو أجله -، وصونها عما لم تبن له، من الخوض في أحوال الدنيا، وفي
(١) البحر المحيط.
(٢) البحر المحيط.
168
الحديث: "إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد.. فاشهدوا له بالإيمان"، انتهى.
وقرأ الجحدري وحماد بن أبي سلمة، عن ابن كثير: ﴿مسجد الله﴾ بالإفراد وقرأ السبعة وجماعة بالجمع، ذكره في "البحر"، والظاهر: أن الجمع هنا حقيقة؛ لأن المراد جميع المؤمنين العامرين لجميع مساجد أقطار الأرض؛ أي: إنما يصح أن يعمر المساجد عمارة يعتد بها ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ تعالى؛ لأن المساجد موضعٌ يعبدون الله فيه، فمن لم يكن مؤمنًا بالله.. لا يبني موضعًا يعبد الله فيه ﴿و﴾ آمن بـ ﴿اليوم الآخر﴾؛ لأن الاشتغال بعبادة الله لا تفيد إلا في القيامة، فمن أنكر القيامة، لا يعبد الله، ومن لا يعبد الله، لا يبني بناءً لعبادة الله تعالى.
ولم (١) يذكر الإيمان بالرسول؛ لأن الإيمان باليوم الآخر إنما هو متلقف من أخبار الرسول، فتضمن الإيمان بالرسول، أو لم يذكر لما علم وشهر من أن الإيمان باللهِ تعالى قرينته الإيمان بالرسول لاشتمال كلمة الشهادة والأذان والإقامة وغيرها عليهما، مقترنين مزدوجين، كأنهما شيءٌ واحدٌ لا ينفك أحدهما عن صاحبه، فانطوى تحت ذكر الإيمان بالله الإيمان بالرسول - ﷺ - ﴿وَأَقَامَ الصَّلَاةَ﴾ بأركانها وآدابها، فإن المقصود الأعظم من بناء المساجد: إقامة الصلوات ﴿وَآتَى الزَّكَاةَ﴾؛ أي: أدى الزكاة المفروضة لمستحقيها، وإنما اعتبر (٢) إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في عمارة المسجد؛ لأن الإنسان إذا كان مقيمًا للصلاة، فإنه يحضر في المسجد فتحصل عمارة المسجد بذلك الحضور، وإذا كان مؤدِّيًا للزكاة.. فإنه يحضر في المسجد طوائف الفقراء والمساكين، لطلب أخذ الزكاة، فتحصل عمارة المسجد بذلك الحضور، ولأنَّ (٣) الإنسان لا يشتغل بعمارة المسجد إلا إذا كان مقيمًا للصلاة، مؤدِّيًا للزكاة؛ لأن الصلاة والزكاة واجبان، وعمارة المسجد نافلةٌ، ولا يشتغل الإنسان بالنافلة، إلا بعد إكمال الفريضة الواجبة عليه ﴿وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ﴾؛ أي: ولم يخف في باب الدين غير الله تعالى، ولم يترك أمر الله لخشية
(١) البحر المحيط.
(٢) المراح.
(٣) الخازن.
169
الناس، ولم يختر على رضا الله رضا غيره، وإنما قلنا في باب الدين؛ لأن الخشية عن المحاذير جبلية، لا يكاد الرجل العاقل يتمالك عنها.
والمعنى: أن (١) المستحقين لعمارة المساجد هم الجامعون بين الإيمان بالله على الوجه الذي بينه في كتابه - من توحيده، وتخصيصه بالعبادة، والتوكل عليه، والإيمان باليوم الآخر الذي يحاسب الله فيه عباده، ويجزي فيه كل نفس بما كسبت - مع إقامة الصلاة المفروضة على الوجه الجامع بين أركانها وآدابها، وتدبر تلاوتها وأذكارها، وبذا تكسب من يقيمها مراقبة ربه وخشيته والخشوع إليه، ومع إعطاء زكاة الأموال لمستحقيها من الفقراء والمساكين، ومع خشية الله دون غيره، مما لا ينفع ولا يضر، كالأصنام وغيرها مما عبد من دون الله تعالى، خوفًا من ضرره أو رجاءً لنفعه.
﴿فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾؛ أي: فيرجوا أولئك الموصوفون بالصفات الأربعة أن يكونوا من المهتدين؛ أي: من الذين سبقت لهم الهداية في علمه؛ أي: فأولئك الذين يجمعون بين الأركان الهامة من أركان الإِسلام، هم الذين يرجون أن يكونوا من المهتدين إلى ما يحب الله ويرضيه من عمارة المساجد حسًّا ومعنًى، بحسب سننه تعالى في أعمال البشر وتأثيرها في نفوسهم، وبذا يستحقون عليها الجزاء في جنان النعيم، لا أولئك المشركون الذين يجمعون بين أضدادها من الإيمان بالطاغوت والشرك بالله والكفر بما جاء به رسوله، وينفقون أموالهم للصد عن سبيل الله، ومنع الناس من الإِسلام، وقيل: (عسى) في كلام الله للوجوب والتحقق، والمعنى حينئذٍ: فحقيقٌ واجبٌ كون أولئك الموصوفين بالصفات السابقة من المهتدين.
وفي ذلك (٢) قطعٌ أطماع المشركين أن يكونوا مهتدين، إذ من جمع هذه الخصال الأربعة.. جعل حاله حال من ترجى له الهداية، فكيف بمن هو عار
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
170
منها؟ وفي ذلك ترجيح الخشية على الرَّجاء، ورفض الاغترار بالأعمال الصالحة، فربما دخلها بعض المفسدات وصاحبها لا يشعر بها.

فصل في ذكر نبذة من الأحاديث الواردة في عمارة المساجد وبنائها


وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - ﷺ -، قال: "من غدا إلى المسجد، أو راح.. أعدَّ الله له في الجنة نزلًا، كلما غدا أو راح" متفق عليه. والنزل: ما يهيأ للضيف عند نزوله بالقوم.
وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه لما بنى مسجد رسول الله - ﷺ -، ولامه الناس.. قال: إنكم أكثرتم، وإني سمعت رسول الله - ﷺ -، يقول: "من بنى لله مسجدًا يبتغي به وجه الله.. بنى الله له بيتًا في الجنة" متفق عليه. وأخرجه الترمذي وفي رواية: "بنى الله له في الجنة مثله".
وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله - ﷺ - قال: "من بنى لله مسجدًا، صغيرًا كان أو كبيرًا.. بنى الله له بيتًا في الجنة" أخرجه الترمذي.
وعن عمرو بن عبسة، أن رسول الله - ﷺ - قال: "من بنى لله مسجدًا ليُذكر الله فيه.. بنى الله له بيتًا في الجنة" أخرجه النسائي.
وعن ابن عباس رضي الله عنه مرفوعًا: "مَنْ بنى لله مسجدًا، ولو كمفحص - الموضع الذي تفحص التراب عنه، وتكشفه لتبيض فيه - قطاةٍ لبيضها.. بنى الله له بيتًا في الجنة" أخرجه أحمد.
وروى الشيخان وأبو داود وابن ماجه: أنَّ امرأة كانت تقُمُّ المسجد - تَكْنِسُهُ - فماتت، فسأل عنها النبي - ﷺ -، فقيل له: ماتت، فقال: "أفلا كنتم آذنتموني بها لأصلي عليها، دلوني على قبرها" فأتى قبرها فصلى عليها.
وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - ﷺ -: "إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد.. فاشهدوا له بالإيمان". وتلا: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ...﴾ الآية،
171
أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم.
١٩ - والاستفهام في قوله: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ للإنكار، وهو كلام مستأنف خوطب به المشركون، التفاتًا من الغيبة في قوله: ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا...﴾ إلخ، وقيل: خوطب به المؤمنون الذين تنازعوا أَيِّ الأعمال أفضل.
والسقاية والعمارة مصدران، كالسعاية والحماية، فالسقاية: إسقاء الحجاج، وإعطاء الماء لهم، والعمارة: تعمير المسجد تعميرًا حسيًّا أو معنويًّا، كما مر، ولا بد من تقدير مضاف، ليتفق الموضوع والمحمول، إما في الآخر، والتقدير: أجعلتم أيها المشركون، أو المؤمنون، سقاية الحجاج وعمارة المسجد الحرام ﴿كـ﴾ ـعمل ﴿من آمن بالله﴾ سبحانه وتعالى، أو كإيمان من أمن بالله. وإما في الأول، والتقدير: أجعلتم أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام الذين هم المشركون، كمن آمن بالله في الفضيلة وعلو الدرجة، ويؤيد هذا التأويل قراءة ابن الزبير وغيره: ﴿أجعلتم سُقاة الحاجِّ وعَمَرَةَ المسجدِ الحرامِ﴾ جمع ساقٍ وعامر، وعلى هذه القراءة لا يحتاج إلى تقدير مضاف.
والمراد (١): أنه لا ينبغي أن تجعلوا أهل السقاية والعمارة في الفضيلة كمن آمن بالله ﴿وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ تعالى؛ أي: في طاعته لإعلاء كلمته، فإنَّ السقاية والعمارة، وإن كانتا من أعمال البر والخير، فأصحابهما لا يدانون أهل الإيمان والجهاد في علوِّ المرتبة وشرف المقدار.
والمعنى (٢): أنَّ الله تعالى أنكر عليهم التسوية بين ما كان تعمله الجاهلية من الأعمال التي صورتها صورة الخير، وإن لم ينتفعوا بها، وبين إيمان المؤمنين وجهادهم في سبيل الله، وقد كان المشركون يفتخرون بالسقاية والعمارة، ويفضلونهما على عمل المسلمين، فأنكر عليهم ذلك ثم صرح سبحانه بالمفاضلة بين الفريقين، وتفاوتهم وعدم استوائهم، فقال: ﴿لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ﴾ تعالى؛ أي:
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
172
لا تساوي تلك الطائفة الكافرة الساقية للحجيج العامرة للمسجد الحرام هذه الطائفة المؤمنة بالله واليوم الآخر، المجاهدة في سبيله، ودل سبحانه بنفي الاستواء على نفي الفضيلة التي يدعيها المشركون؛ أي: إذا لم تبلغ أعمال الكفار إلى أن تكون مساوية لأعمال المسلمين.. فكيف تكون فاضلة عليها كما يزعمون؟!
أي: لا يساوي الفريق الأول الفريق الثاني، لا في صفته، ولا في عمله في حكم الله، ولا في مثوبته وجزائه عليه، لا في الدنيا ولا في الآخرة، فضلًا عن أن يفضله كما يزعم كبراء مشركي قريش، الذين كانوا يتبجحون بخدمة البيت ويستكبرون على الناس بها.
ثم حكم عليهم بالظلم، وأنهم مع ظلمهم بما هم فيه من الشرك لا يستحقون الهداية من الله سبحانه، حيث قال: ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾؛ أي: لا يهديهم إلى الحق في أعمالهم، ولا إلى الحكم العدل في أعمال غيرهم، إذ ليس من سننه تعالى في أخلاق البشر وأعمالهم أن يهدي الظالم إلى شيء من ذلك، ومن أقبح الظلم تفضيل خدمة حجارة البيت، وحفظ مفتاحه، وسقاية الحاج على الإيمان باللهِ وحده، إذ به تطهر الأنفس من أدناس الشرك وخرافاته، وعلى الإيمان باليوم الآخر الذي يزع النفس عن البغي والظلم، ويحبب إليها الحق والعدل، ويرغبها في الخير وعمل البر، ابتغاء مرضاة الله تعالى، لا للفخر والرياء، وعلى الجهاد في سبيل الله بالنفس والمال لإحقاق الحق وإبطال الباطل.
وقرأ الجمهور (١): ﴿سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ وهما مصدران كما مرَّ، وقرأ عبد الله بن الزبير والباقر وأبو حيوة وابن أبي وجرة السعديُّ وسعيد بن جبير: ﴿سُقاةَ الحاجِّ وعَمَرَةَ المسجدِ الحرامِ﴾ جمع ساق كرام ورماة وجمع عامر، كصانع وصنعة، وكامل وكملة إلا أن ابن جبير نصب المسجد على إرادة
(١) البحر المحيط.
173
التنوين في عمرة، وقرأ الضحاك: ﴿سُقاية﴾ بضم السين ﴿وعمرة﴾ بنى الجمع على فعال، كرخل ورخال الرخل: الأنثى من أولاد الضأن وكان المناسب أن يكون بغيرها، لكنه أدخل الهاء كما دخلت في حجارة.
٢٠ - ثم صرح بالفريق الفاضل، وبين مراتب فضلهم إثر بيان عدم استوائهم هم والمشركين الظالمين، فقال: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسوله، وبجميع ما يجب الإيمان به، مبتدأ. ﴿وَهَاجَرُوا﴾؛ أي: فارقوا أوطانهم من مكة إلى المدينة، طلبًا لرضا الله ورسوله ﴿وَجَاهَدُوا﴾ الكافر ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾؛ أي في طاعته لإعلاء كلمته، لا للحمية والوطنية باذلين ﴿بِأَمْوَالِهِمْ﴾ النفيسة ﴿وَأَنْفُسِهِمْ﴾ العزيزة ﴿أَعْظَمُ دَرَجَةً﴾ خبر المبتدأ؛ أي: أعظم درجة ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ تعالى، وأعلى مقامًا في مراتب الفضل، والكمال في حكم الله، وأكبر مثوبة من أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد، اللذين رأى بعض المسلمين أو المشركون أنهما من أفضل القربات بعد الإِسلام أو أنهما أفضل من الإِسلام؛ أي: أحق بما لديه من الخير من تلك الطائفة المشركة المفتخرة بأعمالها المحبطة الباطلة؛ أي: فالذين نالوا فضل الهجرة والجهاد، بنوعيه النفسي والمالي، أعلى مرتبة وأعظم كرامةً ممن لم يتصف بهما، كائنًا من كان، ويدخل في ذلك أهل السقاية والعمارة ﴿وَأُولَئِكَ﴾ المؤمنون - المهاجرون المجاهدون ﴿هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ بمثوبة الله تعالي وكرامته، دون من لم يكن مستجمعًا لهذه الصفات الثلاث، وإن سقى الحاج وعمر المسجد الحرام، فإن ثواب المؤمن على هذين العملين دون ثوابه على الهجرة والجهاد، ولا ثواب للكافر عليهما في الآخرة، فإن الكفر بالله ورسله واليوم الآخر يحبط الأعمال البدنية، وإن فرض فيها حسن النية.
٢١ - ثم بين سبحانه ذلك الفوز العظيم بقوله: ﴿يُبَشِّرُهُمْ﴾؛ أي: يبشر هؤلاء المؤمنين المهاجرين المجاهدين ﴿رَبُّهُمْ﴾ سبحانه وتعالى ﴿بِرَحْمَةٍ مِنْهُ﴾ تعالى، أي: بمنفعة خالصة دائمة، مقرونة بالتعظيم من قبل الله تعالى، جزاء على إيمانهم الخالص ﴿و﴾ بـ ﴿رضوان﴾ كامل لا يشوبه سخط على جهادهم الذي فيه بذل الأنفس والأموال ﴿و﴾ بـ ﴿جناتٍ﴾؛ أي: بساتين ﴿لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ﴾؛ أي: دائم في مقابلة هجرتهم.
أي (١): يبشرهم ربهم في كتابه على لسان رسوله وعلى لسان ملائكته حين الموت برحمةٍ منه ورضوان كامل من لدنه، لا يشوبه سخط، وجنات تجري من تحتها الأنهار، ولهم فيها نعيم مقيم لا يزول على عظمه وكماله حال، كونهم
٢٢ - ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ أي: ماكثين في تلك الجنات مكثًا مؤبَّدًا، لا نهاية له، لا يموتون ولا يخرجون منها، والتنوين في الرحمة والرضوان والجنات للتعظيم والنعيم (٢) المقيم الدائم المستمرَّ، الذي لا يفارق صاحبه، وذكر الأبد بعد الخلود، تأكيدٌ له، وجملة قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ مؤكدة لما قبلها مع تضمنها للتعليل؛ أي: أعطاهم الله تعالى هذه الأجور العظيمة، لكون الأجر الذي عنده عظيمًا، يهب منه ما يشاء لمن يشاء، وهو ذو الفضل العظيم.
ولمَّا وصف (٣) الله سبحانه وتعالى المؤمنين بثلاث صفات: الإيمان والهجرة والجهاد بالنفس والمال.. قابلهم على ذلك التبشير بثلاث، وبدأ بالرحمة التي هي النجاة من النيران في مقابلة الإيمان، وثنى بالرضوان الذي هو نهاية الإحسان في مقابلة ترك الأوطان، ثم ثلث بالجنات التي هي المنافع العظيمة في مقابلة الجهاد الذي فيه بذل الأنفس والأموال، وإنما خصوا بالأجر العظيم؛ لأنَّ إيمانهم أعظم الإيمان.
وقرأ الأعمش وطلحة بن مصرف وحميد بن هلال (٤): ﴿يَبشُرهم﴾ بفتح الياء وضم الشين خفيفةً. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر: ﴿ورُضوان﴾ بضم الراء، وتقدم ذكر ذلك في أوائل آل عمران، وقرأ الأعمش: بضم الراء والضاد معًا. قال أبو حاتم: لا يجوز هذا. انتهى، وينبغي أن يجوز فقد قالت العرب: سلطان، بضم اللام، وأورده الصرفيون في أبنية الأسماء ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾؛ أي: إن ما عند الله من الأجر على الإيمان، وصالح العمل الذي من أشقه الهجرة والجهاد، عظيم لا يقدر قدره إلا الله الذي تفضل به ومنحه لعباده
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراح.
(٤) البحر المحيط.
المكرمين، ولا سيما على الإيمان الكامل، الباعث على هجر الوطن ومفارقة الأهل والسكن، وعلى إنفاق المال الذي هو أحب شيء إلى النفس، وعلى بذل النفس، التي هي أعز شيء على الإنسان.
فما أجدرهم أن يبشرهم بأنواع من الأجر والجزاء، ما بين روحي وجسماني:
فالأول: الرحمة والرضوان، والرضوان: هو نهاية الإحسان، وهو أعلى النعيم، وأكمل الجزاء، ما يدل على ذلك قوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ وما رواه الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - ﷺ -: "إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك، فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك، فيقولون: ربنا، وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا".
والثاني: هو النعيم المقيم في جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا.
٢٣ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسوله ﴿لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ﴾؛ أي: أقاربكم؛ أي: لا تجعلوا آباءكم وإخوانكم ﴿أَوْلِيَاءَ﴾ وأصدقاء وبطانةً لأنفسكم، تفشون إليهم أسراركم ﴿إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ﴾؛ أي: إن أحب الآباء والإخوان الكفر واختاروه ﴿عَلَى الْإِيمَانِ﴾ بالله ورسوله، وأقاموا عليه وتركوا الإيمان.
والمعنى (١): أي لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء، تنصرونهم في القتال، وتظاهرون لأجلهم الكفار، أو تطلعونهم على أسرار المؤمنين، وما يستعدون به لقتال المشركين، إن أصروا على الكفر وآثروه على الإيمان، فإن في ذلك قوةً
(١) المراغي.
للمشركين على قتال المؤمنين، دحضًا لشوكتهم، وقد حدث ذلك منذ ظهور الإِسلام إلى نزول هذه السورة، فقد كتب حاطب بن أبي بلتعة، وهو من أهل بدر، وقد استخفته نعرة القرابة إلى مشركي مكة خفيةً، يعلمهم بما عزم عليه النبي - ﷺ - من قتالهم؛ ليتخذ له بذلك يدًا عندهم يكافؤنه عليه بحماية ما كان له عندهم من قرابة، وفي ذلك نزلت سورة الممتحنة، للنهي عن موالاة أعداء الله وأعدائهم ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ﴾ أيها المؤمنون، وهم على تلك الحال في الدين ﴿فَأُولَئِكَ﴾ المتولون لهم ﴿هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ لأنفسهم ولجماعتهم، بوضعهم الموالاة في غير موضعها، فهم قد وضعوا الولاية في موضع البراءة والمودة في محل العداوة وقد حملهم على هذا الظلم نعرة القرابة وحمية الجاهلية، وذكر (١) الآباء والإخوان لأنهم أهل الرأي والمشورة، ولم يذكر الأبناء هنا لأنهم في الغالب تبع لآبائهم، وقرأ عيسى بن عمر: ﴿أن استحبوا﴾، بفتح الهمزة، جعله تعليلًا وغيره بكسرها جعله شرطًا.
والخطاب (٢) في هذه الآية للمؤمنين كافة وهو حكمٌ باقٍ إلى يوم القيامة، يدل على قطع الولاية بين المؤمنين والكافرين. وقالت طائفة من أهل العلم: إنها نزلت في الحض على الهجرة ورفض بلاد الكفر، فيكون الخطاب لمن كان من المؤمنين بمكة وغيرها من بلاد العرب، نهوا بأن يوالوا الآباء والإخوة، فيكونون لهم تبعًا في سكنى بلاد الكفر، ثم حكم على من يتولى من استحب الكفر على الإيمان، من الآباء والإخوان بالظلم، فدل ذلك على أن تولي من كان كذلك من أعظم الذنوب وأشدِّها. ولمَّا نزلت هذه الآية السابقة..
٢٤ - قال الذين أسلموا ولم يهاجروا: إن نحن هاجرنا.. ضاعت أموالنا وذهبت تجارتنا، وخربت دورنا وقطعنا أرحامنا، فأنزل الله سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ﴾؛ أي: قل يا محمَّد لهؤلاء الذين قالوا هذه المقالة: ﴿إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ﴾؛ أي: حواشيكم ﴿وَأَزْوَاجُكُمْ﴾؛ أي: زوجاتكم ﴿وَعَشِيرَتُكُمْ﴾؛ أي: أهلكم الأدنون الذين تعاشرونهم،
(١) البحر المحيط.
(٢) الشوكاني.
177
كالأعمام وأبنائهم، وقرأ الجمهور (١): ﴿وَعَشِيرَتُكُمْ﴾ بالإفراد بغير ألف. وقرأ أبو بكر عن عاصم، وأبو رجاء وأبو عبد الرحمن: ﴿وعشائركم﴾ بالألف على الجمع ﴿وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا﴾؛ أي: اكتسبتموها ﴿وَتِجَارَةٌ﴾؛ أي: أمتعة اشتريتموها للتجارة والربح ﴿تَخْشَوْنَ﴾ كسادها؛ أي: عدم رواجها وربحها بفراقكم لها ﴿وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا﴾؛ أي: منازل تحبون الإقامة فيها ﴿أَحَبَّ إِلَيْكُمْ﴾؛ أي: أعجب عندكم ﴿مِنَ﴾ طاعة ﴿الله﴾ والهجرة إلى ﴿وَرَسُولِهِ﴾ - ﷺ -، بالحبِّ الاختياري والقراء على (٢) نصب ﴿أحبَّ﴾؛ لأنه خبر ﴿كان﴾ وكان الحجاج بن يوسف يقرأ: ﴿أحبُّ﴾ بالرفع ولحنه يحيى بن يعمر، وتلحينه إياه ليس من جهة العربية، وإنما هو لمخالفة إجماع القراء النقلة، وإلا فهو جائز في علم العربية على أن يضمر في ﴿كان﴾ ضمير الشأن. ويلزم ما بعدها بالابتداء والخبر، وتكون الجملة في موضع نصب على أنها خبر ﴿كان﴾ ﴿و﴾ من ﴿جهادٍ في سبيله﴾؛ أي: في طاعته ﴿فَتَرَبَّصُوا﴾؛ أي: فانتظروا عذاب الله، مقيمين بمكة ﴿حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿بِأَمْرِهِ﴾ أي: بقضائه فيكم وهو عقوبته التي تحل بكم عاجلًا أو آجلًا، وهذا أمر تهديد وتخويف، وقال مجاهد ومقاتل: بفتح مكة، وفيه بُعد، فقد روي أن هذه السورة نزلت بعد الفتح، ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾؛ أي: لا يرشد القوم الخارجين عن طاعته إلى طريق الضلال، وفي هذا دليلٌ على أنه إذا وقع تعارض بين مصالح الدين ومصالح الدنيا.. وجب على المسلم ترجيح مصالح الدين على مصالح الدنيا، ليبقى الدين سليمًا.
ومعنى الآية (٣): قل لهم يا محمَّد: وإن كنتم تفضلون حظوظ الدنيا وشهواتها، من الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة والأموال، والتجارة على حب الله ورسوله، والجهاد في سبيله الذي وعدتم عليه أنواع السعادة الأبدية في الآخرة.. فانتظروا حتى يأتي أمر الله؛ أي: عقوبته التي تحل بكم عاجلًا أو آجلًا.
(١) البحر المحيط.
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
178
وقد ذكر سبحانه الأمور الداعية إلى مخالطة الكفار وحصرها في أربعة:
١ - مخالطة الأقارب، وذكر منهم الآباء والأبناء والإخوان والأزواج، ثم ذكر الباقي بلفظ العشيرة.
٢ - الميل إلى إمساك الأموال المكتسبة.
٣ - الرغبة في تحصيل الأموال وتثميرها بالتجارة.
٤ - الرغبة في الأوطان والدور التي بنيت للسكنى.
وخلاصة ذلك: إن كانت رعاية هذه المصالح الدنيوية أولى عندكم من طاعة الله وطاعة رسوله، ومن المجاهدة في سبيله.. فتربصوا بما تحبون حتى يأتي الله بعقوبة من عنده عاجلة أو آجلة.
وبتفصيل ما تقدم في الآية نجد أنها حوت أمورًا ثمانية من أفضل ما يحب:
١ - حب الأبناء للآباء وهو غريزيٌّ في النفوس، فالولد بضعة من أبيه يرث بعض صفاته وطبائعه، من جسمية وخلقية، وقد كان العرب يتفاخرون بآبائهم في أسواقهم وفي معاهد الحج، كما قال تعالى حاثًّا على ذكره: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾.
٢ - حب الآباء للأبناء وهو غريزيٌّ أيضًا، وحب الوالد للولد أقوى وأبقى من عكسه، فهو يحرص على بقائه كما يحرص على نفسه، أو أشد، ويحرم نفسه كثيرًا من الطيبات إيثارًا له بها في حاضر أمره ومستقبله، ويكابد الأهوال، ويركب الصعاب، ويقوم بتربيته وتعليمه، إذ هو مناط الآمال وزينة الحياة، كما قال تعالى: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾.
٣ - حب الإخوة وهو يلي في المرتبة حب البنوة والأبوة، وهو حب يقتضيه التناصر والتعاون في الكفاح في الحياة والبيوت التي سلمت فطرة أهلها وكرمت أخلاقهم، يحبون إخوتهم كأنفسهم وأولادهم، ويوقرون كبيرهم ويرحمون
179
صغيرهم، ويكفلون من تركه أبوه صغيرًا فيتربى مع أولادهم كأحدهم.
٤ - حب الزوجة، وبالزوجية يتحد بشران، يتمم وجود كل منهما وجود الآخر، وينتجان بشرًا مثلهما، ومن ثم امتن الله علينا به فقال: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾.
٥ - حب العشيرة، وهو حب عصبية وتعاون وولاية ونصر، في مواطن القتال والنزال، والذود عن الحمى والحريم، وهو يكون على أشده في أهل البداوة ومن على مقربة منهم من أهل الحضر.
٦ - حب الأموال المقترفة؛ أي: المكتسبة، وهو أقوى من حب الأموال الموروثة؛ لأنَّ عناء النفس في جمعها يجعل لها في قلبه منزلة لا تكون لما يجيء من المال عفوًا.
٧ - حب التجارة التي يخشى كسادها في حال الحرب، وقد كان لبعض المسلمين من أهل مكة تجارة يخشون كسادها في ذلك الحين؛ لأن أكثر مستهلكيها كانوا من المشركين، وكانت أسواقها تنصب في موسم الحج، وقد منع منه المشركون بنص الآيات السابقة واللاحقة.
٨ - حب المساكن الطيبة المرضية، وقد كان لبعض المسلمين دور حسنة في مكة، كانوا يتمتعون فيها بالإقامة والسكن، لما فيها من المرافق وأسباب الراحة.
فهذه الثمانية الأنواع من الحب تجعل القتال مكروهًا مبغوضًا لدى النفوس، فوق ماله من بغض بمقتضى ذاته، كما قال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ﴾.
أما حبه تعالى: فيجب أن يكون فوق هذه الأنواع لفضله وإحسانه بالإيجاد والإعدام، وتسخير منافع الدنيا للناس، وهو يتفاوت بتفاوت معارف الإنسان في آلاء الله في خلقه، وإدراك ما فيها من الإبداع والإتقان ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾.
180
وكذلك حب رسوله، يجب أن يكون فوق هذه أيضًا فإنه - ﷺ - كان المثل الأعلى في أخلاقه وآدابه، وقد أرسله الله تعالى هدايةً للعالمين إلى يوم الدين.
قوله: ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾؛ أي: الخارجين من حدود الدين والشريعة، ومن سلامة الفطرة إلى فساد الطباع، ومن نور العقل إلى ظلمة الجهل والتقليد.
وقد جرت سنته تعالى أن يكون الفاسقون محرومين من الهداية الفطرية التي يهتدي إلى معرفتها الإنسان بالعقل السليم والوجدان الصحيح، ومن ثم هم يؤثرون حب القرابة والمنفعة الطارئة كالمال والتجارة على حب الله ورسوله والجهاد في سبيله.
هذا وقد جاءت أحاديث كثيرة في فضل حب الله ورسوله - ﷺ -:
منها: ما رواه الشيخان من حديث أنس مرفوعًا: "ثلاث من كن فيه.. وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرءَ لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار".
وعنه أيضًا: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين".
والوسيلة إلى هذه المعرفة والحب كثرة الذكر والفكر وتدبر القرآن والتزام أحكام الشرع، والذكر الحق: هو ذكر القلب مع حسن النية وصحة القصد، وتأمُّل سنن الله وآياته في الخلق، وأن تذكر حين رؤية كل شيء من صنع الله تعالى وسماع كل صوت من مخلوقات الله أنه يسبح بحمده تعالى، ويدل على قدرته وحكمته ورحمته.
ومن أقام فرائض الله كما أمر وترك معاصيه كما نهى.. فإنه يصل بفضل الله تعالى إلى المقام الذي أشار إليه في الحديث القدسي: "وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضه عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته.. كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصِر به، ويده التي
181
يبطش بها، ورجله التي يمشي بها" رواه البخاري.
الإعراب
﴿أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣)﴾.
﴿أَلَا﴾ حرف تحضيض مضمَّن معنى التوبيخ ﴿تُقَاتِلُونَ قَوْمًا﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة ﴿نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول والجملة في محل النصب صفة ﴿قَوْمًا﴾ ﴿وَهَمُّوا﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿نَكَثُوا﴾ ﴿بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿هموا﴾ ﴿وَهُمْ﴾ مبتدأ ﴿بَدَءُوكُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول ﴿أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ ظرف، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿بدؤوا﴾ وجملة ﴿بدؤوا﴾ في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب حال من واو ﴿هموا﴾ ﴿أَتَخْشَوْنَهُمْ﴾ ﴿الهمزة﴾ للاستفهام التوبيخي مضمن معنى الإنكار ﴿تخشوهم﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. ﴿فَاللَّهُ أَحَقُّ﴾: مبتدأ وخبر و ﴿الفاء﴾: عاطفة مضمنة معنى التعليل، والجملة الاسمية معطوفة على جملة ﴿أَتَخْشَوْنَهُمْ﴾ على كونها معلَّلة لها ﴿أَنْ تَخْشَوْهُ﴾ ناصب وفعل وفاعل ومفعول، والجملة في تأويل مصدر بدل اشتمال من المبتدأ؛ أي: فخشية الله أحق وأجدر بكم ﴿إن﴾ حرف شرط ﴿كُنْتُمْ﴾ فعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ ﴿إِن﴾ ﴿مُؤْمِنِينَ﴾ خبر ﴿كان﴾ وجواب ﴿إنْ﴾ الشرطية معلوم مما قبلها، تقديره: إن كنتم مؤمنين.. فاخشوا الله تعالى. وجملة ﴿إِن﴾ الشرطية مستأنفة.
﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥)﴾.
﴿قَاتِلُوهُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول والجملة مستأنفة ﴿يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ﴾ فعل ومفعول وفاعل مجزوم بالطلب السابق، والجملة جملة جوابية، لا محل لها من
182
الإعراب ﴿بِأَيْدِيكُمْ﴾ جار ومجرور، متعلق بـ ﴿يُعَذِّبْهُمُ﴾ ﴿وَيُخْزِهِمْ﴾ فعل ومفعول معطوف على ﴿يُعَذِّبْهُمُ﴾ وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾ ﴿وَيَنْصُرْكُمْ﴾ فعل ومفعول معطوف عليه أيضًا وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾ ﴿عَلَيْهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿ينصركم﴾ ﴿وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ﴾ فعل ومفعول ومضاف إليه معطوف عليه أيضًا ﴿مُؤْمِنِينَ﴾ صفة ﴿قَوْمٍ﴾ وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾. ﴿وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ﴾ فعل ومفعول ومضاف إليه معطوف عليه أيضًا، وفاعله ضمير يعود على الله ﴿وَيَتُوبُ اللَّهُ﴾ فعل وفاعل والجملة مستأنفة ﴿عَلَى مَنْ﴾ جار ومجرور متعلق بيتوب ﴿يَشَاءُ﴾ فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾ والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: من يشاء التوبة عليه ﴿وَاللَّهُ﴾ مبتدأ ﴿عَلِيمٌ﴾ خبر أول ﴿حَكِيمٌ﴾ خبر ثان والجملة مستأنفة.
﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٦)﴾.
﴿أَمْ﴾ منقطعة بمعنى الهمزة التي للاستفهام الإنكاري، وبل التي للإضراب الانتقالي ﴿حَسِبْتُمْ﴾ فعل وفاعل والجملة مستأنفة ﴿أَنْ تُتْرَكُوا﴾ ناصب وفعل وفاعل، والجملة في تأويل مصدر ساد (١) مسد مفعولي حسب تقديره: بل أظننتم ترككم. ﴿وَلَمَّا﴾ ﴿الواو﴾ حالية ﴿لَمَّا﴾ حرف نفي وجزم ﴿يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ﴾ فعل وفاعل ومفعول مجزوم بـ ﴿لمَّا﴾ والجملة في محل النصب، حال من واو ﴿تُتْرَكُوا﴾ ﴿جَاهَدُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول ﴿مِنْكُمْ﴾ جار ومجرور حال من واو ﴿جَاهَدُوا﴾ ﴿وَلَمْ يَتَّخِذُوا﴾ جازم وفعل وفاعل معطوف على ﴿جَاهَدُوا﴾ على كونها صلة الموصول، أو في محل النصب حال من واو ﴿جَاهَدُوا﴾ تقديره: ﴿جَاهَدُوا﴾ حال كونهم غير متخذين وليجة ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿يَتَّخِذُوا﴾ أو في محل المفعول الثاني إن كان الاتخاذ بمعنى التصيير ﴿وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ﴾ معطوفان على الجلالة
(١) إعراب النحاس.
183
﴿وَلِيجَةً﴾ مفعول به، أو مفعول أول ﴿وَاللَّهُ﴾ مبتدأ ﴿خَبِيرٌ﴾ خبره ﴿بِمَا﴾ متعلق بـ ﴿خَبِيرٌ﴾ ﴿تَعْمَلُونَ﴾ فعل وفاعل صلة بـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: بما تعملونه.
﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (١٧)﴾.
﴿مَا﴾ نافية ﴿كَانَ﴾ فعل ماض ناقص ﴿لِلْمُشْرِكِينَ﴾ جار ومجرور خبر مقدم لـ ﴿كَانَ﴾ ﴿أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ﴾ ناصب وفعل وفاعل ومفعول ومضاف إليه والجملة الفعلية في تأويل مصدر مرفوع على كونه اسمًا مؤخرًا لـ ﴿كَانَ﴾ تقديره: ما كان عمارة مساجد الله كائنة للمشركين مستحقةً لهم وجملة ﴿كَانَ﴾ مستأنفة ﴿شَاهِدِينَ﴾ حال من واو ﴿يَعْمُرُوا﴾ ﴿عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿شَاهِدِينَ﴾ ﴿بِالْكُفْرِ﴾ جار ومجرور متعلق به أيضًا ﴿أُولَئِكَ﴾ مبتدأ ﴿حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ فعل وفاعل والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة ﴿وَفِي النَّارِ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة ﴿في النار﴾: متعلق بـ ﴿خَالِدُونَ﴾ ﴿هُمْ﴾ مبتدأ ﴿خَالِدُونَ﴾ خبره، والجملة الاسمية معطوفة على جملة أولئك.
﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ﴾.
﴿إِنَّمَا﴾ أداة حصر ﴿يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ﴾ فعل ومفعول ومضاف إليه ﴿مَنْ﴾ موصولة في محل الرفع فاعل، والجملة الفعلية مستأنفة ﴿آمَنَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾ والجملة صلة الموصول ﴿بِاللَّهِ﴾ متعلق بـ ﴿آمَنَ﴾ ﴿وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ معطوف على الجلالة ﴿وَأَقَامَ الصَّلَاةَ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾ والجملة معطوفة على جملة ﴿آمَنَ﴾ وكذلك جملة ﴿وَآتَى الزَّكَاةَ﴾ معطوفة عليه ﴿وَلَمْ يَخْشَ﴾ جازم وفعل مجزوم وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾ والجملة معطوفة على جملة ﴿آمَنَ﴾ ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ ﴿اللَّهَ﴾ مفعول به.
184
﴿فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾.
﴿فَعَسَى﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة مضمنة معنى التعليل أو استئنافية ﴿عَسَى﴾ فعل ماض ناقص من أفعال الرجاء ﴿أُولَئِكَ﴾ اسمها ﴿أَنْ يَكُونُوا﴾ ناصب وفعل ناقص واسمه ﴿مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾ خبره وجملة ﴿يَكُونُوا﴾ مع أن المصدرية في تأويل مصدر منصوب على كونه خبر ﴿عَسَى﴾ ولكنه في تأويل اسم الفاعل، تقديره: عسى أولئك كونهم مهتدين؛ أي: عسى أولئك كائنين من المهتدين، والمعنى: حق كونهم من المهتدين، وجملة ﴿عَسَى﴾ معطوفة على جملة قوله ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ﴾ أو مستأنفة.
﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩)﴾.
﴿أَجَعَلْتُمْ﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري ﴿جعلتم﴾ فعل وفاعل والجملة مستأنفة ﴿سِقَايَةَ الْحَاجِّ﴾ مفعول أول ومضاف إليه ﴿وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ معطوف عليه ﴿كَمَنْ﴾ جار ومجرور في محل المفعول الثاني، لـ ﴿جعل﴾ ولكنه على تقدير مضاف كما مر في بحث التفسير؛ أي: أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، كائنين كإيمان من آمن بالله ﴿آمَنَ﴾ فعل ماض وفاعله ضمير يعود على ﴿بِاللَّهِ﴾ متعلق به ﴿وَالْيَوْمِ﴾ معطوف على الجلالة ﴿الْآخِرِ﴾ صفة لـ ﴿اليوم﴾ والجملة الفعلية صلة ﴿من﴾ الموصولة ﴿وَجَاهَدَ﴾ فعل ماض ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ متعلق به، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾ والجملة معطوفة على جملة ﴿آمَنَ﴾ ﴿لَا يَسْتَوُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ متعلق به ﴿وَاللَّهُ﴾ مبتدأ ﴿لَا يَهْدِي الْقَوْمَ﴾ فعل ومفعول ﴿الظَّالِمِينَ﴾ صفة لـ ﴿الْقَوْمَ﴾ وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾ والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة.
﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (٢٠)﴾.
﴿الَّذِينَ﴾ مبتدأ ﴿آمَنُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول {وَهَاجَرُوا
185
وَجَاهَدُوا} معطوفان عليه ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿جاهدوا﴾ ﴿بِأَمْوَالِهِمْ﴾ متعلق به أيضًا ﴿وَأَنْفُسِهِمْ﴾ معطوف على ﴿أموالهم﴾ ﴿أَعْظَمُ﴾ خبر المبتدأ ﴿دَرَجَةً﴾ تمييز محول عن المبتدأ، منصوب باسم التفضيل ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿أَعْظَمُ﴾ والجملة الاسمية مستأنفة ﴿وَأُولَئِكَ﴾ مبتدأ ﴿هُمُ﴾ ضمير فصل ﴿الْفَائِزُونَ﴾ خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة التي قبلها.
﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢)﴾.
﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ﴾ فعل ومفعول وفاعل والجملة مستأنفة ﴿بِرَحْمَةٍ﴾ متعلق ﴿يُبَشِّرُهُمْ﴾ ﴿مِنْهُ﴾ صفة الرحمة ﴿وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ﴾ معطوفان على رحمة ﴿لَهُمْ﴾ جار ومجرور خبر مقدم ﴿فِيهَا﴾ جار ومجرور حال من ﴿نَعِيمٌ﴾ وهو مبتدأ مؤخر ﴿مُقِيمٌ﴾ صفة له والجملة الاسمية في محل الجر صفة لجنات. ﴿خَالِدِينَ﴾ حال مقدرة من ضمير ﴿لَهُمْ﴾ أو من ضمير ﴿يُبَشِّرُهُمْ﴾ ﴿فِيهَاَ﴾ متعلق بـ ﴿خَالِدِينَ﴾ ﴿أَبَدًا﴾ منصوب على الظرفية، متعلق بـ ﴿خَالِدِينَ﴾ ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه ﴿عِنْدَهُ﴾ ظرف ومضاف إليه خبر مقدم ﴿أَجْرٌ﴾ مبتدأ مؤخر ﴿عَظِيمٌ﴾ صفة له، والجملة من المبتدأ والخبر في محل الرفع خبر ﴿إنَّ﴾ وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣)﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾ ﴿يا﴾ حرف نداء ﴿أَيُّ﴾ منادى نكرة مقصودة و ﴿الهاء﴾ حرف تنبيه زائد تعويضًا عما فات أي من الإضافة وجملة النداء مستأنفة ﴿الَّذِينَ﴾ اسم موصول في محل الرفع صفة لـ ﴿أي﴾ ﴿آمَنُوا﴾ فعل وفاعل والجملة صلة الموصول ﴿لَا تَتَّخِذُوا﴾ فعل وفاعل، مجزم بـ ﴿لا﴾ الناهية ﴿آبَاءَكُمْ﴾ مفعول أول، ومضاف إليه ﴿وَإِخْوَانَكُمْ﴾ معطوف عليه ﴿أَوْلِيَاءَ﴾ مفعول ثان، لـ ﴿تَتَّخِذُوا﴾ والجملة الفعلية جواب النداء ﴿إِنِ﴾ حرف شرط ﴿اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ﴾ فعل وفاعل
186
ومفعول، في محل الجزم بـ ﴿إنِ﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها ﴿على الإيمانِ﴾ متعلق بـ ﴿استحبوا﴾ لتضمينه معنى اختاروا، وجواب ﴿إنِ﴾ الشرطية معلوم مما قبلها، تقديره: إن استحبوا الكفر على الإيمان لا تتخذوهم أولياء، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية مستأنفة ﴿وَمَن﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية ﴿من﴾ اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو جملة الجواب أو هما على الخلاف المذكور في محله ﴿يتولهم﴾ فعل ومفعول، مجزوم بـ ﴿من﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾ ﴿منكم﴾ جار ومجرور حال من فاعل ﴿يتولهم﴾ ﴿فَأولئكَ﴾: ﴿الفاء﴾ رابطة لجواب ﴿من﴾ الشرطية وجوبًا ﴿أولئك﴾ مبتدأ ﴿هُمُ﴾ ضمير فصل ﴿الظالمون﴾ خبر، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها وجملة ﴿من﴾ الشرطية مستأنفة.
﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ﴾.
﴿قل﴾ فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد ﴿إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ...﴾ إلى آخر الآية، مقول محكي لـ ﴿قُلْ﴾ والجملة الفعلية مستأنفة. وإن شئت قلت ﴿إن﴾ حرف شرط ﴿كَانَ﴾ في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية ﴿آبَاؤُكُمْ﴾ اسمها ﴿وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ﴾ معطوفات على ﴿آبَاؤُكُمْ﴾ ﴿اقْتَرَفْتُمُوهَا﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع صفة لـ ﴿أموال﴾ ﴿وَتِجَارَةٌ﴾: معطوف عليه أيضًا ﴿تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع صفة لـ ﴿تجارة﴾ ﴿أَحَبَّ﴾: خبر كان ﴿إليكم﴾: متعلق به ﴿من الله﴾ متعلق به أيضًا ﴿ورسوله﴾: معطوف على الجلالة ﴿وَجِهَادٍ﴾: معطوف على الجلالة أيضًا ﴿في سبيله﴾: متعلق بـ ﴿وَجِهَادٍ﴾.
﴿فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾.
﴿فَتَرَبَّصُوا﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية ﴿فَتَرَبَّصُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل الجزم ﴿إن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها. وجملة ﴿إن﴾
187
الشرطية في محل النصب مقول لـ ﴿قُلْ﴾ ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية ﴿يَأْتِيَ اللَّهُ﴾ فعل وفاعل منصوب بـ ﴿أن﴾ مضمرة وجوبًا بعد ﴿حَتَّى﴾ بمعنى: إلى ﴿بِأَمْرِهِ﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يَأْتِيَ﴾ والجملة الفعلية مع ﴿أن﴾ المضمرة في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿حَتَّى﴾ بمعنى: إلى، تقديره: إلى إتيان الله ﴿بِأَمْرِهِ﴾ الجار والمجرور متعلق بـ ﴿تربصوا﴾ ﴿وَاللَّهُ﴾ مبتدأ ﴿لَا يَهْدِي الْقَوْمَ﴾ فعل ومفعول ﴿الْفَاسِقِينَ﴾ صفة لـ ﴿الْقَوْمَ﴾ وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾ والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة.
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ﴾ يقال: هَمَّ بالشيء يهم همًّا - من باب رد - إذا أراده. ﴿أَتَخْشَوْنَهُمْ﴾ أصله أتخشيونهم تحركت الياء وانفتح ما قبلها، قلبت ألفًا فالتقى ساكنان، ثم حذفت الألف لبقاء دالها، فصار تخشون بوزن تفعون ﴿غَيْظَ قُلُوبِهِمْ﴾ وفي "المختار" الغيظ غضب كامن للعجز، تقول: غاظه: من باب باع فهو مغيظٌ، انتهى.
﴿وَلِيجَةً﴾ وفي "المصباح" ولج الشيء في غيره يلج - من باب وعد - ولوجًا دخل، وأولجته إيلاجًا أدخلته، والوليجة البطانة، اهـ ويراد بها هنا بطانة السوء من المنافقين والمشركين، وفي "السمين" والوليجة فعيلة، من الولوج، وهو الدخول والوليجة من يداخلك في باطن أمورك، وقال أبو عبيدة: كل شيء أدخلته في شيء وليس منه، فهو وليجة، والرجل في القوم وليس منهم يقال له: وليجة ويستعمل بلفظ واحد للمفرد والمثنى والمجموع، وقد يجمع على ولائج وولج، كصحيفة وصحائف وصحف اهـ.
﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ﴾ المساجد جمع مسجد: وهو في الأصل مكان السجود، ثم صار علمًا على البيت الذي يعبد الله وحده فيه، كما قال: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (١٨)﴾ وعمارة المسجد، تطلق تارةً على لزومه والإقامة فيه للعبادة، أَو لخدمته بتنظيفه أو ترميمه، أو نحو ذلك، وتطلق أخرى على زيارته للعبادة فيه، ومنها: النسك المخصوص المسمى
188
بالعمرة، وفي "المصباح": عمرت الدار عمرًا، من باب قتل، بنيتها والاسم العِمارة بالكسر، اهـ وفي "المختار": وعمرت الخراب عمرًا، من باب كتب فهو عامر؛ أي: معمور، اهـ.
﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ السقاية: الموضع الذي يسقى فيه الماء في المواسم وغيرها، ولكن المراد بها هنا المصدر؛ أي: إسقاء الحجاج، وإعطاء الماء لهم، وسقاية العباس موضع بالمسجد الحرام، يستقي فيه الناس، وهو حجرة كبيرة في جهة الجنوب من بئر زمزم، لا تزال ماثلة إلى الآن، ولكن جعلها السعوديون الآن تحت الأرض، وقد يراد (١) بالسقاية الحرفة، كالحجابة، وهي سدانة البيت، والسقاية والحجابة أفضل مآثر قريش، وقد أقرَّهما الإسلام وفي الحديث "كل مأثرة من مآثر الجاهلية تحت قدمي إلا سقاية الحاج وسدانة البيت" وقد كانت قريش تسقي الزبيب المنبوذ في الماء، وكان يليها العباس بن عبد المطلب في الجاهلية والإسلام وفي "السمين" قوله ﴿سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ﴾ الجمهور على قرائتهما مصدرين، على فعالة بكسر الفاء، كالصيانة والوقاية والتجارة، ولم تقلب الياء لتحصنها بتاء التأنيث، بخلاف رداءة وعباءة لطرو تاء التأنيث فيهما، وحينئذٍ فلا بد من حذف مضاف، إما من الأول، تقديره: أجعلتم أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، كمن آمن بالله، وإما من الثاني، تقديره: أجعلتم السقاية والعمارة كإيمان من آمن، أو كعمل من آمن، كما مر.
﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ﴾ و ﴿أَعْظَمُ﴾ (٢): اسم تفضيل يجوز أن يبقى هنا على بابه من التفضيل، ويكون ذلك على تقدير: اعتقاد المشركين بأنَّ في سقايتهم وعمارتهم فضيلةً، فخوطبوا على اعتقادهم، أو يكون التقدير: أعظم درجة من الذين آمنوا ولم يهاجروا، ولم يجاهدوا، وقيل: أعظم ليس على بابه، بل هو كقوله: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
189
﴿مُسْتَقَرًّا﴾ وكأنه قيل: عظيمون درجة، و ﴿عِنْدِ اللَّهِ﴾: بالمكانة لا بالمكان.
﴿إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ﴾ استحب كذا وأحبه بمعنى واحد فالسين والتاء فيه زائدتان ﴿الظَّالِمُونَ﴾ والظلم: وضع الشيء في غير موضعه اللائق به؛ لأنهم وضعوا المحبة في غير موضعها ﴿وَعَشِيرَتُكُمْ﴾ والعشيرة (١): الجماعة التي ترجع إلى عقد واحد، وعشيرة الرجل ذوو قرابته الأدنون الذين يعاشرونه، ومن شأنهم التعاون والتناصر، وهو اسم جمع، وقرأ أبو بكر وحماد: ﴿عشيراتكم﴾ بجمع السلامة، فقال الأخفش: لا تكاد العرب تجمع عشيرة على عشيرات، وإنما يجمعونها على عشائر جمع تكسير ﴿اقْتَرَفْتُمُوهَا﴾ والاقتراف: الاكتساب، يقال: اقترف إذا اكتسب، وأصله اقتطاع الشيء من مكانه، والتركيب يدور على الدنو، والكاسب يدني الشيء من نفسه ويدخله تحت ملكه، والتجارة: الأمتعة التي يشترونها ليربحوا فيها، وكسادها عدم نفاقها، لفوات وقت بيعها، بالهجرة ومفارقة الأوطان، يقال: كسد الشيء كسادًا وكسودًا إذا بار ولم يكن له نَفاق ﴿وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا﴾ جمع مسكن، وهو المنزل المتخذ سكنًا، والمراد بها هنا: المنازل التي تعجبهم وتميل إليها أنفسهم، ويرون الإقامة فيها أحب إليهم من المهاجرة إلى الله ورسوله والتربص الانتظار و ﴿أَمْرِه﴾ عقوبته عاجلًا أو أجلًا، كما مر ﴿الْفَاسِقِينَ﴾ وفي "التحرير" الفسق هنا: الكفر، ويدل عليه ما قابله من الهداية والكفر ضلال، والضلال: ضد الهداية، وإن كان ذلك في المؤمنين الذين لم يهاجروا، فيكون الفسق: الخروج عن الطاعة، فإنهم لم يمتثلوا أمر الله تعالى ولا أمر رسوله - ﷺ - في الهجرة.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات من ضروب البلاغة والفصاحة والبيان والبديع أنواعًا:
فمنها: التحضيض المضمن معنى التوبيخ في قوله: ﴿أَلَا تُقَاتِلُونَ﴾ وهو
(١) الشوكاني.
190
الطلب بحثٍّ وإزعاج، فالمعنى: قاتلوا قومًا... إلخ.
ومنها: ذكر اسم الجلالة مكان الضمير في قوله: ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ لتربية المهابة وإدخال الروعة في القلب.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿وَهُمْ بَدَءُوكُمْ﴾؛ أي: بالقتال؛ لأنه مجاز عن إعانتهم لبني بكر على خزاعة قال أبو السعود: الإعانة على القتال بإعطاء السلاح تسمى قتالًا مجازًا اهـ.
ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: ﴿أَتَخْشَوْنَهُمْ﴾ وفي قوله ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا﴾.
ومنها: الالتفات في قوله: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ﴾؛ لأنه كلام مستأنف، خوطب به المشركون التفاتًا من الغيبة في قوله: ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ﴾ وفيه أيضًا مجاز الحذف؛ لأنه على تقدير؛ أجعلتم أهل سقاية الحاج كما مر.
ومنها: طباق السلب في قوله: ﴿أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ﴾ وهو الجمع بين فعلين من نوع واحد، أحدهما منفي والآخر مثبت؛ لأن الأول هنا في قوة المنفي لدخول همزة الاستفهام الإنكاري عليه.
ومنها: مقابلة الجمع بالجمع في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ﴾؛ لأن المراد النهي لكل فرد من أفراد المخاطبين عن موالاة فرد من أفراد المشركين، بقضية مقابلة الجمع بالجمع الموجبة لانقسام الآحاد إلى الآحاد، كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾.
ومنها: مراعاة اللفظ تارةً والمعنى أخرى في قوله: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ﴾ فيه مراعاة لفظ (من) وقوله: ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ فيه مراعاة معناها.
ومنها: المزاوجة في قوله: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ...﴾ إلى آخر الآية وهي أن يزواج؛ أي: يقارن بين أمرين فأكثر في الشرط والجزاء.
191
ومنها: تعريف جزئي الكلام مع الإتيان بضمير الفصل، إفادة للحصر في قوله: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾؛ أي: هم الفائزون لا غيرهم.
ومنها: القصر في قوله: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ﴾ وفيه أيضًا تخصيص الصلاة والزكاة بالذِّكر، تفخيمًا لشأنهما، وإظهارا لفضلهما.
ومنها: التنكير في قوله: ﴿بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ﴾ للتفخيم والتعظيم؛ أي: برحمة لا يبلغها وصف واصف.
ومنها: الإتيان بصيغة الأمر مرادًا به التهديد والوعيد، في قوله: ﴿فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾ نظير قوله: ﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية، في قوله: ﴿لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ﴾ شبه الدوام بالإقامة، فاشتق منه مقيم بمعنى دائم، على طريقة الاستعارة التصريحية.
ومنها: الحذف والزيادة في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
192
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٧) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨) قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (٢٩) وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (٣٢) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٣٤) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (٣٥)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لمَّا ذكر فيما قبلها أنَّ (١) الخير
(١) المراغي.
193
والمصلحة للمؤمنين في ترك ولاية أولي القربى من الكافرين، وفي إيثار حب الله ورسوله - ﷺ -، والجهاد في سبيله على حب أولى القربى والعشيرة والمال والسكن ونحوها، مما يحب.. أبان فيها أن نصر الله للمؤمنين في المواطن الكثيرة، لم يكن بقوة العصبية، ولا بقوة المال، ولا بما يشترى به من الزاد والعتاد، بل كان بفضل الله عليهم بهذا الرسول، الذي جاءهم بذلك الدين القويم، وإن هزيمتهم وتوليهم يوم حنين، كان ابتلاءً لهم على عجبهم بكثرتهم، ورضاهم عنها، ونصرهم من بعد ذلك كان بعناية خاصة من لدنه، ليتذكروا أن عنايته تعالى للمؤمنين بالقوة المعنوية، لا بالكثرة العددية وما يتعلق بها. وقال أبو حيان (١): مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما قدم قوله: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ﴾ واستطرد بعد ذلك بما استطرد ذكرهم تعالى نصره إياهم في مواطن كثيرة. انتهى.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما أمر (٢) النبي - ﷺ - أبا بكر حين أمَّره على الحج سنة تسع من الهجرة أن يبلغ الناس، أنه لا يحج بعد هذا العام مشركٌ، ثم أمر عليًّا أن يتبع أبا بكر، فيقرأ على الناس أول سورة براءة يوم الحج الأكبر وينبذ إليهم عهدهم، وأن الله بريءٌ من المشركين ورسوله.. قال الناس: يا أهل مكة، ستعلمون ما تلقون من الشدة، لانقطاع السبل، وفقد الحمولات، فنزلت هذه الآية لدفع تلك الشبهة، فقال سبحانه: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ قال ابن عباس: كان المشركون يجيؤون إلى البيت. ويجيؤون معهم بالطعام، يتجرون فيه، فلما نهوا أن يأتوا البيت.. قال المسلمون: فمن أين لنا الطعام؟ فأنزل الله ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً...﴾ الآية، قال: فأنزل الله عليهم المطر وكثر خيرهم حين ذهب المشركون عنهم، وأسلم أهل اليمن، وجاءهم الناس من كل فج.
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
194
قوله تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر أحكام المشركين، في إظهار البراءة من عهودهم، وفي إظهار البراءة منهم في أنفسهم، وفي وجوب مقاتلتهم، وإبعادهم عن المسجد الحرام.. أردف ذلك بحكم قتال أهل الكتاب، وبيان الغاية منه، وفي ذلك توطئةٌ للكلام في غزوة تبوك مع الروم من أهل الكتاب والخروج إليها في زمن العسرة والقيظ - شدة الحر - وما يتعلق بها من فضيحة المنافقين وهتك حجب كفرهم، وتمحيص المؤمنين، وإن كان النبي - ﷺ - لم يقاتل فيها الروم، لما سيأتي.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لمَّا ذكر (١) في الآيات السابقة أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر على الوجه الصحيح.. أردف ذلك بشرح المجمل في هذه الآيات، فنقل عنهم، أنهم أثبتوا لله ابنًا، وهذا بمنزلة الشرك بالله، فإن طرق الشرك مختلفة، وأنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا، يحرمون ويحللون، وأنهم يسعون في إبطال الإسلام وإخفاء الدلائل الدالة على صدق رسوله، وصحة دينه.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لمَّا ذكر في الآيات السالفة أن اليهود والنصارى، اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله، وأنهم ما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا، فعبدوا غيره من دونه.. أردف ذلك بذكر سيرة جمهرة هؤلاء الرؤساء الدِّينيين في معاملاتهم مع الناس، ليعرف المسلمون حقيقة أحوالهم، والدواعي التي تحملهم على إطفاء نور الله، ببيان أن أكثرهم عباد شهوات وأرباب أهواء، وذوو أطماع وحرص على أموال الناس بالباطل، وأنه ما حملهم على مقاومة الإسلام إلا خوف ضياع تلك اللذات، وفوات تلك
(١) المراغي.
195
الشهوات، ثم أوعد الباخلين الذين يكنزون الذهب والفضة في صناديقهم ولا ينفقونها في سبل البر والخير بالعذاب الأليم، وفي نار جهنم يوم يحمى على تلك الأموال المكنوزة، فتصير كالنار التهابًا، ثم تكوى بها الجباه والجنوب والظهور، ويقال لهم: هذا جزاء صنيعكم في الدنيا، منعتموه البائس الفقير، لتتمتعوا به، فكان جزاؤكم أن صار وبالًا عليكم، وميسمًا تكتوون به على جنوبكم وظهوركم، فلم تنتفعوا به في دين ولا دنيا.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه (١) البيهقي في "الدلائل" عن الربيع بن أنس، أن رجلًا قال يوم حنين: لن نغلب من قلة، وكانوا اثني عشر ألفًا، فشق ذلك على رسول الله - ﷺ -، فأنزل الله ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ﴾ الآية.
قوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس، قال: كان المشركون يجيئون إلى البيت ويجيئون معهم بالطعام، يتجرون فيه، فلما نهوا أن يأتوا البيت.. قال المسلمون: من أين لنا الطعام؟ فأنزل الله: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾.
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير، قال: لما نزلت ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾.. شق ذلك على المسلمين، وقالوا: من يأتينا بالطعام والمتاع؟ فأنزل الله ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ وأخرج مثله عن عكرمة وعطية العوفي والضحاك وقتادة وغيرهم.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ...﴾ الآية، سبب نزولها (٢): ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس، قال: أتى رسول الله - ﷺ - سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى ومحمد بن دحية وشاس بن قيس ومالك بن الصيف، فقالوا: كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا، وأنت لا تزعم أن عزيرًا ابن الله؟ فأنزل الله في ذلك {وَقَالَتِ
(١) لباب النقول.
(٢) لباب النقول.
196
الْيَهُودُ...} الآية.
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ...﴾ الآيتين، سبب نزولهما (١): ما أخرجه البخاري عن زيد بن وهب، قال: مررت بالربذة فإذا أنا بأبي ذر رضي الله عنه فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ قال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم، فكان بيني وبينه في ذلك، وكتب إلى عثمان - رضي الله عنه - يشكوني، فكتب إليَّ عثمان أن أقدم المدينة فقدمتها. فأكثر عليَّ الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان، فقال لي: إن شئت تنحيت فكنت قريبًا، فذاك الذي أنزلني هذا المنزل، ولو أمروا عليَّ حبشيًّا.. لسمعت وأطعت.
التفسير وأوجه القراءة
٢٥ - وعزتي وجلالي ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى أيها المؤمنون ﴿فِي مَوَاطِنَ﴾ وأماكن ﴿كَثِيرَةٍ﴾ للحرب، توطنون فيها أنفسكم على لقاء عدوكم، وفي مشاهد تلتقون فيها أنتم وهم في صعيد واحد للطعان والنزال إحقاقًا وإظهارًا لدينه.
روى أبو يعلى عن جابر، أن عدد غزواته - ﷺ - إحدى وعشرون، قاتل بنفسه في ثمانٍ، منها: بدر، وأُحد، والأحزاب، والمصطلق، وخيبر، ومكة، وحنين، والطائف.
وبعوثه وسراياه ست وثلاثون، واختار جمع من العلماء، أن المغازي والسرايا كلها ثمانون ولم يقع في بعضها قتال، ونصرهم في كل قتال إما نصرًا كاملًا وهو الأكثر، وإما نصرًا مشوبًا بشيء من التربية على ذنوب اقترفوها، كما في أُحد إذ نصرهم أوَّلًا ثم أظهر عليهم العدو، لمخالفتهم أمر القائد الأعظم،
(١) البخاري.
197
في أهم أوامر الحرب، وهو حماية الرماة لظهورهم، وكما في حنين من الهزيمة في أثناء المعركة والنصر التام في آخرها.
﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ﴾؛ أي: ولقد نصركم الله سبحانه وتعالى أيضًا يوم قتالكم مع هوازن، في وادي حنين، فهوازن قبيلة حليمة السعدية، مرضعة رسول الله - ﷺ - وحنين اسم واد بين مكة والطائف، بينه وبين مكة ثمانية عشر ميلًا، وذلك لما فتح رسول الله - ﷺ - مكة وقد بقيت أيام من شهر رمضان.. خرج في شوال، في تلك السنة، وهي سنة ثمان من الهجرة، متوجهًا إلى حنين لقتال هوازن وثقيف، والظرف في قوله: ﴿إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾؛ أي: إذ أفرحت وبشرت أنفسكم ﴿كَثْرَتُكُمْ﴾؛ أي: كثرة عددكم وعُددكم بدل من يوم؛ أي: نصركم يوم حنين إذ أعجبت أنفسكم كثرة عددكم وعُددكم، إذ كنتم اثني عشر ألفًا، عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار الذين فتحوا بمكة، وألفان من الطلقاء، وهم الأسراء الذين أخذوا يوم فتح مكة وأطلقوا، وهم أسلموا بعد فتح مكة في هذه المدة القليلة، وكان الكفار من هوازن وثقيف أربعة آلاف فقط، ومعهم أمداد من سائر العرب، فقال قائل منكم - قيل اسمه سلمة بن سلامة الأنصاري - افتخارًا بكثرتكم: لن نغلب اليوم من قلة؛ أي: من أجلها؛ أي نحن كثيرون فلا نغلب، فأحزنت تلك الكلمة رسول الله - ﷺ -، فكانت الهزيمة عليكم؛ أي: فكانت الهزيمة عقوبة لكم على هذا الغرور والعجب، وتربيةً للمؤمنين حتى لا يغتروا بالكثرة مرةً أخرى ﴿فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ﴾، أي: فلم تدفع عنكم كثرتكم ﴿شَيْئًا﴾ من عار الغلب والهزيمة ولم تفدكم في مقاومة العدو ﴿وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ﴾ الواسعة من شدة الخوف ﴿بِمَا رَحُبَتْ﴾؛ أي: مع رحبها وسعتها، فالباء (١) بمعنى مع، و ﴿ما﴾ مصدرية والمعنى: إن الأرض مع كونها واسعة الأطراف ضاقت عليكم بسبب ما حل بكم من الخوف والوجل، فلم تجدوا وسيلةً للنجاة إلا الهرب والفرار من العدو ﴿ثُمَّ وَلَّيْتُمْ﴾؛ أي: انهزمتم حالة كونكم ﴿مُدْبِرِينَ﴾؛ أي: مولين أدباركم جاعلين لها إلى جهة عدوكم، لا تلوون على شيء، وثبت رسول الله - ﷺ -، وثبت
(١) الشوكاني.
198
طائفة قليلة منهم عمه العباس وأبو سفيان بن الحارث ثم تراجع المسلمون، فكان النصر والظفر لهم.
وقال البراء بن عازب (١): كانت هوازن رماة فلما حملنا عليهم.. انكشفوا وأكببنا على الغنائم، فاستقبلونا بالسهام وانكشف المسلمون عن رسول الله - ﷺ -، ولم يبق معه - ﷺ - إلا عمه العباس، وهو آخذ بلجام بغلته، وابن عمه أبا سفيان حرب بن الحارث بن عبد المطلب، وهو آخذ بركابه، وقد أسلم هو والعباس يوم الفتح، وهو - ﷺ - يركض بغلته الشهباء نحو الكفار، لا يبالي وهو يقول: "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب" ثم قال للعباس: "ناد المهاجرين والأنصار" وكان العباس رجلًا صيتًا، فجعل ينادي: يا عباد الله، يا أصحاب الشجرة، فجاء المسلمون حين سمعوا صوته عنقًا واحدًا، وأخذ رسول الله - ﷺ - بيده كفا من الحصى، فرماهم بها، وقال: "شاهت الوجوه" فما زال أمرهم مدبرًا وحدهم كليلًا حتى هزمهم الله تعالى، ولم يبق منهم يومئذٍ أحد إلا وقد امتلأت عيناه من ذلك التراب، فذلك قوله تعالى:
٢٦ - ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ﴾ أي: رحمته التي يحصل بها سكون وثبات وأمن ﴿عَلَى رَسُولِهِ﴾ - ﷺ - ﴿وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: أنزل ما يسكنهم فيذهب خوفهم حتى وقع منهم الاجتراء على قتال المشركين بعد أن ولوا مدبرين، والمراد بالمؤمنين، هم الذين لم ينهزموا، وقيل: الذين انهزموا، والظاهر جميع من حضر منهم؛ لأنهم ثبتوا بعد ذلك وقاتلوا وانتصروا؛ أي: ثم (٢) أفرغ الله سكينةً وطمأنينة من عنده على رسوله - ﷺ -، بعد أن عرض له الأسف والحزن على أصحابه، حين وقوع الهزيمة لهم، فما ازداد إلا ثباتًا وشجاعة وإقدامًا على العدو ﴿وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ الذين ثبتوا معه، وأحاطوا ببغلته الشهباء وعلى سائر المؤمنين الصادقين، فأذهب روعهم، وأزال حيرتهم، وأعاد إليهم ما كان قد زلزل من ثباتهم وشجاعتهم وخصوصًا حين سمعوا نداءه - ﷺ - ونداء عمه العباس إذ دعاهم بأمره.
(١) المراح.
(٢) المراغي.
﴿وَأَنْزَلَ﴾ الله تعالى مع هذه السكينة من السماء ﴿جُنُودًا﴾ من الملائكة ﴿لَمْ تَرَوْهَا﴾ بأبصاركم، بل وجدتم أثرها في قلوبكم بما عاد إليها من الثبات وشدة البأس، وهم الملائكة أنزلهم لتقوية قلوب المؤمنين، بإلقاء الخواطر الحسنة في قلوبهم، وإلقاء الرعب في قلوب المشركين، لا للقتال؛ لأن الملائكة لم تقاتل إلا في يوم بدر، ﴿وَعَذَّبَ﴾ أعداءكم ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالله ورسوله بالقتل والأسر والسبي، وهم قوم مالك بن عوف الدهماني، وقوم كنانة بن عبد يا ليل الثقفي ﴿وَذَلِكَ﴾ التعذيب بالقتل والأسر ﴿جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾ بالله ورسوله في الدنيا، ما داموا يستحبون الكفر على الإيمان، ويعادون أهله ويقاتلونهم عليه،
٢٧ - ﴿ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ التعذيب الذي وقع عليهم في الدنيا بالأسر والخذلان ﴿عَلَى مَنْ يَشَاءُ﴾ التوبة عليه من الكافرين فيهديهم إلى الإسلام إذا لم تحط بهم خطيئات الشرك وخرافاته، ولم يختم على قلوبهم بالإصرار على الجحود والتكذيب ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿غَفُورٌ﴾ لمن تاب ﴿رَحِيمٌ﴾ لمن آمن وعمل صالحًا؛ أي: وهو تعالى غفور لهم، يتجاوز عمّا سلف منهم من الكفر والمعاصي، رحيم بهم يتفضل عليهم، ويثيبهم بالأجر والجزاء.

فصلٌ في وفد هوازن وإسلامهم وغنائمهم


وروي عن المسور بن مخرمة وغيره، أن ناسًا منهم (١) جاؤوا رسول الله - ﷺ -، فبايعوه على الإسلام، وقالوا: يا رسول الله، أنت خير الناس، وأبو الناس، وقد سبي أهلونا وأولادنا، وأخذت أموالنا، فقال - ﷺ - "إن ما عندي ما ترون، إن خير القول أصدقه، اختاروا إما ذراريكم ونساءكم وإما أموالكم". قالوا: ما كنا نعدل بالأحساب شيئًا وهي مفاخر الآباء الذراري والنساء، فقام رسول الله - ﷺ -، فقال: "إن هؤلاء جاؤونا مسلمين، وإنّا خيرناهم بين الذراري والأموال، فلم يعدلوا بالأحساب شيئًا، فمن كان بيده أسير، وطابت نفسه أن يرده.. فشأنه - أي: فيلزم شأنه - ومن لا.. فليعطنا، وليكن قرضًا علينا حتى نصيب شيئًا فنعطيه مكانه"،
(١) المراغي.
قالوا: قد رضينا وسلمنا، فقال - ﷺ -: "إنا لا ندري، لعل فيكم من لا يرضى، فمروا عرفائكم، فليرفعوا ذلك إلينا" فرفعت إليه العرفاء أنهم قد رضوا، ولم تقع غنيمة أعظم من غنيمتهم، فقد كان فيها من الإبل اثنا عشر ألفًا، ومن الغنم ما لا يحصى عددًا، ومن الأسرى ستة آلاف من نسائهم وصبيانهم، وكان فيها غير ذلك، ووقعة حنين مذكورة في كتب السير والحديث بطولها وتفاصيلها، فلا نطيل الكلام بذلك.
٢٨ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ﴾ وصدقوا بما جاء به محمد - ﷺ -، ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾؛ أي: أنجاس فاسدوا الاعتقاد، يشركون بالله ما لا يضر ولا ينفع، فيعبدون الرجس من الأوثان والأصنام، ويدينون بالخرافات والأوهام، ويأكلون الميتة والدم، وهي أقذار حسية، ويستحلون القمار والزنا، ويسبيحون الأشهر الحرم، وهي: أرجاس معنوية فمن أجل هذا ﴿فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾؛ أي: بعد هذه السنة التي حصل فيها النداء بالبراءة من المشركين، وهي السنة التاسعة من الهجرة؛ أي: لا تمكنوهم بعد هذا العام، أن يدخلوا المسجد الحرام بدخول أرض الحرم، فضلًا عن دخول البيت نفسه وطوافهم فيه عراةً، يشركون بربهم في التلبية، وإذا صلوا.. لم تكن صلاتهم إلا مكاءً وتصدية.
تنبيه: واعلم أن بلاد الإسلام في حق الكفار ثلاثة أقسام (١):
١ - الحرم: فلا يجوز لكافر أن يدخله بحال، لظاهر الآية، وبذلك قال الشافعي وأحمد ومالك: فلو جاء رسول من دار الكفر والإمام في الحرم.. لا يأذن له في دخوله الحرم، بل يخرج إليه بنفسه، أو يبعث إليه من يسمع رسالته خارج الحرم وأبو حنيفة يجيز للمعاهد دخول الحرم بإذن الخليفة أو نائبه.
٢ - الحجاز: وهو ما بين عدن إلى ريف العراق في الطول، ومن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام عرضًا، ويجوز للكافر دخولها
(١) المراغي.
201
بالإذن، ولكن لا يقيمون فيها أكثر من ثلاثة أيام، روى مسلم عن ابن عمر، أنه سمع رسول الله - ﷺ -، يقول: "لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب، فلا أترك فيها إلا مسلمًا" وفي رواية لغير مسلم: وأوصى، فقال: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب" فلم يتفرغ لذلك أبو بكر، وأجلاهم عمر في خلافته، وأخرج مالك في "الموطأ" مرسلًا: "لا يجتمع دينان في جزيرة العرب" وروي عن مسلم عن جابر قال: سمعت رسول الله - ﷺ -، يقول: "إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم".
٣ - سائر بلاد الإسلام: فيجوز للكافر أن يقيم فيها بعهد وأمان وذمة، ولكن لا يدخل المساجد إلا بإذن مسلم، وقرأ الجمهور: ﴿نَجَس﴾، بفتح النون والجيم، وهو مصدر نجس نجسًا بكسر الجيم وضمها في الماضي؛ أي: قذر قذرًا، وقرأ أبو حيوة (١): ﴿نِجْس﴾ بكسر النون وسكون الجيم، وهو اسم فاعل، من نجس، فخففوه بعد الاتباع، كما قالوا: في كبِد كبْد، وفي كرش كرش، وقرأ ابن السميقع: ﴿أنجاس﴾ فيحتمل أن يكون جمع نجس المصدر، وجمع نجس اسم فاعل.
ولما امتنع المشركون من دخول الحرم، وكانوا يتجرون ويأتون مكة بالطعام، وكانت معايش أهل مكة من التجارات، فخافوا الفقر وضيق العيش، وذكروا ذلك لرسول الله - ﷺ -.. أنزل الله تعالى قوله: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ﴾ أيها المؤمنون بسبب امتناع المشركين من مكة ﴿عَيْلَةً﴾؛ أي: فقرًا بسبب قلة جلب الأقوات، وضروب التجارات التي كان يجلبها المشركون، من أرباب المزارع في الشعاب، والوديان من البلاد ذات البساتين والمزارع، كالطائف وأرباب المتاجر ﴿فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾ ورزقه وعطائه من وجه آخر ﴿إِنْ شَاءَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ذلك، وفضله كثير، فقد صاروا بعد الإسلام ومنع المشركين من الحرم أغنى مما كانوا قبل ذلك، فقد تعددت وسائل الغنى فيما بعد، وصدق
(١) البحر المحيط.
202
وعده، فأرسل الله تعالى عليهم السماء مدرارًا أغزر بها خيرهم، وأكثر ميرهم، وأسلم أهل جدة وحنين وأهل اليمن وصنعاء وتبالة، وصاروا يجلبون الطعام لأهل مكة، وأسلم أولئك المشركون، ولم يبق أحد منهم يمنع من الحرم، ثم جاءتهم الثروة من كل جانب، بما فتح الله عليهم من البلاد، فكثرت الغنائم، وتوجه إليهم الناس من كل فجٍّ، ومهد الله لهم سبل الرزق، من إمارة وتجارة وزراعة وصناعة، وكان نصيب مكة من ذلك عظيمًا بكثرة الحاج، وأمن طرق التجارة.
وقيد (١) هذا الغني بمشيئته التي لا يشك مؤمن في حصول ما تتعلق به، لتقوية إيمانهم بربهم واتكالهم عليه دون كسبهم وحده، وإن كانوا مأمورين به، لأنه من سننه في خلقه، ولكن لا يجوز أن ينسوا توفيقه وتأييده لهم، فهو الذي نصرهم وأغناهم، وسيزيدهم نصرًا وغنًى.
وقال أبو حيان (٢): وعلق بالمشيئة، لأنه يقع في حق بعض دون بعض، وفي وقت دون وقت. وقيل: لإجراء الحكم على الحكمة، فإن اقتضت الحكمة والمصلحة إغناءكم.. أغناكم، وقال القرطبي: إعلامًا بأن الرزق لا يأتي بحيلة ولا اجتهاد، وإنما هو فضل الله. ويروى للشافعي:
لَوْ كَانَ بِالْحِيَلِ الْغِنَى لَوَجَدْتَنِيْ بِنُجُوْمِ أقْطَارِ السَّمَاءِ تَعَلُّقِيْ
لَكِنَّ مَنْ رُزِقَ الْحِجَا حُرِمَ الْغِنَى ضِدَّانِ مَفْتَرِقَانِ أَيَّ تَفَرُّقِ
وَمِنَ الدَّلِيْلِ عَلَى الْقَضَاءِ وُكَوْنِهِ بُؤْسُ اللَّبِيْبِ وَطِيْبُ عَيْشِ الأَحْمَقِ
وقرأ ابن مسعود وعلقمة من أصحابه: ﴿عائلة﴾، وهو مصدر كالعاقبة، والعافية والقابلة أو نعت لمحذوف؛ أي: حالًا عائلة. وقيل: معناه: خصلةً شاقةً ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلِيمٌ﴾ بما يكون من مستقبل أمركم في الغنى والفقر، عليم بأحوالكم وبمصالحكم ﴿حَكِيمٌ﴾ فيما دبره لكم، فلا يعطي ولا يمنع إلا عن حكمة وصواب، وحكيم فيما يشرعه لكم، من أمرٍ ونهي، كأمركم بقتال
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
203
المشركين بعد انقضاء عهودهم، ونهيكم عن قرب المشركين للمسجد الحرام بعد عامهم هذا، ونهيكم عن اتخاذ آبائكم وإخوانكم منهم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان،
٢٩ - والخطاب في قوله: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ وأصحابه.
والمعنى: قاتلوا أيها المؤمنون أهل الكتاب الذين لا يؤمنون بالله، ولا بمجيء اليوم الآخر؛ لأن (١) اليهود مثنِّية، والنصارى مثلِّثة، فإن قلت: (٢) اليهود والنصارى، يزعمون أنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر، فكيف أخبر الله عنهم أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر؟
قلت: إيمانهم بالله ليس كإيمان المؤمنين، وذلك أن اليهود يعتقدون التجسيم والتشبيه، والنصارى يعتقدون الحلول، ومن اعتقد ذلك.. فليس بمؤمن بالله، بل هو مشرك بالله، وقيل: من كذب رسولًا من رسل الله.. فليس بمؤمن بالله، واليهود والنصارى يكذبون أكثر الأنبياء، فليسوا بمؤمنين بالله، وأما إيمانهم باليوم الآخر.. فليس كإيمان المؤمنين، وذلك يعتقدون بعثة الأرواح دون الأجساد ويعتقدون أن أهل الجنة لا يأكلون ولا يشربون فيها ولا ينكحون، ومن اعتقد ذلك.. فليس إيمانه كإيمان المؤمنين، وإن زعم أنه مؤمن ﴿وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى في الكتاب ﴿وَرَسُولُهُ﴾؛ أي: ولا ما حرم رسوله محمد - ﷺ - في السنة، من الخمر والخنزير، وسائر المحرمات، كالربا وأخذ أموال الناس بالباطل، أو المعنى: ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله المرسل إليهم في التوارة والإنجيل؛ أي: لا يعملون بما في التوراة والإنجيل، بل حرفوهما وأتوا بأحكام كثيرة من عند أنفسهم.
والمعنى: أنهم يخالفون أصل دينهم المنسوخ اعتقادًا وعملًا ﴿وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ﴾؛ أي: ولا يتمسكون دين الحق، الذي هو دين الإسلام، أو لا يعتقدون صحة دين الإسلام الذي هو الدين الحق، حالة كون هؤلاء المذكورين
(١) النسفي.
(٢) الخازن.
204
﴿مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾؛ أي: من الذين أعطوا التوراة والإنجيل وهم اليهود والنصارى ﴿حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ﴾؛ أي: قاتلوهم حتى يعطوا الجزية، أو يسلموا؛ أي: حتى يقبلوا إعطاء الجزية لكم، والمراد بإعطائها التزامها بالعقد. وإن لم يجىء وقت دفعها، ذكره في "الفتوحات". والجزية: هي ما يعطي المعاهد من أهل الكتاب على عهده، وهي الخراج المضروب على رقابهم، سميت جزية للاجتزاء بها في حقن دمائهم ﴿عَنْ يَدٍ﴾؛ أي: عن قهر وغلبة يقال لكل من أعطى شيئًا كرهًا من غير طيب نفس: أعطى عن يد، وقال ابن عباس: يعطونها بأيديهم، ولا يرسلون بها على يد غيرهم؛ أي: حتى يعطوها عن يد إلى يد نقدًا، غير نسيئةً، لا مبعوثًا على يد أحد، ولكن عن يد المعطي إلى يد الآخذ، وقيل: يعطونها مع إقرارهم بإنعام المسلمين عليهم بقبولها منهم، لأن ترك أروحهم عليهم بقبول الجزية ومنهم نعمة عظيمة ﴿وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾؛ أي: والحال أنهم أذلاء مقهورون، منقادون لحكم الإسلام، يجرون إلى الموضع الذي يقبض منهم فيه بالعنف، حتى يؤدوها عن يدهم.
وحاصل معنى الآية (١): قاتلوا أهل الكتاب إذ هم جمعوا أربع صفات، هي العلة في عدواتهم للإسلام، ووجوب خضوعهم لحكمه ما داموا في دار الإسلام، إذ لو أجيز لهم حمل السلاح.. لأفضى ذلك إلى قتال المسلمين في دارهم ومساعدة من يهاجمهم فيها، كما فعل يهود المدينة وما حولها بعد تأمين النبي - ﷺ - لهم وجعلهم حلفاء له، وأجاز لهم الحكم فيما بينهم بشرعهم، وسمح لهم بالعبادة على النحو الذي يريدون، وكذلك فعل مع نصارى الروم في حدود البلاد العربية.
وهذه الأمور الأربعة التي أسند إليهم تركها، هي أصول كل دين إلهي، ومن ثم، أمر بقتال الذين لا يقيمونها، وهي:
١ - أنهم ﴿لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ وقد شهد القرآن بأنَّ اليهود والنصارى فقدوا
(١) المراغي.
205
الإيمان، بهدم أساسه، وهو التوحيد، إذ قد اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله، يشرعون لهم العبادات، ويحرمون ويحللون، فيتبعونهم، وبذا أشركوهم في الربوبية، ومنهم من أشرك به في الألوهية، كالذين قالوا: عزير ابن الله، والذين قالوا: المسيح ابن الله، أو هو الله.
٢ - أنهم ﴿لا﴾ يؤمنون ﴿بِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ إذ هم يقولون: إن حياة الآخرة حياة روحانية محضة، يكون الناس فيها كالملائكة، لكنا نؤمن بأن الإنسان لا تنقلب حقيقته، بل يبقى مؤلفًا من جسد وروح، ويتمتع بنعيم الأرواح والأجساد، ولا يوجد فيما بين يدي اليهود والنصارى من التوراة نصوص صريحة في البعث والجزاء بعد الموت، بل فيها إشارات غير صريحة في ذلك.
٣ - أنهم ﴿لَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾ فاليهود لا يحرمون ما حرم في شرعهم الذي جاء به موسى، ونسخ بعضه عيسى، ولا يلتزمون العمل بما حرم، فقد استحلوا أكل أموال الناس بالباطل، كالربا وغيره، واتبعوا عادات المشركين في القتال والنفي، ومفاداة الأسرى، والنصارى استباحوا ما حرم عليهم في التوراة مما لم ينسخه الإنجيل، فأباحوا جميع محرمات الطعام والشراب، إلا ما ذبح للأصنام، فقد ثبت في كتبهم أن الله حرم عليهم الشحوم فأذابوها وباعوها، وأكلوا أثمانها، وحرم عليهم أشياء كثيرة فأحلوها.
٤ - أنهم ﴿لا يدينون دين الحق﴾ إذ أن ما يتقلدونه إنما هو دين تقليدي، وضعه لهم أساقفتهم وأحبارهم بآرائهم الاجتهادية، وأهوائهم المذهبية، لا دين الحق الذي أوحاه الله تعالى إلى موسى وعيسى عليهما السلام.
والخلاصة: قاتلوا أيها المؤمنون من وصفوا بتلك الصفات الأربعة إذا وجد منهم ما يقتضي القتال، كالاعتداء عليكم، أو على بلادكم، أو اضطهادكم وفتنتكم عن دينكم، أو تهديد أمنكم وسلامتكم، كما فعل بكم الروم وكان ذلك سببًا لغزوة تبوك؛ أي: قاتلوهم إلى أن تأمنوا عدوانهم، بإعطائكم الجزية، بشرط أن تكون صادرة عن يد؛ أي: من قدرة واسعة فلا يظلموا ولا يرهقوا، وبشرط أن يخضعوا لسيادتكم وحكمكم، وبذا يسهل السبيل لاهتدائهم إلى الإسلام بما
206
يشاهدون من عدلكم، وفضائلكم التي يرونها رأي العين.
فإن أسلموا.. عمَّ الهدى والعدل، وإن لم يسلموا وأعطوا الجزية.. وجب تأمينهم وحمايتهم والدفاع عنهم، وإعطاؤهم حريتهم في دينهم، ومعاملتهم بالعدل والمساواة كالمسلمين، لهم ما لنا وعليهم ما علينا، ويحرم ظلمهم وإرهاقهم بتكليفهم ما لا يطيقون، ويسمون حينئذٍ: أهل الذمة إذ كل هذه الحقوق تكون لهم بمقتضى ذمة الله وذمة رسوله، أما الذين يعقد بيننا وبينهم صلح بعهد وميثاق، يعترف به الطرفان.. فيسمون: المعاهدين، أو أهل العهد، ولقب (١) أهل الكتاب والذين أوتوا الكتاب وإن كان عامًّا خص به اليهود والنصارى؛ لأنهم هم الذين كانوا مخالطين ومجاورين للأمة العربية ومعروفين لديها، كما قال تعالى: مخاطبًا لمشركي العرب ﴿أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (١٥٦)﴾.

فصلٌ في الجزية


واعلم (٢): أن قدر الجزية أقلها دينار، ولا يجوز أن ينقص عنه، ويقبل الدينار من الغني والفقير والمتوسط، ويدل عليه ما روي عن معاذ بن جبل، أن رسول الله - ﷺ - لما وجهه إلى اليمن.. أمره أن يأخذ من كل حالم؛ أي: محتلم دينارًا أو عدله من المعافرية - ثياب تكون باليمن - أخرجه أبو داود، فالنبي - ﷺ - أمره أن يأخذ من كل محتلم وهو البالغ دينارًا، ولم يفرق بين الغني والفقير والمتوسط، وفيه دليل على أنه لا تؤخذ الجزية من الصبيان والنساء، وإنا تؤخذ من الأحرار البالغين، وذهب قوم إلى أن على كل موسر أربعة دنانير، وعلى كل متوسط دينارين، وعلى كل فقير دينارًا، وهو قول أصحاب الرأي، ويدل عليه ما روي أن عمر بن الخطاب ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير وعلى أهل الورِق أربعين درهمًا، ومع ذلك أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام، أخرجه مالك في "الموطأ".
(١) المراغي.
(٢) الخازن.
207
وقال أصحاب الشافعي: أقل الجزية دينار، لا يزاد على الدينار إلا بالتراضي، فإذا رضي أهل الذمة بالزيادة.. ضربنا على المتوسط دينارين وعلى الغني أربعة دنانير.
وقال العلماء: إنما أقر أهل الكتاب على دينهم الباطل، بخلاف أهل الشرك، حرمة لآبائهم الذين انقرضوا على الدين من شريعة التوارة والإنجيل، قبل النسخ والتبديل، وأيضًا فإن بأيديهم كتبًا قديمة، فربما تفكروا فيها فيعرفون صدق محمد - ﷺ - وصحة نبوته، فأمهلوا لهذا المعنى، وليس المقصود من أخذ الجزية من أهل الكتاب، إقرارهم على كفرهم، بل المقصود من ذلك حقن دمائهم وإمهالهم، رجاء أن يعرفوا الحق، فيرجعوا إليه، بأن يؤمنوا ويصدقوا إذا رأوا محاسن الإسلام وقوة دلائله وكثرة الداخلين فيه.
٣٠ - ولما ذكر الله سبحانه وتعالى في الآية السابقة أن اليهود والنصارى لا يؤمنون بالله، ولا يدينون دين الحق.. بيَّن في هذه الآية الآتية ما أجمله في تلك فأخبر عنهم أنهم أثبتوا لله ولدًا، ومن جوز ذلك على الله.. فقد أشرك به؛ لأنه لا فرق بين من يعبد صنمًا وبين من يعبد المسيح، فقد بان بهذا أنهم لا يؤمنون بالله ولا يدينون دين الحق، فقال: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ﴾ لعائن الله تعالى عليهم؛ أي: قال بعضهم وهم يهود المدينة؛ لأن قول بعضهم لازم لجميعهم وهم سلام ابن مشكم ونعمان بن أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف، أو فنحاص بن عازوراء ﴿عُزَيْرٌ﴾ بن شرخيا ﴿ابْنُ اللَّهِ﴾ تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
روى (١) ابن إسحاق وابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أتى رسول الله - ﷺ - سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى وأبو أنس وشاس بن قيس ومالك بن الصيف، فقالوا: كيف نتبعك، وقد تركت قبلتنا وأنت لا تزعم أن عزيرًا ابن الله؟ كما مر بيان ذلك في الأسباب، وإسناد هذا القول إليهم جملة، وإن كان قد صدر من بعضهم مَبنيٌّ على أن الأمة تعد متكافلة في شؤونها
(١) المراغي.
208
العامة فما يفعله بعض الفرق أو الجماعات يكون له تأثير في جملتها، والمنكر الذي يفعله بعضهم إذا لم ينكره عليه جمهورهم ويزيلوه.. يؤاخذون به كلهم، كما قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾.
وسبب هذا القول منهم أن اليهود قتلوا الأنبياء بعد موسى عليه السلام، فأضاعوا التوراة وعملوا بغير الحق، فرفع الله عنهم التابوت الذي فيه التوراة، وأنساهم التوراة ومحاها من قلوبهم، فتضرع عزير إلى الله تعالى ودعاه أن يرد إليه التوراة، فبينما هو يصلي مبتهلًا إلى الله تعالى، إذ نزل نور من السماء، فدخل جوفه فعادت التوراة إليه، فأعلم قومه، وقال: يا قوم قد آتاني الله تعالى التوراة، وردها علي، فتعلموا منه عن ظهر لسانه، ثم إن التابوت نزل بعد ذهابه منهم، فلما رأوا التابوت، عرضوا ما كان يعلمهم عزير على ما في التابوت.. فوجدوه مثله، فقالوا: ما جمع التوراة في صدر عزير وهو غلام إلا لأنه ابنه.
﴿وَقَالَتِ النَّصَارَى﴾؛ أي: قال بعضهم: ﴿الْمَسِيحُ﴾ عيسى بن مريم ﴿ابْنُ اللَّهِ﴾ تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، وهذا قول القدماء منهم، كانوا يريدون به المحبوب أو المكرم، ثم سرت إليهم وثنية الهنود، فاتفقت كلمتهم على أنه ابن الله حقيقةً وعلى أن ابن الله بمعنى ﴿اللَّهِ﴾ وبمعنى روح القدس إذ هذه الثلاثة عندهم واحد حقيقة.
روي أن أتباع عيسى كانوا على الدين الحق، بعد رفع عيسى عليه السلام إحدى وثمانين سنة، يصلون إلى القبلة ويصومون رمضان، حتى وقع حرب بينهم وبين اليهود، وكان في اليهود رجل شجاع، يقال له: بولس، قتل جماعة من أصحاب عيسى عليه السلام، ثم قال بولس لليهود: إن كان الحق مع عيسى.. فقد كفرنا، والنار مصيرنا، فنحن مغبونون إن دخلنا النار، ودخلوا الجنة، فإني سأحتال وأضلهم حتى يدخلوا النار معنا، ثم إنه أتى إلى النصارى. فقالوا: له من أنت؟ قال: أنا عدوكم بولس، قد نوديت من السماء: إنه ليست لك توبة حتى تتنتصر وقد تبت، فأدخله النصارى الكنيسة، ومكث سنة في بيت فيها، ولم يخرج منها حتى تعلم الإنجيل، ثم خرج، وقال: قد نوديت: إن الله قد قبل توبتك،
209
فصدقوه وأحبوه، وعلا شأنه فيهم، ثم إنه عهد إلى أربعة رجال، اسم واحد منهم: نسطور، والآخر يعقوب، والثالث ملكان، والرابع، من أهل الروم، فعلَّم نسطورًا أن عيسى ومريم والله آلهة ثلاثة، وعلم يعقوب أن عيسى ليس بإنسان، وأنه ابن الله، وعلم ملكان أن عيسى هو الله لم يزل ولا يزال عيسى، وعلم رجلًا آخر من الروم اللاهوت والناسوت، وقال: ما كان عيسى إنسانًا ولا جسمًا ولكنه الله، ثم دعا كل واحد منهم في الخلوة، وقال له: أنت خليفتي فادع الناس لما علمتك، وأمره أن يذهب إلى ناحية من البلاد، ولقد رأيت عيسى في المنام ورضي عني وأني غدًا أذبح نفسي لمرضاة ربي ثم دخل المذبح فذبح نفسه، فتفرقوا ودعوا الناس إلى مذاهبهم، واختلفوا، ووقع القتال بينهم، فكان ذلك سبب قولهم: المسيح ابن الله ﴿ذَلِكَ﴾ المذكور الذي قالوه في عزير وفي المسيح ﴿قَوْلُهُمْ﴾؛ أي: قول صادر واقع من غير فائدة ولا برهان، يقولونه ﴿بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ وتلوكه ألسنتهم مجرد عن المعنى، خال عن الفائدة، لا يؤيده برهان، ولا يتجاوز حركة اللسان، بل البرهان دال على عكسه، لاستحالة إثبات الولد لمن هو برىءٌ عن الحاجة، واتخاذ الصاحبة.
ووجه (١) تقييده بأفواههم مع العلم بأن القول لا يكون إلا من الفم: أن هذا القول لما كان ساذجًا ليس فيه بيان، ولا عضده برهان، كان مجرد دعوى لا معنى تحتها، فارغة صادرة عنهم صدور المهملات، التي ليس فيها إلا كونها خارجةً من الأفواه، غير مفيدة لفائدة يعتد بها، وقيل: إن ذكر الأفواه لقصد التأكيد، كما في كتبت بيدي، ومشيت برجلي، ومنه قوله تعالى: ﴿يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ﴾ وقوله: ﴿وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ وقال بعض أهل العلم: إن الله سبحانه، لم يذكر قولًا مقرونًا بذكر الأفواه والألسن إلا وكان قولًا زورًا، كقوله: ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ وقوله: ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ وأشباه ذلك.
(١) الشوكاني.
210
﴿يُضَاهِئُونَ﴾؛ أي: يشابهون في قولهم ذلك ﴿قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ﴾؛ أي: من قبلهم، وهم مشركو العرب الذين قالوا مثل هذا القول، إذ قالوا: الملائكة بنات الله.
وفي معنى مضاهاتهم لقول الذين كفروا من قبل أقوال لأهل العلم:
الأول: أنهم شابهوا بهذه المقالة عبدة الأوثان في قولهم: واللات، والعزى، ومناة، بنات الله.
القول الثاني: أنهم شابهوا قول من يقول من الكافرين أن الملائكة بنات الله.
الثالث: أنهم شابهوا أسلافهم القائلين بأن عزيرًا ابن الله، وأن المسيح ابن الله.
وقوله: ﴿قَاتَلَهُمُ اللَّهُ﴾ تعالى دعاء عليهم بالهلاك؛ لأن من قاتله الله.. هلك، وقيل: هو تعجب من شناعة قولهم، وقيل، معنى قاتلهم الله: لعنهم الله تعالى، وطردهم من رحمته ﴿أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾؛ أي: كيف يصرفون عن توحيد الله تعالى وتنزيهه عما لا يليق به، وبه تجزم كل العقول، وبلغه عن الله كل رسول إلى قول لا يقبله عقل، فما المسيح وعزير إلا مخلوقان من مخلوقات الله، الذي خلق هذا الكون العظيم، ودبر أمره، ولا ينبغي لواحد من هذه المخلوقات أن يجعل لخالقه ومدبر شؤونه ولدًا من جنسه، مع علمه بأنه كان يأكل ويشرب ويتعب ويتألم ﴿وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون﴾.
وقرأ عاصم والكسائي: ﴿عُزَيْرٌ﴾ منونًا على أنه عربي، وباقي السبعة: بغير تنوين، ممنوع الصرف، للعجمة والعلمية، كعاذر وعيذار وعزرائيل، وعلى كلتا القراءتين فـ ﴿ابن﴾ خبر، وقرأ عاصم، وابن مصرف ﴿يضاهؤن﴾، بالهمز، وباقي السبعة: بغير همز، ثم فصل قوله من قبل ﴿يضاهؤن﴾ قول الذين كفروا من قبل بقوله:
٣١ - ﴿اتَّخَذُوا﴾؛ أي: اتخذ كل من اليهود والنصارى ﴿أَحْبَارَهُمْ﴾؛ أي: علماءهم ﴿وَرُهْبَانَهُمْ﴾؛ أي عبادهم ﴿أَرْبَابًا﴾؛ أي آلهة ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى، حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله، كالربا والرشوة والخمر والخنزير، وتحريم ما أحل الله تعالى، كالسوائب والبحائر، أو في السجود لهم
211
﴿و﴾ اتخذت النصارى زيادة على ما مر ﴿المسيح﴾ عيسى ﴿ابْنَ مَرْيَمَ﴾ ربًّا معبودًا بعد ما قالوا: إنه ابن الله.
والمعنى: اتخذ كل من اليهود والنصارى رؤساءهم في الدين أربابًا، فاليهود اتخذوا أحبارهم، وهم علماء الدين، أربابًا بما أعطوهم من حق التشريع فيهم، وإطاعتهم فيه، والنصارى اتخذوا قساوستهم ورهبانهم؛ أي: عبادهم الذين يخضع ويركع لهم العوام أربابًا كذلك.
والرهبان عند النصارى أدنى طبقات رجال الدين، فاتخاذهم أربابًا يقتضي بالأولى أن يتخذوا من فوقهم من الأساقفة والمطارنة والبطاركة، إذ الرهبان يخضعون لتشريع هؤلاء الرؤساء، مدونًا كان أو غير مدون، والعوام يخضعون لتشريع الرهبان، ولو غير مدون، سواء قالوه تبعًا لمن فوقهم، أو من تلقاء أنفسهم، لثقتهم بدينهم، وانفردت النصارى باتخاذهم المسيح ربًّا وإلهًا يعبدونه، ومنهم من يعبد أمه عبادة حقيقةً، ويصرحون بذلك، واليهود لم يقصروا في دينهم على أحكام التوراة، بل أضافوا إليها من الشرائع ما سمعوه من رؤسائهم، ثم دونوه، فكان هو الشرع العام، وعليه العمل عندهم، والنصارى غيَّر رؤساؤهم جميع أحكام التوراة الدينية والدنيوية، واستبدلوا بها شرائع أخرى في العبادات والمعاملات جميعًا، وزادوا حق مغفرة الذنوب لمن شاؤوا، وحرمان من شاؤوا من رحمة الله وملكوته، والله يقول: ﴿وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ﴾ وزادوا القول بعصمة البابا في تفسير الكتب الإلهية، ووجوب طاعته في كل ما يأمر به من الطاعات، وينهى عنه من المحرمات.
﴿وَمَا أُمِرُوا﴾؛ أي: اتخذ هؤلاء الكفار ما ذكر أربابًا من دون الله، والحال أنهم ما أمروا في التوراة والإنجيل ﴿إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا﴾ في ذاته وصفاته وأفعاله عظيم الشأن، هو الله تعالى؛ أي (١) اتخذوا رؤساءهم أربابًا من دون الله، والربوبية تستلزم الألوهية، إذ الربُّ هو الذي يجب أن يعبد وحده،
(١) المراغي.
212
والحال أنهم ما أمروا على لسان موسى وعيسى، ومن اتبعهما فيما جاء به من عند الله إلا أن يعبدوا ويطيعوا في الدين إلهًا واحدًا، بما شرعه لهم، وهو ربهم ورب كل شيء ومليكه، ثم علل الأمر بعبادة إله واحد فقال: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ وهذه الجملة صفة لـ ﴿إِلَهًا﴾؛ أي: لا معبود بحق في الوجود غيره تعالى في حكم الشرع ولا في نظر العقل، وإنما اتخذ المشركون آلهة من دونه بالرأي والهوى، جهلًا بصفات الألوهية، إذ ظنوا أن لبعض المخلوقات سلطانًا غيبيًّا، وقدرة على الضر والنفع، من غير طريق الأسباب المسخرة للخلق مثل ما لله، إما بالذات، وإما بالوساطة والشفاعة لديه.
﴿سُبْحَانَهُ﴾؛ أي: تنزَّه وتمجَّد اللَّه له تعالى ﴿عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾؛ أي: عن شركهم في ألوهيته بدعاء غيره معه أو من دونه، وفي ربوبيته بطاعة الرؤساء في التشريع الديني بدون إذنه.
٣٢ - ﴿يُرِيدُونَ﴾؛ أي: يريد رؤساء اليهود والنصارى ﴿أَنْ يُطْفِئُوا﴾ ويخمدوا ﴿نُورَ اللَّهِ﴾؛ أي: دين الله الذي هو دين الإسلام ﴿بِأَفْوَاهِهِمْ﴾؛ أي: بتكذيبهم وألسنتهم يعني (١) يريد هؤلاء إبطال دين الله الذي جاء به محمد - ﷺ -، بتكذيبهم إياه، وقيل المراد من النور: الدلائل الدالة على صحة نبوته - ﷺ -، وهي أمور:
أحدها: المعجزات الباهرات الخارقة للعادة التي ظهرت على يد النبي - ﷺ -، الدالة على صدقه.
وثانيها: القرآن العظيم الذي نزل عليه من عند الله فهو معجزة له باقية على الأبد دالة على صدقه.
وثالثها: أن دينه الذي أمر به، وهو دين الإسلام، ليس فيه شيء سوى تعظيم الله، والثناء عليه، والانقياد لأمره، ونهيه واتباع طاعته، والأمر بعبادته والتبري من كل معبود سواه، فهذه أمور نيرة، ودلائل واضحة، في صحة نبوة محمد - ﷺ -، فمن أراد إبطال ذلك بكذب وتزوير.. فقد خاب سعيه وبطل عمله.
(١) الخازن.
213
وهذه الجملة تمثيل (١) لحالهم في محاولة إبطال دين الحق ونبوة نبي الصدق، بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم، قد أنارت به الدنيا، وانقشعت به الظلمة، ليطفئه ويذهب أضواءه، ثم إن الله سبحانه وتعالى وعد نبيه محمدًا - ﷺ - بمزيد النصر، وإعلاء الكلمة، وإظهار الدين بقوله: ﴿وَيَأْبَى اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ويمتنع، ولا يريد كل شيء ﴿إِلَّا أَنْ يُتِمَّ﴾ ويظهر ﴿نُورَهُ﴾ ويعلي كلمته، ويتم الحق، الذي بعث به رسوله محمدًا - ﷺ -.
وخلاصة ما سلف (٢): أنهم يريدون أن يطفؤوا نور الله الذي شرعه لهداية عباده، وركنه الركين، وأساسه المتين: توحيد الربوبية والألهية، فتحولوا عنه إلى الشرك والوثنية، والله لا يريد إلا أن يتم هذا النور الذي هو كنور القمر، فيجعله بدرًا كاملًا يعم نوره الأرض كلها.
وجواب لو في قوله: ﴿وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ محذوف (٣) تقديره: ولو كره الكافرون تمام نوره.. لأتمه ولم يبال بكراهتهم، وجملة لو معطوفة على (٤) مقدر، تقديره: ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو لم يكره الكافرون ذلك، وحتى لو كرهوا، كما سيأتي في مبحث الإعراب إن شاء الله تعالى.
والمعنى (٥): ويأبى الله إلا أن يتم نوره، ولو كره الكافرون بعد تمامه، كما كانوا يكرهونه من قبل، حين بدء ظهوره، فهم يكيدون له ويفترون عليه، ويطعنون فيه وفيمن جاء به، ويحاولون إخفاءه، أما اليهود.. فكانوا في أول الإسلام أشد الناس عداوةً لأهله، فهم في ذلك كمشركي العرب سواء.
ولما عجزوا عن إطفاء نوره بمساعدة المشركين على النبي - ﷺ -، قصدوا إطفاء نوره ببث البدع فيه، وتفريق كلمة أهله، كما فعل عبد الله بن سبأ من ابتداع التشيع لعليٍّ كرم الله وجهه والغلو في ذلك وإلقاء الشقاق بين المسلمين، ثم في
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
(٣) المراح.
(٤) الشوكاني.
(٥) المراغي.
214
الفتنة بين عليّ ومعاوية، ولولا ذلك.. لما قتل أولئك الألوف من صناديد المسلمين، ثم ما كان من منافقيهم من الإسرائيليات الكاذبة التي لا تزال مبثوثة في تضاعيف كتب التفسير والحديث والتاريخ.
وأما النصارى: فقد كان الحبشة منهم أول من أظهر المودة لهم، وأكرم النجاشي من لجأ إليه من مهاجريهم، ومنعهم من تعدي المشركين عليهم، ثم انقلب الأمر بعد انتشار الإسلام وراء جزيرة العرب، فتودد اليهود للمسلمين؛ لأنهم أنقذوهم من ظلم النصارى واستعبادهم، وصار نصارى أوروبا المستعمرون للممالك الشرقية هم الذين يقاتلون المسلمين، ويعادونهم دون نصارى هذه البلاد؛ لأنهم رأوا من عدل المسلمين ما فضلوهم به على الروم الذين كانوا يظلمونهم ويحتقرونهم، إلى أن جاءت الحروب الصليبية، فغلا نصارى أوروبا في عداوة المسلمين، ولا يزال الأمر كذلك في هذا العصر، كما هو مشاهد معروف.
٣٣ - ثم بين إتمام نوره فقال: ﴿هُوَ﴾ سبحانه وتعالى الإله ﴿الَّذِي أَرْسَلَ﴾ وبعث ﴿رَسُولَهُ﴾ محمدًا - ﷺ -، حالة كونه متلبسًا ﴿بِالْهُدَى﴾؛ أي بالقرآن أو بما يهدي به الناس من البراهين والمعجزات والأحكام التي شرعها الله تعالى لعباده ﴿وَدِينِ الْحَقِّ﴾ الذي هو دين الإسلام والملة الحنيفية، وهذه الجملة بمنزلة التعليل لما قبلها؛ أي: إنه تعالى كفل إتمام هذا النور بإرسال رسوله الأكمل بالهدى والدين الحق، الذي لا يغيره دين آخر ولا يبطله شيء آخر.
ثم ذكر الغاية من إرسال محمد - ﷺ -، خاتم النبيين بدين الحق، فقال: ﴿لِيُظْهِرَهُ﴾؛ أي: ليعلي هذا الدين، الذي هو دين الإسلام ويرفع شأنه ﴿عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾؛ أي: على جميع الأديان كلها بالحجة والبرهان والهداية والعرفان والسيادة والسلطان، ولم يكن لدين من الأديان مثل ما للإسلام من التأثير الروحي والعقلي والمادي والاجتماعي والسياسي، وإظهاره على الدين كله بأن لا يعبد الله إلا به، فإن المسلمين قد قهروا اليهود وأخرجوهم من بلاد العرب، وغلبوا النصارى على بلاد الشام وما والاها إلى ناحية الروم والغرب، وغلبوا المجوس
على بلادهم، وغلبوا عباد الأصنام على كثير من بلادهم مما يلي الترك والهند، فثبت أن الذي أخبر الله عنه في هذه الآية قد حصل، وكان ذلك إخبارًا عن الغيب فكان معجزًا.
وروي عن أبي هريرة أنه قال: هذا وعد من الله بأنه تعالى يجعل الإسلام غالبًا على جميع الأديان، وتمام هذا إنما يحصل عند نزول عيسى عليه السلام، فلا يبقى أهل دين إلا دخلوا في الإسلام ﴿وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ ذلك الإظهار.. لأظهره الله تعالى، فجواب ﴿لو﴾ محذوف، كما قدرناه مثل ما مر، سواء بسواء، وقد وصفهم هنا بالشرك بعد أن وصفهم بالكفر، للدلالة على أنهم جمعوا بين الكفر بالرسول وتكذيبه، والشرك بالله، وفي الجملتين إخبار بأن إتمام الله لدينه وإظهاره على جميع الأديان يكون بالرغم من جميع الكفار المشركين منهم، وغير المشركين، وهذا آخر الآيات التي أمر عليٌّ بالتأذين بها في موسم الحج.
٣٤ - ولما فرغ سبحانه وتعالى من ذكر حال أتباع الأحبار والرهبان، المتخذين لهم أربابًا.. ذكر هنا حال المتبوعين فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بما جاء به محمد - ﷺ - ﴿إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ﴾؛ أي: علماء اليهود ﴿وَالرُّهْبَانِ﴾؛ أي: علماء النصارى ﴿لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ﴾؛ أي: ليأخذون الأموال من سفلتهم ﴿بِالْبَاطِلِ﴾؛ أي: بالوجوه الباطلة، كالرشوة في تخفيف الأحكام والمسامحة في الشرائع وغير ذلك، وعبر عن أخذ الأموال بالباطل بالأكل؛ لأن المقصود الأعظم من جمع الأموال الأكل، فمسمى الشيء باسم ما هو أعظم مقاصده، وأثبت هذا الأكل للكثير منهم؛ لأنَّ فيهم من لم يتلبس بذلك، بل بقي على ما يوجبه دينه من غير تحريف ولا تبديل، ولا ميل إلى حطام الدنيا، ولقد اقتدى بهؤلاء الأحبار والرهبان كثير من الذين يدعون العلم في الإسلام، ممن لا يأتي عليه الحصر في كل زمان، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ﴿وَيَصُدُّونَ﴾ الناس؛ أي: يمنعون الناس ﴿عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾؛ أي: عن الدخول في دين الله الذي هو دين الإسلام في زمان محمد - ﷺ -، لئلا يفوتهم ما يأخذونه من سفلتهم، أو يمنعونهم في كل زمان عما كان حقًّا في شريعتهم قبل نسخها، بسبب أكلهم أموال الناس بالباطل.
216
والمعنى: إن كثيرًا من الأحبار والرهبان أشربت قلوبهم حب المال والجاه، فمن أجل حب المال أكلوا أموال الناس بالباطل، ومن أجل حب الجاه.. صدوا عن سبيل الله، فإنهم لو أقروا بصدق محمد - ﷺ -، وصحة دينه.. لزمهم أن يتابعوه فيبطل حكمهم، وتزول حرمتهم، ومن ثم كانوا يبالغون في المنع من متابعته، وصد الناس عنه.
وأكل الأموال بالباطل: أخذها بغير حق شرعي، ويقع ذلك على صور مختلفة منها:
١ - أخذها رشوة لأجل الحكم، أو المساعدة على إبطال حق أو إحقاق باطل، ويقوم به صاحب السلطة الدينية أو المدنية، رسمية كانت، أو غير رسمية.
٢ - أخذها بالربا، وهو فاش عند اليهود وأحبارهم، يفتونهم بأكل الربا من غير الإسرائيليين، ويأكلونه معهم، مستحلين له بنص توارتهم المحرفة بدلًا من نهيهم عنه.
٣ - أخذ سدنة قبور الأنبياء والصالحين والمعابد التي بنيت بأسمائهم هدايا ونذورًا.
٤ - بذلها لمن يعتقدون فيهم الصلاح والزهد في الدنيا ليدعوا لهم ويشفعوا عند الله في قضاء حاجاتهم، وشفاء مرضاهم اعتقادًا منهم أن الله يستجيب دعاءهم ولا يرد شفاعتهم، أو لظنهم أن الله قد أعطاهم تصرفًا في الكون، يقضون به الحاجات، من دفع الضر عمن شاؤوا، وجلب الخير لمن أحبوا، وتأولها لهم الرؤساء الدينيون الضالون، وقالوا: إنها لا تنافي التوحيد الذي جاءت به الرسل.
٥ - أخذها جعلًا على مغفرة الذنوب، ويتوسلون إلى ذلك بما يسمونه سر الاعتراف، فيأتي الرجل أو المرأة لدى القسيس، أو الراهب الذي يأذن له الرئيس الأكبر بسماع أسرار الاعتراف ومغفرة الذنوب، فيخلو به أو بها، فيقص عليه الخاطىء ما عمل من الفواحش والمنكرات بأنواعها، لأجل أن يغفرها له، وهم
217
يعتقدون أن ما يغفره هؤلاء يغفره الله.
٦ - أخذهم للأموال على فتاوى لتحليل الحرام أو تحريم الحلال؛ إرضاءً لشهوات الملوك وكبار الأغنياء، أو الانتقام من أعدائهم.
٧ - أخذها من أموال مخالفيهم في الجنس أو الدين خيانة وسرقةً، ونحو ذلك، كما قال تعالى: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ الآية.
وصدهم عن سبيل الله (١): هو منعهم الناس عن معرفة الله، معرفة صحيحة، وعبادته على الوجه الذي يرضيه، ولا عجب فهم مشركون غير موحدين - كما علمت مما سلف - فهم لا يعبدون الله بما شرعه الله، بل بما شرعه البشر واليهود، قد كفروا بالمسيح، وهو المصلح الأكبر في شريعتهم، والنصارى يعبدون المسيح وأمه والقديسيين، وجل عبادتهم من صلاة وصيام لم تكن في عهد المسيح، ومن أنكى طرقهم في الصد عن سبيل الله: الطعن في النبي الأعظم - ﷺ -، والكتاب الكريم؛ أي القرآن.
﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ﴾؛ أي: يجمعونهما ﴿وَلَا يُنْفِقُونَهَا﴾؛ أي: ولا ينفقون تلك الكنوز ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾؛ أي: في طاعته؛ أي: لا يؤدون زكاتها، فقد أخرج مالك والشافعي عن ابن عمر، قال: ما أُدي زكاته.. فليس بكنز، وإن كان تحت سبع أرضين، وما لم تؤد زكاته.. فهو كنز، وإن كان ظاهرًا.
وأخرج ابن عدي والخطيب عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - ﷺ -: "أي مال أديت زكاته.. فليس بكنز".
وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والحاكم عن ابن عباس، قال: لما نزلت هذه الآية ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ﴾.. كبر ذلك على المسلمين، وقالوا: ما يستطيع أحد منا أن يبقي لولده مالًا بعده، فقال عمر: أنا أفرج
(١) المراغي.
218
عنكم، فانطلق وتبعه ثوبان، فأتى النبي - ﷺ -، فقال: يا نبي الله، إنه قد كبر على أصحابك هذه الآية، فقال: "إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم، وإنما فرض المواريث عن أموال تبقى بعدكم"، فكبر عمر رضي الله عنه ثم قال له النبي - ﷺ -: "ألا أخبرك بخير ما يكنز؟ المرأة الصالحة، التي إذا نظر إليها الرجل.. سرته، وإذا أمرها.. أطاعته، وإذا غاب عنها.. حفظته"، وإنما خص الذهب والفضة بالذكر دون سائر الأموال؛ لكونهما أثمن الأشياء، وغالب ما يكنز، وإن كان غيرهما له حكمهما في تحريم الكنز، وقرأ الجمهور: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ﴾ بالواو على الاستئناف، وهو عام يندرج فيه من يكنز من المسلمين، وقرأ ابن مصرف: ﴿الَّذِين﴾ بغير واو، وهو ظاهر في كونه من أوصاف من تقدم، ويحتمل الاستئناف والعموم، واختلفوا (١) في المراد بهؤلاء الذين ذمهم بسبب كنز الذهب والفضة، فقيل: هم أهل الكتاب، قاله معاوية بن أبي سفيان؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى وصفهم بالحرص الشديد على أخذ أموال الناس بالباطل، ثم وصفهم بالبخل الشديد، وهو جمع المال، ومنع إخراج الحقوق الواجبة منه. وقال ابن عباس والسدي: نزلت في مانعي الزكاة من المسلمين، وذلك أنه سبحانه وتعالى لما ذكر قبح طريقة الأحبار والرهبان في الحرص على أخذ الأموال بالباطل.. حذر المسلمين من ذلك، وذكر وعيد من جمع المال ومنع حقوق الله منه.
وقال أبو ذر: نزلت في أهل الكتاب وفي المسلمين. ووجه هذا القول: أن الله سبحانه وتعالى وصف أهل الكتاب بالحرص على أخذ أموال الناس بالباطل، ثم ذكر بعده وعيد من جمع المال، ومنع الحقوق الواجبة فيه، سواء كان من أهل الكتاب أو من المسلمين.
أخرج البخاري عن زيد بن وهب، قال: مررت بالربذة - موضع بين مكة والمدينة - فإذا بأبي ذر، فقلت: ما أنزلك هذا المنزل؟ قال: كنت في الشام
(١) الخازن.
219
فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم، فكان بيني وبينه في ذلك كلام، فكتب إلى عثمان يشكوني، فكتب إليَّ عثمان أن أقدم المدينة، فقدمتها، فكثر عليَّ الناس، حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان، فقال: إن شئت تنحيت، فكنت قريبًا، فذاك الذي أنزلني هذا المنزل، ولو أُمر عليَّ عبد حبشي.. لسمعت وأطعت.
وإنما قال: ﴿وَلَا يُنْفِقُونَهَا﴾ ولم يقل: ينفقونهما؛ لأنه أعاد الضمير إلى المال المكنوز، وهي أعيان الذهب والفضة، وقبل أعاد الضمير إلى الفضة؛ لأنه أغلب أموال الناس.
واختلف أهل العلم في المال الذي أديت زكاته، هل يسمى كنزًا أم لا؟ فقال قوم: هو كنز، وقال آخرون: ليس بكنز، ومن القائلين بالقول الأول أبو ذرٍّ، وقيده بما فضل عن الحاجة، ومن القائلين بالقول الثاني: عمر بن الخطاب وابن عمر وابن عباس وجابر وأبو هريرة وعمر بن عبد العزيز وغيرهم، وهو الحق لما تقدم من الأدلة المصرحة بأن ما أديت زكاته فليس بكنز.
وقوله: ﴿فَبَشِّرْهُمْ﴾؛ أي: فأخبرهم يا محمد ﴿بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾؛ أي: مؤلم، جملة تهكمية خبر عن الموصول، وقيل: إن البشارة هي الخبر الذي يتغير له لون البشرة، لتأثيره في القلب، سواء كان من الفرح أو من الغم.
٣٥ - وقوله: ﴿يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ﴾ منصوب بقوله: ﴿بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ وقيل: منصوب بمحذوف، تقديره: أي: أخبرهم بعذاب أليم يصيبهم في ذلك اليوم الذي يحمى ويوقد فيه على تلك الأموال المكنوزة في نار جهنم؛ أي: بأن توضع فيها وتضرم عليها النار الحامية، حتى تبيض من شدة الحرارة، وتصير مثلها ﴿فَتُكْوَى بِهَا﴾؛ أي: فتحرق بتلك الكنوز المحماة ﴿جِبَاهُهُمْ﴾؛ أي: جباه كانزيها جمع جبهة وهي أعلى الوجه، والمراد بها ما أقبل منهم كله ﴿وَجُنُوبُهُمْ﴾ جمع جنب، والمراد بها جهة اليمين واليسار ﴿وَظُهُورُهُمْ﴾ جمع ظهر، والمراد بها ما أدبر منهم كله؛ أي: فتلصق بجباهم وجنوبهم وظهورهم، حتى
220
يصل الحر إلى أجوافهم.
وخص (١) الجباه والجنوب والظهور بالذكر لكون التألم بكيِّها أشد، لما في داخلها من الأعضاء الشريفة وقيل: ليكون الكي في الجهات الأربع من قدام وخلف، وعن يمين وعن يسار، وقيل: لأن الجمال في الوجه، والقوة في الظهر والجنبين والإنسان، إنما يطالب المال للجمال والقوة، وقيل: لأن الغني صاحب المال إذا أتاه السائل فطلب منه شيئًا.. تبدو منه آثار الكراهة والمنع، فعند ذلك يكلح وجهه، وتجتمع أسارير جبهته، فيتجعد جبينه، ثم إن كرر السائل الطلب.. ناى بجانبه عنه ومال عن جهته وتركه جانبًا، ثم إن كرر الطلب وألح في السؤال.. ولاه ظهره، وأعرض عنه واستقبل جهةً أخرى، وهي نهاية في الرد، وغاية في المنع الدال على كراهية الإعطاء والبذل، وهذا دأب مانعي البر والإحسان، وعادة البخلاء، فلذلك خص هذه الأعضاء الثلاثة بالكي يوم القيامة.
وقيل (٢): خصت هذه الأعضاء دون بقية الجسد؛ لأنهم يستقبلون بالوجوه الناس، وأساريرهم منبسطة غبطة لعظم الثروة، ويستقبلون الفقراء ووجوههم منقبضة من العبوس، لينفروا ويحجموا عن السؤال، ولأن الجنوب والظهور كانوا يتقلبون بها على سرر النعمة، اضطجاعًا واستلقاءً، ويعرضون بها عن لقاء المساكين، وطلاب الحاجات، فلا يكون لهم في جهنم استراحة، فيما سوى الوقوف، إلا بالانكباب على الوجوه، كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨)﴾.
وفي الآية (٣) إيماء إلى أنه يحمى عليها بأعيانها، والله قادر على إعادتها، وأمور الآخرة من عالم الغيب، فلا ندرك كنهها ولا صفتها فنفوض الأمر فيها إلى عالم الغيب، وعلينا الاعتبار بما فيها من إصلاح النفس وتهذيب الأخلاق.
وروى مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا: "ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله.. إلا
(١) الشوكاني.
(٢) الخازن.
(٣) المراغي.
221
جعل له يوم القيامة صفائح من نار، فيكوى بها جنبه وجبهته وظهره" وروى عنه "من آتاه الله مالًا، فلم يؤدِّ زكاته... مثل له شجاع - ذكر الحيات - أقرع له زبيبتان، يطوقه يوم القيامة، فيأخذ بلهزمتيه - العظمان الناتئان تحت الأذنين - يقول: أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلا - ﷺ -: ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ " وتقول لهم ملائكة العذاب الذين يتولون كيهم توبيخًا لهم: ﴿هَذَا﴾ الكي جزاء ﴿مَا كَنَزْتُمْ﴾ وجمعتم في الدنيا لمنفعة أنفسكم، فكان اليوم سبب مضرتها، وتعذيبها أو هذا الميسم الذي تكوون به، هو المال الذي كنزتموه لأنفسكم، لتنفردوا بالتمتع به، ﴿فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ﴾؛ أي: فذوقوا العذاب بسبب ما كنتم تكنزونه وتجمعونه من الأموال، هذا إن قلنا ﴿مَا﴾ موصولة ويصح كونها مصدرية؛ أي: فذوقوا وبال كنزكم له، وجزاء إمساككم إياه، عن النفقة في سبيل الله، وسوء عاقبته وقبح مغبته وشؤم فائدته ومنفعته.
وخلاصة هذا: أن ما كنتم تظنونه من منفعة كنزه لأنفكسم، لا يشارككم فيها أحد.. قد إن لكم ضرًّا، وعليكم ضدًّا، فقد صار في الدنيا لغيركم، وعذابه في الآخرة لاحقًا بكم، وإن من أكبر أسباب الضعف الظاهر الذي نراه في المسلمين عامةً، حتى تمكن أعداؤهم من سلب ملكهم ويحاولون صدهم عن دينهم، بخل أغنيائهم، إذ لو وجهوا هممهم لإنشاء المدارس والمصانع والمعامل، لتعليم النشىء العلوم الدينية والدنيوية، من فنون الحرب، وصنع الأسلحة.. لأمكنهم أن يخرجوا للأمة رجالًا، يحفظون الدين والملك، ويعيدون إليها مجدها الزائل، ويجذبون المعتدين عليها إلى الإسلام، ويدخلونهم فيه أفواجًا أفواجًا.
وقرأ الجمهور: ﴿يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا﴾ بالياء وقرأ الحسن وابن عامر: في رواية ﴿تُحْمَى﴾ بالتاء، وقرأ أبو حيوة: ﴿فيكوى﴾ بالياء، لكون المسند إليه مجازي التأنيث ووقع الفصل أيضًا.
الإعراب
{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ
222
تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا}.
﴿لَقَدْ﴾ ﴿اللام﴾ موطئة للقسم ﴿قد﴾ حرف تحقيق ﴿نَصَرَكُمُ اللَّهُ﴾ فعل ومفعول وفاعل والجملة جواب القسم، لا محل لها من الإعراب ﴿فِي مَوَاطِنَ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿نصر﴾ وعلامة جره الفتحة؛ لأنه اسم لا ينصرف، لصيغة منتهى الجموع ﴿كَثِيرَةٍ﴾ صفة ﴿مَوَاطِنَ﴾ ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ﴾: ظرف ومضاف إليه، متعلق بفعل محذوف معطوف على ﴿نَصَرَكُمُ﴾ تقديره: ونصركم يوم حنين، ويصح عطفه على محل قوله: ﴿فِي مَوَاطِنَ﴾ عطف ظرف الزمان من غير واسطة في على ظرف المكان المجرور بها، ولا غرابة في نسق ظرف زمان على مكان، أو بالعكس ﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان متعلق بـ ﴿نصر﴾ المحذوف الذي تعلق به ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ﴾ على كونها بدلًا من ﴿يوم﴾ ﴿أَعْجَبَتْكُمْ﴾ فعل ومفعول ﴿كَثْرَتُكُمْ﴾: فاعل ومضاف إليه، والجملة في محل الجر، مضاف إليه ﴿فَلَمْ تُغْنِ﴾ الفاء عاطفة وجازم ومجزوم، وفاعله ضمير يعود على الكثرة ﴿عَنْكُمْ﴾ متعلق به ﴿شَيْئًا﴾ مفعول به، والجملة في محل الجر، معطوفة على جملة أعجب.
﴿وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾.
﴿وَضَاقَتْ﴾ فعل ماض ﴿عَلَيْكُمُ﴾ متعلق به ﴿الْأَرْضُ﴾ فاعل ﴿بِمَا﴾ ﴿الباء﴾: حرف جر ومعية ﴿ما﴾ مصدرية ﴿رَحُبَتْ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿الْأَرْضُ﴾ والجملة صلة ﴿ما﴾ المصدرية ﴿ما﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء، تقديره: مع رحبها، الجار والمجرور متعلق بمحذوف حال من الأرض تقديره: وضاقت عليكم الأرض حالة كونها متلبسة برحبها وسعتها ﴿ثُمَّ وَلَّيْتُمْ﴾ فعل وفاعل، معطوف على ﴿ضاقت﴾ ﴿مُدْبِرِينَ﴾: حال من تاء ﴿وَلَّيْتُم﴾ مؤكدة لعاملها.
﴿ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (٢٦)﴾.
﴿ثُمَّ﴾ حرف عطف ﴿أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول ومضاف إليه،
223
والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾ ﴿عَلَى رَسُولِهِ﴾: جار ومجرور متعلق به ﴿وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ معطوف على ﴿رَسُولِهِ﴾ ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ﴾: فعل ماض معطوف على ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ﴾ وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾ ﴿جُنُودًا﴾: مفعول به ﴿لَمْ تَرَوْهَا﴾: جازم وفعل وفاعل ومفعول به؛ لأن رأى بصرية، والجملة في محل النصب صفة لـ ﴿جُنُودًا﴾ ﴿وَعَذَّبَ﴾ فعل ماض معطوف على ﴿أَنْزَلَ﴾ وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾ ﴿الَّذِينَ﴾ مفعول به ﴿كَفَرُوا﴾ فعل وفاعل والجملة صلة الموصول ﴿وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾ مبتدأ وخبر ومضاف إليه والجملة مستأنفة.
﴿ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٧)﴾.
﴿ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿وَعَذَّبَ﴾ ﴿مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿يَتُوبُ﴾ ﴿عَلَى مَنْ﴾: متعلق بـ ﴿يَتُوبُ﴾ أيضًا ﴿يَشَاءُ﴾: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾ والجملة صلة من الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: على من يشاء التوبة له ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ﴾: مبتدأ وخبر أول ﴿رَحِيمٌ﴾ خبر ثان، والجملة مستأنفة.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾ ﴿يا﴾ حرف نداء ﴿أي﴾: منادى نكرة مقصودة، وجملة النداء مستأنفة، ﴿ها﴾: حرف تنبيه ﴿الَّذِينَ﴾: صفة لـ ﴿أي﴾ ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فعل وفاعل صلة الموصول ﴿إِنَّمَا﴾: أداة حصر ﴿الْمُشْرِكُونَ﴾ مبتدأ ﴿نَجَسٌ﴾ خبر، والجملة الاسمية جواب النداء ﴿فَلَا﴾ ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتفريع ﴿لا﴾: ناهية ﴿يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ﴾ فعل وفاعل ومفعول مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية ﴿الْحَرَامَ﴾ صفة لـ ﴿الْمَسْجِدَ﴾ والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الاسمية، على كونها مفرعة عليها ﴿بَعْدَ عَامِهِمْ﴾ ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿يَقْرَبُوا﴾ ﴿هَذَا﴾: صفة لـ ﴿عَامِهِمْ﴾.
﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾.
224
﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً﴾: جازم، وفعل وفاعل ومفعول في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية ﴿فَسَوْفَ﴾ ﴿الفاء﴾ رابطة لجواب ﴿إِنْ﴾ الشرطية وجوبًا لكون الجواب جملة تسويفية ﴿سوف﴾: حرف تنفيس ﴿يُغْنِيكُمُ اللَّهُ﴾ فعل ومفعول وفاعل ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾ متعلق به، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية، على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية مستأنفة ﴿إِنْ﴾ حرف شرط جازم ﴿شَاءَ﴾ فعل ماض في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿إِنْ﴾ ومفعول المشيئة محذوف، تقديره: إن شاء إغناءكم وجواب إن: محذوف دل عليه ما قبله تقديره: إن شاء يغنيكم وجملة إن الشرطية مستأنفة ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ ناصب واسمه ﴿عَلِيمٌ﴾ خبر أول له ﴿حَكِيمٌ﴾ خبر ثان له وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (٢٩)﴾.
﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ﴾ فعل وفاعل ومفعول والجملة مستأنفة ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾ فعل وفاعل ﴿بِاللَّهِ﴾ متعلق به، والجملة صلة الموصول ﴿وَلَا بِالْيَوْمِ﴾: جار ومجرور معطوف على الجار والمجرور قبله ﴿الْآخِرِ﴾ صفة لليوم ﴿وَلَا يُحَرِّمُونَ﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿يُؤْمِنُونَ﴾. ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول به ﴿حَرَّمَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل ﴿وَرَسُولُهُ﴾ معطوف على الجلالة، والجملة صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: ما حرمه الله ﴿وَلَا يَدِينُونَ﴾ فعل وفاعل ﴿دِينَ الْحَقِّ﴾: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾ ﴿مِنَ الَّذِينَ﴾ جار ومجرور، حال من اسم الموصول، أو من فاعل ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ ﴿أُوتُوا﴾ فعل ونائب فاعل، وهو المفعول الأول لآتى؛ لأنه بمعنى أعطى ﴿الْكِتَابَ﴾ مفعول ثان لـ ﴿آتى﴾ والجملة صلة الموصول ﴿حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ﴾: فعل وفاعل ومفعول ثان منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد ﴿حَتَّى﴾ بمعنى إلى والمفمعول الأول محذوف، تقديره: إياكم، والجملة الفعلية صلة أن
225
المضمرة، وجملة أن المضمرة مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿حَتَّى﴾ بمعنى إلى تقديره: إلى إعطائهم إياكم الجزية الجار والمجرور متعلق بـ ﴿قَاتِلُوا﴾ ﴿عَنْ يَدٍ﴾ جار ومجرور حال من واو ﴿يُعْطُوا﴾؛ أي: حالة كونهم مسلمين لها بأيديهم لا بواسطة غيرهم ﴿وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال ثانية من واو ﴿يُعْطُوا﴾.
﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠)﴾.
﴿وَقَالَتِ الْيَهُود﴾ فعل وفاعل والجملة مستأنفة ﴿عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ﴾: مبتدأ، وخبر والجملة في محل النصب مقول ﴿قال﴾ ﴿وَقَالَتِ النَّصَارَى﴾: فعل وفاعل والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها ﴿الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ﴾ مبتدأ وخبر والجملة في محل النصب مقول ﴿قال﴾ ﴿ذَلِكَ قَوْلُهُمْ﴾: مبتدأ وخبر والجملة مستأنفة ﴿بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه حال، والعامل فيه القول، ويجوز أن يعمل فيه معنى الإشارة، ويجوز أن تتعلَّق ﴿الباء﴾ بـ ﴿يُضَاهِئُونَ﴾ ذكره أبو البقاء ﴿يُضَاهِئُونَ﴾: فعل وفاعل ﴿قَوْلَ الَّذِينَ﴾ مفعول، ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل النصب حال من اليهود والنصارى ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل والجملة صلة الموصول، ﴿مِنْ قَبْلُ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿كَفَرُوا﴾ ﴿قَاتَلَهُمُ اللَّهُ﴾ فعل ومفعول وفاعل والجملة مستأنفة مسوقة للدعاء عليهم ﴿أَنَّى﴾ اسم استفهام تعجبي، بمعنى: كيف في محل النصب على التشبيه بالمفعول به، أو بالحال، مبني على السكون، والعامل فيه ما بعده ﴿يُؤْفَكُونَ﴾: فعل ونائب فاعل مرفوع والجملة جملة إنشائية مستأنفة، لا محل لها من الإعراب.
﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١)﴾.
226
﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول. ﴿وَرُهْبَانَهُمْ﴾: معطوف على ﴿أَحْبَارَهُمْ﴾. ﴿أَرْبَابًا﴾: مفعول ثانٍ لـ ﴿اتَّخَذُوا﴾، والجملة الفعلية مستأنفة ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿اتَّخَذُوا﴾ أو صفة، لـ ﴿أَرْبَابًا﴾ أو حال من واو ﴿اتَّخَذُوا﴾؛ أي: حال كونهم مجاوزين الله ﴿وَالْمَسِيحَ﴾ معطوف على أحبارهم ﴿ابْنَ﴾ صفة له ﴿مَرْيَمَ﴾ مضاف إليه، والمفعول الثاني بالنسبة إليه محذوف؛ أي: ربًّا وانظر لم ثبتت الألف في ابن هنا مع أنه صفة بين علمين؛ لأن المسيح لقب وهو من أقسام العلم، ذكره في "الفتوحات" ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾ حالية ﴿ما﴾: نافية ﴿أُمِرُوا﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل النصب حال من واو ﴿اتَّخَذُوا﴾ ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ ﴿لِيَعْبُدُوا﴾ ﴿اللام﴾ حرف جر وتعليل ﴿يعبدوا﴾ فعل وفاعل منصوب بـ ﴿أن﴾ مضمرة بعد لام كي، ﴿إِلَهًا﴾ مفعول به ﴿وَاحِدًا﴾ صفة أولى لـ ﴿إِلَهًا﴾ وجملة ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ صفة ثانية لـ ﴿إِلَهًا﴾ والجملة الفعلية صلة أن المضمرة ﴿أن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام والتقدير: وما أمروا إلا لعبادتهم إلهًا واحدًا، واللام فيه بمعنى الباء ﴿سُبْحَانَهُ﴾ منصوب على المفعولية المطلقة تقديره: أسبحه تعالى سبحانًا؛ أي: أنزهه تنزيهًا وجملة التسبيح مستأنفة ﴿عَمَّا﴾ ﴿عن﴾ حرف جر ﴿ما﴾ موصولة، أو مصدرية، وجملة ﴿يُشْرِكُونَ﴾ صلة ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد محذوف تقديره: عما يشركونه به، أو صلة ﴿ما﴾ المصدرية؛ أي: عن إشراكهم، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿سبحان﴾.
﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (٣٢)﴾.
﴿يُرِيدُونَ﴾: فعل وفاعل والجملة مستأنفة. ﴿أَنْ يُطْفِئُوا﴾: ناصب وفعل وفاعل. ﴿نُورَ اللَّهِ﴾: مفعول به، ومضاف إليه. ﴿بِأَفْوَاهِهِمْ﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يُطْفِئُوا﴾ والجملة الفعلية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: يريدون إطفاءهم نور الله بأفواههم. ﴿وَيَأْبَى اللَّهُ﴾: فعل وفاعل والجملة معطوفة على جملة ﴿يُرِيدُونَ﴾. ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ {أَنْ
227
يُتِمَّ نُورَهُ} فعل ومفعول منصوب بـ ﴿أَنْ﴾ وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾ والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: إلا إتمامه نوره. ﴿وَلَوْ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة على محذوف، تقديره: ويأبى الله إلا أن يتم نوره، ولو لم يكره الكافرون ذلك، وحتى لو كرهوا والجملة المحذوفة مستأنفة. ﴿لو﴾: حرف شرط غير جازم. ﴿كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾: فعل وفاعل والجملة فعل شرط لـ ﴿لو﴾ وجواب ﴿لو﴾ محذوف تقديره: ولو كره الكافرون تمامه.. لأتمه.
﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣)﴾.
﴿هُوَ الَّذِي﴾: مبتدأ وخبر والجملة مستأنفة. ﴿أَرْسَلَ رَسُولَهُ﴾: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الموصول والجملة صلة الموصول ﴿بِالْهُدَى﴾ متلعق بأرسل ﴿وَدِينِ الْحَقِّ﴾ معطوف على الهدى ﴿لِيُظْهِرَهُ﴾ فعل ومفعول منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾ ﴿عَلَى الدِّينِ﴾ متعلق به ﴿كُلِّهِ﴾ توكيد لـ ﴿الدِّينِ﴾ والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿اللام﴾ تقديره: لإظهاره إياه على الدين كله الجار والمجرور متعلق بـ ﴿أَرْسَلَ﴾ وجملة ﴿وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ معطوفة على محذوف، تقديره: ولو لم يكره المشركون إظهاره.. لأظهره ولو كرهوا ذلك، كما مر في مبحث التفسير.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾: جملة ندائية مستأنفة ﴿إِنَّ كَثِيرًا﴾: ناصب واسمه ﴿مِنَ الْأَحْبَار﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿كَثِيرًا﴾ ﴿وَالرُّهْبَانِ﴾: معطوف على الأحبار ﴿لَيَأْكُلُونَ﴾ ﴿اللام﴾: لام الابتداء ﴿يأكلون أموال الناس﴾ فعل وفاعل ومفعول ﴿بِالْبَاطِلِ﴾ متعلق بـ ﴿يأكلون أموال الناس﴾ أو صفة لمصدر محذوف؛ أي: أكلًا متلبسًا بالباطل، أو حال من واو ﴿يأكلون﴾ والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾ وجملة ﴿إِنَّ﴾ جواب النداء لا محل لها من الإعراب ﴿وَيَصُدُّونَ﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿يأكلون﴾ ﴿عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ متعلق به،
228
ومفعول الصد محذوف، تقديره: ويصدون الناس.
﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾ مبتدأ ﴿يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ﴾ فعل وفاعل ومفعول به ﴿وَالْفِضَّةَ﴾ معطوف على ﴿الذَّهَبَ﴾ والجملة الفعلية صلة الموصول ﴿وَلَا يُنْفِقُونَهَا﴾: فعل وفاعل ومفعول ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ متعلق به، والجملة معطوفة على جملة ﴿يَكْنِزُونَ﴾ ﴿فَبَشِّرْهُمْ﴾ ﴿الفاء﴾ رابطة الخبر بالمبتدأ لما في المبتدأ من العموم ﴿بشرهم﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمد ﴿بِعَذَابٍ﴾ متعلق به ﴿أَلِيمٍ﴾ صفة لـ ﴿عذاب﴾ والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة.
﴿يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (٣٥)﴾.
﴿يَوْمَ﴾ ظرف متعلق بـ ﴿أَلِيمٍ﴾ أو بمحذوف تقديره: بعذاب أليم يصيبهم يوم يحمى ﴿يُحْمَى﴾ فعل مضارع مغير الصيغة ﴿عَلَيْهَا﴾: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل ﴿فِي نَارِ جَهَنَّمَ﴾: متعلق به و ﴿جَهَنَّمَ﴾ ممنوع من الصرف، للعلمية والتأنيث المعنوي، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يَوْمَ﴾ ﴿فَتُكْوَى﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة ﴿تكوى﴾ فعل مضارع مغير الصيغة ﴿بِهَا﴾ متعلق به ﴿جِبَاهُهُمْ﴾: نائب فاعل ﴿وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ﴾ معطوفان عليه، والجملة الفعلية في محل الجر معطوفة على جملة ﴿يُحْمَى﴾ ﴿هَذَا﴾ مبتدأ ﴿مَا﴾ موصولة، أو موصوفة، في محل الرفع خبر المبتدأ ﴿كَنَزْتُمْ﴾ فعل وفاعل ﴿لِأَنْفُسِكُمْ﴾ متعلق به، والجملة الفعلية صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: ما كنزتموه لأنفسكم، والجملة الاسمية مقول لقول محذوف، تقديره: وتقول الملائكة لهم هذا ما كنزتم لأنفسكم، وجملة القول المحذوف معطوفة على جملة ﴿تكوى﴾ ﴿فَذُوقُوا﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة تفريعية، ﴿ذوقوا﴾ فعل وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الاسمية قبلها مفرعة عليها ﴿مَا﴾ موصولة،
229
أو موصوفة، أو مصدرية في محل النصب مفعول به ﴿كُنْتُمْ﴾ فعل ناقص، واسمه وجملة ﴿تَكْنِزُونَ﴾: خبره وجملة ﴿كان﴾ صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: ما كنتم تكنزونه أو جزاء كنزكم.
التصريف ومفردات اللغة
﴿فِي مَوَاطِنَ﴾؛ أي: أماكن كثيرة - جمع موطن - وهو مقر الإنسان، ومحل إقامته، كالوطن، والمراد بالمواطن: مشاهد الحرب ومواقعها. وفي "المصباح" الوطن: مكان الإنسان ومقره، والجمع أوطان، مثل: سبب وأسباب، والموطن مثل الوطن، والجمع مواطن كمسجد ومساجد، والموطن أيضًا: المشهد من مشاهد الحرب اهـ. قال الشاعر:
وَكَمْ مَوْطِنٍ لَوْلاَيَ طِحْتُ كَمَا هَوَى بِأَجْرَامِهِ مِنْ قِنَّةِ النِّيْقِ مُنْهَوِيْ
﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ﴾ وحنين: واد بين مكة والطائف، على ثلاثة أميال من الطائف، وثمانية عشر ميلًا من مكة، وقيل: وادٍ إلى جنب ذي المجاز، وغزوته: تسمى غزوة أوطاس وغزوة هوازن، وهوازن: قبيلة حليمة السعدية، وكانت تلك الغزوة في شوال، سنة ثمان عقيب رمضان، الذي وقع فيه فتح مكة، قال الشاعر:
نَصَرُوْا نَبِيَّهُمُ وَشَدُّوْا أَزْرَهُ بِحُنَيْنِ يَوْمَ تَوَاكَلَ الأَبْطَالُ
﴿فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ﴾؛ أي: لم تدفع الكثرة والإغناء إعطاء ما يدفع الحاجة ﴿بِمَا رَحُبَتْ﴾ وفي "المختار" الرحب بالضم: السعة، يقال: منه فلان رحيب الصدر، والرحب بالفتح الواسع وبابه ظرف وقرب، والمصدر رحابة كظرافة، ورحب كقرب ﴿مُدْبِرِينَ﴾؛ أي: هاربين ولا تلوون على شيء ﴿سَكِينَتَهُ﴾ والسكينة: الهيئة النفسية التي تحصل من سكون النفس واطمئنانها، وهي ضد الانزعاج، وقد تطلق على الرزانة والوقار، ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ النجس: من نجس الشيء، من باب فهم إذا كان قذرًا غير نظيف، والاسم النجاسة، وفي "الخطيب": النجس مصدر يستوي فيه المذكر والمؤنث، والمفرد والتثنية والجمع،
230
وفي "القاموس" النجس بالفتح والكسر وبالتحريك، وككتف عضد ضد الطاهر، وقد نجس كسمع وكرم اهـ وفي "المصباح": إنه من باب تعب، وفي لغة من باب قتل اهـ.
وقال الراغب: النجاسة: القذارة، وهي ضربان: ضرب يدرك بالحاسة، وضرب يدرك بالبصيرة، وهذا ما وصف الله به المشركين، فقال: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ ويقال: نجسه إذا جعله نسجًا، ونجسه أزال نجسه، ومنه تنجيس العرب، وهي شيء كانوا يفعلونه من تعليق عوذة على الصبي، ليدفعوا عنه نجاسة الشيطان، والناجس والنجيس داء خبيث لا دواء له اهـ.
والمعنى: إنما المشركون ذوو نجس، لأن معهم الشرك، الذي هو بمنزلة النجس، أو أنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات، فهي ملابسة لهم، أو جعلوا كأنهم النجاسات بعينها، مبالغةً في وصفهم بها، وعن ابن عباس أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير، وعن الحسن: من صافح مشركًا توضأ، وأهل المذاهب على خلاف هذين القولين، ذكره في "الفتوحات".
﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً﴾ والعيلة: الفقر يقال: عال الرجل يعيل عيلًا وعيلةً؛ من باب باع إذا افتقر، فهو عائل، وأعال كثر عياله، وهو يعول عيالًا كثيرين؛ أي: يمونهم ويكفيهم أمر معاشهم، وفي "المصباح" العيلة بالفتح: الفقر، وهو مصدر عال يعيل، من باب سار إذا افتقر، قال الشاعر:
وَمَا يَدْرِيْ الْفَقِيْرُ مَتَى غِنَاهُ وَمَا يَدْرِيْ الْغَنِيُّ مَتَى يَعِيْلُ
والجمع عالة، وهو في تقدير فعلة مثل كافر وكفرة، وعيلان بالفتح: اسم رجل، ومنه: قيس بن عيلان قال بعضهم: ليس في كلام العرب عيلان، بالعين المهملة إلا هذا. اهـ. وفي "المختار" وعيال الرجل من يعولهم، وواحد العيال عيِّل، كجيِّد، والجمع عيائل كجيائد، وأعال الرجل كثرت عياله، فهو معيل. والمرأة معيلةٌ قال الأخفش: أي: صار ذا عيال، اهـ ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾ والفضل: العطاء والتفضل: ﴿وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ﴾ يقال: فلان يدين بكذا، إذا اتخذه
231
دينًا وعقيدةً، ودين الحق: هو الدين الذي أنزله الله سبحانه وتعالى على أنبيائه، وهو من دان يدين، من باب باع يبيع.
﴿حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ﴾ والجزية: ضرب من الخراج، يضرب على الأشخاص، لا على الأرض، وجمعها جزًى بالكسر وفي "البحر": الجزية: ما أخذ من أهل الذمة على مقامهم في بلاد الإسلام، سميت بذلك لأنهم يجزونها؛ أي: يقضونها، أو لأنا نجزي بها من مُنَّ عليهم بالإعفاء عن القتل. اهـ ووزنها فعلة، من جزى يجزي، كرمى يرمي إذا كافأ عما أسدي إليه، فكأنهم أعطوها جزاء عما منحوا من الأمن ﴿عَنْ يَدٍ﴾ واليد: السعة والقدرة وفي "زاده": اليد قد تجعل كنايةً عن الانقياد، يقال: أعطى فلان بيده إذا سلم وانقاد؛ لأن من أبى وامتنع.. لم يعط يده، بخلاف المطيع المنقاد، كأنه قيل: قاتلوهم حتى يعطوا الجزية عن طيب نفس وانقياد، دون أن يكرهوا عليه، فإذا احتيج في أخذها منهم إلى الإكراه.. لا يبقى عقد الذمة اهـ.
﴿وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ والصَّغار، والصغر: ضد الكبر، ويكون في الأمور الحسية والمعنوية، والمراد به هنا: الخضوع لأحكام الإسلام وسيادته التي بها تصغر أنفسهم لديهم، بفقد الملك وعجزهم عن مقاومة الحكم.
﴿عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ﴾ بالتنوين: أي: تنوين الصرف وتركه قراءتان سبعيتان فالأولى بناءً على أنه عربي، وليس فيه إلا علة واحدة، والثانية بناء على أنه أعجمي، ففيه العلتان العلمية والعجمة، وعلى كل هو مبتدأ و ﴿ابْنُ اللَّهِ﴾ خبر، فلذلك ثبتت الألف في ابن؛ لأنها لا تحذف مثله، إلا إن كان صفة. اهـ شيخنا، ذكره في "الفتوحات" وعزير: هو الذي يسميه أهل الكتاب عزرا، وينتهي نسبه إلى العازار بن هارون ﴿يُضَاهِئُونَ﴾؛ أي: يشابهون ويحاكون، قرأ العامة: يضاهون بضم الهاء بعدها واو، وقرأ عاصم: بهاء مكسورة بعدها همزة مضمومة بعدها واو، كما مر في مبحث القراءة، فقيل: هما بمعنى واحد، وهو المشابهة، وفيه لغتان ضاهأت وضاهيت، بالهمزة والياء والهمزة لغة ثقيف، وقيل: الياء فرع عن الهمزة، كما قالوا: قرأت وقريت وتوضأت وتوضيت وأخطأت وأخطيت، اهـ
232
"سمين" وفي "المصباح" ضاهأه مضاهأة، مهموز عارضه وباراه، ويجوز التخفيف، فيقال: ضاهيته مضاهاة، وهي مشاكلة الشيء بالشيء وفي الحديث: "أشد الناس عذابًا يوم القيامة، الذين يضاهون خلق الله"؛ أي: يعارضون بما يعملون، والمراد المصورون، اهـ. ﴿قَاتَلَهُمُ اللَّهُ﴾ جملة أصلها الدعاء، ثم كثر استعمالها، حتى قيلت على وجه التعجب في الخير أو الشر، وهم لا يريدون الدعاء ﴿أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ والإفك: صرف الشيء عن وجهه، يقال: أفك فلان؛ أي: صرف عقله عن إدراك الحقائق، ورجل مأفوك العقل.
﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ﴾ والأحبار: جمع حبر - بالفتح والكسر - وهو العالم من اليهود، والكسر أفصح؛ لأنه يجمع على أفعال دون فعول، وقال الفراء: هو بالكسر، وقال أبو عبيد: هو بالفتح، وقال الأصمعي: لا أدري أنه بالفتح أو بالكسر. وكعب الحبر - بالكسر -: منسوب إلى الحبر الذي يكتب به؛ لأنه كان صاحب كتب، والحبرة كالعنبة برد يماني، والجمع حبر كعنب، وحبران والرهبان جمع راهب، وهو لغة الخائف، وعند النصارى: هو المتبتل المنقطع للعبادة، وهم علماء النصارى، كما أن الأحبار علماء اليهود.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: عطف الخاص على العام في قوله: ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ﴾ للتنويه بشأنه حيث جاء النصر بعد اليأس، والفرج بعد الشدة.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبيعة في قوله: ﴿وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ﴾ حيث شبه ما حل بهم من الكرب والهزيمة والضيق النفسي، بضيق الأرض مع سعتها على سبيل الاستعارة التصريحية.
ومنها: الحصر في قوله: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ﴾.
ومنها: التشبيه البليغ في قوله: ﴿نَجَسٌ﴾؛ أي: هم كالنجس في خبث
233
بواطنهم واعتقاداتهم، فحذف منه وجه الشبه وأداة التشبيه، فصار بليغًا، أو هو مجاز عن خبث الباطن وفساد العقيدة، فيكون استعارة لذلك، كما في "الشهاب".
ومنها: المبالغة في قوله: ﴿فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ﴾؛ لأنهم إنما نهوا عن الاقتراب للمبالغة في المنع من دخول الحرم، ونهي المشركين أن يقربوا راجع إلى نهي المسلمين عن تمكينهم من ذلك، اهـ "أبو السعود".
ومنها: الكناية في قوله: ﴿عَنْ يَدٍ﴾؛ لأنه كناية عن الانقياد والاستسلام.
ومنها: الاستفهام التعجبي في قوله: ﴿أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾.
ومنها: اللف والنشر المرتب في قوله: ﴿أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ﴾ لأن أحبارهم راجع لليهود، ورهبانهم راجع للنصارى.
ومنها: التشبيه البليغ في قوله ﴿أَرْبَابًا﴾؛ أي: كالأرباب في الطاعة والعبادة لهم جمع رب، وهو الإله؛ لأنه حذف فيه الأداة ووجه الشبه وهو الاتباع والطاعة لهم.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا﴾ شبه تكذيبهم بآيات الله، بإخماد النار، فاستعار له اسم المشبه به ثم اشتق من الإطفاء، بمعنى التكذيب يطفئوا بمعنى: يكذبوا على طريقة الاستعارة التصريحية التبيعة.
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: ﴿نور الله﴾ حيث شبه شرائع الله سبحانه وتعالى التي منها ما خالفوه من أمر الحل والحرمة وحججه النيرة الدالة على وحدانيته بالنور الحسي، كالشمس بجامع الاهتداء في كل؛ لأنها يهتدى بها إلى الصواب والحق، كما يهتدى بالنور الحسي إلى المحسوسات.
ومنها: التهكم في قوله: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ وفي قوله: ﴿فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ﴾.
234
ومنها: الجناس المماثل في قوله: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ﴾ وقوله: ﴿هَذَا مَا كَنَزْتُمْ﴾.
ومنها: الحذف والزيادة في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
235
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (٣٧) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (٣٨) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠) انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (٤٢) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (٤٣) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (٤٦)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا...﴾ الآية، مناسبة (١)
(١) البحر المحيط.
236
هذه الآية لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى لما ذكر أنواعًا من قبائح أهل الشرك، وأهل الكتاب.. ذكر أيضًا نوعًا منه، وهو تغيير العرب أحكام الله تعالى؛ لأنه حكم في وقت بحكم خاص، فإذا غيروا ذلك الوقت.. فقد غيروا حكم الله تعالى، وهذه الآيات (١) عود على بدء إلى الكلام في أحوال المشركين، وقد كان الكلام في قتال أهل الكتاب ﴿حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ﴾ من قبيل الاستطراد، اقتضاه ما قبله، وهو حكم قتال المشركين ومعاملتهم.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها (٢): أن الكلام السابق في حكم القتال مع اليهود وبيان حقيقة أحوالهم، من خروجهم من هداية الدين في العقائد والأعمال، والفضائل التي تهذب النفوس وتزكيها، والكلام هنا في غزوة تبوك، والمراد بها: قتال الروم وأتباعهم من عرب الشام، وجميعهم نصارى، وبهذا استبان ارتباط الآيات بما قبلها.
قوله تعالى: ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما توعد من لم ينفروا مع الرسول - ﷺ -، وتثاقلوا حين استنفرهم، وضرب لهم من الأمثال ما ضرب.. أتبعه بالأمر الجزم الذي لا هوادة فيه، فأوجب النفير العام على كل فرد، فلا عذر لأحد في التخلف، وترك الطاعة.
قوله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما رغبهم في الجهاد في سبيل الله، وبين أن فريقًا منهم تباطؤوا وتثاقلوا.. أردف ذلك ببيان أن فريقًا منهم تخلفوا عنه، مع ما تقدم من الوعيد والحث على الجهاد، وطفقوا ينتحلون الأعذار الواهية، ويستأذنوه - ﷺ - في القعود والتخلف ليأذن لهم.
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
237
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ...﴾ الآية، سبب نزولها (١): ما أخرجه ابن جرير عن أبي مالك، قال: كانوا يجعلون السنة ثلاثة عشر شهرًا، فيجعلون المحرَّم صَفرًا، فيستحلون فيه المحرمات، فأنزل الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن جرير عن مجاهد في هذه الآية، قال: هذا حين أمروا بغزوة تبوك بعد الفتح، وحين أمرهم بالنفير في الصيف، حين طابت الثمار واشتهوا الظلال، وشق عليهم المخرج، فأنزل الله تعالى: ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا﴾.
قوله تعالى: ﴿إِلَّا تَنفِرُوا...﴾ الآية، أخرج (٢) ابن أبي حاتم، عن نجدة بن نفيع، قال: سألت ابن عباس عن هذه الآية، فقال: استنفر رسول الله - ﷺ -، أحياءً من العرب، فتثاقلوا عنه فأنزل الله تعالى: ﴿إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ فأمسك عنهم المطر، فكان عذابهم.
قوله تعالى: ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن جرير، عن حضرمي، أنه ذكر له أن أناسًا كانوا عسى أن يكون أحدهم عليلًا، أو كبيرًا فيقول: إني آثم فأنزل الله ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا﴾.
قوله تعالى: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن جرير عن عمرو بن ميمون الأزدي، قال: اثنتان فعلهما رسول الله - ﷺ -، لم يؤمر فيهما بشيء: إذنه للمنافقين، وأخذه الفداء من الأسارى، فأنزل الله: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ﴾.
(١) لباب النقول.
(٢) لباب النقول.
238
التفسير وأوجه القراءة
٣٦ - ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ﴾؛ أي: إن عدد الشهور التي تتكون منها السنة القمرية ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: في حكمه وتقديره وعلمه، لا عند الناس أهل الجاهلية؛ لأنهم كانوا يجعلونه ثلاثة عشر شهرًا أو أربعة عشر، ليتسع لهم الوقت، وفي قوله: ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ رد عليهم؛ أي إن عدد شهور السنة في حكمه تعالى، لا بالنظر إلى ما ابتدعه الناس ﴿اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا﴾ من غير زيادة ولا نقصان، مثبتة ﴿فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾؛ أي: في اللوح المحفوظ ﴿يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾؛ أي: مرتبة على هذا الترتيب المعروف فيها أول ما خلق الله السموات والأرض فقوله (١): ﴿فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ وقوله: ﴿يَوْمَ خَلَقَ﴾ بدل من قوله: ﴿عِندَ اللهِ﴾ والتقدير: إن عدد شهور السنة عند الله في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض اثنا عشر شهرًا، هي المحرم وصفر وربيع الأول وربيع الآخر، وجمادى الأولى وجمادى الآخرة ورجب وشعبان ورمضان وشوال وذو القعدة وذو الحجة.
وفائدة الإبدالين: تقرير الكلام في الأذهان؛ لأنه يعلم منه أن ذلك العدد واجب عند الله تعالى في كتاب الله، وثابت في علمه من أول ما خلق الله هذا العالم.
ويجوز أن يكون ﴿فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ صفة اثنا عشر؛ أي: اثنا عشر شهرًا مثبتة في كتاب الله، وهو اللوح المحفوظ، وفي هذه الآية بيان أن الله سبحانه وتعالى وضع هذه الشهور وسماها بأسمائها على هذا الترتيب المعروف يوم خلق السموات والأرض، وأن هذا هو الذي جاءت به الأنبياء، ونزلت به الكتب، وأنه لا اعتبار بما عند العجم والروم والقبط، من الشهور التي يصطلحون عليها ويجعلون بعضها ثلاثين يومًا وبعضها أكثر وبعضها أقل.
والمعنى: أن (٢) مبلغ عدة الشهور اثنا عشر شهرًا فيما كتبه الله وأثبته من نظام سير القمر، وتقديره: منازل منذ خلق السموات والأرض على هذا الوضع
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
239
المعروف لنا من ليل ونهار إلى الآن، والمراد بقوله: يوم خلق السموات والأرض الوقت الذي خلقهما فيه باعتبار تمامه، ونهايته في جملته، وهو ستة أيام من أيام التكوين باعتبار تفصيله، وخلق كل منهما وما فيهما، وقال "البيضاوي": والمعنى أن هذا الأمر ثابت في نفس الأمر منذ خلق الله الأجرام والأزمنة اهـ. والمراد بها شهور السنة القمرية التي هي مبنية على سير القمر في المنازل، وهي شهور العرب التي يعتد بها المسلمون في صيامهم ومواقيت حجهم، وأعيادهم وسائر أمورهم وأحكامهم كالعدد ومدة الحمل والرضاع وآجال الدين.
وأيام هذه المشهور (١) ثلاث مئة وخمسة وخمسون يومًا، والسنة الشمسية عبارة عن دور الشمس في الفلك دورةً تامةً، وهي ثلاث مئة وخمسة وستون يومًا وربع يوم، فتنقص السنة الهلالية عن السنة الشمسية عشرة أيام، فبسبب هذا النقصان تدور السنة الهلالية، فيقع الحج والصوم تارة في الشتاء، وتارة في الصيف.
قال المفسرون: وسبب نزول هذه الآية، من أجل النسيء الذي كانت العرب تفعله في الجاهلية، فكان يقع حجهم تارة في وقته، وتارة في المحرم، وتارة في صفر، وتارة في غير ذلك من سائر الشهور، فأعلم الله عَزَّ وَجَلَّ أن عدة شهور سنة المسلمين التي يعتدون به اثنا عشر شهرًا على منازل القمر وسيره فيها، وهو قوله: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ﴾ يعني: في علمه وحكمه اثنا عشر شهرًا اهـ "خازن".
﴿مِنْهَا﴾؛ أي: من تلك الشهور الاثني عشر ﴿أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾؛ أي: محترمةٌ ثلاثةٌ سرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم وواحد فرد رجب، كما ورد ذلك في السنة المطهرة، وإنما سميت (٢) حرمًا: لأن العرب في الجاهلية كانت تعظمها وتحرم فيها القتال، حتى إن أحدهم لو لقي قاتل أبيه أو ابنه أو أخيه في هذه
(١) الخازن.
(٢) الخازن.
240
الأربعة أشهر.. لم يزعجه، ولما جاء الإِسلام.. لم يزدها إلا حرمة وتعظيمًا، ولأن الحسنات والطاعات فيها تتضاعف، وكذلك السيئات أيضًا أشد فيها من غيرها، فلا يجوز انتهاك حرمتها ﴿ذَلِكَ﴾؛ أي: تحريم الأشهر الأربعة هو ﴿اَلدِّينُ الْقَيِّمُ﴾؛ أي (١): الدِّين القويم دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وكانت العرب وَرِثوه منهما، فكانوا يعظمونها ويحرمون القتال فيها، حتى أحدثت النسيء فغيروا، وقيل: أراد بالدين القويم: الحكم الذي لا يغير ولا يبدل، والقيِّم هنا بمعنى الدائم الذي لا يزول، وقيل: المعنى ذلك؛ أي: كون شهور السنة اثني عشر شهرًا هو الدين القيم، أي: الحساب المستقيم والعدد الصحيح المستوفى، فالدين إذًا بمعنى الحساب، كما في قوله - ﷺ -: "الكيس من دان نفسه - يعني حاسب نفسه - وعمل لما بعد الموت".
فالواجب على المسلمين الأخذ بهذا الحساب والعدد في صومهم وحجهم وأعيادهم وبيعاتهم وأجل ديونهم، وغير ذلك من سائر أحكام المسلمين المرتبة على الشهور ﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ﴾، أي: في هذه الأشهر الحرم الأربعة ﴿أَنْفُسَكُمْ﴾ بإيقاع القتال فيها والهتك لحرمتها، وقيل: الضمير يعود إلى الأشهر كلها الحرم وغيرها.
والمعنى: فلا تظلموا أنفسكم في جميع أشهر السنة بفعل المعاصي وترك الطاعات؛ لأن المقصود منع الإنسان من الإقدام على المعاصي والفساد مطلقًا في جميع الأوقات إلى الممات.
والقول الأول أولى، وهو قول أكثر المفسرين، وقال قتادة: العمل الصالح أعظم أجرًا في الأشهر الحرم، والظلم فيهن أعظم منه فيما سواهن، وإن كان الظلم على كل حال عظيمًا.
فإن قلت: لِمَ خص هذه الأربعة بالتحريم؟
قلت: إن الأنفس (٢) مجبولة بطبعها على الظلم والفساد، والامتناع عنه على
(١) البيضاوي.
(٢) الخازن.
241
الإطلاق شاق على النفس، فخص الله سبحانه وتعالى بعض الأوقات بمزيد التعظيم والاحترام، ليمتنع الإنسان في تلك الأوقات من فعل الظلم والقبائح والمنكرات، فربما تركها في باقي الأوقات، فتصير هذه الأوقات الشريفة والأشهر المحرمة المعظمة، سببًا لترك الظلم والمعاصي في غيرها من الأشهر، فهذا وجه الحكمة في تخصيص بعض الأشهر دون بعض، بمزيد التشريف والتعظيم، وكذلك الأمكنة أيضًا.
وقد ذهب (١) جماعة من أهل العلم إلى أن تحريم القتال في الأشهر الحرم ثابت محكم لم ينسخ، لهذه الآية ولقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ ولقوله: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ﴾ الآية.
وقد ذهب جماعة آخرون إلى أن تحريم القتال في الأشهر الحرم منسوخ بآية السيف، ويجاب عنه بأن الأمر بقتل المشركين ومقاتلتهم مقيد بانسلاخ الأشهر الحرم، كما في الآية المذكورة، فتكون سائر الآيات المتضمنة للأمر بالقتال مقيدة بما ورد في تحريم القتال في الأشهر الحرم، كما هي مقيدة بتحريم القتال في الحرم، للأدلة الواردة في تحريم القتال فيه، وأما ما استدلوا به من أنه - ﷺ - حاصر أهل الطائف في شهر حرام، وهو ذو القعدة، كما ثبت في "الصحيحين" وغيرهما.. فقد أجيب عنه بأنه لم يبتدىء محاصرتهم في ذي القعدة، بل في شوال، والمحرم إنما هو ابتداء القتال في الأشهر الحرم لا إتمامه، وبهذا يحصل الجمع.
وعبارة "المراغي" هنا قوله: ﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ (٢)؛ أي: فلا تظلموا في الأشهر الحرم أنفسكم باستحلال حرامها، فإن الله عظمها وعظم حرمتها، وقد خص بعض الأزمنة وبعض الأمكنة بأحكام من العبادات تقتضي ترك المحرمات فيها، تنشيطًا للنفوس على زيادة العناية بما يزكيها ويطهرها، فقد جرت عادة الإنسان أن يسأم الاستمرار على حال واحدة تشق عليه، ومن ثم جعل الله العبادات الدائمة خفيفة لا مشقة، كالصلوات الخمس، وخص يوم الجمعة
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
242
بوجوب الاجتماع العام لصلاة ركعتين وسماع خطبتين تذكيرًا وموعظة حسنة تقوي في المؤمن حب الخير والتعاون على البر والتقوى، وخص رمضان بوجوب صيامه في كل سنة، وخص أيامًا معدودات من ذي الحجة بأداء مناسك الحج، وجعل ما قبلها وما بعدها من الأيام الحرم استعدادًا للسفر لأداء النسك، وحرم مكة وما حولها في جميع السنة، لتأمين الحج والعمرة التي تؤدى في كل وقت، وحرم رجب في وسط السنة، لتقليل شرور القتال وتخفيف أوزاره ولتسهيل السفر لأداء العمرة فيه، انتهت.
﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً﴾؛ أي: قاتلوا المشركين بأجمعكم مجتمعين على قتالهم ﴿كمَا﴾ أنهم ﴿يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً﴾؛ أي: بأجمعهم مجتمعين على قتالكم.
والمعنى (١): تعاونوا وتناصروا على قتالهم، ولا تتخاذلوا ولا تتدابروا ولا تفشلوا ولا تجبنوا عن قتالهم، وكونوا عباد الله مجتمعين، متوافقين في مقاتلة أعدائكم من المشركين، كما أنهم يقاتلونكم على هذه الصفة.
وفيه (٢) دليل على وجوب قتال المشركين، وأنه فرض على الأعيان، إن لم يقم به البعض.
والمعنى: أي (٣) قاتلوهم جميعًا، وكونوا يدًا واحدةً على دفع عدوانهم وكف أذاهم، كما يقاتلونكم كذلك، ذاك أنهم إنما يقاتلونكم لدينكم وإطفاء نوره، لا للانتقام ولا للعصبية ولا لكسب المال، كما هو دأبهم في قتال قويهم لضعيفهم، فأنتم حينئذٍ أجدر وأولى بالاتحاد لدفع العدوان، وجعل كلمة الله هي العليا وكلمة الشيطان هي السفلى، والله عزيز حكيم.
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾، أي: مع أوليائه، الذين يخشونه في أداء المأمورات واجتناب المنهيات بنصرهم ومعونتهم وتوفيقهم، لما
(١) الخازن.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
243
فيه خيرهم وصلاحهم، فمن يتق الظلم والعدوان في الأرض، وأسباب الفشل والخذلان في القتال من تفرق الكلمة واختلاف الأهواء، ومخالفة سنن الله في الاجتماع.. يكن الله معه ومن كان الله معه، فلا يغلبه أحد.
وقرأ ابن القعقاع وهبيرة عن حفص (١): بإسكان العين مع إثبات الألف في ﴿اثْنَا عَشَرَ﴾ وهو جمع بين ساكنين على غير حده كما روي: "التقت حلقتا البطان". بإثبات ألف حلقتا، وقرأ طلحة: بإسكان السين
٣٧ - ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ﴾؛ أي: إن تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر، كتأخير حرمة المحرم إلى صفر ﴿زِيَادَةٌ في الْكُفْرِ﴾؛ أي: كفر زائد على الكفر الأصلي الذي كان فيهم من الكفر باللهِ ورسوله، أي: إن تأخير الحرمة التي جعلها لشهر واحد وشرعها فيه إلى شهر آخر وجعلها له كفر بما شرعه الله تعالى في ذلك الشهر، زائد على كفرهم بالله ورسوله، وإنما سمى الله سبحانه وتعالى النسيء زيادة في الكفر؛ لأنه نوع من أنواع كفرهم ومعصيةٌ من معاصيهم المنضمة إلى كفرهم بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر.
والمعنى: هو زيادة كفر على كفرهم، وسبب هذه الزيادة أنهم أمروا بإيقاع كل فعل في وقته من الأشهر الحرم، ثم إنهم بسبب أغراضهم الفاسدة أخروه إلى وقت آخر بسبب ذلك النسيء، فأوقعوه في غير وقته من الأشهر الحرم، فكان ذلك الفعل زيادة في كفرهم؛ لأن ضم هذا العمل إلى الأنواع المتقدمة من الكفر زيادة في الكفر.
وكانت العرب تحرم القتال في الأشهر الحرم المذكورة، فإذا احتاجوا إلى القتال فيها.. قاتلوا فيها وحرموا غيرها، فإذا قاتلوا في المحرم.. حرموا بدله شهر صفر، وهكذا في غيره، وكان الذي يحملهم على هذا أن كثيرًا منهم إنما كانوا يعيشون بالغارة بعضهم على بعض، ونهب ما يمكنهم نهبه من أموال من يغيرون عليه ويقع بينهم بسبب ذلك القتال، وكانت الأشهر الثلاثة المسرودة يَضُرُّ بِهِم تواليها، وتشتد حاجتهم وتعظم فاقتهم، فيحللون بعضها ويحرمون مكانه
(١) البحر المحيط.
244
بقدره من غير الأشهر الحرم، فكانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر، فيستحلون المحرم ويحرمون صفر، فإذا احتاجوا إلى تأخير تحريم صفر.. أخروه إلى ربيع الأول، فكانوا يصنعون هكذا، يؤخرون شهرًا بعد شهر حتى استدار التحريم على السنة كلها، وكانوا يحجون في كل شهر عامين، فحجوا في ذي الحجة عامين، ثم حجوا في المحرم عامين، ثم حجوا في صفر عامين، وكذا باقي شهور السنة، فوافقت حجة أبي بكر في السنة التاسعة قبل حجة الوداع المرة الثانية من ذي القعدة، ثم حج رسول الله - ﷺ -، في العام المقبل حجة الوداع، فوافق حجة شهر ذي الحجة، وهو شهر الحج المشروع، فوقف بعرفة في اليوم التاسع وخطب الناس في اليوم العاشر بمنى، وأعلمهم أن أشهر النسيء قد تناسخت باستدارة الزمان، وعاد الأمر إلى ما وضع الله عليه حساب الأشهر يوم خلق السموات والأرض فيما روى الشيخان وغيرهما عن أبي بكر رضي الله عنه أن النبي - ﷺ - قال: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان أي شهر هذا؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: "أليس ذا الحجة؟ " قلنا: بلى، قال: "أي بلد هذا؟ "، قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: "أليس البلد الحرام؟ " قلنا: بلى، قال: "فأي يوم هذا؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: "أليس يوم النحر؟ "، قلنا: بلى، قال: "فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ألا فلا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا ليبلغ الشاهد الغائب، فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه"، ثم قال: "ألا هل بلغت، ألا هل بلغت"، قلنا: نعم، قال: "اللهم اشهد".
وقرأ الجمهور (١): ﴿النَّسِيءُ﴾، مهموزًا على وزن فعيل، وقرأ الزهري وحميد
(١) البحر المحيط.
245
وأبو جعفر وورش عن نافع والحلواني: ﴿النَّسِيءُ﴾ بتشديد الياء من غير همز، وروي ذلك عن ابن كثير، سهل الهمزة بإبدالها ياءً، وأدغم الياء فيها كما فعلوا من نبيء وخطيئة، فقالوا: نبي وخطية بالإبدال والإدغام، وفي كتاب "اللوامع": قرأ جعفر بن محمَّد والزهري والأشهب: ﴿النسي﴾ بالياء من غير همز، مثل الندي وقرأ السلمي وطلحة والأشهب وشبل ﴿النسء﴾، بإسكان السين، وقرأ مجاهد: ﴿النُسوء﴾ على وزن فعول، بفتح الفاء، وهو التأخير ورويت هذه عن طلحة والسلمي.
وقوله: ﴿يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ قرأ ابن مسعود (١) وحفص وحمزة والكسائي ﴿يُضَلُّ﴾ بضم الياء وفتح الضاد مبنيًّا للمجهول، وهو المناسب لقوله: ﴿زين﴾ الآتي، والمعنى أن كبارهم أضلوهم وحملوهم على ذلك النسيء، والتأخير وقرأ باقي السبعة وابن مسعود في رواية عنه والحسن ومجاهد وقتادة وعمرو بن ميمون ويعقوب: بضم الياء وكسر الضاد مبنيًّا للفاعل، والمعنى حينئذ يضل الله بالنسيء والتأخير الذين كفروا، أو يضل به الشيطان الذين كفروا بتزيين ذلك لهم، أو المعنى يضل به رؤساء الذين كفروا تابعيهم، والآخذين بأفعالهم، وهذا المعنى أحسن في تفسير قراءة من قرأ: ﴿يضل﴾ بالبناء للفاعل، كما في "الخازن" ورويت قراءة البناء للفاعل عن الأعمش وأبي رجاء.
وفي "زاد المسير" قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم: ﴿يَضِلُّ﴾ بفتح الياء وكسر الضاد والمعنى: أنهم يكتسبون الضلال به اهـ.
وقرأ أبو رجاء: ﴿يَضَلُّ﴾ بفتحتين من ضللت بكسر اللام، أضل بفتح الضاد، منقولًا فتحها من فتحة اللام، إذ الأصل أضلل، وقرأ النخعي ومحبوبٌ عن الحسن: ﴿نُضِلُّ﴾ بالنون المضمومة وكسر الضاد؛ أي: نضل نحن.
﴿يُحِلُّونَهُ﴾؛ أي: يحلون هذا النسيء والتأخير؛ أي: يحلون هذا المؤخر تحريمه ﴿عَامًا﴾؛ أي: في العام الذي يريدون أن يقاتلوا في المحرم ﴿وَيُحَرِّمُونَهُ﴾
(١) البحر المحيط.
246
أي: ويحرمون التأخير ﴿عَامًا﴾ آخر وهو العام الذي يتركون المحرم على تحريمه؛ أي: يفعلون ذلك التحليل عامًا والتحريم عامًا آخر ﴿لِيُوَاطِئُوا﴾؛ أي: ليوافقوا بتحليل شهر وتحريم آخر بدله ﴿عِدَّةَ﴾؛ أي: عدد ﴿مَا حَرَّمَ اللهُ﴾ من الأشهر فلا يزيدون على تحريم أربعة، ولا ينقصون ولا ينظرون إلى أعيان الأربعة الأشهر، التي حرمها الله تعالى ﴿فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ﴾ بخصوصه يعني المحرم.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: إنهم ما أحلوا شهرًا من الحرم إلا حرموا مكانه شهرًا من الحلال، ولم يحرموا شهرًا من الحلال، إلا أحلوا مكانه شهرًا من الحرام، لأجل أن يكون عدد الأشهر الحرم أربعة، كما حرم الله، فيكون ذلك موافقة في العدد، لا في الحكم، وقال ابن عباس: الذين شرعوا النسيء هم بنو مالك من كنانة، وكانوا ثلاثةً، قيل: أول من شرعه عمرو بن يحيى، وقيل: رجل، يقال له نعيم بن ثعلبة، وقيل غير ذلك.
وكان من عادتهم في ذلك أن يقوم رجل من كنانه في أيام منى، حيث يجتمع الحجيج، فيقول: أنا الذي لا يرد قضاء لي، فيقولون: صدقت، فأخر عنا حرمة المحرم، واجعلها في صفر، فيحل لهم المحرم، وبذلك يجعل الشهر الحرام حلالًا، ثم صاروا ينسؤون غير المحرم ويسمون النسيء باسم الأصل، فتغير أسماء الشهور كلها، فيسمون صفر محرمًا وربيع الأول صفرًا، وهكذا، وبذلك يعلم أن النسيء تشريع ديني ملتزم غيّروا به ملة إبراهيم، اتباعًا للهوى وسوء التأويل، ومن ثم سماه الله زيادة في الكفر؛ أي: إنه كفر بشرع دين لم يأذن به الله، زائد على شركهم بالله وكفرهم به، إذ حق التشريع له وحده، فمنازعته في ذلك شرك في ربوبيته، وهم يضلون به سائر الكفار، الذين يتبعونهم فيه ويظنون أنهم لم يخرجوا به عن ملة إبراهيم إذ واطؤوا عدة ما حرم الله من الشهور في ملته، ولم يزيدوا ولم ينقصوا، وإن قدموا وأخروا مع أن المقصد في ذلك العدد والتخصيص، لا مجرد العدد، وإذا لم يفعلوا ذلك.. فقد استحلوا ما حرم الله تعالى.
﴿زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ﴾؛ أي: زين لهم الشيطان الأعمال السيئة التي
247
يعملونها، ومن جملتها النسيء، حتى حسبوا هذا القبيح، حسنًا بهذه الشبهة الباطلة، إذا اكتفوا بالعدد، ولم ينقصوا منه شيئًا، ولم يدركوا حكمة التخصيص بالأشهر المعينة.
﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾؛ أي: المصرين على كفرهم المستمرين عليه، فلا يهديهم هداية توصلهم إلى المطلوب، وأما الهداية بمعنى الدلالة على الحق والإرشاد إليه فقد نصبها الله سبحانه لجميع عباده.
أي: لا يهديهم إلى الحكمة في أحكام شرعه وجعلها مبنية على مصالح الناس في دينهم ودنياهم، أفرادًا وجماعات، فالهداية الموصلة إلى سعادة الدارين، من آثار الإيمان والعمل الصالح، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ﴾ وأما الكافرون فيتبعون أهواءهم وما يوسوس لهم به الشيطان، فيوقعهم في الشقاء والخسران.
وقرأ الأعمش وأبو جعفر (١): ﴿ليواطيوا﴾ بالياء المضمومة، وقرأ الجمهور: ﴿زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ﴾ بالبناء للمفعول. وقرأ زيد بن علي: ﴿زَيَّنَ لَهُمْ سُوءَ أَعْمَالِهِمْ﴾ بفتح الزاي والياء والهمزة، والأَولى أن يكون المعنى: زَيَّن لهم ذلك الفعل سوء أعمالهم.
٣٨ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ﴾ الكلام من هنا إلى آخر السورة كلام في غزوة تبوك، وكانت في رجب سنة تسع، بعد رجوعه - ﷺ - من الطائف، وفيما لابسها من هتك ستر المنافقين، وضعفاء الإيمان وتطهير قلوب المؤمنين من عوامل الشقاق إلا آيتين جاءتا في آخرها، وإلا ما جاء في أثنائها من بعض الحكم والأحكام جريًا على سنة القرآن في أسلوبه الذي اختص به.
وتبوك موضع في منتصف الطريق بين المدينة ودمشق، فهي تبعد عن المدينة (٦١٠ كم)، أربع عشرة مرحلة، وعن دمشق (٦٩٣ كم).
(١) البحر المحيط.
248
غزوة تبوك
وكان السبب في هذه الغزوة: ما بلغ رسول الله - ﷺ - والمسلمين من الأنباط الذين يقدمون بالزيت من الشام إلى المدينة، من أن هرقل جمع أهل الروم وأهل الشام، وأنهم قدموا مقدماتهم إلى البلقاء، وكان - ﷺ - قليلًا ما يخرج في غزوة إلا ورّى عنها بغيرها، إلا ما كان من غزوة تبوك، وذلك لبعد المسافة وشدة الزمان وكثرة العدو، ليأخذ الناس أهبتهم، فأمرهم بالجهاد وبعث إلى مكة وقبائل العرب، وحض أهل الغنى على النفقة والحمل في سبيل الله، وهي آخر غزواته - ﷺ -، وأنفق عثمان نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها، فجهز عشرة آلاف، وأنفق عليها عشرة آلاف دينار، غير الإبل والخيل وهي تسع مئة بعير ومئة فرس، وغير الزاد وما يتعلق بذلك، حتى ما تربط به الأسقية فقال النبي - ﷺ -: "لا يضر عثمان ما عمل بعدها" وأنفق غيره من الأغنياء، وأول من جاء بالنفقة أبو بكر، فجاء بجميع ماله، أربعة آلاف درهم، وجاء عمر بنصف ماله وجاء ابن عوف بمئة أوقية، وجاء العباس بمال كثير، وكذا طلحة، وبعثت النساء بكل ما يقدرون عليه من حليهن، فلما تجهز رسول الله - ﷺ - بالناس وهم ثلاثون ألفًا. وقيل: أربعون ألفًا، وقيل: سبعون ألفًا، وكان الخيل عشرة آلاف فرس.. خلَّف على المدينة محمَّد بن مسلمة الأنصاري، وقيل: عليَّ بن أبي طالب وتخلف عبد الله بن أبي، ومن كان معه من المنافقين، بعد أن خرجوا إلى ثنية الوداع متوجهًا إلى تبوك، وعقد الأَلوية والرايات فدفع لواءه الأعظم لأبي بكر، ورايته العظمى للزبير، وراية الأوس لأسيد بن حضير، وراية الخزرج للحباب بن المنذر، ودفع لكل بطن من الأنصار ومن قبائل العرب لواءً ورايةً، ولمَّا نزلوا بتبوك وجدوا عينها قليلة الماء، فاغترف رسول الله - ﷺ - غرفة من مائها، فمضمض بها فاه، ثم بصقه فيها ففارت عينها حتى امتلأت، وارتووا هم وخيلهم وركابهم، وأقام بتبوك بضع عشرة ليلة، وقيل: عشرين ليلة، فأتاه يُحَنَّةُ - بضم التحتية وفتح الحاء المهملة والنون المشددة، ثم تاء تأنيث - بن رؤبة - بضم الراء فهمزة ساكنة فموحدة - صاحب أيلة وأهدى له بغلة بيضاء فكساه النبي - ﷺ - رداء، وصالحه على إعطاء الجزية بعد أن عرض عليه الإِسلام، فلم يسلم فكتب له ولأهل أيلة كتابًا تركه عندهم ليعملوا به
249
وقد استشار النبي - ﷺ - أصحابه في مجاوزة تبوك، وأشاروا عليه بعدم مجاوزتها، فانصرف هو المسلمون راجعين إلى المدينة، ولمَّا دنا من المدينة.. تلقاه الذين تخلفوا، فقال لأصحابه: "لا تكلموا رجلًا منهم، ولا تجالسوهم، حتى آذن لكم" فأعرض عنهم المسلمون، حتى إن الرجل ليعرض عن أبيه وأخيه إلى آخر ما في القصة، اهـ من "سيرة الحلبي".
والاستفهام في قوله: ﴿مَا لَكُمْ﴾ للإنكار والتوبيخ؛ أي: أي شيء يمنعكم من ذلك و ﴿ما﴾: مبتدأ و ﴿لكم﴾: خبره وجملة ﴿اثَّاقَلْتُمْ﴾ حال من ضمير المخاطبين وأصله تثاقلتم فأبدلت التاء ثاء، ثم أدغمت في الثاء، ثم اجتلبت همزة الوصل توصلًا إلى النطق بالساكن، وقرأ ابن مسعود والأعمش ﴿تثاقلتم﴾ ﴿إِذَا قِيلَ لَكُمُ﴾ ظرف لهذه الحال مقدم عليها، والتقدير: يا أيها الذين آمنوا بما جاء به محمَّد - ﷺ -، أي شيء ثبت لكم من الأعذار حال كونكم متثاقلين ومشتهين الإقامة في أرضكم في وقت قول الرسول لكم انفروا؛ أي: اخرجوا إلى الجهاد في سبيل الله، يقال: استنفر الإِمام الناس إذا حثهم على الخروج إلى الجهاد ودعاهم إليه ومنه قوله - ﷺ - "إذ استنفرتم.. فانفروا" والاسم النفير اهـ "خازن".
أي: يا أيها الذين آمنوا، ما الذي عرض لكم، مما يخل بالإيمان أو بكماله، من التثاقل والتباطؤ عن النهوض بما طلب منكم، وإخلادكم إلى الراحة واللذة في الأرض، حين قال لكم الرسول: انفروا في سبيل الله لقتال الروم الذين تجهزوا لقتالكم والقضاء على دينكم الحق، الذي هو سبيل سعادتكم، فآية صدق الإيمان بذل النفس والمال في سبيل الله، كما قال: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥)﴾ وكان من أسباب تثاقلهم أمور:
١ - الزمن كان وقت حر شديد.
٢ - أنهم كانوا قريبي عهد بالرجوع من غزوتي الطائف وحنين.
٣ - أنهم كانوا في عسرة شديدة وجهد جهيد من قلة الطعام.
250
٤ - أن موسم الرطب بالمدينة قد تم صلاحه، وآن وقت تلطف الحر؛ لأن رجبًا وافق أكتوبر في تلك السنة، فاقتضى اجتماع هذه الأسباب تثاقل الناس عن تلك الغزوة.
روى ابن جرير عن مجاهد، قال: أمروا بغزوة تبوك بعد الفتح وبعد حنين، وبعد الطائف أمروا بالنفير في الصيف حين اخترمت النخل - اجتني ثمرها - وطابت الثمار واشتهوا الظلال، وشق عليهم المخرج، فقالوا: منا الثقيل، وذو الحاجة والضيعة والشغل والمنتشر به أمره في ذلك كله.
وكان من دأب النبي - ﷺ - إذا خرج إلى غزوة أن يوري بغيرها، لما تقتضيه المصلحة من الكتمان، إلا في هذه الغزوة، فقد صرح بها ليكون الناس على بصيرة لبعد الشقة وقلة الزاد والظهر.
وكانت حكمة (١) الله في إخراجهم، وهو يعلم أنهم لا يلقون فيها قتالًا تمحيص المؤمنين وخزي المنافقين وفضيحتهم فيما كانوا يسرون من الكفر وتربص الدوائر بالمؤمنين، والاستفهام في قوله: ﴿أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ استفهام توبيخ وتعجب؛ أي: أرضيتم بالحياة الدنيا وغرورها ﴿مِنَ الْآخِرَةِ﴾؛ أي: بدل نعيم الآخرة؛ أي: أرضيتم بلذات الدنيا الناقصة الفانية بدلًا من سعادة الآخرة الكاملة الباقية، ومن يفعل ذلك.. فقد استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، ﴿فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾؛ أي: فما التمتع بلذائذ الدنيا ﴿في﴾ مقابلة نعيم ﴿الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ لأن سعادة الدنيا بالنسبة إلى سعادة الآخرة كالقطرة في البحر، وترك الخير الكثير لأجل السرور القليل سفه.
أي: فما هذا الذي تتمتعون به في الدنيا مشوبًا بالمنغصات والآلام إذا قيس بما في الآخرة من النعيم المقيم والرضوان من المولى إلا شيء قليل لا يرضى عاقل أن يتقبله بدلًا منه.
روى أحمد ومسلم والترمذي عن المسور أن النبي - ﷺ -، قال: "والله ما في
(١) المراغي.
251
الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه في اليم ثم يرفعها فلينظر بم يرجع". أي: إن نعيم الدنيا في قلته وقلة زمنه، إذا قيس إلى نعيم الآخرة الطويل الأمد كانت تلك حاله.
وفي الآية (١) دليل على وجوب الجهاد في كل حال، وفي كل وقت؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى نص على أن تثاقلهم عن الجهاد أمر منكر، فلو لم يكن الجهاد واجبًا.. لما عاتبهم على ذلك التثاقل،
٣٩ - ويؤيد هذا الوعيد المذكور الآية الآتية وهي قوله تعالى: ﴿إِلَّا تَنْفِرُوا﴾؛ أي: إن لم تخرجوا أيها المؤمنون إلى ما طلبكم الرسول - ﷺ - للخروج إليه ﴿يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾؛ أي وجيعًا (٢) في الآخرة؛ لأن العذاب الأليم لا يكون إلا في الآخرة، وقيل: إن المراد به احتباس المطر في الدنيا، قال نجدة بن رفيع: سألت ابن عباس عن هذه الآية، فقال: استنفر رسول الله - ﷺ - حيًّا من أحياء العرب، فتثاقلوا فأمسك الله تعالى عنهم المطر، فكان ذلك عذابهم؛ أي (٣): يهلكهم الله بسبب فظيع هائل، كقحط وظهور عدو ﴿وَيَسْتَبْدِلْ﴾ عنكم ﴿قَوْمًا غَيْرَكُمْ﴾ خيرًا منكم وأطوع يطيعونه ويطيعون رسوله؛ لأنه قد وعد بنصره وإظهار دينه على الدين كله ﴿وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ﴾ قال سعيد بن جبير: هم أَبناء فارس، وقيل: هم أهل اليمن، نبه سبحانه وتعالى على أَنه قد تكفل بنصرة نبيه - ﷺ - وإعزاز دينه فإن سارعوا معك إلى الخروج إلى حيث استنفروا... حصلت النصرة بهم ووقع أَجرهم على الله عَزَّ وَجَلَّ، وإن تثاقلوا وتخلفوا عنه.. حصلت النصرة بغيرهم، وحصلت العُتْبَى لهم، لئلا يتوهموا أن إعزاز رسول الله - ﷺ - ونصرته لا تحصل إلا بهم.
والمعنى: أن الله يأتي بعد إهلاككم بدلكم بقوم مطيعين مؤثرين للآخرة على الدنيا، كأهل اليمن وأبناء فارس، والضمير في قوله: ﴿وَلَا تَضُرُّوُه﴾ إما (٤) راجع إلى الله؛ أي: ولا تضروا الله بتثاقلكم عن طاعته ونصرة دينه شيئًا من الضرر،
(١) الخازن.
(٢) الخازن.
(٣) البيضاوي.
(٤) الخازن.
فهو سبحانه الغني عنكم في كل أمر، ﴿وَهُوَ القَاهِرُ فوقَ عِبَادِهِ﴾، وكل من في السموات والأرض مسخر بأمره، ولكن جعل للبشر شيئًا من الاختيار، ليكون حجة عليهم فيما سيلقون من الجزاء على أعمالهم، وإنما تضرون أنفسكم بترككم الجهاد مع رسول الله - ﷺ -، وإما عائد على محمَّد؛ أي: ولا تضروا محمدًا - ﷺ - شيئًا من الضرر، فإن الله ناصره على أعدائه ولا يخذله ﴿وَاللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي: والله سبحانه قادر على كل شيء فهو ينصر نبيه ويعز دينه، وقادر على إهلاككم والإتيان بغيركم إن أصررتم على عصيان رسوله، وتثاقلتم عن الدفاع عن حوزة دينه، ممن يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، ولا يخشون في الحق لومة اللائمين، كما قال: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾.
٤٠ - ثم رغبهم ثانية في الجهاد، فأبان لهم أنه تعالى المتكفل بنصره على أعداء دينه، أعانوه أو لم يعينوه، وهو قد فعل ذلك به، وهو في قلة من العدد والعدو في كثرة، فكيف وهو من العدد في كثرة، والعدو في قلة، فقال: ﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ﴾؛ أي: إن لم تنصروا الرسول الذي استنصركم في سبيل الله على من أرادوا قتاله من أعداء الله، وأعداء رسوله ﴿فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: فسينصره الله بقدرته وتأييده؛ كما نصره ﴿إذ أخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾؛ أي: حين أجمع المشركون على القتل به واضطروه إلى الخروج والهجرة، حال كونه ﴿ثَانِىَ اَثْنَيْنِ﴾؛ أي: أحد اثنين والآخر أبو بكر الصديق، وقرأت (١) فرقة: ﴿ثاني اثنين﴾ بسكون ياء ﴿ثاني﴾ قال ابن جني: حكاها أبو عمرو ووجهه: أنه سكن الياء تشبيهًا لها بالألف وقوله: ﴿إِذْ هُمَا فِي الغَارِ﴾ بدل من قوله: ﴿إذْ أخْرَجَهُ﴾ بدل بعض، والغار ثقب في الجبل المسمى ثورًا، وهو المشهور بغار ثور، وهو جبل قريب من مكة؛ أي: فقد نصره الله إذ هما في غار جبل ثور، وقوله: ﴿إذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ﴾ بدل ثانٍ؛ أي: حين يقول محمَّد - ﷺ -، لصاحبه في الغار، وهوأبو بكر الصديق، لمَّا رأى منه أمارة الحزن ﴿لَا تَحْزَنْ﴾ ولا تخف
(١) البحر المحيط.
253
﴿إنَّ اللهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿مَعَنَا﴾ بنصره ومعونته وحفظه وتأييده، فلن يطلع المشركون علينا، ولن يصلوا إلينا، والمراد بالمعية الولاية الدائمة، التي لا يحوم حول صاحبها شيء من الحزن، اهـ "كرخي".
وكان (١) الصديق قد حزن على رسول الله - ﷺ -، لا على نفسه فقال له: يا رسول الله، إذا من أنا.. فأنا رجل واحد، وإذا مت أنت.. هلكت الأمة والدين.
روي: أن قريشًا ومن بمكة من المشركين تعاقدوا على قتل رسول الله - ﷺ -، فأمره الله تعالى أن يخرج أول الليل إلى الغار، فخرج هو وأبو بكر أول الليل إلى الغار، وأمر - ﷺ - عليًّا أن يضطجع على فراشه، ليمنع السواد من طلبه، حتى يبلغ إلى ما أمر الله به، فلما وصل إلى الغار.. دخل أبو بكر فيه أولًا يلتمس ما فيه، فقال له النبي - ﷺ -: "ما لك؟ " فقال: بأبي أنت وأمي الغار مأوى السباع والهوام، فإن كان فيه شيء كان بي لا بك، وكان في الغار جحر فوضع عقبه عليه؛ لئلا يخرج ما يؤذي الرسول، فلما طلب المشركون الأثر وقربوا.. بكى أبو بكر خوفًا على رسول الله - ﷺ -، فقال - ﷺ -: ﴿لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ بنصره فجعل يمسح الدموع عن خده، وروي لما دخلا الغار.. بعث الله تعالى حمامتين، فباضتا في أسفله والعنكبوت نسجت عليه، فقال - ﷺ -: "اللهم أعم أبصارهم"، فجعلوا يترددون حول الغار، ولا يرون أحدًا، وقصة خروجه - ﷺ - من مكة إلى المدينة، هو وأبو بكر ودخولهما الغار مشهورة مذكورة في كتب السير والحديث، فراجعها، إن أردت تمامها.
روى البخاري ومسلم من حديث أنس، قال: حدثني أبو بكر قال: كنت مع النبي - ﷺ -، في الغار، فرأيت آثار المشركين، فقلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه.. لأبصرنا تحت قدميه، فقال عليه الصلاة والسلام: "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما"، وقال (٢) أبو بكر رضي الله عنه شعرًا من بحر البسيط:
قَالَ النَّبِيُّ وَلَمْ يَجْزَعْ يُوَقِّرُنِي وَنَحْنُ فِيْ سَدَفٍ مِنْ ظُلْمَةِ الْغَارِ
(١) المراح.
(٢) البحر المحيط.
254
لاَ تَخْشَ شَيْئًا فَإِنَّ اللهَ ثَالِثُنَا وَقَدْ تَكَفَّلَ لي مِنْهُ بِإِظْهَارِ
وَإنَّمَا كَيْدُ مَنْ تَخْشَى بَوَادِرَهُ كَيْدُ الشَيَاطِيْنِ قَدْ كَادَتْ لِكُفَّارِ
وَاللهُ مُهْلِكُهُمْ طُرًّا بِمَا صَنَعُوْا وَجَاعِلُ الْمُنْتَهَى مِنْهُمْ إِلَى النَّارِ
وخلاصة ذلك (١): إن لا تنصروه بالنفر لما استنفركم له.. فإن الله قد ضمن له النصر، فهو ينصره كما نصره في الوقت الذي اضطرّه المشركون إلى الهجرة، حين كان ثاني اثنين في الغار، وكان صاحبه قد ساوره الحزن، فقال له: لا تحزن إن الله معنا، ونحن لا نكلف أكثر مما فعلنا من الاستخفاء.
﴿فَأَنزَلَ اَللهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿سَكِيِنَتَهُ﴾؛ أي: طمأنينته التي يسكن عندها القلب ﴿عَلَيْهِ﴾؛ أي: على رسوله، وقيل: على صاحبه أبي بكر؛ لأن الرسول معصوم عن الخوف ﴿وَأَيَّدَهُ﴾؛ أي: قواه ﴿بجُنُودٍ﴾ من عنده ﴿لَّمْ تَرَوْهَا﴾ وهم الملائكة الذين أنزلهم يوم بدر والأحزاب وأُحد، وقيل: بل هم ملائكة أيده بهم في حال الهجرة، يسترونه هو وصاحبه عن أعين الكفار، ويصرفونها عنهما، فقد خرج والشبان المتواطؤون على قتله وقوف ولم ينظروه.
وهذه (٢) الجملة معطوفة على جملة ﴿نَصَرَهُ اَللهُ﴾ ﴿وَجَعَلَ﴾ الله سبحانه وتعالى ﴿كَلِمَةَ اَلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾؛ أي: كلمة الشرك وهي دعوتهم إليه ونداؤهم للأصنام هي ﴿السَّفْلى﴾؛ أي: السافلة الحقيرة الزاهقة المنمحقة المضمحلة ﴿وَكَلِمَةُ اَللهِ﴾ وهي دينه المبنيُّ على أساس توحيده تعالى، والمشتمل على الأحكام والآداب الفاضلة، والخالي من شوائب الشرك، وخرافات الوثنية، أو كلمة لا إله إلا الله، وكلمة الدعوة إلى الإِسلام ﴿هِيَ اَلعُلْيَا﴾؛ أي: العالية الظاهرة بظهور نور الإِسلام وإزالة سيادة المشركين في تلك الجزيرة بعد كفاح طويل دارت فيه الدائرة عليهم ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا﴾ وأتى بضمير الفضل تأكيدا لفضل كلمته في العلو وإشعارًا بأنها المختصة به دون غيرها.
(١) المراغي.
(٢) المراح.
255
وقرأ الجمهور (١): ﴿وَأَيَّدَهُ﴾ بتشديد الياء ومجاهد ﴿وأيده﴾ بالتخفيف وقرأ (٢) الأعمش ويعقوب: ﴿وكلمة الله﴾ بالنصب حملًا على جعل؛ أي: وجعل كلمة الله وقرأ الباقون بالرفع على الاستئناف، وقد ضعف قراءة النصب الفراء وأبو حاتم وقال أبو حيان وقراءة الجمهور بالرفع أثبت في الأخبار وعن أنس رأيت في مصحف أبيٍّ ﴿وجعل كلمته هي العليا﴾ انتهى.
﴿وَاللهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَزِيزٌ﴾؛ أي: غالب على أمره قاهر على أعدائه ﴿حَكِيمٌ﴾ فيما دبره لخلقه إذ يضع الأشياء في مواضعها وقد نصر رسوله بعزته وأظهر دينه على الأديان كلها بحكمته، وأذل من ناوأه من المشركين.
٤١ - ﴿انفِرُوا﴾، أي: اخرجوا أيها المؤمنون مع نبيكم إلى غزوة تبوك حالة كونكم ﴿خِفَافًا﴾ في الخروج لنشاطكم له ﴿و﴾ حالة كونكم ﴿ثقالا﴾ عنه لمشقته عليكم، وقيل: منفردين ومجتمعين، وقيل: فقراء وأغنياء وقيل: شبابًا وشيوخًا، وقيل: رجالًا وفرسانًا، وقيل: ذوي عيال وغير ذوي عيال، وقيل: ذوي أشغال وغير ذوي أشغال، وقيل: أصحاء ومرضى، وقيل: عزابًا ومتأهلين، وقيل غير ذلك.
وقيل (٣): وهذه الآية منسوخة بقوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى﴾، وقيل: الناسخ لها قوله: ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ﴾ الآية، وقيل: هي محكمة وليست بمنسوخة، ويكون إخراج الأعمى والأعرج بقوله: ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ﴾ وإخراج الضعيف والمريض بقوله: ﴿لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى﴾ من باب التخصيص، لا من باب النسخ، على فرض دخول هؤلاء تحت قوله: ﴿خِفَافًا وَثِقَالًا﴾، والظاهر عدم دخولهم تحت العموم.
والصحيح (٤): القول الأول وأنها منسوخة، ولأن الجهاد من فروض
(١) البحر المحيط.
(٢) الشوكاني.
(٣) الشوكاني.
(٤) الخازن.
256
الكفايات، ويدل عليه أن هذه الآيات نزلت في غزوة تبوك، وأن النبي - ﷺ - خلف في المدينة في تلك الغزوة النساء وبعض الرجال، فدل ذلك على أن الجهاد من فروض الكفاية ليس على الأعيان، ومحل (١) النسخ قوله: ﴿وَثِقَالًا﴾، وأما ﴿خِفَافًا﴾ فلا نسخ فيه على كل قول والله أعلم.
أي: انفروا على كل حال من يسرٍ أو عسرٍ، وصحة أو مرض، وغنى أو فقر وقلة العيال أو كثرتهم أو غير ذلك، مما ينتظم في مساعدة الأسباب أو عدم مساعدتها بعد الإمكان والقدرة في الجملة.
فإذا أعلن النفير العام.. وجب الامتثال إلا حال العجز التام، وهو ما بينه الله تعالى في قوله ﴿لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ﴾.
ويؤيد هذا التعميم في عموم الأحوال قول أبي أيوب الأنصاري، وقد شهد المشاهد كلها، إلا غزوة واحدة، قال الله: ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا﴾ فلا أجدني إلا خفيفًا أو ثقيلًا، وقد فهم سلفنا الصالح القرآن على هدي النبي وعمله، ففتحوا البلاد وسادوا العباد، لكن بعد أن انحرفوا عن هديه وتدبر معانيه واكتفوا بتلاوته والتغني بألفاظه، ذلوا وضعفوا واستكانوا، وسادتهم الشعوب الأخرى، وتقوض ملكهم من أطرافه وأصبحوا من المستضعفين، وصاروا عبيدًا لأعدائهم.
﴿وَجَاهَدُواْ﴾ أعداءكم الذين يقاتلون في سبيل الطاغوت ويفسدون في الأرض وابذلوا ﴿بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾؛ أي في إقامة ميزان العدل وإعلاء كلمة الحق، فمن استطاع منكم الجهاد بماله ونفسه.. وجب عليه ذلك، ومن قدر على أحدهما، وجب عليه ما كان في مقدرته ﴿ذَلِكُمْ﴾ الذي أمرتم به من النفر والجهاد الذي هو الوسيلة في حفظ كيان الأمم وعلو كلمتهم ﴿خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ من القعود والتثاقل في دينكم ودنياكم، إما في الدين فلا سعادة إلا لمن ينصر الحق، ويقيم العدل، باتباع هدى الدين والعمل بالشرع الحكيم، وأما في الدنيا، فإنه لا
(١) الفتوحات.
257
عزَّ للأمم ولا سيادة لها إلا بالقوة الحربية التي هي وسيلة لدفاع العدو وكبح جماحه ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أن ثواب الجهاد خير لكم من القعود عنه، فانفروا وجاهدوا في سبيل الله وبادروا إليه وقد علم فضل ذلك المؤمنون الصادقون، فامتثلوا أمره واهتدوا بهديه.
٤٢ - ولما أمرهم بالنفير تخلف بعض المنافقين، لأعذار ضعيفة، وتخلف ناس آخرون من المؤمنين، فأنزل الله في أثناء السفر قوله ﴿لَوْ كَانَ﴾ ما تدعوهم إليه ﴿عَرَضًا قَرِيبًا﴾؛ أي: متاعا قريب المنال وغنيمةً سهلة المأخذ، والعرض: ما عرض لك من منافع الدنيا ومتاعها. يقال: الدنيا عرض حاضر، يأكل منه البر والفاجر ﴿وَسَفَرًا قَاصِدًا﴾؛ أي: متوسطًا بين القريب والبعيد، يعني: سهلًا قريبًا ﴿لَاتَّبَعُوكَ﴾ في الخروج إلى تبوك طمعًا في تلك المنافع؛ أي لخرجوا معك.
والمعنى (١): لو كان ما دعوتهم إليه منفعة قريبة المنال ليس في الوصول إليها كبير عناء وسفرًا هينًا، لا تعب فيه ﴿لَاتَّبَعُوكَ﴾ وأسرعوا بالنفر إليه إذ حب المنافع المادية والرغبة فيها طبيعي في الإنسان، ولا سيما إذا كانت سهلة المأخذ قريبة المنال، وكان من يسعى إليها ممن لا يوقنون باليوم الآخر وما فيه من الثواب المقيم والأجر العظيم، كأولئك المنافقين.
﴿وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ﴾؛ أي: المسافة التي تقطع بمشقة، والشقة (٢): السفر البعيد؛ لأنه يشق على الإنسان سلوكه، فتخلفوا عن الجهاد، بسبب أنهم كانوا يستعظمون غزو الروم، فكانوا كالآيسين من الفوز بالغنيمة.
أي: ولكنَّك استنفرتهم إلى موضع بعيد، وكلفتهم سفرًا شاقًّا؛ لأنك استنهضتهم وقت الحر وزمن القيظ، وحين الحاجة إلى الكن، فتخلفوا جبنًا وحبًّا للراحة والسلامة.
والخلاصة: لو كان العرض قريبًا، والغنيمة سهلة، والسفر قاصدًا.. لاتبعوك، طمعًا في تلك المنافع التي تحصل لهم، ولكن لما كان السفر بعيدًا
(١) المراغي.
(٢) الخازن.
وكانوا يتعظمون غزو الروم، لا جرم أنهم تخلفوا لهذا السبب.
ثم أخبر الله سبحانه وتعالى أنه إذا رجع النبي - ﷺ - من هذا الجهاد، يحلفون باللهِ، وهو قوله تعالى: ﴿وَسَيَحْلِفُونَ﴾؛ أي: المتخلفون عن الغزو عند رجوعك من غزوة تبوك، وهم عبد الله بن أبي وجُدُّ بن قيس ومعتب بن قشير وأصحابهم، كما قال: ﴿يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ﴾ قائلين ﴿بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا﴾ الخروج إلى الجهاد بوجود الزاد والراحلة وانتفاء الأعذار المانعة منه ﴿لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ﴾ إلى غزوة تبوك، فما كان تخلفنا إلا لاضطرار، وقال البيضاوي: هذه (١) الجملة سادة مسد جوابي القسم والشرط، وهذا من المعجزات؛ لأنه إخبار عما وقع قبل وقوعه اهـ.
﴿يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ بإيقاعها في العذاب بامتهان اسم الله بالحلف الكاذب، لستر نفاقهم وإخفائه، تأييدًا للباطل بالباطل، وتقويةً للإجرام بالإجرام، فإن الأيمان الكاذبة توجب الهلاك، روي أنه - ﷺ - قال: "اليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع".
﴿وَاللهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ في أيمانهم وحلفهم بالله، وقولهم: ﴿لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ﴾، فهم كانوا للخروج مطيقين، إذ كانوا أصحاء الأبدان أقوياء الأجسام ذوي يسرة في المال، وقرأ الأعمش وزيد بن علي ﴿لَوُ اسْتَطَعْنَا﴾ بضم الواو، فرَّ من ثقل الكسرة على الواو، وشبهها بواو الجمع، عند تحريكها لالتقاء الساكنين، وقرأ (٢) الحسن: بفتحها، كما جاء ﴿اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ﴾ بالأوجه الثلاثة،
٤٣ - ثم عاتب الله سبحانه وتعالى نبيه - ﷺ - في إذنه لمن تخلف عنه من المنافقين، حين شخص إلى تبوك لغزو الروم، فقال: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ﴾ يا محمَّد، ما وقع منك، من ترك الأولى والأكمل؛ أي: عما عنك ما أدَّاك إليه اجتهادك من الإذن لهم حين استأذنوك وكذبوا عليك في الاعتذار، والاستفهام في قوله: ﴿لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ﴾ للعتاب من الله تعالى لرسوله - ﷺ -، حيث
(١) البيضاوي.
(٢) البحر المحيط.
259
وقع منه الإذن في القعود لمن استأذنه قبل أن يتبين له من هو صادق منهم في عذره الذي أبداه ومن هو كاذب فيه، والعتاب: هو لوم الحبيب حبييه على أمر غير لائق به؛ أي: لأي سببٍ، ولأي شيء أذنت لهم في القعود والتخلف كما أرادوا، وهلا تأنيت في الإذن لهم وتوقفت عنه ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ﴾؛ أي: حتى ينجلي وينكشف لك ﴿الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ في اعتذارهم بعدم الاستطاعة من جهة المال، أو من جهة البدن ﴿وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ﴾ فيما يعتذرون به؛ أي: حتى يتبين لك الفريقان فتعامل كلًّا بما ينبغي أن يعامل به، فإن الكاذبين لا يخرجون أذنت لهم أو لم تأذن، فكان من الأجدر بك والأولى لك، أن تتلبث أو تمسك عنه اختبارًا.
والمعنى: عفا الله عنك يا محمَّد، ما كان منك من إذنك لهؤلاء المنافقين، الذين استأذنوك في ترك الخروج معك إلى تبوك.
روي عن مجاهد في قوله: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ﴾ هم ناس قالوا: استأذنوا رسول الله، فإن أذن لكم، فاقعدوا، وإن لم يأذن لكم، فاقعدوا. وقال ابن عباس، لم يكن رسول الله - ﷺ - يعرف المنافقين يومئذٍ، حتى نزلت سورة براءة، قيل (١): إنما فعل رسول الله - ﷺ - شيئين لم يؤمر بهما: أخذه للفداء - ﷺ - وإذنه للمنافقين، فعاتبه الله عليهما، وفي ذكر العفو عنه - ﷺ - ما يدل على أن هذا الإذن الصادر منه كان خلاف الأولى، وفي هذا عتاب لطيف من الله سبحانه لرسوله - ﷺ -.
فإن قلت: هذا العتاب المذكور هنا، يعارض ما رخص له - ﷺ - في سورة النور، بقوله: ﴿فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ﴾؟
قلت: يمكن الجمع بين الآيتين، بأن العتاب هنا متوجه إلى الإذن قبل الاستثبات، حتى يتبين الصادق من الكاذب، والإذن هنالك متوجه إلى الإذن بعد الاستثبات، والله أعلم.
(١) البيضاوي.
260
قال القاضي عياض في كتابه "الشفاء" (١): وليس عفا هنا بمعنى: غفر، بل كما قال النبي - ﷺ -: "عفا الله لكم عن صدقة الخيل والرقيق" ولم تجب عليهم قط؛ أي لم يلزمكم ذلك، ونحوه للقشيري قال: وإنما يقول: (العفو لا يكون إلا عن ذنب) مَنْ لا يعرف كلام العرب، قال: ومعنى عفا عنك؛ أي: لم يلزمك ذنب،
٤٤ - ثم ذكر سبحانه: أنه ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوا رسول الله - ﷺ - في القعود عن الجهاد بلا عذر، كان من عادتهم أنه - ﷺ - إذا أذن لواحد منهم بالقعود... شق عليه ذلك، فقال: ﴿لَا يَسْتَأْذِنُكَ﴾ يا محمَّد. ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ في ﴿أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ﴾ في سبيل الله بل الخلص منهم يبادرون إليه من غير توقف علي الإذن، فضلًا عن أن يستأذنوك في التخلف من غير عزر، فحيث استأذنك هؤلاء في التخلف كان ذلك مظنةً للتأني في أمرهم، بل دليلًا على نفاقهم، ذكره أبو السعود.
والمعنى: ليس (٢) من شأن المؤمنين بالله - الذي كتب عليهم القتال - وباليوم الآخر الذي يوفي فيه كل عامل جزاء ما عمل، أن يستأذنوك أيها الرسول في أمر الجهاد في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، إذا جد ما يدعو إلى ذلك، بل يُقدمون عليه عند وجوبه من غير استئذان، كما قال: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥)﴾ بل هم يستعدون له وقت السلم بإعداد القوة ورباط الخيل وهم بالأولى لا يستأذنونك في التخلف عنه بعد إعلان النفير العام، وأقصى ما يقع من فريق منهم هو التثاقل والتباطؤ إذا كان النصر بعيدًا.
واعلم: أنه قد تقدم لنا أن هذه السورة تسمى الفاضحة؛ لأنها فضحت أنواع النفاق وكشفت أحوال المنافقين، ومن ثم نقل البغوي وغيره، عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: لم يكن رسول الله - ﷺ - يعرف المنافقين حتى نزلت سورة براءة، والمراد أنه لم يكن يعرفهم كلهم ويعرف شؤونهم بهذا التفصيل حتى
(١) الخازن بتصرف.
(٢) المراغي.
نزلت هذه السورة، وهذه الآيات أول ما نزل في التفرقة بين المنافقين والمؤمنين في القتال. ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ﴾ الذين يسارعون إلى طاعته؛ أي: والله عليم بمن خافه فاتقاه باجتناب ما يسخطه، وفعل ما يرضيه بالمسارعة إلى طاعته في عدوه، وجهادهِ بماله ونفسه، وليس من دأبهم أن يستأذنوا بالتخلف كراهيةً للقتال. وفي (١) الآية إيماء إلى أنه لا ينبغي الاستئذان في أداء شيء من الواجبات ولا فضائل العادات كقرى الضيف، وإغاثة الملهوف، وسائر أعمال المعروف.
٤٥ - ثم صرح بما فهم من الكلام السابق زيادة في التوكيد والتقرير، فقال: ﴿إنَّمَا يَسْتَئْذِنُكَ﴾ يا محمَّد في التخلف عن الجهاد معك من غير عذر ﴿الَّذِينَ لَا يُؤمِنُونَ﴾ ولا يصدقون ﴿بِاللهِ﴾؛ أي: بتوحيده (و) لا بـ ﴿اليوم الآخر﴾ وهم المنافقون، فهؤلاء يرون بذل المال مغرمًا يفوت عليهم بعض المنافع، وهم لا يرجون ثوابًا عليه كما يرجو المؤمنون، ويرون الجهاد بالنفس آلامًا ومتاعب، وذكر (٢) الإيمان بالله أولًا، ثم باليوم الآخر ثانيًا في الموضعين؛ لأنهما الباعثان على الجهاد في سبيل الله، قوله: ﴿وَارْتَابَت قُلُوبُهُمْ﴾ عطف على الصلة في قوله: ﴿الَذَينَ لَا يُؤمِنُونَ﴾ وجاء بالماضي، للدلالة على تحقق الريب في قلوبهم، وهو الشك، وأنما أضاف (٣) الشك والارتياب إلى القلب؛ لأنه محل المعرفة والإيمان أيضًا، فإذا دخله الشك، كان ذلك نفاقًا؛ أي: إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، وارتابت قلوبهم؛ أي: شكت قلوبهم في الدين ﴿فَهُمْ﴾ حال كونهم ﴿في رَيْبِهِمْ﴾ وشكهم المفرق قلوبهم ﴿يتَرَدَّدُونَ﴾؛ أي: يتحيرون لا مع الكفار ولا مع المؤمنين.
والمعنى: فهؤلاء الذين يستأذنونك ليسوا بمؤمنين، بل كانوا مرتابين حائرين، لا يهتدون إلى طريق الصواب، ولا يعرفون الحق، فلم تطمئن به قلوبهم، ولم تذعن له نفوسهم فهم متحيرون في أمرهم، مذبذبون في عملهم، يوافقون المؤمنين فيما سَهلَ أداؤه من عبادات الإِسلام، من صلاة وصيام،
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
(٣) الخازن.
ويلتمسون الخلاص فيما شق عليهم من تكاليفه، ويعتذرون بالمعاذير الكاذبة للهرب من القيام بشيء منها.
٤٦ - وقد جاء في بعض الروايات: أن عدد هؤلاء كان تسعةً وثلاثين رجلًا ﴿وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ﴾ إلى الغزو معك ﴿لَأَعَدُّواْ له﴾؛ أي: لهيؤوا للخروج ﴿عُدَّةً﴾؛ أي: أهبةً من الزاد والراحلة والسلاح ونحو ذلك، مما يحتاج إليه المسافر لمثل هذا السفر البعيد، وقد كانوا مستطيعين لذلك ولم يفعلوا ﴿وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ﴾؛ أي: ولكن لم يرد نهوضهم للخروج معك ﴿فَثَبَّطَهُمْ﴾؛ أي: حبسهم بالكسل.
أي: ولو (١) كانوا صادقين فيما يدعونه ويخبرونك به من أنهم يريدون الجهاد معك.. لأعدوا له عدة، ولكن لم يكن معهم من العدة للجهاد ما يُحتاج إليه، لما تركوا إعداد العدة وتحصيلها قبل وقت الجهاد، كما يستعد لذلك المؤمنون، فمعنى الكلام: أنهم لم يريدوا الخروج أصلًا ولا استعدوا للغزو عدةً، ولكن كره الله انبعاثهم وخروجم، فتثبطوا عن الخروج، فيكون المعنى: ما خرجوا، ولكن تثبطوا؛ لأن كراهة الله انبعاثهم، تستلزم تثبطهم عن الخروج، والانعباث: الخروج؛ أي: حبسهم الله عن الخروج معك، وخذلهم؛ لأنهم قالوا: إن لم يؤذن لنا في الجلوس.. أفسدنا وحرضنا على المؤمنين، وقيل المعنى: لو أرادوا الخروج.. لأعدوا له عدة، ولكن ما أرادوه؛ لكراهة الله له.
والانبعاث في الأصل (٢): توجيه الإنسان أو الحيوان إلى الشيء بقوة، كبعث الرسل وبعث الموتى، والتثبيط: التعويق عن الأمر والمنع منه.
والخلاصة: كره الله نفيرهم وخروجهم مع المؤمنين، لما فيه من الضرر العائق لهم عما أحبه من نصرهم، فثبطهم بما أحدث في قلوبهم من المخاوف التي هي مقتضى سننه من تأثير النفاق فيها، ومن ثم لم يعدوا للخروج عدته،
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
263
لأنهم لم يريدوه، وإنما أرادوا بالاستئذان ستر ما عزموا عليه من المخالفة والعصيان.
﴿وَقِيلَ اقْعُدُوا﴾ أي: قال لهم الشيطان بما يلقيه إليهم من الوسوسة: تخلفوا مع المتخلفين، وقيل: قاله بعضهم لبعض، وقيل: قاله لهم رسول الله - ﷺ - غضبًا عليهم، وقيل: هو عبارة عن الخذلان، أي: أوقع الله في قلوبهم القعود، خذلانًا لهم، ومعنى ﴿مَعَ الْقَاعِدِينَ﴾؛ أي: مع أولى الضرر من العميان والمرضى والنساء والصبيان، وفيه من الذم لهم والإزراء عليهم والتنقيص بهم ما لا يخفى.
أي: وقال لهم الرسول - ﷺ - بعبارة تدل على السخط لا على الرضا: اقعدوا مع الأطفال والزمنى والعجزة والنساء، وهم قد حملوه على ظاهر لموافقته لما يريدون.
وها هنا يتوجه سؤال، وهو أن خروج المنافقين مع رسول الله - ﷺ - إما أن يكون فيه مصلحة أو مفسدة، فإن كان فيه مصلحة.. فلم قال: ﴿وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ﴾ وإن كان فيه مفسدةٌ، فلم عاتب نبيه - ﷺ - في إذنه لهم في القعود؟
الجواب عن هذا السؤال: أن خروجهم مع رسول الله - ﷺ - كان فيه مفسدة عظيمة بدليل أنه تعالى أخبره بتلك المفسدة بقوله: ﴿مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا﴾ بقي أن يقال: فلم عاتب الله ورسوله - ﷺ - بقوله: ﴿لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ﴾؟ فنقول: إنَّه - ﷺ - أذن لهم قبل تمام الفحص وإكمال التأمل والتدبير في حالهم، فلهذا السبب قال تعالى: ﴿لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ﴾ وقيل: إنما عاتبه لأجل أنه أذن لهم قبل أن يوحى إليه في أمرهم بالقعود، اهـ "خازن".
وقرأ محمد بن عبد الملك بن مروان وابنه معاوية ﴿عُده﴾ بضم العين من غير تاء، قال صاحب "اللوامح": لما أضاف.. جعل الكناية نائبةً عن التاء، فأسقطها، وقال أبو حاتم: هو جمع عدةٍ كبرةٍ وبرٍّ ودرةٍ ودرٍ، وقرأ زر بن حبيش
264
وأبان عن عاصم: ﴿عُدَّةً﴾ بكسر العين وهاء إضمار. قال ابن عطية: وهو عندي اسم لما يعد كالذبح والقتل للعدو، سمي قتلًا إذ حقه أن يقتل، وقرئ أيضًا: ﴿عُدَّةً﴾ بكسر العين وبالتاء دون إضافةٍ أي: عدةً من الزاد والسلاح.
الإعراب
﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦)﴾.
﴿إِنَّ﴾ حرف نصب، ﴿عِدَّةَ﴾ اسمها ﴿الشُّهُورِ﴾ مضاف إليه ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿عِدَّةَ﴾؛ لأنه مصدرٌ ﴿اثْنَا عَشَرَ﴾ عدد مركب، معرب الصدر مبنيُّ العجز ﴿اثْنَا﴾ خبر ﴿إِنَّ﴾ وعلامة رفعه الألف، نيابةً عن الضمة؛ لأنه ملحق بالمثنى ﴿عَشَرَ﴾ جزء خبر مبني على الفتح، لشبهه بالحرف شبهًا معنويًّا ﴿شَهْرًا﴾ منصوب على التمييز ﴿فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه صفة لأثنى عشر أو بدل من ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ ﴿يَوْمَ﴾ منصوب على الظرفية متعلق بـ ﴿كِتَابِ اللَّهِ﴾ إن قلنا إنه مصدر لا جثةٌ، أو بدلٌ ثان من ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ﴾ فعل ومفعول ﴿وَالْأَرْضَ﴾ معطوف عليه، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهِ﴾ والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يَوْمَ﴾ وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة ﴿مِنْهَا﴾ جار ومجرور حال من ﴿أَرْبَعَةٌ﴾؛ لأنها صفة نكرة قدمت عليها ﴿أَرْبَعَةٌ﴾ مبتدأ ﴿حُرُمٌ﴾ خبر، والجملة الاسمية في محل الرفع صفة لـ ﴿اثْنَا عَشَرَ﴾ أو مستأنفة ﴿ذَلِكَ﴾ مبتدأ ﴿الدِّينُ﴾ خبر ﴿الْقَيِّمُ﴾، صفه لـ ﴿الدِّينُ﴾ والجملة مستأنفة ﴿فَلَا﴾ ﴿الفاء﴾ فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أن تحريمها هو الدين القيام، وأردتم بيان ما هو الأصلح لكم.. فأقول لكم ﴿لا تظلموا﴾ جازم وفعل وفاعل ﴿فِيهِنَّ﴾ متعلِق به ﴿أَنْفُسَكُمْ﴾ مفعول به، ومضاف إليه والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ﴾ فعل وفاعل ومفعول به ﴿كَافَّةً﴾ حال من واو ﴿وَقَاتِلُوا﴾ أو من ﴿الْمُشْرِكِينَ﴾ ولكنَّه مصدر جامد في
265
تأويل المشتق، كما سيأتي في مبحث التصريف، تقديره: حالة كونكم أو كونهم مجتمعين، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة قوله ﴿فَلَا تَظْلِمُواْ﴾ ﴿كَمَا﴾ ﴿الكاف﴾ حرف جر وتشبيه و ﴿ما﴾ مصدرية ﴿يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول ﴿كَافَّةً﴾ إما حال من واو الفاعل، أو كاف المخاطبين، والجملة الفعلية صلة ﴿ما﴾ المصدرية، ﴿ما﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف، تقديره: كقتالهم إياكم ﴿كَافَّةً﴾ الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف، تقديره: وقاتلوا المشركين كافة، قتالًا كائنًا كقتالهم إياكم كافة ﴿وَاعْلَمُوا﴾ فعل وفاعل معطوف على قوله: ﴿فَلَا تَظْلِمُوا﴾ أو مستأنف، ﴿أَنَّ اَللهَ﴾ ناصب واسمه ﴿مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ ظرف ومضاف إليه خبر ﴿إنَّ﴾ وجملة ﴿إنَّ﴾ في تأويل مصدر سادٍّ مسد مفعولي علم؛ أي: واعلموا كون الله مع المتقين.
﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (٣٧)﴾.
﴿إِنَّمَا﴾ أداة حصر ﴿النَّسِيءُ زِيَادَةٌ﴾ مبتدأ وخبر ﴿فِي الْكُفْرِ﴾ متعلق بـ ﴿زِيَادَةٌ﴾ والجملة الاسمية مستأنفة ﴿يُضَلُّ﴾ فعل مضارع مغير الصيغة ﴿به﴾ متعلق به ﴿الَّذِينَ﴾ اسم موصول في محل الرفع نائب فاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ثان لـ ﴿النَّسِيءُ﴾ ﴿كَفَرُوا﴾ فعل وفعل صلة الموصول ﴿يُحِلُّونَهُ﴾ فعل وفاعل ومفعول ﴿عَامًا﴾ ظرف متعلق به، والجملة في محل النصب حال من الموصول، أو مفسرة للضلال لا محل لها من الإعراب ﴿وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا﴾ معطوف على ﴿يُحِلُّونَهُ﴾ ﴿لِيُوَاطِئُوا﴾ ﴿اللام﴾ لام كي ﴿يواطئوا﴾ فعل وفاعل منصوب بأن المضمرة بعد لام كي ﴿عِدَّةَ مَا﴾ مفعول به، ومضاف إليه ﴿حَرَّمَ اللَّهُ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: عدة ما حرمه، وجملة ﴿يواطىء﴾ صلة ﴿أن﴾ المصدرية، ﴿أن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور ﴿باللام﴾ تقديره: لمواطأتهم عدة ما حرمه الله، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿يحرمونه﴾ ﴿فيُحِلُّوا﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة ﴿يحلوا﴾ فعل وفاعل، معطوف على ﴿يواطئوا﴾ ﴿مَا﴾ في محل النصب مفعول ﴿فيُحِلُّواْ﴾ ﴿حَرَّمَ اللهُ﴾
266
فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما حرمه ﴿زُيِّنَ﴾ فعل ماض مغير الصيغة ﴿لَهُمْ﴾ متعلق به ﴿سُوءُ أَعْمَالِهِمْ﴾ نائب فاعل، ومضاف إليه، والأصل زين لهم الشيطان سوء أعمالهم، كما قاله ابن عباس رضي الله عنه ﴿وَاللهُ﴾ مبتدأ ﴿لَا يَهْدِى القَوْمَ﴾ فعل ومفعول به ﴿الْكَافِرِينَ﴾ صفة لـ ﴿الْقَوْمَ﴾ وفاعله ضمير يعود على ﴿اللهُ﴾ والجملة الفعلية خبر المبتدأ والجملة الاسمية مستأنفة.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (٣٨)﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾ ﴿يا﴾ حرف نداء ﴿أيُّ﴾ منادى نكرة مقصودة و ﴿ها﴾ حرف تنبيه ﴿الَّذِينَ﴾ اسم موصول في محل الرفع صفة لـ ﴿أيُّ﴾ وجملة النداء مستأنفة ﴿آمَنُوا﴾ فعل وفاعل والجملة صلة الموصول ﴿مَا﴾ للاستفهام الإنكاري التوبيخي، في محل الرفع مبتدأ ﴿لَكُمْ﴾ جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، تقديره: أي شيء ثابت لكم، والجملة الاسمية جواب النداء، لا محل لها من الإعراب ﴿إِذَا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان، مجرد عن معنى الشرط، لا جواب لها ﴿قِيلَ﴾ فعل ماض مغير الصِّيغة ﴿لَكُمُ﴾ متعلق به ﴿انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ نائب فاعل محكي، والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة ﴿إِذَا﴾ والظرف متعلق بـ ﴿اثَّاقَلْتُمْ﴾ الآتي وإن شئت قلت: ﴿انْفِرُواْ﴾ فعل وفاعل ﴿في سَبيلِ اللهِ﴾ متعلق به، والجملة في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿قِيلَ﴾، ﴿اثَّاقَلْتُمْ﴾ فعل ماض وفاعل ﴿إِلَى الْأَرْضِ﴾ متعلق به، والجملة في محل النصب حال من كاف المخاطبين في ﴿لَكُمُ﴾ والتقدير: أيُّ شيء ثبت لكم من الأعذار، حال كونكم متثاقلين في وقت قول الرسول لكم: انفروا؛ أي: أخرجوا في سبيل الله ﴿أَرَضِيتُم﴾ ﴿الهمزة﴾ للاستفهام التوبيخي التعجبي الإنكاري ﴿رضيتم﴾ فعل وفاعل ﴿بِالْحَيَاةِ﴾ متعلق به ﴿الدُّنْيَا﴾ صفة للحياة والجملة الاستفهامية مستأنفة ﴿مِنَ الْآخِرَةِ﴾ جار ومجرور حال من ﴿الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ كما ذكره أبو البقاء: أي: حالة كونها بدلًا من الآخرة ﴿فَمَا مَتَاعُ﴾ ﴿الفاء﴾ تعليلية ﴿ما﴾ نافية
267
﴿مَتَاعُ﴾ مبتدأ ﴿الْحَيَاةِ﴾ مضاف إليه ﴿الدُّنْيَا﴾ صفة لـ ﴿الْحَيَاةِ﴾ ﴿في الْآخِرَةِ﴾ جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من المبتدأ، على رأي سيبويه، تقديره: حالة كونه منسوبًا إلى الآخرة ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ ﴿قَلِيلٌ﴾ خبر المبتدأ والجملة الاسمية مسوقة لتعليل النفي المفهوم من الجملة الاسمية، والتقدير: لا ترضوا الحياة الدنيا بدل الآخرة لكون متاع الدنيا قليلًا، وفي "الفتوحات" قوله: ﴿في الْآخِرَةِ﴾ متعلق بمحذوف من حيث؛ المعنى، تقديره: فما متاع الحياة الدنيا محسوبًا في الآخرة، فمحسوبًا: حال من متاع، وقال الحوفي: إنه متعلق بـ ﴿قَلِيلٌ﴾ وهو خبر المبتدأ، قال: وجاز أن يتقدم الظرف على عامله المقرون بإلا؛ لأن الظروف تعمل فيها روائح الأفعال، ولو قلت: ما زيد إلا عمرًا يضرب.. لم يجز، اهـ "سمين".
﴿إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
﴿إلَا﴾ ﴿إنْ﴾ حرف شرط جازم مبني بسكون على النون المدغمة في لام ﴿لا﴾، ﴿لا﴾ نافية ﴿تَنفِرُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بإن الشرطية على كونه فعل شرط لها ﴿يُعَذِّبْكُمْ﴾ فعل ومفعول مجزوم بإن الشرطية، على كوفه جوابًا لها، وفاعله ضمير يعود على الله ﴿عَذَابًا﴾ مفعول به، أو مفعول مطلق ﴿أَلِيمًا﴾ صفة لـ ﴿عَذَابًا﴾ والجملة الشرطية مستأنفة لا محل لها من الإعراب. ﴿وَيَسْتَبْدِلْ﴾ معطوف على ﴿يُعَذِّبْ﴾ وفاعله ضمير يعود على الله ﴿قَوْمًا﴾ مفعول به ﴿غَيْرَكُمْ﴾ صفة لـ ﴿قَوْمًا﴾ لأنه بمعنى مغايرين إياكم ﴿وَلَا تَضُرُّوهُ﴾ فعل وفاعل ومفعول أول، معطوف على يعذب أيضًا ﴿شَيْئًا﴾ مفعول ثان ﴿وَاللَّهُ﴾ مبتدأ ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ متعلق بـ ﴿قَدِيرٌ﴾ ﴿قَدِيرٌ﴾ خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ﴾.
﴿إِلَّا﴾ ﴿إِنَّ﴾ حرف شرط جازم مبني بسكون على النون المدغمة في لام
268
﴿لَا﴾ النافية، ﴿لا﴾ نافية ﴿تَنْصُرُوهُ﴾ فعل وفاعل ومفعول مجزوم بـ ﴿إِنَّ﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، وجواب الشرط محذوف، تقديره: فسينصره الله تعالى، وجملة الشرط مع جوابه المحذوف مستأنفة ﴿فَقَدْ﴾ ﴿الفاء﴾ تعليلية ﴿قد﴾ حرف تحقيق ﴿نَصَرَهُ اللَّهُ﴾ فعل ومفعول وفاعل، والجملة الفعلية في محل الجر بـ ﴿لام﴾ التعليل المقدرة المدلول عليها بـ ﴿الفاء﴾ التعليلية المتعلقة بالجواب المحذوف، الذي قدرناه آنفًا ﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان، في محل النصب على الظرفية، متعلق بـ ﴿نَصَرَهُ اللَّهُ﴾ ﴿أخْرَجَهُ الَّذِينَ﴾ فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محلّ الجر بإضافة ﴿إذْ﴾ إليها ﴿كَفَرُوا﴾ فعل وفاعل، صلة الموصول ﴿ثَانِيَ﴾ منصوب على الحال من الهاء في ﴿أَخْرَجَهُ﴾ ﴿اثْنَيْنِ﴾ مضاف إليه، ولكنه في تأويل مشتق، تقديره: إذ أخرجه الذين كفروا، حالة كونه واحدًا من اثنين؛ أي: حالة كونه منفردًا عن جميع الناس، إلا أبا بكر الصديق، ﴿إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ﴾ ﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان، في محلّ النصب على الظرفية، والظرف بدل من ﴿إِذْ﴾ قبله بدل بعض من كل، فيفرض زمن إخراجه ممتدًا، بحيث يصدق على زمن استقرارهما في الغار، وزمن القول المذكور، والبدل في هذا وما بعده بدل بعض من كل، ولا بد من هذا التكلف لتصح البدلية، وإلا فزمن الإخراج مباين لزمن حصولهما في الغار، إذ بين الغار ومكة مسيرة ساعة ﴿هُمَا﴾ مبتدأ ﴿فِي الْغَارِ﴾ خبره، والجملة في محلّ الجر مضاف إليه.
﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾.
﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى ﴿يَقُولُ﴾ فعل مضارع ﴿لِصَاحِبِهِ﴾ متعلق به، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة في محلّ الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾ والظرف بدل أيضًا من ﴿إِذْ﴾ الأولى بدل بعض من كل ﴿لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ مقول محكي لـ ﴿يَقُولُ﴾ وإن شئت قلت: ﴿لا﴾ ناهية ﴿تَحْزَنْ﴾ فعل
269
مضارع مجزوم بـ ﴿لَا﴾ الناهية، وفاعله ضمير يعود على أبي بكر، والجملة في محلّ النصب مقول ﴿يَقُولُ﴾ ﴿إِنَّ﴾ حرف نصب ﴿اللَّهَ﴾ اسمها ﴿مَعَنَا﴾ ظرف متعلق بمحذوف خبر ﴿إِنَّ﴾ وجملة ﴿إِنَّ﴾ في محلّ النصب مقول القول مسوقة لتعليل ما قبلها ﴿فَأَنْزَلَ اللَّهُ﴾ فعل وفاعل و ﴿الفاء﴾ عاطفة الجملة على جملة قوله: ﴿فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ﴾ ﴿سَكِينَتَهُ﴾ مفعول به ﴿عَلَيْهِ﴾ متعلق بـ ﴿أَنْزَلَ﴾ ﴿وَأَيَّدَهُ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهِ﴾ والجملة معطوفة على جملة ﴿أَنْزَلَ﴾ ﴿بِجُنُودٍ﴾ متعلق بـ ﴿أَيَّدَ﴾ ﴿لَمْ تَرَوْهَا﴾ فعل وفاعل ومفعول به وجازم؛ لأنَّ رأى بصرية، والجملة في محلّ الجر صفة لـ ﴿جنود﴾ ﴿وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ﴾ فعل ومفعول أول ومضاف إليه، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾ والجملة معطوفة على جملة ﴿أيد﴾ ﴿كَفَرُوا﴾ فعل وفاعل صلة الموصول ﴿السُّفْلَى﴾ مفعول ثان لجعل ﴿وَكَلِمَةُ اللَّهِ﴾ مبتدأ ومضاف إليه ﴿هِيَ﴾ ضمير فصل ﴿الْعُلْيَا﴾ خبر المبتدأ والجملة مستأنفة ﴿وَاللَّهُ﴾ مبتدأ ﴿عَزِيزٌ﴾ خبر أول ﴿حَكِيمٌ﴾ خبر ثان، والجملة مستأنفة أو معطوفة على الجملة التي قبلها.
﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١)﴾.
﴿انْفِرُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿خِفَافًا وَثِقَالًا﴾ حالان من واو ﴿انْفِرُوا﴾ ﴿وَجَاهِدُوا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿انْفِرُوا﴾ ﴿بِأَمْوَالِكُمْ﴾ متعلق به ﴿وَأَنْفُسِكُمْ﴾ معطوف على ﴿أَمْوَالِكُمْ﴾ ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿جَاهِدُوا﴾ ﴿ذَلِكُمْ﴾ مبتدأ ﴿خَيْرٌ﴾ خبره ﴿لَكُمْ﴾ متعلق بـ ﴿خَيْرٌ﴾ والجملة مستأنفة ﴿إِنْ﴾ حرف شرط ﴿كُنْتُمْ﴾ فعل واسمه في محلّ الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، وجملة ﴿تَعْلَمُونَ﴾ خبر ﴿كان﴾ وجواب ﴿إِنْ﴾ الشرطية محذوف، تقديره: إن كنتم تعلمون خيريته.. فلا تتثاقلوا عنه، وجملة ﴿إِن﴾ الشرطية مستأنفة.
{لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ
270
بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}.
﴿لَوِ﴾ حرف شرط ﴿كَانَ﴾ فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على ما فهم من السياق، تقديره: لو كان ما دعوتهم إليه ﴿عَرَضًا﴾ خبرها ﴿قَرِيبًا﴾ صفة ﴿عَرَضًا {وَسَفَرًا﴾ معطوف على ﴿عَرَضًا﴾ ﴿قَاصِدًا﴾ صفة ﴿سَفَرًا﴾ ﴿لَاتَّبَعُوكَ﴾ ﴿اللام﴾ رابطة لجواب ﴿لَوْ﴾ الشرطية ﴿اتَّبَعُوكَ﴾ فعل وفاعل ومفعول وجملة ﴿لَوْ﴾ الشرطية مستأنفة ﴿وَلَكِنْ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة ﴿لكن﴾ حرف استدراك ﴿بَعُدَتْ﴾ فعل ماض ﴿عَلَيْهِمُ﴾ متعلق به ﴿الشُّقَّةُ﴾ فاعل وجملة الاستدراك معطوفة على جملة ﴿لَوْ﴾ ﴿وَسَيَحْلِفُونَ﴾ فعل وفاعل ﴿بِاللَّهِ﴾ متعلق به، والجملة معطوفة على جملة الاستدراك ﴿لَوِ﴾ حرف شرط ﴿اسْتَطَعْنَا﴾ فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ ﴿لَوِ﴾ ﴿لَخَرَجْنَا﴾ ﴿اللام﴾ رابطة لجواب ﴿لَوِ﴾ ﴿خَرَجْنَا﴾ فعل وفاعل ﴿مَعَكُمْ﴾ ظرف حال من فاعل ﴿خرجنا﴾؛ أي: حالة كوننا مصاحبين بكم، وجملة ﴿خرجنا﴾ ساد مسد جوابي القسم والشرط جميعًا، كما في "الفتوحات" وجملة ﴿لَوِ﴾ الشرطية في محلّ النصب مقول لقول محذوف، تقديره: وسيحلفون لكم. قائلين: لو استطعنا.. لخرجنا معكم ﴿يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة بدل من جملة قوله ﴿وَسَيَحْلِفُونَ﴾؛ لأنّ الحلف الكاذب إهلاك للنفس. ﴿وَاللَّهُ﴾ مبتدأ، وجملة ﴿يَعْلَمُ﴾ خبره والجملة الاسمية مستأنفة ﴿إِنَّهُمْ﴾ ناصب واسمه ﴿لَكَاذِبُونَ﴾ ﴿اللام﴾ حرف ابتداء ﴿كاذبون﴾ خبر ﴿إن﴾ وجملة ﴿إن﴾ سادة مسد مفعولي عَلم معلقة عنها باللام.
﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (٤٣)﴾.
﴿عَفَا اللَّهُ﴾ فعل وفاعل ﴿عَنْكَ﴾: متعلق به، والجملة مستأنفة ﴿لِمَ﴾ ﴿اللام﴾ حرف جر ﴿م﴾ اسم استفهام إنكاري، في محلّ الجر باللام، مبني بسكون على الألف المحذوفة، فرقًا بينها وبين الموصولة، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿أَذِنْتَ﴾ المذكور بعده ﴿أَذِنْتَ﴾ فعل وفاعل ﴿لَهُمْ﴾ متعلق به أيضًا، وجاز تعلقهما بعامل واحد مع اتحادهما لفظًا لاختلاف معناهما؛ لأنّ الأولى للتعليل،
271
والثانية للتبليغ، كما في "الجمل" والجملة الاستفهامية جملة إنشائية لا محلّ لها من الإعراب ﴿حَتَّى﴾ حرف جر وغاية، ﴿يَتَبَيَّنَ﴾ منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد ﴿حَتَّى﴾ ﴿لَكَ﴾ متعلق به ﴿الَّذِينَ﴾ فاعل وجملة ﴿صَدَقُوا﴾ صلة الموصول، وجملة ﴿يَتَبَيَّنَ﴾ في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿حَتَّى﴾ تقديره: إلى تبيّن الذين صدقوا وظهورهم لك، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿أَذِنْتَ﴾ ﴿وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ﴾ فعل ومفعول معطوف على ﴿يَتَبَيَّنَ﴾ وفاعله ضمير يعود على محمد، وعلم هنا بمعنى: عرف.
﴿لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤)﴾.
﴿لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ﴾ فعل ومفعول وفاعل والجملة مستأنفة ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ فعل وفاعل، صلة الموصول ﴿بِاللَّهِ﴾ متعلق به ﴿وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ معطوف على الجلالة ﴿أَنْ يُجَاهِدُوا﴾ ناصب وفعل وفاعل ﴿بِأَمْوَالِهِمْ﴾ متعلق به ﴿وَأَنْفُسِهِمْ﴾ معطوف عليه والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: في مجاهدتهم بأموالهم وأنفسهم، والجار المحذوف متعلق بـ ﴿يَسْتَأْذِنُكَ﴾ ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ﴾ مبتدأ وخبر ﴿بِالْمُتَّقِينَ﴾ متعلق به والجملة مستأنفة.
﴿إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥)﴾.
﴿إِنَّمَا﴾: أداة حصر ﴿يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ﴾ فعل ومفعول وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾ فعل وفاعل صلة الموصول ﴿بِاللَّهِ﴾ متعلق به ﴿وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ معطوف على الجلالة ﴿وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ فعل وفاعل، معطوف على جملة الصلة ﴿فَهُمْ﴾ مبتدأ و ﴿الفاء﴾ تفريعية عاطفة، ﴿هم﴾ مبتدأ. ﴿فِي رَيْبِهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿يَتَرَدَّدُونَ﴾ وجملة ﴿يَتَرَدَّدُونَ﴾ في محلّ الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مفرعة معطوفة على جملة ﴿وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ﴾.
﴿وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (٤٦)﴾.
272
﴿وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ﴾ حرف شرط وفعل وفاعل ومفعول ﴿لَأَعَدُّوا﴾: فعل وفاعل، جواب ﴿لو﴾ و ﴿اللام﴾ رابطة للجواب ﴿لَهُ﴾ متعلق بـ ﴿أَعَدُّوا﴾ ﴿عُدَّةً﴾ مفعول به وجملة ﴿لو﴾ الشرطية مستأنفة ﴿وَلَكِنْ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة ﴿لكن﴾ حرف استدراك ﴿كَرِهَ اللَّهُ﴾ فعل وفعل ﴿انْبِعَاثَهُمْ﴾ مفعول به، والجملة الاستدراكية معطوفة على جملة ﴿لو﴾ ﴿فَثَبَّطَهُمْ﴾ فعل ومفعول و ﴿الفاء﴾ عاطفة وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾ والجملة معطوفة على جملة ﴿كَرِهَ﴾ ﴿وَقيلَ﴾ فعل ماض مغير الصيغة ﴿اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ﴾ نائب فاعل محكى لـ ﴿قيل﴾ وجملة ﴿قيل﴾ معطوفة على جملة ﴿ثبطهم﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ﴾ ﴿عِدَّةَ﴾ اسم مصدر لعد الشيء، يعده: من باب رد إذا أحصاه، والشهور: جمع شهر، وهو في الأصل اسم للهلال، سميت به الأيام؛ أي: إن عدد شهور السنة القمرية ﴿فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ والكتاب: هو اللوح المحفوظ ﴿حُرُمٌ﴾ بضمتين واحدها حرام من الحرمة، بمعنى: التعظيم ﴿ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾: الدين: الشرع، والقيم: الصحيح المستقيم الذي لا عوج فيه ﴿كَافَّةً﴾: مصدر في موضع الحال، كما تقدم في مبحث الإعراب، ومعناه: جميعًا ولا يثنى ولا يجمع ولا تدخله أن ولا يتصرف فيه بغير الحال، اهـ. كرخي.
﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ﴾ والنسيء: من نسأ الشيء ينسؤه نسأ ومنسأة إذا أخره؛ أي: الشهر الذي أنسىء تحريمه؛ أي: أخر عن موضعه وقال الكسائي: يقال: نسأه وأنساه إذا أخره، وقال الجوهري وأبو حاتم: النسيء فعيل، بمعنى: مفعول من نسأت الشيء فهو منسوء إذا أخرته، ثم حول إلى نسيء كما حول مقتول إلى قتيل، ورجل ناسىء وقوم نسأة، مثل فاسق وفسقة، انتهى. وقال الطبري: النسيء بالهمز معناه: الزيادة، انتهى، فإذا قلت أنسأ الله أجله، بمعنى: أخر، لزم من ذلك الزيادة في الأجل، فليس النسيء مرادفًا للزيادة، بل قد يكون منفردا عنها في بعض المواضع، وإذا كان النسيء مصدرًا كان الإخبار عنه بمصدر واضحًا، وإذا
273
كان بمعنى مفعول فلا بد من إضمارٍ إما في النسيء؛ أي: إن نسأ النسيء، أو في زيادة؛ أي: ذو زيادة، وبتقدير هذا الإضمار يُردُّ على ما يرد على قوله: ولا يجوز أن يكون فعيلًا بمعنى مفعول؛ لأنه يكون المعنى: إنما المؤخر زيادة، والمؤخر الشهر، ولا يكون الشهر زيادة في الكفر ذكره في "البحر".
وفي "المختار": والنسيئة كالفعيلة التأخير، وكذا النسآء، بالفتح والمد، التأخير والنسيء في الآية، فعيل بمعنى: مفعول، من قولك نسأه، من باب: قطع؛ أي: أخره فهو منسوء فحول منسوء إلى نسيء، كما حول مقتول إلى قتيل، والمراد: تأخيرهم حرمة المحرم إلى صفر، انتهى.
﴿انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ النفر والنفور: الفرار من الشيء أو الإقدام عليه بخفة ونشاط، يقال: نفرت الدابة والغزال، نفورًا ونفر الحجيج من عرفات نفرًا واستنفر الملك العسكر إلى القتال، وأعلن النفير العام، فنفروا خفافًا وثقالًا وفي "الخازن" يقال: استنفر الإمام الناس إذا حثهم على الخروج إلى الجهاد ودعاهم إليه، ومنه قوله - ﷺ - "إذا استنفرتم، فانفروا" والاسم النفير، اهـ ﴿اثَّاقَلْتُمْ﴾؛ أي: تبأطاتم وملتم عن الجهاد إلى القعود في الأرض، وأصله تثاقلتم، فأبدلت التاء ثاءً مثلثة ثم أدغمت في الثاء، ثم اجتلبت همزة الوصل، توصلا إلى النطق بالساكن، فصار اثاقلتم ﴿مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ والمتاع ما يتمتع به من لذات الدنيا ﴿إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ﴾ والغار: النقب العظيم في الجبل، والمراد هنا غار جبل ثور، يجمع على غِيران، مثل: تاج وتيجان وقاع وقيعان، والغار أيضًا نبت طيب الريح، والغار أيضًا: الجماعة والغاران: البطن والفرج، وألف الغار منقلبةٌ عن واوٍ، اهـ "سمين".
﴿لِصَاحِبِهِ﴾ والصاحب: هو أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - سكينته والسكينة: سكون النفس واطمئنانها، وهو ضد الانزعاج والاضطراب و ﴿وَكَلِمَةُ اللَّهِ﴾ هي التوحيد و ﴿كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ هي الشرك والكفر.
﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا﴾ أي: انفروا على الصفة التي يخفف عليكم الجهاد فيها، وعلى الصفة التي يثقل عليكم الجهاد فيها، وهذان الوصفان يدخل تحتهما
274
أقسام كثيرة، كما أشرنا إليها في مبحث التفسير.
﴿عَرَضًا قَرِيبًا﴾ والعرض بفتحتين: ما يعرض لك من متاع الدنيا ومنافعها، مما لا ثبات له ولا بقاء، وليس في الوصول إليه كبير عناء ﴿وَسَفَرًا قَاصِدًا﴾ ويقال: سير قاصد، وسفر قاصد؛ أي: هين لا مشقة فيه، من القصد وهو الاعتدال ﴿الشُّقَّةُ﴾ والشقة الطريق، لا تقطع إلا بعناء ومشقة، فهي مشتقة من المشقة كما في "السمين" ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ﴾ والعفو: التجاوز عن التقصير، وترك المؤاخذة عليه ﴿وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ إنما أضاف الشك والارتياب إلى القلب؛ لأنه محلّ المعرفة والإيمان، فإذا دخله الشك، كان ذلك نفاقًا اهـ "خازن".
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الطباق بين يحلون ويحرمون في قوله: ﴿يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا﴾ وبين ﴿الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ﴾ في قوله: ﴿أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ﴾ وبين كلمة ﴿اللَّهُ﴾ وكلمة ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ في قوله: ﴿وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا﴾ وبين قوله: ﴿خِفَافًا وَثِقَالًا﴾، وبين ﴿الصَّادِقِينَ﴾ و ﴿الْكَاذِبِينَ﴾ في قوله: ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ﴾.
ومنها: التكرار في قوله ﴿كَافَّةً﴾ وفي لفظ الجلالة في قوله: ﴿لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ﴾ وفي لفظ ﴿الدُّنْيَا﴾ و ﴿الْآخِرَةِ﴾ في قوله: ﴿أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ...﴾ إلخ.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ وفي قوله: ﴿أعدوا له عدة﴾ وفي قوله: ﴿اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ﴾.
ومنها: الاستفهام الإنكاري التوبيخي في قوله: ﴿مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ﴾.
ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: ﴿أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ﴾؛ أي: أرضيتم بنعيم الدنيا ولذائذها بدل نعيم الآخرة.
275
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ﴾ من إطلاق الكل، وإرادة البعض؛ لأن المراد بها الشهور القمرية.
ومنها: إبهام الفاعل استهجانًا له في قوله: ﴿زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ﴾ إن كان المزين الشيطان، أو للتفخيم إن قلنا: المزين هو الله.
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار؛ لزيادة التقرير والمبالغة في بيان حقارة الدنيا ودنائتها، بالنسبة للآخرة.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى﴾؛ لأنها استعارة عن الشرك، كما أن كلمة الله استعارة عن الإيمان والتوحيد، وفي قوله: ﴿وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ﴾؛ لأنه استعار الشقة للمسافة الطويلة البعيدة التي توجب المشقة على سالكها.
ومنها: الإبهام في قوله: ﴿لِصَاحِبِهِ﴾ إظهارًا بعظم فضله، وجلالة قدره.
ومنها: تقديم المسرة على المضرة، في قوله: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ﴾ حيث قدم العفو على العتاب، وقد أحسن من قال: إن من لطف الله بنبيه: أن بدأه بالعفو قبل العتب.
ومنها: التشبيه في قوله: ﴿كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً﴾.
ومنها: الإسناد المجازي في قوله: ﴿وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ﴾؛ لأنه أسند الارتياب والشك إلى القلب؛ لأنه محل المعرفة والإيمان، فإذا دخله الشك كان ذلك نفاقًا كما مرَّ.
ومنها: الحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
276
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (٤٨) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (٤٩) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (٥٠) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (٥٢) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (٥٣) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (٥٤) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (٥٥) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (٥٩) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لمّا ذكر فيما سلف أن استئذانهم في التخلف عن القتال إنما كان سترًا لنفاقهم وتغطية لعصيانهم.. أردف ذلك ببيان المفاسد التي كانت تنجم من خروجهم لو خرجوا وحصرها في أمور ثلاثة:
277
١ - الاضطراب في الرأي وفساد النظام.
٢ - تفريق الكلمة بالسعي فيما بينكم بالنميمة.
٣ - أنَّ فيكم ناسًا من ضعفاء الإيمان، يسمعون كلامهم ويقبلون قولهم.
قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنها سيقت لبيان أقوالٍ قالها المنافقون، بعضها قيلت جهرًا، وبعضها أكنوه في أنفسهم، وأعذارٍ سيعتذرون بها غير ما سبق منهم، وشؤونٍ أخرى لهم أكثرها من أنباء الغيب.
قوله تعالى: ﴿قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لمّا قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لمّا ذكر اعتذار المنافقين بالمعاذير الكاذبة، وتعللاتهم الباطلة في التخلف عن القتال، وذكر ما يجول في نفوسهم من كراهتهم للرسول - ﷺ - والمؤمنين، وأنهم يتربصون بهم الدوائر.. أردف ذلك ببيان أن نفقاتهم على الجهاد في هذه الحال، طوعًا أو كرهًا، لن يتقبلها الله تعالى، ولا ثواب لهم عليها، لما يبطنونه في صدورهم من الكفر والفسوق عن أمر الله تعالى، فهم إن فعلوا شيئًا من أركان الدين.. فإنما يفعلونه رئاء الناس، وخوفًا على أنفسهم من الفضيحة إذا هم تركوها، وإن أموالهم الكثيرة إنما هي عذاب لهم في الدنيا والآخرة.
قوله تعالى: ﴿وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ...﴾ الآيتين، مناسبة هاتين الآيتين لما قبلهما: أن الله سبحانه وتعالى لمّا بيَّن أن المنافقين يظهرون غير ما يضمرون، فإذا هم طلبوا الإذن خوف الفتنة كانوا كاذبين، وذكر أنهم يتمنون أن تدور الدوائر على المؤمنين.. أردف ذلك بذكر غلوهم في النفاق، وأنهم لا يتحرجون أن يحلفوا الأيمان الفاجرة لستر نفاقهم خوف الفضيحة، وأنهم يتمنون أن يجدوا أي السبل للبعد عن المؤمنين، فيلجؤوا إليها مسرعين.
قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ...﴾ الآيتين، مناسبتهما لما
278
قبلهما: أن الله سبحانه وتعالى لما (١) ذكر أن المنافقين لا يتحرجون عن كاذب الإيمان إذا وجدوا في ذلك طريقًا لخدعة المؤمنين في تصديقهم بأنهم مؤمنون كما هم مؤمنون، كي يأمنوا جانبهم، وأنهم يجدون في البعد عنهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا.. أردف ذلك بذكر سوءة أخرى من سوآتهم، وهي: أنهم يتمنون الفرص للطعن علي النبي - ﷺ -، حتى يوقعوا الريب في قلوب ضعفاء الإيمان من المسلك الذي يوافق أهواءهم، وقد وجدوا من ذلك قسمة الصدقات والمغانم، فولجوا هذا الباب، وقالوا ما شاؤوا أن يقولوا.
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (٢) من يعيب الرسول في قسم الصدقات، بأنّه يعطي من شاء ويحرم من يشاء، أو يخص أقاربه أو يأخذ لنفسه ما بقي، وكانوا يسألون فوق ما يستحقون.. بيَّن تعالى مصرف الصدقات، وأنه - ﷺ - إنما قسم على ما فرضه الله تعالى.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية (٣): ما أخرجه الطبراني وأبو نعيم وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لمّا أراد النبي - ﷺ - أن يخرج إلى غزوة تبوك.. قال للجدِّ بن قيس: "يا جُدَّ بن قيس، ما تقول في مجاهدة بني الأصفر؟ " فقال: يا رسول الله، إني امرؤٌ صاحب نساء ومتى أرى نساء بني الأصفر أفْتتِن، فأُذن لي ولا تفتنِّي، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي...﴾ الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه، من حديث جابر بن عبد الله، مثله وأخرج الطبراني من وجه آخر عن ابن عباس، أن النبي - ﷺ -، قال: "اغزوا، تغنموا بنات بني الأصفر". فقال ناس من المنافقين: إنه ليفتنكم بالنساء، فأنزل الله ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي﴾.
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
(٣) لباب النقول.
279
قوله تعالى: ﴿إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن أبي حاتم، عن جابر بن عبد الله، قال: جعل المنافقون الذين تخلفوا بالمدينة يخبرون عن النبي - ﷺ - أخبار السوء، يقولون: إن محمدًا وأصحابه قد جهدوا في سفرهم وهلكوا، فبلغهم تكذيب حديثهم، وعافية النبي - ﷺ - وأصحابه، فساءهم ذلك، فأنزل الله عز وجل: ﴿إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ...﴾ الآية.
قوله تعالى: ﴿قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس قال: قال الجدُّ بن قيس: إني إذا رأيت النساء.. لم أصبر حتى أفتتن، ولكن أعينك بمالي. قال: ففيه نزلت هذه الآية ﴿أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ﴾ قال: لقوله: أعينك بمالي.
قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه (١) البخاريُّ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما النبي - ﷺ - يقسم جاء عبد الله بن ذي الخويصرة التميمي، فقال: اعدل يا رسول الله، فقال: "ويلك من يعدل إذا لم أعدل" قال عمر بن الخطّاب: دعني أضرب عنقه، قال: "دعه، فإن له أصحابًا، يحقر أحدكم صلاته مع صلاته، وصيامه مع صيامه، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميَّة، ينظر في قذذه، فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر في نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر في رصافه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر في نضيه فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والدم، آيتهم رجل، إحدى يديه - أو قال: ثدييه - مثل ثدي المرأة" أو قال: "مثل البضعة تدردر، يخرجون على حين غفلة من الناس" قال أبو سعيد الخدري: أشهد أني سمعت من رسول الله - ﷺ -، وأشهد أن عليًّا قتلهم وأنا معه، جيء بالرجل على النعت الذي نعته النبي - ﷺ -، قال: فنزلت فيهم ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ﴾ وروى (٢) ابن جرير عن داود بن أبي عاصم: قال: أتى النبي - ﷺ - بصدقةٍ فقسمها ها هنا وها هنا، حى ذهبت ورأى ذلك رجلٌ من الأنصار فقال: ما هذا بالعدل، فنزلت هذه الآية.
(١) البخاري.
(٢) المراغي.
280
ومجموع الروايات يدلّ على أن أشخاصًا من منافقي المدينة قالوا ذلك لحرمانهم من العطية، ولم يقله أحد من المهاجرين، ولا من الأنصار الأولين الذين بايعوا النبي - ﷺ - في منى.
التفسير وأوجه القراءة
٤٧ - وقوله: ﴿لَوْ خَرَجُوا﴾ شروع في بيان المفاسد التي تترتب على خروجهم؛ أي: لو خرج هؤلاء المنافقون المستأذنون في القعود ﴿فِيكُمْ﴾؛ أي: في جيشكم وفي جمعكم، وقيل: في بمعنى: مع؛ أي: معكم ﴿مَا زَادُوكُمْ﴾ بخروجهم معكم شيئًا ﴿إِلَّا خَبَالًا﴾؛ أي: إلا فسادًا وشرًّا، وأصل الخبال: اضطراب ومرض يؤثر في العقل، كالجنون، والمراد به هنا الفساد والنميمة وإيقاع الاختلاف والأراجيف، قيل: هذا الاستثناء متصل والمستثنى منه محذوف، والمعنى: ما زادوكم شيئًا إلا خبالًا، والمتصل ما كان المستثنى فيه من جنس المستثنى منه، بالخبال بعض المستثنى منه المحذوف؛ لأنه داخل في الشيء، وقيل: منقطع، والمعنى: ما زادوكم قوةً ولا شدةً، ولكن خبالًا، وقوله: ﴿وَلَأَوْضَعُوا﴾ معطوف على ﴿مَا زَادُوكُمْ﴾ والمفعول محذوف؛ أي: ولأسرعوا ركائب نمائمهم وإفساداتهم ﴿خِلَالَكُمْ﴾؛ أي: بينكم.
والمعنى: ولأسرعوا بينكم بالإفساد، بما يختلقونه من الأكاذيب المشتملة على الإرجاف والنمائم الموجبة لفساد ذات البين، وقال الحسن: معناه: لأسرعوا بالنميمة، وخط في المصحف ﴿ولا أوضعوا﴾ بزيادة الألف؛ لأنّ الفتحة كانت تكتب ألفًا قبل الخط العربي، والخط العربي اخترع قريبًا من نزول القرآن، وقد بقي من تلك الألف أثرٌ في الطباع، فكتبوا صورة الهمزة ألفًا، وفتحها ألفًا أخرى، ونحوه: أو لا أذبحنه ذكره النسفي.
وقرأ ابن أبي عبلة (١): ﴿ما زادكم﴾ بغير واو؛ أي:. ما زادكم خروجهم إلا خبالا وفسادًا، وقرأ محمد بن القاسم: ﴿لأسرعوا بالفرار﴾ وقرأ مجاهد
(١) البحر المحيط.
281
ومحمد بن زيد: ﴿ولأوفضوا﴾؛ أي: أسرعوا كقوله: ﴿إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ﴾ وقرأ ابن الزبير: ﴿ولأرفضوا﴾ بالراء من رفض، إذا أسرع في مشيه رفضًا ورفضانًا، والخلال جمع الخلل، وهو الفرجة بين الشيئين، وجملة قوله: ﴿يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ﴾ حال (١) من فاعل أوضعوا؛ أي: ولأسرعوا فيما بينكم، حال كونهم باغين؛ أي: طالبين لكم الفتنة؛ أي: يطلبون لكم ما تفتنون به، وذلك أنهم يقولون للمؤمنين: لقد جمعوا لكم كذا وكذا، ولا طاقة لكم بهم، وإنكم ستهزمون منهم، وسيظرون عليكم، ونحو ذلك من الأحاديث الكاذبة التي تورث الجبن والفشل.
والمعنى: يطلبون لكم، ما تفتنون به بإلقاء الرعب في قلوبكم، وبإفساد نياتكم، وقيل معناه: يطلبون لكم العيب والشر، وجملة قوله: ﴿وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾ حال إما من مفعول ﴿يَبْغُونَكُمُ﴾ أو من فاعله، وجاز ذلك؛ لأنّ في الجملة ضميريهما، قال مجاهد: يعني وفيكم في خلالكم عيون لهم، يؤدون إليهم أخباركم، وما يسمعون منكم، وهم الجواسيس، فاللام على هذا المعنى للتعليل، وقال قتادة: وفيكم مطيعون لهم، يسمعون كلام المنافقين ويطيعونهم، وذلك؛ لأنهم يلقون إليهم أنواعا من الشبهات الموجبة لضعف القلب، فيقبلونها منهم، فاللام على هذا المعنى لتقوية التعدية، كقوله تعالى: ﴿فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾.
فإن قلت: كيف (٢) يجوز أن يكون في المؤمنين المخلصين من يسمع ويطيع المنافقين؟
قلتُ: يحتمل أن يكون بعض المؤمنين لهم أقارب من كبار المنافقين ورؤساءهم، فإذا قالوا قولًا.. ربما أثر في قلوب ضعفة المؤمنين، في بعض الأحوال. اهـ "خازن".
ومعنى الآية (٣): لو خرج هؤلاء المنافقون المستأذنون في القعود معكم.. ما زادوكم قوةً ومنعةً وإقدامًا كما هو الشأن في القوى المتحدة في العقيدة
(١) الفتوحات.
(٢) الخازن.
(٣) المراغي.
282
والمصلحة، بل زادوكم اضطرابًا في الرأي، وضعفًا في القتال، ومفسدةً للنظام، كما حدث مثل ذلك في غزوة حنين، فقد ولى المنافقون الأدبار في أول المعركة، وولى على أثرهم ضعفاء الإيمان من طلقاء فتح مكة، ومن ثم اضطرب نظام الجيش، فولى أكثر المؤمنين معهم بلا تدبر وتفكير، كما هو الشأن في مثل هذه الأحوال، ولأوضعوا؛ أي: ولأسرعوا في الدخول فيما بينكم، سعيًا بالنميمة، وتفريق الكلمة، يبغون بذلك تثبيطكم عن القتال، وتهويل أمر العدو، وإيقاع الرعب في قلوبكم، وفيكم ناس من ضعفاء الإيمان، أو ضعفاء العزم، يسمعون كلامهم، فإذا ألقوا إليهم شيئًا مما يوجب ضعف العزائم.. قبلوه، وفتروا بسببه عن القيام بأمر الجهاد كما ينبغي.
﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ وبما يحدث منهم لو خرجوا معكم علمًا يحيط بظواهرهم وبواطنهم وأعمالهم ما تقدم منها وما تأخر، وبما هم مستعدون له في كل حال مما وقع، ومما لم يقع، فأحكامه فيهم على علم تام، لا ظن فيه ولا اجتهاد كاجتهاد الرسول - ﷺ - في الإذن لهم، ولا ينافي (١) حالهم هذا لو خرجوا مع رسول الله - ﷺ - ما تقدم من عتابه على الإذن لهم في التخلف؛ لأنه سارع إلى الإذن لهم ولم يكن قد علم من أحوالهم لو خرجوا أنهم يفعلون هذه الأفاعيل، فعوتب - ﷺ - على تسرعه إلى الإذن لهم قبل أن يتبين له الصادق منهم في عذره من الكاذب، ولهذا قال الله فيما يأتي في هذه السورة ﴿فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا﴾ الآية، وقال في سورة الفتح: ﴿سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ﴾ إلى قوله: ﴿قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا﴾ وفي قوله: ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ وعيدٌ وتهديدٌ للمنافقين الذين يلقون الفتن والشبهات بين المؤمنين.
والخلاصة: أن وجه (٢) العتاب على الإذن في قعودهم مع ما قص الله تعالى من المفاسد التي تترتب على خروجهم أنهم لو قعدوا بغير إذن منه.. لظهر نفاقهم
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
283
بين المسلمين بادئ ذي بدء فلم يستطيعوا مخالفتهم ولا السعي فيما بينهم بالأراجيف وقالة السوء التي يقبح أثرها وتسوء عاقبتها.
والذي تثبته هذه الآية: أن خروجهم شرٌّ لا خير فيه، وهو ضعف لا قوةٌ، ولكنه - ﷺ - لم يكن يعلم أنهم لا يخرجون إذا لم يأذن لهم؛ فهذا من أخبار الغيب التي لا يعلمها إلا الله وهو لم يعلمه قبل نزول هذه الآيات.
فقد كان من حكمة الله تعالى في تربية رسوله - ﷺ - وتكميله أن يبين له بعض الحقائق بعد اجتهاده فيها، لتكون أوقع في نفسه ونفس أتباعه، فيحرصون على العمل بها ولا يحكموا أهواءهم فيها، وكذلك كان السلف الصالح يسيرون على نهجه ويهتدون بهديه.
٤٨ - وعزتي وجلالي ﴿لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ﴾ أي: أي لقد ابتغى وطلب هؤلاء المنافقون إيقاع الفتنة في المسلمين وتفريق شملهم؛ أي: لقد طلبوا صد أصحابك يا محمد عن الدين وردهم إلى الكفر، وتخذيل الناس عنكم ﴿مِن قَبْلُ﴾؛ أي: من قبل هذه الغزوة، وهي غزوة تبوك، كما فعل عبد الله بن أبي بن سلول زعيم المنافقين يوم أحد، حين انصرف بأصحابه عنكم، حين اعتزل بثلث الجيش، في موضع يسمى الشوط بين المدينة وأحدٍ، وطفق يقول للناس: أطاع النبي الولدان ومن لا رأي له، فعلام نقتل أنفسنا، وكان من رأيه عدم الخروج إلى أحد، فرجع بمن اتبعه من المنافقين، وكاد يتبعه بنو سلمة وبنو حارثة فيرجعون، ولكن عصمهما الله تعالى من الفتنة.
﴿وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ﴾؛ أي: ودبروا لك المكايد والحيل في إبطال دينك ورد أمرك، فكان لهم خوض مع اليهود ومع المشركين في كل ما فعلا من عداوته - ﷺ - وقتال المؤمنين، وقرأ مسلمة من محارب (١): ﴿وقلَبوا﴾ بتخفيف اللام.
وقوله: ﴿حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ﴾ غاية للمحذوف تقديره: واستمروا على تقليب الأمور وتدبير المكايد لك وإثارة الفتنة بين المسلمين وتنفير الناس عن قبول
(١) البحر المحيط.
الحق، حتى جاء الحق والنصر الإلهي الذي وعده لك ربك ﴿وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ﴾ أي: ظهر دين الله وعلا شرعه وغلب دينه بظهور الأسباب التي تقوي شرع محمَّد - ﷺ -، كالتنكيل باليهود الغادرين الناكثين للعهود، والنصر على المشركين بفتح مكة، ودخول الناس في الإِسلام أفواجًا ﴿وَهُمْ كَارِهُونَ﴾؛ أي: والحال أنهم كارهون لمجيء هذا الحق وظهور أمر الله، ولكن كان ذلك على رغم أنف منهم.
وفي الآيتين (١) تسليةٌ لرسوله - ﷺ - والمؤمنين على تخلف المنافقين، وبيان ما ثبطهم الله تعالى، لأجله، وكره انبعاثهم له، وهتك أستارهم، وكشف أسرارهم، وإزاحة اعتذارهم، تداركًا لما فوت الرسول - ﷺ - بالمبادرة إلى الإذن، ولذلك عوتب عليه.
٤٩ - ﴿وَمِنْهُمْ﴾؛ أي: ومن هؤلاء المنافقين ﴿مَنْ يَقُولُ﴾ لك يا محمَّد ﴿ائْذَنْ لِي﴾ في القعود في المدينة ﴿وَلَا تَفْتِنِّي﴾؛ أي: ولا توقعني في الفتنة؛ أي: في العصيان والمخالفة، بأن لا تأذن لي فإنك إن منعتني من القعود، وقعدت بغير إذنك.. وقعت في الإثم، وقيل معناه: لا توقعني في الهلكة بالخروج، وقيل معناه أي: ومن المنافقين ناسٌ يستأذنوك في التخلف عن القتال، حتى لا يفتنوا بنساء الروم، روى ابن أي حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - ﷺ -، يقول: لجد بن قيس: يا جد، هل لك في جلاد بني الأصفر؛ أي: في جهاد ملوك الروم، قال الجد: يا رسول الله، قد علمت الأنصار أني مغرم بالنساء، فلا تفتني ببنات بني الأصفر، وإني أخشى إن رأيتهن.. أن لا أصبر عنهم، ولكني أعينك بمالي، فقال رسول الله - ﷺ -، وهو معرضٌ عنه: "قد أذنت لك" فنزلت الآية، كما سبق في مبحث الأسباب، وبنو الأصفر هم أولاد الأصفر بن روم بن عيصو بن إسحاق، أو لأن جيشًا من الحبشة غلب عليهم، فوطىء نساءهم فولد لهم أولادٌ صفر، اهـ "قاموس".
(١) الخازن م.
285
وقد ردَّ الله شبهته وشبهة من وافقه عليها، بقوله: ﴿أَلَا﴾؛ أي: انتبهوا أيها المخاطبون ﴿فِي الْفِتْنَةِ﴾ العظيمة، وهي فتنة التخلف عن الجهاد، والاعتذار الباطل، ﴿سَقَطُوا﴾؛ أي: وقعوا.
والمعنى (١): أنهم ظنوا أنهم بالخروج أو بترك الإذن لهم يقعون في الفتنة، وهم بهذا التخلف سقطوا في الفتنة العظيمة، فإن أعظم أنواع الفتن الكفر بالله ورسوله، والتمرد عن قبول التكليف؛ أي (٢): فليعلموا أنهم بمقالتهم هذه سقطوا، وتردوا في هاوية الفتنة، حيث اعتذروا بالمعاذير الكاذبة، من حيث يزعمون إتقاء التعرض للإثم، ثم بالنظر إلى جمال نساء الروم، وشغل القلب بمحاسنهم، وفي التعبير (٣) بالسقوط ما يشعر بأنهم وقعوا فيها وقوع من يهوي من أعلى إلى أسفل، وذلك أشد من مجرد الدخول في الفتنة.
وقرا ورشٌ (٤): بتخفيف همزة ﴿ائْذَن ليِ﴾ بإبدالها واوًا لضمة ما قبلها، وقال النحاس ما معناه: إذا دخلت الواو أو الفاء على إئذن، فهجاؤها في الخط ألف وذال، ونون بغير ياء، أو ثم فالهجاء ألف وياء وذال ونون، والفرق: أن ثم يوقف عليها، وتنفصل بخلافهما، وقرأ عيسى بن عمرو ﴿ولا تُفتني﴾ بضم التاء الأولى من أفتن، الرباعي، قال أبو حاتم: هي: لغة تميم، وهي أيضًا قراءة ابن السميقع، ونسبها ابن مجاهد إلى إسماعيل المكي، وجمع الشاعر بين اللغتين فقال:
لَئِنْ فَتَنَتْنِي فَهِيَ بِالأَمْسِ أَفْتَنَتْ سَعِيْدا فأَمْسَى قَدْ قَلَا كُلَّ مُسْلِمِ
وقرىء (٥): ﴿سقط﴾؛ أي: مراعة للفظ من.
ثم توعدهم على ذلك، فقال: ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾؛ أي: مشتملة عليهم من جميع الجوانب، لا يجدون عنها مخلصًا، ولا يتمكنون من
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني.
(٤) البحر المحيط.
(٥) أبو السعود.
286
الخروج منها بحال من الأحوال.
أي: وإن النار لمطيفة بمن كفر باللهِ، وجحد آياته وكذب رسله، جامعةٌ لهم يوم القيامة، وكفى بها نكالًا ووبالًا. وهذا وعيد لهم على الفتنة التي تردوا فيها، وبيانٌ بأن عقابهم بإحاطة جهنم بهم عقاب على الكفر الذي حملهم على ذلك الاعتذار، وإنما تحيط النار بمن أحاطت بهم خطاياهم، حتى لا رجاء في توبتهم منها، كما قال تعالى: ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٨١)﴾.
٥٠ - ﴿إِنْ تُصِبْكَ﴾ يا محمَّد في بعض الغزوات، كيوم بدر ﴿حَسَنَةٌ﴾ من ظفر أو غنيمةٍ أو انقياد بعض ملوك الأطراف ﴿تَسُؤْهُمْ﴾؛ أي: تحزنهم لشدة عداوتهم لك، والحسنة: كل ما يسر النفس حصوله من غنيمة ونصر ونحوهما؛ أي: إن كل ما يسرك من النصر والغنيمة، كما حدث يوم بدر يورثهم كآبة وحزنًا لفرط حسدهم وشدة عدواتهم، ﴿وَإِنْ تُصِبْكَ﴾ في بعض الغزوات ﴿مُصِيبَةٌ﴾؛ أي: شدة، وإن صغرت كانكسار جيش وهزيمة كما حدث يوم أحد ﴿يَقُولُوا﴾ معجبين بآرائهم حامدين ما صنعوا ﴿قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا﴾؛ أي: أخذنا حذرنا وعملنا بالحزم، ولزمنا بالاحتياط حين اعتزلنا عن المسلمين، وتخلفنا عن الخروج معهم للقتال، وجاملنا مع الكفرة ﴿مِنْ قَبْلُ﴾؛ أي: من قبل هذه المصيبة، ولم نلق بأيدينا إلى الهلاك.
والمعنى: احتطنا لأنفسنا، وأخذنا بالحزم، فلم نخرج إلى القتال كما خرج المؤمنون حتى نالهم من المصيبة ﴿وَيَتَوَلَّوْا﴾؛ أي: وينصرفوا ويرجعوا إلى أهلهم عن مقامات الاجتماع ومواطن التحدث التي يقولون فيها هذا القول، أو يعرضوا عن النبي - ﷺ -، ﴿وَهُمْ فَرِحُونَ﴾ فرح البطر والشماتة، ومسرورون بما أصابك من المصيبة وبسلامتهم منها.
فإن قلت: لم قابل الله هنا الحسنة بالمصيبة، ولم يقابلها بالسيئة، كما قال: في سورة آل عمران ﴿وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا﴾؟
قلت: لأنّ الخطاب هنا للنبي - ﷺ -، وهي في حقه مصيبة يثاب عليها، لا
سيئة يعاتب عليها، والتي في آل عمران خطاب للمؤمنين اهـ "شهاب".
٥١ - ثُمَّ لما قالوا هذا القول.. أمر الله رسوله - ﷺ - بأن يجيب عليهم بقوله: ﴿قُل﴾ يا محمد لهؤلاء المنافقين، الذين يفرحون بمصائبك ويحزنون بمسارك بيانًا، لبطلان اعتقادهم ﴿لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا﴾؛ أي: إلا ما خط لنا، وكتب علينا في اللوح المحفوظ، بحسبه سننه تعالى في خلقه، من نصر وغنيمة، أو تمحيص وشهادة، ولا يتغير ذلك بموافقتكم أو مخالفتكم، فالأمور كلها بقضائه تعالى.
والمعنى: لن يصيبنا، ولن يحصل لنا خيرٌ ولا رخاء، ولا أمن، ولن يقع علينا شر ولا شدة ولا خوف، إلا وهو مقدر لنا، مكتوب علينا عند الله سبحانه وتعالى، فإذا صرنا مغلوبين صرنا مستحقين للأجر العظيم، وإن صرنا غالبين صرنا مستحقين للثواب في الآخرة، وفزنا بالمال الكثير والثناء الجميل في الدنيا ﴿هُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿مَوْلَانَا﴾؛ أي: ناصرنا ومتولي أمورنا بتوفيقنا ونصرنا، وجاعل العاقبة لنا، ومظهر دينه على جميع الأديان ﴿وَعَلَى اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى، لا على غيره ﴿فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾؛ أي: فليعتمد المؤمنون، وليتقوا به؛ أي: فنحق نتوكل عليه ونلتجأ إليه، فلا نيأس عند شدة ولا نبطر عند نعمةٍ.
ومن حق (١) المتوكل على الله وحده أن يقوم بما أوجبه عليه في شرعه، ويهتدي بسننه في خلقه، عن الأخذ بأسباب النصر المادّية والمعنوية، كإعداد العدة، وإتقاء التنازع الذي يولد الفشل ويفرق الكلمة، ثم بعد ذلك يكل الأمر إلى الله فيما لا تصل إليه الأيدي من الأسباب ويتوقف عليه حصول النجاح.
ويقابل التوكل بهذا المعنى إتكال الماديين على حولهم وقوتهم وحدها، حتى إذا أدركهم العجز خانهم الصبر، وأدركهم اليأس، حين حلول البأس واتكال ذوي الأوهام الذين يتعلقون بالأماني والأحكام حتى إذا ما استبان لهم فساد أوهامهم.. نكصوا على أعقابهم، وكفروا بوعد ربهم بنصر المؤمنين، وهو إنما
(١) أبو السعود.
وعد أولياءه لا أولياء الشيطان وذوي الخرافات والأوهام وقرأ (١) ابن مسعود، وابن مصرف: ﴿هل يصيبا﴾ مكان ﴿لَنْ يُصِيبَنَا﴾ وقرأ ابن مصرف أيضًا، وأعْيَنُ قاضي الري: ﴿هل يصيبنا﴾ بتشديد الياء، وهو مضارع فَيْعَلَ، نحو: بيطر، لا مضارع فَعَّلَ، إذ لو كان كذلك لكان صوب مضعف العين.
٥٢ - ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء المنافقين ﴿هَلْ تَرَبَّصُونَ﴾ وتنتظرون ﴿بِنَا﴾ أيا الجاهلون ﴿إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ﴾ أي: إلا إحدى العاقبتين الحسنتين، إما النصرة، أو الشهادة، وكلاهما مما يحسن لدينا، فالنصرة مآلها إلى الغلبة والاستيلاء، والشهادة مآلها إلى الجنة، والحسنى: تأنيث الأحسن، والاستفهام (٢) فيه للتقريع والتوبيخ مع الإنكار؛ أي: ما تنتظرون بنا إلا إحدى الحالتين الشريفتين، النصر أو الشهادة، وذلك لأن (٣) المسلم إذا ذهب إلى الغزو، فإن صار مغلوبًا مقتولًا.. فاز بالاسم الحسن في الدنيا، وهي الرجولية والشوكة، وبالثواب العظيم الذي أعده الله للشهداء في الآخرة، وإن صار غالبًا.. فاز في الدنيا بالمال الحلال، والاسم الجميل، وفي الآخرة بالثواب العظيم، وقرأ البزي وابن فليح: ﴿هل تربصون﴾ بإظهار اللام، وتشديد التاء، وقرأ الكوفيون: بإدغام اللام في التاء، وقرأ الباقون: بإظهار اللام، وتخفيف التاء، ﴿وَنَحْنُ﴾ معاشر المؤمنين ﴿نَتَرَبَّصُ﴾ وننتظر ﴿بِكُمْ﴾ أيها المنافقون إحدى السوأتين؛ أي: إحدى الحالتين الخسيستين، إما ﴿أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ﴾؛ أي: بقارعة سماوية، لا كسب لنا فيها، كما فعل بالأمم المكذبة لرسلها، كأن ينزل عليكم صاعقةً من السماء، كما نزلت على عاد وثمود ﴿أَوْ﴾ بعذاب ﴿بِأَيْدِينَا﴾ وهو القتل على الكفر؛ أي: أو أن يأذن لنا بقتالكم إن أغراكم الشيطان بإظهار كفركم؛ أي: إنَّ (٤) المنافق إذا قعد فيه بيته.. كان مذمومًا منسوبًا إلى الجبن وضعف القلب، والرضا بأمر يشاركه فيه النسوان والصبيان والعاجزون، ثم يكون أبدًا خائفًا على نفسه وولده وماله، وإن إذن الله في قتله.. وقع في القتل والأسر والنهب مع
(١) البحر المحيط.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراح.
(٤) المراح.
الذل، وإن مات.. انتقل إلى العذاب الدائم في الآخرة.
والمعنى: أو يصيبكم بأيدي المؤمنين، بأن يظفرنا بكم، ويظهرنا عليكم، وقرأ ابن محيصن (١): ﴿إلا حدى﴾ بإسقاط الهمزة، قال ابن عطية: فوصل ألف إحدى، وهذه لغة، وليست بالقياس، وهذا نحو قول الشاعر:
يَابَا الْمُغِيْرَةِ رُبَّ أَمْرٍ مُعْضَلٍ
وقول الآخر:
إِنْ لَمْ أُقاتِل فَالبِسَنِّي بُرْقُعَا
﴿فَتَرَبَّصُوا﴾ بنا إحدى الحالتين الشريفتين ﴿إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ﴾؛ أي: منتظرون وقوعكم في إحدى الحالتين الخسيستين، وقال الحسن (٢): فتربصوا مواعيد الشيطان، إنا متربصون مواعيد الله من إظهار دينه واستئصال من خالفه.
والمعنى: فتربصوا بنا إنا معكم متربصون من عاقبتنا وعاقبتكم، إن أصررتم على كفركم، وظهر أمركم، فنحن على بينة من ربنا، ولا بينة لكم، فإذا لقي كل منا ومنكم ما يتربصه، لا نشاهد إلا ما يسوؤكم، ولا تشاهدون إلا ما يسرنا، والدين لا يأمر بقتل المنافق ما دام يظهر الإسلام، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة.
٥٣ - ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء المنافقين القائلين: ذرونا نكن مع القاعدين، ونعينكم بالأموال، كالجد بن قيس وأشباهه حين قال للنبي - ﷺ -: إئذن لي في القعود، وهذا مالي أعينك به، كما مر في مبحث الأسباب.
﴿أَنْفَقُوا﴾ أموالكم ﴿طَوْعًا﴾ واختيارًا؛ أي: من غير إلزام من الله ورسوله ﴿أَوْ كَرْهًا﴾؛ أي: إلزامًا، منهما وسمى (٣) الإلزام إكراهًا؛ لأن إلزام المنافقين بالإنفاق كان شاقًّا عليهم كالإكراه.
(١) البحر المحيط.
(٢) الخازن.
(٣) المراغي.
والمعنى (١): أنفقوا طائعين، من قبل أنفسكم أو مكرهين بالإنفاق بإلزام الله ورسوله إياكم بالإنفاق ﴿لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ﴾ ذلك الإنفاق؛ لأن هذا الإنفاق إنما وقع لغير الله، وهذه الآية وإن كانت خاصة في إنفاق المنافقين.. فهي عامة في حق كل من أنفق ماله لغير وجه الله، بل أنفقه رياء وسمعة، فإنه لا يقبل منه.
وقرأ حمزة والكسائي هنا وفي النساء والأحقاف (٢): ﴿كرها﴾ بضم الكاف، وقرأ عاصم وابن عامر في الأحقاف: بالضم، من المشقة، وفي النساء والتوبة: بالفتح، من الإكراه، والباقون: بفتح الكاف في جميع ذلك.
وقال الشوكاني قوله: ﴿قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ﴾ هذا الأمر معناه الشرط والجزاء؛ لأن الله سبحانه لا يأمرهم بما لا يتقبله منهم، والتقدير: إن أنفقتم طائعين أو مكرهين.. فلن يتقبل منكم، وقيل: هو أمر في معنى الخبر؛ أي: أنفقتم طوعًا أو كرهًا لن يتقبل منكم، فهو كقوله: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ وفيه الإشعار بتساوي الأمرين في عدم القبول.
وجملة قوله: ﴿إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ تعليل لعدم قبول إنفاقهم، والفسق: التمرد والعتوُّ، والمراد به هنا: الكفر؛ أي: لأنكم كنتم قوما منافقين؛ أي: كافرين في الباطن.
وخلاصة معنى الآية: قل أيها الرسول لهؤلاء المنافقين: أنفقوا من أموالكم ما شئتم في الجهاد، أو في غيره من النفقات التي أمر الله بها وحث في شرعه عليها حال التطوع تقيةً وحفظًا للنفس وكرهًا وخوفًا من العقوبة، فمهما أنفقتم فلن يتقبل منكم ما دمتم في شك مما جاء به الرسول من الدين والجزاء على الأعمال في الآخرة؛ لأنكم قوم فاسقون؛ أي: خارجون من دائرة الإيمان، والله إنما يتقبل من المؤمنين.
٥٤ - ثم بين سبحانه وتعالى السبب المانع من قبول نفقاتهم، فقال: ﴿وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ﴾؛ أي: وما منع هؤلاء المنافقين قبول نفقاتهم {إِلَّا أَنَّهُمْ
(١) المراح.
(٢) الخازن.
291
كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ}؛ أي: إلا كفرهم بالله وبرسوله - ﷺ -، والاستثناء (١) من أعم الأشياء؛ أي: ما منعهم قبول نفقاتهم شيءٌ من الأشياء إلا كفرهم و ﴿ما﴾ عطف عليه.
وقرأ حمزة والكسائي وزيد بن علي (٢): ﴿أن يُقْبل﴾ بالياء، وباقي السبعة: بالتاء، و ﴿نَفَقَاتُهُمْ﴾ بالجمع، وزيد بن علي بالإفراد، وقرأ الأعرج بخلاف عنه: ﴿أن تقبل﴾ بالتاء، من فوق نفقتهم بالإفراد، وفي هذه القراءات، الفعل مبني للمفعول، وقرأت فرقة: ﴿أن نَقْبَل منهم نفقتهم﴾ بالنون ونصب النفقة، وقال الزمخشري: وقراءة السلمي: ﴿أن نقبل منهم نفقاتهم﴾ على أن الفعل لله تعالى. انتهى.
والمعنى: أي وما منع (٣) قبول نفقاتهم، إلا كفرهم بالله وصفاته على الوجه الحق، وكفرهم برسالة رسوله، وما جاء به عن الهدى والبينات ﴿و﴾ إلا أنهم ﴿لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى﴾؛ أي: وإلا عدم إتيانهم مواضع فعل الصلاة ومساجدها إلا وهم كسالى، جمع كسلان؛ أي: متثاقلون في الإتيان إلى الصلاة، وذلك؛ لأنهم لا يرجون على فعلها ثوابًا ولا يخافون على تركها عقابًا، فلذل ذمهم مع فعلها، والمعنى: ولا يصلون إلا رياء وتقية، لا إيمانًا بوجوبها، ولا قصدًا إلى ثوابها واحتسابًا لأجرها، ولا تكميلًا لأنفسهم بما شرعه الله تعالى، لأجلها لأنها لا يأتونها إلا وهم متثاقلون كسالى، لا تنشرح لها نفوسهم، ولا تنشط لها أبدانهم، ﴿و﴾ إلا أنهم ﴿لا ينفقون﴾ أموالهم في مصالح الجهاد وغيره ﴿إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ﴾ لذلك الإنفاق غير طيبة به أنفسهم، لأنهم يعدون هذه النفقات مغارم تضرب عليهم ينتفع بها المؤمنون، وهم ليسوا منهم، فلا نفع لهم بما أنفقوا لا في الدنيا - وهو واضح - ولا في الآخرة، إذ لا يؤمنون بها.
والحاصل: أنه جعل (٤) المانع من القبول، ثلاثة أمور:
(١) أبو السعود.
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
(٤) الشوكاني.
292
الأول: الكفر.
والثاني: أنهم لا يصلون في حال من الأحوال إلا في حال الكسل والتثاقل؛ لأنهم لا يرجون ثوابًا، ولا يخافون عقابًا، فصلاتهم ليست إلا رياءً للناس، وتظهرًا بالإسلام الذي يبطنون خلافه.
والثالث: أنهم لا ينفقون أموالهم إلا وهم كارهون، ولا ينفقونها طوعًا؛ لأنهم يعدون إنفاقها وضعًا لها في ضيعة لعدم إيمانهم بما وعد الله ورسوله.
وعبارة "زاده": أي (١) ما منعهم قبول نفقتهم إلا كفرهم وكسلهم في إتيان الصلاة، وكونهم كارهين الإنفاق. انتهت.
فإن قيل (٢): الكفر سبب مستقل، لعدم القبول، فما وجه التعليل بمجموع الأمور الثلاثة، وعند حصول السبب المستقل، لا يبقى لغيره أثر؟
قلنا: أجاب الإمام بأنه إنما يتوجه على قول المعتزلة، القائلين: بأن العلل مؤثرة في الحكم، وأما أهل السنة، فإنهم يقولون هذه الأسباب معرفةٌ غير موجبة للثواب ولا للعقاب، واجتماع المعرفات الكثيرة على الشيء الواحد جائزٌ. اهـ "شهاب".
٥٥ - والخطاب في قوله: ﴿فَلَا تُعْجِبْكَ﴾ يا محمد ﴿أَمْوَالُهُمْ﴾؛ أي: كثرة أموالهم ﴿ولا أولادهم﴾؛ أي: ولا كثرة أولادهم، الخطاب للنبي - ﷺ -، ولكن المراد جميع المؤمنين، والسامعين، أي فلا تعجبك أيها السامع كثرة أموالهم ولا أولادهم التي هي من أكبر النعم وأجلها ولا يجولن بخاطرك أنهم قد صغا لهم، نعيمها في الدنيا، وقد حرموا ثوابها في الآخرة، فإن ذلك استدراج ووبال لهم، كما أشار إليه بقوله: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا﴾؛ أي: بتلك الأموال والأولاد ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ بما يحصل لهم من الغم الحزن، عندئذٍ
(١) زاده.
(٢) الشهاب.
يغنمها المسلمون، ويأخذوها قسرًا من أيديهم، مع كونها زينة حياتهم، وقرة أعينهم، وكذا في الآخرة، يعذبهم بعذاب النار، بسبب عدم الشكر لربهم الذي أعطاهم ذلك، وترك ما يجب عليهم من الزكاة فيها، والتصدق بما يحق التصدق به.
وقيل (١): إن سبب كون المال والولد عذابًا في الدنيا: هو ما يحصل من المتاعب والمشاق في تحصيلهما، فإذا حصلا، ازداد التعب وتحمل المشاق في حفظهما، ويزداد الحزن والغم بسبب المصائب الواقعة فيهما، فعلى هذا القول لا حاجة إلى التقديم والتأخير في نظم الآية، وأورد على هذا القول بأن هذا التعذيب حاصلٌ لكل أحد من بني آدم، مؤمنهم وكافرهم، فما فائدة تخصيص المنافقين بهذا التعذيب في الدنيا؟
وأجيب عن هذا الإيراد: بأنَّ المنافقين مخصوصون بزيادة من هذا التعذيب، وهو أنَّ المؤمن قد علم أنه مخلوق للآخرة، وأنه يثاب بالمصائب الحاصلة له في الدنيا، فلم يكن المال والولد في حقه عذابًا في الدنيا، وأما المنافق.. فإنه لا يعتقد كون الآخرة له، وأنه ليس له فيها ثواب، فبقي ما يحصل له في الدنيا من التعب والشدة، والغم والحزن على المال والولد عذابًا عليه في الدنيا، فثبت بهذا الاعتبار أنَّ المال والولد، عذاب على المنافقين في الدنيا دون المؤمنين.
وقال مجاهد وقتادة (٢): في الآية تقديم وتأخير، تقديرها: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة؛ لأنهم منافقون، فهم ينفقون كارهين، فيعذبون بما ينفقون ﴿وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ﴾؛ أي: ويريد الله سبحانه وتعالى، أن تخرج أرواحهم ﴿وَهُمْ كَافِرُونَ﴾؛ أي: والحال أنهم كافرون، لعدم قبولهم لما جاءت به الأنبياء، وأرسلت به الرسل، وتصميمهم على الكفر وتماديهم في الضلالة، فيعذبون بها في الآخرة إثر ما عذبوا بها في الدنيا، لموتهم على الكفر الذي يحبط أعمالهم.
٥٦ - ثم ذكر الله سبحانه وتعالى نوعًا آخر من قبائح المنافقين، فقال: {وَيَحْلِفُونَ
(١) الخازن.
(٢) الخازن.
بِاللَّهِ}؛ أي: ويحلف هؤلاء المنافقون بالله للمؤمنين كذبًا إذا جالسوهم ﴿إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ﴾؛ أي: لمن جملتكم في الدين، والملة، والانقياد لرسول الله - ﷺ - ولكتاب الله سبحانه ﴿وَمَا هُمْ﴾؛ أي: والحال أنهم ليسوا ﴿مِنْكُمْ﴾ يا معشر المؤمنين في ذلك إلا بمجرد ظواهرهم، دون بواطنهم؛ أي: ليسوا من أهل ملتكم ودينكم بل هم أهل شك ونفاق ﴿وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ﴾؛ أي: يخافونكم، فيقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم؛ أي: يخافون أن ينزل بهم، ما نزل بالمشركين من القتل والسبي، فيظهرون لكم الإسلام، ويحلفون لكم تقيةً منكم، لا عن حقيقة
٥٧ - ﴿لَوْ يَجِدُونَ﴾؛ أي: لو وجد هؤلاء المنافقون ﴿مَلْجَأً﴾؛ أي مهربًا وحرزًا، يلتجؤون إليه، ويحفظون فيه نفوسهم، تحصنًا منكم، من رأس جبل أو قلعه أو جزيرة ﴿أَوْ مَغَارَاتٍ﴾ جمع مغارة، بمعنى: غار؛ أي: كهوفًا في الجبل، يخفون فيها أنفسهم ﴿أَوْ مُدَّخَلًا﴾؛ أي: مكانًا يدخلون فيه من الأمكنة التي ليست مغارات؛ أي: سربًا تحت الأرض يندسون ويختفون فيه منكم كالآبار، وأنفاق اليربوع، وقوله: أو مغارات أو مدخلًا من عطف الخاص على العام، لدخولهما في الملجأ ﴿لَوَلَّوْا إِلَيْهِ﴾؛ أي: للتجؤوا إليه وأدخلوا أنفسهم فيه؛ أي: لو حصلوا واحدًا من هذه الثلاثة، لولَّوا إليه؛ أي لصرفوا وجوههم ورجعوا إليه؛ أي: إلى أحد هذه الوجوه الثلاثة، التي هي شرُّ الأمكنة ﴿وَهُمْ﴾ أي: والحال أنهم ﴿يَجْمَحُونَ﴾؛ أي: يسرعون إليه إسراعا لا يرد وجوههم عنه شيء، لشدة تأذيهم من الرسول، ومن المؤمنين من جمح الفرس إذا لم يرده اللجام، والمعنى: لو (١) وجدوا شيئًا من هذه الأشياء المذكورة، لولَّوا إليه مسرعين هربًا من المسلمين.
والخلاصة: (٢) أنهم لشدة كرههم للقتال معكم، ولبغض معاشرتهم إياكم ولعظيم الخوف من ظهور نفاقهم لكم، يتمنون الفرار منكم، والعيش في مكان يعتصمون به من انتقاكم منهم، حتى لو استطاعوا السكنى في الحصون والقلاع، أو في كهوف الجبال ومغاراتها، أو في أنفاق الأرض وأسرابها.. لولَّوا إليه
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
295
مسرعين، كالفرس الجموح، لا يردهم شيء عن ذلك.
وإنما وصفهم الله سبحانه وتعالى بتلك الأوصاف؛ لأنهم إنما أقاموا بين أظهر أصحاب رسول الله - ﷺ - مع كفرهم ونفاقهم وعداوتهم لهم؛ لأنهم كانوا بين عشيرتهم وفي دورهم وأموالهم، ولم يقدروا على ترك ذلك وفراقه، فصانعوا القوم بالنفاق، ودافعوا عن أنفسهم وأموالهم وأولادهم بإخفاء الكفر، ودعوى الإيمان، وفي أنفسهم ما فيها من البغض لرسول الله، ولأهل الإيمان به، وبالغ الحقد عليهم.
وعبارة "زاده" هنا: أي إنهم (١) وإن كانوا يحلفون لكم أنهم منكم، إلا أنهم كاذبون في ذلك وإنما يحلفون خوفًا من القتل، ولو استطاعوا ترك دورهم وأموالهم والالتجاء إلى بعض الحصون والغيران، والسروب التي تحت الأرض، لدخلوه تسترًا عنكم واستكراهًا لرؤيتكم ولقائكم، انتهت.
وقرأ الجمهور: ﴿مُدَّخَلًا﴾ وأصله مدتخل، مفتعل، من ادَّخل، وهو بناء تأكيد ومبالغةٍ، ومعناه: السرب والنفق في الأرض كما مر وقال النحاس: الأصل فيه متدخلٌ، قلبت التاء دالًا، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق ومسلمة بن محارب وابن محيصن ويعقوب وابن كثير بخلاف عنه ﴿مُدَّخَلًا﴾ بفتح الميم من دخل الثلاثي. وقرأ محبوب عن الحسن: ﴿مُدَّخَلًا﴾ بضم الميم من أدخل الرباعي، وروي ذلك عن الأعمش وعيسى بن عمر، وقرأ قتادة وعيسى بن عمر والأعمش ﴿مُدَّخَلًا﴾ بتشديد الدال والخاء معا، أصله متدخَّلٌ، فأدغمت التاء في الدال وقرأ أبي ﴿مُندَخلًا﴾ بالنون من إنْدخَل، وقال أبو حاتم قراءة أُبيٌّ ﴿مُتْدَخَّلًا﴾ بالتاء وقرأ الأشهب العقيلي ﴿لوالوا إليه﴾؛ أي: لتابعوا إليه، وسارعوا، وروى ابن أبي عبيدة بن معاوية بن نوفل، عن أبيه عن جده، وكانت له صحبةٌ أنه قرأ: ﴿لوالوا إليه﴾ من الموالاة، وأنكرها سعيد بن مسلم، وقال: أظنها ﴿لَوألوا﴾ بمعنى للجؤوا إليه، وقال أبو الفضل عبد الرحمن بن أحمد الرازي: وهذا مما جاء فيه
(١) زاده.
296
فاعل وفعل بمعنى واحد، ومثله ضاعف وضعف، انتهى. وقال الزمخشري: وقرأ أبيٌّ ﴿متدخلًا لوألُوا إليه﴾؛ أي: لالتجووا إليه، انتهى، وعن أبيٍّ ﴿لَولَّوا وجوههم إليه﴾ وقرأ أنس بن مالك والأعمش ﴿وهم يَجْمَزون﴾ قيل: يجمحون ويجمزون ويشدون واحدٌ، وقال ابن عطية يجمزون يُهَرْولون، ومنه قولهم في حديث الرجم: "فلما أذلقته الحجارة جمز".
ولمَّا (١) كان العطف بـ ﴿أو﴾ عاد الضمير إليه مفردًا، على قاعدة النحو في ﴿أوْ﴾ فاحتمل من حيث الصناعة أن يعود على الملجأ، أو على المدخل، فلا يحتمل في الظاهر أن يعود على المغارات لتذكيره، وأما بالتأويل فيجوز أن يعود عليها.
٥٨ - ثم شرع سبحانه وتعالى في ذكر نوع آخر من قبائحهم فقال: ﴿وَمِنْهُمْ﴾؛ أي: ومن هؤلاء المنافقين ﴿مَنْ يَلْمِزُكَ﴾ يا محمد ويعيبك سرًّا ويطعن عليك ﴿فِي﴾ قسمة ﴿الصَّدَقَاتِ﴾ والزكوات المفروضة بين الناس إذ يزعمون أنك تحابى فيها، وتؤتي من تشاء من الأقارب وأهل المودة، ولا تراعي العدل في ذلك، قيل: وفر الرسول - ﷺ - قسم أهل مكة في الغنائم استعطافًا لقلوبهم، فضجَّ المنافقون. وقرأ الجمهور: ﴿يَلْمِزُكَ﴾ بكسر الميم مخففة، وقرأ يعقوب وحماد بن سلمة، عن ابن كثير والحسن: وأبو رجاء وغيرهم: بضمها، وهي قراءة المكيِّين، ورويت عن أبي عمرو. وقرأ الأعمش: ﴿يُلَمِّزكُ﴾، بالتشديد، وروى أيضًا حماد بن سلمة، عن ابن كثير: ﴿يلامزك﴾ وهي مفاعلة من واحدٍ، ثم بيَّن سبحانه أسباب هذا اللَّمْز، وأن منشأه حرصهم على حطام الدنيا، فقال: ﴿فَإِنْ أُعْطُوا﴾؛ أي: فإن أعطي هؤلاء اللامزون ﴿مِنْهَا﴾؛ أي: من الصدقات، قدر ما يريدون في الكثرة، ولو بغير حق، كأن أظهروا الفقر كذبًا واحتيالًا ﴿رَضُوا﴾ بما وقع من رسول الله - ﷺ -، ولم يعيِّبوه، واستحسنوا قسمته، وذلك لأنه لا مقصد لهم إلا حطام الدنيا، وليسوا من الدين في شيء ﴿وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا﴾؛ أي: من الصدقات
(١) البحر المحيط.
ما يريدونه ويطلبونه ﴿إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ﴾؛ أي: فاجئوك بالسخط، وبادروك بالغضب واللمز، وإن لم يكونوا مستحقين للعطاء، إذ لا هَمَّ لهم، إلا المنفعة الدنيوية، ونيل حطام الدنيا. وفائدة إذا الفجائية إفادة أنَّ الشرط مفاجىء للجزاء، وهاجمٌ عليه، وقد ثابت إذا الفجائية مناب فاء الجزاء على حد قوله:
وَتَخْلُفُ الْفَاءَ إِذَا المُفَاجَأَهْ
والأصل فهم يسخطون.
٥٩ - ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ﴾؛ أي: ما أعطاهم الله تعالى من الغنائم وغيرها، وذكر (١) الله للتعظيم والتنبيه على أنَّ ما فعله الرسول، كان بأمره تعالى، والأصل ما أتاهم الله ﴿و﴾ أعطاهم ﴿رسوله﴾ - ﷺ -، بقسمة الغنائم والصدقات، كما أره الله تعالى ﴿وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ﴾؛ أي: كافينا الله في كل حال ﴿سَيُؤْتِينَا اللَّهُ﴾؛ أي: وسيعطينا الله سبحانه ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾ ورزقه بما يرد علينا من الغنائم والصدقات ﴿و﴾ يقسم لنا ﴿رسوله﴾ على وفق ما أمره الله تعالى به، لا يبخس أحدًا منَّا شيئًا يستحقه في شرع الله، وقالوا: ﴿إِنَّا إِلَى﴾ فضل ﴿اللَّهِ رَاغِبُونَ﴾ وفي رزقه طامعون، أي: وقالوا: إنا إلى الله نرغب في أن يوسع علينا من فضله، فيغنينا عن الصدقة وغيرها من صلات الناس والحاجة إليهم، والآية بأسرها في حيز الشرط، والجواب محذوف، تقديره: لكان خيرًا لهم، أي: لو فعلوا ذلك المذكور.. لكان خيرًا لهم من الطمع في غير مطمع، ومن همز الرسول ولمزه.
والخلاصة (٢): أنهم لو رضوا من الله نعمته، ومن الرسول قسمته، وعلقوا أملهم بفضل الله وكفايته، وبما سينعم به عليهم في مستأنف الأيام، وبأن الرسول يعدل في القسمة.. لكان في ذلك الخير كل الخير لهم.
وفي ذلك إيماءٌ إلى أن المؤمن يجب أن يكون قانعًا بكسبه، وما يناله بحق من صدقة ونحوها، مع توجيه قلبه إلى ربه، ولا يرغب إلا إليه في الحصول على
(١) أبو السعود.
(٢) المراغي.
رغائبه التي وراء كسبه وحقوقه الشرعية.
٦٠ - ولمَّا لمز (١) المنافقون رسول الله - ﷺ - عابوه في قسم الصدقات.. بيَّن الله سبحانه وتعالى في هذه الآية، أن المستحقين للصدقات هؤلاء الأصناف الثمانية، ومصرفها إليهم، ولا تعلق لرسول الله - ﷺ - منها بشيءٍ، ولم يأخذ لنفسه منها شيئًا، فلم يلمزونه ويعيبون عليه؟ فلا مطعن لهم فيه، بسبب قسم الصدقات، فقال: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ﴾؛ أي: إنما الزكوات الواجبة مصروفةٌ ﴿لِلْفُقَرَاءِ﴾ وما عطف عليه من سائر الأصناف السبعة، وإنما أداة حصرٍ، وتعريف الصدقات للجنس؛ أي: جنس هذه الصدقات مقصورٌ على هذه الأصناف المذكورة، لا يتجاوزها، بل هي لهم لا لغيرهم، وقد اختلف العلماء، هل يجب تقسيط الصدقات على هذه الأصناف الثمانية، أو يجوز صرفها إلى البعض دون البعض على حسب ما يراه الإمام أو صاحب الصدقة؟ فذهب إلى الأول: الشافعي وجماعةٌ من أهل العلم، وذهب إلى الثاني: مالك وأبو حنيفة، وبه قال عمر وحذيفة وابن عباس وغيرهم.
الأول منها: الفقراء، جمع فقير وهو (٢) من لا مال له ولا كسب يقع موقعًا من حاجته، بأن لم يكن له مالٌ ولا كسبٌ أصلًا، أو كانا له ولا يقعا موقعًا من كفايته، كمن يحتاج إلى عشرة، وكان عنده أربعة وما دونها، مأخوذ من الفقار، كأنه أصيب في فقاره، وهو أسوأ حالًا من المسكين.
وثانيهما: ما ذكره بقوله ﴿و﴾ مصروفة لـ ﴿المساكين﴾ جمع مسكين، والمسكين: من له مال، أو كسب، يقع موقعًا من كفايته ولا يكفيه تمام حاجته، كمن يحتاج إلى عشرة وعنده خمسةٌ، أو ما فوقها إلى تسعة، ومعنى وقوعه موقعًا من كفايته: أن يسد نصف حاجته، وما فوقه دون تمامها، مأخوذٌ من السكون، كأنَّ العجز أسكنه، ويدل عليه قوله تعالى: ﴿أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ﴾ وأنه عليه السلام كان يسأل المسكنة، ويتعوذ من الفقر، وقيل: بالعكس، لقوله تعالى: ﴿أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ﴾.
(١) البيضاوي بزيادة.
(٢) الشوكاني.
299
والأولى في بيان ماهية المسكين (١): ما ثبت عن رسول الله - ﷺ - عند البخاري ومسلم وغيرهما، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - ﷺ -، قال: "ليس المسكين بهذا الطوَّاف الذي يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان" قالوا: فما المسكين يا رسول الله؟ قال: "الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس شيئًا".
والصنف الثالث: ما ذكره بقوله ﴿و﴾ مصروفةٌ لـ ﴿العاملين عليها﴾؛ أي: على الصدقات من جابٍ وقاسم وكاتب وحاشر، وهم (٢) السعاة الذين يتولون جباية الصدقات وقبضها من أهلها، ووضعها في جهتها، فيعطون من مال الصدقات بقدر أجور أعمالهم، سواء كانوا فقراء أو أغنياء، هذا قول ابن عمر، وبه قال الشافعي وقال مجاهد والضحاك: يعطون الثمن من الصدقات، وظاهر اللفظ مع مجاهد إلا أنَّ الشافعي، يقول: هو أجرة عمل، تتقدر بقدر العمل، والصحيح أن الهاشمي والمطلبيَّ لا يجوز أن يكون عاملًا على الصدقات، لما روي عن أبي رافع أنَّ رسول الله - ﷺ - استعمل رجلًا من بني مخزوم على الصدقات، فأراد أبو رافع أن يتبعه فقال رسول الله - ﷺ -: "لا تحل لنا الصدقة، وإن مولى القوم منهم". أخرجه الترمذي والنسائي.
والصنف الرابع: ما ذكره بقوله ﴿و﴾ مصروفةً لـ ﴿المؤلفة قلوبهم﴾ أي: ومصروفةٌ لأقوام ضعفاء النية في الإسلام، فتستألف قلوبهم على الإسلام بإعطائهم من الزكاة، والمؤلفة: هم قوم يراد استمالتهم إلى الإسلام، أو تثبيتهم فيه، أو كف شرهم عن المسلمين، أو رجاء نفعهم في الدفاع عنهم، أو نصرهم على عدوٍّ لهم، فأقسامها كثيرة مذكورة في كتب الفروع.
تنبيهٌ: (٣) وإنما أضاف في الآية الصدقات إلى الأصناف الأربعة الأولى بلام الملك، وإلى الأربعة الأخيرة بفي الظرفية، للإشعار بإطلاق الملك في
(١) الخازن.
(٢) الخازن.
(٣) الفتوحات.
300
الأربعة الأولى، وتقييده في الأربعة الأخيرة بما إذا صرفت في مصارفها المذكورة، فإذا لم يحصل الصرف في مصارفها، استرجعت بخلافه في الأولى، كما هو مقرر في الفقه.
والصنف الخامس: ما ذكره بقوله: ﴿و﴾ مصروفة ﴿في﴾ فك ﴿الرِّقَابِ﴾؛ أي: الأرقاء من الرق. فهو معطوف على قوله ﴿للفقراء﴾؛ أي فسهمهم مصروف في المكاتبين، ليستعينوا به في أداء النجوم، فيعتقوا كما هو مذهب الشافعي والليث بن سعد، أو مصروفٌ في عتق الرقاب، يشترى به عبيدٌ فيعتقون، كما هو مذهب مالك وأحمد وإسحاق، وقال الزهري: سهم الرقاب نصفان، نصف للمكاتبين من المسلمين، ونصف يشترى به رقاب ممَّن صلوا وصاموا، وقدم إسلامهم، فيعتقون من الزكاة.
والصنف السادس: ما ذكره بقوله: ﴿و﴾ مصروفةٌ في فك ﴿الغارمين﴾ والمديونين في طاعة الله، من أسر الديون، مأخوذ من الغرم، وهو في اللغة: لزوم ما يشق على النفس، وسمي الدَّين غرمًا، لكونه شاقًّا على الإنسان، والمراد بالغارمين هنا المديونون وهم قسمان:
قسم ادَّانوا لأنفسهم في غير معصية، فيعطون من مال الصدقات بقدر ديونهم إذا لم يكن لهم مالٌ يفي بديونهم، فإن كان عندهم وفاء.. فلا يعطون.
وقسم ادَّانوا في المعروف وإصلاح ذات البين، فيعطون من مال الصدقات ما يقضون به ديونهم، وإن كانوا أغنياء. أما من استدان في معصية فلا يعطى من الصدقات شيئًا.
والصنف السابع: ما ذكره بقوله: ﴿و﴾ مصروفةٌ ﴿في سبيل الله﴾ وسبيل الله هو الطريق الموصل إلى مرضاته ومثوبته، والمراد به الغزاة، والمرابطون للجهاد، فيعطون من الصدقات ما ينفقون في غزوهم ومرابطتهم، وإن كانوا أغنياء، وهذا قول أكثر العلماء، والحق: أن المراد بسبيل الله، مصالح المسلمين العامة، التي بها قوام أمر الدين والدولة، دون الأفراد، كتأمين طرق الحج، وتوفير الماء والغذاء، وأسباب الصحة للحجاج، إن لم يوجد مصرف آخر، وليس منها حج
301
الإفراد؛ لأنه واجب على المستطيع فحسب، ويدخل في ذلك جميع وجوه الخير، من تكفين الموتى، وبناء الجسور، والحصون، وعمارة المساجد، ونحو ذلك.
والصنف الثامن: ما ذكره بقوله: ﴿و﴾ مصروفةٌ في معونة ﴿ابن السبيل﴾ والسبيل الطريق، ونسب إليها المسافر لملازمته إياها، وهو المنقطع عن بلده في سفر غير المعصية، لا يتيسَّر له فيه شيء من ماله، إن كان له مال، فهو غنيٌّ في بلده، فقير في سفره، فيعطى لفقره العارض ما يستعين به على العودة إلى بلده، وفي ذلك عناية بالسياحة، وتشجيع عليها، على شرط أن يكون سفره في غير معصية، ويكون هذا من أسباب التعاون على البر والتقوى، وعدم التعاون على الإثم والعدوان، وسهولة طرق الوصول في العصر الحاضر، ونقل الأخبار في المؤمن القليل، جعلت نقل المال من بلد إلى آخر ميسورًا بلا كلفة، فيسهل على الغني في بلده أن يجلب ماله في أي وقتٍ أراد وإلى أي مكان طلب، فلا يعطى حينئذٍ من الصدقات، والله أعلم.
وقوله: ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة؛ لأن معنى قوله: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ﴾ فرض الله سبحانه وتعالى، صرف الصدقات لهؤلاء الأصناف المذكورة، فريضةً كائنةً منه؛ أي: محتمةٌ عنده.
والمعنى: أن كون الصدقات مقصورة على هذه الأصناف، هو حكم لازم، فرضه الله على عباده، ونهاهم عن مجاوزته، أو حال من الضمير المستكن في الخبر، والتقدير: إنما الصدقات مصروفةٌ هي لهؤلاء الأصناف المذكورة حالة كونها فريضةً من الله سبحانه وتعالى، وقرىء: ﴿فريضة﴾ بالرفع على معنى: تلك الصدقات فريضة من الله تعالى، يعني: أنَّ هذه الأحكام التي ذكرها في هذه الآية فريضةٌ واجبةٌ من الله تعالى، ويجوز قطعه إلى النصب؛ أي: فرض الله هذه الأشياء فريضةً.
﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلِيمٌ﴾ بمصالح عباده، وبأحوالهم وبحوائجهم، ﴿حَكِيمٌ﴾ فيما شرعه ودبَّره لهم، تطهيرًا لأنفسهم وتزكية لها، وشكرًا لخالقهم على ما أنعم به عليهم، كما قال ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَةِرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ لا
302
يدخل في تدبيره وشرعه نقصٌ ولا خللٌ.

فصل في بيان حكمة إيجاب الزكاة على الأغنياء، وصرفها إلى المحتاجين من الناس (١)


ذكروا في بيان حكمتها ستة أوجه:
الوجه الأول: أن المال محبوب بالطبع، وسببه أن القدرة صفة من صفات الكمال، وصفة الكمال محبوبة لذاتها، والمال سبب لتحصيل تلك القدرة، فكان المال محبوبًا بالطبع، فإذا استغرق القلب في حب المال.. اشتغل به عن حب الله - عز وجل -، وعن الاشتغال بالطاعات المقربة إلى الله - عز وجل -، فاقتضت الحكمة الإلهية إيجاب الزكاة في ذلك المال، الذي هو سبب البعد عن الله، فيصير سببًا للقرب من الله - عز وجل -، بإخراج الزكاة منه.
الوجه الثاني: أنَّ كثرة المال توجب قسوة القلب، وحبَّ الدنيا، والميل إلى شهواتها ولذاتها، فأوجب الله سبحانه وتعالى الزكاة، ليقل ذلك المال الذي هو سبب لقساوة القلب.
الوجه الثالث: سبب وجوب الزكاة امتحان العبد المؤمن؛ لأنَّ التكاليف البدنية غير شاقة على العبد، وإخراج المال سياق على النفس، فأوجب الله - عز وجل - الزكاة على العباد، ليمتحن بإخراج الزكاة أصحاب الأموال، ليميز بذلك المطيع المخرج لها طيبةً بها نفسه من العاصي المانع لها.
الوجه الرابع: أنَّ المال مال الله، والأغنياء خزان الله، والفقراء عيال الله، فأمر الله سبحانه وتعالى خزانه الذين هم الأغنياء بدفع طائفة من ماله إلى عياله، فيثيب العبد المؤمن المطيع، المسارع إلى امتثال الأمر المشفق على عياله، ويعاقب العبد العاصي المانع لعياله من ماله، وعن أبي موسى الأشعري عن النبي - ﷺ -، قال: "إن الخازن المسلم الأمين، الذي ينفذ - وربما قال: يعطي - ما
(١) الخازن.
303
أمر به، فيعطيه كاملًا موفرًا، طيبةً به نقسه، فيدفعه إلى الذي أمر له به أحد المتصدقين" متفق عليه.
الوجه الخامس: أن الفقراء ربما تعلقت قلوبهم بالأموال، التي بأيدي الأغنياء، فأوجب الله - عز وجل - نصيبًا للفقراء في ذلك المال تطييبًا لقلوبهم.
الوجه السادس: أنَّ المال الفاضل عن حاجة الإنسان الأصلية إذا أمسك.. بقي معطلًا عن المقصود الذي لأجله خلق المال، فأمر بدفع الزكاة إلى الفقراء، حتى لا يصير ذلك المال معطلًا بالكلية.
الأعراب
﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧)﴾.
﴿لَوْ﴾ حرف شرط ﴿خَرَجُوا﴾: فعل وفاعل والجملة فعل شرط لـ ﴿لَوْ﴾ ﴿فِيكُمْ﴾ متعلق بـ ﴿خَرَجُوا﴾ أو حال من فاعله تقديره: لو خرجوا حال كونهم مصاحبين لكم ﴿مَا﴾ نافية ﴿زَادُوكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول والجملة جواب ﴿لَوْ﴾ الشرطية، وجملة ﴿لَوْ﴾ الشرطية مستأنفة ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ ﴿خَبَالًا﴾ مفعول ثان لـ ﴿زادوا﴾ ﴿وَلَأَوْضَعُوا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة و ﴿اللام﴾ رابطة لجواب ﴿لَوْ﴾ ﴿أوضعوا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿زَادُوكُمْ﴾ ﴿خِلَالَكُمْ﴾ ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿أوضعوا﴾ ومفعول ﴿أوضعوا﴾ محذوف تقديره، ولأوضعوا ركائب نمائمهم بينكم، ﴿يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ﴾: فعل وفاعل ومفعولان، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿أوضعوا﴾ أي: لأسرعوا فيما بينكم حال كونهم باغين؛ أي: طالبين الفتنة لكم اهـ. "سمين" ﴿وَفِيكُمْ﴾: خبر مقدم ﴿سَمَّاعُونَ﴾ مبتدأ مؤخر ﴿لهم﴾ متعلق به والجملة في محل النصب حال من كاف ﴿يَبْغُونَكُمُ﴾ أو من واوه، أو مستأنفة كما مر في مبحث التفسير ﴿وَاللَّهُ﴾ مبتدأ ﴿عَلِيمٌ﴾ خبره ﴿بِالظَّالِمِينَ﴾ متعلق به والجملة مستأنفة.
{لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ
304
اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (٤٨)}.
﴿لَقَدِ ابْتَغَوُا﴾ ﴿اللام﴾ موطئة للقسم ﴿قد﴾ حرف تحقيق ﴿ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ﴾ فعل وفاعل ومفعول ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ متعلق به والجملة الفعلية جواب للقسم المحذوف، لا محل لها من الإعراب ﴿وَقَلَّبُوا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿ابْتَغَوُا﴾ ﴿لَكَ﴾ متعلق به ﴿الْأُمُورَ﴾ مفعول به ﴿حَتَّى﴾ حرف جر وغاية ﴿جَاءَ﴾. فعل ماض في محل النصب بأن مضمرة وجوبًا بعد ﴿حَتَّى﴾ بمعنى إلى، ﴿الْحَقُّ﴾: فاعل ﴿وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿جَاءَ﴾ وجملة ﴿جَاءَ الْحَقُّ﴾ صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿حَتَّى﴾ بمعنى إلى، والجار والمجرور متعلق بمحذوف، تقديره: واستعمروا على تقليب الأمور إلى مجيء الحق، وظهور أمر الله ﴿وَهُمْ كَارِهُونَ﴾: مبتدأ وخبر والجملة في محل النصب حال من الحق؛ أي: حتى جاء الحق حالة كونهم كارهين مجيئه وظهوره.
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (٤٩)﴾.
﴿وَمِنْهُمْ﴾: جار ومجرور خبر مقدم ﴿مَنْ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة، وجملة ﴿يَقُولُ﴾ صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة ﴿ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي﴾: مقول محكي لـ ﴿يَقُولُ﴾ وإن شئت قلت: ﴿ائْذَنْ﴾ فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمد ﴿لِي﴾ متعلق به والجملة في محل النصب مقول القول ﴿وَلَا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة ﴿لا﴾ ناهية ﴿تَفْتِنِّي﴾ فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية وعلامة جزمه سكون النون المدغمة في نون الوقاية، والنون للوقاية والياء ضمير المتكلم في محل النصب مفعول به، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿ائْذَنْ لِي﴾ ﴿أَلَا﴾ حرف تنبيه ﴿فِي الْفِتْنَةِ﴾ متعلق بـ ﴿سَقَطُوا﴾. ﴿سَقَطُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿وَإِنَّ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿إنَّ﴾ حرف نصب ﴿جَهَنَّمَ﴾ اسمها ﴿لَمُحِيطَةٌ﴾ ﴿اللام﴾ حرف ابتداء ﴿محيطة﴾ خبر ﴿إن﴾ ﴿بِالْكَافِرِينَ﴾ متعلق به، والجملة الاسمية معطوفة على جملة
305
﴿سَقَطُوا﴾ وقال أبو السعود: هذه الجملة وعيد لهم على ما فعلوا، معطوفة على الجملة السابقة، داخلة تحت التنبيه اهـ.
﴿إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (٥٠)﴾.
﴿إِن﴾ حرف شرط ﴿تُصِبْكَ حَسَنَةٌ﴾: فعل ومفعول وفاعل مجزوم بـ ﴿إِن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها ﴿تَسُؤْهُمْ﴾ فعل ومفعول، مجزوم بـ ﴿إِن﴾ على كونه جوابًا لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿حَسَنَةٌ﴾ وجملة ﴿إِن﴾ الشرطية مستأنفة ﴿وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ﴾ فعل ومفعول وفاعل مجزوم على كونه فعل شرط لها في ﴿يَقُولُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿إن﴾ على كونه جوابًا لها، وجملة ﴿إِن﴾ الشرطية معطوفة على جملة ﴿إِن﴾ الأولى ﴿قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ﴾ مقول محكي لـ ﴿يَقُولُوا﴾ وإن شئت قلت: ﴿قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا﴾ فعل وفاعل ومفعول ﴿مِنْ قَبْلُ﴾: متعلق بـ ﴿أَخَذْنَا﴾ والجملة الفعلية في محل النصب مقول لـ ﴿يَقُولُوا﴾ ﴿وَيَتَوَلَّوْا﴾: فعل وفعل معطوف على ﴿يَقُولُوا﴾ ﴿وَهُمْ فَرِحُونَ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من الضمير في ﴿يَقُولُوا﴾ و ﴿وَيَتَوَلَّوْا﴾ لا من الأخير فقط، لمقارنة الفرح لهما معًا. ذكره أبو السعود.
﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (٥١)﴾.
﴿قُلْ﴾ فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة ﴿لَنْ يُصِيبَنَا﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي لـ ﴿قُلْ﴾ وإن شئت قلت: ﴿لَنْ يُصِيبَنَا﴾ ناصب وفعل ومفعول ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ ﴿مَا﴾ موصولة أو موصوفة في محل الرفع فاعل ﴿يُصِيبَنَا﴾ والجملة الفعلية في محل النصب مقول القول ﴿كَتَبَ اللَّهُ﴾ فعل وفاعل ﴿لنا﴾ متعلق به، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما كتبه الله لنا ﴿هُوَ مَوْلَانَا﴾ مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة في محل النصب مقول القول ﴿وَعَلَى اللَّهِ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿يتوكل﴾ قدم عليه لإفادة الحصر ﴿فَلْيَتَوَكَّلِ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة سبببية
306
كما في الجمل، و ﴿اللام﴾: لام الأمر ﴿يتوكل المؤمنون﴾ فعل وفاعل، مجزوم بلام الأمر والجملة معطوفة على جملة ﴿هُوَ مَوْلَانَا﴾.
﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ﴾.
﴿قُلْ﴾ فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة ﴿هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا﴾ إلى آخر الآية، مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿هَلْ﴾ حرف للاستفهام التوبيخي الإنكاري. ﴿تَرَبَّصُونَ﴾: فعل وفاعل. ﴿بِنَا﴾ متعلق به، والجملة في محل النصب مقول القول. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ ﴿إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ﴾: مفعول به ومضاف إليه.
﴿وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ﴾.
﴿وَنَحْنُ﴾ مبتدأ ﴿نَتَرَبَّصُ﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على المتكلمين ﴿بِكُمْ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على الجملة الفعلية، على كونها مقولًا لـ ﴿قُل﴾ ﴿أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ﴾ ناصب وفعل ومفعول وفاعل ﴿بِعَذَابٍ﴾ متعلق به ﴿مِنْ عِنْدِهِ﴾ جار ومجرور صفة لـ ﴿عذاب﴾ والجملة الفعلية في تأويل مصدر، منصوب على المفعولية، والتقدير: ونحن نتربص بكم إصابة الله إياكم بعذاب من عنده ﴿أَوْ بِأَيْدِينَا﴾ جار ومجرور، معطوف على قوله ﴿بِعَذَابٍ﴾ ﴿فَتَرَبَّصُوا﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة، كما في الشوكاني؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم ما قلته لكم، وأردتم بيان ما هو اللائق بكم.. فأقول لكم ﴿تربصوا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة، في محل النصب مقول لـ ﴿قُل﴾ ﴿إِنَّا﴾ ناصب واسمه ﴿مَعَكُمْ﴾ ظرف متعلق بما بعده ﴿مُتَرَبِّصُونَ﴾ خبر ﴿إنّ﴾، والجملة الاسمية في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة على كونها مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (٥٣)﴾.
307
﴿قُلْ﴾ فعل أمر، وفعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة ﴿أَنْفِقُوا﴾: إلى آخر الآية، مقول محكى، وإن شئت قلت: ﴿أَنْفِقُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾ ﴿طَوْعًا أَوْ كَرْهًا﴾: مصدران في محل النصب على الحال من فاعل ﴿أَنْفِقُوا﴾ ولكنه في تأويل المشتق؛ أي طائعين أو كارهين ﴿لَنْ يُتَقَبَّلَ﴾ ناصب وفعل ﴿مِنْكُمْ﴾: متعلق به، وفاعله ضمير يعود على الإنفاق المفهوم مما قبله، والجملة في محل النصب مقول القول ﴿إِنَّكُمْ﴾ ناصب واسمه ﴿كُنْتُمْ﴾ فعل ناقص واسمه ﴿قَوْمًا﴾ خبره ﴿فَاسِقِينَ﴾ صفته، وجملة ﴿كان﴾ في محل الرفع خبر ﴿إن﴾ وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول القول، مسوقٌ لتعليل ما قبلها.
﴿وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ﴾.
﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿ما﴾ نافية ﴿مَنَعَهُمْ﴾ فعل ومفعول أول ﴿أَن﴾ حرف نصب ﴿تُقْبَلَ﴾ فعل مضارع مغير الصيغة، منصوب بـ ﴿أَن﴾. ﴿مِنْهُمْ﴾ متعلق به. ﴿نَفَقَاتُهُمْ﴾ نائب فاعل ﴿تُقْبَلَ﴾ والجملة الفعلية في تأويل مصدر، منصوب على كونه مفعولًا ثانيًا لـ ﴿منع﴾ والتقدير: وما منعهم قبول نفقاتهم منهم، فإن منع يتعدى لمفعولين بنفسه، وقد يتعدى إلى الثاني بحرف الجر، وهو: (من) أو (عن)، وهنا تعدى بنفسه إليهما، وإن كان حذف حرف الجر مع أن، وأنَّ، مقيسًا مطردًا، ولذا قدره بعضهم هنا، وقال أبو البقاء: ﴿أَنْ تُقْبَلَ﴾ بدل اشتمال، من (هم) في منعهم. اهـ "شهاب". ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ ﴿أَنَّهُمْ﴾ ناصب واسمه ﴿كَفَرُوا﴾ فعل وفاعل ﴿بِاللَّهِ﴾ متعلق به ﴿وَبِرَسُولِهِ﴾ معطوف على ﴿بِاللَّهِ﴾ وكرر الباء إشعارًا إلى تعدد كفرهم، وجملة ﴿كَفَرُوا﴾ في محل الرفع خبر ﴿أَن﴾ وجملة ﴿أَن﴾ في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية لـ ﴿منع﴾ تقديره: وما منعهم قبول نفقاتهم إلا كفرهم باللهِ وبرسوله، والجملة الفعلية مستأنفة.
﴿وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ﴾.
﴿وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع، معطوفة على جملة ﴿كَفَرُوا﴾ على كونها خبرًا لـ ﴿أَن﴾ ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء
308
مفرغ ﴿وَهُمْ كُسَالَى﴾ مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿يَأْتُونَ﴾ ﴿ولا ينفقون﴾ فعل وفاعل في محل الرفع، معطوف على ﴿كَفَرُوا﴾ ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ ﴿وَهُمْ كَارِهُونَ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب، حال من فاعل ﴿يُنْفِقُونَ﴾ والمعنى: وما منعهم قبول نفقاتهم إلا كفرهم باللهِ ورسوله، وكسلهم في إتيان الصلاة، وكونهم كارهين الإنفاق. اهـ "زاده".
﴿فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (٥٥)﴾.
﴿فَلَا﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت حالهم المذكورة، وأردت بيان ما هو الأصلح لك.. فأقول لك ﴿لا﴾ ناهية جازمة ﴿تُعْجِبْكَ﴾ فعل ومفعول ﴿أَمْوَالُهُمْ﴾ فاعل ومضاف إليه ﴿وَلَا أَوْلَادُهُمْ﴾ معطوف عليه، والجملة الفعلية في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة ﴿إِنَّمَا﴾: أداة حصر ﴿يُرِيدُ اللَّهُ﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿لِيُعَذِّبَهُمْ﴾ ﴿اللام﴾ حرف جر زائد لتقوية العامل ﴿يعذبهم﴾ فعل ومفعول منصوب بأن مضمرة بعد اللام، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾ ﴿بِهَا﴾ متعلق به، وكذا ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ متعلق به أيضًا، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: إنما يريد الله تعذيبه إياهم بها في الحياة الدنيا، وكذا في الآخرة ﴿وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ﴾: فعل وفاعل، معطوف على ﴿يعذب﴾ ﴿وَهُمْ كَافِرُونَ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب، حال من ضمير ﴿أَنْفُسُهُمْ﴾؛ لأن المضاف جزء المضاف إليه.
﴿وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦)﴾.
﴿وَيَحْلِفُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿بِاللَّهِ﴾ متعلق به ﴿إِنَّهُمْ﴾ ناصب واسمه ﴿لَمِنْكُمْ﴾ ﴿اللام﴾: حرف ابتداء ﴿مِنْكُمْ﴾ جار ومجرور، خبر ﴿إن﴾ وجملة ﴿إن﴾ جواب القسم ﴿وَمَا﴾: نافية ﴿هُم﴾ مبتدأ ﴿مِنْكُمْ﴾: خبره، والجملة الاسمية في محل النصب، حال من الضمير المستكن في خبر ﴿إن﴾
309
﴿وَلَكِنَّهُمْ﴾ ناصب واسمه ﴿قَوْمٌ﴾ خبره، وجملة ﴿يَفْرَقُونَ﴾ صفة ﴿قَوْمٌ﴾ وجملة ﴿لكن﴾ جملة استدراكية، لا محل لها من الإعراب.
﴿لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧)﴾.
﴿لَوْ﴾: حرف شرط ﴿يَجِدُونَ مَلْجَأً﴾: فعل وفاعل ومفعول به لأن وجد هنا بمعنى: أصاب، فيتعدى إلى مفعول واحد ﴿أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا﴾: معطوفان على ملجأ، والجملة الفعلية فعل شرط لـ ﴿لَوْ﴾ ﴿لَوَلَّوْا﴾ ﴿اللام﴾ رابطة لجواب ﴿لو﴾ ﴿وَلَّوْا﴾ فعل وفاعل ﴿إِلَيْهِ﴾: متعلق به، والجملة جواب ﴿لَوْ﴾ وجملة ﴿لَوْ﴾ مستأنفة ﴿وَهُمْ﴾ مبتدأ، وجملة ﴿يَجْمَحُونَ﴾ خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل ﴿ولَّوا﴾.
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨)﴾.
﴿وَمِنْهُمْ﴾ جار ومجرور، خبر مقدم ﴿مَنْ﴾ اسم موصول، في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة، أو معطوفة على جملة قوله: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي﴾ وما بينهما، اعتراض ﴿يَلْمِزُكَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾ والجملة صلة الموصول ﴿فِي الصَّدَقَاتِ﴾ متعلق به ﴿فَإِنْ﴾ ﴿الفاء﴾: تفصيلية ﴿إنْ﴾ حرف شرط ﴿أُعْطُوا﴾ فعل ونائب فاعل، في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها فعل شرط لها ﴿مِنْهَا﴾ متعلق به ﴿رَضُوا﴾ فعل وفاعل والجملة في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية، على كونها جواب شرط لها، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية جملة تفصيلية لجملة ﴿يَلْمِزُكَ﴾ لا محل لها من الإعراب ﴿وَإِنْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿إن﴾ حرف شرط ﴿لَمْ﴾ حرف جزم ﴿يُعْطَوْا﴾ فعل ونائب فاعل، مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾ ﴿مِنْهَا﴾ متعلق به، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونها فعل شرط لها ﴿إذَا﴾ فجائية، قائمة مقام فاء الجزاء في ربط الجواب وجوبًا لكون الجواب جملة اسمية، كما قال ابن مالك:
وَتَخْلُفُ الفَاءَ إِذَا المُفَاجَأَةْ
310
﴿هُمْ﴾: مبتدأ وجملة ﴿يَسْخَطُونَ﴾: خبره والجملة الاسمية في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿وَإِنْ﴾ الشرطية معطوفة على جملة ﴿إنْ﴾ الأولى.
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (٥٩)﴾.
﴿وَلَوْ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية، ﴿لو﴾: حرف شرط ﴿أَنَّهُمْ﴾ ناصب واسمه، وجملة ﴿رَضُوا﴾ خبره، وجملة ﴿أن﴾ المصدرية في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية لفعل محذوف؛ لأن ﴿لو﴾ الشرطية لا يليها إلا الفعل، تقديره: ولو ثبت رضاؤهم ﴿مَا﴾ موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول به ﴿رَضُوا﴾ ﴿آتَاهُمُ اللَّهُ﴾ فعل وفاعل ومفعول أول ﴿وَرَسُولُهُ﴾ معطوف على الجلالة، والمفعول الثاني محذوف، تقديره: ما آتاهم الله إياه؛ لأنَّ آتى هنا بمعنى: أعطى، والجملة الفعلية صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط، الضمير المحذوف، وجواب ﴿لو﴾ محذوف، تقديره: لكان خيرًا لهم، وجملة ﴿لو﴾ الشرطية مستأنفة ﴿وَقَالُوا﴾ فعل وفاعل، معطوف على ﴿رَضُوا﴾ ﴿حَسْبُنَا اللَّهُ﴾ إلى آخر الآية، مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿حَسْبُنَا﴾ خبر مقدم ﴿اللَّهُ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب، مقول ﴿قالوا﴾ ﴿سَيُؤْتِينَا اللَّهُ﴾ فعل ومفعول أول، وفاعل ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾ في محل المفعول الثاني، ﴿وَرَسُولُهُ﴾ معطوف على الجلالة، والجملة الفعلية في محل النصب مقول قالوا ﴿إِنَّا﴾ ناصب واسمه ﴿إِلَى اللَّهِ﴾ متعلق بـ ﴿رَاغِبُونَ﴾ ﴿رَاغِبُونَ﴾ خبر ﴿إن﴾ وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب، مقول ﴿قالوا﴾ وفي "الفتوحات": هاتان الجملتان، أعني قوله: ﴿سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ وقوله: ﴿إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ﴾ كالشرح لقوله: ﴿حَسْبُنَا اللهُ﴾، فلذلك لَمْ يتعاطف؛ لأنهما كالشيء الواحد، فشدة الاتصال منعت العطف.
﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠)﴾.
311
﴿إِنَّمَا﴾ أداة حصر ﴿الصَّدَقَاتُ﴾ مبتدأ ﴿لِلْفُقَرَاءِ﴾: جار ومجرور خبر المبتدأ والجملة مستأنفة ﴿وَالْمَسَاكِينِ﴾: معطوف على الفقراء ﴿وَالْعَامِلِينَ﴾ معطوف على الفقراء أيضًا ﴿عَلَيْهَا﴾ متعلق به ﴿وَالْمُؤَلَّفَةِ﴾: معطوف على الفقراء ﴿قُلُوبُهُمْ﴾: نائب فاعل للمؤلفة ﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾: جار ومجرور، معطوف على الجار والمجرور في قوله: ﴿لِلْفُقَرَاءِ﴾، ﴿وَالْغَارِمِينَ﴾: معطوف على ﴿الرِّقَابِ﴾ ﴿وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور، معطوف ﴿لِلْفُقَرَاءِ﴾ أيضًا ﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾: معطوف على ﴿سَبِيلِ اللَّهِ﴾ ﴿فَرِيضَةً﴾: حال من الضمير المستكن في قوله: ﴿لِلْفُقَرَاءِ﴾ ولكن بعد تأويلها بمشتق، تقديره: إنما الصدقات مصروفة هي للفقراء ومن بعدهم، حالة كونها مفروضة لهم، من الله تعالى ﴿مِنَ اللَّهِ﴾: جار ومجرور صفة لفريضة. أو منصوب على المفعولية بفعل محذوف. تقديره: فرض الله ذلك لهم فريضة كائنةً منه ﴿وَاللَّهُ﴾: مبتدأ ﴿عَلِيمٌ﴾: خبر أول له ﴿حَكِيمٌ﴾: خبر ثان، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
التصريف ومفردات اللغة
﴿إِلَّا خَبَالًا﴾، وأصل الخبال: اضطراب ومرض يؤثر في العقل، كالجنون. اهـ "خازن" وقيل: الخبال: الاضطراب في الرأي، والفساد في العمل، كضعف القتال، ﴿وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ﴾: يقال: وضعت الناقة، تضع، إذا أسرعت في سيرها، وأوضعتها أنا اهـ "سمين" ويقال: وضع الرجل، إذا عدا مسرعًا، وأوضع راحلته، إذا حملها على الإسراع، والخلال: جمع خلل، كجمل وجمال، وخلال الأشياء ما يفصل بينها من فروج ونحوها، وفي الشوكاني الإيضاع: سرعة السير، ومنه قول ورقة بن نوفل:
يَا لَيتَنِيْ فِيْهَا جَذَعْ أَخُبُّ فِيْهَا وَأَضَعْ
ويقال: أوضع البعير إذا أسرع السير، وقيل: الإيضاع سير الخبب، والخلل الفرجة بين الشيئين، والجمع الخلال؛ أي: الفرج التي تكون بين الصفوف ﴿يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ﴾ والفتنة: التشكيك في الدين، والتخويف من الأعداء، وقيل: الفتنة هنا الشرك ﴿وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾؛ أي: ضعفاء العزيمة يسمعون قولهم
312
﴿وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ﴾ يقال: قلب لك الأمر، إذا اجتهد فيه، ودبر لك فيه بالمكر والحيل والمكايد، وتقليب الشيء: تصريفه في كل وجه من وجوهه، والنظر في كل ناحية من أنحائه، والمراد: أنهم دبروا الحيل والمكايد، ودوروا الأراء في كل وجه لإبطال دينك. ﴿إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ﴾ والحسنة: كل ما يسر بها صاحبها، النصر والغلبة على الأعداء ﴿المصيبة﴾ كل ما يصيبك من المكاره ﴿الْحُسْنَيَيْنِ﴾ تثنية الحسنى، مؤنث الأحسن ﴿طَوْعًا أَوْ كَرْهًا﴾ مصدران، بمعنى: المشتق
﴿فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ﴾ والإعجاب: السرور بالشيء، مع نوع من الافتخار به، مع اعتقاد أنه ليس لغيره مثله اهـ "خازن"، وهذا المعنى، إنما يناسب في إعجاب الشخص بمال نفسه، يقال: أعجب بماله، أو ولده؛ أي: فرح به، وما هنا في إعجاب المرء بمال غيره، والمعنى عليه: لا تستحسن أموالهم وأولادهم، ولا تخبر برضاك بها.
وفي "المصباح": ويستعمل التعجب على وجهين:
أحدهما: ما يحمده الفاعل، ومعناه: الاستحسان والإخبار عن رضاه به.
والثاني: ما يكرهه، ومعناه: الإنكار والذم له، ففي الاستحسان، يقال: أعجبني - بالألف - وفي الذم والإنكار عجبت، وزان تعبت. اهـ ﴿وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ﴾ يقال: زهقت الروح، إذا خرجت من باب ذهب ﴿وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ﴾ في "المختار" فرق فرقًا - من باب تعب - إذا خاف، ويتعدى بالهمزة، فيقال: أفرقته اهـ. والفَرَق بالتحريك: الخوف الشديد الذي يفرق بين القلب وإدراكه ﴿لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً﴾ والملجأ المكان الذي يلجأ إليه الخائف ليعتصم به، كحصن أو قلعةٍ، أو جزيرة في بحرٍ، أو قنةٍ في جبل ﴿أَوْ مَغَارَاتٍ﴾ والمغارات، جمع مغارة: وهي الكهف في الجبل، يغور فيه الإنسان ويستتر ﴿أَوْ مُدَّخَلًا﴾ والمدخل، بالتشديد: السرب في الأرض، يدخله الإنسان بمشقة، وفي "السمين" ﴿مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ﴾ الملجأ: الحصن، وقيل: المهرب، وقيل الحرز، وهو مفعل، من لجأ إليه، يلجأ؛ أي: انحاز، يقال: ألجأته إلى كذا؛ أي: اضررته إليه فالتجأ،
313
والملجأ يصلح للمصدر والزمان والمكان، والظاهر منها هنا المكان، والمغارات جمع مغارة، وهي مفعلة من غار يغور، فهي كالغار في المعنى، وقيل: المغارة: السرب في الأرض كنفق اليربوع، والغار: الثقب في الجبل، وهذا من أبدع النظم، ذكر أولًا الأمر الأعم، وهو الملجأ من أي نوع كان، ثم ذكر الغيران التي يختفى فيها في أعلى الأماكن، وهي الجبال، ثم الأماكن التي يختفى فيها في الأماكن السافلة، وهي السروب، وهي التي عبر عنها بالمدخل. اهـ ﴿وَهُمْ يَجْمَحُونَ﴾؛ أي: يسرعون، والجماح: السرعة التي تتعذر مقاومتها، وفي "المصباح": جمح الفرس براكبه، يجمح بفتحتين، من باب خضع جماحًا بالكسر، وجموحًا استعصى حتى غلبه، فهو جموح بالفتح، وجامح يستوى فيه المذكر والمؤنث اهـ.
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ﴾ اللمز: العيب والطعن في الوجه، والهمز: الطعن في الغيبة، وفي "المصباح": لمزه لمزًا - من باب ضرب - إذا عابه. وبه قرأ السبعة: ومن باب قتل لغة، وأصله الإشارة بالعين ونحوها. اهـ فهو أخص من الغمز إذ هو الإشارة بالعين ونحوها، سواء كان على وجه الاستنقاص أو لا، وأما اللمز: فهو خاص بكونه على وجه العيب، وفي "السمين" قرأ العامة: يلمزك بكسر الميم، من لمزه يلمزه إذا عابه، وأصله الإشارة بالعين وغيرها، وقال الأزهري: أصله الدفع، يقال: لمزته؛ أي: دفعته. وقال الليث: هو الغمز في الوجه. ومنه ﴿هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ﴾؛ أي: كثير هذين الفعلين، وقرأ يعقوب وحماد بن سلمة وغيرهما: بضمها، وهي لغتنا في المضارع اهـ.
﴿إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ﴾ يقال: رغبه ورغب فيه، إذا أحبه، ورغب عنه إذا كرهه، ورغب إليه إذا طلبه وتوجه إليه ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ﴾ جمع صدقة: وهي الزكاة الواجبة على النقد والأنعام والزرع والتجارة، سميت صدقة لإشعارها بصدق باذلها في الإيمان. والفقير: من لا مال له يقع موقعًا من كفايته، فيحتاج للمسألة لقوته وكسوته. والمسكين: من له مال قليل يقع موقعًا من كفايته، ولا يكفيه تمامها، كما مر في بحث التفسير، وقيل بالعكس فيهما. والعامل عليها: هو الذي يولِّيه السلطان أو نائبه العمل على جمعها من الأغنياء ﴿وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ﴾:
314
هم الذين يراد استمالة قلوبهم إلى الإسلام، أو التثبيت فيه، ﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾؛ أي: وللإنفاق في إعانة الأرقاء لفكاكهم من الرق ﴿وَالْغَارِمِينَ﴾؛ أي: الذين عليهم غرامة من المال تعذر عليهم أدائها، من الغرم، وأصله لزوم شيء شاق، ومنه قيل للعشق: غرام، ويعبر به عن الهلاك، في قوله تعالى: ﴿إنَّ عَذَابَهَا كانَ غَرَامًا﴾ وغرامة المال فيها مشقة عظيمة اهـ "سمين" ﴿وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾؛ أي: وفي الطريق الموصل إلى مرضاة الله ومثوبته، والمراد بهم كل من سعى في طاعة الله وسبل الخيرات، كالغزاة، والحجاج الذين انقطعت بهم السبل، ولا مورد لهم من المال، وطلبة العلم، والفقراء ﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾: هو المسافر الذي بعد عن بلده، ولا يتيسر له إحضار شيء من ماله، فهو غني في بلده فقير في سفره ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ﴾؛ أي فرض الله ذلك فريضة، ليس لأحد فيها رأي، والله أعلم.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ﴾ شبه سرعة إفسادهم لذات البين بسرعة سير الركائب المسماة بالإيضاع، وهو إسراع سير البعير، ثم استعير لسرعة الإفساد لفظ الإيضاع، ثم اشتق منه أوضعوا، بمعنى: أسرعوا على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية، وأصل الاستعارة: ولأوضعوا ركائب نمائمهم خلالكم، ثم حذف النمائم، وأقيم المضاف إليه مقامها، لدلالة سياق الكلام على أن المراد النميمة، ثم حذف الركائب. قاله الطيبي. اهـ زكريا.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ حيث شبه وقوعهم في جهنم بإحاطة العدو بالجند، أو السوار بالمعصم.
ومنها: جمع المؤكدات في هذه الجملة إنَّ واللام واسمية الجملة للدلالة على الثبات والدوام.
ومنها: ما يسمى بالمقابلة، التي هي من المحسنات البديعية في قوله: ﴿إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ...﴾ الآية، وفي قوله: {قُل هَل
315
تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ...} الآية؛ لأنه في معنى: ونحن نتربص بكم إحدى السوءيين.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ﴾.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿طَوْعًا أَوْ كَرْهًا﴾، وبين الرضا والسخط في قوله: ﴿فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ﴾.
ومنها: القصر في قوله: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾؛ لأنَّ تقديم المعمول على عامله يفيد الحصر، وفيه أيضًا إظهار الاسم الجليل مكان الإضمار، لتربية الروعة والمهابة.
ومنها: تكرار لفظ الجلالة في قوله: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾ الآية.
ومنها: ذكر الأعم ثم الأخص في قوله: ﴿لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا﴾ حيث ذكر أولًا الأمر الأعم وهو الملجأ من أي نوع كان، ثم ذكر المغارات التي يختفى فيها في أعلى الأماكن. وهي الجبال، ثم الأماكن التي يختفى فيها في الأماكن السافلة، وهي السروب التي عبر عنها بالمدخل.
ومنها: القصر في قوله: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ...﴾ الآية، ففي الآية قصر الموصوف على الصفة؛ أي: الصدقات مقصورة على الاتصاف، بصرفها لهؤلاء الثمانية، لا تتجاوز هذه الصفة إلى أن تتصف بصرفها لغيرهم.
ومنها: الزيادة والحذف في مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
316
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٦١) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (٦٣) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (٦٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (٦٥) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (٦٦) الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٦٧) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (٦٨) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (٦٩) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٧٠) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٧١) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ...﴾ الآية، مناسبة (١) هذه الآية
(١) المراغي.
317
لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر أن من دلائل نفاقهم الطعن في أفعاله - ﷺ -، كإيذاء الذين لمزوه في قسمة الصدقات.. أردف ذلك بذكر من طعن في أخلاقه وشمائله الكريمة، بقولهم: إن محمدًا أذنٌ، نحلف له فيصدقنا.
قوله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما ذكر أفعال المنافقين الخبيثة، وذكر ما أعده لهم من العذاب في الدنيا والآخرة.. أردف ذلك بذكر صفات المؤمنين الذين زكت نفوسهم وطهرت سرائرهم، وما أعدَّه لهم من الثواب الدائم والنعيم المقيم.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ...﴾ الآية، سبب نزولها (١): ما أخرجه ابن أبي حاتم، عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: كان نَبْتَلُ بن الحارث يأتي رسول الله - ﷺ -، ف يجلس إليه، فيسمع منه وينقل حديثه إلى المنافقين، فأنزل الله ﴿وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ...﴾ الآية.
قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (٦٥)﴾ سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه ابن أبي حاتم، عن ابن عمر، قال: قال رجل في غزوة تبوك، في مجلس يومًا: ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء، لا أرغب بطونا، ولا أك ذب ألسنة، ولا أجبن عند اللقاء، فقال رجل في المجلس: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله - ﷺ -، فبلغ ذلك النبي - ﷺ -، ونزل القرآن، قال عبد الله بن عمر: فأنا رأيته متعلقًا بحقب ناقة رسول الله - ﷺ - والحجارة تنكبه، وهو يقول: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب، ورسول الله - ﷺ - يقول: "أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون؟! ".
ثم أخرج من وجه آخر، عن ابن عمر نحوه، وسمى الرجل عبد الله بن أبي، وأخرج عن كعب بن مالك، قال مخشيُّ بن حمير - بالتصغير -: لوددت أني
(١) لباب النقول.
318
أقاضي على أن يضرب كل رجل منكم مئة، على أن ننجو من أن ينزل فينا قرآن، فبلغ النبيَّ - ﷺ -، فجاؤوا يعتذرون، فأنزل الله ﴿لَا تَعْتَذِرُوا...﴾ الآية، فكان الذي عفا الله عنه مخشي بن حمير، فتسمى عبد الرحمن، وسأل الله أن يقتل شهيدًا لا يعلم بمقتله أحد، فقتل يوم اليمامة لا يعلم مقتله إلا من قتله، وأخرج ابن جرير عن قتادة أن ناسًا من المنافقين قالوا في غزوة تبوك: يرجو هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها، هيهات، فأطلع الله نبيه - ﷺ - على ذلك، فأتاهم، فقال: "قلتم كذا وكذا"، قالوا: إنما كنا نخوض ونلعب، فنزلت هذه الآية.
التفسير وأوجه القراءة
٦١ - ﴿وَمِنْهُمُ﴾؛ أي: ومن المنافقين ﴿الذين يؤذون النبي﴾؛ أي: جماعة يؤذون رسول الله - ﷺ - بأقوالهم وأفعالهم، ويعيبونه ﴿وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ﴾ سامعة؛ أي: يسمع من كل أحد ما يقوله، ويقبله، ويصدقه، وهم يريدون بذلك أنه سليم القلب، سريع الاغترار بكل ما يسمع دون أن يتدبر فيه ويميز بين ما هو جدير بالقبول، لوجود أمارات الصدق فيه، وما لا ينبغي قبوله، وهذا عيب في الملوك والرؤساء، لما يترتب عليه من تقريب المنافقين وإبعاد الناصحين، وإنما قالوا ذلك؛ لأنه - ﷺ - كان يعاملهم بأحكام الشريعة، كما يعامل عامة المؤمنين، بالبناء على الظاهر، فظنوا أنه يصدق كل ما يقال له.
قال الجوهري (١): يقال رجل أذن، إذا كان يسمع مقال كل أحد، يستوي فيه الواحد والجمع، ومرادهم: أقمأهم الله تعالى أنهم إذا آذوا النبي، وبسطوا فيه ألسنتهم، وبلغه ذلك.. اعتذروا له، وقبل ذلك منهم؛ لأنه يسمع كل ما يقال له فيصدقه، وإنما أطلقت العرب على من يسمع ما يقال له فيصدقه، أنه: أذن مبالغةً؛ لأنهم سموه بالجارحة التي هي آلة السماع، حتى كأنَّ جملته أذن سامعةٌ، ونظيره قولهم للربيئة؛ أي الجاسوس: عين، وإيذاؤهم له هو قولهم ﴿هُوَ﴾؛ أي: محمد - ﷺ -، ﴿أُذُنٌ﴾ سامعةٌ، ليس له ذكاءٌ؛ لأنهم نسبوه إلى أنه يصدق كل ما
(١) الشوكاني.
319
يقال له، ولا يفرق بين الصحيح والباطل، اغترارا منهم بحلمه عنهم، وصفحه عن جناياتهم، كرمًا وحلمًا وتغاضيًا، ثم أجاب الله سبحانه عن قولهم هذا، فقال: ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد، نعم هو ﴿أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ﴾ لا أذن شرٍّ، يسمع الخير فيعمل به، ولا يعمل بالشر إذا سمعه.
أي (١): أنه أذن، ولكنه نعم الأذن؛ لأنه أذن خير، لا كما تزعمون، فهو لا يقبل مما يسمعه إلا ما يعتقد أنه الحق، وما فيه المصلحة للخلق، وليس بأذن في سماع الباطل، كالكذب والنميمة والجدل والمراء، وإذا سمعه من غير أن يستمع إليه لا يقبله ولا يصدق ما لا يجوز تصديقه، كما هو شأن الملوك والزعماء، الذين يتقرب إليهم أهل الأهواء بالسعاية لإبعاد الناصحين المخلصين عنهم، وحملهم على إيذاء من يبتغون إيذاءه. وقرأ جمهور القراء (٢): ﴿هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ﴾ بالتثقيل، وقرأ نافع: ﴿هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ﴾ بإسكان الذال فيهما.
وقرأ الجمهور أيضًا (٣): ﴿أذُنُ خير﴾ بالإضافة، وقرأ الحسن ومجاهد وزيد بن علي وأبا بكر عن عاصم في رواية: ﴿قل أذنٌ خير﴾ وجوزوا في ﴿أُذُنٌ﴾، أن يكون خبر مبتدأ محذوف، و ﴿خَيْرٌ﴾ خبر ثان لذلك المحذوف؛ أي: هو أذن هو خير لكم؛ لأنه - ﷺ - يقبل معاذيركم ولا يكافئكم على سوء خلقكم، وأن يكون ﴿خيرٌ﴾ صفةً لـ ﴿أذن﴾؛ أي: أذنٌ ذو خير لكم.
ثم بيَّن الله سبحانه كونه - ﷺ -، أذن خير بقوله: ﴿يُؤْمِنُ بِاللَّهِ﴾؛ أي: يصدق بالله، لما قام عنده من الأدلة، وبما يوحى إليه مما فيه خيركم وخير غيركم ﴿وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: ويصدق المؤمنين الصادقي الإيمان من المهاجرين والأنصار، ويقبل قولهم فيما يخبرونه، لما علمه من آيات إيمانهم الذي يوجب عليهم الصدق فيما يحدِّثونه به، وفي هذا إيماءٌ إلى أنه - ﷺ - لا يؤمن لهؤلاء المنافقين إيمان تسليم، ولا يصدقهم في أخبارهم، وإن وكدوها بالأيمان اغترارًا
(١) المراغي.
(٢) زاد المسير.
(٣) البحر المحيط.
320
بلطيفه وأدبه - ﷺ -، إذ كان لا يواجه أحدًا بما يكره، وبمعاملته إياهم كما يعامل أمثالهم من عامة أصحابه.
وعدى (١) فعل الإيمان بالباء إلى الله؛ لأنه قصد به التصديق بالله، الذي هو ضد الكفر به، وإلى المؤمنين باللام؛ لأنه قصد به السماع من المؤمنين أخبارهم، وأن يسلم لهم ما يقولونه، ويصدقه لكونهم صادقين عنده، ألا ترى إلى قوله: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا﴾ كيف ينبىء عن الباء.
﴿وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ﴾؛ أي: وهو - ﷺ - رحمة للذين آمنوا إيمانًا صحيحًا صادقًا، إذ كان سبب هدايتهم إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة، لا لمن أظهر الإسلام وأسر الكفر نفاقًا، إذ هو نقمة عليه في الدارين.
وإنما قال منكم (٢)؛ لأن المنافقين كانوا يزعمون أنهم مؤمنون، فبيَّن الله سبحانه وتعالى كذبهم بقوله: إنه رحمة للمؤمنين المخلصين، لا للمنافقين، وقيل: في كونه - ﷺ - رحمةً؛ لأنه يجري أحكام الناس على الظاهر، ولا ينقب عن أحوالهم، ولا يهتك أسرارهم.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿وَرَحْمَةٌ﴾ بالرفع عطفًا على ﴿أُذُنٌ﴾، والمعنى عليه: هو أنه أذن خيرٍ، وأنه هو رحمة للمؤمنين، وقرأ حمزة وأبي وعبد الله والأعمش: ﴿ورحمةٍ﴾ بالجر عطفًا على ﴿خيرٍ﴾، والمعنى عليه: إنه أذن خير، وأذن رحمةٍ فالجملة من يؤمن ويؤمن اعتراضٌ بين المتعاطفين، قال النحاس: وهذا عند أهل العربية بعيدٌ، يعني قراءة الجر؛ لأنه قد تباعد بين الاسمين، وهذا يقبح في المخفوض اهـ وقرأ ابن أبي عبلة: ﴿رحمةً﴾ بالنصب على أنه مفعول لأجله، لفعل محذوف دلَّ عليه أذن خير؛ أي: يأذن لكم ويستمع رحمةً لكم، فحذف
لدلالة أذن خير لكم عليه.
(١) النسفي.
(٢) الخازن.
(٣) البحر المحيط والشوكاني.
321
﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ﴾ - ﷺ -، بالقول، أو بالفعل ﴿لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾؛ أي: وجيع شديد الإيلام في الدنيا والآخرة، وأبرز (١) اسم الرسول ولم يأت به ضميرًا على نسق يؤمن بلفظ الرسول تعظيمًا لشأنه، وجمعًا له في الآية بين الرتبتين العظيمتين، من النبوة والرسالة، وإضافته زيادة في تشريفه، وحتَّم على من آذاه بالعذاب الأليم، وحقَّ لهم ذلك ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ﴾ عام، يندرج فيه هؤلاء الذين آذوه هذا الإيذاء، وغيرهم.
وفي هذه الآية (٢)، وما في معناها: دليلٌ على أن إيذاء الرسول - ﷺ - كفرٌ إذا كان فيما يتعلق برسالته؛ لأن ذلك ينافي الإيمان، وأما إيذاؤه في شؤونه البشرية، والعادات الدنيوية، فحرام لا كفر، كإيذاء الذين كانوا يطيلون الجلوس في بيوته لدى نسائه بعد الطعام، وفيهم نزل ﴿إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ﴾ وإيذاء الذين كانوا يرفعون أصواتهم في ندائه ويسمونه باسمه، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (٢)﴾ وإيذاؤه (٣) في بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، كإيذائه في حال حياته، كالخوض في أبويه، وآل بيته بما يعلم أنه يؤذيه لو كان حيًّا، فالإيمان به - ﷺ - مانعٌ من تصدي المؤمن لما يعلم أو يظن أنه يؤذيه صلوات الله وسلامه عليه إيذاءً ما، فهذا الذنب من أكبر الذنوب، ومعصيةٌ من أعظم المعاصي.
٦٢ - ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ﴾؛ أي: يحلف المنافقون ويقسمون باللهِ ﴿لَكُمْ﴾ أيها المؤمنون على أنهم ما قالوا ما حكي عنهم، من طعن الرسول - ﷺ -، وطعن المؤمنين ﴿لِيُرْضُوكُمْ﴾ أيها المؤمنون، بالأيمان الكاذبة، وذلك أن المنافقين كانوا في خلواتهم يطعنون على المؤمنين، وعلى النبي - ﷺ -، فإذا بلغ ذلك إلى رسول الله - ﷺ - وإلى المؤمنين.. جاء المنافقون، فحلفوا على أنهم لم يقولوا ما بلغ
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
(٣) المراغي.
عنهم، قاصدين بهذه الإيمان الكاذبة أن يرضوا رسول الله، ومن معه من المؤمنين، فنعى الله ذلكم عليهم، وقال؛ ﴿وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ﴾؛ أي: والحال أن الله سبحانه وتعالى ورسوله - ﷺ - أحق بالإرضاء من إرضاء المؤمنين بالأيمان الكاذبة، فإنهم لو اتقوا الله، وآمنوا به، وتركوا النفاق.. لكان ذلك أولى لهم، وكان من الواجب أن يرضوهما بالإخلاص والتوبة والمتابعة، وإيفاء حقوقه - ﷺ - في باب الإجلال مشهدًا ومغيبًا، لا بإتيانهم بالأيمان الفاجرة.
وإفراد الضمير في قوله (١): ﴿يُرْضُوهُ﴾ إما للتعظيم للجناب الإلهيِّ بإفراده بالذِّكر، أو لكونه لا فرق بين إرضاء الله وإرضاء رسوله، فإرضاء الله إرضاء لرسوله، أو المراد: الله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك، كما قال سيبويه: ورجحه النحاس، أو لأن الضمير موضوع موضع اسم الإشارة، فإنه يشار به إلى الواحد والمتعدد، أو الضمير راجعٌ إلى المذكور، وهو يصدق عليهما، وقال الفراء: المعنى: ورسوله أحق أن يرضوه، والله افتتاح كلام، كما تقول: ما شاء الله، وشئت، وفي التعبير بـ ﴿يُرْضُوهُ﴾ دون يرضوهما، إشعارٌ بأن إرضاء رسوله، هو
عين إرضائه تعالى؛ لأنه إرضاء له في اتباع ما أرسله به، وجواب قوله: ﴿إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ﴾ محذوف، تقديره: إن كانوا مؤمنين.. فليرضوا الله ورسوله بالطاعة، فإنهما أحق بالإرضاء؛ أي إن كان هؤلاء المنافقون مصدِّقين بوعد الله، ووعيده في الآخرة، كما يدعون ويحلفون.. فليرضوهما، وإلَّا كانوا كاذبين، فإن المؤمنين قد يصدقونهم فيما يحلفون عليه إذا لم يكن كذبهم فيه ظاهرًا معلومًا باليقين، ولكن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فيوحي إلى رسوله - ﷺ - من أمور الغيب ما فيه المصلحة للمؤمنين، وفي الآية عبرة للمنافقين في زماننا وفي كل زمان، إذ يحلفون حين الحاجة إلى تأكيد أخبارهم فيما يحاولون به إرضاء الناس، وبخاصةٍ الملوك والوزراء، الذين يتقربون إليهم فيما لا يرضي ربهم، بل فيما يسخطه بأخس الوسائل، وأقذر السبل،
٦٣ - ثم وبخهم على ما أقدموا عليه مع علمهم بوخامة عاقبته
(١) الشوكاني.
323
بقوله: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا﴾؛ أي: ألم يعلم هؤلاء المنافقون، وهو استفهام، معناه التوبيخ والإنكار، كما ذكره أبو حيان ﴿أَنَّهُ﴾؛ أي: أن الشأن والحال ﴿مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ﴾؛ أي: من يخالف الله ﴿وَرَسُولَهُ﴾ - ﷺ - بتعدي حدوده، أو بلمز الرسول في أعماله، كقسمة الصدقات، وفي أخلاقه وشمائله، كقولهم: هو أُذُنُ ﴿فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ﴾ أي: فحق أن له نار جهنم؛ أي، فكون نار جهنم له أمر ثابت؛ أي: فجزاؤه جهنم يصلاها يوم القيامة، حالة كونه ﴿خَالَدًا فِيها﴾ أبدًا لا مخلص له منها ﴿ذَلِكَ﴾ العذاب الخالد هو ﴿الْخِزْيُ الْعَظِيمُ﴾ والذل البالغ إلى الغاية التي لا يبلغ إليها غيره، والهوان الذي يصغر دونه كل خزي وذل في الدنيا وهو ثمرات نفاقهم.
وقرأ الحسن والأعرج (١): ﴿ألم تعلموا﴾ بالتاء الفوقية على الخطاب، فالظاهر أنه التفات، فهو خطاب للمناقين، قيل: ويحتمل أن يكون خطابًا للمؤمنين، فيكون معنى الاستفهام التقرير. وإن كان خطابًا للرسول.. فهو خطاب تعظيم، والاستفهام فيه للتعجب، والتقدير: ألا تعجب من جهلهم في محادة الله تعالى، وقرأ الباقون: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا﴾ بالياء التحتية وفي مصحف أُبيٍّ ﴿ألم تعلم﴾ قال ابن عطية: على خطاب النبي - ﷺ -. انتهى. والأولى أن يكون خطابًا للسامع. قال أهل المعاني: ﴿ألم تعلم﴾ الخطاب لمن حاول تعليم إنسان شيئًا مدةً وبالغ في ذلك التعليم فلم يعلم، فقال له: ألم تعلم بعد المباحث الظاهرة، والمدة المديدة، وحسن ذلك؛ لأنه طال مكث النبي - ﷺ - معه، وكثر منه التحذير عن معصية الله، والترغيب في طاعة الله، وقرأ الجمهور: ﴿فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ﴾ بفتح الهزة على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: فحق أن له نار جهنم، أو فالواجب أن له النار، والفاء رابطةٌ جواب الشرط، وقرأ ابن أبي عبلة: ﴿فإن له﴾ بالكسر في الهمزة، حكاها عنه أبو عمرو الداني، وهي قراءة محبوب عن الحسن، ورواية أبي عبيدة عن أبي عمرو، ووجهه في العربية قوي؛ لأن الفاء تقتضي الاستئناف والكسر مختار؛ لأنه لا يحتاج إلى إضمار بخلاف الفتح.
(١) البحر المحيط.
324
٦٤ - ﴿يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ﴾؛ أي: يخاف المنافقون، قيل: هو خبر ليس بأمر. وقال الزجاج: هو خبر بمعنى الأمر، فهو على تقدير ليحذر المنافقون ﴿أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ﴾؛ أي على المؤمنين، وقرىء بالتخفيف وبالتشديد ﴿سُورَةٌ﴾ من سور القرآن ﴿تُنَبِّئُهُمْ﴾: أي: تخبر المؤمنين ﴿بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ﴾؛ أي: بما في قلوب المنافقين، من النفاق والحسد والعداوة للمؤمنين، وذلك أن المنافقين كانوا فيما بينهم يذكرون المؤمنين بسوءٍ ويسترونه، ويخافون الفضيحة، ونزول القرآن في شأنهم.
ويجوز (١) أن تكون الضمائر للمنافقين؛ فإنَّ النازل فيهم كالنازل عليهم، من حيث إنه مقروءٌ، ومحتجٌ به عليهم.
والمعنى: يخاف المنافقون أن ينزل في شأنهم سورة تفضحهم بإظهار ما في قلوبهم للمؤمنين، وذلك يدل على ترددهم أيضًا في كفرهم، وأنهم لم يكونوا على بت في أمر الرسول - ﷺ - بشيءٍ.
والخلاصة: أنهم يحذرون أن تنزل سورة في شأنهم، وبيان حالهم، فتكون في ذلك فضيحتهم وكشف عوراتهم، وإنذارهم ما قد يترتب عليه من عقابهم.
ثم أمر الله سبحانه رسوله - ﷺ -، بأن يجيب عليهم، فقال: ﴿قُلِ﴾ لهم يا محمد ﴿اسْتَهْزِئُوا﴾ أمر تهديد على حد ﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ﴾؛ أي: افعلوا الاستهزاء بالله وبرسوله وبآياته ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿مُخْرِجٌ﴾ ومظهر ﴿مَا تَحْذَرُونَ﴾ من إنزال سورة تهتك ستركم، أو ما تحذرون إظهاره من مساويكم، والمعنى؛ أي: قل لهم استهزئوا، فإن الله سينزل على رسوله ما يفضحكم به، ويبين أمركم، من قرآن أو وحي.
٦٥ - ولا يخفى ما في هذا من التهديد والوعيد على فعلم، وكونه سببًا لإخراجه تعالى ما يحذرون ظهوره من مخبآت سرائرهم ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي، لئن سألت يا محمد هؤلاء المستهزئين عما قالوه من الطعن في الدين،
(١) البيضاوي،
325
وثلب المؤمنين، بعد أن يبلغ إليك ذلك، ويطلعك الله عليه ﴿لَيَقُولُنَّ﴾ معتذرين عما قالوا ﴿إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ﴾ ولم نكن في شيء من أمرك ولا أمر المؤمنين؛ أي: إنما كنا نخوض ونتحدث بالحديث الباطل الذي لا معنى له، نقطع به عنا الطريق كحديث الركب المسافرين في الطريق لتقصر عليه المسافة، ﴿وَنَلْعَبُ﴾؛ أي: نضحك بما نقول، ولا نقصد معناه.
أي: إنك إن سألتهم عن أقوالهم هذه يعتذرون عنها، بأنهم لم يكونوا جادين ولا منكرين، بل هازلين لاعبين للتسلي والتلهي، وكانوا يظنون أن هذا عذر مقبول، لجهلهم أن اتخاذ الدين هزوًا ولعبًا كفرٌ محضٌ، كما قال تعالى: ﴿فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢)﴾ وقال: ﴿فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢)﴾.
ويدخل في عموم الآية المبتدعون في الدين، والذين يخوضون في الداعين، إلى الكتاب والسنة، ويستهزئون بهم لاعتصامهم بهما.
أخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن قتادة قال: بينما رسول الله - ﷺ - في غزوته إلى تبوك، إذ نظر إلى أناس بين يديه يقولون: أيرجو هذا الرجل أن تفتح له قصور الشام وحصونها؟ هيهات هيهات.. فاطلع الله نبيه - ﷺ - على ذلك فقال: "احبسوا على هؤلاء الركب"، فأتاهم، فقال: "قلتم كذا، وقلتم كذا"، قالوا: يا نبيَّ الله إنما كنا نخوض ونلعب، فأنزل الله فيهم ما تسمعون.
ثم أمر الله سبحانه نبيه أن يجيب عنهم، فقال: ﴿قُلِ﴾ لهم يا محمد ﴿أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ﴾ والاستفهام للتقريع والتوبيخ حقه الدخول على كان، وأثبت وقوع ذلك منهم، ولم يعبأ بإنكارهم؛ لأنهم كانوا كاذبين في الإنكار، بل جعلهم كالمعترفين بوقوع ذلك منهم، حيث جعل المستهزأ به واليًا لحرف الاستفهام؛ أي: أكنتم تستهزئون، وتسخرون بالله؛ أي: بفرائض الله وحدوده وأحكامه وبآياته؛ أي: وبكتابه وبرسوله محمد - ﷺ -.
والمعنى: كيف تقدمون على الاستهزاء بالله وآياته ورسوله، ولا يستقيم ذلك
326
لمن له عقل؛ أي: قل لهم (١): إن الخوض واللعب في صفات الله وشرعه وآياته المنزلة ورسوله استهزاء بها، إذ كل ما يلعب به، فهو مستخف به، وكل مستخف به، فهو مستهزأ به.
وقصارى ذلك: ألم تجدوا ما تستهزئون به في خوضكم ولعبكم إلا الله وآياته ورسوله، فقصرتم ذلك عليهما، فهل ضاقت عليكم سبل القول، فلم تجدوا ما تخوضون فيه، وتلعبون به غير هذا، ثم بعدئذٍ تظنون أن معاذيركم بمثل هذا تقبل، وتدلون بها بلا خوف ولا خجل؛
٦٦ - ﴿لَا تَعْتَذِرُوا﴾ بالاعتذارات الباطلة، فلن نقبلها منكم؛ أي لا تذكروا هذا العذر الباطل، لدفع هذا الجرم العظيم، فإنَّ ذلك غير مقبول منكم؛ لأن الإقدام على الكفر لأجل اللعب لا ينبغي أن يكون، فاعتذاركم إقرارٌ بذنبكم، فهو كما يقال: عذر أقبح من الذنب. ونقل الواحدي عن أئمة اللغة، أن معنى الاعتذار هو أثر الذنب وقطعه، من قولهم: اعتذر المنزل إذا درس واعتذرت المياه إذا انقطعت، كما سيأتي إن شاء الله تعالى في مبحث التصريف؛ أي: لا تعتذروا فـ ﴿قَدْ كَفَرْتُمْ﴾؛ أي: أظهرتم الكفر بما وقع منكم من الاستهزاء المذكور، ﴿بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾؛ أي: بعد إظهاركم الإيمان مع كونكم تبطنون الكفر ﴿إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ﴾؛ أي: إن نعف عن جماعة منكم هذا الاستهزاء، لتوبتهم وإنابتهم إلى ربهم كمخشي بن حمير ﴿نُعَذِّبْ طَائِفَةً﴾ أخرى منكم لإجرامهم وإصرارهم عليه، ﴿بـ﴾ سبب ﴿أنهم كانوا مجرمين﴾؛ أي: مصرين مستمرين على الإجرام والنفاق، لم يتوبوا منه، قال الزجاج: الطائفة: الجماعة، قال ابن الأنباري: ويطلق لفظ الجمع على الواحد عند العرب.
وخلاصة ذلك: أن من تاب من كفره ونفاقه.. عفي عنه، ومن أصر عليه، وأظهره.. عوقب به.
روي (٢): أن الطائفتين كانوا ثلاثة، فالواحد: طائفة، وهو جهير بن حمير
(١) المراغي.
(٢) المراح.
والاثنان: طائفة، وهما وديعة بن جذام وجدُّ بن قيس، فالذي عفى عنه جهير بن حمير؛ لأنه كان ضحك معهم، ولم يستهزىء معهم، فلما نزلت هذه الآية، تاب من نفاقه، وقال: اللهم إني لا أزال أسمع آية، تقشعر منها الجلود، وتخفق منها القلوب، اللهم اجعل وفاتي قتلًا في سبيلك، لا يقول أحد: أنا غسلت، أنا كفنت، أنا دفنت، فأصيب يوم اليمامة فلم يعرف أحد من المسلمين مصرعه.
وقرأ زيد بن ثابت (١) وأبو عبد الرحمن وزيد بن علي وعاصم من السبعة: ﴿إِنْ نَعْفُ﴾ بالنون ﴿نعذب﴾ بالنون ﴿طائفة﴾ بالنصب، ولقيني شيخنا الأديب الكامل أبو الحكم، مالك بن المرحل المالقي بغرناطة، فسألني: قراءة من تقرأ اليوم على الشيخ أبي جعفر بن الطباع؟ فقلت: قراءة عاصم، فأنشدني:
لِعاصِمٍ قِرَاءَةٌ لِغَيْرِهَا مُخَالِفَهْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَهْ
وقرأ باقي السبعة ﴿إن تُعفَ عن طائفة تعذب طائفة﴾ مبنيًّا للمفعول، وقرأ الجحدري: ﴿إن يَعف﴾ ﴿يُعذب﴾ مبنيًّا للفاعل فيهما؛ أي: إن يعف الله، وقرأ مجاهد ﴿إن تعف﴾ بالتاء مبنيًّا للمفعول ﴿تعذب﴾ مبنيًّا للمفعول بالتاء أيضًا، قال ابن عطية: على تقدير إن تعف هذه الذنوب. وقال الزمخشري: الوجه التذكير؛ لأن المسند إليه الظرف، كما تقول سير بالدابة، ولا تقول: سيرت بالدابة، ولكنه ذهب إلى المعنى كأنه قيل: إن ترحم طائفة، فأنث لذلك، وهو غريب، والجيد قراءة العامة: ﴿إن يعف عن طائفة﴾ بالتذكير و ﴿تعذب طائفة﴾ بالتأنيث. انتهى.
٦٧ - ﴿الْمُنَافِقُونَ﴾ قيل (٢) كانوا ثلاث مئة ﴿وَالْمُنَافِقَاتُ﴾ وكنَّ مئة وسبعين ﴿بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾؛ أي: متشابهون في صفة النفاق والأفعال الخبيثة؛ أي: أنَّ (٣) أهل النفاق رجالًا ونساءً يتشابهون في صفاتهم وأخلاقهم وأعمالهم، كما قال تعالى في آل إبراهيم وآل عمران: ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾. وقال الشاعر:
تِلْكَ العَصَا مِنْ هَذِه العُصَيَّهْ هَلْ تَلِدُ الحَيَّةُ إلَّا حَيَّهْ
(١) البحر المحيط.
(٢) المراح.
(٣) المراغي.
ثُم بين ذلك التشابه فقال: ﴿يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ﴾؛ أي: إن بعضهم يأمر بعضًا بالمنكر، وهو كل (١) قبيح عقلًا أو شرعًا كالكذب والخيانة، وإخلاف الوعد، ونقض العهد، كما جاء في الحديث الصحيح: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان" رواه الشيخان عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ﴿وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ﴾؛ أي: وينهى بعضهم بعضًا عن المعروف، وهو كل حسن عقلًا أو شرعًا كالجهاد وبذل المال في سبيل الله للقتال، كما حكى الله تعالى عنهم، بقوله: ﴿هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا﴾، ﴿وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ﴾ عن كل خير، من زكاة وصدقة وإنفاق في سبيل الله، والقبض كناية عن الشح، كما أن البسط كناية عن الكرم، واقتصر (٢) من منكراتهم الفعلية في هذه الآية على الامتناع عن البذل؛ لأنه شرها وأضرها وأقواها دلالةً على النفاق، كما أن الإنفاق في سبيل الله أقوى دلائل الإيمان ﴿نَسُوا اللَّهَ﴾؛ أي: نسوا وتركوا أن يتقربوا إليه بفعل، ما أمر به وترك ما نهى عنه، ولم يكن يخطر ببالهم أن له عليهم حق الطاعة والشكر، واتبعوا أهواءهم ووساوس الشيطان ﴿فَنَسِيَهُمْ﴾؛ أي: تركهم من رحمته وفضله، والنسيان هنا الترك؛ لأن النسيان الحقيقي لا يصح إطلاقه على الله سبحانه، وإنما أطلق عليه هنا من باب المشاكلة المعروفة في علم البيان، أو المعنى: فجازاهم على ما فعلوا بحرمانهم من لطفه، وتوفيقه في الدنيا، ومن الثواب في الآخرة.
ثم حكم عليهم بالفسق؛ أي: الخروج عن طاعته إلى معاصيه فقال: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ﴾ الناكبين عن الصراط المستقيم إلى سبل الشيطان ﴿هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾؛ أي؛ الكاملون في الفسق، الذي هو الانسلاخ من كل خير؛ أي: هم أكثر الناس فسوقًا وخروجًا من جميع الفضائل، حتى من الكفار، الذين يعتقدون صحة عقائدهم الباطلة، فهم لا يبلغون مبلغهم في الفسوق والخروج من طاعة الله، والانسلاخ من فضائل الفطر السليمة،
٦٨ - ثم بين سبحانه ما أعدَّ لهم ولأمثالهم
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
من العقاب جزاءً لهم على أعمالهم، فقال: ﴿وَعَدَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى هؤلاء ﴿الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ﴾ المجاهرين بالكفر جميعًا ﴿نَارَ جَهَنَّمَ﴾ يصلونها حالة كونهم ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾؛ أي: ماكثين فيها مكثًا مؤبدًا لا نهاية له، فالنار المخلدة من أعظم العقوبات، وقدم المنافقين في الوعيد على الكفار للإيذان بأنهم وإن أظهروا الإيمان وعملوا أعمال الإسلام شر من الكفار، ولا سيما المتدينين منهم بأديان محرفة أو منسوخة، كأهل الكتاب وفي هذه الآية دليلٌ على أن وعد يقال في الشر، كما يقال في الخير: ﴿هِيَ﴾؛ أي: نار جهنم ﴿حَسْبُهُمْ﴾؛ أي: كافيتهم عقوبةً ولا شيء أبلغ منها، ولا يمكن الزيادة عليها ﴿و﴾ مع ذلك فقد ﴿لَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾ تعالى: أي: طردهم وأبعدهم من رحمته ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾؛ أي: نوعٌ آخر من العذاب دائم، لا ينفك عنهم، كالزمهرير والسموم.
والمعنى: أن نار جهنم فيها من الجزاء ما يكفيهم، عقابًا لهم في الآخرة على أعمالهم، وعليهم لعنة الله في الدنيا والآخرة، بحرمانهم من رحمته، التي لا يستحقها إلا المؤمنون الصادقون، ولهم عذاب مقيم دائم، غير عذاب جهنم، كالسموم الذي يلفح وجوههم، والحميم الذي يصهر ما في بطونهم، والضريح الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، وحرمانهم من لقاء الله تعالى وكرامته، والحجاب دون رؤيته، كما قال: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (١٦)﴾.
٦٩ - ثم شبه سبحانه وتعالى حال المنافقين بالكفار الذين كانوا من قبلهم، ملتفتًا من الغيبة إلى الخطاب، فقال: ﴿كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ والكاف فيه خبر لمبتدأ محذوف، ولكنه مع تقدير مضاف؛ أي: فعلكم أيها المنافقون المعاصرون لمحمد - ﷺ - كفعل الكفار الذين كانوا من قبلكم من الأمم الماضية، في الأمر بالمنكر، والنهي عن المعروف، وقبض الأيدي عن الخيرات، فقد ﴿كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً﴾؛ أي: أكثر منكم قوةً في الأبدان ﴿وَأَكْثَرَ﴾ منكم ﴿أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا﴾؛ أي: أجمع منكم إياها ﴿فَاسْتَمْتَعُوا﴾؛ أي: تمتع أولئك الكفار وانتفعوا ﴿بِخَلَاقِهِمْ﴾؛ أي: بنصيبهم وحظهم من ملاذ الدنيا وشهواتها مدة حياتهم،
330
وخاضوا في تكذيب أنبيائهم واستهزائهم، وفتنوا بدنياهم، وغروا بشهواتهم، وخرجوا من الدنيا مفتونين مغرورين محرومين من - رحمة الله - تعالى ونعيم الآخرة.
والمعنى: أنتم أيها المنافقون المؤذون لله ورسوله - ﷺ - والمؤمنين كأولئك المنافقين الذين خلوا من قبلكم في أقوام الأنبياء السابقين، فتنتم بأموالكم وأولادكم، كما فتنوا وغروا بها، ولكنهم كانوا أشد منكم قوةً، وأكثر منكم أموالًا وأولادًا، وقد كان جل مطلبهم وسعيهم، هو التمتع بنصيبهم وحظهم الدنيويِّ، من الأموال والأولاد، فأطغتهم الدنيا، وأغرتهم لذاتها، ولم يكن لهم مقاصد شريفة من الحياة كالتي يقصدها أهل الإيمان باللهِ ورسله والدار الآخرة، من إعلاء كلمة الحق، وإقامة ميزان العدل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فخرجوا من الدنيا مفتونين مغرورين محرومين.
﴿فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ﴾؛ أي: فأنتم أيها المنافقون المعاصرون لمحمد - ﷺ - حذوتم حذوهم، وسلكتم سبيلهم، وتمتعتم بنصيبكم وحظكم من ملاذ الدنيا وشهواتها ﴿كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ﴾؛ أي: استمتعتم استمتاعًا كاستمتاع الكفار الذين خلوا من قبلكم بحظوظهم الخسيسة من الشهوات الفانية، وفتنتم بها، كما فتنوا بها، فأنتم أولى بالعقاب منهم.
والمعنى: أي وقد سلكتم أيها المنافقون سبيلهم في الاستمتاع بخلاقكم، فأنتم فعلتم بدينكم ودنياكم كما فعل الذين كانوا من قبلكم، ولم تفضلوا عليهم بشيءٍ من الاسترشاد بكلام الله وهدي رسوله، إذ لم تعلموا شيئًا من الفضائل التي تزكي النفوس وتجعلها أهلًا للسعادة، فكنتم أجدر بالعقاب منهم؛ لأنهم أوتوا من القوة والأموال فوق ما أوتيتم، ولم يروا من آيات الله ما رأيتم.
فإن قلت: ما فائدة ذكر الاستمتاع بالخلاق في حق الأولين مرةً ثم في حق المنافقين ثانيًا ثم تكريره في حق الأولين ثالثًا، والثاني مغن عن الأول؟
قلت: فائدة ذكر الاستمتاع في الأولين أولًا: تمهيدٌ لذم حال المخاطبين، بأن قرر وبين حال الأولين، ثم عاد فشبه حال المنافقين بحالهم، فيكون ذلك
331
بيانًا لوجه الشبه، وتكريره ثانيًا تأكيدٌ ومبالغةٌ في ذم المخاطبين، وتقبيح حالهم، ولم يسلك هذه الطريقة في التشبيه الثاني، وهو قوله: ﴿وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا﴾ حيث لم يقل: وخاضوا وخضتم كخوضهم، اكتفاءًا بالتمهيد الأول فاستغنى عن ذكر التمهيد في التشبيه الثاني. اهـ "زاده" بتصرف.
وقوله: ﴿وَخُضْتُمْ﴾ معطوف على قوله: واستمتعتم؛ أي: وخضتم أيها المنافقون المعاصرون لمحمد - ﷺ -، ودخلتم أشد الدخول في إيذاء الله ورسوله - ﷺ - والمؤمنين وفي الطعن بالإسلام ﴿كَالَّذِي خَاضُوا﴾؛ أي: خوضًا كخوض الفريق الذي خاضوا في تكذيب أنبيائهم وطعنهم من الذين كانوا من قبلكم؛ أي: ودخلتم في الباطل، كما دخلوا فيه مع ما بين حالكم وحالهم من الفوارق التي كانت تقتضي أن تكونوا أهدى منهم سبيلًا.
﴿أُولَئِكَ﴾ المستمتعون بخلاقهم وحظوظهم، والخائضون في الأباطيل، فالإشارة إلى كل من المشبهين والمشبه بهم، فهي لمجموع الفريقين ﴿حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾؛ أي: بطلت حسناتهم بسبب الفقر، والانتقال من العز إلى الذل، ومن القوة إلى الضعف، وبسبب الموت وفي الآخرة بسبب أنهم يعاقبون أشد العقاب.
والمعنى: حبطت أعمالهم الدنيوية، فكان ضررها أكبر من نفعها لهم، لإسرافهم وإفسادهم في الأرض، وكذلك أعمالهم الدينية في الآخرة من عبادات، وصلة رحم وصدقة، وقرى ضيف، فلم يكن لهم أجر عليها ينقذهم من عذاب النار ويدخلهم الجنة، إذ شرط قبولها في الآخرة الإيمان والإخلاص.
﴿وَأُولَئِكَ﴾ الموصوفون بالأفعال الذميمة ﴿هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ في الدنيا والآخرة، حيث أتعبوا أنفسهم في الرد على الأنبياء، فما وجدوا منه إلا فوات الخيرات في الدنيا والآخرة، وإلا حصول العقاب بهم في الدنيا والآخرة، فهم خسروا في مظنة الربح والمنفعة.
ونحو الآية قوله: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (١٠٤)﴾.
٧٠ - ثم نبههم وحذرهم سوء عاقبة أعمالهم،
332
فقال: ﴿أَلَمْ يَأْتِهِمْ﴾؛ أي: ألم يأت أولئك المنافقين المعاصرين لمحمد - ﷺ -، ففيه رجوع إلى الغيبة عن الخطاب، ففيه التفات ﴿نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾؛ أي: خبر الأمم الذين كانوا من قبلهم، حيث عصوا رسلهم، وخالفوا أمر ربهم، فأخذهم العذاب المستأصل في الدنيا؛ أي: ألم يأتهم خبرهم الذي له شأن، وهو ما فعلوه وما فعل بهم، ولما شبه حالهم بحالهم فيما سلف على الإجمال، في المشبه بهم، ذكر منهم ههنا ست طوائف قد سمع العرب أخبارهم؛ لأن بلادهم وهي الشام والعراق واليمن، قريبة من بلاد العرب، فالاستفهام فيه للتقرير على حدِّ ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ﴾ كما في "الجمل" وقوله: ﴿قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ﴾ بدل تفصيل من الموصول؛ أي: ألم يأتهم نبأ قوم نوح الذين أغرقوا بالطوفان، ونبأ عاد الذين أهلكوا بالريح العقيم، ونبأ ثمود الذين أهلكوا بالصيحة، ونبأ قوم إبراهيم الذين حاولوا إحراقه، وهم نمروذ وأتباعه، وأهلكوا بسلب النعمة عنهم والهدم، وبتسليط البعوضة على دماغ نمروذ، ونبأ أصحاب مدين، الذين هم قوم شعيب، أهلكوا بالظلة أو بالرجفة، ونبأ أصحاب المؤتفكات؛ أي: القرى المنقلبات، التي جعل الله عاليها سافلها، الذين هم قوم لوط أهلكوا بالخسف الذي نزل بهم وهم فيها، وأمطروا حجارةً من سجيل، وإنما (١) اقتصر على هذه الستة؛ لأن آثارهم باقية وبلادهم بالشام والعراق واليمن، وكل ذلك قريب من أرض العرب، فكانوا يمرون عليها ويعرفون أخبار أهلها، كما مر آنفًا.
﴿أَتَتْهُمْ﴾؛ أي: جاءت تلك الأمم الماضية ﴿رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾؛ أي: بالمعجزات الباهرات والحجج الواضحات، الدالة على صدقهم فكذبوهم، وخالفوا أمرنا، كما فعلتم أيها المنافقون والكفار المعاصرون لمحمد - ﷺ -، فاحذروا أن يصيبكم مثل ما أصابهم، فتعجل لكم العقوبة، كما عجلت لهم، ﴿فَمَا كَانَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿لِيَظْلِمَهُمْ﴾؛ أي: ظالمًا لهم، بتعجيل العقوبة لهم؛ لأنه حكيم حليم، فلا يعاقب أحدًا بغير جرم ﴿وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾
(١) الخازن.
333
حيث عرضوها للعقوبة بالكفر والتكذيب للأنبياء.
والمعنى (١): وما كان من سنة الله، ولا من مقتضى عدله وحكمته أن يظلمهم بما حل بهم من العذاب، وقد أعذرهم وأنذرهم، ليجتنبوه، ولكن كانوا يظلمون أنفسهم بجحودهم وعنادهم، وعدم مبالاتهم، بإنذار رسلهم، وقد ضرب هذا المثل للكافرين برسالته - ﷺ - والمنافقين ليبين لهم أن سنة الله تعالى في عباده واحدة، لا ظلم فيها ولا محاباة، فلا بد أن يحل بهم من العذاب مثل ما حل بأمثالهم من أقوام الرسل إن لم يتوبوا، وقد أهلك الله تعالى أكابر الجاحدين المعاندين منهم في أول غزوة، وهي غزوة بدر، ثم خذل من بعدهم في سائر الغزوات، وما زال المنافقون يكيدون له في السر، حتى فضحهم الله بهذه السورة، فتاب أكثرهم ومات زعيمهم عبد الله بن أبي بغيظه وكفره، ولم تقم للنفاق قائمة من بعده، وبهذا التمحص كانت أمة محمد - ﷺ - خير أمة أخرجت للناس، نشر الله بها أعلام دينه، حتى سادت العالم جميعه.
ولمَّا وصف الله سبحانه وتعالى المنافقين بالأعمال الخبيثة، والأحوال الفاسدة،
٧١ - ثم ذكر بعده ما أعد لهم، من أنوع الوعيد في الدنيا والآخرة.. عقبه بذكر أوصاف المؤمنين وأعمالهم الحسنة، وما أعد لهم من أنواع الكرامات والخيرات في الدنيا والآخرة، فقال: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾؛ أي: والمصدقون بوحدانية الله ورسالة رسوله من الرجال، والمصدقات من النساء، بعضهم أنصار بعض آخر، وأصدقاؤه في الدين والمعاونة بتسديد الله وتوفيقه وهدايته، لا بمقتضى الطبيعة، وهوى النفس، بل قلوبهم متحدة في التوادد والتحابب والتعاطف، بسبب ما جمعهم من أمر الدين، وضمهم من الإيمان بالله ورسوله.
والولاية: ضد العداوة، فتشمل ولاية النصرة، وولاية الأخوة والمودة، ونصرة النساء: تكون فيما دون القتال، من الأعمال المتعلقة بتعبئة الجيوش، من
(١) المراغي.
334
الأمور المالية والبدنية، وكان نساء النبي - ﷺ -، ونساء أصحابه، يخرجن مع الجيش يسقين الماء، وبجهزن الطعام، ويحرضن على القتال، ويرددن المنهزم من الرجال، قال حسان بن ثابت:
تَظَلُّ جِيَادُنَا مُتَمَطِّرَاتٌ تُلَطِّمُهُنَّ بِالْخُمُرِ النِّسَاءُ
فإن قلت: لِمَ قال سبحانه وتعالى في وصف المؤمنين: ﴿بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾، وقال في وصف المنافقين: ﴿بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ فما الفائدة في التفرقة بينهما في الوصف؟
قلت: فرق بينهما لأن المؤمنين بينهم أخوة ومودة وتعاون وتراحم، حتى شبه النبي - ﷺ - جماعتهم بالجسد الواحد، وبالبنيان يشد بعضه بعضًا، وبينهم ولاية النصرة في الدفاع عن الحق والعدل، وإعلاء كلمة الله تعالى، أما المنافقون فيشبه بعضهم بعضًا في الشكوك والذبذبة، وما يتبعها من الجبن والبخل، وهما يمنعان من التناصر ببذل النفس والمال، وقصارى أمرهم التعاون بالكلام، وما لا يشق من الأعمال، ومن ثم أكْذَبَ الله منافقي المدينة في وعدهم لليهود حلفائهم، بنصرهم على النبي - ﷺ - والمؤمنين إذا قاتلوهم، في قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ...﴾ الآية، ثم بين أوصافهم الحميدة، كما بين أوصاف من قبلهم من المنافقين، فقال: ﴿يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾؛ أي: بما هو معروف في الشرع غير منكر، ومن ذلك توحيد الله سبحانه، وترك عبادة غيره؛ أي: يأمرون غيرهم بالإيمان بالله ورسوله، واتباع ما أمر به ﴿وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾؛ أي: عما هو منكر في الدين والشرع، غير معروف فيه، من الشرك والمعاصي والبدع ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾؛ أي: يؤدون الصلاة المفروضة، بإتمام الأركان والشرائط ﴿وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾؛ أي: يؤدون الزكاة المفروضة عليهم إلى مستحقيها، وخصَّ (١) إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بالذكر من بين جملة العبادات؛ لكونهما الركنين العظيمين فيما يتعلق بالأبدان والأموال
(١) الشوكاني.
335
﴿وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ فيما يأمرهم به وينهاهم عنه في السر والعلن.
والحاصل (١): أن الله سبحانه وتعالى وصف المؤمنين في هذه الآية بصفاتٍ خمسٍ، تفاد مثلها في المنافقين:
١ - أنهم يأمرون بالمعروف، والمنافقون يأمرون بالمنكر.
٢ - أنهم ينهون عن المنكر، والمنافقون ينهون عن المعروف، وهاتان الخصلتان سياج الفضائل، ومنع فشوِّ الرذائل.
٣ - أنهم يؤدون الصلاة على أقوم وجه وأكمله بخشوع وإخبات لله، وحضور القلب في مناجاته، والمنافقون إذا قاموا إلى الصلاة.. قاموا وهم كسالى، يراؤون الناس.
٤ - أنهم يعطون الزكاة المفروضة عليهم، وما وفقوا له من التطوع، والمنافقون يقبضون أيديهم، والمنافقون وإن كانوا يصلون لم يكونوا يقيمون الصلاة، وكانوا يزكون وينفقون، ولكن خوفًا أو رياءً لا طاعةً لله تعالى، كما قال سبحانه ﴿وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ...﴾ الآية.
٥ - أنهم يستمرون على الطاعة، بترك ما نهوا عنه وفعل ما أمروا به، بقدر الطاقة وبضد ذلك المنافقون فإنهم فاسقون خارجون عن حظيرة الطاعة كما تقدم.
ثم ذكر ما يكون لهم من حسن العاقبة، وعظيم الجزاء على جميل أفعالهم فقال: ﴿أُولَئِكَ﴾ الموصفون بالصفات المذكورة من المؤمنين والمؤمنات ﴿سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: يفيض عليهم آثار رحمته، ويتعهدهم برحمته في الدنيا والآخرة باستمرارهم على طاعته، وطاعة رسوله، ويقابل هذا نسيانه تعالى للمنافقين ولعنه إياهم.
وزيدت (٢) السين فيه للتأكيد والمبالغة؛ أي: للدلالة على تحقيق ذلك وتقرر
(١) المراغي.
(٢) الفتوحات.
336
ألبتة بمعونة المقام كما هنا، إذ السين موضوعة للدلالة على الوقوع مع التأخير، فهذا كان المقام ليس مقام تأخير لكونه بشارة ووعدًا، تمحضت لتأكيد الوقوع اهـ. كرخي.
﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَزِيزٌ﴾؛ أي: غالب لا يمنع من مراده من رحمةٍ أو عقوبة، ولا يمتنع عليه شيء من وعده ووعيده ﴿حَكِيمٌ﴾ فيما دبره لعباده، لا يضع شيئًا منهما في غير موضعه.
٧٢ - والإظهار في موضع الإضمار في قوله: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ لزيادة التقرير والإشعار بعلية وصف الإيمان للوعد المذكور، ذكره أبو السعود. وبعد أن بين صفاته روحمته لهم إجمالًا.. بين ما وعدهم به، من الجزاء المفسر لرحمته تفصيلًا، فقال: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ﴾ وبساتين ﴿تَجْرِي﴾ وتسيل ﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾؛ أي: من تحت أشجارها وقصورها ﴿الْأَنْهَارُ﴾ الأربعة الجارية في الجنة، اللبن، والماء، والخمر، والعسل، حالة كونهم ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾؛ أي: ماكثين في تلك الجنات مكثًا مؤيدًا لا نهاية له ﴿و﴾ وعدهم ﴿مساكن طيبة﴾؛ أي: منازل حسنة يسكنون فيها من الدرِّ والياقوت تستطيبها النفس، أو يطيب فيها العيش، أو قد طيبها الله بالمسك والريحان، ويقال: جميلةً ويقال: طاهرةً ويقال: عامرةً كائنة ﴿فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾ وخلود وإقامة مؤبدة، فجنات عدن، هي جنات الإقامة والخلود كقوله: ﴿جَنَّةُ الخُلْدِ﴾ ﴿جَنَّةُ المَأوَى﴾ وقيل: إنه منزل من منازل دار النعيم، كالفردوس الذي هو أوسط الجنة أو أعلاها، روي عن أبي هريرة: "إن في الجنة مئة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، كل درجتين ما بينهما، كما بين السماء والأرض، فهذا سألتم الله، فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن".
تتمة: والجنَّات (١): البساتين الملتفة الأشجار، التي تجن ما تحتها؛ أي:
(١) المراغي.
337
تغطيه وتستره، وجريان الأنهار من تحت أشجارها مما يزيد جمالها، والمساكن الطيبة في جنات عدن هي الدور والخيام، التي يطيب لساكنها المقام فيها، لاحتوائها على ما يطلبون من الأثاث والرياش والزينة التي بها تتم راحة المقيم فيها وسروره، والعدن: الإقامة والاستقرار، يقال: عدن في مكان كذا، إذا أقام فيه وثبت.
والمراد (١) بالجنات التي تجري من تحتها الأنهار: البساتين التي يتحير في حسنها الناظر؛ لأنه سبحانه وتعالى، قال: ﴿وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ﴾، والمعطوف يجب أن يكون مغايرًا للمعطوف عليه، فتكون مساكنهم في جنات عدن ومناظرهم الجنات التي هي البساتين، فتكون جنات عدن هي المساكن التي يسكنونها، والجنات الأخرى هي البساتين التي يتنزهون فيها، فهذه فائدة المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، والفرق بينهما.
والمعنى: ومنازل طيبةً كائنةً في محلات تسمى بجنة عدن، روى الطبري، بسنده عن عمران بن حصين وأبي هريرة، قالا: سئل رسول الله - ﷺ - عن هذه الآية: ﴿وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾ قال: "قصر من لؤلؤة، في ذلك القصر سبعون دارًا من ياقوتة حمراء، في كل دار سبعون بيتًا من زمردة خضراء، في كل بيت سبعون سريرًا، على كل سرير سبعون فراشًا، على كل فراش زوجة من الحور العين"، وفي رواية: "في كل بيت سبعون مائدة، على كل مائدة سبعون لونًا من طعام، وفي كل بيت سبعون وصيفةً، ويعطى المؤمن من القوة في غداة واحدة ما يأتي على ذلك كله أجمع"، ولكن هذا الحديث ضعفه أئمة الحديث، وبعضهم جعله من الموضوعات، وهو حديث منكر من دسائس الوضاعين، ككعب الأحبار وغيره، قال ابن القيم: لم يثبت في نساء الجنة حديث صحيح بأكثر من زوجتين لكل رجل.
وروى بسنده عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله - ﷺ - "عدن داره - يعني
(١) الخازن.
338
دار الله - التي لم ترها عين، ولم تخطر على قلب بشر، وهي مسكنه، ولا يسكنها معه من بني آدم غير ثلاثة، النبيين والصدقين والشهداء، يقول الله - عز وجل -: طوبى لمن دخلك"، هكذا رواه الطبري، فإن صحت هذه الرواية.. فلا بد من تأويلها، فقوله: "عدن داره"، يعني: دار الله، وهو من باب حذف المضاف، تقديره عدن دار أصفياء الله التي أعدها لأوليائه وأهل طاعته، والمقربين من عباده.
وعن أبي موسى الأشعري: أن رسول الله - ﷺ - قال: "جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن" أخرجه البخاري ومسلم.
وقال عبد الله بن مسعود: ﴿عَدْنٍ﴾ بطنان الجنة، يعني وسطها، وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: إن في الجنة قصرًا، يقال له: عدن، حوله البروج والمروج، له خمسة الآف باب لا يدخله إلا نبيٌّ أو صديق أو شهيد، وقال عطاء بن السائب: ﴿عَدْنٍ﴾ نهر في الجنة خيامه على حافتيه، وقال مقاتل والكلبي: عدن: أعلى درجة في الجنة، فيها عين التسنيم، والجنان حولها محدقة بها، وهي مغطاة من حين خلقها الله تعالى حتى ينزلها أهلها، وهم الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون، ومن شاء الله، وفيها قصور الدر والياقوت والذهب، فتهب ريح طيبة من تحت العرش، فتدخل عليها كثبان المسك الأبيض.
قال الإمام فخر الدين الرازي: حاصل هذا الكلام: أن في جنان عدن قولين:
أحدهما: أنه اسم علم لموضع معين في الجنة، وهذه الأخبار والآثار تقوي هذا القول.
قال صاحب "الكشاف": و ﴿عدن﴾ علم بدليل قوله: ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ﴾.
339
والقول الثاني: أنه صفة للجنة، قال الأزهري: ﴿العدن﴾ مأخوذ من قولك عدن بالمكان، إذا أقام يعدن عدونا، فبهذا الاشتقاق قالوا: الجنات كلها جنات عدن، انتهى من "الخازن".
وقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ جملة مستأنفة؛ أي: رضوان قليل يسير من الله الذي ينزله عليهم أكبر وأعلى وأفضل من ذلك النعيم المقيم كله الذي أعطاهم إياه، وفيه دليل على أنه لا شيء من النعم وإن جلت وعظمت يماثل رضوان الله سبحانه، وإن أدنى رضوان منه لا يساويه شيء من اللذات الجسمانية، وإن كانت على غاية ليس وراءها غاية، اللهم ارض عنا رضًا لا سخط بعده، ولا يكدره نكد، يا من بيده الخير كله. وقرأ الأعمش: ﴿ورضوان﴾ بضمتين، قال صاحب "اللوامع" وهي: لغة. اهـ "البحر".
﴿ذَلِكَ﴾ المذكور من الأمور الثلاثة، من الجنات التي تجري من تحتها الأنهار، ومن المساكن الطيبة، من الرضوان الأكبر ﴿هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ والظفر الجسيم، لا ما يطلبه المنافقون والكفار، من التنعم بطيبات الدنيا، وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - ﷺ -، قال: "إنَّ الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير كله في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا ربنا، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك، فيقول ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون أي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول أحلُّ عليكم رضواني فلا أسخط بعده عليكم أبدًا" متفق عليه.
الإعراب
﴿وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٦١)﴾.
﴿وَمِنْهُمُ﴾ جار ومجرور، خبر مقدم ﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة أو معطوفة على جملة قوله: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي﴾. ﴿يُؤْذُونَ النَّبِيَّ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول. ﴿وَيَقُولُونَ﴾ فعل وفاعل
340
معطوف على ﴿يُؤْذُونَ﴾ ﴿هُوَ أُذُنٌ﴾ مقول محكي، أو مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول القول ﴿قُلْ﴾ فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة ﴿أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿أُذُنُ خَيْرٍ﴾ خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو أذن خير لكم، والجملة في محل النصب، مقول القول ﴿خَيْرٍ﴾ مضاف إليه، ويقرأ: بالرفع، على أنه صفة ﴿أُذُنُ﴾ والتقدير: أذنٌ ذو خير لكم، ذكره أبو البقاء ﴿لَكُمْ﴾ متعلق بـ ﴿خَيْرٍ﴾ أو صفة له، ويجوز أن يكون ﴿خَيْرٍ﴾ بمعنى أفعل؛ أي: أذن أكثر خيرًا لكم ﴿يُؤْمِنُ﴾ فعل مضارع ﴿بِاللَّهِ﴾ متعلق به، وفاعله ضمير يعود على ﴿أُذُنٌ﴾ بمعنى محمد، والجملة في محل الرفع صفة ﴿أُذُنُ﴾ ﴿وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ جملة معطوفة على ما قبلها، و ﴿اللام﴾ في ﴿لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ زائدة، دخلت عليه لتفرق بين يؤمن، بمعنى: يصدق، ويؤمن بمعنى: يثبت الأمان، كما تقدم في بحث التفسير بأوضح بيان ﴿وَرَحْمَةٌ﴾ بالرفع معطوف على ﴿أُذُنٌ﴾؛ أي: هو أذن ورحمة، ويقرأ: بالجر عطفًا على ﴿خَيْرٍ﴾ فيمن جر خيرًا ﴿لِلَّذِينَ﴾ جار ومجرور، صفة لـ ﴿رحمة﴾ ﴿آمَنُوا﴾ فعل وفاعل صلة الموصول ﴿مِنْكُمْ﴾ جار ومجرور، حال من فاعل الصلة؛ أو من الموصول ﴿وَالَّذِينَ﴾ مبتدأ أول ﴿يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ﴾ فعل وفاعل ومفعول صلة الموصول ﴿لَهُمْ﴾ خبر مقدم ﴿عَذَابٌ﴾ مبتدأ مؤخر ﴿أَلِيمٌ﴾ صفة له، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر للأول، والجملة من المبتدأ الأول وخبره جملة كبرى في ضمنها جملة صغرى مستأنفة.
﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢)﴾.
﴿يَحْلِفُونَ﴾ فعل وفاعل ﴿بِاللَّهِ﴾ متعلق به، والجملة مستأنفة ﴿لَكُمْ﴾ متعلق به أيضًا ﴿لِيُرْضُوكُمْ﴾ ﴿اللام﴾ لام كي ﴿يرضوكم﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في تأويل مصدر مجرور باللام، والجار والمجرور متعلق بـ ﴿يَحْلِفُونَ﴾ على كونه بدل اشتمال من ﴿لَكُمْ﴾؛ أي: يحلفون بالله لكم، لإرضائهم إياكم، والخطاب فيه للمؤمنين ﴿وَاللَّهُ﴾ مبتدأ ﴿وَرَسُولُهُ﴾، معطوف عليه ﴿أَحَقُّ﴾ خبر
341
عنهما ﴿أَنْ يُرْضُوهُ﴾ ناصب وفعل وفاعل ومفعول والجملة في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، والتقدير: والله ورسوله أحق بإرضائهم إياهما منكم، والجملة الاسمية في محل النصب حال من ضمير ﴿يَحْلِفُونَ﴾؛ أي: يحلفون لكم لإرضائكم، والحال أنه تعالى ورسوله أحق بالإرضاء منكم؛ أي يعرضون عما يهمهم ويشتغلون بما لا يَعْنِيهم، ذكره أبو السعود ﴿إِن﴾: حرف شرط ﴿كَانُوا﴾ فعل ماض ناقص واسمه في محل الجزم بـ ﴿إِن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، ﴿مُؤْمِنِينَ﴾ خبرها، وجواب ﴿إن﴾ الشرطية محذوف، دل عليه السياق، والتقدير: إن كانوا مؤمنين.. فليرضوا الله ورسوله بطاعتهما، فإنهما أحق بالإرضاء، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية مستأنفة.
﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (٦٣)﴾.
﴿أَلَمْ﴾ ﴿الهمزة﴾ للاستفهام التوبيخي وفيه معنى التقرير ﴿لم﴾ حرف نفي وجزم ﴿يَعْلَمُوا﴾ فعل وفاعل، مجزوم بـ ﴿لم﴾ ﴿أَنَّهُ﴾ أن حرف نصب ومصدر و ﴿الهاء﴾ اسمها من اسم شرط جازم، في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب أو هما ﴿يُحَادِدِ اللَّهَ﴾ فعل ومفعول مجزوم بـ ﴿مَن﴾ على كونه فعل شرط لها ﴿وَرَسُولَهُ﴾ معطوف على الجلالة، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَن﴾ ﴿فَأَنَّ لَهُ﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿مَن﴾ الشرطية وجوبًا ﴿أن﴾ حرف نصب ومصدر، ﴿لَهُ﴾ جار ومجرور خبر مقدم لها ﴿نَارَ جَهَنَّمَ﴾ اسمها مؤخر ﴿خَالِدًا﴾ حال من الضمير، المجرور باللام ﴿فِيهَا﴾ متعلق بـ ﴿خَالِدًا﴾ وجملة ﴿أن﴾ من اسمها وخبرها في تأويل مصدر مرفوع، على كونه خبرًا لمبتدأ محذوف، تقديره: فجزاؤه كون نار جهنم له خالدًا فيها، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ ﴿من﴾ الشرطية على كونه جوابًا لها، وجملة من الشرطية في محل الرفع، خبر لـ ﴿أنَّ﴾ الأولى، وجملة ﴿أن﴾ الأولى في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي علم، تقديره: ألم يعلموا كون جزاء من يحادد الله ورسوله نار جهنم، وجملة علم جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب، ﴿ذَلِكَ﴾ مبتدأ ﴿الْخِزْيُ﴾
342
خبره ﴿الْعَظِيمُ﴾ صفة و ﴿الْخِزْيُ﴾ والجملة مستأنفة.
﴿يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (٦٤)﴾.
﴿يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ﴾: فعل وفاعل والجملة مستأنفة ﴿أَنْ تُنَزَّلَ﴾ ناصب وفعل ﴿عَلَيْهِمْ﴾ متعلق به ﴿سُورَةٌ﴾: نائب فاعل والجملة الفعلية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: يحذر المنافقون تنزيل سورة عليهم، الجملة الفعلية مستأنفة ﴿تُنَبِّئُهُمْ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿سُورَةٌ﴾ والجملة في محل الرفع صفة لـ ﴿سُورَةٌ﴾ ﴿بِمَا﴾ جار ومجرور، متعلق بـ ﴿تُنَبِّئُهُمْ﴾ ﴿فِي قُلُوبِهِمْ﴾ جار ومجرور صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها ﴿قُلِ﴾ فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة، ﴿اسْتَهْزِئُوا﴾ إلى آخر الآية، مقول محكي. وإن شئت، قلت ﴿اسْتَهْزِئُوا﴾ فعل وفاعل والجملة في محل النصب مقول القول ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ ناصب واسمه ﴿مُخْرِجٌ﴾ خبره، وجملة ﴿إِنَّ﴾ في محل النصب مقول القول، مسوقة لتعليل ما قبلها ﴿مَا﴾ موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول ﴿مُخْرِجٌ﴾ ﴿تَحْذَرُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما تحذرونه.
﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (٦٥)﴾.
﴿وَلَئِنْ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية ﴿اللام﴾ موطئة للقسم ﴿إن﴾ حرف شرط ﴿سَأَلْتَهُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول أول، والثاني محذوف، تقديره: عن استهزائهم ﴿لَيَقُولُنَّ﴾ ﴿اللام﴾ موطئة للقسم مؤكدة للأولى ﴿يقولن﴾ فعل مضارع، مرفوع وعلامة رفعه ثبات النون المحذوفة، لتوالي الأمثال، والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين، في محل الرفع فاعل، والجملة جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجواب ﴿إن﴾ الشرطية محذوف، لدلالة جواب القسم عليه، تقديره: وإن سألتهم.. يقولون، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية مستأنفة ﴿إِنَّمَا﴾: أداة حصر
343
﴿كُنَّا﴾ فعل ناقص واسمه ﴿نَخُوضُ﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على المتكلمين، والجملة الفعلية في محل النصب خبر ﴿كان﴾ وجملة ﴿كان﴾ في محل النصب مقول القول، وجملة ﴿وَنَلْعَبُ﴾ معطوفة على جملة ﴿نَخُوضُ﴾ ﴿قُل﴾ فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة ﴿أَبِاللَّهِ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿الهمزة﴾ للاستفهام التوبيخي، داخلة على ﴿كنتم بالله﴾ ومجرور متعلق بـ ﴿تَسْتَهْزِئُونَ﴾ ﴿وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ﴾ معطوفان على الجلالة ﴿كُنْتُمْ﴾ فعل ناقص واسمه وجملة ﴿تَسْتَهْزِئُونَ﴾ في محل النصب خبر ﴿كان﴾ وجملة ﴿كان﴾ في محل النصب مقول ﴿قُل﴾.
﴿لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (٦٦)﴾.
﴿لَا تَعْتَذِرُوا﴾ فعل وفاعل، مجزوم بـ ﴿لَا﴾ الناهية، والجملة مستأنفة ﴿قَدْ كَفَرْتُمْ﴾ فعل وفاعل ﴿بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ ظرف ومضاف إليه، متعلق به، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل النهي قبله ﴿إِنْ نَعْفُ﴾ جازم وفعل مجزوم على كونه فعل شرط له، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾ ﴿عَنْ طَائِفَةٍ﴾ متعلق به ﴿مِنْكُمْ﴾ جار ومجرور صفة لـ ﴿طَائِفَةٍ﴾ ﴿نُعَذِّبْ طَائِفَةً﴾ فعل ومفعول، مجزوم على كونه جواب الشرط، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾ وجملة ﴿إِن﴾ الشرطية مستأنفة ﴿بِأَنَّهُمْ﴾ ﴿الباء﴾ سببية ﴿أن﴾ حرف نصب، والهاء اسمها وجملة ﴿كَانُوا مُجْرِمِينَ﴾ في محل الرفع، خبر ﴿أن﴾ وجملة أن في تأويل مصدر مجرور بالباء، تقديره: بسبب كونهم ﴿مُجْرِمِينَ﴾ الجار والمجرور متعلق بـ ﴿نُعَذِّبْ﴾.
﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٦٧)﴾.
﴿الْمُنَافِقُونَ﴾: مبتدأ أول ﴿وَالْمُنَافِقَاتُ﴾: معطوف عليه ﴿بَعْضُهُمْ﴾: مبتدأ ثان، ﴿مِنْ بَعْضٍ﴾: خبر للمبتدأ الثاني، وجملة الثاني في محل الرفع خبر للأول، وجملة الأول مستأنفة ﴿يَأْمُرُونَ﴾: فعل وفاعل ﴿بِالْمُنْكَرِ﴾: متعلق به، والجملة
344
الفعلية مستأنفة، مفسرة لما قبلها، وجملة ﴿وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ﴾: معطوفة على جملة ﴿يَأْمُرُونَ﴾: وكذلك جملة ﴿وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، معطوفة عليها. ﴿نَسُوا اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول والجملة مستأنفة ﴿فَنَسِيَهُمْ﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة ﴿نسميهم﴾ فعل ومفعول وفاعله ضمير، يعود على ﴿اللَّهَ﴾ والجملة معطوفة على جملة ﴿نَسُوا﴾ ﴿إِنَّ﴾ حرف نصب ﴿الْمُنَافِقِينَ﴾ اسمها ﴿هُمُ﴾ ضمير فصل ﴿الْفَاسِقُونَ﴾ خبر ﴿إِنَّ﴾ وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (٦٨)﴾.
﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ﴾ فعل وفاعل ومفعول أول ﴿وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ﴾ معطوفان على ﴿الْمُنَافِقِينَ﴾ ﴿نَارَ جَهَنَّمَ﴾ مفعول ثان، والجملة مستأنفة ﴿خَالِدِينَ﴾ حال من المفعول الأول، وهو مجموع الأصناف الثلاثة، غير أنها حال مقدرة، إذ وقت الوعد لم يكونوا ﴿خَالِدِينَ﴾ ﴿فِيهَا﴾ متعلق بـ ﴿خَالِدِينَ﴾ ﴿هِيَ حَسْبُهُمْ﴾ مبتدأ، وخبر، والجملة في محل النصب، حال من ﴿جَهَنَّمَ﴾ ﴿وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾ فعل ومفعول وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿وَعَدَ﴾ ﴿وَلَهُمْ﴾: خبر مقدم ﴿عَذَابٌ﴾: مبتدأ مؤخر ﴿مُقِيمٌ﴾ صفة له، والجملة معطوفة على جملة ﴿وَعَدَ﴾ أيضًا.
﴿كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ﴾.
﴿كَالَّذِينَ﴾: جار ومجرور خبر لمبتدأ محذوف، ولكنه على حذف مضاف، تقديره: حالكم كائن كحال الذين ﴿مِنْ قَبْلِكُمْ﴾: والجملة مستأنفة ﴿مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ جار ومجرور صلة الموصول ﴿كَانُوا أَشَدَّ﴾: فعل ناقص واسمه وخبره ﴿مِنْكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿أَشَدَّ﴾ وجملة ﴿كان﴾ مستأنفة مسوقة لبيان حال الذين من قبلهم ﴿قُوَّةً﴾ تمييز محول عن اسم كان منصوب باسم التفضيل أعني أشد
345
﴿وَأَكْثَرَ﴾ معطوف على ﴿أَشَدَّ﴾ ﴿أَمْوَالًا﴾، تمييز منصوب بـ ﴿أكثر﴾ ﴿وَأَوْلَادًا﴾ معطوف عليه ﴿فَاسْتَمْتَعُوا﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة ﴿استمتعوا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿كَانُوا﴾ ﴿بِخَلَاقِهِمْ﴾ متعلق به ﴿فَاسْتَمْتَعْتُم﴾ معطوف على ﴿استمتعوا﴾ ﴿بِخَلَاقِكِمْ﴾ متعلق به ﴿كَمَا﴾ ﴿الكاف﴾ حرف جر وتشبيه ﴿ما﴾ مصدرية ﴿اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ﴾ فعل وفاعل ﴿مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ جار ومجرور صلة الموصول ﴿بِخَلَاقِهِمْ﴾ متعلق باستمتع وجملة استمتع صلة ما المصدرية، ما مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف تقديره فاستمتعتم بخلاقكم استمتاعًا كائنًا كاستمتاع الذين من قبلكم.
﴿وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾.
﴿وَخُضْتُمْ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿استمتعتم﴾ ﴿كَالَّذِي﴾: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف، ولكنه على حذف مضاف تقديره: وخضتم في الباطل خوضًا كائنًا، كخوض الفريق الذي خاضوا من قبلكم ﴿خَاضُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول وأتى في العائد بضمير الجمع نظرًا لمعنى الذي لأنه هنا عبارة عن الفريق ﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ ﴿حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة ﴿فِي الدُّنْيَا﴾ متعلق بـ ﴿حَبِطَتْ﴾ ﴿وَالْآخِرَةِ﴾ معطوف على الدنيا ﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ ﴿هُمُ﴾ ضمير فصل ﴿الْخَاسِرُونَ﴾ خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة التي قبلها.
﴿أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٧٠)﴾.
﴿أَلَمْ﴾ ﴿الهمزة﴾ فيه: للاستفهام التقريري ﴿لم﴾ حرف جزم ﴿يَأْتِهِمْ﴾ فعل ومفعول مجزوم بلم ﴿نَبَأُ الَّذِينَ﴾: فاعل ومضاف إليه، والجمل مستأنفة ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾: جار ومجرور صلة الموصول ﴿قَوْمِ نُوحٍ﴾: بدل الموصول بدل بعض من كل ﴿وَعَادٍ﴾: معطوف على ﴿قَوْمِ نُوحٍ﴾ مجرور بالكسرة الظاهرة ﴿وَثَمُودَ﴾
346
معطوف عليه أيضًا مجرور بالفتحة، للعلمية والتأنيث المعنوي ﴿وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ﴾: معطوف عليه أيضًا وكذلك ﴿وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ﴾: معطوفان عليه أيضًا ﴿أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ﴾: فعل ومفعول وفاعل ﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾: متعلق به، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان نبأهم كما ذكره أبي السعود. ﴿فَمَا﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة على محذوف تقديره: أتتهم رسلهم بالبينات، فكذبوهم فأهلكوا ﴿ما﴾: نافية، ﴿كَانَ اللَّهُ﴾: فعل ناقص واسمه ﴿لِيَظْلِمَهُمْ﴾: ﴿اللام﴾: حرف جر وجحود ﴿يَظْلِمَهُمْ﴾: فعل ومفعول، منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد لام الجحود، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾ والجملة الفعلية صلة أو المضمرة ﴿أن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: لظلمه إياهم الجار والمجرور متعلق بمحذوف، خبر كان، تقديره: فما كان الله مريدًا لظلمه إياهم، وجملة كان معطوفة على ذلك المحذوف ﴿وَلَكِنْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿لَكِنْ﴾: حرف استدراك. ﴿كَانُوا﴾ فعل ناقص واسمه ﴿أَنْفُسَهُمْ﴾: مفعول مقدم لـ ﴿يَظْلِمُونَ﴾ قدمه عليه للاهتمام به، ولرعاية الفاصلة وجملة ﴿يَظْلِمُونَ﴾ في محل النصب خبر ﴿كَانُ﴾ وجملة الاستدراك معطوفة على جملة قوله: ﴿فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ﴾.
﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾.
﴿وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ مبتدأ أول ﴿وَالْمُؤْمِنَاتُ﴾ معطوف عليه ﴿بَعْضُهُمْ﴾ مبتدأ ثان ﴿أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾: خبر للمبتدأ الثاني، وجملة الثاني خبر للأول، وجملة الأول مستأنفة ﴿يَأْمُرُونَ﴾ فعل وفاعل ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ متعلق به، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان خصالهم الحميدة ﴿وَيَنْهَوْنَ﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿يَأْمُرُونَ﴾ ﴿عن الْمُنْكَرِ﴾ متعلق به، وكذلك جملة قوله: ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾: معطوفاتٌ عليها أيضًا ﴿أُولَئِكَ﴾ مبتدأ ﴿سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، مسوقة لبيان عاقبتهم الحسنة، ﴿إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ﴾ ناصب واسمه وخبره ﴿حَكِيمٌ﴾ خبر ثان
347
له، الجملة مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢)﴾.
﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ فعل وفاعل ومفعول أول ﴿وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ معطوف على ﴿الْمُؤْمِنِينَ﴾ ﴿جَنَّاتٍ﴾ مفعول ثان لـ ﴿وَعَدَ﴾ والجملة الفعلية مستأنفة ﴿تَجْرِي﴾ فعل مضارع ﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾ متعلق به ﴿الْأَنْهَارُ﴾: فاعل وجملة ﴿تَجْرِي﴾ في محل النصب صفة لـ ﴿جَنَّاتٍ﴾ ولكنها صفة سببية ﴿خَالِدِينَ﴾ حال مقدرة أو ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ﴾ ﴿فِيهَا﴾ متعلق به ﴿وَمَسَاكِنَ﴾: معطوف على ﴿جَنَّاتِ﴾ ﴿طَيِّبَةً﴾: صفة أولى ﴿فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه، صفة ثانية لـ ﴿مَسَاكِنَ﴾ ﴿رِضْوَانٌ﴾ مبتدأ وسوغ الابتداء بالنكرة وصفه، بما بعده ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ جار ومجرور صفة لـ ﴿رِضْوَانٌ﴾ ﴿أَكْبَرُ﴾ خبر لـ ﴿رضوان﴾ والجملة مستأنفة ﴿ذَلِكَ﴾ مبتدأ ﴿هُوَ﴾ ضمير فصل ﴿الْفَوْزُ﴾ خبر المبتدأ ﴿الْعَظِيمُ﴾ صفة له، والجملة مستأنفة.
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ﴾ الأذى: ما يؤلم الحي المدرك في بدنه، أو في نفسه، ولو ألمًا خفيفًا، يقال: أوذي بكذا، أذًى، وتأذى تأذِّيًا إذا أصابه مكروه يسير ﴿وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ﴾ والأذن: هو الذي يسمع أو كل أحد ما يقبل فيقبله، ويصدقه، ويقولون: رجل أذن؛ أي: يسرع الاستمتاع والقبول، وفي "المختار" أذن له، إذا استمع، وبابه طرب، ورجل أُذن بالضم، إذا كان يسمع مقال كل أحد، يستوي فيه الواحد والجمع، اهـ ﴿وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾؛ أي؛ يصدقهم لما علم فيهم أو علامات الإيمان، الذي يوجب عليهم الصدق ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ﴾؛ أي: يخالفه ويخاصمه، وأصل المحادة في اللغة أو الحد؛ أي: الجانب كأن كل واحد أو المتخاصمين في محل غير محل صاحب اهـ "خازن" يعني: أن المحادة من الحد، وهو طرف الشيء كالمشاقة من الشق بالكسر. وهو الجانب
348
ونصف الشيء المنشق منه، وهما بمعنى المعاداة، من العدوة بالضم: وهي جانب الوادي؛ لأن العدو يكون في غاية البعد عمن يعاديه عداء البغض، بحيث لا يتزاوران ولا يتعاونان، فكأنَّ كلا منهما في شق وعدوة غير التي فيها الآخر، إذ هما على طرفي بنقيض، وهكذا المنافقون يكونون في الجانب المقابل للجانب الذي يحب الله لعباده، والرسول لأمته من الحق والخير، والعمل الصالح.
﴿يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ﴾ الحذر: الإحتراز والتحفظ مما يخشى ويخاف منه، ﴿مُخْرِجٌ﴾: من الإخراج والإخراج: إظهار الشيء الخفي المستتر، كإخراج الحب والنبات أو الأرض ﴿إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ﴾ والخوض: الدخول في البحر، أو في الوحل، وكثر استعماله في الباطل، لما فيه من التعرض للأخطار ﴿لَا تَعْتَذِرُوا﴾ والاعتذار الإدلاء بالعذر، وهو ما يراد به محو أثر الذنب وترك المؤاخذة عليه، أو عذر الصبي يعذره؛ في: ختنه تطهيرًا له، بقطع عذرته؛ في: قلفته، وفي "الفتوحات" والاعتذار: التنصل أو الذنب، وأصله أو تعذرت المنازل؛ أي: درست وانمحت آثارها، فالمعتذر يزاول أبو ذنبه، وقيل: أصله أو العذر، وهو القطع، ومنه العذرة؛ لأنها تقطع، قال ابن الأعرابي: ويقولون اعتذرت المياه؛ أي: انقطعت، فكأن المعتذر يحاول قطع الذم عنه، اهـ "سمين" ﴿عَنْ طَائِفَةٍ﴾ والطائفة: الجماعة أو الناس، والقطعة أو الشيء، يقال: ذهبت طائفة من الليل، ومن العمر، وأعطاه طائفةً من ماله.
﴿وَعَدَ اللهُ المُنَافِقِينَ﴾ يقال: وعده في الخير والشر، والاختلاف إنما هو بالمصدر، فمصدر الأول: وعد، ومصدر الثاني: وعيد فاستعمل وعد في الشر، كما هنا، وفي الخير، فيما سيأتي في قوله: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ....﴾ إلخ وفي "المصباح" وعده وعدًا يستعمل في الخير والشر، ويعدى بنفسه وبالباء، فيقال: وعده الخير وبالخير، وشرًّا وبالشر، وإذا أسقطوا لفظ الخير والشر.. قالوا في الخير: وعده وعدًا، وعدةً، وفي الشر وعده وعيدًا، فالمصدر فارق، وأوعده خيرًا وشرًّا بالألف أيضًا، وقد أدخلوا الباء مع الألف في الشر خاصة، يقال: أوعده بالسجن اهـ.
349
﴿بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾؛ أي: متشابهون فيه وصفًا وعملًا، كما تقول: أنت مني وأنا منك، أي: أمرنا واحد، لا افتراق بيننا ﴿بِالْمُنْكَرِ﴾ وهو إما شرعي، وهو ما يستقبحه الشرع وينكره، وإما فطري، وهو ما تستنكره العقول الراجحة، والفطر السليمة، لمنافاته للفضائل، والمنافع الفردية، والمصالح العامة، وضده المعروف في كل ذلك ﴿وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ﴾ وقبض الأيدي يراد به الكف عز البذل، وضده بسط اليد ﴿نَسُوا اللَّهَ﴾؛ أي: تركوا أوامره حتى صارت عندهم بمنزلة المنسي ﴿فَنَسِيَهُمْ﴾؛ أي: فجازاهم على نسيانهم بحرمانهم أو النشاب على ذلك في الآخرة ﴿هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾؛ أي: الخارجون عن الطاعة المنسلخون عن فضائل الإيمان ﴿وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾ واللعن الطرد والإبعاد أو الرحمة، والإهانة والمذلة ﴿عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾ والمقيم الثابت الذي لا يتحول ﴿بِخَلَاقِهِمْ﴾؛ أي: بنصيبهم من ملاذ الدنيا، واشتقاقه أو الخلق، بمعنى التقدير: فإنه ما قدر لصاحبه، كما في "البيضاوي".
﴿وَخُضْتُمْ﴾؛ أي: دخلتم في الباطل وتلبستم به ﴿حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ يقال: حبط العمل إذا فسد، وذهبت فائدته ﴿هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾: من الخسارة والخسارة في التجارة تقابل الربح فيها ﴿وَالْمُؤْتَفِكَاتِ﴾؛ أي: المنقلبات التي جعل الله عاليها سافلها، جمع مؤتفكة، من الائتفاك، وهو الانقلاب، بجعل أعلى الشيء أسفله بالخسف، وهي قرى قوم لوط، يقال: أَفَكَهُ إذا قلبه، وبابه ضرب وفي "السمين" والمؤتفكات؛ أي: المنقلبات، يقال: أفكته فأتفك؛ أي: قلبته فانقلب والمادة تدل على التحول والصرف ومنه ﴿يُؤفَكُ عَنْهُ مَن أُفِكَ﴾؛ أي: يصرف اهـ.
﴿وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً﴾؛ أي: منازل يطيب العيش فيها، جمع مسكن، وهو من أوزان منتهى الجموع؛ لأنه على زنة مفاعل كمساجد.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿هُوَ أُذُنٌ﴾ لما فيه من إطلاق اسم الجزء
350
على الكل، للمبالغة في استماعه، كأنه عين آلة الاستماع، وفي "المصباح" أنه مجاز مرسل، كما يراد بالعين الرجل إذا كان ربيئة؛ في: طليعة وجاسوسًا؛ لأن العين هي المقصودة منه، فصارت كأنها الشخص كله.
ومنها: إبراز اسم الرسول في قوله: ﴿يُؤذُونَ رَسُولَ اَللهِ﴾ حيث لم يأت به ضميرًا ولم يقل: يؤذونه تعظيمًا لشأنه عليه السلام، وجمعًا له في الآية بين الرتبتين العظيمتين، النبوة والرسالة، وفيه أيضًا إضافة إليه زيادةً في تشريفه.
ومنها: الاستفهام التوبيخي في قوله: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ﴾.
ومنها: الإشارة بالبعيد عن القريب، في قوله: ﴿ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ﴾ للإيذان ببعد درجته في الهول والفظاعة.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ﴾؛ لأن قبض الأيدي كناية عن الشح والبخل، كما أن بسطها كناية عن الكرم والجود.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾؛ لأنه مجاز عن الترك، ففيه إطلاق الملزوم وإرادة اللازم.
ومنها: الالتفات في قوله: ﴿كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾؛ لأن فيه التفاتًا عن الغيبة في قوله: المنافقون إلى الخطاب لزيادة التقريع والتوبيخ.
ومنها: الإطناب في قوله: ﴿فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ...﴾ الآية، والغرض منه: الذم والتوبيخ لاشتغالهم بالمتاع الخسيس عن الشيء النفيس.
ومنها: الالتفات في قوله: ﴿أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ﴾ فهو رجوع إلى الغيبة عن الخطاب، ففيه التفات وفيه أيضًا الاستفهام التقريري، حملًا لهم على الإقرار بما بعد النافي.
ومنها: تقديم المفعول في قوله: ﴿وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ لمجرد الاهتمام به، مع مراعاة الفاصلة، أو غير قصدٍ إلى قصر المظلومية عليهم، كما ذكره أبي السعود.
351
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ﴾ تسجيلًا عليهم بأنهم يستحقون جهنم باسم النفاق، وفي قوله: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ﴾ إشعارا بأنهم يستحقون ذلك الجزاء بصفة الإيمان، وزيادة في التقرير.
ومنها: التنكير في قوله: ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ﴾ دلالة على التحقير والتقليل.
ومنها: جمع المؤكدات في قوله: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.
ومنها: التشبيه في قوله: ﴿كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ﴾.
ومنها: الجناس المغاير في قوله: ﴿وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾.
ومنها: الحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
352
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (٧٤) وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (٧٨) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٧٩) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (٨٠) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (٨١) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (٨٣)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ....﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما وصف (١) المؤمنين بشريف الصفات، ووعدهم بأجزل النشاب، وأرفع الدرجات.. أعاد الكرة إلى تهديد المنافقين، وإنذارهم بالجهاد، كالكفار المجاهرين بكفرهم، إذا هم استرسلوا في إظهار ما ينافي الإِسلام، من الأقوال والأفعال، كالقول الذي قالوه وأنكروه بعد أن أظهره
(١) المراغي.
353
الله عليه، وكذبهم في إنكارهم.
وجهادهم أن لا يعاملوا معاملة المؤمنين الصادقين، فيقابلون بالغلظة والتجهم لا بالطلاقة والبشر، إلى نحو ذلك مما سيذكر.
وقال أبو حيان (١): لما ذكر الله سبحانه وتعالى وعيد غير المؤمنين، وكانت السورة قد نزلت في المنافقين.. بدأ بهم في ذلك بقوله: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ﴾ ولمَّا ذكر أمر الجهاد، وكان الكفار غير المنافقين أشد شكيمة، وأقوى أسبابًا في القتال، وأنكاءً بتصديهم للقتال، قال: ﴿جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾ فبدأ بهم قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ﴾ هذه الآيات بيان لحال طائفة أخرى أو المنافقين، أغناهم الله تعالى بعد فقرٍ وإملاقٍ، وقد كانوا يلجؤون إلى الله وقت البأساء والضراء، فيدعونه ويعاهدونه على الشكر له، والطاعة لشرعه، إذا هو كشف ضرهم وأغناهم بعد فقرهم، فلما استجاب دعاءهم.. نكصوا على أعقابهم، وكفروا النعمة، وهضموا يقول الخلق، ومثل هؤلاء يوجدون في كل زمان ومكان.
قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (٢): أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر بخل المنافقين، وشحهم بأموالهم حتى بعد أن عاهدوا الله على الصدقة إذا آتاهم أو فضله.. أردف ذلك ببيان أنهم، يقتصروا في جرمهم على هذا الحد، بل جاوزوا ذلك إلى لمز المؤمنين، وذمهم في صدقاتهم غنيهم وفقيرهم، وأنهم لهذا قد وصلوا إلى حدّ لم يعد لهم فيه أدنى حظٍّ من الإِسلام، ولا أدنى نفع أو استغفار الرسول، ودعائه لهم، لرسوخهم في الكفر بالله ورسوله وعدم الرَّجاء في إيمانهم.
قوله تعالى: ﴿فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللهِ....﴾ الآية، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر بعض سوءات المنافقين أو اعتذارهم للمؤمنين عن الخروج معهم للقتال، ولمزهم في قسمة الصدقات، وفي
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
354
إعطائهم.. عاد إلى الكلام في ذكر حال الذين تخلفوا عن القتال في عزوة تبوك وظلوا في المدينة، وبيان ما يجب من معاملة هؤلاء بعد الرجوع إليها، وقد نزل ذلك أثناء السفر.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا....﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه (١) ابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: كان الجلاس بن سويد بن الصامت ممن تخلف عن رسول الله - ﷺ - في غزوة تبوك، وقال: لئن كان هذا الرجل صادقًا.. لنحن شر من الحمير، فرفع عمير بن سعيد ذلك إلى رسول الله - ﷺ -، فحلف بالله ما قلت، فأنزل الله ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا...﴾ الآية، فزعموا أنه تاب وحسنت توبته.
ثم أخرج عن كعب بن مالك نحوه، وأخرج أيضًا عن أنس بن مالك، قال: سمع زيد بن أرقم رجلًا من المنافقين، يقول والنبي - ﷺ -، يخطب: إن كان هذا صادقًا.. لنحن شر من الحمير، فرفع ذلك إلى النبي - ﷺ -، فجحد القائل: فأنزل الله ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا...﴾ الآية.
وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس قال: كان رسول الله - ﷺ -، جالسًا في ظل شجرة، فقال: "إنه سيأتيكم إنسان ينظر بعيني شيطان"، فطلع رجل أزرق، فدعاه رسول الله - ﷺ -، فقال: "علام تشتمني أنت وأصحابك"، فانطلق الرجل: فجاء بأصحابه، فحلفوا باللهِ ما قالوا حتى تجاوز عنهم، فأنزل الله تعالى: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا...﴾ الآية، وأخرج (٢) قتادة، قال: إن رجلين اقتتلا أحدهما من جهينة، والآخر من غفار، وكانت جهينة حلفاء الأنصار، وظهر الغفاري على الجهيني، فقال عبد الله بن أبي للأوس: انصروا أخاكم، فوالله ما مثلنا ومثل محمَّد إلا كما قال القائل: سَمِّنْ كلبك يأكلك، لئن رجعنا إلى المدينة.. ليخرجن الأعز منها الأذل، فسعى رجل من المسلمين إلى رسول الله - ﷺ -، فأرسل إليه، فسأله، فجعل يحلف بالله
(١) لباب النقول.
(٢) لباب النقول.
355
ما قال، فأنزل الله: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا...﴾ الآية.
قوله تعالى: ﴿وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا...﴾ سبب نزولها: ما أخرجه الطبراني، عن ابن عباس، قال: همَّ رجلٌ، يقال له: الأسود، بقتل النبي - ﷺ -، فنزلت: ﴿وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا...﴾.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ عن عكرمة، أن مولى بني عدي بن كعب، قتل رجلًا من الأنصار، فقضى النبيُّ - ﷺ -، بالدية اثني عشر ألفًا، وفيه نزلت: ﴿وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ قال: بأخذهم الدية.
قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ...﴾ الآية، أخرج (١) الطبراني وابن مردويه وابن أبي حاتم والبيهقي في "الدلائل"، بسند ضعيف، عن أبي أمامة، أن ثعلبة بن حاطب قال: يا رسول الله، ادع الله أن يرزقني مالًا، قال: "ويحك يا ثعلبة! قليل تؤدي شكره، خير من كثير لا تطيقه" قال: والله لئن آتاني الله مالًا.. لأوتين كل ذي حق حقه، فدعا له، فاتَّخذ غنمًا فنمت حتى ضاقت عليه أزقة المدينة، فتنحى بها، وكان يشهد الصلاة ثم يخرج إليها، ثم نمت حتى تعذرت عليه مراعي المدينة، فتنحى بها، فكان يشهد الجمعة ثم يخرج إليها، ثم نمت فتنحى بها فترك الجمعة والجماعات، ثم أنزل الله على رسوله ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ فاستعمل على الصدقات رجلين، وكتب لهما كتابًا فأتيا ثعلبة، فأقرآه كتاب رسول الله - ﷺ -، فقال: انطلقا إلى الناس، فإذا فرغتم.. فمروا بي، ففعلا، فقال: ما هذه إلا أخت الجزية، فانطلقا فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ﴾ إلى قوله: ﴿يُكَذِّبُونَ﴾ الحديث بطوله.
قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه الشيخان، عن أبي مسعود، قال: لما نزلت آية الصدقة.. كنا نحامل على ظهورنا، فجاء رجل فتصدق بشيء كثير، فقالوا: مراء، وجاء آخر فتصدق بصاع، فقالوا: إن الله لغني عن صاع هذا، فنزل: ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ...﴾
(١) لباب النقول.
356
الآية وورد نحو هذا من حديث أبي هريرة، وأبي عقيل، وأبي سعيد الخدري، وابن عباس، وعميرة بنت فهد بن رافع، أخرجها كلها ابن مردويه.
قوله تعالى: ﴿فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن جرير، عن ابن عباس، قال: أمر رسول الله - ﷺ - الناس أن ينبعثوا معه، وذلك في الصيف، فقال رجل: يا رسول الله الحر شديد، ولا نستطيع الخروج، فلا تنفروا في الحر، فأنزل الله ﴿قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا...﴾ الآية.
وأخرج عن محمَّد بن كعب القرظي. قال: خرج رسول الله - ﷺ - في حر شديد إلى تبوك، فقال رجل من بني سلمة: لا تنفروا في الحر، فأنزل الله ﴿قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا..﴾ الآية.
التفسير وأوجه القراءة
٧٣ - ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ﴾ الكريم محمَّد - ﷺ -، ﴿جَاهِدِ الْكُفَّارَ﴾؛ أي: جاهد المجاهرين بالكفر، بالسيف والسِّنان ﴿و﴾ جاهد ﴿المنافقين﴾؛ أي: الساترين كفرهم بإظهار الإِسلام بالحجة واللسان، لا بالسيف، لنطقهم بكلمتي الشهادة ﴿وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: واشدد على كلا الفريقين بالفعل والقول، ولا ترأف عليهم والغلظ: نقيض الرأفة، وهو شدة القلب، وخشونة الجانب، قيل: وهذه الآية نسخت كل شيء من العفو والصلح والصفح المذكور في القرآن.
والأمر للنبي - ﷺ - بهذا الجهاد أمرٌ لأمته أو بعده، وجهاد الكفار يكون بمقاتلتهم حتى يسلموا، وجهاد المنافقين يكون بإقامة الحجة عليهم حتى يخرجوا عن النفاق، ويؤمنوا باللهِ تعالى.
والمعنى: يا أيها النبي ابذل جهدك في مقاومة هاتين الطائفتين، اللتين تيعشان بين ظهرانيك، بمثل ما يبذلان من جهد في عداوتك، وعاملهما بالغلظة والشدة، التي توافق سوء حالهما.
وقد اتفق الأئمة على أن المنافقين يعاملون بأحكام الشريعة كالمسلمين الصادقين، فلا يقاتلون إلا إذا ارتدوا، أو بغوا على جماعة المسلمين بالقوة، أو
357
امتنعوا من إقامة شعائر الإِسلام وأركانه، وعن ابن عباس: جهاد الكفار بالسيف، وجهاد المنافقين باللسان؛ أي: بالحجة والبرهان.
وكان كفار اليهود يؤذون النبي - ﷺ - حتى بتحريف السلام عليه، بقولهم: السام عليكم، والسام: الموت، فيقول: "وعليكم" ثم تكرر نقضهم للعهد حتى كان من أمرهم ما تقدم ذكره وكان يعامل المنافقين باللطف واللين بناء على حكم الإِسلام الظاهر، فجرأهم هذا على أذاه - ﷺ -، بنحو قوله: ﴿هُوَ أُذُنٌ﴾ فأمره الله تعالى في هذه الآية بالغلظة على الفريقين، في جهاده التأديبي لهم؛ لأن أمثالهم لا علاج له إلا هذا.
وهو جهاد فيه مشقة عظيمة؛ لأنه موقف وسط بين رحمته ولينه للمؤمنين المخلصين، وشدته في قتاله لأعدائه المحاربين، يجب فيه إقامة العدل، واجتناب الظلم، وأثر عن عمر أنه قال: أذلوهم، ولا تظلموهم، وفي هذه الغلظة تربية للمنافقين، وعقوبة لهم، يرجى أن تكون سببًا في هداية من لم يطبع الكفر على قلبه، ولم تحط به خطايا نفاقه، فتقطيب وجهه - ﷺ - في وجوههم تحقيرٌ لهم، يتبعه فيه المؤمنون، ومن ير أنه محتقرٌ بين قومه وأبناء جنسه من الرئيس وغيره.. يضق صدره، ويحاسب نفسه، ويثب إلى رشده، ويتب إلى ربه، وهذه السياسة الحكيمة كانت سبب توبة أكثر المنافقين، وإسلام ألوف الألوف من الكافرين، ﴿وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ﴾؛ أي: ومسكنهم ومنزلهم في الآخرة نار جهنم؛ أي: لا مأوى لهم يلجؤون إليه، إلا دار العذاب، التي لا يموت من أوى إليها، ولا يحيا حياة طيبة ﴿وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾؛ أي وقبح المرجع لهم هي ﴿إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (٦٦)﴾ وهذه الجملة مستأنفة لبيان عاقبة أمرهم.
والخلاصة: أنهم قد اجتمع لهم عذابان عذاب الدنيا بالجهاد والغلظة، وعذاب الآخرة، بأن تكون جهنم مأواهم.
ثم ذكر سبحانه، الجرائم الموجبة لجهادهم كالكفار، وهي أنهم أظهروا الكفر بالقول، وهموا بشر ما يغرى به من الفعل، وهو الفتك برسول الله - ﷺ -، وقد أظهره الله عليه، وأنبأه بأنهم سينكرونه إذا سألهم، ويحلفون على إنكارهم
358
ليصدقهم كدأبهم من قبل، فقد كانوا يحلفون للمؤمنين ليرضوهم، كما قال تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً﴾ ويخوضون في آيات الله وفي رسوله، استهزاءً خرجوا به من الإيمان الذي يدعونه إلى الكفر الذي يكتمونه، فقال:
٧٤ - ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ﴾؛ أي: يحلف ويقسم لك، يا محمَّد، هؤلاء المنافقون باسم الله تعالى على أنهم ﴿مَا قَالُوا﴾ تلك الكلمة التي نسبت إليهم، والله يكذبهم، ويثبت أنهم قد قالوا كلمة الكفر، التي رويت عنهم، حيث قال: ﴿وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي، لقد قالوا كلمة الكفر، التي نسبت إليهم بتوافقهم على شتم النبي - ﷺ -، وطعنهم على دينه ﴿وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ﴾؛ أي: أظهروا الكفر وجاهروا بالحرب بتلك الكلمة بعد أن أظهروا الإِسلام، وإن كانوا كفارًا في الباطن.
والمعنى: أنهم فعلوا ما يوجب كفرهم، على تقدير صحة إسلامهم ﴿وَهَمُّوا﴾؛ أي: قصدوا ﴿بِمَا لَمْ يَنَالُوا﴾؛ أي بما لم يصيبوا، ولم يقدروا على تحصيله، قيل: هو همهم بقتل رسول الله - ﷺ -، ليلة العقبة في غزوة تبوك، كما قاله ابن كثير، وقيل: هموا بعقد التاج على رأس عبد الله بن أبي، وقيل غير ذلك.
ولم يذكر القرآن تلك الكلمة التي قالوها؛ لأنه لا ينبغي ذكرها، ولئلا يتبعد بتلاوتها، وأصح ما قيل فيها: ما رواه ابن جرير والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: كان رسول الله - ﷺ - جالسًا في ظل شجرةٍ، فقال: "إنه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان، فإذا جاء.. فلا تكلموا" فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق فدعاه رسول الله - ﷺ -، فقال: "علام تشتمني أنت وأصحابك"؟ إلى آخر ما سبق في أسباب النزول، وأما همهم بما لم ينالوا فهو اغتيال رسول الله - ﷺ - في العقبة عند منصرفه من تبوك.
روي: أنَّ (١) المنافقين هموا بقتله - ﷺ - عند رجوعه من تبوك، وهم خمسة عشر رجلًا، قد اتفقوا على أن يدفعوه - ﷺ - عن راحلته ليقع في الوادي فيموت،
(١) المراح.
359
فأخبره الله تعالى بما دبروه، فلما وصل إلى العقبة التي بين تبوك والمدينة.. نادى مناديه بأمره، أن رسول الله - ﷺ - يريد أن يسلك العقبة فلا يسلكها أحد غيره، واسلكوا يا معشر الجيش بطن الوادي، فإن أسهل لكم وأوسع، فسلك الناس بطن الوادي وسلك النبي - ﷺ - العقبة، وكان ذلك في ليلة مظلمة، فجاء المنافقون وتلثموا وسلكوا العقبة، وكان النبي - ﷺ -، قد أمر عمار بن ياسر أن يأخذ بزمام ناقته ويقودها، وأمر حذيفة أن يسوقها من خلفها، فبينما النبي - ﷺ - يسير في العقبة.. إذ زحمه المنافقون، فنفرت ناقته حتى سقط بعض متاعه، فصرخ بهم، فولوا مدبرين وعلموا أنه اطلع على مكرهم، فانحطوا من العقبة مسرعين إلى بطن الوادي، واختلطوا بالناس، فصار حذيفة يضرب الناقة، فقال له النبي - ﷺ -: "هل عرفت أحد منهم؟ " قال: لا فإنهم كانوا متلثمين، والليلة مظلمة، قال: "هل علمت مرادها؟ "، قال: لا، قال النبي - ﷺ -: "إنهم مكروا، وأرادوا أن يسيروا معي في العقبة، فيزحمونني عنها، وإنّ الله أخبرني بهم وبمكرهم" فلما أصبح.. جمعهم، وأخبرهم بما مكروا به، فحلفوا بالله ما قالوا بتكذيب النبي - ﷺ - ونسبته إلى التصنع في ادعاء الرسالة، ولا أرادوا فتكه، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قالوا: أولا تأمرنا بهم يا رسول الله، إذًا فنضرب أعناقهم؟ قال: "أكره أن يتحدث الناس ويقولوا: إن محمدًا قد وضع يده في أصحابه "فسماهم لهما، وقال: "اكتماهم".
والصحيح (١) في عددهم: ما رواه مسلم أن رسول الله - ﷺ - قال: "في أمتي اثنا عشر منافقًا، لا يدخلون الجنة، ولا يجدون ريحا، حتى يلج الجمل في سم الخياط. ثمانية منهم تكفيكهم الدبيلة - خراج ودمل كبير يظهر في الجوف، يقتل صاحبه كثيرًا - سراجٌ من النار يظهر في أكتافهم، حتى ينجم من صدورهم؛ أي: كأنه سراج من النار.
(١) المراغي.
360
﴿وَمَا نَقَمُوا﴾؛ أي: وما أنكر هؤلاء المنافقون، وما كرهوا من أمر الإِسلام وبعثة الرسول - ﷺ - فيهم شيئًا يقتضي الكراهة، والهم بالانتقام ﴿إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾؛ أي: إلا إغناء الله تعالى إياهم ورسوله - ﷺ - من فضله بالغنائم، التي هي عندهم أحب الأشياء لديهم في هذه الحياة، وكانوا كسائر الأنصار فقراء، فأغناهم الله تعالى ببعثة الرسول ونصره، وبما آتاه من الغنائم، كما وعده، ومن ثم قال - ﷺ - للأنصار: "كنتم عالةً فأغناكم الله بي".
فإن (١) هؤلاء المنافقين، كانوا قبل قدوم النبي - ﷺ - المدينة في ضنك من العيش، لا يركبون الخيل، ولا يحرزون الغنيمة، وبعد قدومه - ﷺ - أخذوا الغنائم، وفازوا بالأموال، ووجدوا الدولة. وقتل للجلاس مولى، فأمر له رسول الله - ﷺ - بديته اثني عشر ألفًا، فاستغنى وذلك يوجب عليهم أن يكونوا محبين له - ﷺ -، مجتهدين في بذل النفس والمال لأجله، فعملوا بضد الواجب، فوضعوا موضع شكره - ﷺ - أن كرهوه وعابوه.
﴿فَإِنْ يَتُوبُوا﴾ من النفاق، وما يصدر عنه من مساوي الأقوال والأفعال، كما وقع للجلاس بن سويد، فإنه تاب وحسنت توبته ﴿يَكُ خَيْرًا لَهُمْ﴾؛ أي: يكن ذلك المتاب خيرًا لهم في الدنيا والآخرة، أما في (٢) الدنيا فبما فيه من التوكل على الله والرضا بقضائه، والصبر على بلائه، والعمل لما فيه السعادة في الآخرة ومعاشرة الرسول - ﷺ -، ومشاهدة فضائله، وأخوة المؤمنين، بعضهم لبعض، وما فيها من الود والوفاء الكامل، والإيثار على النفس إلى نحو ذلك.
وأما في الآخرة: فبما علمت مما وعد الله به المؤمنين، من الجنات التي تجري من تحتها الأنهار، والمساكن الطيبة.
﴿وَإِنْ يَتَوَلَّوْا﴾؛ أي: يعرضوا عن التوبة ﴿يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ بقتلهم وسبي أولادهم وأزواجهم، واغتنام أموالهم؛ لأنه لما ظهر كفرهم بين الناس.. صاروا مثل أهل الحرب. فيحل قتالهم ﴿و﴾ في ﴿الآخرة﴾ بالنار
(١) المراح.
(٢) المراغي.
361
وغيرها، من أفانين العقاب.
والمعنى (١): وإن أعرضوا عما دعوا إليه من التوبة، وأصروا على النفاق، وما ينشأ منه من المساوي الخلقية والنفسية.. يعذبهم الله عذابًا أليمًا في الدنيا، بما يلازم قلوبهم من الخوف والهلع، كما قاله سبحانه: ﴿لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ﴾ وقال: ﴿يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ﴾ فهم في جزع دائم، وهمّ ملازم.
وأما في الآخرة: فحسبك ما تقدم من وعيدهم بتلك النار، التي تطلع على الأفئدة ﴿وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ مع سعتها وتباعد أقطارها وكثرة أهلها ﴿مِنْ وَلِيٍّ﴾؛ أي: من حافظ يحفظهم من عذاب الدنيا ﴿وَلَا نَصِير﴾ ينقذهم من عذاب الآخرة.
أي: وما لهم في الأرض كلها من يتولى أمورهم، ولا من ينصرهم ويدافع عنهم، إذ من خذله الله فلا يقدر أحد أن يجيره، أما في الدنيا: فقد أغلقت في وجوههم الأبواب، فقد خص الله ولاية الأخوة والمودة والنصر بالمؤمنين والمؤمنات، دون المنافقين والمنافقات، وقد قضى الإِسلام على جوار الجاهلية، وعلى أحلافهم من أهل الكتاب في الحجاز بالقتل والجلاء، وأما في الآخرة: فقد تظاهرت النصوص، على أنه لا ولي ولا ظهير للكفار والمنافقين
٧٥ - ﴿وَمِنْهُم﴾؛ أي: ومن المنافقين ﴿مَّنْ عَهَدَ أللهَ﴾؛ أي: من أعطى الله سبحانه وتعالى عهده وميثاقه، بقوله: والله ﴿لَئِنْ آتَانَا﴾ الله سبحانه وتعالى، وأعطانا ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾ وجوده وكرمه وعطائه مالًا وثروةً، وأغنانا عن غيرنا ﴿لَنَصَّدَّقَنَّ﴾؛ أي: لنشكرن له نعمته بالصدقة منها، ﴿وَلَنَكُونَنَّ مِنَ﴾ جملة ﴿الصَّالِحِينَ﴾ من المؤمنين، القائمين بواجبات الدين، التاركين لمحرماته، والصالح ضد المفسد، والمفسد هو الذي بخل بما يلزمه في حكم الشرع؛ أي: ولنعملن عمل أهل الصلاح بأموالنا من صلة الرحم به، والإنفاق في سبيل الله، كإعداد العدة للجهاد، وبذل المستطاع لخير الأمة وصلاحها، بما يرقى بها في اختلف شؤونها، وقرأ الأعمش شاذًا:
(١) المراغي.
﴿لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ﴾ بالنون الخفيفة، واللام الأولى؛ أعني قوله: ﴿لَئِنْ آتَانَا﴾ لام القسم. كما أشرنا إليه في الحل، واللام الثانية؛ أعني قوله: ﴿لَنَصَّدَّقَنَّ﴾، لام الجواب للقسم
٧٦ - ﴿فَلَمَّا آتَاهُمْ﴾؛ أي: فلما رزقهم الله سبحانه وتعالى، وأعطاهم ما طلبوا ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾ وعطائه ﴿بَخِلُوا بِهِ﴾ أي: بما آتاهم وأمسكوه عن الإنفاق في سبيل الله، فلم يتصدقوا منه بشيء، كما حلفوا به ﴿وَتَوَلَّوْا﴾؛ أي: وأعرضوا عن طاعة الله وإخراج صدقات ما أعطاهم الله من فضله، إصلاح حالهم وحال أمتهم، كما عاهدوا الله عليه ﴿وَهُمْ﴾؛ أي: والحال أنهم ﴿مُعْرِضُونَ﴾ بقلوبهم عن طاعة الله تعالى في جميع الأوقات قبل أن يعطيهم الله ما أعطاهم من الرزق وبعده.
والمعنى: لم يكن ذلك التولِّي عارضًا طارئًا، بل تولوا بكل ما أوتوا من قوةٍ، بحافز نفسيٍّ، ملك عليهم أمرهم، ومنعهم عن التصدق، بحيث إذا ذُكِّروا بما يجب عليهم.. لا يذكرون، وإذا دعوا لا يستجيبون.
٧٧ - ﴿فَأَعْقَبَهُمْ﴾ الله سبحانه وتعالى، وأورثهم بسبب البخل الذي وقع منهم، والإعراض عن الإنفاق ﴿نِفَاقًا﴾ وكفرًا كائنًا ﴿فِي قُلُوبِهِمْ﴾ متمكنًا منها، مستمرًّا فيها ﴿إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ﴾ أي يلقون الله سبحانه وتعالى، ويرونه في الآخرة، وحكمة الجمع في هذه الضمائر مع أن سبب نزولها في شخص واحد: الإشارة إلى أن حكم هذه باق لكل من اتصف بهذا الوصف، من أول الزمان إلى آخره، وليس مخصوصًا بثعلبة، وهذا التفسير على أن الضمير في أعقبهم إلى الله تعالى، وقيل: من الضمير يرجع إلى البخل، والمعنى عليه: فأعقبهم ذلك البخل بما عاهدوا الله عليه، والتولِّي عنه بعد العهد الموثق بأوكد الإيمان، نفاقًا كائنًا في قلوبهم متمكنًّا منها، وملازمًا لها إلى يوم يلقون بخلهم؛ أي: جزاء بخلهم؛ أنه: ملازمًا لها إلى يوم الحساب في الآخرة؛ لأنه لا رجاء أمه في التوبة، يعني: أنه سبحانه حرمهم التوبة إلى يوم القيامة، فيوافونه على النفاق، فيجازيهم عليه، ومعنى ﴿أَعْقَبَهُمْ﴾ أن الله سبحانه جعل النفاق المتمكن في قلوبهم إلى تلك الغاية عاقبة ما وقع منهم من البخل، ثم ذكر الله سبحانه سببين هما من أخس أوصاف
363
المنافقين، إخلاف الوعد، والكذب، فقال: ﴿بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ﴾ والباء فيه وفيما بعده للسببية؛ أي: فأعقبهم نفاقًا في قلوبهم، بسبب إخلافهم وتركهم لما وعدوه من التصدق والصلاح ﴿وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ وقرأ أبو رجاء: ﴿يكذِّبُونَ﴾ بالتشديد؛ أى: وبسبب تكذيبهم بما جاء به رسول الله - ﷺ -، أي: أنَّ سنة الله في البشر قد جرت بأن العمل بما يقتضيه النفاق يمكن النفاق في القلب ويقويه، كما أن العمل بمقتضى الإيمان يزيد الإيمان قوةً ورسوخًا في النفس. وهكذا جميع الأخلاق والعقائد، تقوَّى وترسَّخ بالعمل الذي يصدر منها، فهؤلاء لما كان قد رسخ في قلوبهم خلف الوعد واستمرار الكذب.. مكن ذلك النفاق في قلوبهم، بمقتضى سننه وتقديره.
أخرج ابن جرير، وابن مردويه والبيهقي، عن ابن عباس - رضي الله عنه - في قوله: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ﴾ الآية، أن رجلًا من الأنصار، يقال له: ثعلبة، أتى مجلسًا، فأشهدهم، قال: لئن آتاني الله من فضله.. آتيت كل ذي حق حقه، وتصدقت، وجعلت منه للقرابة، فابتلاه الله، فآتاه من فضله، فأخلف ما وعده، فأغضب الله بما أخلفه ما وعده، فقص الله تعالى شأنه في القرآن اهـ.
وكان (١) ثعلبة في ابتداء أمره صحيح الإِسلام، لكنه صار منافقًا في آخر أمره، فصح كونه من المنافقين، اهـ شيخنا.
وفي "الشهاب" قيل: كان ثعلبة قبل ذلك ملازمًا لمسجد رسول الله - ﷺ - حتى لقب بحمامة المسجد، ثم رآه النبيُّ - ﷺ - يسرع الخروج من المسجد عقب الصلاة، فقال له رسول الله - ﷺ - "ما لك تفعل فعل المنافقين؟ "فقال: إني افتقرت ولي ولامرأتي ثوب واحد، أجيء به للصلاة، ثم أذهب فأنزعه لتلبسه وتصلي به، فادع الله أن يوسع في رزقي... إلى آخر ما في القصة اهـ.
قال بعض العلماء (٢): إنما لم يقبل رسول الله - ﷺ - صدقة ثعلبة لأن الله
(١) الفتوحات.
(٢) الفتوحات.
364
سبحانه وتعالى، منعه من قبولها منه، مجازاة له على إخلافه ما عاهد الله عليه، وإهانةً له على قوله: إنما هي جزية، أو أخت الجزية، فلما صدر هذا القول منه.. ردت صدقته عليه، إهانة له، وليعتبر غيره به، فلا يمتنع من بذل الصدقة عن طيب نفس بإخراجها، ويرى أنها واجبة عليه ويثاب على إخراجها ويعاقب على منعها.
وفي "الخازن": وهذا أحد قولين في سبب نزولها، والآخر: أنه حاطب بن أبي بلتعة، قال ابن السائب: إنَّ حاطب بن أبي بلتعة، كان له مال بالشام، فأبطأ عليه، فجهد لذلك جهدًا شديدًا، فحلف بالله لئن آتاني الله من فضله، يعني ذلك المال.. لأصدقن منه، ولأصلن قرابتي، فلما آتاه ذلك المال.. لم يف بما عاهد الله عليه، فأنزل الله هذه الآية اهـ.
وحاصل ما في المقام: أن ظاهر الآية يدل على أن بعض المنافقين عاهد الله، لئن آتاه من فضله.. ليصدقن، وليفعلن فيه أفعال الخير والبر والصلة، فلما آتاه الله من فضله ما سأل.. لم يَفِ بما عاهد الله عليه، بلا تعيين واحد منهم.
وقال الإِمام فخر الدين الرازي: ظاهر هذه الآية يدل على أن نقض العهد، وخلف الوعد يورث النفاق فيجب على المسلم أن يبالغ في الاحتراز عنه فإذا عاهد الله في أمر.. فليجتهد في الوفاء به.
٧٨ - وقوله: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا﴾ رجوع لما سبق، في قوله: المنافقون والمنافقات، لا بقيد كونهم الذين عاهدوا الله، إذ الآيات الواردة في خصوص المعاهدين قد انقضت بقوله: ﴿يَكذِبُونَ﴾ والاستفهام فيه للتوبيخ والتقريع المضمن للإنكار.
وقرأ عليٌّ وأبو عبد الرحمن والحسن (١): ﴿تَعْلَمُوا﴾ بالتاء خطابًا للمؤمنين على سبيل التقرير؛ أي: ألم يعلم المنافقون ﴿أنَّ الله﴾ سبحانه وتعالى ﴿اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ﴾؛ أي: جميع ما يسرونه من النفاق ﴿وَنَجْوَاهُمْ﴾؛ أي: جميع ما يتناجون به ويتحدثونه فيما بينهم، من الطعن على النبي - ﷺ - وعلى أصحابه وعلى دين
(١) البحر المحيط.
الإِسلام ﴿وَأَنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه ﴿عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾؛ أي: ما غاب عن الخلق، فلا يخفى عليه شيء من الأشياء المغيبة، كائنًا ما كان، ومن جملة ذلك ما يصدر عن المنافقين.
أي: ألم يعلم هؤلاء المنافقون الذين يعلنون غير ما يسرون به، ويتناجون فيما بينهم بالإثم والعدوان، ولَمْزِ الرسول، أن الله سبحانه وتعالى يعلم السر الكامن في أعماق نفوسهم، الذي يخصون به من يثقون به، ممن هو مشارك لهم في النفاق، وأن الله تعالى يعلم الغيوب كلها، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فكيف يكذبون على الله فيما يعاهدونه به، وعلى الناس فيما يحلفون عليه باسمه.
٧٩ - وقوله: ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ﴾ محله (١) إما الرفع على الابتداء، وخبره قوله الآتي: ﴿سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ﴾ وهو أوضح الإعراب فيه، أو النصب على الذم، أو الجر، بدلًا من الضمير في سرهم ونجواهم، وقرىء: ﴿يَلْمِزُونَ﴾ بضم الميم؛ أي: أولئك المنافقون الذين يلمزون ويعيبون ﴿الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ﴾؛ أي: يلمزون المتطوعين والمتبرعين من المؤمنين، ويعيبونهم في شأن الصدقات التي هي أظهر آيات الإيمان ويذمونهم في أكمل فضائلهم، ويقولون: ما فعلوها لوجه الله، وإنما فعلوها رئاء الناس، سخر الله منهم، فلَمْزُهم (٢) هنا في مقدارها وصفة أدائها لا فيها نفسها، واللمز هناك؛ أي: في قوله: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ﴾ في قسمتها، وقد جاء في بعض الروايات:
أن النبي - ﷺ - حث على الصدقة، فجاء عمر بصدقة، وجاء عثمان بصدقة عظيمة، وكثير من أصحابه بصدقات، فقال المنافقون: ما أخرج هؤلاء صدقاتهم إلا رياء، وأما أبو عقيل: فإنما جاء بصاعه ليذكِّر بنفسه، فيعطى من الصدقات، والله غني عن صاعه.
وقوله: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ﴾ معطوف (٣) على ﴿الْمُطَّوِّعِينَ﴾
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
(٣) الفتوحات.
عطف خاصٍ على عام، وليس معطوفًا على البيان، لإيهام أن المعطوف ليس من المؤمنين؛ أي: ويلمزون الفقراء الذين لا يجدون إلا طاقتهم، ويعيبونهم ويطعنونهم في صدقاتهم القليلة؛ أي: يعيبون الفقراء الذين تصدقوا بقليل هو مبلغ جهدهم وآخر طاقتهم. وقوله: ﴿فَيَسْخَرُونَ مِنْهُم﴾ معطوف على الصلة؛ أعني يلمزون، فالصلة أمران: اللمز، والسخرية.
والمعنى: أن المنافقين كانوا يعيبون فقراء المؤمنين الذين كانوا يتصدقون بما فضل عن كفايتهم، فيسخرون منهم؛ أي: يستهزئون بهم؛ لحقارة ما يخرجونه في الصدقة، وعدِّه من الحماقة والجنون، مع كون ذلك جهد المقل وغاية ما يقدر عليه ويتمكن منه، وخص هؤلاء بالذكر، وإن كانوا داخلين في المتطوعين؛ لأنَّ مجال لمزهم عند المنافقين أوسع، والسخرية منهم أشد، وهم أهل الإجلال والإكبار، والأحق بالثناء عند المؤمنين.
وقرأ ابن هرمز وجماعة شذوذًا (١): ﴿جُهْدَهُمْ﴾ بالفتح. والجُهد بالضم: الطاقة، وبالفتح: المشقة، وقيل: هما لغتان، ومعناهما واحد، وقال الشعبي: بالضم: القوت. وبالفتح: في العمل، وقيل: بالضم، شيءٌ قليل يعاش به. وقوله: ﴿سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ﴾ خبر المبتدأ السابق، في قوله الذين يلمزون؛ أي (٢): جازاهم على ما فعلوه من السخرية المؤمنين، بمثل ذلك، فسخر الله منهم بأن أهانهم وأذلهم وعذبهم في الدنيا بفضيحتهم وقتلهم، وهو خبر ليس بدعاء عليهم، والتعبير بذلك من باب المشاكلة.
والمعنى: أي فجازاهم الله بمثل ذنبهم، فجعلهم سخريةً للمؤمنين وللناس أجمعين، بفضيحتهم في هذه السورة، ببيان مخازيهم وعيوبهم، وقيل: هو دعاء عليهم بأن يسخر الله بهم كما سخروا بالمؤمنين. ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾؛ أي: وجيع في الآخرة.
٨٠ - ثم بيَّن سبحانه عقابهم وسواهم بالكافرين، فقال: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ يا
(١) البحر المحيط.
(٢) الشوكاني.
367
محمَّد - ﷺ - إن شئت ﴿أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ إن شئت، وهذا كلام خرج مخرج الأمر، ومعناه: الخبر، تقديره استغفارك لهم وعدمه سواء، وتصويره بصورة الأمر للمبالغة في بيان استوائهما.
والحاصل: أن هذا الأمر تخيير له - ﷺ - في الاستغفار وتركه، ومعناه: إخبار باستواء الأمرين؛ أي: إن شئت فاستغفر لهم، وإن شئت فلا تستغفر لهم، فاستغفارك لهم وعدمه سواء، وقوله: ﴿إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾ بيانٌ لاستحالة المغفرة لهم بعد المبالغة في الاستغفار، إثر بيان الاستواء بينه وبين عدمه، ذكره أبو السعود، ومعنى قوله: ﴿إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾؛ أي: إن (١) تدع لهؤلاء المنافقين وتسأل الله أن يستر عليهم ذنوبهم بالعفو عنها وترك فضيحتهم بها، أو لا تدع لهم بالمغفرة فلن يغفر الله لهم؛ أي لن يستر الله عليهم، ولن يعفو عنهم، ولكنه يفضحهم على رؤوس الأشهاد يوم القيامة، وليس المراد من هذا أنه لو زاد على السبعين لكان ذلك مقبولًا كما في سائر مفاهيم الأعداد، بل المراد بهذا المبالغة في عدم القبول، فقد كانت العرب تجري ذلك مجرى المثل في كلامها عند إرادة التكثير، والمعنى أنه لن يغفر الله لهم، وإن استغفرت لهم استغفارًا بالغًا في الكثرة غاية المبالغ، ويراد بالسبعين في مثل هذا الأسلوب: الكثرة لا العدد المعين، فالمراد أنك مهما أكثرت من الاستغفار لهم.. فلن يستجاب لك فيهم، وقد كان - ﷺ - يستغفر لهم رجاء أن يهديهم الله، فيتوب عليهم، ويغفر لهم، كما كان يدعو للمشركين كلما اشتد إيذاؤهم له، ويقول: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" رواه ابن ماجه، وقال الضحاك: ولما نزلت هذه الآية.. قال رسول الله - ﷺ -: "إن الله قد رخَّص لي، فسأزيدن على السبعين، لعل الله أن يغفر لهم"، فأنزل الله سبحانه ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾.
وقد ذهب بعض الفقهاء (٢): إلى أن التقييد بهذا العدد المخصوص يفيد
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
368
قبول الزيادة عليه، ويدل على ذلك، ما روي عن النبي - ﷺ -، أنه قال: "لأزيدن على السبعين" وذكر بعضهم لتخصيص السبعين وجهًا، فقال: إن السبعة عدد شريف؛ لأنها عدد السموات والأرضين والبحار والأقاليم والنجوم السيارة، والأعضاء السبعة، وأيام الأسبوع، فصير كل واحد من السبعة إلى عشرة؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها، وقيل: خصت السبعين بالذكر؛ لأنه - ﷺ - كبر على عمه حمزة سبعين تكبيرة، فكأنه قال: إن تستغفر لهم سبعين مرة، بإزاء تكبيراتك على حمزة ﴿ذَلِكَ﴾؛ أي: امتناع المغفرة لهم، ولو بعد المبالغة في الاستغفار، ليس لعدم الاعتداد باستغفارك، بل بسبب ﴿بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ وفي "الكرخي" ﴿ذَلِكَ﴾؛ أي: اليأس من الغفران لهم، بسبب أنهم كفروا بالله ورسوله، لا ببخل منا، أو قصورٍ فيك، بل لعدم قابليتهم، بسبب الكفر الصارف عنها. اهـ؛ أي: ذلك المذكور بسبب (١) جحودهم وحدانية الله تعالى، وعدم إيقانهم بما وصف به تعالى نفسه، من العلم بالسر والنجوى وسائر الغيوب، وجحودهم وحيه لرسوله - ﷺ - وبما أوجبه من أتباعه، وجحودهم بعثه للموت، وجزاءهم على أعمالهم، لم يعف عن ذنوبهم، ولا عمَّا دسُّوا به أنفسهم من الآثام والمعاصي ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾؛ أي: المتمردين الخارجين عن الطاعة، المتجاوزين لحدودها، والمراد (٢) هنا: الهداية الموصلة إلى المطلوب، لا الهداية التي بمعنى الدلالة وإراءة الطريق؛ أي: أنَّ سنة الله سبحانه قد جرت فيمن أصرُّوا على فسوقهم، وتمرَّدوا في نفاقهم، وأحاطت بهم خطاياهم، أن يفقدوا الاستعداد للتوبة والإيمان، فلا يهتدون إليهما سبيلًا.
والمعنى: والله لا يوفق للإيمان به وبرسوله من اختار الكفر والخروج عن طاعة الله، وطاعة رسوله، وهو كالدليل على الحكم السابق، فإن مغفرة الكافر بالإقلاع عن الكفر، والإرشاد إلى الحق، والمنهمك في كفره المطبوع عليه، لا ينقلع ولا يهتدي، والتنبيه على عذر الرسول في استغفاره، وهو عدم يأسه من
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
369
إيمانهم، ما لم يعلم أنهم مطبوعون على الضلالة، والممنوع هو الاستغفار بعد العلم، لقوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ...﴾ الآية، ذكره البيضاوي.
٨١ - ثم ذكر سبحانه نوعًا آخر من قبائح المنافقين، فقال: ﴿فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ﴾؛ أي: المخلفون من هؤلاء المنافقين، الذين تركهم رسول الله - ﷺ - عند خروجه إلى غزوة تبوك ﴿بِمَقْعَدِهِم﴾؛ أي: بقعودهم في بيوتهم في المدينة ﴿خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ﴾ أي: بعد خروج رسول الله - ﷺ - إلى تبوك، أو مخالفين الله ورسوله، وإنما فرحوا بذلك؛ لأنهم لا يؤمنون بما في الخروج معه من أجر عظيم، لا تذكر معه راحة القعود في البيوت شيئًا، والمخلفون اسم مفعول، من خلف إذا ترك، فالمخلفون المتروكون، وهم الذين استأذنوا رسول الله - ﷺ - من المنافقين، فأذن لهم وخلفهم بالمدينة، أو الذين خلفهم وأقعدهم الكسل أو خلفهم الله تعالى، بتثبيطه إياهم، لما علم في ذلك من الحكمة الخفية، أو خلفهم كسلهم، أو نفاقهم، كما ذكره أبو السعود ﴿بِمَقْعَدِهِم﴾؛ أي: بقعودهم، يقال قعد قعودًا ومقعدًا؛ أي: جلس ﴿خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ﴾، ظرف زمان، بمعنى بعد خروج رسول الله إلى تبوك، إليه ذهب أبو عبيدة وعيسى بن عمرو الأخفش، ويؤيد هذا قراءة ابن عباس وأبي حيوة، وعمرو بن ميمون ﴿خلف﴾ بفتح الخاء وسكون اللام، أو مفعول لأجله، والعامل فيه إما فرح، وإما مقعد؛ أي: فرحوا لأجل مخالفتهم رسول الله - ﷺ -، حيث مضى هو للجهاد وتخلفوا هم عنه، أو بقعودهم لمخالفتهم له، وإليه ذهب الطبري والزجاج، ويؤيد ذلك قراءة من قرأ؛ ﴿خلف﴾ بضم الخاء وسكون اللام، أو منصوب على المصدرية، بفعل مقدر مدلول عليه، بقوله: ﴿مقعدهم﴾ لأنه في معنى تخلفوا؛ أي: تخلفوا خلاف رسول الله.
وقرأ ابن مسعود وابن يعمر والأعمش وابن أبي عبلة (١): ﴿خلف رسول الله﴾ بفتح الخاء وسكون اللام، وقرىء: ﴿خلف﴾ بضم الخاء وسكون اللام
(١) زاد المسير.
370
﴿وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فإن في المجاهدة إتلاف المال والنفس، سبب ذلك الشح بالأموال والأنفس، وعدم وجود باعث الإيمان وداعي الإخلاص، ووجود الصارف عن ذلك، وهو ما هم فيه من النفاق، وفيه تعريض بالمؤمنين الباذلين لأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، لوجود الداعي معهم وانتفاء الصارف عنهم ﴿وَقَالُوا﴾؛ أي: قال المنافقون بعضهم لبعض أو قالوا للمؤمنين ﴿لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ﴾ تثبيطًا لهم وكسرًا لنشاطهم، وتواصيًا بينهم بالمخالفة لأمر الله ورسوله؛ أي: لا تخرجوا مع محمَّد - ﷺ - إلى غزوة تبوك في الحر الشديد، ثم أمر رسوله - ﷺ - أن يقول لهم بقوله: ﴿قُلْ﴾ يا محمَّد لهؤلاء الذين اختاروا الراحة والقعود خلافك عن الجهاد في الحر ﴿نَارُ جَهَنَّم﴾ التي هي موعدهم في الآخرة ﴿أَشَدُّ حَرًّا﴾ من حر الدنيا ﴿لوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ﴾؛ أي: يعلمون أنَّ مآبهم إليها، أو أنها كيف هي ما اختاروها بإيثار الدعة على الطاعة.
والمعنى (١): أنكم أيها المنافقون، كيف تفرون من هذا الحر اليسير، ونار جهنم الي ستدخلونها خالدين فيها أبدًا أشد حرًّا مما فررتم منه، فإنكم إنما فررتم من حر يسير في زمن قصير، ووقعتم في حر كثير في زمن كبير، بل غير متناهٍ أبد الآبدين، ودهر الداهرين، وجواب لو، في قوله: ﴿لوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ﴾ محذوف تقديره: لو كانوا يفقهون أنها كذلك.. لما فعلوا ما فعلوا.
وقرأ عبيد الله (٢): ﴿يعلمون﴾ مكان يفقهون، وينبغي أن يحمل ذلك على معنى التفسير؛ لأنه مخالف لسواد ما أجمع المسلمون عليه.
وحال معنى الآية: أي (٣) وقالوا لإخوانهم في النفاق إغراءً لهم بالثبات على المنكر، وتثبيطًا لعزائم المؤمنين: لا تنفروا في الحر، قل لهم أيها الرسول، مفندًا آراءهم، ومسفهًا أحلامهم: نار جهنم التي أعدها الله لمن عصاه وعصى
(١) الشوكاني.
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
371
رسوله أشد حرًّا في تلك الأيام في أوائل فصل الخريف، إذ هذا الحر مما تحتمله الجسوم، ولا يلبث أن يخف ويزول، ونار جهنم حرها شديد دائم، يلفح الوجوه، وينضج الجلود، فهم لو كانوا يعقلون ذلك، ويعتبرون به.. لما خالفوا وقعدو، ولما فرحوا بقعودهم، بل لحزنوا وبكوا كما فعل المؤمنون الذين أرادوا الخروج والنفقة فعجزوا.
٨٢ - ﴿فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا﴾؛ أي: فليضحك (١) هؤلاء الذين تخلفوا عن رسول الله - ﷺ - في غزوة تبوك، فرحين بمقعدهم خلافه قليلًا في الدنيا ﴿وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا﴾ في الآخرة مكان ضحكهم في الدنيا، وهذا وإن ورد بصيغة الأمر، إلا أن معناه الإخبار.
والمعنى: إنهم وإن فرحوا وضحكوا طول أعمارهم في الدنيا، فهو قليل بالنسبة إلى بكائهم في الآخرة؛ لأن الدنيا فانية والآخرة باقية، والمنقطع الفاني بالنسبة إلى الدائم الباقي قليل، وإنما جيء (٢) بهما على صيغة الأمر للدلالة على أن ذلك أمر محتوم، لا يكون غيره، وانتصاب ﴿جَزَاءً﴾ على المصدرية بعامل محذوف، تقديره: يجزون ذلك البكاء الكثير في الآخرة جزاءً ﴿بـ﴾ سبب ﴿مَا كَانُوا يَكْسِبُونَـ﴾ ـه في الدنيا من المعاصي؛ أي: يجزون به جزاء على ما يقولونه، ويعملونه من المعاصي. أو المعنى (٣): إن الأجدر بهم، بحسب ما تقتضيه حالهم، وتستوجبه جريمتهم، أن يضحكوا قليلًا ويبكوا كثيرًا في الدنيا، لو كانوا يفقهون ما فاتهم بالتخلف من أجر، وما سيحملونه في الآخرة من وزر، وما يلاقونه في الدنيا من خزي وضرٍّ، جزاء لهم على ما اجترحوا من العصيان، وارتكبوا من الإثم والبهتان، وكما يدين الفتى يدان.
ونحو الآية قوله - ﷺ -: لو تعلمون ما أعلم.. لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا يظهر النفاق، وترتفع الأمانة وتقبض الرحمة، ويتهم الأمين، ويؤتمن غير الأمين،
(١) الخازن.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
أناخ بكم الشرف الجون، الفتن كأمثال الليل المظلم"، الشرف بضمتين جمع شارف، وهي الناقة الكبيرة السن، والجون السود.
٨٣ - ثم بين ما يجب أن يعاملوا به في الدنيا قبل الآخرة، مما يقتضي تركهم الفرح، والغبطة في دنياهم بالتمتع بأحكام الإِسلام فقال: ﴿فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى يا محمَّد، من غزوة تبوك، وردَّك من سفرك هذا، والفاء لتفريع ما بعدها على ما قبلها ﴿إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُم﴾؛ أي: إلى طائفة من المنافقين المتخلفين عنك في المدينة، وإنما قال إلى طائفة منهم؛ لأن جميع من أقام بالمدينة لم يكونوا منافقين، بل كان فيهم غيرهم من المؤمنين، الذين لهم أعذار صحيحة، وفيهم من المؤمنين من لا عذر له، ثم عفا عنهم رسول الله - ﷺ -، وتاب الله عليهم، كالثلاثة الذين خلفوا، وسيأتي بيان ذلك، وقيل: إنما قال: إلى طائفة؛ لأن منهم من تاب عن النفاق، وندم على التخلف.
﴿فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ﴾ معك إلى غزوة أخرى بعد غزوة تبوك؛ أي: ليخرجوا معك في غزوة أو غيرها، مما تخرج لأجله ﴿فَقُلْ﴾ لهم يا محمَّد إخراجًا لهم عن ديوان الغزاة، وإبعادًا لمحلهم عن محفل صحبتك ﴿لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا﴾ في سفر من الأسفار، ولن يكون لكم أبدًا شرف الصحبة بالخروج معي للجهاد في سبيل الله تعالى، ما دمت ودمتم ﴿وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا﴾ من الأعداء لا بالخروج والسفر إليهم ولا بغير ذلك، كأن يهاجم المؤمنون في عقر دارهم، كما حدث يوم وقعة الأحزاب.
وقرىء (١): ﴿معي﴾ في الموضعين بفتح الياء، وقرىء: بسكونها فيهما، ثم بين سبب النهي عن صحبتهم فقال: ﴿إِنَّكُمْ﴾ أيها المتخلفون ﴿رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ﴾ عن الغزو ﴿أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ وهي غزوة تبوك ﴿فَاقْعُدُوا﴾ عن الجهاد ﴿الْخَالِفِينَ﴾؛ أي: مع النساء والصبيان والرجال العاجزين، كالمرضى والزمنى، الذين لا يكلفون القيام بشرف الجهاد دفاعًا عن الحق، وإعلاءً لكلمة الله تعالى، وجملة
(١) الشوكاني.
373
قوله: ﴿إنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ﴾ للتعليل؛ والفاء في قوله: ﴿فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ﴾ لتفريع ما بعدها على ما قبلها.
والمعنى (١): لن تخرجوا معي أبدًا، ولن تقاتلوا عدوًّا؛ لأنكم رضيتم لأنفسكم بخزي العقود والتخلف أول مرة دعيتم فيها إلى الخروج، إذ طلب إليكم أن تنفروا، فلم تنفروا، وعصيتم الله ورسوله، فاقعدوا أبدًا مع الذين تخلفوا عن النفر، من الأشرار المفسدين، الذين خرجوا عن سبيل المهتدين، وربما كان المراد بالمخالفين الصبيان والعجزة والنساء، كما مرَّ آنفًا.
والخالفين (٢) جمع خالف، كأنهم خلفوا الخارجين، والمراد بهم: من تخلَّف عن الخروج، وقيل: المعنى: فاقعدوا مع الفاسدين من قولهم: فلان خالف أهل بيته، إذا كان فاسدًا فيهم، من قولك: خلف اللبن، إذا فسد بطول المكث في السقاء، ذكر معناه الأصمعيُّ، وقرأ (٣) مالك بن دينار وعكرمة مع ﴿الْخَالِفِينَ﴾، وهو مقصورٌ من الخالفين.
وفي الآية (٤): دليلٌ على أن الرجل إذا ظهر منه مكروه، وخداع وبدعة.. يجب الانقطاع عنه، وترك مصاحبته؛ لأن الله سبحانه وتعالى منع المنافقين من الخروج مع رسول الله - ﷺ - إلى الجهاد، وهو مشعر بإظهار نفاقهم، وذمهم وطردهم، وإبعادهم لما علم من مكرهم وخداعهم إذا خرجوا إلى الغزوات.
الإعراب
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣)﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾ ﴿يَا﴾ حرف نداء ﴿أَيُّ﴾ منادى نكرة مقصودة، و ﴿الهاء﴾ حرف تنبيه زائد، تعويضًا عمَّا فات ﴿أَيُّ﴾ من الإضافة ﴿النَّبِيُّ﴾ صفة لـ ﴿أَيُّ﴾ وجملة
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
(٣) البحر المحيط.
(٤) الخازن.
374
النداء مستأنفة ﴿جَاهِدِ الْكُفَّار﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة جواب للنداء، لا محل لها من الإعراب، ﴿وَالْمُنَافِقِينَ﴾ معطوف على ﴿الْكُفَّار﴾ ﴿وَاغْلُظْ﴾ فعل أمر ﴿عَلَيْهِمْ﴾ متعلق به، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة معطوفة على جملة ﴿جَاهِدِ﴾ ﴿وَمَآواهُم﴾ مبتدأ، ومضاف إليه ﴿جَهَنَّمُ﴾ خبره، والجملة مستأنفة، مسوقة لبيان مآل أمرهم بعد بيان عاجله، كما ذكره أبو السعود. ﴿وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ فعل وفاعل، والجملة خبر عن المخصوص بالذم المحذوف وجوبًا تقديره: وبئس المصير هي.
﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا﴾.
﴿يَحْلِفُونَ﴾ فعل وفاعل ﴿بِاللَّه﴾ متعلق به، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان ما صدر عنهم، من الجرائم الموجبة للأمر بجهادهم، والغلظة عليهم، كما ذكره أبو السعود ﴿مَا﴾ نافية ﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول لقول محذوف، تقديره: يحلفون بقولهم: والله ما قالوا ﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية ﴿اللام﴾ موطئة لقسم محذوف ﴿قَد﴾ حرف تحقيق ﴿قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم المحذوف مستأنفة مسوقة لبيان حالهم. ﴿وَكَفَرُوا﴾: فعل وفاعل ﴿بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ﴾ متعلق به، والجملة معطوفة على جملة ﴿قَالُوا﴾ ﴿وَهَمُّوا﴾ فعل وفاعل معطوف على قالوا أيضًا ﴿بِمَا﴾ جار ومجرور متعلق به ﴿لَمْ يَنَالُوا﴾ جازم وفعل وفاعل والجملة صلة و ﴿ما﴾: أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: بما لم ينالوه.
﴿وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ﴾.
﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿ما﴾ نافية ﴿نَقَمُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ ﴿أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ﴾ ناصب وفعل ومفعول وفاعل ﴿وَرَسُولُهُ﴾ معطوفة على لفظ الجلالة ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾ متعلق به، والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ ﴿نَقَمُوا﴾ تقديره: وما نقموا إلا إغناء الله ورسوله
375
إياهم من فضله ﴿فَإِنْ﴾: ﴿الفاء﴾ فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت حالهم المذكور، وأردت بيان عاقبة أمرهم.. فأقول لك ﴿إِنْ﴾: حرف شرط ﴿يَتُوبُوا﴾ فعل وفعل مجزوم بـ ﴿أن﴾ على كونه فعل شرط لها ﴿يَكُ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿إن﴾ على كونه جوابًا لها، وعلامة جزمه سكون النون المحذوفة للتخفيف، واسمها ضمير مستتر فيه، يعود على التوب المفهوم مما قبله، تقديره: هو ﴿خَيْرًا﴾: خبرها منصوب ﴿لَهُمْ﴾: متعلق بخيرًا، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة.
﴿وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِير﴾.
﴿وَإِنْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿إن﴾: حرف شرط ﴿يَتَوَلَّوْا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿إِنْ﴾: على كونه فعل شرط لها ﴿يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ﴾ فعل ومفعول وفاعل مجزوم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه جواب شرط لها، وجملة ﴿إن﴾: الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿فَإِنْ يَتُوبُوا﴾ على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة ﴿عَذَابًا﴾: منصوب على المفعولية المطلقة، أو مفعول ثان ﴿أَلِيمًا﴾: صفة له ﴿فِي الدُّنْيَا﴾: متعلق بـ ﴿عَذَابًا﴾ ﴿وَالْآخِرَةِ﴾: معطوف عليه ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾ حالية ﴿ما﴾: نافية ﴿لَهُم﴾ جار ومجرور، خبر مقدم لـ ﴿ما﴾ ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ حال من الضمير المستكن في الخبر ﴿مِنْ وَلِيٍّ﴾: اسم ﴿ما﴾ مؤخر ﴿مِنْ﴾: زائدة ﴿وَلَا نَصِيرٍ﴾ معطوف عليه، والتقدير: وما ولي ولا نصير كائنًا هو لهم، حالة كونه في الأرض، وجملة ﴿ما﴾ في محل النصب، حال من هاء ﴿يُعَذِّبْهُمُ﴾ والتقدير: يعذبهم الله عذابًا أليمًا، حالة كونهم عادمي ولي ونصير في الأرض.
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥)﴾.
﴿وَمِنْهُمْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، أو عاطفة، كما تقدم نظيرها ﴿منهم﴾: جار
376
ومجرور خبر مقدم ﴿مَنْ﴾ اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة، أو معطوفة ﴿عَاهَدَ اللَّهَ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾ والجملة صلة الموصول، وفيه معنى القسم؛ لأنه بمعنى أقسم بالله. وقال في قسمه ﴿لَئِنْ﴾: و ﴿اللام﴾ موطئة للقسم ﴿إن﴾ حرف شرط ﴿آتَانَا﴾: فعل ومفعول أول في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه فعل شرط لها، والمفعول الثاني محذوف، تقديره: مالًا ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾: متعلق به وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهَ﴾ وجواب ﴿إن﴾ الشرطية، محذوف لدلالة جواب القسم عليه تقديره: إن آتانا من فضله، نتصدق، ونكون من الصالحين، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب، مقول لـ ﴿قال﴾ المقدر، كما مر آنفًا ﴿لَنَصَّدَّقَنَّ﴾ ﴿اللام﴾ موطئة للقسم، وكررت لتدل على أنَّ ما بعدها جواب القسم، لا جواب الشرط ﴿نَصَّدَّقَنَّ﴾: فعل مضارع في محل الرفع لتجرده عن الناصب والجازم، مبني على الفتح، لاتصاله بنون التوكيد، وفاعله ضمير يعود على ﴿المنافقين﴾ والجملة جواب القسم. لا جواب الشرط، وقد اجتمع هنا قسم وشرط، فالمذكور وهو قوله: لنصدقن... إلخ، جواب القسم وجواب الشرط محذوف كما قدرناه آنفًا على حد قول ابن مالك:
وَاحْذِفْ لَدَى اجْتِمَاعِ شَرْطٍ وَقَسَمْ جَوَابَ مَا أَخَّرْتَ فَهْوَ مُلْتَزَم
وفي الكرخي قوله: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ﴾ فيه معنى القسم: فلذلك أجيب بقوله: ﴿لَنَصَّدَّقَنَّ﴾ وحذف جواب الشرط لدلالة هذا الجواب عليه، و ﴿اللام﴾: للتوطئة، ولا يمتنع الجمع بين القسم واللام الموطئة له اهـ. ﴿وَلَنَكُونَنّ﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة و ﴿اللام﴾ موطئة للقسم ﴿نكونن﴾ فعل مضارع ناقص: في محل الرفع مبني على الفتح، واسمها ضمير يعود على ﴿المنافقين﴾ ﴿مِنَ الصَّالِحِينَ﴾: خبرها، والجملة معطوفة على ﴿لَنَصَّدَّقَنَّ﴾ على كونها جواب القسم.
﴿فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾.
﴿فَلَمَّا﴾ ﴿الفاء﴾ فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت قسمهم هذا، وأردت بيان عاقبته.. فأقول لك ﴿لما﴾: حرف
377
شرط غير جازم ﴿آتَاهُمْ﴾ فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾ ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾ متعلق به، والمفعول الثاني محذوف تقديره: فلمَّا آتاهم مالًا من فضله، والجملة الفعلية فعل شرط لـ ﴿لمَّا﴾ لا محلَّ لها من الإعراب ﴿بَخِلُوا﴾ فعل وفاعل ﴿به﴾ متعلق به، والجملة جواب ﴿لِمَا﴾ لا محل لها من الإعراب ﴿وَتَوَلَّوْا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿بَخِلُوا﴾ ﴿وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ مبتدأ وخبر، الجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿تولوا﴾ وجملة ﴿لما﴾ من فعل شرطها وجوابها مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة.
﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾.
﴿فَأَعْقَبَهُمْ﴾ ﴿الفاء﴾ حرف عطف وتفريع ﴿أعقبهم نفاقًا﴾ فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة ﴿بخلوا﴾ ﴿فِي قُلُوبِهِمْ﴾ جار ومجرور صفة لـ ﴿نِفَاقًا﴾. ﴿إِلَى يَوْمِ﴾ جار ومجرور، متعلق بـ ﴿أعقبهم﴾ أو صفة ثانية لـ ﴿نِفَاقًا﴾؛ أي: نفاقًا مستمرًا إلى يوم يلقون ﴿يَلْقَوْنَهُ﴾ فعل وفاعل، ومفعول: والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يَوْمِ﴾ ﴿بِمَا﴾ ﴿الباء﴾: حرف جر وسبب ﴿مَا﴾ مصدرية ﴿أَخْلَفُوا اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول ﴿مَا﴾ موصولة أو موصوفة في حل النصب مفعول ثان لـ ﴿أخْلَفُوا﴾ ﴿وَعَدُوهُ﴾ فعل وفاعل ومفعول، صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها، وجملة ﴿أَخْلَفُوا﴾ صلة ﴿مَا﴾ المصدرية ﴿مَا﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء، تقديره: بسبب إخلافهم الله فيما وعدوه ﴿وَبِمَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿الباء﴾: حرف جر و ﴿مَا﴾: مصدرية ﴿كَانُوا﴾ فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَكْذِبُونَ﴾: خبرها، وجملة ﴿كان﴾ صلة ﴿مَا﴾ المصدرية ﴿مَا﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء، تقديره: وبتكذيبهم الله ورسوله، الجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور في قوله: بما أخلفوا الله.
﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾.
﴿أَلَمْ﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التوبيخي المضمَّن معنى الإنكار ﴿لم﴾ حرف
378
جزم ﴿يَعْلَمُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لم﴾ والجملة جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه ﴿يَعْلَمُ سِرَّهُمْ﴾ فعل ومفعول به؛ لأنه علم بمعنى عرف ﴿وَنَجْوَاهُمْ﴾ معطوف عليه، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهَ﴾ وجملة يعلم في محل الرفع خبر ﴿أَنَّ﴾ وجملة ﴿أَنَّ﴾ في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لعلم؛ لأنه بمعنى عرف تقديره: ألم يعلموا علم الله سبحانه وتعالى سرهم ونجواهم ﴿وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾ ناصب واسمه، وخبره والجملة معطوفة علي جملة ﴿أَنَّ﴾ الأولى، تقديره: وكون الله تعالى علام الغيوب.
﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ ﴿يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول ﴿مِنَ اَلمُؤمِنِينَ﴾ حال من الضمير في المطوعين ﴿فِي الصَّدَقَاتِ﴾ متعلق بـ ﴿يَلْمِزُونَ﴾ ﴿وَالَّذِينَ﴾ في محل النصب، معطوف على ﴿الْمُطَّوِّعِينَ﴾ ﴿لَا يَجِدُونَ﴾ فعل وفاعل صلة الموصول ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ ﴿جُهْدَهُمْ﴾ مفعول به، ومضاف إليه ﴿فَيَسْخَرُونَ﴾ فعل وفاعل ﴿مِنْهُمْ﴾ متعلق به، والجملة معطوفة على جملة ﴿يَلْمِزُونَ﴾ على كونها صلة الموصول ﴿سَخِرَ اللَّهُ﴾ فعل وفاعل ﴿مِنْهُمْ﴾ متعلق به، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة ﴿وَلَهُمْ﴾ خبر مقدم ﴿عَذَابٌ﴾ مبتدأ مؤخر ﴿أَلِيمٌ﴾ صفة له، والجملة الاسمية في محل الرفع، معطوفة على جملة ﴿سَخِرَ اللَّهُ﴾ على كونها خبر المبتدأ.
﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾.
﴿اسْتَغْفِرْ﴾ فعل أمر ﴿لَهُمْ﴾ متعلق به، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة ﴿أَوْ﴾ حرف عطف ﴿لَا﴾ ناهية ﴿تَسْتَغْفِرْ﴾ فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لَا﴾ الناهية، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة معطوفة على جملة ﴿اسْتَغْفِرْ﴾ ﴿لَهُمْ﴾ متعلق به ﴿إن﴾ حرف شرط ﴿تَسْتَغْفِرْ﴾: فعل مضارع مجزوم
379
بـ ﴿إن﴾ وفاعله ضمير يعود على محمد ﴿لَهُمْ﴾ متعلق به ﴿سَبْعِينَ﴾: منصوب على المصدرية؛ لأنه صفة لمصدر محذوف، تقديره: استغفارًا سبعين ﴿مَرَّةً﴾ منصوب على التمييز ﴿فَلَن﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إِنْ﴾ الشرطية وجوبًا ﴿لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ﴾ فعل وفاعل، منصوب بـ ﴿لَنْ﴾ ﴿لَهُمْ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية مستأنفة ﴿ذَلِكَ﴾ مبتدأ ﴿بِأَنَّهُمْ﴾ ﴿الباء﴾ حرف جر وسبب ﴿أن﴾ حرف نصب و ﴿الهاء﴾ اسمها ﴿كَفَرُوا﴾ فعل وفاعل ﴿بِاللَّهِ﴾ متعلق به ﴿وَرَسُولِهِ﴾: معطوف على الجلالة وجملة ﴿كَفَرُوا﴾ في محل الرفع خبر ﴿أن﴾ وجملة ﴿أن﴾ في تأويل مصدر مجرور بالباء، تقديره: بسبب كفرهم باللهِ ﴿وَرَسُولِهِ﴾ الجار والمجرور خبر المبتدأ، تقديره: ذلك كائنٌ بسبب كفرهم بالله ورسوله، والجملة الاسمية مستأنفة ﴿وَاللَّهُ﴾ مبتدأ، وجملة ﴿لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾: خبره، والجملة الاسمية مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾.
﴿فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿بِمَقْعَدِهِمْ﴾: متعلق به ﴿خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ﴾ ظرف بمعنى بعد، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿مَقْعَدِهِمْ﴾ وقد تقدم لك في مبحث التفسير، ما يجري فيه، من أوجه الإعراب، استعجالًا للفائدة ﴿وكَرِهُوا﴾: فعل وفاعل، معطوف على ﴿فَرِحَ﴾ ﴿أنْ يُجَاهِدُوا﴾: فعل وفاعل، منصوب بـ ﴿أَنْ﴾ المصدرية ﴿بِأَمْوَالِهِمْ﴾: متعلق به ﴿وَأَنْفُسِهِمْ﴾: معطوف عليه ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾: متعلق به أيضًا، والجملة الفعلية في تأويل مصدر، منصوب على المفعولية، تقديره: وكرهوا مجاهدتهم في سبيل الله، بأموالهم وأنفسهم.
﴿وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ﴾.
﴿وَقَالُوا﴾: فعل وفاعل، معطوف على ﴿كَرِهُوا﴾ ﴿لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿لَا﴾: ناهية جازمة، ﴿تَنْفِرُوا﴾: فعل وفاعل، مجزوم بـ ﴿لَا﴾ الناهية ﴿فِي الْحَرّ﴾: متعلق به، والجملة في محل النصب، مقول ﴿قَالُوا﴾
380
﴿قُلْ﴾ فعل أمر، وفاعله ضمير، يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة ﴿نَارُ جَهَنَّم﴾ مبتدأ ومضاف إليه ﴿أَشَدُّ﴾ خبره ﴿حَرًّا﴾ تمييز محول عن المبتدأ، منصوب باسم التفضيل، والجملة الاسمية في محل النصب، مقول ﴿قُلْ﴾ ﴿لَو﴾ حرف شرط ﴿كَانُوا﴾ فعل ناقص، واسمه، وجملة ﴿يَفْقَهُونَ﴾ خبرها، وجملة ﴿كَانُوا﴾ فعل شرط لِـ ﴿لَوْ﴾ وجوابها محذوف، تقديره: لو كانوا يفقهون شدة حرارتها.. ما تخلفوا عن رسول الله - ﷺ -، وجملة ﴿لَوْ﴾ الشرطية معترضة بين جمل المقول، وفي "أبي السعود" قوله: ﴿لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ﴾ اعتراضٌ تذييليٌّ من جهته تعالى، غير داخل تحت القول المأمور به، مؤكِّدٌ لمضمونه اهـ.
﴿فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾.
﴿فَلْيَضْحَكُوا﴾ ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتفريغ و ﴿اللام﴾: لام الأمر، مبنية على السكون، لاتصالها بالفاء ﴿يضحكوا﴾ فعل وفاعل، مجزوم بلام الأمر ﴿قَلِيلًا﴾ منصوب على المصدرية؛ لأنه صفة لمصدر محذوف، تقديره ضحكًا قليلًا، والجملة في محل النصب، معطوفة على جملة قوله: ﴿نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا﴾ على كونها مَقُولًا لـ ﴿قُلْ﴾ ﴿ولْيَبْكُوا كَثِيرًا﴾ فعل وفاعل ومفعول مطلق، مجزوم بـ ﴿لام﴾ الأمر معطوف على ﴿فَلْيَضْحَكُوا﴾ ﴿جَزَاءً﴾: مفعول لأجله؛ أي: بسبب الأمر بقلة الضحك وكثرة البكاء، جزاؤهم بعملهم، أو منصوب على المصدرية، بفعل مقدر، تقديره: يجزون، ذلك جزاء ﴿بِمَا﴾ ﴿الباء﴾ حرف جر وسبب ﴿ما﴾ موصولة، أو موصوفة في محل الجر بالباء، الجار والمجرور صفة لـ ﴿جَزَاءً﴾ أو متعلق به، لتعديته به ﴿كَانُوا﴾ فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَكْسِبُون﴾ خبره وجملة ﴿كَانُ﴾ صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها.
﴿فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ﴾.
﴿فَإِنْ﴾ ﴿الفاء﴾ لتفريع ما بعدها على ما قبلها؛ أي: على ما سرد من أمرهم، كذا قالوا، أو ﴿الفاء﴾ فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شوط مقدر، تقديره: إذا عرفت حالهم المذكور فيما سبق، وأردت بيان شأنك فيهم...
381
فأقول لك ﴿إن﴾ حرف شرط ﴿رَجَعَكَ اللَّهُ﴾ فعل ومفعول وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه فعل شرط لها، ﴿إِلَى طَائِفَةٍ﴾ متعلق به ﴿مِنْهُمْ﴾ صفة لـ ﴿طَائِفَة﴾ ﴿فَاسْتَأْذَنُوكَ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة ﴿اسْتَأْذَنُوكَ﴾ فعل وفاعل ومفعول، معطوف على ﴿رَجَعَكَ﴾ ﴿لِلْخُرُوجِ﴾ متعلق به ﴿فَقُلْ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إِنْ﴾ الشرطية وجوبًا ﴿قُلْ﴾ فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية، على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذ المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا ﴿لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أبدًا﴾: إلى آخر الآية، مقول محكي لـ ﴿قُلْ﴾ وإن شئت قلت: ﴿لَنْ تَخْرُجُوا﴾ فعل وفاعل منصوب بـ ﴿لَنْ﴾ ﴿مَعِيَ﴾ متعلق به ﴿أَبَدًا﴾ منصوب على الظرفية متعلق به - والجملة في محل النصب، مقول ﴿قُلْ﴾ ﴿وَلَنْ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة ﴿لَنْ تُقَاتِلُوا﴾: فعل وفاعل منصوب بـ ﴿لَنْ﴾ معطوف على ﴿لَنْ تَخْرُجُوا﴾ ﴿مَعِيَ﴾ متعلق به ﴿عَدُوًّا﴾ مفعول به ﴿إِنَّكُمْ﴾ ناصب واسمه ﴿رَضِيتُمْ﴾ فعل وفاعل ﴿بِالْقُعُودِ﴾ متعلق به ﴿أوَّلَ مرَّةٍ﴾ ظرف متعلق ﴿بِالقُعُودِ﴾ والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إنّ﴾ وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قل﴾ مسوقة لتعليل ما قبلها ﴿فَاقْعُدُوا﴾ ﴿الفاء﴾ حرف عطف وتفريع ﴿اقْعُدُوا﴾ فعل وفاعل ﴿مَعَ الْخَالِفِينَ﴾ ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿اقْعُدُوا﴾ أو حال من فاعل ﴿اقْعُدُوا﴾ والجملة في محل الرفع، معطوفة مفرعة على جملة ﴿رَضِيتُم﴾ والله أعلم.
التصريف ومفردات اللغة
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ﴾ جاهد، من باب فاعل الرباعي فيه معنى المشاركة. يقال: جاهد يجاهد جهادًا ومجاهدة، والجهاد والمجاهدة: استفراغ الجهد والوسع في مدافعة العدو، وهو ثلاثة أضرب: مجاهدة العدو الظاهر، مجاهدة الشيطان، مجاهدة النفس والهوى، ويشير إلى هذه كلها قوله تعالى: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ﴾، ﴿وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ وقال - ﷺ - "جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم"، وقال: "جاهدوا الكفار
382
بأيديكم وألسنتكم" والجهاد باللسان، إقامة الحجة والبرهان، كما مر والجهاد باليد: الجهاد بالسيف، وبكل الوسائل الحربية ﴿وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾ من الغلظة، وهي الخشونة، والشدة في المعاملة، وهي ضد اللين ﴿وَمَا نَقَمُوا﴾ نقم منه الشيء إذا أنكره وعابه عليه، من باب ضرب ﴿لَنَصَّدَّقَنَّ﴾ فيه إدغام التاء في الأصل في الصاد، أصله لنتصدقن من باب تفعل الخماسي، فقلبت التاء صادًا، فأدغمت الصاد في الصاد، فصار لنصَّدَّقن بتشديد الصاد، والدال.
﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا﴾ يقال: أعقبت فلانًا ندامةً، إذا صيرت عاقبة أمره نادمة وحسرة وخسارة.
﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ﴾ وفي "المصباح" لمزه لمزًا من باب ضرب إذا عابه، وقرأ بها السبعة ومن باب قتل لغة، وأصله الإشارة بالعين ونحوها، كما مر المطَّوِّعين بتشديد الطاء والواو، جمع المطوع بمعنى: المتبرع بغير ما وجب عليه، فأصله المتطوعين؛ لأنه اسم فاعل من تطوع الخماسي، فقلبت التاء طاء، وأدغمت الطاء في الطاء، فصار المطوعين بتشديد الطاء ﴿فِي الصَّدَقَاتِ﴾ جمع الصدقة، ﴿إِلَّا جُهْدَهُمْ﴾ والجهد: بالضم والفتح، الطاقة وهي: أقصى ما يستطيعه الإنسان، وقال القرطبي: الجهد الشيء اليسير الذي يعيش به المقل ﴿فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ﴾؛ أي: يستهزئون منهم، احتقارًا وفي "المصباح" سخرت منه سخرًا، من باب تعب، هزئت به، والسِّخريُّ، بالكسر اسم منه، والسُّخريُّ بالضم، لغة فيه، والسخرة وزان غرفة ما سخرت من خادم أو جارية أو دابة، بلا أجرٍ ولا ثمنٍ، والسخري بالضم، بمعناه، وسخرته في العمل، بالتثقيل استعملته مجانًّا وسخر الله الإبل، ذللها وسهلها اهـ وفيه أيضًا هزئت به أهزأ. مهموز من باب تعب، وفي لغة من باب نفع، سخرت منه اهـ ﴿فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ﴾ جمع مخلف، اسم مفعول من خلف، كما مر، والفاعل الكسل؛ أي: الذين خلفهم، وأقعدهم الكسل، والفرح: الشعور بارتياح النفس وسرورها.
﴿بِمَقْعَدِهِمْ﴾؛ أي: بقعودهم. يقال: قعد قعودًا ومقعدًا، إذا جلس وأقعده غيره، ذكر معناه الجوهري، ﴿خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ﴾ والخلاف والمخالفة بمعنى،
383
ويستعمل خلافه بمعنى بعده، يقال: جلست خلاف فلان، وخلفه؛ أي: بعده، ومنه ﴿وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا﴾.
﴿فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ﴾؛ أي: ردك (١) الله، خطاب للنبي - ﷺ - بعدم جمعهم معه في مشاهد الخير بعد ذلك، ويؤخذ من ذلك: أن أهل الفسوق والعصيان لا يرافقون ولا يشاورون.
ورجع: إما لازم، فبابه جلس، ومصدره الرجوع، وإما متعد، وبابه قطع، ومصدره المرجع، كالرد، كما في "المختار" وفي "الكرخي" ومعنى الرجع تصيير الشيء إلى المكان الذي كان فيه، يقال: رجعته رجعا كقولك رددته ردًّا. اهـ.
﴿أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ وهي (٢) الخرجة إلى غزوة تبوك، ومرة مصدر، كأنه قيل أول خرجه دعيتم إليها، لأنها لم تكن أول خرجه خرجها الرسول - ﷺ - للغزاة، فلا بد من تقييدها، إذ الأولية تقتضي السبق، وقيل: التقدير: أول خرجه خرجها الرسول لغزوة الروم بنفسه، وقيل: أول مرة قبل الاستئذان.
﴿فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ﴾؛ أي: أقيموا وليس أمرًا بالقعود الذي هو نظير الجلوس، وإنما المراد منعهم من الخروج معه، قال أبو عبيدة: الخالف، الذي خلف بعد خارج، فقعد في رحله، وهو الذي يستخلف عن القوم، وقيل: المخالفين، المخالفين، من قولهم: عبد خالف؛ أي: مخالف لمولاه، وقيل: الأخساء الأدنياء، من قولهم: فلان خالفة قومه، لأخسِّم وأرذلهم.
ودلت هذه الآية على توقي صحبة من يظهر منه مكرٌ وخداع وكيد، وقطع العلاقة معه، والاحتراز منه، وقال قتادة: ذكر لنا أنهم كانوا اثثي عشر رجلًا.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآية أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع:
فمنهما: تأكيد المدح بما يشبه الذم في قوله: {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ
(١) الصاوي.
(٢) البحر المحيط.
384
وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِه} كأنه قال: ليس له صفة تكره وتعاب إلا أنه ترتب على قدومه إليهم هجرته عندهم إغناء الله إياهم بعد شدة الحاجة، وهذه ليست صفة ذم، فحينئذٍ ليست له صفة تُذم أصلًا، وهو من باب قول النابغة:
وَلاَ عَيْبَ فِيْهِمْ غير أنَّ سيُوْفَهُمْ بِهنَّ فُلُوْلٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ
ومن باب قول الآخر:
مَا نَقَمُوْا مِنْ بَنِيْ أُمَيَّةَ إِلَّا أَنَّهُمْ يَحْلَمُوْنَ إِنْ غَضِبُوْا
وَأنَّهُمْ سَادَةُ الْمُلُوْكِ وَلاَ يَصْلُحُ إِلَّا عَلَيْهِمُ الْعَرَبُ
وفي "البحر" قوله: ﴿وَمَا نَقَمُوا﴾ الجملة كلام أجري مجرى التهكم به، كما تقول: ما لي عندك ذنب، إلا أني أحسنت إليك، فإن فعلهم يدل على أنهم كانوا لِئامًا.
ومنها: اللف (١) والنشر المرتب في قوله: ﴿فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا﴾ فقوله: ﴿بَخِلُوا بِهِ﴾ راجع لقوله: ﴿لَنَصَّدَّقَنَّ﴾ وقوله: ﴿وَتَوَلَّوْا﴾ راجع لقوله: ﴿وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾.
ومنها: المقابلة في قوله: ﴿فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ﴾ وفي قوله: ﴿فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا﴾ وهي من المحسنات البديعية.
ومنها: جناس الاشتقاق بين يعلم وعلام في قوله: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾.
ومنها: أن التنوين في قوله: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ للتهويل والتفخيم.
ومنها: طباق السلب في قوله: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ﴾.
ومنها: المقابلة (٢) المعنوية بين قوله: ﴿فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ﴾، وقوله: ﴿وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا﴾ لأن الفرح من ثمرات المحبة.
(١) الفتوحات.
(٢) البحر المحيط.
385
ومنها: الجناس المغاير في قوله: ﴿يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا﴾.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ﴾ وقوله: ﴿فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿يَلْمِزُونَ﴾؛ لأن اللمز حقيقة في الإشارة بالعين ونحوها، ثم استعير للتعييب والتغيير.
ومنها: الجناس المماثل في قوله: ﴿فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ﴾ وفيه أيضًا من المحسنات البديعية المشاكلة.
ومنها: الاعتراض التذييلي في قوله: ﴿لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ﴾؛ لأنه كلام معترض من جهته تعالى، غير داخل تحت القول المأمور به، مؤكدٌ لمضمونه، كما في "أبي السعود".
ومنها: التعريض (١) بالمؤمنين بتحملهم المشاق العظيمة، في قوله: ﴿وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ﴾؛ أي: كرهوا أن يجاهدوا كالمؤمنين الذين بذلوا أموالهم وأنفسهم في الجهاد في سبيل الله، وآثروا ذلك على الدعة والخفض، وكره ذلك المنافقون.
ومنها: الزيادة والحذف في عدَّة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(١) البحر المحيط.
386
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (٨٤) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (٨٥) وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (٨٦) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (٨٧) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨٨) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٨٩) وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٩٠) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (٩٢) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٩٣)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا...﴾ مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (١) أمر رسوله فيما سبق، بإهانة المنافقين، وإذلالهم بمنعهم من الخروج معه إلى الغزوات.. أردف ذلك بذكر إهانة أخرى لهم، وهي منع الرسول أن يصلي على من مات منهم بعد إعلامه بحقيقة أمرهم، وفي مقدمتهم زعيمهم الأكبر عبد الله بن أبي والاثنا عشر الذين أرادوا اغتيال الرسول - ﷺ -.
قوله: ﴿وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ...﴾ الآية، مناسبة
(١) المراغي.
387
هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بيَّن أنَّ المنافقين عملوا الحيل، والتمسوا المعاذير للتخلف عن رسول الله - ﷺ -، والقعود عن الغزو.. أردف ذلك بأن أبان أنه إذا أنزلت سورة فيها أمر بالإيمان والجهاد مع الرسول - ﷺ -.. استأذن أولو الثروة والقدرة منهم في التخلف عن الغزو، وقالوا لرسول الله - ﷺ -: دعنا نكن مع الضعفاء والزَّمنى العاجزين عن القتال.
قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لمَّا قبلها: أنَّ أنه سبحانه تعالى لمَّا ذكر فيما سبق المعذورين، والذين كذبوا الله ورسوله، وذكر وعيدهم على سوء صنيعهم. أردف ذلك بذكر أصنافٍ ثلاثةٍ، أعذارها مقبولةٌ، ثم أردف هذا بذكر شر الأعذار، وهو استئذان الأغنياء.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا...﴾ سبب نزوله: ما روي عن ابن عمر، قال لما توفي عبد الله بن أبي بن سلول.. جاء ابنه إلى رسول الله - ﷺ -، فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه إياه فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام ليصلي، فقام عمر بن الخطاب، فأخذ بثوب رسول الله - ﷺ -، قال: يا رسول الله، أتصلي عليه، وقد نهاك ربك، أن تصلي على المنافقين؟ قال: "إنما قد خيرني الله، فقال: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً﴾. فقال عمر: إنه منافق فصلى عليه رسول الله - ﷺ -، فأنزل الله: ﴿وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ﴾ فترك الصلاة عليهم، وروي ذلك من حديث عمر وأنس وجابر وغيرهم.
قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ...﴾ الآية؛ سبب نزولها: ما أخرجه ابن أبي حاتم عن زيد بن ثابت قال: كنت أكتب لرسول الله - ﷺ -، فكنت أكتب براءة، فإني لواضع القلم على أذني، إذا أمرنا بالقتال، فجعل رسول الله - ﷺ - ينظر ما ينزل عليه، إذ جاءه أعمى، فقال: كيف بي يا رسول الله، وأنا أعمى؟ فنزلت ﴿لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ...﴾ الآية، وأخرج عن طريق العوفي عن ابن عباس، قال:
388
أمر رسول الله - ﷺ - أن ينبعثوا غازين معه، فجاءت عصابةٌ من أصحابه، فيهم عبد الله بن معقل المزني، فقال: يا رسول الله، احملنا، فقال: "والله لا أجد ما أحملكم عليه" فتولوا ولهم بكاءٌ، وعز عليهم أن يحبسوا عن الجهاد ولا يجدون نفقةً ولا محملًا، فأنزل الله عز وجل: ﴿وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ﴾ الآية، وقد ذكرت أسمائهم في المبهمات.
التفسير وأوجه القراءة
٨٤ - ﴿وَلَا تُصَلِّ﴾ يا محمد بعد الآن؛ أي: بعد عبد الله بن أبي ﴿عَلَى أَحَدٍ﴾ من هؤلاء المنافقين، الذين تخلفوا عن الخروج معك، وقوله: ﴿مَاتَ﴾ صفة لأحد، وقوله: ﴿أَبَدًا﴾ ظرف لتأييد النفي، منصوب بالنهي؛ أي: لا تصل أبدًا بعد اليوم على أحد مات منهم؛ لأن المقصود من الصلاة الدعاء للميت والاستغفار له، وهو ممنوع في حق الكفار ﴿ولَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ﴾؛ أي: ولا تقف عند قبره للدفن، أو الزيارة أو الدعاء له بالتثبيت، كما تقوم على قبور المؤمنين عند دفنهم، فإنه - ﷺ - كان إذا دفن الميت.. وقف على قبره ودعا له.
روى أبو داود والحاكم والبزار عن عثمان رضي الله عنه: كان النبي - ﷺ - إذا فرغ من دفن الميت. وقف عليه فقال: "استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يُسأل".
ثم بيَّن سبب نهيه عن الصلاة عليم ﴿إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ أي: لأنهم استمروا على الكفر بالله ورسوله في السِرِّ مدَّة حياتهم ﴿وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ﴾؛ أي: خارجون عن حظيرة الإسلام مفارقون أمر الله ونهيه، فليسوا أهلًا للصلاة عليهم، ولا للاستغفار لهم بالقيام عند قبورهم.
فإن قلت: لِمَ وصفهم بالفسق بعد أن وصفهم بالكفر؛ لأن الفسق أدنى حالًا من الكفر، فالكفر يشمله وغيره، فما الفائدة في وصفهم بكونهم فاسقين بعد وصفهم بالكفر؟.
قلتُ: إن الكفر قد يكون عدلًا في دينه، بأن يؤدِّي الأمانة ولا يضمر
389
لأحد سوءًا، وقد يكون خبيثًا في نفسه كثير الكذب والمكر والخداع، وإضمار السوء للغير، وهذا أمر مستقبح عند كل أحد، ولما كان المنافق بهذه الصفة الخبيثة.. وصفهم الله تعالى بكونهم فاسقين، بعد أن وصفهم بالكفر، ولما نزلت هذه الآية.. ما صلى رسول الله - ﷺ - على منافق، ولا قام على قبره بعدها.
روى أحمد والبخاري والترمذي وغيرهم عن ابن عباس، قال: سمعت عمر يقول: لما توفي عبد الله بن أبي.. دعي رسول الله - ﷺ - للصلاة عليه، فقام عليه، فلما وقف.. قلت: أتصلي على عدو الله، عبد الله بن أبي، القائل: كذا وكذا، والقائل: كذا وكذا؟ أعدِّد أيامه، ورسول الله - ﷺ -، يبتسم، حتى إذا أكثرت، قال: "يا عمر أخر عني، إني قد خيرت، قد قيل لي: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾ فلو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له.. لزدت عليها" ثم صلى عليه، ومشى معه حتى قام على قبره، إلى أن فرغ منه، فعجبت لي ولجرأتي على رسول الله - ﷺ -، والله ورسوله أعلم، فوالله ما كان إلا يسيرًا حتى نزلت هاتان الآيتان ﴿وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِه﴾ فما صلَّى رسول الله - ﷺ - على منافق بعده، حتى قبضه الله عز وجل.
وقد حكم كثير من العلماء (١)، كالقاضي أبي بكر الباقلاني، وإمام الحرمين والغزالي، وغيرهم بعدم صحة هذا الحديث، لمخالفته للآية من وجوه:
١ - جعل الصلاة على ابن أبي سببًا لنزول الآية، وسياق القرآن صريح في أنها نزلت في سفر غزوة تبوك، سنة ثمان، وابن أبي مات في السنة التي بعدها.
٢ - قول عمر للنبي - ﷺ -: وقد نهاك ربك أن تصلي عليه، يدل على أن النهي عن هذه الصلاة سابق لموت ابن أبي، وقوله بعده، فصلى عليه رسول الله - ﷺ -، فأنزل الله تعالى: ﴿وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾ صريح في أنه نزل بعد موته والصلاة.
(١) المراغي.
390
٣ - قوله إنه - ﷺ - قال: إن الله خيَّره في الاستغفار لهم وعدمه، إنما يظهر التخيير لو كانت الآية كالحديث، ولم يكن فيها التصريح بأنه لن يغفر الله لهم بسبب كفرهم، فـ (أو) فيها: للتسوية لا للتخيير.
وهناك (١) روايات أخرى في الصلاة على ابن أبي من طريق ابن عمر، ومن طريق جابر، وإنما ذكرنا هذا الحديث مع ما علمت من رأى أئمة الحديث فيه وحكمهم بأنه لا يقبل، لما ذكروا من الأسباب؛ لأنه قلما يخلو تفسير من ذكره، وقيل أن تجد من يشير إلى شيء مما يدل على ضعفه واضطرابه، لمخالفته لظاهر الآية، فرأينا أن نجعلك على بينةٍ من أمره، إذا أنت قرأته.

فصل


وقد وقع في الأحاديث (٢) التي تتضمن قصة موت عبد الله بن أبي بن سلول صورة اختلاف في الروايات، ففي حديث ابن عمر: أنه لما توفي عبد الله بن أبي.. أتى ابنه عبد الله إلى رسول - ﷺ -، فسأله أن يعطيه قميصه ليكفنه فيه، وأن يصلي عليه، فأعطاه قميصه، وصلَّى عليه، وفي حديث عمر بن الخطاب - من أفراد البخاري - أن رسول الله دعا له ولم يصل عليه، وفي حديث جابر: أن النبي - ﷺ - أتاه بعد ما أدخل في حفرته، فأمر به فأخرج فوضعه على ركبته، ونفث عليه من ريقه وألبسه قميصه.
ووجه الجمع بين هذه الروايات: أنه - ﷺ - أعطاه قميصه فكفن فيه، ثم إنه صلى عليه، وليس في حديث جابر ذكر الصلاة عليه، فالظاهر - والله أعلم - أنه - ﷺ - صلى عليه أولًا، كما في حديث ابن عمر، ثم إن رسول الله - ﷺ - أتاه ثانيًا، بعدما أدخل حفرته، فأخرجه منها، ونزع عنه القميص الذي أعطاه وكفن فيه، لينفث عليه من ريقه، ثم إنه - ﷺ - ألبسه قميصه بيده الكريمة، فعل هذا كله بعبد الله بن أبي تطييبًا لقلب ابنه عبد الله، فإنه كان من فضلاء الصحابة، وأصدقهم إسلامًا وأكثرهم عبادة، وأشرحهم صدرًا.
ويروى أن النبي - ﷺ - كُلِّم فيما فعل بعبد الله بن أبي فقال - ﷺ -: "وما يغني
391
عنه قميصي وصلاته من الله، والله إني كنت أرجو أن يسلم به ألف من قومه" ويروي أنه أسلم ألف من قومه لمَّا رأوه يتبرك بقميص النبي - ﷺ -، وفي رواية عن جابر، قال: لما كان يوم بدر، أتى بالأسارى وأتي بالعباس، ولم يكن عليه ثوب فنظر النبي - ﷺ - له قميصًا، فوجدو قميص عبد الله بن أبي مقدرًا عليه، فكساه النبي - ﷺ - إياه فلذلك نزع النبي - ﷺ - قميصه له. اهـ "الخازن".
٨٥ - ثم أكد ما تقدَّم من النهي عن الاغترار بالأموال والأولاد؛ لأن الأمر جد خطير، يحتاج إلى التوكيد إذ هما أعظم الأشياء جذبًا للقلوب، وجلبًا للخواطر للاشتغال بالدنيا، فيجب التحذير منهما مرةً بعد أخرى، فقال: ﴿وَلَا تُعْجِبْكَ﴾ يا محمد أموالهم وأولادهم؛ أي. كثرتها واغترارهم بها ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى بتمتيعهم بالأموال والأولاد ﴿أَنْ يُعَذِّبَهُمْ﴾ ويتعبهم ﴿بِهَا﴾؛ أي بمكابدتهم الشدائد في شأنها ﴿وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ﴾، أي: وتخرج أرواحهم ﴿وَهُمْ كَافِرُونَ﴾؛ أي: مغرورون بها عن نعيم الآخرة، أي: فيموتوا كافرين باشتغالهم بالتمتع بها.
وقد جاء (١) مثل هذا النص فيما سبق، إلا أن زيادة ﴿لا﴾ في الآية السابقة للنهي عن الإعجاب بكل من الأموال والأولاد على حدته، وهو شامل لمن كانت له إحدى المزيتين أو كلاهما، والنهي في هذه الآية عن الإعجاب بها مجتمعين، وهذا أدعى إلى الإعجاب بهما.

فصلٌ للكلام على هذه الآية في بحثين


البحث الأول: في وجه تكرارها (٢)، والحكمة فيه أن تجدد النزول له شأنٌ في تقرير ما نزل أولًا، وتأكيده وإرادة أن يكون المخاطب به على بالٍ، ولا يغفل عنه، ولا ينساه، وأن يعتقد أنَّ العمل به مهم، وإنما أعيد هذا المعنى لقوته فيما يجب أن يحذر منه، وهو أن أشد الأشياء جذبًا للقلوب والخواطر الاشتغال بالأموال والأولاد، وما كان كذلك يجب التحذير منه مرة بعد أخرى، وبالجملة
(١) المراغي.
(٢) الفتوحات.
فالتكرار يراد به التأكيد، والمبالغة في التحذير في ذلك الشيء الذي وقع الاهتمام به، وقيل أيضًا: إنما كرر هذا المعنى؛ لأنه أراد بالآية الأولى قومًا من المنافقين، كان لهم أموالٌ وأولاد عند نزولها، وبالآية الأخرى أقوامًا آخرين منهم.
البحث الثاني: في بيان وجه ما حصل من التفاوت في الألفاظ في هاتين الآيتين، وذلك أنه قال سبحانه وتعالى في الآية الأولى: ﴿فَلَا تُعْجِبْكَ﴾ بالفاء، وقال، هنا: ﴿وَلَا تُعْجِبْكَ﴾ بالواو، والفرق بينهما: أنه عطف الآية الأولى على قوله: ﴿وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ﴾ وصفهم بكونهم كارهين للإنفاق، لشدة المحبة للأموال والأولاد، فحسن العطف عليه بالفاء في قوله: فلا تعجبك، وأما هذه الآية فلا تعلق لها بما قبلها، فلهذا أتى بحرف الواو، وقال سبحانه وتعالى في الآية الأولى ﴿فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ﴾ بزيادة لا وأسقطها هنا، فقال: ﴿أَوْلَادُهُمْ﴾ والسبب فيه: أن حرف ﴿لا﴾ دخل هناك لزيادة التأكيد في شأن الأولاد، فيدل على أنهم كانوا معجبين بكثرة الأموال والأولاد، وكان إعجابهم بأولادهم أكثر من إعجابهم بأموالهم، وفي إسقاط حرف ﴿لا﴾ هنا دليل على أنه لا تفاوت بين الأمرين، وقال سبحانه وتعالى في الآية الأولى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ﴾ بزيادة حرف اللام، وقال هنا: ﴿أَن يُعَذِّبَهُمْ﴾ بإسقاطها وزيادة حرف أن، والسبب في ذلك، التنبيه على أنَّ التعليل في أحكام الله محال، وأنه أينما ورد حرف اللام، فمعناه: أن كقوله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ﴾ ومعناه: وما أمروا إلا بأن يعبدوا الله، وقال أيضًا في الآية الأولى ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ بزيادة لفظ الحياة، وقال هنا: ﴿فِي الدُّنْيَا﴾ بإسقاطه، والحكمة في إسقاطه هنا: التنبيه على أن الحياة الدنيا بلغت في الخسة إلى حيث إنها لا تستحق أن تذكر، ولا تسمى حياةً، بل يجب الاقتصار عند ذكرها على لفظ الدنيا، تنبيهًا على كمال دنائتها وخستها، فهذه جمل في ذكر الفرق بين هذه الألفاظ، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
٨٦ - ﴿وَإِذَا أُنْزِلَتْ﴾ عليك يا محمد ﴿سُورَةٌ﴾ من سور القرآن، كلا أو بعضًا
393
يحتمل أن يراد بالسورة بعضها؛ لأن إطلاق لفظ الجمع على البعض جائز، ويحتمل أن يراد جميع السورة، فعلى هذا المراد بالسورة سورة براءة؛ لأنها مشتملة على الأمر بالإيمان، والأمر بالجهاد بـ ﴿أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ﴾؛ أي: داوموا على إيمانكم بالله تعالى ﴿وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ﴾ - ﷺ - في المستقبل، ويصح أن تكون أن مصدرية، كما أشرنا إليه بتقدير الباء، ومفسرة لما في الإنزال من معنى القول والوحي، والقولان ذكرهما أبو السعود.
فإن قلت: كيف يأمرهم بالإيمان مع كونهم مؤمنين، فهو من باب تحصيل الحاصل؟ قلت: معناه: الأمر بالدوام على الإيمان وبالجهاد في المستقبل، وقيل: إن الأمر بالإيمان يتوجه على كل أحد، في كل ساعة، وقيل: إن هذا الأمر، وإن كان ظاهرهُ العموم، لكن المراد به الخصوص، وهم المنافقون، والمعنى حينئذ: إن أخلصوا الإيمان بالله، وجاهدوا مع رسوله، وإنما قدم الأمر بالإيمان على الأمر بالجهاد؛ لأن الجهاد بغير إيمان لا يفيد أصلًا، فكأنه قيل للمنافقين: الواجب عليكم أن تؤمنوا بالله أولًا، وتجاهدوا مع رسوله ثانيًا حتى يفيدكم ذلك الجهاد فائدة يرجع عليكم نفعها في الدنيا والآخرة.
والمعنى: وإذا أنزلت عليك يا محمَّد سورة من القرآن، مشتملةٌ على الأمر بإخلاص الإيمان، وعلى الأمر بالجهاد مع رسوله في المستقبل ﴿اسْتَأْذَنَكَ﴾ في التخلف عن الغزو ﴿أُولُو الطَّوْلِ﴾ وأصحاب الغنى ﴿مِنْهُمْ﴾؛ أي: من المنافقين أي: استأذنك أصحاب السعة في المال والقدرة على الجهاد بالبدن من رؤساء المنافقين وكبرائهم، كعبد الله بن أبي وجدٍّ بن قيس، ومعتب ابن قشير. وخصهم بالذكر؛ لأن الذم لهم ألزم، لكونهم قادرين على أهبة السفر والجهاد؛ أو لأن العاجز عن السفر والجهاد لا يحتاج إلى الاستئذان ﴿وَقَالُوا﴾؛ أي: قال أولوا الطول لك ﴿ذَرْنَا﴾؛ أي: أتركنا يا محمَّد عن الخروج معك ﴿نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ﴾ في البيوت من النساء والصبيان. وقيل: مع المرضى والزمنى: أي: إن تركتنا وسامحتنا من الخروج للغزو نكون مع الضعفاء من الناس، والساكنين
394
في البلد بعذر.
والمعنى: أنه كلما أنزلت سورةٌ، تدعو المنافقين ببعض آياتها إلى الإيمان باللهِ، والجهاد مع رسوله - ﷺ -.. استأذنك أولوا المقدرة على الجهاد، المفروض عليهم بأموالهم وأنفسهم في التخلف عن الجهاد، وقالوا: دعنا نكن مع القاعدين في بيوتهم من الضعفاء والزمنى، العاجزين عن القتال والنساء والصبيان، غير المخاطبين بالجهاد.
ونحو الآية قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ﴾ وفي هذا تصريح بجبنهم، ورضاهم لأنفسهم بالمذلة والهوان.
٨٧ - ﴿رَضُوا﴾؛ أي: رضي هؤلاء المنافقون لأنفسهم ﴿بِأَن يَكوُنُواْ﴾ في البلد ﴿مَعَ الْخَوَالِفِ﴾؛ أي: مع النساء اللاتي يخلفن الرجال في القعود في البيوت، جمع خالفة، وجوز بعضهم أن يكون جمع خالف، وهو من لا خير فيه؛ أي: أن يكونوا مع النساء اللاتي ليس عليهن فرض الجهاد، وهذا منتهى الجبن، وتعافه النفس الكريمة، التي لا ترضى بالمذلة، ثم بين العلة في قبولهم هذا الذل، فقال: ﴿وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾؛ أي: ختم على قلوب هؤلاء المنافقين، ومنعت من حصول الإيمان ﴿فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ﴾ ولا يفهمون مراد الله تعالى في الأمر بالجهاد وموافقة الرسول من السعادة، وما في التخلف عنه من الشقاوة.
والمعنى: أن الله تعالى قد ختم على قلوبهم، فلا تقبل جديدًا من العلم والموعظة غير ما استقر فيها واستحوذ عليها، وصار وصفًا لازمًا لها، لأن النفاق قد أثر فيها، بحسب سنة الله في الارتباط بين العقائد والأعمال، فهم لا يفهمون ما أمروا به فَهْم تدبر واعتبار، فيعملوا به.
٨٨ - والمقصود من الاستدراك: في قوله: ﴿لَكِنِ الرَّسُولُ﴾ إلى آخره، الإشعار بأن تخلف هؤلاء غير ضائر، فإنه قد قام بفريضة الجهاد من هو خير منهم، وأخلص نية على حد قوله: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا
بِكَافِرِينَ}؛ أي: ولكن الرسول محمد - ﷺ - ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ به وكانوا ﴿مَعَهُ﴾ في كل المهام الدينية ولا يفارقونه ﴿جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ﴾ وقاموا بالواجب خير قيام، عملًا بداعي الإيمان وأمر الله في القرآن ﴿وَأُولَئِكَ﴾ المجاهدون في سبيل الله ﴿لَهُمُ الْخَيْرَاتُ﴾؛ أي منافع الدارين، النصر والغنيمة في الدنيا، والجنة والكرامة في الآخرة؛ أي لهم الخيرات التى هى ثمرات الإيمان والجهاد من شرف النصر، ومحو كلمة الكفر، وإعلاء كلمة الله، وإقامة الحق والعدل، والتمتع بالغنائم، والسيادة في الأرض دون المنافقين الجبناء، الذين ألفوا الذلة والهوان، ولم يكونوا أهلًا للقيام بهذه الأعباء ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾؛ أي: هم الفائزون بسعادة الدنيا، وسعادة الآخرة، دون المنافقين الذين حرموا منهما بنفاقهم بما له من الأثر في أخلاقهم وأعمالهم.
٨٩ - وقوله: ﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ﴾ إلى آخره، كلام مستأنف مسوق لبيان ما لهم من الخيرات الأخروية؛ أي،: هيأ الله سبحانه وتعالى لهم في الآخرة ﴿جَنَّاتٍ﴾؛ أي: بساتين ﴿تَجْرِي﴾ وتسيل ﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾، أي: من تحت أشجارها وقصورها ﴿الْأَنْهَار﴾ الأربعة الماء واللبن والخمر والعسل حالة كونهم ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾؛ أي: ماكثين في تلك الجنات مكثًا مؤبَّدًا، لا نهاية له، لا يموتون ولا يخرجون منها ﴿ذَلِكَ﴾ المذكور من الخيرات والفلاح وإعداد الجنات، الموصوفة بتلك الصفة هو ﴿الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ والظفر الجسيم الذي لا فوز وراءه.
٩٠ - وقوله: ﴿وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ﴾ شروع في بيان أحوال منافقي الأعراب، إثر بيان أحوال منافقي أهل المدينة، والمعذرون: هم المعتذرون بالأعذار الباطلة الكاذبة ﴿مِنَ الْأَعْرَابِ﴾ هم سكان البوادي، وهم أخص من العرب، إذ العربي من تكلم باللغة العربية، سواء كان يسكن البادية أو الحاضرة، وهؤلاء (١) المعذرون هم أسد وغطفان استأذنوا في التخلف معتذرين بالجهد وكثرة العيال، وقيل: هم رهط عامر بن الطفيل، قالوا: إن غزونا معك.. أغارت طيءُ على أهالينا ومواشينا،
(١) المراغي.
396
فقال لهم رسول الله - ﷺ -: "قد أنبأني الله من أخباركم، وسيغنيني الله عنكم" واختلفت الروايات فيهم، بين قائل بصدقهم في الاعتذار، وقائل بكذبهم فيه، وظاهر كلام ابن عباس أنهم صادقون في اعتذارهم، وعليه يكون المراد بالذين كذبوا الله ورسوله جماعة غيرهم من المنافقين.
أي: وجاء إليك يا محمَّد المعذرون؛ أي: الذين أتوا بأعذار كاذبة، وتكلفوا عذرًا بباطل من الأعراب؛ أي: من سكان البوادي من بني غفار أو من أسد وغطفان على الخلاف فيه ﴿لِيُؤْذَنَ لَهُمْ﴾ في التخلف عن غزوة تبوك، فلم يعذرهم الله تعالى ﴿وَقَعَدَ﴾ عن الجهاد بغير إذن ﴿الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ في ادعائهم الإيمان وهم منافقوا الأعراب الذين لم يجيئوا إلى الرسول ولم يعتذورا.
وقال أبو عمرو بن العلاء (١): إن قومًا تكلفوا عذرًا بباطل، فهم الذين عناهم الله تعالى بقوله: ﴿وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ﴾ وتخلف آخرون لا لعذر، ولا لشبهة عذر جرأة على الله تعالى، فهم المراد بقوله تعالى: ﴿وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ وهم منافقوا الأعراب، الذين ما جاؤوا وما اعتذروا، وظهر بذلك أنهم كذبوا الله ورسوله، يعني: في ادعائهم الإيمان، فمنافقوا الأعراب قسمان: قسم جاء واعتذر بالأعذار الكاذبة، وقسمٌ لم يجىء ولم يعتذر.
والمعنى (٢): وجاء الذين يطلبون من النبي - ﷺ - أن يأذن لهم في التخلف عن الخروج إلى تبوك، امتثالًا للنفير العام من أولي التعذير، وقعد عن القتال وعن المجيء للاعتذار الذين أظهروا الإيمان بهما، كذبًا وإيهامًا على غير اعتقاد صادق، قال أبو عمرو: كان كلا الفريقين مسيئًا، فأوعد المكذبين وبعض المعتذرين بقوله: ﴿سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾؛ أي: سيصيب الذين كذبوا الله ورسوله من المنافقين والكاذبين من المعتذرين الذين في قلوبهم مرض عذاب أليم في الدنيا بالقتل والأسر، وفي الآخرة بالنار؛ أي: سيصيب الذين استمروا على الكفر منهم، لا من أسلم منهم عذاب أليم.
(١) الخازن.
(٢) البيضاوي.
397
وقرأ الجمهور: ﴿الْمُعَذِّرُونَ﴾ بفتح العين وتشديد الذال، وسيأتي لك بيان أصله في مبحث التصريف إن شاء الله تعالى، وقرأ ابن عباس وزيد بن علي والضحاك والأعرج وأبو صالح وعيسى بن هلال ويعقوب والكسائي في رواية عنه: ﴿الْمُعذِرُونَ﴾ من أعذر الرباعي، وقرأ مسلمة: ﴿الْمُعَذِّرُونَ﴾ بفتح العين، وتشديد الذال، من تعذر، بمعنى اعتذر، قال أبو حاتم: أراد المتعذرين والتاء لا تدغم في العين لبعد المخارج، وهي غلط منه أو عليه، وقرأ الجمهور: ﴿كَذَبُوا﴾ بالتخفيف؛ أي: في إيمانهم فأظهروا ضدَّ ما أخفوه، وقرأ أُبَيٌّ والحسن، في المشهور عنه، ونوحٌ وإسماعيل: ﴿كذَّبوا﴾ بالتشديد؛ أي: لم يصدقوه تعالى ولا رسوله، وردوا عليه أمره، والتشديد أبلغ في الذم.
٩١ - ولمَّا ذكر الله سبحانه وتعالى المنافقين الذين تخلفوا عن الجهاد، واعتذروا بأعذار باطلة.. عقبه بذكر أصحاب الأعذار الحقيقة الصحيحة وعذرهم، وأخبر: أن فرض الجهاد عنهم ساقط، فقال: ﴿لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ﴾ جمع ضعيف والضعيف: هو الصحيح في بدنه، العاجز عن الغزو، وتحمل مشاق السفر والجهاد، مثل الشيوخ والصبيان والنساء، ومن خلق في أصل الخلقة ضعيفًا نحيفًا، ويدل على أنَّ هؤلاء الأصناف هم الضعفاء: أنَّ الله سبحانه وتعالى عطف عليهم المرض فقال سبحانه ﴿وَلَا عَلَى الْمَرْضَى﴾ والمعطوف مغاير للمعطوف عليه، فأما المرضى.. فيدخل فيهم أهل العمى والعرج والزمانة، وكل من كان موصوفًا بمرض يمنعه من التمكن من الجهاد والسفر للغزو ﴿وَلَا عَلَى﴾ الفقراء العاجزين عن أهبة الغزو والجهاد ﴿الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ﴾ فيه من الزاد والراحلة والسلاح وسائر مؤونة السفر؛ لأن العاجز عن نفقة الغزو معذور ﴿حَرَجٌ﴾؛ أي: ليس على هؤلاء الأصناف الثلاثة حرج؛ أي: إثم في التخلف عن الغزو، وقال الإِمام الفخر الرازي: ليس في الآية أنه يحرم عليهم الخروج؛ لأن الواحد من هؤلاء لو خرج ليعين المجاهدين بمقدار القدرة، إما بحفظ متاعهم، أو بتكثير سوادهم، بشرط أن لا يجعل نفسه كلًّا ووبالًا عليهم، فإن ذلك طاعة مقبولة، ثم إنه تعالى شرط على الضعفاء في جواز التخلف عن الغزو شرطًا معينًا، وهو قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ﴾ بالإيمان به، والعمل بشريعته، وترك ما
398
يخالفها، كائنًا ما كان، ويدخل تحته دخولًا أوليًّا نصح عباده، ومحبة المجاهدين في سبيله، وبذل النصيحة لهم في أمر الجهاد، وترك المعاونة لأعدائهم بوجه من الوجوه، والقيام بمصالح بيوتهم، وإيصال الخير إلى أهاليهم، وإخلاص الإيمان والعمل لله تعالى، والاحتراز عن إفشاء الأراجيف وإثارة الفتن ﴿و﴾ نصحوا لـ ﴿رسوله﴾. بتصديق رسالته، وقبول ما جاء به في كل ما يأمر به، أو ينهى عنه، وموالاة من والاه، ومعاداة من عاداه، ومحبته وتعظيم سننه، وإحيائها بعد موته بما تبلغ إليه القدرة، وقد ثبت في الحديث الصحيح، أن النبي - ﷺ -، قال: "الدين النصيحة" ثلاثًا، قالوا: لمن؟ قال: "الله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم"، وقرأ أبو حيوة: ﴿إذا نصحوا الله ورسوله﴾ بنصب الجلالة وجملة قوله: ﴿مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ بالقول والفعل ﴿مِنْ سَبِيلٍ﴾ مُقرِّرةُ لمضمون ما سبق؛ أي: ليس على المعذورين المخلصين الناصحين من سبيل؛ أي: طريق عقاب، ومؤاخذةٍ على تخلفه؛ أي: ليس على من أحسن، فنصح لله ولرسوله، في تخلفه عن الجهاد بعذر قد أباحه الشارع، طريق يتطرق عليه فيعاقب عليه، والمعنى: إنه سد بإحسانه طريق العقاب عن نفسه.
و ﴿من﴾ في قوله (١) ﴿مِنْ سَبِيلٍ﴾ مزيدة للتأكيد، وعلى هذا المعنى المذكور فيكون لفظ ﴿الْمُحْسِنِينَ﴾ موضوعًا موضع الضمير الراجع إلى المذكورين سابقًا، كأنه قال: ما عليهم من سبيل، ويحتمل أن يكون المراد ما على جنس المحسنين من سبيل، وهؤلاء المذكورون سابقًا من جملتهم، فتكون الجملة معللة.
ويستنبط من قوله (٢): ﴿مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ﴾ أنَّ كلَّ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، مخلصًا من قلبه، ليس عليه سبيل في نفسه وماله، إلا ما أباحه الشرع بدليل منفصل، وجملة قوله: ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ﴾ لمن تخلف عن الجهاد بعذر ظاهر أباحه الشرع ﴿رَحِيمٌ﴾ بجميع عباده جملة تذييلية،
(١) الشوكاني.
(٢) الخازن.
399
ونحو الآية: قوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ وقوله: ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ﴾.
والحاصل (١): أن التكليف بالغزو ساقط عن أصناف ثلاثة:
١ - الضعفاء: وهم من لا قوة لهم في أبدانهم تمكنهم من الجهاد، كالشيوخ والعجزة والنساء والصبيان، وذوي العاهات التي لا تزول، كالكساح والعمى والعرج.
٢ - المرضى: وهم من عرضت لهم أمراض لا يتمكنون معها من الجهاد، وعذرهم ينتهي إذا شفوا منها.
٣ - الفقراء: الذين لا يجدون ما ينفقون منه على أنفسهم إذا ما خرجوا، ولا ما يكفي عيالهم، وقد كان المؤمنون يجهزون أنفسهم للقتال، فالفقير ينفق على نفسه، والغني ينفق على نفسه وعلى غيره بقدر سعته، كما فعلوا في غزوة تبوك.
والخلاصة: أن هذه الأصناف الثلاثة لا حرج عليهم؛ أي: لا ضيق عليهم ولا إثم في قعودهم عن الجهاد الواجب، على شرط أن ينصحوا لله ورسوله؛ أي: يخلصوا لله في الإيمان وللرسول في الطاعة، بعمل كل ما فيه مصلحة للأمة الإِسلامية، ولا سيما المجاهدين منها، من كتمان السر، والحث على البر، ومقاومة الخائنين - في السر والجهر.
روى البخاري ومسلم عن جابر، قال: بايعت رسول الله - ﷺ - على إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم ﴿مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ﴾؛ أي: ليس لأحد أدنى طريق يسلكها لمؤاخذة المحسنين، فكل السبل مسدودة دون الوصول إليهم.
(١) المراغي.
400
والخلاصة: أن كل ناصح لله ورسوله.. فهو محسن، ولا سبيل إلى مؤاخذة المحسن وإيقاعه في الحرج، ثم قفى ذلك بذكر الصفح عنهم، والتجاوز عن سيئاتهم فقال: ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾؛ أي: وهو سبحانه وتعالى كثير المغفرة، واسع الرحمة، يستر على المقصرين ضعفهم في إداء الواجبات، ما داموا مخلصين النصح لله ورسوله، ويدخلهم في زمرة الصالحين من عباده.
أما المنافقون المسيئون فلا يغفر لهم، ولا يرحمهم إلا إذا تابوا وأقلعوا عن النفاق الذي كان سببًا في ارتكاب هذه الآثام، وإسقاط التكليف عن هؤلاء المعذورين لا يستلزم عدم ثبوت ثواب الغزو لهم الذي عذرهم الله عنه مع رغبتهم إليه لولا حبسهم العذر عنه، ومنه حديث أنس عند أبي داود وأحمد، وأصله في "الصحيحين" أنَّ رسول الله - ﷺ -، قال: "لقد تركتم بعدكم قومًا، ما سرتم من مسير، ولا أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم واديًا، إلا وهم معكم فيه"، قالوا: يا رسول الله، وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ فقال: "حبسهم العذر" وأخرجه أحمد ومسلم من حديث جابر،
٩٢ - ثم ذكر الله سبحانه من جملة المعذورين من تضمنه قوله: ﴿وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ﴾ إلخ والعطف على جملة ﴿مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾؛ أي: ولا على الذين إذا ما أتوك، من سبيل، ويجوز أن يكون عطفًا على الضعفاء؛ أي: ولا على الذين إذا ما أتوك... إلخ حرجٌ.
والمعنى: أنَّ من جملة المعذورين هؤلاء الذين إذا ما أتوك لتحملهم، إلخ وقرأ معقل بن هارون: ﴿لنحملهم﴾ بنون الجماعة.
والحاصل: أن الله سبحانه وتعالى، لمَّا ذكر هذه الأقسام الثلاثة من المعذورين، أتبعه بذكر قسم رابع فقال: ﴿وَلَا﴾ حرج ولا إثم في التخلف عنك في الخروج إلى غزوة تبوك ﴿علَى﴾ الأقوام ﴿الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ﴾ على الرواحل، فيخرجوا معك، فلم تجد ما تحملهم عليه ﴿قُلْتَ﴾ لهم، ﴿لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ﴾ وجواب إذا قوله: ﴿تَوَلَّوْا﴾؛ أي: انصرفوا من مجلسك ﴿وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ﴾؛ أي: انصرفوا من عندك، والحال أن أعينهم تسيل من الدموع ﴿حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ﴾ في سبيل الله؛ أي: رجعوا من عندك، والحال
أنهم يبكون بكاءً شديدًا لأجل الحزن والأسف على عدم وجدانهم ما ينفقون ويركبون في خروجهم معك للجهاد في سبيل الله، وابتغاء مرضاته. وهؤلاء، وإن دخلوا في عموم الذين لا يجدون ما ينفقون للجهاد لفقدهم الرواحل، قد خصوا بالذكر اعتناءً بشأنهم، وجعلهم كأنهم قسم مستقل.
وعدم وجود ما يحملون عليه يدخل فيه مراكب النقل، البرية والبحرية والهوائية في هذا العصر، ويتحقق العذر بفقد ما يحتاج إليه منها في كل سفر بحسبه، ويفقد العذر بوجوده، أو المعنى: وليس على من أتوك يسألونك أن تحملهم إلى غزوة تبوك، ثم خرجوا من عندك يبكون لعدم وجدان ما ينفقون في الجهاد سبيل في لومهم، ولذلك سموا البكائين، وهم سبعة من الأنصار: معقل بن يسار، وصخر بن خنساء، وعبد الله بن كعب، وسالم بن عمير، وثعلبة بن عتمة، وعبد الله بن مغفل، وعبد الله بن زيد، فإنهم أتوا رسول الله - ﷺ -، فقال - ﷺ -: "لا أجد ما أحملكم عليه"، فتولوا وهم يبكون، فحمل العباس منهم اثنين، وعثمان ثلاثةً، زيادةً على الجيش الذي جهزه وهو ألفٌ، وحمل يامين بن عمرو النضريُّ اثنين.
٩٣ - ثم ذكر سبحانه وتعالى من عليه السبيل من المتخلفين، فقال: ﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ﴾؛ أي: طريق العقوبة والمؤاخذة، والطريق هي الأعمال السيئة ﴿علَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ﴾ في التخلف عن الغزو، والقعود عن الجهاد ﴿وَهُمْ أَغْنِيَاءُ﴾؛ أي: والحال أنهم واجدون للأهبة، قادرون على الخروج معك؛ أي إنما الإثم والحرج في التخلف على الذين يستأذنونك فيه، وهم قادرون على الجهاد، وعلى الإنفاق لغناهم، ثم ذكر السبب في استحقاقهم المؤاخذة، فقال: ﴿رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ﴾؛ أي: رضوا لأنفسهم بأن يكونوا مع الخوالف، والخالفين من النساء والأطفال والمُعذِّرين من المفسدين وهذه الجملة مستأنفة لبيان ما هو السبب لاستئذانهم من غير عذر، وهو رضاهم بالدناءة والانتظام في جملة الخوالف، إيثارًا للدعة والراحة، وجملة قوله: ﴿وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾؛ أي: ختم على قلوبهم، وأحاطت بهم خطاياهم وذنوبهم، بحسب سنن الله في
402
أمثالهم، معطوفة على جملة ﴿رَضُوا﴾؛ أي: سبب الاستئذان مع الغنى، أمران: أحدهما: الرضا بالصفقة الخاسرة، وهي أن يكونوا مع الخوالف، والثاني: الطبع من الله على قلوبهم ﴿فَهُمْ﴾ بسبب هذا الطبع ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ ما فيه الربح لهم حتى يختاروه على ما فيه الخسران؛ أي: لا يعلمون ما في الجهاد من الخير في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا.. فالفوز بالغنيمة والظفر بالعدو، وأما في الآخرة.. فالثواب والنعيم الدائم، الذي لا ينقطع فهم لا يعلمون حقيقة أمرهم، ولا سوء عاقبتهم، وما هو سبب ذلك من أعمالهم، فهم قد رضوا بالمهانة في الدنيا، بانتظامهم في سلك النساء والأطفال، إلا أنَّ تخلف الأفراد عن القتال الذي تسعى إليه الشعوب والأمم يعد من مظاهر الخزي والعار، وقد جعله الدين من أقوى آيات الكفر والنفاق، وأما سوء عاقبتهم، فيكفي فيه فضيحتهم في هذه السورة، كفاء إحجامهم عن الجهاد في سبيله، وما أعده لهم من العذاب العظيم، والخزي والنكال في نار الجحيم، وتقدم نظير هذه الجملة آنفًا، وذكره ثانيًا: للتأكيد، وعبر هنا بالعلم، وهناك بالفقه إشارة إلى أن معناهما واحد، إذ الفقه هو العلم، والعلم هو الفقه. ذكره الصاوي.
الإعراب
﴿وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (٨٤)﴾.
﴿وَلَا﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية ﴿لا﴾ ناهية جازمة ﴿تُصَلِّ﴾ فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة على ﴿عَلَى أَحَدٍ﴾ متعلق به ﴿مِنْهُمْ﴾: جار ومجرور صفة أولى لـ ﴿أَحَدٍ﴾ ﴿مَات﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿أَحَدٍ﴾، والجملة في محل الجر صفة ثانية لـ ﴿أَحَدٍ﴾ ﴿أَبَدًا﴾ ظرف متعلق بـ ﴿لا تصل﴾ وجملة قوله: ﴿وَلَا تَقُمْ﴾: معطوفة على جملة ﴿وَلَا تُصَلِّ﴾ ﴿عَلَى قَبْرِهِ﴾ متعلق به ﴿إنَّهُمْ﴾ ناصب واسمه ﴿كَفَرُوا﴾ فعل وفاعل ﴿بِاللَّهِ﴾ متعلق به ﴿وَرَسُولِهِ﴾ معطوف على الجلالة، وجملة ﴿كَفَرُوا﴾ في محل الرفع خبر ﴿إن﴾ وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة مسوقة، لتعليل ما قبلها ﴿وَمَاتُوا﴾: فعل
403
وفاعل، معطوف على ﴿إنَّهُمْ﴾، ﴿وَهُمْ فَاسِقُونَ﴾: جملة اسمية في محل النصب حال، من فاعل ﴿مَاتُوا﴾.
﴿وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (٨٥)﴾.
﴿وَلَا تُعْجِبْكَ﴾: فعل ومفعول ﴿أَمْوَالُهُمْ﴾: فاعل ﴿وَأَوْلَادُهُمْ﴾: معطوف عليه، والجملة مستأنفة ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها ﴿أَنْ يُعَذِّبَهُمْ﴾: ناصب وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾ ﴿بِهَا﴾: متعلق به، وكذا قوله: ﴿فِي الدُّنْيَا﴾: متعلق به، والجملة في تأويل مصدر، منصوب على المفعولية، تقديره: إنما يريد الله تعذيبه إياهم بها ﴿وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿يُعَذِّبَهُمْ﴾ ﴿وَهُمْ كَافِرُونَ﴾: جملة اسمية في محل النصب، حال من ضمير الغائبين في ﴿أَنْفُسُهُمْ﴾.
﴿وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (٨٦)﴾.
﴿وَإِذَا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿إِذَا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان ﴿أُنْزِلَتْ سُورَةٌ﴾؛ فعل ونائب فاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها ﴿أن﴾ حرف مصدر ونصب ﴿آمِنُوا﴾ فعل وفاعل في محل النصب بـ ﴿أن﴾ المصدرية ﴿بِاللَّهِ﴾ متعلق به، والجملة في تأويل مصدر مجرور بباء مقدوة، تقديره: وإذا أنزلت سورة بإيمانهم بالله ﴿وَجَاهِدُوا﴾: فعل وفاعل، معطوف على ﴿آمِنُوا﴾ ﴿مَعَ رَسُولِهِ﴾ ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿جَاهِدُوا﴾؛ أي: وإذا أنزلت سورة بالإيمان بالله وبالجهاد مع رسوله ﴿اسْتَأْذَنَكَ﴾ فعل ومفعول ﴿أُولُو الطَّوْلِ﴾ فاعل ومضاف إليه ﴿مِنْهُمْ﴾ حال من ﴿أُولُو الطَّوْلِ﴾ والجملة جواب ﴿إذا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذا﴾ مستأنفة ﴿وَقَالُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿اسْتَأْذَنَكَ﴾ عطفًا تفسيريًّا، فهو مغن عن بيان ما استأذنوا فيه، وهو القعود، ذكره أبو السعود، ﴿ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ﴾ مقول محكي، وإن
404
شئت قلت: ﴿ذَرْنَا﴾، فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة في محل النصب مقول القول ﴿نَكُنْ﴾ فعل مضارع ناقص، مجزوم بالطلب السابق، واسمه ضمير يعود على المتكلمين ﴿مَعَ الْقَاعِدِينَ﴾ خبر ﴿نَكُنْ﴾ وجملة ﴿نَكُنْ﴾ في محل لنصب مقول قالوا، على كونها جواب الطلب.
﴿رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (٨٧)﴾.
﴿رَضُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، أعني قوله: ﴿اسْتَأْذَنَكَ﴾ ﴿بِأَنْ﴾ ﴿الباء﴾ حرف جر ﴿أن﴾: حرف مصدر ﴿يَكُونُوا﴾ فعل مضارع ناقص، منصوب بـ ﴿أن﴾ ﴿والواو﴾: اسمها ﴿مَعَ الْخَوَالِفِ﴾ خبرها، وجملة ﴿يكون﴾ في تأويل مصدر، مجرور بالباء، تقديره: رضوا بكونهم مع ﴿الْخَوَالِفِ﴾ الجار والمجرور متعلق بـ ﴿رَضُوا﴾ ﴿وَطُبِعَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة ﴿عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ نائب فعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿رَضُوا﴾ ﴿فَهُمْ﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة تفريعية ﴿هم﴾ مبتدأ، وجملة ﴿لَا يَفْقَهُونَ﴾ خبره، الجملة معطوفة مفرعة على جملة طبع.
﴿لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨٨)﴾.
﴿لَكِنِ﴾ حرف استدراك، على محذوف، تقديره؛ إن تخلف هؤلاء ولم يجاهدوا، فقد جاهد مَنْ هو خير منهم، ذكر البيضاوي، ﴿الرَّسُولُ﴾ مبتدأ ﴿وَالَّذِينَ﴾ معطوف عليه ﴿آمَنُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول ﴿مَعَهُ﴾، متعلق بـ ﴿آمَنُوا﴾ ﴿جَاهَدُوا﴾ فعل وفاعل ﴿بِأَمْوَالِهِمْ﴾ متعلق به ﴿وَأَنْفُسِهِمْ﴾ معطوف عليه، والجملة الفعلية، في محل الرفع، خبر المبتدأ، والجملة الاسمية جملة استدراكية، لا محل لها من الإعراب ﴿وَأُولَئِكَ﴾ مبتدأ أول ﴿لَهُمُ﴾ خبر مقدم ﴿الْخَيْرَاتُ﴾ مبتدأ ثاني مؤخر، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره في محل الرفع، خبر للمبتدأ الأول، والجملة من المبتدأ الأولى وخبره، مستأنفة ﴿وَأُولَئِكَ﴾ مبتدأ ﴿هُمُ﴾ ضمير فصل ﴿الْمُفْلِحُونَ﴾ خبر، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها.
405
﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٨٩)﴾.
﴿أَعَدَّ اللَّهُ﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، مسوقة لبيان كونهم مفلحين ﴿لَهُمْ﴾ متعلق به ﴿جَنَّاتٍ﴾ مفعول به ﴿تَجْرِي﴾ فعل مضارع ﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾ متعلق به ﴿الْأَنْهَارُ﴾ فاعل والجملة الفعلية في محل الجر صفة لـ ﴿جَنَّاتٍ﴾ ﴿خَالِدِينَ﴾ حال من ضمير لهم ﴿فِيهَا﴾ متعلق به ﴿ذَلِكَ الْفَوْزُ﴾ مبتدأ وخبر ﴿الْعَظِيمُ﴾ صفة له، والجملة مستأنفة.
﴿وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٩٠)﴾.
﴿وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿مِنَ الْأَعْرَابِ﴾ حال من ﴿الْمُعَذِّرُونَ﴾ ﴿لِيُؤْذَنَ﴾ ﴿اللام﴾ حرف جر وتعليل ﴿يؤذن﴾: فعل مضارع، مغير الصيغة، منصوب بأن مضمرة جوازًا، بعد لام كي ﴿لَهُمْ﴾: جار ومجرور، نائب فاعل، والجملة في تأويل مصدر، مجرور باللام، تقديره: للإذن لهم، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿جَاءَ﴾ ﴿وَقَعَدَ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل، معطوف على ﴿جاء﴾ ﴿كَذَبُوا اللَّهَ﴾ فعل وفاعل ومفعول ﴿وَرَسُولَهُ﴾ معطوف على الجلالة، والجملة الفعليه، صلة الموصول ﴿سَيُصِيبُ الَّذِينَ﴾: فعل ومفعول ﴿كَفَرُوا﴾ صلة الموصول ﴿مِنْهُمْ﴾ حال من فاعل ﴿كَفَرُوا﴾ ﴿عَذَابٌ﴾: فاعل ﴿أَلِيمٌ﴾ صفة له، والجملة الفعلية مستأنفة.
﴿لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١)﴾.
﴿لَيْسَ﴾: فعل ماض ناقص ﴿عَلَى الضُّعَفَاءِ﴾: جار ومجرور، خبر ﴿لَيْسَ﴾ مقدم على اسمها ﴿وَلَا عَلَى الْمَرْضَى﴾: جار ومجرور، معطوف على الجار والمجرور قبله وكذا قوله: ﴿وَلَا عَلَى الَّذِينَ﴾: معطوف عليه ﴿لَا يَجِدُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول ﴿مَا﴾ موصولة، أو موصوفة، في محل النصب، مفعول ﴿يَجِدُونَ﴾ وجملة ﴿يُنْفِقُونَ﴾ صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها، والعائد، أو
406
الرابط محذوف، تقديره: ما ينفقونه ﴿حَرَجٌ﴾ اسم ﴿لَيْسَ﴾ مؤخر عن خبرها، وجملة ﴿لَيْسَ﴾ مستأنفة ﴿إِذَا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان ﴿نَصَحُوا لِلَّهِ﴾: فعل وفاعل ومفعول ﴿وَرَسُولِهِ﴾ معطوف على الجلالة، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب المحذوف، تقديره: إذ نصحوا لله ولرسوله ليس عليهم حرج، وجملة ﴿إِذَا﴾ معترضة، لا محل لها من الإعراب، لاعتراضها بين المتعاطفين ﴿مَا﴾: نافية ﴿عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ خبر مقدم ﴿مِنْ سَبِيلٍ﴾: مبتدأ مؤخر ﴿مِنْ﴾ زائدة، والجملة مستأنفة ﴿وَاللَّهُ﴾: مبتدأ ﴿غَفُورٌ﴾ خبر أول ﴿رَحِيمٌ﴾ خبر ثان، أو صفة له، والجملة مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (٩٢)﴾.
﴿وَلَا عَلَى الَّذِينَ﴾ معطوف على قوله: ﴿عَلَى الضُّعَفَاءِ﴾؛ أي: وعلى الذين إلخ ﴿حَرَجٌ﴾ أو معطوف على ﴿الْمُحْسِنِينَ﴾ أي: ليس عليهم سبيل ﴿إذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان ﴿مَا﴾: زائدة ﴿أَتَوْكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول فعل شرط لـ ﴿إِذَا﴾ ﴿لِتَحْمِلَهُمْ﴾ ﴿اللام﴾: لام كي ﴿تَحْمِلَهُمْ﴾: فعل ومفعول، منصوب بأن مضمرة، وفاعله ضمير، يعود على محمَّد، والجملة في تأويل مصدر، مجرور باللام، تقديره: لحملك إياهم، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿أَتَوْكَ﴾ ﴿قُلْتَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض، معطوفة بعاطف مقدر على جملة ﴿أَتَوْكَ﴾ على كونها فعل شرط لها، وفيه أوجه أخرى ﴿لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ﴾: مقول محكي، إن شئت قلت: ﴿لَا﴾: نافية ﴿أَجِدُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير، يعود على محمَّد ﴿مَا﴾ موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول ﴿أَجِدُ﴾ ﴿أَحْمِلُكُمْ﴾: فعل ومفعول، ﴿عَلَيْهِ﴾ متعلق به، وفاعله ضمير، يعود على محمَّد، والجملة صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها ﴿تَوَلَّوْا﴾: فعل وفاعل جواب إذا، وجملة إذا صلة الموصول ﴿وَأَعْيُنُهُمْ﴾ مبتدأ، وجملة ﴿تَفِيضُ﴾: خبره ﴿مِنَ الدَّمْعِ﴾: متعلق به، والجملة الاسمية، في محل النصب حال من فاعل
407
﴿تَوَلَّوْا﴾ ﴿حَزَنًا﴾ مفعول لأجله ﴿تَفِيضُ﴾ ﴿أَلَّا﴾ ﴿أن﴾ حرف نصب ومصدر ﴿لَّا﴾: نافية ﴿يَجِدُوا﴾ فعل وفاعل، منصوب بـ ﴿أن﴾ ﴿مَا﴾ موصولة أو موصوفة، في محل النصب مفعول ﴿يَجِدُوا﴾ وجملة ﴿يُنْفِقُونَ﴾ صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: ما ينفقونه، وجملة ﴿يَجِدُوا﴾ صلة ﴿أن﴾ المصدرية ﴿أن﴾ مع صلتها، في تأويل مصدر، منصوب عل كونه مفعولًا لأجله لحزنًا تقديره: حزنا لعدم وجدانهم ما ينفقون، فيكون علل فيض الدمع، بالحزن، وعلل الحزن، بعدم وجدان النفقة، وكون التقدير: وأعينهم تفيض من الدمع لأجل الحزن، لعدم وجدان ما ينفقونه.
﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٩٣)﴾.
﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ﴾: مبتدأ ﴿عَلَى الَّذِينَ﴾: خبره، والجملة مستأنفة ﴿يَسْتَأْذِنُونَكَ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول ﴿وَهُمْ أَغْنِيَاءُ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب، حال من فاعل ﴿يَسْتَأْذِنُونَكَ﴾ ﴿رَضُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، مسوقة لتعليل الاستئذان؛ أي: لأنهم رضوا ﴿بِأَنْ﴾ ﴿الباب﴾ حرف جر و ﴿أن﴾ مصدرية ﴿يَكُونُوا﴾: فعل ناقص، واسمه منصوب بـ ﴿أن﴾ المصدرية ﴿مَعَ الْخَوَالِفِ﴾: خبر ﴿يَكُونُوا﴾ وجملة ﴿يَكُونُوا﴾ في تأويل مصدر مجرور بالباء، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿رَضُوا﴾؛ أي: رضوا بكونهم مع الخوالف ﴿وَطَبَعَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، معطوف على جملة ﴿رَضُوا﴾ ﴿عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿طَبَعَ﴾ ﴿فَهُمْ﴾: ﴿الفاء﴾ عاطفة تفريعية ﴿هم﴾ مبتدأ، وجملة ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية، معطوفة مفرعة على جملة ﴿طَبَعَ اللَّهُ﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا﴾ أبدًا، اسم لزمان بعد زمان تكلمك إلى ما لا نهاية له، وهو هنا لتأييد النفي ﴿وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ﴾؛ أي: لا تقف عليه، ولا تتولَّ دفنه، من قولهم: قام فلان بأمر فلان، إذا كفاه أمره، وناب عنه فيه،
408
كما في "الخازن" ﴿أُولُو الطَّوْلِ﴾ والطول: بالفتح، الغنى والثروة، وقد يراد به الفضل والمنة، من طال عليه طولًا، ﴿وَقَالُوا ذَرْنَا﴾ أي: دعنا واتركنا، تقول: ذره؛ أي: دعه وهو يذره؛ أي: يدعه، ولا يقال منه: وذر، ولا واذر، ولكنه تركه، وهو تارك؛ لأنه من الأفعال التي ليس لها مصدر ولا ماض، ولا اسم فاعل.
﴿رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ﴾ رضوا أصله: رضيوا، بوزن فرحوا، استثقلت الضمة على الياء، ثم نقلت إلى ما قبلها، فالتقى ساكنان، ثم حذفت الياء، فصار رضوا، بوزن فعوا و ﴿الْخَوَالِفِ﴾ جمع خالفة من صفة النساء، وهذه صفة ذم، وقال النحاس: يجوز أن تكون الخوالف من صفة الرجال، بمعنى: أنها جمع خالفة، يقال: رجل خالفة؛ أي: لا خير فيه، فعلى هذا، يكون جمعًا للذكور باعتبار لفظه، وقال بعضهم: إنه جمع خالف، يقال: رجل خالف؛ أي: لا خير فيه، وهذا مردود، فإن فواعل لا يكون جمعًا لفاعل وصفًا لعاقل إلا ما شد، من نحو: فوارس ونواكس، وهوالك اهـ "سمين".
﴿وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ﴾: وهي جمع خير، فيشمل منافع الدنيا والدين، وقيل: المراد به: النساء الحسان، كقوله تعالى: ﴿فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (٧٠)﴾ ومفرده خيرة بالتشديد، ثم خفف مثل: هيئة وهينة ﴿وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ﴾ جمع معذر، من عذر في الأمر، إذا قصر فيه وتوانى ولم يجد، وهو يوهم أن له عذرًا فيما يفعل ولا عذر له، وقد يكون أصله المعتذرون، من اعتذر، والمعتذر إما صادق أو كاذب، وقال أبو حيان: قرأ الجمهور: ﴿الْمُعَذِّرُونَ﴾ بفتح العين وتشديد الذال، فاحتمل وزنين:
أحدهما: أن يكون فعَّل، بتضعيف العين، ومعناه: تكلف العذر ولا عذر له، والثاني: أن يكون وزنه افتعل، وأصله اعتذر، كاختصم، فأدغمت التاء في الذال، ونقلت حركتها إلى العين، فذهبت ألف الوصل، ويؤيِّده قراءة سعيد بن جبير: ﴿الْمُعَذِّرُونَ﴾ بالتاء، من اعتذر. ومن ذهب إلى أن وزنه افتعل الأخفش والفراء وأبو عبيد وأبو حاتم والزجاج وابن الأنباري ﴿مِنَ الْأَعْرَابِ﴾ بفتح
409
الهمزة: سكان البوادي الناطقون بالعربية، والعربي: من نطق بالعربية مطلقًا، سكن البوادي أم لا، فهو أعم من الأعراب، وبكسرها مصدر أعرب الكلام، إذا بين، ويطلق على المعنى المصطلح عند النحاة ﴿كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ أي أظهروا الإيمان بهما كذبًا، يقال: كذبته نفسه، إذا حدثته بالأماني والأوهام التي لا يبلغها، وكذبته عينه إذا أرته ما لا حقيقةً له ﴿لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ﴾ جمع ضعيف كشرفاء جمع شريف، وهو الهرم ومن خلق في أصل البنية شديد النحافة والضؤولة، بحيث لا يمكنه الجهاد ﴿وَلَا عَلَى الْمَرْضَى﴾: جمع مريض كجريح وجرحى، والمريض: من عرض له المرض، أو كان زمنًا، ويدخل فيه العمى والعرج ﴿وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ﴾ هم الفقراء ﴿وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ﴾ يقال: حمله على البعير أو غيره، إذا أركبه إياه، أو أعطاه إياه ليركبه، وكأنَّ الطالب لظهر يركبه، يقول: لمن يطلب منه: احملني ﴿وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ﴾؛ أي: تفيض فيضًا، مبتدأ من الدمع، أي: من كثرته وفي "البيضاوي" تفيض من الدمع، أي: يفيض دمعها، فإن ﴿من﴾ البيانية مع مجرورها، في محل نصب على التمييز المحول عن الفاعل، يقال: فاض يفيض فيضًا، إذا انصبَّ عن امتلاءٍ، والدمع ماء العين الملح الحار.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التكرار في قوله: ﴿رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ﴾ وفي قوله: ﴿وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ وفي قوله: (﴿وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ﴾ الآية.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿مَعَ الْخَوَالِفِ﴾؛ لأن الخوالف حقيقة في الأعمدة التي في أواخر بيوت الحيِّ مجاز في النساء، شبه النساء لكثرة لزومهن البيوت بالخوالف؛ أي: بالأعمدة التي تكون في البيوت، على طريقة الاستعارة التصريحية الأصلية، وقال الآلوسي: الخوالف: النساء المقيمات في دار الحي، بعد رحيل الرجال، ففيه استعارة، وإنما سمي النساء خوالف، تشبيهًا
410
لهن بالخوالف، وهي الأعمدة تكون في أواخر بيوت الحيِّ، فشبهت لكثرة لزوم البيوت بالخوالف التي تكون في البيوت، انتهى.
ومنها: الاستهجان والمبالغة في الذم لهم، في قوله ﴿بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ﴾؛ لأن الخوالف: النساء، فكونهم رضوا بأن يكونوا قاعدين مع النساء في المدينة أبلغ ذم لهم وتهجينٍ؛ لأنهم نزلوا أنفسهم منزلة النساء العجزة، اللواتي لا مدافعة عندهن ولا غنى. ذكره في "البحر المحيط".
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ﴾؛ لأن المراد بالمحسنين: المتخلفون للعذر، وهم الضعفاء والمرضى والفقراء، فحق العبارة أن يقال: ما عليهم من سبيل، وإنما أتى بالظاهر للدلالة على انتظامهم بنصحهم في سلك المحسنين اهـ "أبو السعود".
ومنها: ذكر الخاص بعد العام في قوله: ﴿وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ﴾ إلخ؛ لأنهم داخلون في الذين لا يجدون ما ينفقون، ذكرهم اعتناء بشأنهم، أفاده في "روح البيان".
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ﴾؛ لأن الفيض مجاز عن الامتلاء بعلاقة السببية؛ لأن الامتلاء سبب للفيض، الذي هو انصباب الدمع بكثرةٍ، فالمجاز في المسند أو الفيض على حقيقته، والمجاز في إسناده إلى العين للمبالغة، كجرى النهر، ذكره في "الفتوحات".
ومنها: الحذف والزيادة في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
411
شعر
الصَّبْرُ مِفْتَاحُ مَا يُرَجَّى وَكُلُّ خَيْرٍ بِهِ يَكُوْنُ
وَرُبَّمَا نِيْلَ بِاصْطِبَارٍ مَا قَبْلَ هَيْهَاتَ لاَ يَكُوْنُ (١)
(١) وكان الفراغ بحمد الله سبحانه وتعالى، من مُسوَّدة هذا المجلد الحادي عشر، في الليلة الثامنة، أوئل الليل من شهر الله المبارك، شهر شوال، عن شهور سنة عشرٍ وأربع مئة وألف من الهجرة النبوية (٨/ ١٠/ ١٤١٠ هـ) بحارة الرشد بالمسفلة، من مكة المكرمة، زادها الله شرفًا، وختم عمرنا فيها بالإيمان الصادق، والإسلام الكامل، وصلى الله عليه وسلم وبارك على خير خلقه محمَّد، وآله وصحبه وجنده آمين والحمد لله رب العالمين.
تَمَّ بعون الله تعالى وتوفيقه المجلد الحادي، من تفسير "حدائق الروح والريحان؛ في روابي علوم القرآن"، ويليه المجلد الثاني عشر، إن شاء الله تعالى، وأوله قوله تعالى: ﴿يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ...﴾ الآية، آية رقم (٩٤) من سورة التوبة.
تم تصحيح هذه النسخة بيد مؤلفة في تاريخ (١٧/ ١١/ ١٤١١ هـ).
412
تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن
تأليف
الشيخ العلامة محمد الأمين بن عبد الله الأرمي العلوي الهرري الشافعي
المدرس بدار الحديث الخيرية في مكة المكرمة
إشراف ومراجعة
الدكتور هاشم محمد علي بن حسين مهدي
خبير الدراسات برابطة العالم الإسلامي - مكة المكرمة
«المجلد الثاني عشر»
حقوق الطبع محفوظة للناشر
الطبعة الأولى
١٤٢١ هـ - ٢٠٠١ م
دار طوق النجاة
بيروت - لبنان
2
تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن
[١٢]
3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

4
شعرٌ
الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إكْمَالِهِ وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى إِفْضَالِهِ.
ثُمَّ صَلاَتُهُ مَعَ سَلاَمِهِ عَلَى مُحَمَّدٍ وَخَيْرِ آلِهِ
بِقَدْرِ الْكدِّ تُكْتَسَبُ الْمَعَالِيْ وَمَنْ طَلَبَ الْعُلاَ سَهِرَ اَللَّيَالِي
عَجَبًا لِلطَّالِبِ كَيْفَ يَنَامُ وَكُلُّ النَّوْمِ عَلَى الطَّالِبِ حَرَامُ
مَنْ رَامَ الْعِلْمَ بِغَيْرِ كَدِّ سَيُدْرِكُهَا حِيْنَ شَابَ الْغُرَابُ
آخر
وَاِنْ تَجِدْ عَيْبًا فَسُدَّ الْخَلَلاَ وَجَلَّ مَنْ لاَ عَيبَ فِيْهِ وَعَلاَ
آخر
5

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

حَمْدًا لِمَنْ وَفَّقَنا بشرحِ كتابه، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّه وآله وأصحابه، صلاة وسلامًا مستمِرَّينِ إلى يوم حشره وحسابه.
أما بعدُ: فإني لما فرغْتُ من الجزء العاشر من الكتاب والقرآن الكريم.. ابتدَرْتُ إلى الشروع في الجزء الحادي عشر مسابقةً للِمَنِيَّةِ، فقلت:
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٤) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (٩٦) الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩) وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (١٠١) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَةِرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ
7
لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠٦)}.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ...﴾ الآية، مناسبةُ هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (١) ذكر من يستحقون اللوم والمؤاخذة من المعذرين، ومن لا سبيل إلى مؤاخدتهم ولا حرج عليهم.. ذكر في هذه الآيات ما سيكون من أمر المنافقين الذين تخلفوا في المدينة وما حولها عن غزوة تبوك مع الرسول - ﷺ - بعد عودتهم.
قوله تعالى: ﴿سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (٢) أنهم يصدر منهم الاعتذار.. أخبر أنهم سيؤكدون ذلك الاعتذار الكاذب بالحلف، وأن سبب الحلف هو طلبهم أن يعرضوا عنهم، فلا يلوموهم ولا يوبخوهم.
قوله تعالى: ﴿الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (٣) أحوال العرب مؤمنيهم ومنافقيهم.. بيَّن في هذه الآيات الثلاث أحوال الأعراب مؤمنيهم ومنافقيهم كذلك.
قوله تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر فضائل الأعراب الذين يتخذون ما ينفقون قربات.. أردف ذلك بذكر منازل أعلى من منازلهم، وهي منازل السابقين من المهاجرين والأنصار، ثم ذكر بعدهم حال طائفة من المنافقين هي شر الجميع، مرنت على النفاق، وحذقت فنونه، وحال طائفة أخرى بين المنزلتين خلطت سيء العمل بأحسنه، وهؤلاء يرجى لهم التوبة والغفران من ربهم.
قوله تعالى: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ...﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (٤) شرح أحوال منافقي المدينة ثم أحوال
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
(٤) البحر المحيط.
8
منافقي الأعراب، ثم بين أن في الأعراب من هو مخلص صالح، ثم بيَّن رؤساء المؤمنين من هم.. ذكر في هذه الآية أن منافقين حولكم من الأعراب وفي المدينة لا تعلمونهم؛ أي: لا تعلمون أعيانهم، أو لا تعلمونهم منافقين.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ...﴾ الآيتين، سبب نزولهما: ما أخرجه ابن جرير بسنده أن عبد الله بن كعب قال: سمعت كعب بن مالك يقول: لما قدم رسول الله - ﷺ - من تبوك.. جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون، فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلًا، فقبل منهم رسول الله - ﷺ - علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله، وصدقته حديثي، فقال كعب: والله ما أنعم الله عليَّ من نعمة قط بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله - ﷺ - أن لا أكون كذبته فأهلك، كما هلك الذين كذبوا، إن الله قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي، شرَّ ما قال لأحد: ﴿سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥)﴾ إلى قوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ...﴾ الحديث، رجاله رجال الصحيح ونحوه في "صحيح البخاري" في ختام حديث كعب بن مالك في كتاب المغازي باب غزوة تبوك.
قوله تعالى: ﴿وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما (١) أخرجه ابن جرير عن مجاهد قال: إنها نزلت في بني مقرن من مزينة الذين نزلت فيهم: ﴿وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ﴾. وقال (٢) عبد الرحمن بن معقل بن مقرن المزني: كنا عشرة ولد مقرن، فنزلت فينا هذه الآية: يعني ﴿وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ...﴾ الآية، يريد الستة أو السبعة الإخوة على الخلاف في عددهم وبنيهم.
(١) لباب النقول.
(٢) البحر المحيط.
9
قوله تعالى: ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه (١) ابن مردويه وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس قال: غزا رسول الله - ﷺ -، فتخلف أبو لبابة وخمسة معه، ثم إن أبا لبابة ورجلين معه تفكروا، وندموا وأيقنوا بالهلاك، وقالوا: نحن في الظلال والطمأنينة مع النساء، ورسول الله - ﷺ - والمؤمنون معه في الجهاد، واللهِ لنوثقن أنفسنا بالسواري فلا نطلقها حتى يكون رسول الله - ﷺ - هو الذي يطلقها، ففعلوا وبقي ثلاثة نفر لم يوثقوا أنفسهم، فرجع رسول الله - ﷺ - من غزوته، فقال: من هؤلاء الموثقون بالسواري؟. فقال رجل: هذا أبو لبابة، وأصحاب له تخلفوا عنك، فعاهدوا الله أن لا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم. فقال: "لا أطلقهم حتى أومر بإطلاقهم"، فأنزل الله تعالى: ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ...﴾ الآية. فلما نزلت.. أطلقهم، وعذرهم وبقي الثلاثة الذين لم يوثقوا أنفسهم لم يذكروا بشيء، وهم الذين قال الله فيهم: ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ...﴾ الآية، فجعل أناس يقولون هلكوا إذ لم ينزل عذرهم، وآخرون يقولون: عسى الله أن يتوب عليهم حتى نزلت: ﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا﴾. وأخرج ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس نحوه، وزاد: فجاء أبو لبابة وأصحابه بأموالهم حين أطلقوا، فقالوا: يا رسول الله، هذه أموالنا فتصدق بها عنا، واستغفر لنا، فقال: "ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئًا"، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً...﴾ الآية.
التفسير وأوجه القراءة
٩٤ - وقوله: ﴿يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ﴾ كلام مستأنف (٢) لبيان ما يتصدرون له عند العود إليهم. روي أنهم كانوا بضعة وثمانين رجلًا، فلما رجع رسول الله - ﷺ -.. جاءوا يعتذرون إليه بالباطل، والخطاب لرسول الله وأصحابه؛ فإنهم كانوا يعتذرون إليهم أيضًا لا إليه فقط، وتخصيص الخطاب في قوله: ﴿لَا تَعْتَذِرُوا﴾ حيث لم يقل: قولوا، لما أن الجواب وظيفته فقط، وأنه متولي أمورهم ورئيسهم، وأما الاعتذار
(١) لباب النقول.
(٢) أبو السعود.
10
فكان له وللمؤمنين. اهـ "أبو السعود".
وقيل: إنما ذكره بلفظ الجمع تعظيمًا له - ﷺ -؛ أي: يعتذر هؤلاء المنافقون وهم بضعة وثمانون رجلًا كما مر آنفًا إليكم أيها الرسول والمؤمنون في التخلف عن الخروج معكم للغزو بالأعذار الكاذبة الباطلة ﴿إِذَا رَجَعْتُمْ﴾ من غزوة تبوك ﴿إِلَيْهِمْ﴾؛ أي: إلى أولئك المنافقين المتخلفين عنكم المعتذرين إليكم. وإنما قال (١): إليهم، ولم يقل إلى المدينة؛ لأن مدار الاعتذار هو الرجوع إليهم لا الرجوع إلى المدينة، وربما يقع الاعتذار عند الملاقاة قبل الوصول إليها. ثم أخبر الله سبحانه وتعالى رسول الله - ﷺ - بما يجيب به عليهم فقال: قُل لهم يا محمَّد ﴿لَا تَعْتَذِرُوا﴾ إلينا عن تخلفكم عنا بما عندكم من الأعذار الباطلة؛ لأننا ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ﴾؛ أي: لن نصدقكم فيما تقولون من المعاذير أبدًا، كأنهم ادعوا أنهم صادقون في اعتذارهم؛ لأن غرض المعتذر أن يصدَّق فيما يعتذر به، فإذا عرف أنه لا يصدق ترك الاعتذار؛ لأننا ﴿قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى من أخباركم؛ أي: قد أعلمنا الله فيما سلف بعض أحوالكم مما في ضمائركم من الخبث والنفاق والمكر. وإنما قال: ﴿نَبَّأَنَا﴾ ولم يقل: نبأني؛ إيماءً إلى أنه أَمَره أن ينبىء بذلك أصحابه، ولم يكن هذا النبأ خاصًّا به، كما أن اعتذارهم للجميع يقتضي أن يكونوا كلهم عالمين بما فضحهم الله به. وفي هذا من التشهير بهم والخزي لهم ما لا خفاء فيه ﴿وَسَيَرَى اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَمَلَكُمْ﴾ أي: ويرى الله سبحانه وتعالى ويعلم ما ستفعلونه من الأعمال فيما بعد، هل تقلعون عما أنتم عليه الآن من الشر أم تبقون عليه؟، فالتنفيس بالنسبة إلى عملهم لا إلى علم الله. وقوله: ﴿وَرَسُولُهُ﴾ معطوف على الاسم الشريف، ووسط مفعول الرؤية إيذانًا بأن رؤية الله سبحانه لما سيفعلونه من خير أو شر هي التي يدور عليها الإثابة أو العقوبة والمعنى (٢): وسيرى الله عملكم ورسوله فيما بعد، وهو الذي سيدل إما على إصراركم على النفاق أو على التوبة والإنابة إلى ربكم، وأما أقوالكم فلا يعتد بها مهما وكدتموها بالأيمان، فإن أنتم تبتم وأنبتم إلى ربكم، وشهد لكم
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
11
عملكم بصلاح طويتكم.. فإن الله يتقبل منكم توبتكم، ويغفر لكم حوبتكم، ويعاملكم الرسول بما يعامل به المؤمنين الذين أخلصوا، وصدقوا، وشهدت لهم أعمالهم بذلك وإن أنتم أبيتم إلا الإصرار على النفاق والاعتماد على رواج سوق الكذب بتلك الأيمان التي تحلفونها.. فسيعاملكم الرسول بما أمره الله به من جهادكم، والإغلاظ عليكم كإخوانكم الكفار المجاهرين.
وفي هذا: إيماء إلى الرغبة في توبتهم حين سنوح الفرصة ﴿ثُمَّ تُرَدُّونَ﴾؛ أي: ثم ترجعون يوم القيامة ﴿إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ﴾؛ أي: إلى عالم ما غاب، وخفي عنا من ضمائركم وغيرها ﴿و﴾ عالم ﴿الشهادة﴾ أي: عالم ما شوهد، وظهر لنا من ظواهركم وغيرها ﴿فَيُنَبِّئُكُمْ﴾؛ أي: فيخبركم عند وقوفكم بين يديه ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ في الدنيا، ويجازيكم عليه بما تستحقون، وهو ما أوعدكم به في كتابه الكريم في هذه السورة وفي غيرها: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾.
ولا يخفى ما في قوله (١): ﴿ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ من التهديد، والتخويف الشديد لما اشتمل عليه من وضع الظاهر موضع المضمر، لإشعار ذلك بإحاطته بكل شيء يقع منهم، مما يكتمونه، ويتظاهرون به، وإخباره لهم به ومجازاتهم عليه. ثم ذكر أن هؤلاء المعتذرين بالباطل سيؤكدون ما جاؤوا به من الأعذار الباطلة بالحِلف عند رجوع المؤمنين إليهم من الغزو وغرضُهم من هذا التأكيد: هو أن يُعرْض المؤمنون عنهم، فلا يوبخونهم، ولا يؤاخذونهم بالتخلف، ويظهرون الرضا عنهم،
٩٥ - كما يفيده ذكر الرضا من بعد فقال: ﴿سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ﴾؛ أي: سيؤكدون لكم اعتذارهم بما يحلفون به من كاذب الإيمان، ﴿إِذَا انْقَلَبْتُمْ﴾ من سفركم ورجعتم إليهم ﴿لِتُعْرِضُوا عَن﴾ العتب عليـ ﴿هم﴾ والتوبيخ لهم على قعودهم مع الخالفين، من العجزة والنساء والأطفال، وعلى البخل بالنفقة والمال، ﴿فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ﴾؛ أي: فأعرضوا عنهم، إعراضَ الإهانة
(١) الشوكاني.
والتحقير لا إعراض الصفح وقبول العذر.
روى مقاتل أن النبي - ﷺ - قال حين قدم المدينة: "لا تجالسوهم ولا تكلموهم. قال أهل المعاني: إن هؤلاء المنافقين طلبوا إعراض الصفح فأعطوا إعراض المقت. ثم ذكر العلة في سبب الإعراض عنهم فقال: ﴿إنَّهُمْ رِجْسٌ﴾؛ أي: إن بواطنهم خبيثة نجسة، وأعمالهم قبيحة؛ أي: إن في نفوسهم قذرًا معنويًّا يجب الاحتراس منه؛ خوف سريان عدواه وميل النفوس إليه، كما يحترز صاحب الثوب النظيف من الأقذار الحسية التي ربما تصيبه، إذا لم يحتط لها، ﴿وَمَأْوَاهُمْ﴾؛ أي: ومسكنهم في الآخرة ﴿جَهَنَّمُ﴾ ومصيرهم النار، يعني: وكفتْهم النارُ عتابًا وتوبيخًا، فلا تتكلفوا عتابهم ﴿جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ في الدنيا من الأعمال الخبيثة؛ أي: يجزون بها جزاء كسبهم، وهذا من تمام التعليل، فإن من كان من أهل النار.. لا يجدى فيه الدعاء إلى الخير؛ أي: ومرجعهم الأخير نار جهنم؛ جزاء لهم بما كسبوا في الدنيا من أعمال النفاق وغيرها، مما دنس نفوسهم، وزادهم رجسًا على رجسهم.
٩٦ - ثم زاد في تأكيد نفاقهم فقال: ﴿يَحْلِفُونَ لَكُمْ﴾ أي يحلف لكم هؤلاء المنافقون ﴿لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ﴾ بالحلف، وتستديموا معاملتهم بظاهر إسلامهم، وهذا أهم الأغراض لديهم، فلا حظّ لهم من إظهار الإِسلام سواه، ولو كان إسلامهم عن يقين واعتقاد.. لكان غرضهم الأول، إرضاء الله ورسوله. ﴿فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ﴾؛ أي: فإن رضيتم عنهم، أيها المؤمنون بما حلفوا لكم، وقبلتم عذرهم، وساعدتموهم على ما طلبوا.. فإن رضاكم عنهم لا يجديهم نفعًا. ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى: ﴿لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾؛ أي: الخارجين عن طاعته، وطاعة رسوله، بما في قلوبهم من النفاق، والشك؛ أي: فإن الله تعالى ساخط عليهم، بسبب فسوقهم، وخروجهم عن أمره ونهيه.
وفي هذا: إيماء إلى نهي المخاطبين عن الرضا عنهم، والاغترار بمعاذيرهم الكاذبة، وأن من يرضى عنهم، من المؤمنين.. يكون فاسقًا مثلهم، محرومًا من رضوان الله. وأن من يتوب منهم ويُرضي الله ورسوله.. يخرج من حدود سخطه، ويدخل في حظيرة مرضاته، ولا يعد حينئذٍ فاسقًا.
٩٧ - ولما ذكر الله سبحانه وتعالى أحوال المنافقين بالمدينة.. ذكر حال من كان خارجًا عنها من الأعراب، وبين أن كفرهم ونفاقهم أشد من كفر غيرهم، ومن نفاق غيرهم؛ لأنهم أقسى قلبًا وأغلظ طبعًا وأجفى قولًا وأبعد عن سماع كتب الله، وما جاءت به رسله، فقال: ﴿الْأَعْرَابُ﴾؛ أي: جنس أهل البدو ﴿أَشَدُّ كُفْرًا﴾ مجاهرًا ﴿وَنِفَاقًا﴾ مبطنًا من أهل الحضر، لتوحشهم، واستيلاء الهواء الحار اليابس عليهم، وبعدهم عن أهل العلم ﴿وَأَجْدَرُ﴾ وأحق بـ ﴿أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ﴾ وتكاليف وفرائض وأحكام ﴿مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلَى رَسُولِهِ﴾ محمد - ﷺ -، وهذا من باب وصف الجنس بوصف بعض أفراده، كما في قوله تعالى: ﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا﴾؛ إذ ليس كلهم كما ذكر، على ما ستحيط به خبرًا، كما ذكره "أبو السعود": أي: إن طبيعة البداوة اقتضت أمرين:
١ - أن كفارهم ومنافقيهم أشدّ كفرًا ونفاقًا من أمثالهم، من أهل الحضر، ولا سيما، من يقيم منهم في المدينة، فهم أغلظ طباعًا، وأقسى قلوبًا؛ لأنهم أفنوا جلَّ أعمارهم في رعي الأنعام، وحمايتها من ضواري الوحوش، إلَّا أنهم محرومون من العلوم الكسبية، والآداب الاجتماعية.
٢ - أنهم أحق وأحرى من أهل الحضر، بأن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله، من الهدى والبينات في كتابه، وما أتاه من الحكمة التي بين بها تلك الحدود؛ تارة بالقول، وأخرى بالفعل، وكان صحابته في المدينة وما حولها، يتلقون عنه الكتاب حين نزوله، ويشهدون سنته في العمل به، ويرسل عمّاله إلى البلاد التي افتتحت، يبلغون الناس القرآن، ويحكمون به وبسنّة رسوله المبينة له، وكلّ هذا لم يكن مستطاعًا لأهل البوادي، ومن ثم كان الجهل فيهم أكثر لحال المعيشة البدوية.
روى أبو داود والبيهقي، عن أبي هريرة مرفوعًا: "من بدا جفا، ومن اتبع الصّيد غفل، ومن أتى أبواب السلطان افتتن، وما ازداد أحد من سلطانه قربا إلا ازداد من الله بعدًا". ذاك أن السلاطين قلما يرضون عمن يصارحهم القول، ويؤثرهم بالنصح، ولا يزداد منهم قربًا، إلا المراؤون، الذين يعينونهم على الظلم، ويثنون عليهم بالباطل.
فإن قلت: وصفُ العرب بأنهم جاهلون بذلك، ينافي صحةَ الاحتجاج بألفاظهم وأشعارهم على كتاب الله تعالى، وسنّة رسوله - ﷺ -؟
قلتُ: لا منافاة؛ إذ وصفهم بالجهل إنما هو في أحكام القرآن - كما أشرنا في الحل - لا في ألفاظه، ونحن لا نحتج بلغتهم في بيان الأحكام، بل في بيان معاني الألفاظ؛ لأن القرآن والحديث جاءا بلغتهم اهـ "كرخي".
﴿وَاَللهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلِيمٌ﴾ بما في قلوب خلقه، ﴿حَكِيمٌ﴾ فيما فرض من فرائضه؛ أي: واسع العلم بشؤون عباده، وأحوالهم، من إيمان وكفر وإخلاص ونفاق، تام الحكمة فيما شرعه لهم، وفي جزائهم، من نعيم مقيم، أو عذاب أليم.
٩٨ - ثم قسم سبحانه الأعراب إلى قسمين:
القسم الأول منهما: ما ذكره بقوله: ﴿وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ﴾ أي يعد ﴿مَا يُنْفِقُ﴾؛ أي: يصرفه في سبيل الله، ويتصدق به، ﴿مَغْرَمًا﴾؛ أي: غرامةً وخسرانًا؛ إذ لا يحتسبه قربة عند الله، ولا يرجو عليه ثوابًا، وإنما ينفق رياءً، أو تقيةً، والمغرم التزام ما لا يلزم؛ أي: ومن الأعراب ناس كانوا ينفقون أموالهم في الجهاد رياءً وتقيةً، ويعدّون ذلك من المغارم التي يجب على المرء أداؤها طوعًا أو كرهًا، لدفع المكروه عن أنفسهم، أو قومهم، ولا منفعة لهم فيها، لا في الدنيا، وهو واضح، ولا في الآخرة؛ لأنهم لا يؤمنون بالبعث. قال الضحاك: وهم بنو أسد وغطفان.
﴿وَيَتَرَبَّصُ﴾؛ أي: ينتظر ﴿بِكُمُ﴾، أيها المؤمنون، ﴿الدَّوَائِرَ﴾؛ أي: دوائر الزمان، وصروفه، وتقلباته عليكم؛ أي: ينتظر أن تتقلب الأمور عليكم، بموت الرسول - ﷺ -، فينعدم الإِسلام بموته، أو بغلبة المشركين عليكم، فتذهب قوتكم، فيتخلص من إعطاء الصدقة، والدوائر، جمع دائرة وهي، الحالة المنقلبة عن النعمة، إلى البليّة، وأصلها ما يحيط بالشيء، ودوائر الزمان، نوبه وتصاريفه ودوله، وكأنها لا تستعمل إلا في المكروه. والمعنى؛ أي: وينتظرون أن تحُلَّ بكم نوائب الزمان، وأحداثه التي تدور بالناس، وتحيط بهم، فتبدل قوتكم ضعفًا وانتصارَكم هزيمةً، فيستريحوا من أداء هذه المغارم لكم، إذ يستغنون عن إظهار
الإِسلام نفاقًا، وقد كانوا يتوقعون ظهور المشركين واليهود على المؤمنين، فلما أعيتهم الحيل.. صاروا ينتظرون موت النبي - ﷺ -؛ ظنًّا منهم، أن الإِسلام يموت بموته. ثم دعا سبحانه وتعالى عليهم بقوله: ﴿علَيْهِمْ﴾؛ أي: على أولئك الأعراب، الذين يتربصون بكم الدوائر، لا على غيرهم، ﴿دَائِرَةُ السَّوْءِ﴾؛ أي: دائرةُ البلاء والحُزن والمصيبة والعذاب، وهو من إضافة الموصوف إلى صفته؛ أي: عليهم الدائرةُ السيئة، والمصيبة الشديدة، والعاقبة القبيحة؛ والمعنى: أنّ عليهم وحدهم الدائرة السوء، تحيط بهم دون المؤمنين الذين يتربصونها بهم، وليس للمؤمنين عاقبة، إلَّا ما يسرهم من نصر الله، وتوفيقه لهم، وما يسوء أعداءهم، من خذلان وخيبة وتعذيب لهم في الدنيا قبل الآخرة.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو (١): ﴿السَّوْءِ﴾ هنا وفي سورة الفتح ثانية بالضم. وباقي السبعة بالفتح. فالفتح مصدر قال الفراء: سوأته سوأً ومساءة وسوائية. والضمُّ الاسم وهو الشر والعذاب. والفتح ذم الدائرة. وهو من باب إضافة الموصوف إلى صفته، وُصِفَتْ الدائرة بالمصدر، كما قالوا: رجل سوء، في نقيض رجل صدق. وقال المبرد: ﴿السوء﴾ بالفتح الرداءة، ولا يجوز ضم السين في رجل سوء، قاله أكثرهم، وقد حُكيَ بالضم.
﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى: ﴿سَمِيعٌ﴾ لما يقولونه، مما يعبر عن شعورهم، واعتقادهم في نفقاتهم؛ إذ تحدثوا بذلك فيما بينهم، ﴿عَلِيمٌ﴾ بما يضمرونه في سرائرهم، وسيحاسبهم على ما يسمع ويعلم، من قول وفعل، ويجزيهم به.
٩٩ - وبعد أن بين سبحانه القسم الأول من الأعراب، وهم المنافقون.. ذكر القسم الثاني منهما: وهم المؤمنون الصادقون. ﴿وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر﴾ في السر والعلانية؛ أي: ومن الأعراب من يؤمن بالله، ويثبت له القدرة، وكمال التصرف في الكون، ويؤمن بمجيء اليوم الآخر، الذي تجازى فيه كل نفس بما كسبت. قال مجاهد: هم بنو مقرن بن مزينة، وهم الذين قال فيهم:
(١) البحر المحيط.
16
﴿وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ﴾. ﴿وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ﴾؛ أي: ويجعل ما يتصدق به ﴿قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ﴾ تعالى، أي: سببًا لقربه عند الله تعالى، ووسيلة لحصول مرضاته تعالى له، ﴿وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ﴾ - ﷺ - معطوف على قربات؛ أي: ويتخذ ما ينفقه سببًا لحصول دعواته - ﷺ - له؛ لأنه - ﷺ - كان يدعو للمتصدقين، بالخير والبركة ويستغفر لهم؛ أي: يقصد بصدقاته، حصول مرضاة الله تعالى له، وحصول دعواته له، وقال أبو البقاء: ﴿وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ﴾ معطوف على ما ينفق تقديره، ويتخذ صلوات الرسول قربات عند الله. انتهى. والقربات (١). جمع قربة، وهو ما يتقرب به إلى الله تعالى، تقول منه قربت لله قربانًا. والجمع قرب وقربات، والمعنى، أنه يجعل ما ينفقه سببًا لحصول القربات، ﴿عند الله و﴾ سببًا لـ ﴿صلوات الرسول﴾؛ أي: لدعوات الرسول لهم.
ثم إنه سبحانه بين بأن ما ينفقه هذا القسم من الأعراب، تقربًا إلى الله مقبول، واقع على الوجه الذي أرادوه فقال: ﴿أَلَا﴾؛ أي: انتبهوا ﴿إِنَّهَا﴾؛ أي: إن نفقتهم، ﴿قُرْبَةٌ لَهُمْ﴾ إلى الله في الدرجات، ثم فسر سبحانه القربة بقوله: ﴿سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ﴾ تعالى، ﴿في رَحْمَتِهِ﴾؛ أي: في جنته التي هي محل الرحمة الواسعة الدائمة، أي (٢): وقد بين الله تعالى جزاءهم، على ما انطوت عليه نفوسهم، من صدق الإيمان وإخلاص النية في الإنفاق في سبيل الله، فأخبر بقبول نفقتهم، وإثابتهم عليها، فقال: ﴿أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ﴾؛ أي: ألا إن تلك النفقة التي
اتخذت لهم، قد تقبلها الله، وأثاب عليها بما وعد به في قوله: ﴿سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ﴾؛ أي: سيرحمهم الله تعالى برحمته الخاصة بمن رضي عنهم، وهي
هدايتهم إلى الصراط المستقيم الذي يوصلهم إلى جنات النعيم. والمراد بإدخالهم في الرحمة؛ أن تكون محيطة بهم شاملة لهم، وهم مغمورون فيها وهذا أبلغ في إثباتها لهم من مثل قوله: ﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ﴾. والسين في ﴿سَيُدْخِلُهُمُ﴾، للدلالة على تحقق الوقوع ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى: ﴿غَفُورٌ﴾ لسيّئاتهم، ﴿رَحِيمٌ﴾ بهم، حيث وفقهم لهذه الطاعات؛ أي: إنه تعالى، واسع
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
17
المغفرة والرحمة، لمن يخلصون في أعمالهم، فهو يغفر لهم، ما فرط منهم من ذنب، أو تقصير، ويرحمهم بهدايتهم، إلى خير العمل، وحسن المصير. وهذا وعد منه تعالى لهم بواسع الرحمة والغفران، كما أن قوله: ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾، تهديد للأولين، عقب الدعاء عليهم.
وقرأ ورش (١): ﴿قُرُبة﴾ بضم الراء، وباقي السبعة: بالسكون، وهما لغتان، ولم يختلفوا في قربات بالضم، فإن كان جمع قربة.. فجاء بالضم على الأصل في الوضع وإن كان جمع قربة بالسكون.. فجاء بالضم إتباعًا لما قبله كما قالوا: ظلمات في جمع ظلمة. وهذا القسم الأخير قال (٢) مجاهد: هم بنو مقرن من مزينة. وقال الكلبي: هم أسلم وغفار وجهينة.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "أرأيتم إن كان جهينة ومزينة وأسلم وغفار خيرًا من بني تميم وبني أسد وبني عبد الله بن غطفان، ومن بني عامر بن صعصعة" فقال رجل: خابوا وخسروا، قال: "نعم هم خير من بني تميم وبني أسد وبني عبد الله بن غطفان، ومن بني عامر بن صعصعة" متفق عليه.
وفي رواية أن الأقرع بن حابس، قال للنبي - ﷺ -: إنما تابعك سراقُ الحجيج، من أسلم وغفار ومزينة، وأحسبه قال: وجهينة، فقال النبي - ﷺ -: أرأيت إن كان أسلم وغفار ومزينة، وأحسبه قال: وجهينة خيرًا من بني تميم، وبني عامر وأسد وغطفان قال: خابوا وخسروا، قال: "نعم".
وعن أبي هريرة أن النبي - ﷺ - قال: "أسلم سالمها الله وغفار غفر الله لها". متفق عليه. زاد مسلم في رواية له: "أما إني لم أقلها لكنْ الله قالها". وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله، - ﷺ -: "قريش والأنصار وجهينة ومزينة وأسلم وأشجع وغفار موالي، ليس لهم مولى دون الله ورسوله"، متفق عليه.
١٠٠ - ولما ذكر الله سبحانه وتعالى أصناف الأعراب.. ذكر المهاجرين والأنصار، وبين أن منهم السابقين إلى الهجرة، وأن منهم التابعين لهم، فقال: ﴿وَالسَّابِقُونَ﴾ إلى الإِسلام
(١) البحر المحيط.
(٢) الخازن.
18
والإيمان ﴿الْأَوَّلُونَ﴾ في الهجرة، والنصرة حالة كونهم، ﴿مِنَ الْمُهَاجِرِينَ﴾؛ أي: من الذين هاجروا من مكة إلى المدينة، ﴿و﴾ حالة كونهم من، ﴿الأنصار﴾؛ أي: من الذين نصروا النبي - ﷺ -، وآووه، وهم أهل المدينة، من الأوس والخزرج، ﴿وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ﴾؛ أي: والذين اتبعوا السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، في الهجرة والنصرة حالة كونهم ملتبسين، ﴿بِإِحْسَانٍ﴾؛ أي: بعمل صالح ونية صادقة، قيل: هم بقية المهاجرين والأنصار، سوى السابقين الأولين، فعلى هذا القول، يكون الجميع من الصحابة. وقيل: هم الذين سلكوا سبيل المهاجرين والأنصار، في الإيمان والهجرة والنصرة إلى يوم القيامة، وخبر المبتدأ، قوله: ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ﴾؛ أي: أكرمهم الله تعالى بقبول طاعاتهم، وأعمالهم الحسنة، ﴿وَرَضُوا عَنْهُ﴾ سبحانه وتعالى، بما أفاض عليهم من نعمه الدينية والدنيوية.
واختلف العلماء (١) في السابقين الأولين من المهاجرين. قيل: هم الذين صلوا إلى القبلتين، وهو قول سعيد بن المسيب وطائفة. وقيل: هم الذين شهدوا بيعة الرضوان، وهي بيعة الحديبية، وهو قول: الشعبي، أو هم الذين شهدوا بدرًا، وهو قول محمَّد بن كعب وعطاء بن يسار. ولا مانع من حمل الآية على هذه الأصناف كلها. قال أبو منصور البغدادي: أجمع أصحابنا على أن أفضلهم الخلفاء الأربعة، ثم الستة الباقون منهم، ثم البدريون، ثم أصحاب أُحُدْ ثمَّ أهل بيعة الرضوان بالحديبية.
وأما السابقون من الأنصار (٢): فهم الذين بايعوا رسول الله، - ﷺ -، ليلة العقبة الأولى، وكانوا ستة أنفار، ثم أصحاب العقبة الثانية من العام المقبل، وكانوا اثني عشر رجلًا، ثم أصحاب العقبة الثالثة، وكانوا سبعين رجلًا، فهؤلاء سباق الأنصار. ثم بعث رسول الله، - ﷺ -، مصعب بن عمير إلى أهل المدينة، يعلمهم القرآن. فأسلم على يده خلق كثير، من الرجال والنساء والصبيان من أهل المدينة، وذلك قبل أن يهاجر رسول الله - ﷺ - إلى المدينة.
(١) الشوكاني.
(٢) الخازن.
19
والحاصل (١): أن الله سبحانه وتعالى، ذكر في هذه الآية ثلاث طبقات من الأمة هي خيرها:
١ - السابقون الأولون من المهاجرين، وهم الذين هاجروا قبل صلح الحديبية، وقد كان المشركون يضطهدون المؤمنين، ويقاتلونهم في دار الهجرة وما حولها، ولا يمكنون أحدًا من الهجرة متى كان ذلك في طاقتهم، ولا منجاة للمؤمنين من شرهم، إلا بالفرار أو الجوار، فالذين هاجروا في ذلك الوقت.. كانوا من المؤمنين الصادقين، وأفضل هؤلاء الخلفاء الأربعة، ثم العشرة الذين بشرهم النبي - ﷺ - بالجنة.
٢ - السابقون الأولون من الأنصار، وهم الذين بايعوا النبي - ﷺ - عند العقبة، في منى في المرة الأولى، سنة إحدى عشرة من البعثة، وكانوا سبعة، وفي المرة الثانية وكانوا سبعين رجلًا وامرأتين.
٣ - الذين اتبعوا هؤلاء السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار في الهجرة والنصرة، حال كونهم محسنين، في أفعالم وأقوالهم فإذا اتبعوهم في ظاهر الإِسلام.. كانوا منافقين مسيئين، غير محسنين في هذا الاتباع وإذا تبعوهم محسنين في بعض أعمالهم ومسيئين في بعض.. كانوا مذنبين.
﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾؛ أي: هؤلاء المذكورون جميعًا رضي الله سبحانه وتعالى عنهم في إيمانهم وإسلامهم، فقبل طاعتهم، وتجاوز عن زلاتهم، وبهم أعز الإِسلام، ونكل بأعدائه من المشركين، وأهل الكتاب، ورضوا عنه بما أسبغ عليهم من نعمه الدينية والدنيوية، فأنقذهم من الشرك، وهداهم من الضلال، وأعزهم بعد الذل، وأغناهم بعد الفقر.
وقوله: ﴿وَأَعَدَّ لَهُمْ﴾ معطوف على رضي؛ أي: وهيأ لهؤلاء المذكورين، من الطبقات الثلاث في الآخرة، ﴿جَنَّاتٍ﴾؛ أي: بساتين ﴿تَجْرِي﴾ وتسيل ﴿تَحْتَهَا﴾؛ أي: تحت أشجارها وغرفها. وقرأ ابن كثير: ﴿من تحتها﴾ بزيادة
(١) المراغي.
20
﴿من﴾ ومعلوم أن قراءته الصلة، فليتنبه القارئ إذا قرأ بزيادة منْ لصلة الميم في المواضع الثلاثة، وهي اتبعوهم وعنهم وأعدّ لهم، لئلا يقع في التلفيق اهـ شيخنا ذكره "الجمل".
﴿الْأَنْهَار﴾ الأربعة حالة كونهم ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾؛ أي: ماكثين في تلك الجنات ﴿أَبَدًا﴾؛ أي: زمنًا لا نهاية له ولا انقضاء ﴿ذَلِكَ﴾ المذكور من الرضوان، والجنات؛ أي: نيل ذلك هو، ﴿الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ والظفر الجسيم، الذي لا فوز وراءه.
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي - ﷺ - قال: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم". قال عمران: فلا أدري، أذَكر بعد قرنه قرنين، أو ثلاثة. متفق عليه.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله، - ﷺ -: "لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدًا - وفي رواية: أحدكم - أنفق مثل أحد ذهبًا، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه". متفق عليه.
والمعنى (١): لو أن أحدًا، عمل مهما قدر عليه من أعمال البر والإنفاق في سبيل الله.. ما بلغ هذا القدر اليسير التافه، من أعمال الصحابة، وإنفاقهم؛ لأنهم أنفقوا وبذلوا المجهود في وقت الحاجة.
قال أبو حيان (٢): ولما بين الله سبحانه وتعالى، فضائل الأعراب المؤمنين المتصدقين، وما أعدّ لهم من النعيم.. بين حال هؤلاء السابقين، وما أعد لهم - وشتان ما بين الإعدادَين والثناءين - هناك قال: أَلا إنها قربة لهم، وهنا رضي الله عنهم، وهناك: سيدخلهم الله في رحمته، وهنا: وأعدَّ لهم جنات تجري، وهناك ختم: ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ وهنا: ﴿ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ اهـ.
وقرأ (٣) عمر بن الخطاب والحسن وقتادة وعيسى الكوفي وسلام وسعيد بن
(١) الخازن.
(٢) البحر المحيط.
(٣) البحر المحيط.
21
أبي سعيد وطلحة ويعقوب: ﴿والأنصار﴾ برفع الراء، عطفًا على والسابقون. فيكون الأنصار جميعهم، مندرجين في هذا اللفظ، وعلى قراءة الجمهورة: وهي الجر، يكونون قسمين: سابق أول، وغير أول، ويكون المخبر عنهم بالرضا، سابقيهم.
وقرأ ابن كثير: ﴿من تحتها﴾ بإثبات من الجارّة، وهي ثابتة في مصاحف مكة، وباقي السبعة، بإسقاطها على ما رسم في مصاحفهم. وعن عمر بن الخطاب، أنه كان يرى ﴿وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ﴾ بغير واو صفة للأنصار، حتى قال له زيد بن ثابت: إنها بالواو، فقال: ائتوني بأُبَيّ، فقال: تصديق ذلك في كتاب الله، في أول الجمعة، ﴿وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ﴾ وأوسط الحشر، ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ وآخر الأنفال، ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ﴾. وروي أنه سمع رجلًا يقرؤه بالواو، فقال: من أقرأك، فقال: أبي، فدعاه، فقال: أقرأنيه رسولُ الله - ﷺ - ومن ثم قال عمر: لقد كنت أرانا وُفِّقْنَا وقْعة لا يبْلُغُها أحدٌ بعدنا.
١٠١ - وبعد أن بين الله سبحانه وتعالى، كمال إيمان تلك الطبقات الثلاث، ورضاه عنهم، بين حال منافقي أهل المدينة ومن حولها، فقال: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ﴾ أيها المؤمنون، وهو خبر مقدم؛ أي: وممن حول بلدتكم؛ يعني المدينة، أي: وممن هم نازلون حول المدينة وخارجها، قريبًا منكم حال كونهم ﴿مِنَ الْأَعْرَابِ﴾؛ أي: من سكان البوادي أقوام ﴿مُنَافِقُونَ﴾؛ أي: مبطنون بالكفر، مظهرون بالإِسلام. قال البغوي والواحدي: هم من قبائل جهينة ومُزِينة وأشجع وأسلم وغفار، نازلون حول المدينة، وأشعر بقوله: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ﴾ حيث عبر بمن التبعيضية، أن فيهم مؤمنين صادقين، دعا لهم النبي، - ﷺ -، ومدحهم. فقد روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - ﷺ - قال: "قريش والأنصار وجهينة ومزينة وأشجع وغفار، موالي الله تعالى ورسوله لا موالي لهم غيره". وعنه أيضًا: أنه - ﷺ - قال: "أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها، أما إني لم أقلها، لكن قالها الله تعالى".
22
﴿وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ﴾ من الأوس والخزرج؛ أي: وممن هم نازلون في جوف المدينة، وداخلها أقوام ﴿مَرَدُوا﴾؛ أي: ثبتوا واستمروا ومرنوا ﴿عَلَى النِّفَاقِ﴾ ولجوا فيه وأبوا غيره. وقال ابن زيد: أقاموا عليه، ولم يتوبوا منه كعبد الله بن أبي، وأصحابه، ثبتوا على النفاق، ولم يتوبوا منه؛ أي: وكذلك من أهل المدينة نفسها، ناس منافقون من الأوس والخزرج، سوى من أعلم الله رسوله بهم، في هذه السورة، بما صدر منهم، من أقوال وأفعال تنافي الإيمان. هؤلاء الذين كانوا حول المدينة، وهؤلاء الذين كانوا من أهل المدينة، مرنوا على النفاق وحذقوه، حتى بلغوا الغاية في إتقانه، فلا يشعر أحد نفاقهم، إذ هم يتقون جميع الإمارات، والشبه التي تدل عليه. وجملة قوله: ﴿لَا تَعْلَمُهُمْ﴾؛ أي: لا تعلم، أنت يا محمَّد، نفاقهم بفطنتك، ودقيق فراستك، لحذقهم في التقية، وتباعدهم عن مثار الشبهات مبينة للجملة الأولى وهي ﴿مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ﴾؛ أي: ثبتوا عليه ثبوتًا شديدًا ومهروا فيه، حتى خفي أمرهم عليك يا محمَّد، فكيف سائر المؤمنين، والمراد عدم علمه، - ﷺ - بأعيانهم، لا من حيث الجملة، فإنّ للنفاق دلائل لا تخفى عليه - ﷺ -، وجملة قوله: ﴿نحن نعلمهم﴾ بأعيانهم لأنه لا تخفى علينا خافية وإن دقت.. مقررة لما قبلها، لما فيها من الدلالة على مهارتهم في النفاق، ورسوخهم فيه، على وجه يختفي على البشر، ولا يظهر لغير الله سبحانه، لعلمه بما يخفى، وما تجنه الضمائر وتنطوي عليه السرائر.
وهؤلاء أخفى نفاقًا ممن قال الله فيهم: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (٢٩) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾. وهؤلاء لم يعلمه الله بأعيانهم، ولا فضحهم بأقوال قالوها، ولا بأفعال فعلوها، كما فضح غيرهم، في هذه السورة؛ لأنهم يتحامون ما يكون شبهة في إيمانهم، وضررهم مقصور عليهم، لا يعدوهم إلى سواهم.
والحكمة في إخبارنا بحالهم، أن يعلموا هم أنفسهم أن الله عليم بما يسرون من نفاقهم، ويحذروا أن يفضحهم الله، كما فضح غيرهم، وليتوب منهم، من يتوب قبل أن يحل بهم ما أوعدهم به ربهم بقوله: ﴿سَنُعَذِّبُهُمْ﴾؛ أي: سنعذب هؤلاء المنافقين في الحياة الدنيا ﴿مَرَّتَيْنِ﴾ أولاهما: ما يصيبهم به من
23
المصائب في الأموال، والأولاد، وانتظار الفضيحة بهتك أستارهم، وثانيتهما: آلام الموت، وزهوق أنفسهم، وهم كافرون وضرب الملائكة وجوههم، وأدبارهم في ذلك الحين، ﴿ثُمَّ﴾ بعد تعذيبنا إياهم في الدنيا مرتين، ﴿يُرَدُّونَ﴾؛ أي: يرجعون يوم القيامة ﴿إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ﴾؛ أي: إلى عذاب جهنم، وبئس المصير، وبانضمامه للمرتين، يصير عذابهم ثلاث مرات، مرتين في الدنيا، ومرة في الآخرة. وقيل: مرة في الدنيا، ومرة في القبر، ومرة في الآخرة.
والخلاصة: أنهم يعذبون في الدنيا، بالعذاب الباطن بتوبيخ الضمائر، وعذاب الخوف من الفضيحة على رؤوس الأشهاد في الظاهر، ثم عذاب النار وبئس القرار. فإن قلت: كيف نفى عنه علمه بحال المنافقين هنا، وأثبته في قوله: ولَتَعرِفَنَّهُم في لحن القول.
فالجواب: أن آية النفي نزلت قبل آية الإثبات، فلا تنافي اهـ "كرخي".
١٠٢ - ﴿و﴾ من أهل المدينة أقوام، ﴿آخرون﴾ سوى المذكورين، ليسوا من المنافقين، ولا من السابقين، ﴿اعْتَرَفُوا﴾؛ أي: أقروا، ﴿بِذُنُوبِهِمْ﴾ التي هي تخلفهم عن غزوة تبوك، وأظهروا الندامة عليها، ﴿خَلَطُوا﴾؛ أي: جمعوا ﴿عَمَلًا صَالِحًا﴾ وهو ما سبق لهم في الإِسلام، من الأعمال الصالحة، وخروجهم مع رسول الله، - ﷺ - في سائر الغزوات، ﴿وَآخَرَ سَيِّئًا﴾ وهو تخلفهم عن غزوة تبوك؛ أي: خلطوا كل واحد من العمل الصالح، والعمل السيء، بالآخر، وهم أقوام من المسلمين، تخلفوا عن رسول الله، - ﷺ -، في غزوة تبوك بلا عذر ولا استئذان، ثم ندموا على تخلفهم، وربطوا أنفسهم بسواري المسجد، كأبي لُبابة وأصحابه، كما مر في أسباب النزول، أي: وهناك (١) فريق آخر، ممن حولكم من الأعراب، ومن أهل المدينة، ليسوا منافقين، ولا من السابقين الأولين، بل من المذنبين الذين خلطوا الصالح من العمل، بالسيء منه، والسيء بالصالح، فلم يكونوا من الصالحين الخلص، ولا من المنافقين، فهم قد آمنوا وعملوا الصالحات واقترفوا بعض السيئات، كالذين تخلفوا عن الخروج إلى غزوة تبوك من غير عذر صحيح، ولم
(١) المراغي.
24
يستأذنوا كاستئذان المرتابين، ولم يعتذروا بالكذب كالمنافقين، ثم كانوا حين قعودهم، ناصحين لله ورسوله، شاعرين بذنوبهم، خائفين من ربهم، وقد بين سبحانه حالهم بقوله: ﴿عَسَى اللَّهُ﴾ أي: حقق الله سبحانه وتعالى: ﴿أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: أن يقبل توبتهم، المفهومة من قوله: اعترفوا بذنوبهم.
قال الزمخشري: فإن قلت (١): قد جعل كل واحد منهما مخلوطًا، فما المخلوط به؟
قلت: كل واحد مخلوط ومخلوط به؛ لأن المعنى، خلطوا كل واحد منهما بالآخر كقولك: خلطت الماء واللبن، تريد خلطت كل واحد منهما بالآخر، وفيه ما ليس في قولك: خلطت الماء باللبن؛ لأنك جعلت الماء مخلوطًا، واللبن مخلوطًا به. وإذا قلته: بالواو، جعلت الماء واللبن مخلوطين ومخلوطًا بهما، كأنك قلت: خلطت الماء باللبن واللبن بالماء اهـ.
والمعنى: أنهم محلُّ الرَّجاء لقبول توبتهم، بتوفيقهم للتوبة الصحيحة، التي هي سبب المغفرة والرحمة، وإنما يكون ذلك بالعلم بقبح الذنب، وسوء عاقبته، وتوبيخ الضمير، حين تصور سخط الله، والخوف من عقابه، ثم الإقلاع عنه بباعث هذا الألم، والعزم على عدم العود إلى اقترافه، والعزم على العمل بضده، ليمحو أثره من نفسه.
ثم علل هذا بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى، ﴿غَفُورٌ﴾ لمن تاب، ﴿رَحِيمٌ﴾ بقبول توبته؛ أي: إنه تعالى يقبل توبتهم؛ لأنه كثير المغفرة للتائبين، واسع الرحمة للمحسنين. وفي معنى الآية قوله: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾. وقوله تعالى: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾.
قال جماعة من العلماء: إن هذه الآية، أرجى آية في القرآن، في توقع رحمة الله، للمذنبين الذين يجترحون السيئات، ثم يتوبون إلى ربهم، ويقلعون عن ذنوبهم.
(١) الفتوحات.
25
١٠٣ - ولما أظهر هؤلاء التوبة عن تخلفهم عن غزوة تبوك، وهم أقروا بأن السبب المؤدي لذلك التخلف حبهم للأموال.. أمر الله سبحانه وتعالى رسوله أن يأخذ منهم الزكوات الواجبة عليهم، فقال: ﴿خُذْ﴾ يا محمَّد، ﴿مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾؛ أي: من أموال هؤلاء، ومن أموال غيرهم، من سائر أموال المؤمنين على اختلاف أنواعها، من نقد وأنعام وأموال تجارة، ﴿صَدَقَةً﴾ بمقدار معين، في الزكاة المفروضة، أو بمقدار غير معين، في صدقة التطوع حالة كونك، ﴿تُطَهِرُهُمْ﴾ يا محمَّد، بتلك الصدقة من دنس الذنوب والبخل والطمع والقسوة على الفقراء البائسين، ﴿وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾؛ أي: تزكي يا محمَّد أنفسهم بتلك الصدقة، وترفعهم إلى منازل الأبرار، بفعل الخيرات حتى يكونوا أهلا للسعادة الدنيوية والأخروية.
ونسبت التزكية إلى الله سبحانه وتعالى في قوله: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾؛ لأنه: الخالق، الموفق للعبد، بفعل ما تزكو به نفسه، وتصلح، ونسبت إلى الرسول، في قوله: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾؛ لأنه: هو المربى للمؤمنين على ما تزكو به نفوسهم، ويعلو قدرها باتباعهم سنته العملية والقولية، وبيانه لكتاب الله تعالى، فهو القدوة الحسنة لهم. ونسبت إلى الفاعل لها في قوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (٩) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ وقوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾؛ لأنه: قد فعل، ما كان سببًا في طهارة نفسه، وزكاتها من صدقات، ونحوها من أعمال البر. وأما النهي عن تزكية النفس، في نحو قوله: ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾. فذاك في تزكية النفس، بدعوى اللسان فقط، دون عمل يؤيدها.
﴿وَصَلِّ عَلَيْهِمْ﴾ أي: واستعطف عليهم يا محمَّد، وادع لهم؛ أي: للمتصدقين، واستغفر لهم عند أخذ الزكاة منهم. قال الشافعي رحمه الله: والسنة للإمام إذا أخذ الصدقة، أن يدعو للمتصدق، ويقول آجرك الله فيما أعطيت، وبارك لك فيما أبقيت، وجعله لك طهورًا. ﴿إِنَّ صَلَاتَكَ﴾؛ أي: إن دعاءك واستغفارك لهم ﴿سَكَنٌ لَهُمْ﴾؛ أي: رحمة وطمأنينة لقلوبهم، يذهب به اضطراب نفوسهم، وتطمئن قلوبهم بقبول توبتهم، ويرتاحون إلى قبول الله صدقاتهم،
بأخذك لها، ووضعها في مواضعها.
والصلاة من الله على عباده رحمته لهم، ومن ملائكته استغفارهم، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ ومن المؤمنين على النبي - ﷺ - دعاؤهم له، بما أمرهم به في الصلاة بعد التشهد الأخير. ﴿وَاللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى، ﴿سَمِيعٌ﴾ لاعترافهم بذنوبهم، وسميع لدعائك لهم، سماع قبول وإجابة ﴿عَلِيمٌ﴾ بندمهم وتوبتهم منها، وإخلاصهم في صدقاتهم، وطيب أنفسهم بها، عليم بما فيه الخير والمصلحة لهم، وهو الذي يثيبهم عليها. وقد روى البخاري ومسلم، عن عبد الله بن أبي أوفى، قال: كان النبي - ﷺ - إذا أتاه قوم بصدقتهم، قال: "اللهم صل على فلان" فأتاه أبي بصدقته فقال: "اللهم صل على آل أبي أوفى".
وقرأ الحسن (١): ﴿تُطَهِرُهُمْ﴾ من أطهر الرباعي وأطهر وطهّر للتعدية من طهر. وقرأ الأخوان حمزة والكسائي وحفص: ﴿إِنَّ صَلَاتَكَ﴾ هنا وفي هود، ﴿أصَلَاتَكَ﴾ بالإفراد وباقي السبعة بالجمع
١٠٤ - ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا﴾؛ أي: ألم يعلم أولئك التائبون من ذنوبهم، قبل توبتهم وصدقتهم، ﴿أَنَّ اللَّه﴾ سبحانه وتعالى، ﴿هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ﴾، الصحيحة ﴿عَنْ عِبَادِهِ﴾، المخلصين؛ لاستغنائه عن طاعة الطائعين، وعدم مبالاته لمعصية المذنبين، ولم يجعل ذلك لأحد من خلقه، لا رسول، ولا من دونه، ﴿وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ﴾؛ أي: ويقبل الصدقات الصادرة عن خلوص نية، ويثيب عليها، ويضاعف ثوابها، كما وعد ذلك في قوله: ﴿إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾ وفي الآية حَضٌّ على التوبة والصدقة والترغيب فيهما.
وفي إسناد الأخذ إليه سبحانه، بعد أمره لرسوله، - ﷺ - بأخذها، تشريف عظيم لهذه الطاعة ولمن فعلها. والاستفهام (٢) في قوله: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا﴾: للتقرير، وهو حمل المخاطب على الاعتراف بأمر قد استقر عنده ثبوته، أو نفيه، أو
(١) البحر المحيط.
(٢) الفتوحات.
للتحضيض، والتأكيد. ومعناه: إن ذلك ليس لرسول الله، - ﷺ -، وإنما الله سبحانه وتعالى، هو الذي يقبل التوبة ويردها، فاقصدوه بها اهـ كرخي. والقصد به، تهييجهم إلى التوبة والصدقة.
﴿و﴾ ألم يعلموا ﴿أنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى، ﴿هُوَ التَّوَّابُ﴾ أي: هو الذي يقبل التوبة إثر التوبة من المذنبين، الذين ينيبون إلى ربهم، وأنه تعالى، هو ﴿الرَّحِيمُ﴾، بالتائبين الذي يثيبهم على ما قدموا من عمل، ويمنعهم الخوف أن يصروا على ذنب، كما قال تعالى في وصف المتقين: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾. وجاء في الحديث "ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة" رواه الترمذي. وهذه الجملة تأكيد لقوله: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ﴾ وتبشير لهم بأن الله هو التواب الرحيم. وروى الشيخان،
عن أبي هريرة، أن النبي، - ﷺ - قال: "ما تصدق أحدكم بصدقة من كسب حلال طيب - ولا يقبل الله إلا الطيب - إلا أخذها الرحمن بيمينه، وإن كانت تمرة، فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل، كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله. والحديث تمثيل لحال الصدقة المقبولة عند الله تعالى. وفي مصحف (١) أبي وقراءة الحسن بخلاف عنه ﴿أَلَمْ تَعْلَمُوا﴾ بالتاء على الخطاب وهو إما خطاب للتائبين أو لجماعة من المؤمنين.
١٠٥ - ﴿وَقُلِ﴾ يا محمَّد لهؤلاء التائبين أو لجميع الناس، ﴿اعْمَلُوا﴾، ما شئتم من الأعمال الحسنة والسيئة ﴿فَسَيَرَى اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى: ﴿عَمَلَكُمْ﴾ خيرًا كان أو شرًّا؛ أي: فسيرى الله سبحانه وتعالى أعمالكم المستقبلة ويعلمها خيرًا كانت أو شرًّا كما يرى أعمالكم الماضية ويعلمها فالاستقبال بالنظر إلى الأعمال وإلا فعلم الله حاصل لا استقبال فيه. وفيه ترغيب عظيم للمطيعين، ووعيد شديد للمذنبين، فكأنه قال اجتهدوا في العمل في المستقبل، فإن الله تعالى يرى أعمالكم
(١) البحر المحيط.
28
ويجازيكم عليها، ﴿و﴾ يراه ﴿رسوله﴾ - ﷺ - بإطلاع الله إياه على أعمالكم، كما أطلعه على أعمالكم الماضية بفضيحتكم عليها، ﴿و﴾ يراه ﴿المؤمنون﴾ بما قذف الله تعالى في قلوبهم. من محبة الصالحين وبغض المذنبين.
والمعنى (١): وقيل لهم أيها الرسول، اعملوا لدنياكم وآخرتكم لأنفسكم وأمتكم، فالعمل هو مناط السعادة، لا الاعتذار عن التقصير، ولا دعوى الجد والتشمير، وسيرى الله عملكم خيرًا كان أو شرًّا، فيجب عليكم أن تراقبوه في أعمالكم، وتتذكروا أنه عليم بمقاصدكم، ونياتكم، فجدير بمن يؤمن به، أن يتقيه في السر، والعلن، ويقف عند حدود شرعه، وسيراه رسوله والمؤمنون، ويزنونه بميزان الإيمان، الذي يفرق بين الإخلاص والنفاق، وهم شهداء الله على الناس. روى أحمد والبيهقي: أن النبي، - ﷺ - قال: "لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماءٍ ليس لها باب ولا كوة.. لأخرج الله عمله للناس كائنًا ما كان".
وفي الآية: إيماء إلى أن مرضاة جماعة المؤمنين القائمين بحقوق الإيمان، تلي مرضاة الله ورسوله. وفي حديث أنس رضي الله عنه، قال: "مروا على النبي، - ﷺ - بجنازة، فأثنوا عليها خيرًا، فقال، النبي، - ﷺ - وجبت، ثم مروا بأخرى، فأثنوا عليها شرًّا، فقال: وجبت. فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما وجبت، قال: هذا أثنيتم عليه خيرًا، فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرًّا، فوجبت له النار، أنتم شداء الله في الأرض"، متفق عليه. وقال ابن عباس: ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن.
ثم ذكر سبحانه وتعالى بوعيد شديد، فقال: ﴿وَسَتُرَدُّونَ﴾ أي: وسترجعون بعد الموت، ﴿إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ أي: إلى الله الذي يعلم ما غاب عن عباده، وما شوهد لهم؛ أي إلى الله الذي يعلم ما تسرونه، وما تعلنونه، وما تخفونه، وما تبدونه، وفي تقديم الغيب على الشهادة، إشعار بسعة علمه تعالى، وأنه لا يخفى عليه شيء، ويساوي عنده كل معلوم. ثم ذكر سبحانه ما سيكون
(١) المراغي.
29
عقب ردّهم إليه فقال: ﴿فَيُنَبِّئُكُمْ﴾ أي: فيخبركم الله سبحانه وتعالى، ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، في الدنيا، فيجازيكم عليه فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، ويتفضل على من يشاء من عباده؛ لأن المجازاة من الله تعالى في الآخرة، لا تحصل إلا بعد الإخبار بعمله، ليعرف كل أحد أن الذي وصل إليه عدل لا ظلم
١٠٦ - ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ﴾ أي: ومن المتخلفين عن غزوة تبوك أقوام آخرون؛ أي: غير الذين مردوا على النفاق، وغير الذين اعترفوا بذنوبهم، مرجون؛ أي: بل هم مرجون ﴿لِأَمْرِ اللَّهِ﴾؛ أي: بل هم مؤخرون عن التوبة إلى قضاء الله تعالى وحكمه فيهم بما شاء إما التوبة وإما التعذيب. وقرأ (١) الحسن وطلحة وأبو جعفر وابن نصاح والأعرج ونافع وحمزة والكسائي وحفص: ﴿مُرْجَوْنَ﴾ و ﴿ترجي﴾ في سورة الأحزاب بغير همزة. وقرأ باقي السبعة: ﴿مرجؤن وتجرىء﴾ بالهمز وهما لغتان.
كان (٢) المتخلفون عن الجهاد في غزوة تبوك، أقسامًا ثلاثة:
الأول: المنافقون الذين مردوا على النفاق وهم أكثر المتخلفين.
والثاني: المؤمنون الذين اعترفوا بذنوبهم، وتابوا، وزكوا توبتهم بالصدقة وطلب دعاء الرسول، واستغفاره، فتاب الله عليهم، كأبي لبابة وأصحابه.
والثالث: المؤمنون الذين حاروا في أمرهم، ولم يعتذروا للرسول، - ﷺ -؛ لأنهم، لا عذر لهم، وأرجؤوا توبتهم واعتذارهم إلى رسول الله، - ﷺ -، صريحًا وإنما وجد منهم الندم والحزن، فإرجاء الله تعالى الحكم القاطع في أمرهم، لأسباب ستذكر، والفرق بين القسم الثاني، والقسم الثالث: أن القسم الثاني، سارعوا إلى التوبة فقبل الله توبتهم، والقسم الثالث توقفوا، ولم يسارعوا إلى التوبة، فأخر الله أمرهم.
قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة: هم الثلاثة، الذين خلفوا عن التوبة، وهم مرارة - بضم الميم - ابن الربيع، وكعب بن مالك، وهلال بن أمية، قعدوا عن
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
30
غزوة تبوك، في جملة من قعد من المخالفين، كسلًا وميلًا إلى الدعة والراحة والتمتع بطيب الثمار والتفيؤ بالظلال لا شكًّا ونفاقًا. وكانت طائفة منهم، ربطوا أنفسهم بالسواري، كما فعل أبو لبابة وأصحابه. وطائفة لم يفعلوا ذلك، وهم هؤلاء الثلاثة المذكورون، فنزلت توبة الأولين قبل توبة هؤلاء، وأرجئت أي أخرت توبة هؤلاء، حتى نزلت آية ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ﴾، إلى قوله: ﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا﴾ الآية. ومعنى ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ﴾؛ أي: ومن المتخلفين، ناس آخرون مؤخرون إلى أمر الله وحكمه فيهم بما شاء، وهم أولئك النفر، الذين سبق ذكرهم، وكانوا تخلفوا عن رسول الله، - ﷺ - مع الهم باللحاق به، ولم يتيسر لهم، ولم يكن تخلفهم عن نفاق. فلما قدم النبي، - ﷺ - من تبوك.. قالوا لا عذر لنا إلا الخطيئة، ولم يعتذروا لرسول الله، - ﷺ -، كما فعل أبو لبابة وأصحابه، من الذين ربطوا أنفسهم في سواري المسجد، فنزل فيهم، قوله تعالى: ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ﴾ الآية. فنهى النبي، - ﷺ -، عن مجالستهم وأمرهم باعتزال نسائهم، وإرسالهن إلى أهاليهن، إلى أن نزل قوله تعالى: ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ﴾ الآية. وكانت مدة ما بين نزول الآيتين، خمسين ليلة، بقدر مدة التخلف؛ إذ كانت غيبته، - ﷺ - عن المدينة، خمسين ليلة؛ لأنهم، لما تمتعوا بالراحة في المدينة مع تعب غيرهم في السفر.. عوقبوا بهجرهم تلك المدة فلما مضت خمسون ليلة.. نزلت توبتهم بقوله تعالى: ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ﴾ الآية.
ومعنى قوله: ﴿إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ﴾ إن أصروا ولم يتوبوا من التخلف، ﴿وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾ إن تابوا عنه؛ أي: إن أَمْرهم دَائِرٌ بين هذين، التعذيبِ والتوبةِ، وإما هنا إما للشك بالنسبة إلى المخاطبين، وإما للإبهام بالنسبة إلى الله، بمعنى: أنه تعالى، أبهم على المخاطبين كما في "السمين".
وقد أبهم الأمر عليهم وعلى الناس، فلا يدرون ماذا ينزل بهم، هل تنفع توبتهم فيتوب الله عليهم، كما تاب على الذين اعترفوا بذنوبهم، أو يحكم بعذابهم في الدنيا والآخرة، كما حكم على الخالفين من المنافقين. وحكمة إبهام الأمر
31
عليهم، إثارة الغم والحزن في قلوبهم، لتصح توبتهم. وحكمة إبهامه على الرسول والمؤمنين تركهم مكالمتهم ومخاطبتهم تربيةً للفريقين على ما يجب أن يعامل به أمثالهم ممن يؤثرون الراحة ونعمة العيش على طاعة الله ورسوله والجهاد؛ لإعلاء كلمة الحق، ودفع عدوان أهل الباطل عن المؤمنين.
وهذه الجملة، في محل نصب على الحال من الضمير المستكن في ﴿مرجون﴾، والتقدير، وآخرون مرجون هم إلى أمر الله حالة كونهم إما معذبين، وإما متوبًا عليهم، ما سيأتي في بحث الإعراب.
﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلِيمٌ﴾ بما يصلح حالَ عباده، ويربيهم ويزكيهم، أفرادًا وجماعات ﴿حَكِيمٌ﴾ فيما يشرعه لهم من الأحكام المفيدة لهذا الصلاح، إذا عملوا بها.
ومن هذه الحكمة إرجاء النص على توبتهم في كتابه، كما أن تكرار تلاوتها في مختلف الأوقات، مما يوقع في قلوب المؤمنين الرهبة والخوف، ويفيدهم عظة وتهذيبًا.
الإعراب
﴿يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ﴾.
﴿يَعْتَذِرُونَ﴾: فعل وفاعل ﴿إِلَيْكُمْ﴾: متعلق به، والجملة مستأنفة. ﴿إذَا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان، مجرد عن معنى الشرط، متعلق بـ ﴿يَعْتَذِرُونَ﴾، أو الجواب محذوف دل عليه ما قبلها. ﴿رَجَعْتُمْ﴾: فعل وفاعل. ﴿إِلَيْهِمْ﴾: متعلق به، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذَا﴾. ﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. ﴿لَا تَعْتَذِرُوا﴾ إلى آخر الآية، مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿لَا تَعْتَذِرُوا﴾: فعل وفاعل، مجزوم بـ ﴿لَا﴾ الناهية، والجملة في محل النصب مقول لـ ﴿قُلْ﴾. ﴿لَنْ نُؤْمِنَ﴾: ناصب وفعل. ﴿لَكُمْ﴾: متعلق به، وفاعله ضمير يعود على المتكلمين، أعني: المؤمنين، والجملة في محل
32
النصب مقول القول. ﴿قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ﴾ ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق. ﴿نَبَّأَنَا اللَّهُ﴾: فعل ومفعول أول وفاعل. ﴿مِنْ أَخْبَارِكُمْ﴾: مفعول ثانٍ، والجملة في محل النصب مقول القول. وفي "الفتوحات" قوله: ﴿قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ﴾، فيه وجهان:
أحدهما: أنها المتعدية إلى مفعولين، أحدهما ضمير التكلم.
والثاني: قوله من أخباركم، وعلى هذا، ففي ﴿مِنْ﴾ وجهان:
أحدهما: أنها غير زائدة، والتقدير: قد نبأنا الله أخبارًا من أخباركم، أو جملة من أخباركم، فهو في الحقيقة صفة للمفعول المحذوف.
والثاني: أن ﴿مِنْ﴾ زائدة عند الأخفش، ؛ لأنه لا يشترط فيها شيئًا. والتقدير: قد نبأنا الله أخباركم.
الوجه الثاني: من الوجهين الأولين: أنها متعدية لثلاثة، كأعلم، فالأول والثاني ما تقدم، والثالث محذوف؛ اختصارًا للعلم به، والتقدير: نبأنا الله من أخباركم كذبًا ونحوه اهـ "سمين".
﴿وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول، والثاني محذوف تقديره: واقعًا، والجملة معطوفة على ما قبلها على كونها مقولًا لـ ﴿قُل﴾ ﴿وَرَسُولُه﴾: معطوف على الجلالة.
﴿ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.
﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب ﴿تُرَدُّونَ﴾: فعل ونائب ﴿إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿تُرَدُّونَ﴾ ﴿وَالشَّهَادَةِ﴾ معطوف على الغيب، والجملة الفعلية معطوفة على جملة ﴿سيرى﴾ على كونها، مقولا لـ ﴿قُلْ﴾ ﴿فينبئكم﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة ﴿ينبئكم﴾: فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير، يعود على الله ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور، في محل المفعول الثاني، والجملة، معطوفة على جملة تردون ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص، واسمه. وجملة ﴿تَعْمَلُونَ﴾: خبره، وجملة ﴿كان﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ إن قلنا: ﴿ما﴾ موصولة، والعائد محذوف تقديره: بما كنتم تعملونه، أو صلة ﴿ما﴾ المصدرية إن قلنا: ﴿ما﴾ مصدرية تقديره: بعملكم.
33
﴿سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥)﴾.
﴿سَيَحْلِفُونَ﴾: فعل وفاعل ﴿بِاللَّهِ﴾: متعلق به، وكذا يتعلق به ﴿لَكُمْ﴾ والجملة بدل من ﴿يَعْتَذِرُونَ﴾ أو تفسير له كما في "أبي السعود" ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، مجرد عن معنى الشرط، متعلق بـ ﴿يَحْلِفُونَ﴾ ﴿انْقَلَبْتُمْ﴾ فعل وفاعل ﴿إِلَيْهِمْ﴾: متعلق به، والجملة في محل الجر مضاف إليه، لـ ﴿إِذَا﴾ ﴿لِتُعْرِضُوا﴾: ﴿اللام﴾: لام كي. ﴿تُعْرِضُوا﴾: فعل وفاعل، منصوب بأن مضمرة ﴿عَنْهُمْ﴾: متعلق به، والجملة في تأويل مصدر، مجرور ﴿باللام﴾ تقديره، لإعراضكم ﴿عَنْهُمْ﴾: الجار والمجرور، متعلق بيحلفون ﴿فَأَعْرِضُوا﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أنهم سيحلفون لكم، وأردتم بيان ما هو الأصلح لكم، فأقول لكم: أعرضوا عنهم ﴿أعرضوا﴾: فعل وفاعل ﴿عَنْهُمْ﴾: متعلق به، والجملة في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة ﴿إِذَا﴾: المقدرة مستأنفة ﴿إِنَّهُمْ رِجْسٌ﴾ ﴿إن﴾ حرف نصب والهاء: اسمها. ﴿رِجْسٌ﴾: خبرها، وجملة إن: في محل النصب، مستأنفة، مسوقة، لتعليل الأمر بالإعراض عنهم، على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة ﴿وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ﴾: مبتدأ وخبر، إما من تمام التعليل، وإما تعليل مستقل، كما ذكره: أبو السعود ﴿جَزَاءً﴾: منصوب على المصدرية، بعامل مقدر من لفظه، تقديره: يجزون جهنم جزاء، والجملة المحذوفة مستأنفة، ويجوز كونه حالًا من جهنم وفي "الفتوحات" قوله: ﴿جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ يجوز أن ينتصب على المصدر، بفعل من لفظه مقدر؛ أي: يجزون جزاءً وأن ينتصب بمضمون الجملة السابقة؛ لأن كونهم ثاوين في جهنم، في معنى المجازاة، ويجوز أن يكون مفعولًا من أجله، اهـ "سمين" ﴿بِمَا﴾: ﴿الباء﴾: حرف جر وسبب، أو بمعنى: على ﴿ما﴾: موصولة، أو موصوفة، أو مصدرية ﴿كَانُوا﴾ فعل ناقص، واسمه. وجملة ﴿يَكْسِبُونَ﴾: خبره، وجملة ﴿كَانُ﴾: صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد، أو الرابط، محذوف، تقديره: بما كانوا يكسبونهُ أو صلة ما المصدرية تقديره: بكسبهم، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿جزاءً﴾، أو صفةٌ له.
34
﴿يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾.
﴿يَحْلِفُونَ﴾: فعل وفاعل ﴿لَكُمْ﴾: متعلق به، والجملة مستأنفة ﴿لِتَرْضَوْا﴾: ﴿اللام﴾: حرف جر، وتعليل ﴿ترضوا﴾ فعل وفاعل، منصوب بأن مضمرة ﴿عَنْهُمْ﴾: متعلق به، والجملة في تأويل مصدر، مجرور بـ ﴿اللام﴾ تقديره: لرضائكم عنهم، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿يَحْلِفُونَ﴾ ﴿فَإِنْ تَرْضَوْا﴾: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم حلفهم، لرضائكم عنهم، وأردتم بيان حكم رضائكم عنهم.. فأقول لكم ﴿إن ترضوا﴾: ﴿إن﴾: حرف شرط ﴿ترضوا﴾: فعل وفاعل، مجزوم بإن، على كونه فعل شرط لها ﴿عَنْهُمْ﴾: متعلق به، وجواب إن الشرطية محذوف، تقديره: فلا ينفعهم رضاؤكم عنهم، وجملة إن الشرطية، في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة ﴿فإنَّ الله﴾: الفاء: تعليلية ﴿إن﴾: حرف نصب ﴿اللَّهَ﴾ اسمها ﴿لَا يَرْضَى﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير، يعود على الله ﴿عَنِ الْقَوْمِ﴾: متعلق به ﴿الْفَاسِقِينَ﴾: صفة للقوم، وجملة ﴿لَا يَرْضَى﴾: في محل الرفع خبر إن، وجملة ﴿إن﴾: في محل الجر بلام التعليل المقدرة، المدلول عليها بالفاء التعليلية.
﴿الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾.
﴿الْأَعْرَابُ﴾: مبتدأ ﴿أَشَدُّ﴾: خبر ﴿كُفْرًا﴾: تمييز، محول عن المبتدأ، منصوب باسم التفضيل، والجملة مستأنفة ﴿وَنِفَاقًا﴾: معطوف على كفرًا ﴿وَأَجْدَرُ﴾: معطوف على ﴿أَشَدُّ﴾. ﴿أَلَّا﴾ ﴿أن﴾: حرف مصدر ﴿لا﴾: نافية ﴿يَعْلَمُوا﴾: فعل وفاعل، منصوب بـ ﴿أن﴾ ﴿حُدُودَ مَا﴾: مفعول به، ومضاف إليه ﴿أَنْزَلَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل ﴿عَلَى رَسُولِه﴾: متعلق به، وجملة ﴿أَنزَلَ﴾: صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما أنزله الله، وجملة ﴿لا يعلموا﴾ في تأويل مصدر، مجرور، بحرف جر محذوف، تقديره، وأجدر بعدم
35
علمهم حدود ما أنزله الله على رسوله ﴿وَالله﴾: مبتدأ ﴿عَلِيمٌ﴾: خبر أول ﴿حَكِيمٌ﴾: خبر ثانٍ، والجملة مستأنفة.
﴿وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾.
﴿وَمِنَ الْأَعْرَابِ﴾: جار وجرور، خبر مقدم ﴿مَن﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة ﴿يَتَّخِذُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير، يعود على ﴿مَن﴾ ﴿ما﴾ موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول أول. ﴿يُنفِقُ﴾ فعل مضارع وفاعله ضمير، يعود على ﴿مَن﴾ وجملة ﴿ينفِقُ﴾: صلة لـ ﴿مَا﴾: أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما ينفقه. ﴿مَغْرَمًا﴾: مفعول ثان، لاتخذ، وجملة ﴿يَتَّخِذُ﴾: صلة من الموصولة ﴿وَيَتَرَبَّصُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير، يعود على ﴿مَنْ﴾ والجملة معطوفة على جملة ﴿يَتَّخِذُ﴾ ﴿بِكُمُ﴾: متعلق بـ ﴿يَتَرَبَّصُ﴾: ﴿الدَّوَائِرَ﴾: مفعول به ﴿عَلَيْهِمْ﴾: خبر مقدم ﴿دَائِرَةُ السَّوْءِ﴾: مبتدأ مؤخر، ومضاف إليه، والجملة دعائية لا محل لها من الإعراب ﴿وَاللَّهُ﴾ مبتدأ ﴿سَمِيعٌ﴾: خبر أول ﴿عَلِيمٌ﴾: خبر ثانٍ والجملة مستأنفة، لا محل لها من الإعراب.
﴿وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
﴿وَمِنَ الْأَعْرَابِ﴾ جار ومجرور خبر مقدم. ﴿مِنَ﴾ اسم موصول، في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على جملة قوله ﴿وَمِنَ الْأَعْرَابِ﴾. ﴿يُؤْمِنُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾ ﴿بِاللَّهِ﴾: متعلق به، والجملة صلة الموصول ﴿وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾: معطوف على الجلالة ﴿وَيَتَّخِذُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿يُؤْمِنُ﴾ ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة، في محل النصب مفعول أول، لـ ﴿يَتَّخِذُ {يُنْفِقُ﴾؛ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾ والجملة
36
صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ﴿ما ينفقه﴾ ﴿قُرُبَاتٍ﴾: مفعول ثان لـ ﴿يتخذ﴾ ولكنه على تقدير مضاف؛ أي: سبب قربات، ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾: ظرف ومضاف إليه، متعلق بمحذوف صفة لـ ﴿قُرُبَاتٍ﴾ أو متعلق بـ ﴿يَتَّخِذُ﴾ ﴿وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ﴾: معطوف على ﴿قُرُبَاتٍ﴾؛ أي: سبب صلوات الرسول ودعواته ﴿ألا إنها﴾: ﴿أَلَا﴾: حرف تنبيه واستفتاح ﴿إِنَّهَا قُرْبَةٌ﴾؛ ناصب، واسمه وخبره ﴿لَهُمْ﴾: صفة لقربة، والجملة مستأنفة ﴿سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ﴾: فعل ومفعول وفاعل ﴿فِي رَحْمَتِهِ﴾: متعلق به، والجملة مستأنفة ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ﴾: ناصب واسمه وخبر أول ﴿رَحِيمٌ﴾: خبر ثانٍ، والجملة مستأنفة.
﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾.
﴿وَالسَّابِقُونَ﴾: مبتدأ ﴿الْأَوَّلُونَ﴾: صفة له ﴿مِنَ الْمُهَاجِرِينَ﴾: جار ومجرور، حال من المبتدأ ﴿وَالْأَنْصَارِ﴾: معطوف على المهاجرين ﴿وَالَّذِينَ﴾: معطوف على ﴿السَّابِقُونَ﴾ ﴿اتَّبَعُوهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول صلة الموصول ﴿بِإِحْسَانٍ﴾: جار ومجرور حال، من واو اتبعوهم، أو متعلق بـ ﴿اتَّبَعُوهُمْ﴾ ﴿رَضِيَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل ﴿عَنْهُمْ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة ﴿وَرَضُوا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿رَضِيَ﴾. ﴿عنه﴾ متعلق به ﴿وَأَعَدَّ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير، يعود على الله ﴿لَهُمْ﴾: متعلق به ﴿جَنَّاتٍ﴾: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة ﴿رَضِيَ﴾ ﴿تَجْرِي﴾: فعل مضارع ﴿تَحْتَهَا﴾: متعلق به ﴿الْأَنْهَارُ﴾: فاعل، والجملة صفة لـ ﴿جنات﴾ ﴿خَالِدِينَ﴾: حال من ضمير لهم ﴿فِيهَا﴾: متعلق به، وكذا يتعلق به ﴿أبدًا﴾ ﴿ذَلِكَ الْفَوْزُ﴾: مبتدأ وخبر ﴿الْعَظِيمُ﴾: صفة له والجملة مستأنفة.
﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ﴾.
﴿وَمِمَّنْ﴾: جار ومجرور، خبر مقدم ﴿حَوْلَكُمْ﴾؛ ظرف ومضاف إليه، صلة ﴿مِنَ﴾ الموصولة ﴿مِنَ الْأَعْرَابِ﴾: جار ومجرور، حال من الضمير المستكن
37
في الصلة ﴿مُنَافِقُونَ﴾ مبتدأ مؤخر والجملة مستأنفة ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ﴾: جار ومجرور، خبر مقدم لمبتدأ محذوف، قامت صفته مقامه، وحَذفُ الموصوف وإقامة صفته مقامه مطرد تقديره: ومن أهل المدينة قوم. وجملة ﴿مَرَدُوا﴾: صفة لهذا المبتدأ المحذوف، والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ﴾ ﴿عَلَى النِّفَاقِ﴾: متعلق بـ ﴿مَرَدُوا﴾.
﴿لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ﴾.
﴿لَا تَعْلَمُهُمْ﴾: فعل ومفعول به، إن قلنا: أن علم هنا عرفانية، ومفعول أول إن قلنا إن علم على بابه، والمفعول الثاني محذوف تقديره: لا تعلمهم منافقين، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة، أو صفة لـ ﴿مُنَافِقُونَ﴾ ﴿نَحْنُ﴾: مبتدأ ﴿نَعْلَمُهُمْ﴾: فعل ومفعول أول، والثاني محذوف تقديره: منافقين، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة ﴿سَنُعَذِّبُهُمْ﴾: فعل ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة ﴿مَرَّتَيْنِ﴾: منصوب على المصدرية ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف ﴿يُرَدُّونَ﴾: فعل ونائب فاعل ﴿إِلَى عَذَابٍ﴾: متعلق به ﴿عَظِيمٍ﴾: صفة لعذاب، والجملة الفعلية معطوفة على جملة ﴿نُعَذِّبُهُمْ﴾.
﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
﴿وَآخَرُونَ﴾ معطوف على منافقون، على كونه صفة لمبتدأ محذوف، خبره محذوف أيضًا، تقديره: وممن حولكم، أو من أهل المدينة قوم آخرون، والجملة معطوفة على جملة قوله ﴿وممن حولكم﴾ ﴿اعْتَرَفُوا﴾: فعل وفاعل ﴿بِذُنُوبِهِمْ﴾ متعلق به، والجملة صفة ثانية لذلك المحذوف ﴿خَلَطُوا﴾: فعل وفاعل ﴿عَمَلًا﴾: مفعول به ﴿صَالِحًا﴾ صفة له، والجملة صفة ثالثة له ﴿وَآخَرَ﴾: معطوف على ﴿عَمَلًا﴾ ﴿سَيِّئًا﴾: صفة ﴿آخر﴾ ﴿عَسَى﴾: فعل ناقص، من أفعال الرَّجاء ﴿اللَّهُ﴾: اسمها ﴿أَنْ يَتُوبَ﴾: فعل مضارع منصوب بأن، وفاعله ضمير يعود على الله ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق به، وجملة ﴿يَتُوبَ﴾ في تأويل مصدر، منصوب على كونه خبر
38
عسى، ولكنه في تأويل اسم الفاعل، ليصح الإخبار به عن الجلالة، تقديره: عسى الله توبته عليهم؛ أي: عسى الله تائبًا عليهم، وجملة عسى مستأنفة ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه ﴿غَفُورٌ﴾: خبر أول ﴿رَحِيمٌ﴾: خبر ثانٍ لها، وجملة ﴿إِنَّ﴾: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَةِرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾.
﴿خُذْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة ﴿مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾: متعلق به ﴿صَدَقَةً﴾ مفعول به ﴿تُطَهِرُهُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة الفعلية صفة لصدقة، ولكنها سببية، والرابط محذوف تقديره: بها ﴿وَتُزَكِّيهِمْ﴾: فعل وفاعل. ﴿بِهَا﴾: متعلق به لقربه، أو بتطهر لسبقه، كما هو شأن التنازع، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة معطوفة على جملة تطهر. ﴿وَصَلِّ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة ﴿خُذْ﴾ ﴿إِنَّ صَلَاتَكَ﴾: ناصب واسمه. ﴿سَكَنٌ﴾: خبره. ﴿لَهُمْ﴾: متعلق بـ ﴿سَكَنٌ﴾: وجملة ﴿إنَّ﴾: مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها. ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ﴾: مبتدأ وخبر أول. ﴿عَلِيمٌ﴾ خبر ثانٍ، والجملة مستأنفة.
﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾.
﴿أَلَمْ﴾: الهمزة: للاستفهام التقريري. ﴿لَمْ﴾: حرف نفي وجزم. ﴿يَعْلَمُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾ والجملة مستأنفة. ﴿أَنَّ﴾: حرف نصب. ﴿اللَّهَ﴾: اسمها. ﴿هُوَ﴾: ضمير فصل. ﴿يَقْبَلُ التَّوْبَةَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿عَنْ عِبَادِهِ﴾: متعلق بـ ﴿يَقْبَلُ﴾ والجملة الفعلية في محل الرفع خبر أن، وجملة أن في تأويل مصدر، ساد مسد مفعولي علم، تقديره: ألم يعلموا قبول الله تعالى توبة عباده. ﴿وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة ﴿يَقْبَلُ﴾. ﴿وَأَنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه. ﴿هُوَ﴾: ضمير فصل. ﴿التَّوَّابُ﴾: خبر أن. ﴿الرَّحِيمُ﴾: صفة للتواب،
39
أو خبر ثانٍ لها، وجملة أن معطوفة على جملة أن الأولى.
﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.
﴿وَقُلِ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. ﴿اعْمَلُوا﴾: إلى آخر الآية، مقول محكي لـ ﴿قُلِ﴾ وإن شئت قلت ﴿اعْمَلُوا﴾: فعل وفاعل، ومفعوله محذوف. تقديره: ما شئتم، والجملة في محل النصب مقول قل. ﴿فَسَيَرَى﴾: الفاء: تعليلية، السين: حرف استقبال زيدت هنا لإفادة تأكيد معنى الكلام. ﴿يَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول. ﴿وَرَسُولُهُ﴾: معطوف على الجلالة، والجملة الفعلية في محل النصب مقول قل. ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ﴾: معطوف على الجلالة أيضًا. ﴿وَسَتُرَدُّونَ﴾: فعل ونائب فاعل. ﴿إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ﴾: متعلق به. ﴿وَالشَّهَادَةِ﴾: معطوف على الغيب، والجملة معطوفة على جملة ﴿فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ﴾. ﴿فَيُنَبِّئُكُمْ﴾: الفاء: عاطفة. ﴿ينبئكم﴾: فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿بِمَا كُنْتُمْ﴾: جار ومجرور، في محل المفعول الثاني، والجملة معطوفة على جملة قوله ﴿ستردون﴾. ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه. وجملة ﴿تَعْمَلُونَ﴾: خبره وجملة ﴿كان﴾ صلة لما، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: تعملونه.
﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾.
﴿وَآخَرُونَ﴾: صفة لمبتدأ محذوف، خبره محذوف أيضًا، تقديره: ومن أهل المدينة قوم آخرون. ﴿مُرْجَوْنَ﴾: صفة ثانية لذلك المحذوف، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وآخرون اعترفوا بذنوبهم﴾ كما قاله أبو البقاء ﴿لِأَمْرِ اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿مُرْجَوْنَ﴾. ﴿إِمَّا﴾: حرف تفصيل. ﴿يُعَذِّبُهُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهِ﴾ والجملة في محل الرفع صفة ثالثة لذلك المحذوف، ولكنها سببية، تقديره: ومن أهل المدينة قوم آخرون مرجون لأمر الله، إما معذبون أو حال من الضمير المستكن في مرجون، تقديره: ومن أهل المدينة قوم آخرون مرجون هم لأمر الله، حالة كونهم إما معذبين، وإما متوبًا
40
عليهم. ﴿وَإِمَّا يَتُوبُ﴾: الواو: عاطفة ﴿إما﴾ على ﴿إِمَّا﴾. ﴿إِمَّا﴾: حرف تفصيل، مفيدة للشك بالنسبة إلى المخاطب، ومفيدة للإبهام بالنسبة إلى الله. قال أبو البقاء: وإما إذا كانت للشك.. جاز أن يليها الاسم، وأن يليها الفعل، فإن كانت للتخيير، ووقع الفعل بعدها.. كانت معه أن كقوله: إما أن تلقى انتهى. ﴿يَتُوبُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ﴾. على كلا الاحتمالين، وقيل: غير ذلك، من أوجه الإعراب. ﴿وَاللَّهُ﴾: مبتدأ. ﴿عَلِيمٌ﴾ خبر أول. ﴿حَكِيمٌ﴾ خبر ثانٍ، والجملة الاسمية مستأنفة. مسوقة لتعليل ما قبلها.
التصريف ومفردات اللغة
﴿يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ﴾: من اعتذر من باب افتعل إذا مَهَّد العذر. والاعتذار: إظهار العذر بالأعذار الكاذبة.
﴿عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾: ﴿الْغَيْبِ﴾: ما غاب عنك علمه ﴿وَالشَّهَادَةِ﴾: ما تشهده وتعرفه.
﴿إِذَا انْقَلَبْتُمْ﴾: انقلب إلى الشيء من باب انفعل: رجع إليه ﴿إِنَّهُمْ رِجْسٌ﴾؛ أي: قذر يجب الإعراض عنهم. ﴿وَمَأْوَاهُمْ﴾: والمأوى، كل مكان يأوى إليه الشيء، ليلًا أو نهارًا، وقد أوى فلان إلى منزله، يأوي أويًا وإيواء. ﴿الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا﴾: ﴿الْأَعْرَابُ﴾ اسم لبدو العرب، واحده أعرابي، والأنثى أعرابية، والعرب اسم لهذا الجيل الذي ينطق بهذه اللغة، بَدْوِه وحَضَره، واحدَهُ عربي، كالمجوس والمجوسي واليهود واليهودي.
وفي "الفتوحات" والأعراب اسم جمع، جاء على صورة الجمع، وليس جمعًا لعرب، لئلا يلزم كون الجمع أخص من مفرده؛ لأن الأعراب سكان البادية خاصة، والعرب المتكلمون باللغة العربية، سواء سكنوا البادية أو الحاضرة، اهـ شيخنا. وفي "المصباح" وأما ﴿الْأَعْرَابُ﴾ بالفتح فأهل البَدْوِ من العرب، الواحد أعرابي بالفتح أيضًا، وهو الذي يكون صاحب نجعة، وارتياد غيث وكلأ، وزاد
41
الأزهري فقال: سواء كان من العرب، أو من مواليهم قال: فمن نزل البادية وجاور البادين، وظعن بظعنهم.. فهم أعراب، ومن نزل بلاد الريف واستوطن المدن والقرى العربية وغيرها ممن ينتمي إلى العرب.. فهم عرب وإن لم يكونوا فصحاء. قال النيسابوري: قيل إنما سمي العرب عربًا؛ لأن أولاد إسماعيل عليه السلام نشؤوا بالعرب، وهي من تهامة، فنسبوا إلى بلدهم وكل من يسكن جزيرة العرب، وينطق بلسانهم فهو منهم، وقيل: لأن ألسنتهم معربة عما في ضمائرهم، ولما في لسانهم من الفصاحة والبلاغة انتهى.
﴿وَأَجْدَرُ﴾؛ أي: أحق وأولى وأحرى يقال، هو جدير وأجدر، وحقيق وأحق، وقمن وخليق، وأولى بكذا كله بمعنى واحد. قال الليث: جدر يجدر جدارة، فهو جدير وأجدر به، يؤنث ويثنى ويجمع. قال الشاعر:
يَا رَبَّنَا يَا رَبَّنا يَا رَبَّنا يَا رَبَّنا بَارِكْ لَنَا فِي أَعْمَارِنَا
يَا رَبَّنَا يَا رَبَّنا يَا رَبَّنَا كُنْ وَافِيًا لَنَا مُرَادَنَا
وَلبَنِيْ تِسْعٍ وَخَمْسِيْنَ سَنَهْ مَعْذِرَةٌ مَقْبُوْلَةٌ مُسْتَحْسَنَهْ
نَخِيْلٌ عَلَيْهَا جَنَّةٌ عَبْقَرِيَّةٌ جَدِيْرُوْنَ يَوْمًا أَنْ يَنَالُوْا فَيَسْتَعْلُوْا
وقد نبه الراغب على أصل اشتقاق هذه المادة، وأنها من الجدار؛ أي: الحائط، فقال: والجدير المنتهي لانتهاء الأمر إليه، انتهاء الشيء إلى الجدار، والذي يظهر، أن اشتقاقه من الجدر، وهو أصل الشجرة، فكأنه ثابت كثبوت الجدر في قولك: جدير بكذا، اهـ "سمين". ﴿مَغْرَمًا﴾ والمغرم: الغرامة والخسران، من الغرام بمعنى: الهلاك؛ لأنه سببه، ومنه ﴿إن عذابها كان غرامًا﴾ وقيل: أصله الملازمة، ومنه الغريم، للزومه من يطالبه وإلحاحه عليه. ﴿وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ﴾: والتربص: الانتظار، والدوائر، هي: المصائب التي لا مخلص منها، تحيط به كما تحيط الدائرة. وقيل: تربص الدوائر هنا: موت الرسول، - ﷺ -، وظهور الشرك. قال الشاعر:
تَرَبَّصْ بِهَا ريْبَ الْمَنُوْنِ لَعَلَّهَا تُطَلَّقُ يَوْمًا أوْ يَمُوْتَ حَلِيْلُهَا
والدوائر: جمع دائرة، وهي: ما يحيط بالإنسان من مصيبة ونكبة، أخذًا من الدائرة المحيطة بالشيء، وأصلها داورة؛ لأنها من دار يدور؛ أي: أحاط، فقلبت الواو همزة ومعنى تربص الدوائر: انتظار المصائب؛ أي: انتظار انقلاب الدوائر. ففي الكلام حذف مضاف، وفي الدائرة مذهبان أظهرهما، أنها صفة
42
على فاعلة كقائمة، وقال الفارسي: يجوز أن تكون مصدرًا كالعاقبة، اهـ "سمين". ودوائر الزمان، حوادثه. والمراد بها ما لا محيص منه، من تصاريف الأيام ونوائبها التي تحيط شرورها بالناس، والدائرة أيضًا، النائبة والمصيبة، والسوء اسم لما يسوء ويضر. وقال الفراء: ﴿عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ﴾: العذاب والبلاء. قال: والسوء بالفتح مصدرر سؤته سوءًا ومساءة وسوائية ومسائية، وبالضم اسم لا مصدر. وقال أبو البقاء: السوء بالضم الضرر، وهو مصدر في الحقيقة، قلت: يعني، أنه في الأصل كالمفتوح في أنه مصدر، ثم أطلق على كل ضرر وشر. وقال مكي: من فتح السين، فمعناه الفساد والرداءة، ومن ضمها، فمعناه البلاء والضرر، وظاهر هذا، أنهما اسمان لما ذكر، ويحتمل أن يكونا في الأصل مصدرين، ثم أطلقا على ما ذكر. وقال غيره: المضموم العذاب والضرر، والمفتوح الذم، اهـ "سمين".
﴿قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ﴾؛ والـ ﴿قُرُبَاتٍ﴾: جمع قربة، وهي ما يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى، تقول منه: قربت لله قربانًا، وهي في المنزلة والمكانة، كالقرب في المكان والقرابة في الرحم. ﴿وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ﴾: والـ ﴿صلوات﴾: واحدها صلاة، ويراد بها الدعاء، والمعنى: أنه يتخذ ما ينفق سببًا لحصول القربات عند الله تعالى، وسببًا لحصول دعوات الرسول.
﴿مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ﴾: وأصل مرد وتمرد: اللين والملاسة والتجرد فكأنهم تجردوا للنفاق، ومنه غصن أمرد لا ورق عليه، وفرس أمرد لا شعر فيه، وغلام أمرد لا شعر بوجهه، وأرض مرداء لا نبات فيها، وصرح ممرد؛ أي: مجرد فالمعنى: أنهم أقاموا على النفاق، وثبتوا عليه ولم ينثنوا عنه.
﴿اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ﴾: الاعتراف: الإقرار بالشيء، ومجرد الإقرار لا يكون توبة إلا إذا اقترن به الندم على الماضي، والعزم على تركه في الحال والاستقبال. ﴿خَلَطُوا﴾: ومعنى الخلط، أنهم خلطوا كل واحد منهما بالآخر، كقولك خلطت الماء باللبن، واللبن بالماء، ويجوز أن تكون الواو في قوله: ﴿وَءَاخَرَ﴾: بمعنى الباء، كقولك بعت الشاة شاة ودرهمًا؛ أي: بدرهم. ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً﴾:
43
والصدقة: مأخوذة من الصدق إذ هي دليل على صدق مخرجها في إيمانه. والصدقة ما ينفقه المؤمن قربة لله. ﴿تزكيهم﴾: والتزكية من قولهم رجل زكى؛ أي: زائد الخير والفضل، قاله: في "الأساس". ﴿وَصَلِّ عَلَيْهِمْ﴾: والصلاة الدعاء. ﴿إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ﴾: والسكن: كل ما تسكن وتطمئن إليه النفس، وترتاح عنده من أهل ومال ومتاع ودعاء وثناء، فهو فعل بمعنى، مفعول كالقبض بمعنى، المقبوض والقنص بمعنى، المقنوص. والمعنى، يسكنون إليها. مرجون ومرجؤون وبهما قرئ؛ أي: مؤخرون يقال؛ أرجأت الأمر وأرجيته؛ أي: أخرته.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا، وضروبًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الطباق بين كلمتي ﴿الْغَيْبِ﴾ ﴿وَالشَّهَادَةِ﴾.
ومنها: التشبيه البليغ في قوله: ﴿إِنَّهُمْ رِجْسٌ﴾.
ومنها: التكرار في: ﴿يَحْلِفُونَ﴾ وفي لفظ ﴿الْأَعْرَابُ﴾، وفي قوله: ﴿وسيرى الله عملكم ورسوله﴾.
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ ونكتة العدول لهذا الظاهر التسجيل عليهم، حيث وصفهم بالخروج عن الطاعة المستوجب لما حل بهم من السخط وللإيذان بشمول الحكم لمن شاركهم في ذلك، اهـ "أبو السعود".
ومنها: المقابلة في قوله: ﴿وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا﴾، وقوله: ﴿وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: ﴿وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِر﴾؛ لأن الدوائر حقيقة في الدائرة المحيطة بالشيء، كدائرة القمر ودائرة الخط، فاستعملها في المصائب والنكبات النازلة بالإنسان، بجامع الاشتمال والإحاطة في كل.
44
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ﴾؛ حيث أطلق المسبب الذي هو القربات، وأراد السبب، أي: سبب قربات، وسبب صلوات وفي قوله: ﴿سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ﴾؛ أي: يدخلهم في جنته التي هي محل الرحمة، وهو من إطلاق الحال وإرادة المحل.
ومنها: الطباق بين قوله: ﴿عَمَلًا صَالِحًا﴾ وقوله: ﴿وَآخَرَ سَيِّئًا﴾.
ومنها: التشبيه البليغ قوله ﴿إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ﴾ حيث جعل الصلاة نفس السكن، والاطمئنان مبالغة، وأصله كالسكن حذفت أداة التشبيه، ووجه الشبه فصار بليغًا.
ومنها: الاستفهام التقريري في قوله: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ﴾.
ومنها: الاستعارة التبعية في قوله: ﴿وَآخَرَ سَيِّئًا﴾ حيث استعار الإلصاق، الذي هو معنى الباء للواو التي هي للجمع؛ لأن الواو هنا، بمعنى الباء؛ أي بآخر. قال التفتازاني: وتحقيقه أن الواو للجمع، والباء للإلصاق والجمع، والإلصاق من قبيل واحد، فسلك به طريق الاستعارة، اهـ "كرخي".
ومنها: جمع المؤكدات في قوله: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ حيث أتى بأن، وبالجملة الاسمية، وبضمير الفصل، وبصيغة المبالغة في التواب وفي الرحيم؛ تبشيرًا لعباده؛ وترغيبًا لهم كما ذكره الشوكاني.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ﴾؛ حيث شبه القبول بالأخذ، فاستعار له اسمه، فاشتق من الأخذ، بمعنى القبول، يأخذ بمعنى يقبل على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية.
ومنها: الحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
45
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (١٠٧) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَةَرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهرِينَ (١٠٨) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠) إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢) مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (١١٦) لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩)﴾.
المناسبة
لما (١) ذكر الله سبحانه وتعالى طرائق ذميمة لأصناف المنافقين أقوالًا
(١) البحر المحيط.
46
وأفعالًا.. ذكر هنا، أن منهم: من بالغ في الشر حتى ابتنى مجمعًا للمنافقين، يدبرون فيه ما شاؤوا من الشر وسموه مسجدًا.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (١) فضائح المنافقين بسبب تخلفهم عن غزوة تبوك، وأصناف المقصرين من المؤمنين.. أردف ذلك بذكر حال المؤمنين الصادقين في إيمانهم، البالغين فيه حد الكمال، وبذا تم معرفة جميع أحوال المؤمنين.
قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: لما (٢) كان الكلام من أول السورة إلى هنا براءة من الكفار والمنافقين في جميع الأحوال بين الله سبحانه هنا أنه يجب البراءة من أمواتهم، وإن قربوا غاية القرب كالأب والأم، ثم ذكر السبب الذي لأجله استغفر إبراهيم لأبيه، وهو وعده بالاستغفار بقوله: ﴿لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ فلما أصر على كفره، تبرأ منه وبعدئذٍ بين رحمته بعباده، وأنه لا يعاقبهم على شيء إلا بعد بيان شافٍ لما يعاقبون عليه.
قوله تعالى: ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ...﴾ الآية، مناسبة (٣) هذه الآية لما قبلها أنه سبحانه وتعالى لما قدم الكلام في أحوال المنافقين، من تخلفهم عن غزوة تبوك، واستطرد إلى تقسيم المنافقين إلى أعراب وغيرهم، وذكر ما فعلوا من مسجد الضرار، وذكر مبايعة المؤمنين الله في الجهاد وأثنى عليهم، وأنه ينبغي أن يباينوا المشركين، حتى الذين ماتوا منهم بترك الاستغفار لهم.. عاد إلى ذكر ما بقي من أحوال غزوة تبوك، وهذه شنشنة كلام العرب، يشرعون في شيء، ثم يذكرون بعده أشياء مناسبة، ويطيلون فيها، ثم يعودون إلى ذلك الشيء الذي كانوا شرعوا فيه.
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
47
وعبارة المراغي هنا: لما استقصى الله سبحانه وتعالى أحوال المتخلفين عن غزوة تبوك على النحو الذي سلف، عاد مرة أخرى إلى الكلام في توبتهم، جريًا على سنّة القرآن الكريم في تفريق الآيات في الموضوع الواحد؛ لأنه أفعل في النفس، وأشد تأثيرًا في القلب، وأجدى في تجديد الذكرى، وأدنى أن لا يسأم التالي لها في الصلاة وغيرها، إلا أنه مناسب لما قبله من النهي عن الاستغفار للمشركين، إذ كل مما يتاب منه وكل عثرة يطلب منها الصفح والعفو.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا...﴾ الآية، سبب (١) نزولها ما أخرجه ابن مردويه: من طريق ابن إسحاق، قال: ذكر ابنُ شهاب الزهري، عن ابن أكيمة الليثي، عن ابن أخي أبي رهم الغفاري، أنه سمع أبا رهم، وكان ممن بايع تحت الشجرة يقول: أتى منْ بني مسجدَ الضرار رسولَ الله - ﷺ -، وهو متجهز إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله، إنا بنينا مسجدًا لذي العلة والحاجة والليلة الشاتية والليلة المطيرة، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه، قال: إني على جناح السفر، وإذا قدمنا إن شاء الله.. أتيناكم فصلينا لكم فيه، فلما رجع نزل بذي أوان على ساعة من المدينة، فأنزل الله في المسجد: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا﴾، إلى آخر القصة، فدعا مالك بن الدخشن، ومعن بن عدي، أو أخاه عاصم بن عدي، فقال: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وأحرقاه، ففعلا.
وأخرج (٢) ابن أبي حاتم، وابن مردويه، من طريق العوفي عن ابن عباس قال: لما بنى رسول الله - ﷺ -، مسجد قباء خرج رجال من الأنصار، منهم: بخدج، فبنوا مسجد النّفاق فقال رسول الله - ﷺ - لبخدج "ويلك، ما أردتَ إلى ما أرى" فقال: يا رسول الله، ما أردت إلا الحسنى، فأنزل الله الآية. وأخرج ابن مردويه: من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: إن أناسًا من الأنصار بنوا مسجدًا فقال لهم أبو عامر: ابتنوا مسجدكم واستمدوا بما استطعتم
(١) لباب النقول.
(٢) لباب النقول.
48
من قوة وسلاح، فإني ذاهب إلى قيصر، ملك الروم، فآتي بجند، فأخرِجَ محمدًا وأصحابه، فلما فرغوا من مسجدهم، أتوا النبي، - ﷺ -، فقالوا له: لقد فرغنا من بناء مسجدنا، فنحب أن تصلي فيه، فأنزل الله ﴿لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا﴾.
وأخرج الواحدي، عن سعد بن أبي وقاص قال: إن المنافقين عرضوا بمسجد، يبنونه يضاهون به مسجد قباء، لأبي عامر الراهب إذا قدم ليكون إمامهم فيه، فلما فرغوا من بنائه، أتوا رسول الله، - ﷺ -، فقالوا: إنا بنينا مسجدًا، فصل فيه فنزلت: ﴿لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا﴾.
وأخرج الترمذي، عن أبي هريرة قال: نزلت هذه الآية في أهل قباء ﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَةَرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِرِينَ﴾ قال: كانوا يستنجون بالماء، فنزلت فيهم.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن جرير، عن محمَّد بن كعب القرظي، قال: قال عبد الله بن رواحة، لرسول الله، - ﷺ -، اشْتَرِطْ لربك ولنفسك ما شئتَ، قال: "أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم"، قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا، قال: "الجنة"، قالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل، فنزلت: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ﴾.
قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه البخاري (ج٣ ص ٤٦٥) عن سعيد بن المسيب، عن أبيه، أنه أخبره أنه لما حضرت أبا طالب الوفاة، جاءه رسول الله، - ﷺ -، فوجد عنده أبا جهل بن هشام، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول الله: - ﷺ -، لأبي طالب: "يا عم، قل: لا إله إلا الله كلمةً أشهد لك بها عند الله"، فقال أبو جهل، وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله - ﷺ - يعرضها عليه، ويعودان بتلك المقالة حتى قال أبو طالب، آخر ما كلمهم هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله فقال رسول الله - ﷺ -: "أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك"، فأنزل الله تعالى فيه
49
هذه الآية، والحديث قد أخرجه مسلم والنسائي وأحمد وابن جرير والبيهقي وابن أبي حاتم.
وأنزل (١) في أبي طالب ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ الآية، وظاهر هذا أن الآية نزلت بمكة.
وأخرج الترمذي وحسنه، والحاكم عن علي قال: سمعت رجلًا يستغفر لأبويه وهما مشركان، فقلت له أتستغفر لأبويك وهما مشركان، فقال: استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك. فذكرت ذلك لرسول الله، - ﷺ -، فنزلت: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ﴾. وأخرج الحاكم والبيهقي: في "الدلائل" وغيرهما عن ابن مسعود، قال: خرج رسول الله، - ﷺ -، يومًا إلى المقابر، فجلس إلى قبر منها فناجاه طويلًا، ثم بكى فبكيت لبكائه، فقال: إن القبر الذي جلست عنده قبر أمي، وإني استأذنت ربي في الدعاء لها فلم يأذن لي، فأنزل الله ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ﴾ قال الحافظ (٢) ابن حجر: يحتمل أن يكون لنزول الآية أسباب، متقدم هو أمر أبي طالب، ومتأخر وهو أمر آمنة، وقصة علي، وجمع غيره بتعدد النزول قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ﴾ مناسبة هذه الآية لما قبلها، أنه تعالى لما بالغ في وجوب الانقطاع عن المشركين الأحياء والأموات، بين أن هذا الحكم، غير مختص بدين محمَّد، - ﷺ -، بل هو مشروع أيضًا، في دين إبراهيم عليه السلام، فتكون المبالغة في وجوب الانقطاع، أكمل وأقوى، اهـ كرخى.
قوله تعالى: ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ﴾ إلى قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ سبب نزولها: ما أخرجه البخاري وغيره، عن كعب بن مالك قال: لم أتخلف عن النبي، - ﷺ - في غزوة غزاها، إلا بدرًا، حتى كانت غزوة تبوك، وهي آخر غزوة غزاها، وآذن الناس بالرحيل، فذكر الحديث بطوله، وفيه فأنزل الله توبتنا. ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ﴾
(١) لباب النقول.
(٢) لباب النقول.
50
إلى قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ قال: وفينا أنزل أيضًا، ﴿اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾.
التفسير وأوجه القراءة
١٠٧ - وقوله: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا﴾ عطف على قوله: ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ﴾؛ أي: ومن المنافقين الفريق الذين اتخذوا، وبنوا مسجدًا، وكانوا اثني عشر رجلًا من المنافقين، منهم: وديعة بن ثابت، وثعلبة بن حاطب، وجارية بن عمرو، ﴿ضِرَارًا﴾؛ أي: لأجل إضرار أهل مسجد قباء؛ أي: ومن المنافقين جماعة، بالغوا في الإجرام حتى ابتنوا مجتمعًا يدبرون فيه الشر للمؤمنين، وسموه مسجدًا مضارة للمؤمنين، وقد اشتهر باسم "مسجد الضرار" ﴿وَكُفْرًا﴾؛ أي: ولأجل تقوية الكفر والنفاق، الذي أضمروه بالطعن علي النبي، - ﷺ -، ودين الإِسلام، ﴿وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: ولأجل التفريق والتشتيت بين المؤمنين الذين كانوا يصلون في مسجد قباء؛ أي: لكي يصلي طائفة من المؤمنين في ذلك المسجد الذي بنوه، فيؤدي ذلك إلى اختلاف الكلمة، ﴿وَإِرْصَادًا﴾؛ أي: وانتظارًا ﴿لـ﴾: مجيء ﴿من حارب الله ورسوله﴾: أبي عامر الراهب الفاسق. وقوله: ﴿مِنْ قَبْلُ﴾: متعلق بحارب؛ أي: حارب الله ورسوله من قبل بناء هذا المسجد وكان أبو عامر: قد تنصر في الجاهلية، وترهب؛ أي: لبس المسوح وطلب العلم، فلما قدم النبي، - ﷺ - المدينة، عاداه؛ لأنه زالت رياسته وقال: للنبي، - ﷺ - يوم أحد لا أجد قومًا يقاتلونك إلا قاتلتك معهم، ولم يزل يقاتله - ﷺ - إلى يوم حنين، فلما انهزمت هوازن خرج هاربًا إلى الشام، وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح، وابنوا لي مسجدًا، فإني ذاهب إلى قيصر وآت من عنده بجند، فأخرج محمدًا وأصحابه من المدينة، فبنوا هذا المسجد إلى جنب مسجد قباء، وانتظروا مجيء أبي عامر ليصلي بهم في ذلك المسجد.
﴿وَلَيَحْلِفُنَّ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي، ليحلفن لك أيها الرسول، أولئك الذين بنوا ذلك المسجد، كاذبين والله، ﴿إِنْ أَرَدْنَا﴾؛ أي: ما أردنا ببناء هذا المسجد،
51
﴿إِلَّا الْحُسْنَى﴾؛ أي: إلا الفعلة الحسنى، والخصلة التي تفوق غيرها في الحسن، وهي الصلاة والذكر فيه، والرفق بالمسلمين والتوسعة على أهل الضعف والعجز عن الصلاة في مسجد قباء، أو مسجد الرسول، - ﷺ -، ﴿وَاللَّهُ﴾، سبحانه وتعالى ﴿يَشْهَدُ﴾؛ أي: يعلم ﴿إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ في قيلهم وفي حلفهم؛ لأنهم ما بنوه إلا للسوء وضرار مسجد قباء.
روي أن الذين اتخذوا هذا المسجد، كانوا اثني عشر رجلًا من منافقي الأوس والخزرج، وقد بين الله سبحانه وتعالى الأغراض التي لأجلها بنى، وهي أربعة:
١ - مضارة المؤمنين من أهل مسجد قباء، الذي بناه رسول الله، - ﷺ -، مقدمه من مكة مهاجرًا قبل وصوله إلى المدينة.
٢ - تقوية الكفر وتسهيل أعماله من فعل وترك، كتمكين المنافقين من ترك الصلاة هناك، مع خفاء ذلك على المؤمنين لعدم اجتماعهم في مسجد واحد، والتشاور فيما بينهم في الكيد لرسول الله، - ﷺ -، والطعن فيه إلى نحو أولئك من مقاصد المنافقين.
٣ - التفريق بين المؤمنين المقيمين هنالك، فإنهم كانوا يصلون جميعًا في مسجد قباء، وفي ذلك حصول التعارف والتآلف والتعاون وجمع الكلمة، وهي أهم مقاصد الإِسلام الاجتماعية، ومن ثم كان تكثير المساجد وتفريق الجماعة منافيًا لأغراض الدين ومراميه، ومن الواجب أن يصلي المسلمون الجمعة في مسجد واحد ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا فإن تفرقوا عمدًا كانوا آثمين.
ومن (١) هذا، يعلم أن بناء المساجد لا يكون قربة يتقبلها الله، إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك، ولم يكن سببًا لتفريق جماعتهم، فكثير من المساجد المتقاربة في القاهرة وغيرها من الأمصار والمدن الأخرى، لم تبن لوجه الله، بل كان الباعث على بنائها الرياء واتباع الأهواء من جهلة الأفراد والأثرياء، وعدم نصح
(١) المراغي.
52
العلماء لهم.
٤ - الانتظار والترقب، لمن حارب الله ورسوله، أن يجيء محاربًا فيجد مكانًا مرصدًا له، وقومًا راصدين مستعدين للحرب معه، وهم أولئك المنافقون الذين بنوا هذا المسجد مرصدًا له.
﴿وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى﴾؛ أي: وليحلفن ما أردنا ببنائه إلا الخصلة التي تفوق غيرها في الحسن، وهي: الرفق بالمسلمين، وتيسير صلاة الجماعة على أولي العجز والضعف، ومن يحبسهم المطر منهم، ليصدقهم الرسول الله، - ﷺ - وليصلي معهم فيه، والله يعلم إنهم لكاذبون في أيمانهم؛ لأنهم ما بنوه إلا للسوء وضرار مسجد قباء.
وقرأ جمور القراء (١): ﴿وَالَّذِينَ﴾ بالواو عطفًا على ﴿وَآخَرُونَ﴾؛ أي: ومنهم: الذين اتخذوا، الخ كما مر. وقرأ أهل المدينة، نافع، وأبو جعفر، وشيبة، وغيرهم، وابن عامر: ﴿الذين﴾ بغير واو، كذا في مصاحف المدينة، والشام، فاحتمل أن يكون بدلًا من قوله: ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ﴾ وأن يكون خبر مبتدأ تقديره هم الذين.
وقرأ الأعمش: ﴿وَإِرْصَادًا للذين حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾.
روي أن النبي، - ﷺ -، لما انصرف من تبوك راجعًا، نزل بذي أوان، وهو موضع قريب من المدينة، فأتاه المنافقون، وسألوه أن يأتي مسجدهم، فدعا بقميصه ليلبسه ويأتيهم، فأنزل الله هذه الآية، وأخبره خبر مسجد الضرار وما هموا به، فدعا رسول الله، - ﷺ -، مالك بن الدخشم، ومعن بن عدي، وعامر بن السكن، ووحشيًّا، فقال لهم: انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه فخرجوا مسرعين حتى أتوا بني سالم بن عوف وهم رهط مالك بن الدخشم فقال: أنظروني حتى أخرج إليكم بنار. فدخل أهله، فأخذ من سعف النخل، فأشعله، ثم خرجوا يشتدون حتى دخلوا المسجد وفيه أهله، فأحرقوه
(١) البحر المحيط.
53
وهدموه وتفرق عنه أهله، وأمر رسول الله، - ﷺ -، أن يتخذ ذلك الموضع كناسة، تلقى فيها الجيف والنتن والقمامة، ومات أبو عامر الراهب بالشام غريبًا وحيدًا.
وروي أن بني ابن عمرو بن عوف الذين بنوا مسجد قباء، أتوا عمر بن الخطاب في خلافته، فسألوه أن يأذن لمجمع بن جارية أن يؤمهم في مسجدهم، فقال لا ونعمة عين، أليس هو إمام مسجد الضرار. قال مجمع: يا أمير المؤمنين! لا تعجل عليَّ، فوالله لقد صليت فيه، وأنا لا أعلم ما أضمروا عليه، ولو علمت ما صليت معهم فيه، وكنت غلامًا قارئًا للقرآن، وكانوا شيوخًا لا يقرؤون، فصليت بهم ولا أحسب إلا أنهم يتقربون إلى الله، ولم أعلم ما في أنفسهم، فعذره عمر، فصدقه وأمره بالصلاة في مسجد قباء. قال عطاء: لما فتح الله على عمر بن الخطاب الأمصار، أمر المسلمين أن يبنوا المساجد، وأمرهم أن لا يبنوا في موضع واحد مسجدين يضار أحدهما الآخر.
١٠٨ - وقوله سبحانه ﴿لَا تَقُمْ﴾ يا محمَّد ﴿فِيهِ﴾ أي: في هذا المسجد الذي بني للضرار، ﴿أَبَدًا﴾ للصلاة فيه قال ابن عباس، معناه: لا تصل فيه أبدًا، منع الله عَزَّ وَجَلَّ نبيه، - ﷺ -، أن يصلي في مسجد الضرار. واللام في قوله: ﴿لَمَسْجِدٌ﴾ لام الابتداء، وقيل لام القسم، تقديره: والله مسجد أسس على التقوى وهو مسجد قباء؛ أي: لمسجد ﴿أُسِّسَ﴾؛ أي: وضع أساسه وبني أصله، ﴿عَلَى التَّقْوَى﴾؛ أي: على تقوى الله عزَّ وجلّ وطاعته ﴿مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ﴾ بني ووضع أساسه، كان ذلك البناء على التقوى، وهو مسجد قباء، أسسه رسول الله، - ﷺ -، وصلى فيه أيام مقامه بقباء، وهو يوم الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وخرج منه صبيحة يوم الجمعة، وهو أوفق للقصة، أو هو مسجد رسول الله، - ﷺ -، لقول أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - سألت رسول الله، - ﷺ -، عنه، فقال: هو مسجدكم هذا، مسجد المدينة أخرجه مسلم.
﴿أَحَقُّ﴾ وأولى، ﴿أَنْ تَقُومَ﴾ وتصلي يا محمَّد، ﴿فِيهِ﴾؛ أي: في ذلك المسجد الذي أسس على التقوى، من الصلاة في مسجد الضرار الذي يدعوك المنافقون إلى الصلاة فيه.
54
والمعنى: أن مسجدًا قصد ببنائه، منذ وضع أساسه في أول يوم، تقوى الله، بإخلاص العبادة له وجمع المؤمنين فيه على ما يرضيه من التعارف والتعاون على البر والتقوى، هو أحق من غيره أن تقوم فيه، أيها الرسول مصليًّا بالمؤمنين. والسياق يدل على أن المسجد الذي أسس على التقوى، هو مسجد قباء، ولكن روى البخاري ومسلم والنسائي: أن النبي، - ﷺ - سئل عنه، فأجاب: بأنه مسجده الذي في المدينة، والآية لا تمنع إرادة كلّ من المسجدين؛ لأن النبي، - ﷺ -، قد بنى كلًّا من المسجدين ووضع أساسه على التقوى من أول يوم شرع فيه ببنائه، ومما يدل على فضل مسجد قباء، ما روي عن ابن عمر قال: كان النبي، - ﷺ -، يزور قباء، أو يأتي قباءً راكبًا وماشيًا، زاد في رواية فيصلي فيه ركعتين، وفي رواية، أن رسول الله، - ﷺ -، كان يأتي مسجد قباء كل سبت راكبًا وماشيًا، وكان ابن عمر يفعله. أخرج الرواية الأولى والزيادة البخاري ومسلم. وأخرج الرواية الثانية البخاري. وعن سهل بن حنيف قال: قال رسول الله: - ﷺ -، من خرج حتى يأتي هذا المسجد، مسجد قباء فيصلي فيه، كان له كعدل عمرة، أخرجه النسائي. وعن أسد بن ظهير، أن النبي، - ﷺ -، قال: "الصلاة في مسجد قباء كعمرة" أخرجه الترمذي. ﴿فِيهِ﴾؛ أي: في ذلك المسجد الذي أسس على التقوى ﴿رِجَالٌ﴾ من بني عامر بن عوف يعمرونه بإقامة الصلاة، وذكر الله وتسبيحه فيه بالغدو والآصال، و ﴿يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهرُوا﴾ بذلك مما يعلق بأنفسهم من أوضار الذنوب والآثام، كما تطهر المتخلفون منهم من غزوة تبوك بالتوبة والصدقات، ويتبع الطهارة المعنوية بالعكوف فيه للصلاة وغيرها، الطهارة الحسية للثوب والبدن، وطهارة الوضوء والاغتسال. قال عطاء: كانوا يستنجون بالماء بعد الحجر ولا ينامون بالليل على الجنابة.
روى ابن خزيمة في "صحيحه" عن عويمر بن ساعدة، أنه، - ﷺ - أتاهم؛ أي: أهل مسجد قباء فقال: إن الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم، فما هذا الطهور الذي تطهرون به؟ قالوا والله يا رسول الله، ما نعلم شيئًا إلا أنه كان لنا جيران من اليهود، وكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط، فغسلنا كما غسلوا. وفي حديث رواه البزار فقالوا نتبع الحجارة بالماء. فقال هو
55
ذاك فعليكموه.
ومعنى (١) محبتهم للتطهر: أنهم يؤثرونه ويحرصون عليه عند عروض موجبه، وقيل، معناه: يحبون التطهر من الذنوب بالتوبة والاستغفار، والأول أولى كما يفيده الحديث المذكور.
والخلاصة (٢): أن التطهر يشمل الطهارتين، النفسية والبدنية والروايات وردت بكل منهما، والأولى إرادتهما معًا. ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى، ﴿يُحِبُّ الْمُطَّهِرِينَ﴾؛ أي: الذين يبالغون في طهارة الروح والجسد، لحبهم إياهما؛ لأنهم يرون فيهما الكمال الإنساني، فمن ثم يبغضون نجاسة البدن والثوب، وأشد منهما بغضًا لهم، نجاسة النفس وخبثها، بالإصرار على فعل المعاصي، والتخلق بذميم الأخلاق. كالرياء في الأعمال إذ هو فعل المنافقين، والشح بالأموال، أو بالأنفس في سبيل الله ابتغاءً لمرضاته، وحبه تعالى منزه عن مشابهته حبنا، كتنزه ذاته وسائر صفاته عن مشابهة ذواتنا وصفاتنا، ويظهر أثر حبه لعباده في أخلاقهم وأعمالهم ومعارفهم وآدابهم، كما أشار إليه الحديث القدسي الذي رواه البخاري "ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به" الحديث.
ومعنى (٣) محبة الله لهم: الرضا عنهم والإحسان إليهم كما يفعل المحب بمحبوبه، والحق أن المحبة صفة ثابتة له سبحانه وتعالى، نثبتها ونعتقدها ولا نكيفها ولا نمثلها.
وقرأ (٤) ابن مصرف والأعمش: ﴿يطهروا﴾ بالإدغام. وقرأ ابن أبي طالب: "المتطهرين".
١٠٩ - والهمزة في قوله: ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ﴾ للاستفهام التقريري (٥)، داخلة
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني
(٤) البحر المحيط.
(٥) أبو السعود.
56
على محذوف، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف تقديره: أبعد ما علم حالهم فمن أسس ووضع بناءه الذي بناه ﴿على تَقْوَى﴾ ومخافة ﴿مِنَ﴾ عقاب ﴿اللَّهِ﴾ تعالى، ﴿و﴾ رجاء، ﴿رضوان﴾ وثواب منه، وهم النبي وأنصاره، ﴿خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ﴾ ووضع ﴿بُنْيَانَهُ﴾. الذي بناه، ﴿عَلَى شَفَا﴾ وطرف ﴿جُرُفٍ﴾ وهوَّةٍ وحفرة ﴿هَارٍ﴾ ومشرف ذلك الطرف على السقوط، ﴿فَانْهَارَ﴾ وسقط ذلك الطرف ﴿بِهِ﴾؛ أي: بالباني وببنائه، ﴿فِي﴾ قعر نار، ﴿جَهَنَّمَ﴾ خير وهم أهل مسجد الضرار ورد أنهم رأوا الدخان حين حفروا أساسه، اهـ كرخي وجواب الاستفهام محذوف تقديره: الأول: خير وهو مثال، مسجد قباء، والثاني: مثال، مسجد الضرار.
والجملة مستأنفة، مسوقة لبيان خيرية الرجال المذكورين على أهل مسجد الضرار.
وعبارة المراغي هنا قوله: ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ﴾ إلخ، هذا (١) بيان مستأنف للفرق بين مقاصد أهل مسجد التقوى، وهم الرسول، - ﷺ - وأنصاره، ومقاصد أهل مسجد الضرار الذي زادوا به رجسًا إلى رجسهم.
والأساس على شفا الجرف الهاري، مثلٌ يُضرب لما يكون في منتهى الوهى والانحلال، والإشراف على الزوال؛ أي: أفمن أسس بنيانه الذي يتخذه موطنًا لراحته وهناء معيشته، ويتقي به العوامل الجوية، وعدوان الكائنات الحية على أمتن الأسس وأقواها، على مصابرة العواصف والسيول وقد العوام، والوحوش خيرٌ بنيانًا أم من أسس بنيانه على أوهى القواعد وأقلها بقاءً واستمساكًا، فكانت عرضة للانهيار في كل حين من ليل أو نهار؟ وقد ضرب الله مثل البنيان على تينك الصفتين لبيان حال الفريقين المتقدمين من صدق الإيمان والنفاق والارتياب؛ أي: أفمن كان مؤمنًا صادقًا، يتقي الله في جميع أحواله، ويبتغي مرضاته في جميع أعماله، قاصدًا تزكية نفسه وإصلاح سريرته. خير، أم من هو
(١) المراغي.
57
منافق مرتاب، يبتغي بأعماله الضرر والضرار وتقوية أعمال الكفر وموالاة الكفار وتفريق جماعة المؤمنين، والإرصاد، لمساعدة من حارب الله ورسوله، مع ما يكون لعمله في الدنيا من العار والفضيحة والخزي والبوار، وفي الآخرة من الانهيار في النار.
وخلاصة المثل (١): بيان ثبات الإِسلام وقوته وسعادة أهله به، وثمرته في أعمالهم وجزائهم عليه برضوان الله عنهم، وبيان ضعف الباطل واضمحلاله ووهيه، وقرب زواله وخيبة صاحبه، وسرعة انقطاع آماله، وبيان أن شر أعمال المنافقين ما اتخذوه من مسجد الضرار لمفاسده الأربع المتقدمة.
فالإيمان وما يلزمه من صالح العمل هو الثابت، والنفاق وما يستلزمه من فاسد العمل هو الباطل الزاهق، بحكم ناموس الاجتماع وبقاء الأصلح في الوجود، وقد صدق الله وعده وثبت المؤمنين بالقول الثابت. وهداهم إلى العمل الصالح، ففتحوا البلاد وأقاموا سبل الحق والعدل، وأهلك المنافقين، وقد جرت سنّته في كل زمان ومكان أن يكون الفوز حليف أهل الحق، والخيبة لأهل الباطل ما استمسكوا به ولم يقلعوا عنه. ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى، ﴿لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ أنفسهم بالنفاق وغيرهم بالأضرار؛ أي: لا يوفقهم ما فيه صلاحهم ونجاتهم، ولا يغفر لهم ولا ينجيهم؛ أي: مضت سنّته تعالى أن لا يكون الظالم مهتديًا في أعماله إلى الحق والعدل، ولا إلى الرحمة والفضل.
وقرأ (٢) نافع وابن عامر: ﴿أسس بنيانه﴾، مبنيًّا للمفعول في الموضعين، وقرأ باقي السبعة وجماعة: ذلك مبنيًّا للفاعل، وبنصب بنيانه. وقرأ عمارة بن عائذ: الأولى على بناء الفعل للمفعول، والثانية على بنائه للفاعل. وقرأ نصر بن علي، ورويت عن نصر بن عاصم: ﴿أسس بنيانه﴾، وعن نصر بن علي، وأبي حيوة، ونصر بن عاصم أيضًا، ﴿أساس بنيانه﴾، بالألف جمع أس، وعن نصر بن عاصم: ﴿أسس﴾، بهمزة مفتوحة وسين مضمومة. وقرىء: ﴿إساس﴾ بالكسر،
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
58
وهي جموع أضيفت إلى البنيان. وقرىء: ﴿أساس﴾ بفتح الهمزة، و ﴿أس﴾ بضم الهمزة وتشديد السين، وهما مفردان أضيفا إلى البنيان. فهذه تسع قراءات. وفي كتاب "اللوامح" قرأ، نصر بن عاصم: ﴿أفمن أسس﴾، بالتخفيف والرفع، ﴿بنيانه﴾ بالجر على الإضافة فأسس مصدر أس الحائط، يؤسه أسا، من باب شد وأسسا. وعن نصر أيضًا: ﴿أساس بنيانه﴾، كذلك إلا أنه بالألف وأس وأسس وأساس كل منها مصادر انتهى.
وقرأ عيسى بن عمر: ﴿على تقوى﴾، بالتنوين. وحكى سيبويه: هذه القراءة وردها الناس. قال ابن جني: قياسها أن تكون ألفها للإلحاق، كأرطى. وقرأ جماعة، منهم حمزة وابن عامر، وأبو بكر: ﴿جرف﴾، بإسكان الراء وباقي السبعة وجماعة: بضمها، وهما لغتان. وقيل: الأصل الضم، وفي مصحف أبي: ﴿فانهارت به قواعده في نار جهنم﴾.
١١٠ - ﴿لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُم﴾ أي: لا يزال بنيان أهل مسجد الضرار، ولا يبرح مسجدهم، ﴿الَّذِي بَنَوْا﴾ بعد ما هدم، ﴿رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾؛ أي: سبب ريبة وشك في الدين، متمكن في قلوبهم في جميع الأوقات، ﴿إِلَّا﴾ وقت، ﴿أنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ﴾؛ أي: إلا وقت أن تجعل قلوبهم قطعًا وفلذًا، إما بالسيف أو بالموت. والمعنى: أن هذه الريبة باقية في قلوبهم إلى أن يموتوا، فالاستثناء من أعم الأزمنة كما ذكره "البيضاوي"؛ أي: لا يزال (١) مسجدهم سبب شك في الدين؛ لأن المنافقين عظم فرحهم ببناء مسجد الضرار، فلما أمر رسول الله، - ﷺ -، بتخريبه ثقل ذلك عليهم، وازداد بغضهم له وارتيابهم في نبوته، وعظم خوفهم منه في جميع الأوقات، وصاروا مرتابين في أن رسول الله، - ﷺ -، هل يخلي سبيلهم، أو يأمر بقتلهم ونهب أموالهم وقال السدي: لا يزال هدم بنيانهم ريبة، أي: حرارة وغيظًا في قلوبهم في جميع الأوقات، إلا أن يموتوا؛ أي؛ إلا في وقت موتهم وتقطع أجزائهم وتمزق أجسادهم.
(١) المراح.
59
والمعنى (١): أي لا يزال بنيانهم سبب ريبة وشك في الدين؛ لأنهم يظهرون فيه حال قيامه وثباته ما في قلوبهم من آثار الكفر والنفاق، ويدبرون أمورهم ويتشاورون في ذلك، ويلقي بعضهم إلى بعض ما سمعوا من أسرار المؤمنين، مما يزيدهم ريبةً وشكًّا في الدين، وحين أمر رسول الله، - ﷺ -، بتخريبه وهدمه ثقل ذلك عليهم، وعظم خوفهم وارتابوا في أمرهم، أيتركون على حالهم؟ أم يؤمر بهم فيقتلون وتنهب أموالهم؟ إلى أنهم اعتقدوا أنهم كانوا محسنين في البناء، فلما أمر بتخريبه أصبحوا شاكين في أمره، ولأي سبب كان ذلك؟ ولا يزال هذا شأنهم في جميع الأحوال إلا حال تقطع القلوب أفلاذًا، وصيرورتها جذاذًا، فتكون غير قابلة للإدراك وفي هذا إيماء إلى أن تمكن الريبة في قلوبهم، وإضمار الشك بحيث لا يزول منها ما داموا أحياءً.
والخلاصة: أنه لا يزال هدم بنيانهم الذي بنوا، سببًا للقلق واضطراب النفس، وأن ذلك لا يزول ما دامت القلوب سالمة، أما إذا تفرقت قطعًا وتقطعت أجزاءً بقتلهم، فحينئذٍ يسلون عنه. وقد يكون المراد إلا أن يتوبوا توبةً تتقطع بها قلوبهم ندمًا وأسفًا على تفريطهم.
وقرأ (٢) ابن عامر، وحمزة، وحفص عن عاصم: ﴿إلا أن تقطع﴾ بفتح التاء والطاء المشددة؛ أي: يتقطع. وقرأ باقي السبعة: بضم التاء مبنيًّا للمجهول. وعن ابن كثير: ﴿إلا أن تقطع قلوبهم﴾، بفتح الطاء، وسكون القاف وفتح قلوبهم على الخطاب؛ أي: إلا أن تجعل قلوبهم قطعًا بالسيف. وقرأ الحسن ومجاهد وقتادة ويعقوب ﴿إلى أن تقطع قلوبهم﴾. وقرأ أبو حيوة: كذلك، إلا أنه قرأ: بضم التاء وفتح القاف، وكسر الطاء مشددة على الخطاب للرسول، وقلوبهم بالنصب، أي: تقتلهم، أو فيه ضمير الريبة، وفي مصحف عبد الله: ﴿ولو قطعت قلوبهم﴾ بالبناء للمجهول. وكذلك قرأها أصحابه. وحكى أبو عمرو: هذه القراءة ﴿إن قطعت﴾
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط والمراح.
60
بتخفيف الطاء. وقرأ طلحة: ﴿ولو قطعت قلوبهم﴾ خطابًا للرسول، - ﷺ -، أو كل مخاطب. وفي مصحف أبي: ﴿حتى الممات﴾ وفيه: ﴿حتى تقطع﴾.
والمعنى (١): أن هذه الريبة باقية في قلوبهم أبدًا ويموتون على هذا النفاق وإلا بمعنى إلى بدليل القراءة الشاذة. ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى: ﴿عَلِيمٌ﴾ بأحوالهم وأحوال جميع عباده ﴿حَكِيمٌ﴾ فيما حكم به عليهم، ومن حكمته أن بين حال المنافقين، وأظهر ما خفي من أمرهم لتعرفوا عنه الحقيقة في ذلك.
١١١ - ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى، ﴿اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ المخلصين، ﴿أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾ وهذا ترغيب للمؤمنين في الجهاد على أبلغ وجه، وأحسن صورة فقد مثل الله سبحانه وتعالى إثابة المؤمنين على بذل أنفسهم وأموالهم في سبيله، بتمليكهم الجنة التي هي دار النعيم والرضوان الدائم السرمدي، تفضلًا منه تعالى، وكرمًا بصورة من باع شيئًا هو له لآخر، وعاقد عقد البيع هو رب العزة، والمبيع هو بذل الأنفس والأموال، والثمن هو ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وجعل هذا العقد مسجلًا في الكتب السماوية، وناهيك به من صك لا يقبل التحلل والفسخ، وفي هذا منتهى الربح والفوز العظيم، وكل هذا لطف منه تعالى وتكريم لعباده المؤمنين، فهو المالك لأنفسهم إذ هو الذي خلقها، ولأموالهم إذ هو الذي رزقها. وقال الحسن: بايعهم فأغلى لهم الثمن، وانظروا إلى كرم الله أنفسًا هو خلقها وأموالًا هو رزقها ثم وهبها لهم، ثم اشتراها منهم بهذا الثمن الغالي، فإنها لصفقة رابحة. وقال بعضهم، ناهيك، عن بيع البائع فيه المؤمن والمشتري فيه رب العزة، والثمن فيه الجنة، والصك فيه الكتب السماوية، والواسطة فيه محمَّد، - ﷺ -. وقوله: ﴿يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ كلام مستأنف، لبيان البيع الذي يستلزمه الشراء، فكأنه قيل: كيف يبيعون أنفسهم وأموالهم بالجنة؟ فقيل: يقاتلون في سبيل الله؛ أي: أنهم يقاتلون في سبيل الحق والعدل التي توصل إلى مرضاة الله تعالى ببذل أنفسهم وأموالهم فيها؛ أي: يبذلون أنفسهم وأموالهم في طاعة الله تعالى ﴿فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ﴾؛ أي: فيكونون
(١) المراح.
61
إما قاتلين لأعدائه الصادين عن سبيله، وإما مقتولين شهداء في هذه السبيل، ولا فرق بين القاتل والمقتول في الفضل والمثوبة عند الله، فكل منهما كان في سبيله، ولم يكن رغبة في سفك الدماء، ولا حبًّا للأموال ولا توسلًا إلى ظلم العباد، كما يفعل الذين يقاتلون الآن لأغراض الدنيا من الملوك والأمراء.
وقرأ عمر بن الخطاب والأعمش (١): ﴿وأموالهم بالجنة﴾. وقرأ الحسن، وقتادة، وأبو رجاء، والعربيان، أبو عمرو، وابن عامر، والحرميان، نافع، وابن كثير، وعاصم، أولًا: ﴿فيقتلون﴾ بالبناء للفاعل، وثانيًا: ﴿ويقتلون﴾ بالبناء للمفعول؛ وقرأ النخعي، وابن وثاب، وطلحة، والأعمش، والأخوان - حمزة والكسائي - بعكس ذلك، والمعنى واحد، إذ الغرض أن المؤمنين يقاتلون ويؤخذ منهم من يقتل، وفيهم من يقتل، وفيهم من يجتمع له الأمران، وفيهم من لا يقع له واحد منهما، بل تحصل منهم المقاتلة.
وقال أبو علي (٢): القراءة الأولى بمعنى، أنهم يقتلون أولًا، ويقتلون، والأخرى يجوز أن تكون في المعنى، كالأولى؛ لأن المعطوف بالواو يجوز أن يراد به التقديم، فإن لم يقدر فيه التقديم، فالمعنى، يقتل من بقي منهم بعد قتل من قتل.
وفي "المراح" (٣): فمعنى تقديم الفاعل على المفعول، أنهم يقتلون الكفار ولا يرجعون عنهم إلى أن يصيروا مقتولين. وأما تقديم المفعول على الفاعل، فالمعنى: أن طائفة كبيرة من المسلمين، وإن صاروا مقتولين لم يصر ذلك رادعًا للباقي عن المقاتلة، بل يبقون بعد ذلك مقاتلين مع الأعداء، قاتلين لهم بقدر الإمكان. ﴿وَعْدًا عَلَيْهِ﴾؛ أي: وعدهم الله ذلك عليه وعدًا ﴿حَقًّا﴾؛ أي: ثابتًا عليه وأوجبه على نفسه وجعله حقًّا وأثبته ﴿فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ﴾ فإن الله سبحانه بين في الكتابين أنه اشترى من أمة محمَّد أنفسهم وأموالهم بالجنة،
(١) البحر المحيط.
(٢) زاد المسير.
(٣) المراح.
62
كما بين في القرآن، وضياعه منهما في النسخ التي بين يدي أهل الكتاب لا يقدح في ذلك؛ لأنه قد ضاع منهما كثير، وحرف بعضهما لفظًا ومعنى، ويكفي إثبات القرآن لذلك وهو المهيمن عليهما. والاستفهام في قوله: ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ﴾ إنكاري؛ أي: لا أحد أوفى بعهده وأصدق في إنجاز وعده من الله، إذ لا يمنعه من ذلك عجز عن الوفاء، ولا يعرض له تردد ولا رجوع عما يريد إمضاءه من شأنه. والفاء في قوله: ﴿فَاسْتَبْشِرُوا﴾ فاء الفصيحة؛ أي: فإذا كان الأمر على هذه الحال فأظهروا السرور، وافرحوا غاية الفرح ﴿بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ﴾ مع ربكم، وهو بيع الأنفس والأموال بالجنة؛ أي: فافرحوا غاية الفرح بجهادكم الذي فزتم به الجنة، ﴿وَذَلِكَ﴾ البيع الذي هو بيع الأنفس والأموال بالجنة، ﴿هُوَ الْفَوْزُ﴾؛ أي: سبب الفوز؛ لأنه رابح في الآخرة، ﴿الْعَظِيمُ﴾ الذي لا فوز أعظم منه، وما يتقدمه من النصر والسيادة والملك، لا يعد فوزًا إلا بكونه وسيلة لإقامة الحق والعدل.
وفي هذا الأسلوب من تأكيد استحقاق المجاهدين للثواب ما لا يخفى، إذ جعلهم مالكين معه، ومبايعين له، ومستحقين الثمن الذي بايعهم به، وأكد لهم أمر الوفاء وإنجاز وعده، وعن جعفر الصادق أنه قال: ليس لأبدانكم ثمن إلا الجنة، فلا تبيعوها إلا بها. يريد أن الذي يقتل أو يموت في سبيل الله، بذل بدنه الفاني لا روحه الباقي.
١١٢ - ثم وصف الله سبحانه هؤلاء الكملة من المؤمنين، الذين باعوا أنفسهم وأموالهم، بجنته بصفات تسعة، الستة الأولى منها، تتعلق بمعاملة الخالق، والسابع والثامن، يتعلقان بمعاملة المخلوق، والتاسع يعم القبيلين:
١ - ﴿التَّائِبُونَ﴾ وهو خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هم الراجعون إلى ربهم، بتركهم كل ما يبعد عن مرضاته، وقرأ أبي، وعبد الله، والأعمش: ﴿التائبين﴾ بالياء، إلى والحافظين نصبًا على المدح. واعلم أن التوبة المقبولة إنما تحصل باجتماع أمور أربعة: الإقلاع عن الذنب في الحال، والندم على ما مضى منه، والعزم على الترك في المستقبل. ورابعها: أن يكون الحامل له على هذه الأمور
63
الثلاثة طلب رضوان الله تعالى وعبوديته، فإن كان غرضه منها دفع مذمة الناس، وتحصيل مدحهم، أو لغرض آخر من الأغراض الدنيوية، فليس بتائب، ولا بد من رد المظالم إلى أهلها إن كانت، فالتوبة تختلف باختلاف المعاصي، فتوبة الكفار هي: رجوعهم عن الكفر الذي كانوا عليه، كما قال: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ﴾ وتوبة المنافق تكون بترك نفاقة، وتوبة العاصي من معصيته، تكون بالندم على ما حصل منه والعزم على عدم العود لمثله، كتوبة من تخلف عن غزوة تبوك من المؤمنين، وتوبة المقصر في شيء من البر وعمل الخير تكون بالاستزادة منه، وتوبة من يغفل عن ربه تكون بالإكثار من ذكره وشكره.
٢ - ﴿الْعَابِدُونَ﴾ لله المخلصون في جميع عباداتهم، فلا يتوجهون إلى غيره بدعاء ولا استغاثة، ولا يتقربون إلى غيره بعمل قربان ولا طلب مثوبة في الآخرة.
٣ - ﴿الْحَامِدُونَ﴾ لله في السراء والضراء، روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي، - ﷺ -؛ إذا أتاه الأمر يسره قال: "الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات" وإذا أتاه الأمر يكرهه قال: "الحمد لله على كل حال".
وروى البغوي بغير سند، عن ابن عباس، عن النبي - ﷺ - قال: "أول من يدعى إلى الجنة يوم القيامة الذين يحمدون الله في السراء والضراء" وقيل: "هم الذين يحمدون الله ويقومون بشكره على جميع نعمه دنيا وأخرى".
٤ - ﴿السَّائِحُونَ﴾ في الأرض والمتنقلون فيها من بلد إلى بلد آخر لغرض صحيح، كعلم نافع للسائح في دينه أو دنياه، أو نافع لقومه وأمته أو النظر في خلق الله وأحوال الأمم والشعوب للاعتبار والاستبصار، وقد قيل: إن السياحة لها أثر عظيم في تهذيب النفس وتحسين أخلاقها؛ لأن السائح، لا بد أن يلقى أنواعًا من التفسير والبؤس، ولا بد له من الصبر عليها، ويلقى العلماء والصالحين في سياحته، فيستفيد منهم ويرى العجائب وآثار قدرة الله تعالى فيتفكر في ذلك، فيدله على وحدانية الله سبحانه وتعالى وعظيم قدرته.
64
وقد حث الله سبحانه وتعالى كثيرًا على السير في الأرض والضرب فيها، كما قال: ﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ﴾ وعلى السفر والسياحة لطلب الرزق الحلال من تجارة وغيرها. وفسر بعضهم السياحة بالصوم لما روي عن عائشة - رضي الله عنها -: "سياحة هذه الأمة الصيام؛ لأن الصوم يعوق عن اللذات كما أن السياحة كذلك غالبًا. وقال الأزهري، قيل للصائم، سائح؛ لأن الذي يسيح في الأرض كان متعبدًا لا زاد معه، فكان ممسكًا عن الأكل، وكذلك الصائم ممسك عن الأكل. وقيل: أصل السياحة استمرار الذهاب في الأرض، كالماء الذي يسيح، والصائم مستمر على فعل الطاعة وترك المنهي.
٥ - ٦ ﴿الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ﴾ في صلواتهم المفروضة، وخُصَّا بالذكر لما فيهما من الدلالة على التواضع والعبودية والتذلل لله سبحانه وتعالى. والمراد بهم، المصلون وإنما عبر عن الصلاة بالركوع والسجود لأنهما معظم أركانها وبهما يتميز المصلي من غير المصلي، بخلاف حالة القيام والقعود لأنما يكونان للمصلى ولغيره.
٧ - ﴿الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ شرعًا، يعني: يأمرون الناس بالإيمان باللهِ وحده، وما يتبعه من أعمال البر والخير.
٨ - ﴿وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ شرعًا، الذين ينهون الناس عن الإشراك بالله، وعن غيره من سائر الأعمال السيئة.
ولم يذكر في الآية لهذه الأوصاف متعلقًا، فلم يقل: التائبون من كذا لله، والعابدون لله لفهم ذلك، إلا صفتي الأمر والنهي مبالغةً في ذلك، ولم يأت بعاطف بين هذه الصفات لمناسبة بعضها لبعض، إلا في صفتي الأمر والنهي لتباين ما بينهما، فإن الأمر طلب فعل، والنهي طلب ترك أو كف، وكذا الحافظون عطفه وذكر متعلقة لعدم مناسبته للصفات السابقة، ولخفاء متعلقة، اهـ "سمين".
وقال الخازن: أما دخول الواو في قوله: ﴿وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ فإن
65
العرب تعطف بالواو على السبعة، ومنه قوله تعالى: ﴿وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾ وقيل: غير ذلك.
٩ - ﴿وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى أي لتكاليف الله المتعلقة بالعبادات وبالمعاملات؛ أي: الحافظون لشرائعه وأحكامه التي بين فيها ما يجب على المؤمنين اتباعه، وما يحظر عليهم فعله منها، وكذا ما يجب على أئمة المسلمين، وأولي الأمور منهم إقامته وتنفيذه بالعمل في أفراد المسلمين وجماعتهم، إذا أخلوا بما يجب عليهم حفظه منها. ثم ذكر جزاءهم على ذلك فقال: ﴿وَبَشِّرِ﴾ يا محمَّد ﴿الْمُؤْمِنِينَ﴾ المتصفين بهذه الصفات السابقة بخيري الدنيا والآخرة.
وخصت تلك الخلال بالذكر؛ لأن بها تكون المحافظة على حدود الله.
١١٣ - ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ﴾؛ أي: ما جاز لمحمد، - ﷺ -، ﴿و﴾ لا لـ ﴿لذين آمنوا﴾ بالله ورسوله ﴿أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا﴾؛ أي: ولو كان أولئك المشركون ﴿أُولِي قُرْبَى﴾؛ أي: أصحاب قرابة للنبي والمؤمنين؛ أي: ما كان من شأن النبي، ولا مما ينبغي أن يصدر منه من حيث هو نبي، ولا من شأن المؤمنين، ولا مما يجوز أن يقع منهم أن يدعوا الله طالبين منه المغفرة للمشركين، ولو كان لهم حق البر وصلة الرحم، وكانت عاطفة القرابة تقتضي الحدب والإشفاق عليهم. وقوله: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ﴾ وظهر ﴿لَهُمْ﴾ بالدليل ﴿أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾؛ أي أهل النار بأن ماتوا على الكفر، أو بأن نزل وحي يسجل عليهم ذلك، كإخباره تعالى عن بعض الجاحدين المعاندين بنحو قوله: ﴿وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾.. متعلق بالنفي أو بالاستغفار المنفي. وأما قبل الموت فيفصل، فإن أريد بطلب المغفرة للكافر، هدايته للإسلام.. جاز الاستغفار له وإن أريد به أن تغفر ذنوبه مع بقائه على الكفر.. لم يجز. فمفهوم قوله: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ﴾ إلخ، فيه تفصيل، اهـ "فتوحات" ومعنى الآية: ما كان ينبغي للنبي، والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين وليس لهم ذلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يغفر للمشركين، ولا يجوز أن يطلب منه ما لا يفعله. ففيه النهي عن الاستغفار
للمشركين ولو كانوا أولي قربى؛ لأن النهي عن الاستغفار للمشركين عام، فيستوي فيه القريب والبعيد.
وخلاصة ذلك: أن النبوة والإيمان الصادق، لا يبيحان الاستغفار للمشركين في كل حال، حتى ولو كانوا أولي قربى، إذا ظهر لهم بالدليل، أنهم من أصحاب الجحيم.
وقد تقدم لك في أسباب النزول أن هذه الآية نزلت في أبي طالب، وقد استبعد بعض العلماء نزولها فيه؛ لأن موت أبي طالب كان في مكة قبل الهجرة بنحو ثلاث سنوات، وأجاب عنه آخرون بأحد أمرين:
١ - إما بأنها نزلت عقب موته، ثم ألحقت بهذه السورة المدنية، لمناسبتها لأحكامها الخاصة بالبراءة من الكفار وفضيحة المنافقين.
٢ - وإما بأنها نزلت مع غيرها من براءة، مبينة لحكم استغفار النبي، - ﷺ - له، وقد كان من ذلك الحين إلى نزول الآية، يستغفر لأبي طالب، فإن التشديد على الكفار والبراءة منهم إنما جاء في هذه السورة.
وفي الآية إيماء إلى تحريم الدعاء، لمن مات على كفره بالمغفرة والرحمة، أو بوصفه بذلك، كقولهم: المغفور له، والمرحوم فلان، كما يفعله بعض جهلة المسلمين من الخاصة والعامة.
١١٤ - ثم أجاب عن سؤال قد يختلج بالخاطر مما تقدم فيقال: كيف يمنع النبي والمؤمنون من الاستغفار لأقربائهم وقد استغفر إبراهيم لأبيه؟ فقال: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ﴾؛ أي: وما استغفر إبراهيم، ﴿لِأَبِيهِ﴾ آزر بقوله: ﴿وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ﴾؛ أي: وَفِّقْه للإيمان وَاهدِه إلى سبيله، ﴿إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ﴾ مبنية على عدم تبين أمره كما ينبىء عنه قوله: ﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ﴾ إلخ، والاستثناء مفرغ من أعم العلل؛ أي: لم يكن استغفاره لأبيه ناشئًا عن شيء، ولا لأجل شيء، إلا لأجل موعدة ﴿وَعَدَهَا﴾ إبراهيم ﴿إياهُ﴾؛ أي: أباه بقوله سأستغفر لك ربي؛ أي: لا أملك لك هدايةً ولا نجاةً وإنما أملك أن أدعو الله لك وقد وفى إبراهيم بما وعده ولم يكن إلا وَفِيًّا كما شهد الله له بقوله: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي
وَفَّى}. وقرأ (١) الحسن. وحماد الراوية وابن السميقع، وأبو نهيك، ومعاذ القارئ: ﴿وَعَدَهَا إِيَّاهُ﴾ بالباء الموحدة.
﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ﴾؛ أي: فلما ظهر لإبراهيم، ﴿أَنَّهُ﴾؛ أي: أن أباه، ﴿عَدُوٌّ لِلَّهِ﴾؛ أي: مستمر على الكفر ومات عليه، ﴿تَبَرَّأَ﴾ إبراهيم، ﴿مِنْهُ﴾؛ أي: من أبيه وترك الاستغفار له؛ أي؛ إن إبراهيم استغفر لأبيه ما كان حيًّا، فلما مات أمسك عن الاستغفار له.
والمعنى: أي (٢) لم يزل إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات، فلما مات تبين له أنه عدو لله فتبرأ منه. قال ابن عباس: وقيل، تبين له ذلك بوحي من الله، فتبرأ منه ومن قرابته، وترك الاستغفار له، إذ هذا مقتضى الإيمان كما قال تعالى: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ﴾ الآية.
ثم بيّن السبب الذي حمل إبراهيم على الوعد بالاستغفار لأبيه، مع شكاسته له وسوء خلقه معه كما يؤذن بذلك قوله: ﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا﴾ فقال: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ﴾ عليه السلام، ﴿لَأَوَّاهٌ﴾؛ أي: كثير التأوه والدعاء والتضرع إلى الله، ﴿حَلِيمٌ﴾؛ أي: صبور على المحنة؛ أي: إن إبراهيم لكثير المبالغة في خشية الله والخضوع له، صبور على الأذى والصفح عن زلات غيره عليه،
١١٥ - ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ﴾؛ أي: وما كان من سنن الله في خلقه ولا من رحمته وحكمته ﴿لِيُضِلَّ قَوْمًا﴾؛ أي: أن يصف قومًا بالضلال، ويجري عليهم أحكامه بالذم والعقاب، ﴿بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ﴾ إلى الإيمان، وشرح صدورهم للإسلام بقول يصدر منهم خطأ أو عمل يحدث منهم باجتهاد خاطيء، ﴿حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ بالوحي، ﴿مَا يَتَّقُونَ﴾؛ أي: ما ينزجرون منه، وينتهون عنه من الأقوال والأفعال، بيانًا واضحًا فيمتنعوا من امتثال نهيه.
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
والحاصل (١): أنه لما نزل المنع من الاستغفار للمشركين، خاف المؤمنون من المؤاخذة بما صدر عنهم منه قبل المنع، وقد مات قوم منهم قبل النهي عن الاستغفار، فوقع الخوف في قلوب المسلمين على من مات منهم أنه كيف يكون حالهم، فأزال الله تعالى ذلك الخوف عنهم بهذه الآية، وبين أنه تعالى لا يؤاخذهم بعمل، إلا بعد أن يبين لهم أنه يجب عليهم أن يحترزوا عنه. والمعنى؛ أي: وما كان الله ليقضي عليكم بالضلال بسبب استغفاركم لموتاكم المشركين، بعد أن رزقكم الهداية ووفقكم للإيمان به وبرسوله، حتى يبين لكم بالوحي ما يجب الاحتراز عنه من محظورات الدين، فلا تنزجروا عما نهيتم عنه، ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى، ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ﴾ من المعلومات ﴿عَلِيمٌ﴾ فيعلم حاجتهم إلى بيان قبح ما لا يستقل العقل في معرفته فبين لهم ذلك؛ أي: أنه تعالى عليم بجميع الأشياء، ومن جملتها حاجة الناس إلى البيان، فهو يبين لهم مهمات الدين بالنص القاطع حتى لا يضل فيه اجتهادهم بأهواء أنفسهم، ومن أجل هذا لم يؤاخذ إبراهيم في استغفاره لأبيه قبل أن تتبين له حاله، وكذلك لا يؤاخذ النبي، والذين آمنوا بما سبق لهم من الاستغفار لوالديهم، وأولي القربى منهم قبل هذا التبيين لحكم الله تعالى.
١١٦ - ولما منعهم من الاستغفار للمشركين، ولو كانوا أولي قربى، وذلك يستدعي التبرؤ منهم وعدم انتظار النصرة من أحد.. بين أن النصر لا يكون إلا من جهته تعالى فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى: ﴿لَهُ﴾ لا لغيره ﴿مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ وسلطنتهما والتصرف فيهما كيف يشاء؛ أي: أنه تعالى مالك كل موجود، ومتولي أمره في السموات والأرض وهو الذي ﴿يُحْيِي﴾؛ أي: يهب الحياة بمحض قدرته ومشيئته ومقتضى سننه في التكوين، ﴿وَيُمِيتُ﴾ من يشاء حين انقضاء أجله، ﴿وَمَا لَكُمْ﴾ أيها المؤمنون، ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾؛ أي: غيره، ﴿مِنْ وَلِيٍّ﴾ يتولى أموركم، ﴿وَلَا﴾ من، ﴿نَصِيرٍ﴾ ينصركم على أعدائكم؛ أي: وليس لكم أيها المؤمنون من يتولى أموركم، ولا من ينصركم على عدوِّكم غير الله تعالى، فلا
(١) المراح.
تحيدوا عن هدايته فيما نهاكم عنه من الاستغفار لأولي القربى، الذين هم أهل الولاية والنصرة من ذوي الأرحام، ولا في غير ذلك من أوامره ونواهيه.
والحاصل: أنه تعالى لما أمر بالبراءة من الكفار، بين أن له ملك السموات والأرض، فإذا كان هو ناصرًا لكم.. فهم لا يقدرون على إضراركم؛ أي: أنكم إن صرتم محرومين عن معاونتهم.. فالإله الذي هو المالك للسموات والأرض، والمحيي والمميت ناصركم، فلا يضركم أن ينقطعوا عنكم، والواجب عليكم أن تنقادوا لحكم الله تعالى وتكليفه، لكونه إلهكم، ولكونكم عبيدًا له.
١١٧ - ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ﴾، ﷺ -؛ أي: وعزتي وجلالي، لقد عفا الله سبحانه وتعالى عن النبي، محمَّد، - ﷺ -، فيما وقع منه من إذنه للمنافقين في التخلف عنه في غزوة تبوك، وهو شيء صدر منه من باب ترك الأولى والأفضل، لا أنه ذنب يوجب عقابًا؛ لأنه معصوم، أو فيما وقع منه من الاستغفار للمشركين، ويحتمل أن يكون ذكر النبي، بالتوبة عليه تشريفًا للمهاجرين والأنصار؛ حيث ضم توبتهم إلى توبة النبي، - ﷺ -، كما ضم اسم الرسول إلى اسم الله في قوله: ﴿فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ﴾ فهو تشريف له، - ﷺ -، ﴿و﴾ كذلك تاب الله سبحانه وتعالى على ﴿المهاجرين والأنصار﴾؛ أي: عفا (١) عنهم عما وقع منهم، من الوساوس، والخطرات النفسانية التي وقعت في قلوبهم، من الميل إلى القعود عن غزوة تبوك؛ لأنها كانت في وقت حر شديد، وربما وقع في قلوب بعضهم أنا لا نقدر على قتال الروم، وكيف لنا بالخلاص منهم فتاب الله عليهم، وعفا عنهم ما وقع في قلوبهم من هذه الخطرات. وقيل: إن الإنسان لا يخلو من زلات وتبعات في مدة عمره، إما من باب الصغائر، وإما من باب ترك الأفضل، ثم إن النبي، - ﷺ -، والمؤمنين لما تحملوا مشاق هذا السفر، ومتاعبه، وصبروا على تلك الشدائد التي حصلت لهم في هذا السفر، غفر الله لهم، وتاب عليهم، لأجل ما تحملوه من الشدائد العظيمة في تلك الغزوة مع النبي، - ﷺ - وإنما ضم ذكر النبي، - ﷺ -، إلى ذكرهم؛ تنبيهًا على عظم مراتبهم في الدين، وأنهم قد بلغوا إلى الرتبة التي
(١) الفتوحات.
70
لأجلها ضم ذكر النبي، - ﷺ -، إلى ذكرهم.
ثم وصف الله سبحانه وتعالى المهاجرين والأنصار بقوله: ﴿الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾ - ﷺ - ولم يتخلفوا عنه، ﴿فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ﴾ والمشقة؛ أي: (١) في الزمان الذي صعب عليهم الأمر جدًّا في السفر إلى تبوك وكانت لهم عسرة من الزاد، وعسرة من الظهر، وعسرة من الحر، وعسرة من الماء، فربما مص التمرة الواحدة جماعة يتناوبونها، حتى لا يبقى من التمرة إلا النواة، وكان معهم شيء من شعير مسوس، فكان أحدهم إذا وضع اللقمة في فيه أخذ أنفه من نتن اللقمة، وكانت العشرة من المسلمين يخرجون على بعير واحد يعتقبونه بينهم، وكانوا قد خرجوا في قيظ شديد، وأصابهم فيه عطش شديد، حتى إن الرجل لينحر بعيره، فيعصر فرثه ويشربه، وكانت تلك الغزوة تسمى غزوة العسرة، وجيشها يسمى جيش العسرة.
وقد ذكر بعض العلماء أن النبي - ﷺ - سار إلى تبوك في سبعين ألفًا ما بين راكب وماش من المهاجرين والأنصار، وغيرهم من سائر القبائل، اهـ "خازن". والمراد بالساعة هنا، مطلق الوقت والزمن، لا الساعة الفلكية كما أشرنا إليه في الحل.
وقوله: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ﴾ إلخ بيان (٢) لتناهى الشدة وبلوغها النهاية؛ أي: الذين اتبعوه في وقت المشقة والشدة ﴿مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ﴾؛ أي: من بعد ما قرب أن تميل قلوب بعضهم إلى أن يفارق النبي - ﷺ -، في ذلك الغزو لحر شديد، ولم ترد الميل عن الدين، وربما وقع في قلوب بعضهم أنا لا نقدر على قتال الروم، وكيف لنا بالخلاص منها؛ ولكنهم صبروا واحتسبوا، وندموا على ما خطر في قلوبهم، فلأجل ذلك قال تعالى: ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: عفا الله عنهم ما وقع في قلوبهم من تلك الخواطر والوساوس، لما صبروا وندموا على ذلك الهم، يعني، أنه سبحانه وتعالى علم إخلاص نيتهم،
(١) المراح.
(٢) الفتوحات.
71
وصدق توبتهم فرزقهم الإنابة والتوبة. وفي تكرير (١) التوبة تأكيد ظاهر، واعتناء بشأنها إن كان الضمير راجعًا إلى من تقدم ذكر التوبة عنهم، وإن كان الضمير إلى الفريق.. فلا تكرار، أو يراد بالأول: إنشاء التوبة، وبالثاني: استدامتها. فإن (٢) قلت: قد ذكر التوبة أولًا، ثم ذكرها ثانيًا، فما فائدة التكرار؟
قلتُ: إنه تعالى ذكر التوبة أولًا، قبل ذكر الذنب، تفضلًا منه، وتطييبًا لقلوبهم، ثم ذكر الذنب بعد ذلك وأردفه بذكر التوبة مرة أخرى؛ تعظيمًا لشأنهم، وليعلموا أنه سبحانه وتعالى قد قبل توبتهم وعفا عنهم.
ثم علل قبول توبتهم بقوله: ﴿إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ تأكيدًا لذلك؛ أي: إنه سبحانه وتعالى رؤوف بهم؛ أي: منعم عليهم بجلائل النعم التي منها مجرد الإيمان، وأنه رحيم بهم؛ أي: منعم عليهم بدقائقها التي منها قوة الإيمان وزيادته بقبول التوبة. وقيل: معنى رؤوف؛ أي: مكرم لهم بدفع المضار عنهم، رحيم بهم بجلب المنافع لهم. وفي، "الفتوحات" الرأفة، عبارة عن السعي في إزالة الضرر، والرحمة، عبارة عن السعي في إيصال النفع، اهـ. وقيل: رؤوف بهم، فلا يحملهم ما لا يطيقون من العبادة رحيم بهم، فلا (٣) يهملهم بأن ينزع الإيمان منهم، بعد ما أبلوا في الله، وأبلوا مع رسوله، وصبروا في البأساء والضراء.
وقرأ حمزة، وحفص عن عاصم: ﴿كَادَ يَزِيغُ﴾ بالياء التحتية. وقرأ باقي السبعة: ﴿تزيغ﴾ بالتاء الفوقية. وقرأ الأعمش، والجحدري: ﴿تزيغ﴾ بضم التاء. وقرأ أبي: ﴿من بعد ما كادت تزيغ﴾. وقرأ ابن مسعود: ﴿من بعد ما زاغت﴾.
ومعنى تزيغ: تتلف بالجهد والمشقة والشدة، وقيل، معناه: تميل عن الحق، وتترك المناصرة والممانعة، وقيل معناه: تهم بالتخلف عن الغزو لما هم فيه من الشدة العظيمة.
١١٨ - وقوله: ﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ﴾ معطوف على قوله: ﴿عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ﴾ وفائدة هذا العطف، بيان قبول توبتهم؛ أي: ولقد تاب الله سبحانه
(١) الشوكاني.
(٢) الخازن.
(٣) المراغي.
(٤) الشوكاني.
72
وتعالى على النبي والمهاجرين وعلى الثلاثة، ﴿الَّذِينَ خُلِّفُوا﴾؛ أي: أخروا في قبول توبتهم عن الطائفة الأولى التي خلطت عملًا صالحًا وآخر سيئًا كأبي لبابة وأصحابه وهؤلاء الثلاثة، هم كعب بن مالك الشاعر، وهلال بن أمية، الذي نزلت فيه آية اللعان، ومرارة بن الربيع، وكلهم من الأنصار، وهم المرادون بقوله سبحانه: ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ﴾ وكلمة إذا في قوله: ﴿حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ﴾ زائدة، وفي "الفتوحات" ولا بد من ادعاء أحد أمرين، إما ادعاء زيادة إذا وإما ادعاء زيادة ثم، وقد نص "زكريا على البيضاوي" على زيادة ثم وغيره على زيادة إذا؛ أي: أخر أمرهم إلى أن ضاقت عليهم الأرض ﴿بِمَا رَحُبَتْ﴾؛ أي: مع رحبها وسعتها بسبب مجانبة الأحباء، ونظر الناس لهم بعين الإهانة والتحقير؛ لأن النبي، - ﷺ -، كان معرضًا عنهم ومنع المؤمنين من مكالمتهم وأمرهم باعتزال أزواجهم، وبقوا على هذه الحالة خمسين ليلة.
والمعنى: خلفوا عن التوبة حتى شعروا بأن الأرض قد ضاقت عليهم على رحبها وسعتها بالخلق جميعًا، خوفًا من العاقبة وجزعًا من إعراض النبي، - ﷺ -، والمؤمنين عنهم، وهجرهم إياهم في المجالسة والمحادثة، وهذا مثل للحيرة في الأمر، كأنهم لا يجدون فيها مكانًا يقرون فيه قلقًا وجزعًا مما هم فيه قال قائلهم:
كَأَنَّ فِجَاجَ الأَرْضِ وَهِيَ فَسَيْحَةٌ عَلَى الْخَائِفِ الْمَطْلُوْبِ كَفَّةُ حَابِلِ
ثم ترقى وانتقل من ضيق الأرض عليهم إلى ضيقهم في أنفسهم فقال: ﴿وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ﴾؛ أي: وأخروا إلى أن ضاقت قلوبهم إذا رجعوا إلى أنفسهم لا يطمئنون بشيء، بسبب تأخير أمرهم من قبول التوبة.
والمعنى: وضاقت أنفسهم على أنفسهم لما كانوا يشعرون به من ضيق صدورهم، بامتلائها بالهم والغم حتى لا متسع فيها لشيء من البسط والسرور، فكانهم لا يجدون لأنفسهم مكانًا ترتاح إليه وتطمئن به.
﴿وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ﴾؛ أي: وأخروا إلى أن ظنوا وأيقنوا
73
وعلموا أنه لا ملجأ ولا منجا لأحد من سخطه تعالى وغضبه إلا إليه تعالى، بالتوبة والاستغفار ورجاءِ رحمته، وقد أعرض عنهم رسوله البرّ الرحيم بأصحابه، فلم يكونوا يستطيعون أن يطلبوا دعاءه، واستغفاره، إلا أنه - ﷺ -، لا يشفع في الدنيا، ولا في الآخرة إلا لمن ارتضى الله أن يشفع لهم.
﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: على هؤلاء الثلاثة؛ أي: ثم وفقهم التوبة الصحيحة المقبولة ﴿لِيَتُوبُوا﴾؛ أي: ليحصلوا التوبة، وينشئوها، فبهذا المعنى تحصل المغايرة، ويصح التعليل. وفي "البيضاوي" ثم تاب عليهم بالتوفيق للتوبة ليتوبوا، أو أنزل قبول توبتهم ليعدوا من جملة التوابين، أو رجع عليهم بالقبول والرحمة مرة بعد أخرى، ليستقيموا على توبتهم، اهـ.
وفي "الخازن" ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ﴾ فيما مضى، ﴿لِيَتُوبُوا﴾؛ أي: ليكون ذلك داعيًا لهم إلى التوبة في المستقبل، فيرجعوا ويداوموا عليها. وقيل: إن أصل التوبة الرجوع، ومعناه حينئذٍ: ثم تاب عليم ليتوبوا؛ أي: ليرجعوا إلى حالتهم الأولى، يعني: إلى عادتهم في الاختلاط بالناس ومكالمتهم فتسكن نفوسهم بذلك، اهـ ببعض تصرف. وفي "المراغي" ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: ثم عطف عليهم وأنزل قبول توبتهم. ﴿لِيَتُوبُوا﴾ ويرجعوا إليه بعد إعراضهم عن هدايته، واتباع رسوله، - ﷺ -، ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى، ﴿هُوَ التَّوَّابُ﴾؛ أي: الكثير القبول لتوبة التائبين، ﴿الرَّحِيمُ﴾؛ أي: الكثير الرحمة للمحسنين، المتفضل عليهم بضروب النعم، مع استحقاقهم لأعظم أنواع العقاب، ولما نزلت هذه الآية، خرج رسول الله، - ﷺ -، من حجرته وهو عند أم سلمة فقال: الله أكبر، قد أنزل الله عذر أصحابنا، فلما صلى الفجر، أخبر ذلك لأصحابه وبشرهم بأن الله تاب عليهم، فانطلقوا إلى رسول الله، - ﷺ -، وتلا عليهم ما نزل فيهم. وقال كعب بن مالك: توبتي إلى الله، أن أخرج عن مالي صدقة، فقال: لا، قلت: فنصفه، قال: لا، قلت: فثلثه، قال: نعم. وقصتهم مشهورة مذكورة في حديث رواه البخاري وغيره،
١١٩ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ باللهِ ورسوله، ﴿اتَّقُوا اللَّهَ﴾ وراقبوه بأداء فرائضه، واجتناب نواهيه، ﴿وَكُونُوا﴾ في الدنيا من أهل ولايته وطاعته تكونوا في
74
الآخرة، ﴿مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ في الجنة، ولا تكونوا مع المنافقين الذين يتنصلون من ذنوبهم بالكذب، ويؤيدونه بالحلف.
وقيل: ﴿مع﴾ هنا بمعنى من، بدليل القراءة الشاذة التي حكاها أبو السعود، والمعنى: كونوا من الصادقين في الأقوال والأفعال والاعتقاد. وفي قوله: ﴿وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ بعد قصة الثلاثة، الإشارة إلى أنّ هؤلاء الثلاثة حصل لهم بالصدق، ما حصل لهم من توبة الله تعالى، وظاهر الآية الأمر للعباد على العموم. أخرج الحاكم، عن ابن مسعود، عن النبي، - ﷺ -، أنه قال: "إن الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل ولا يعد الرجل ابنه ثم لا ينجز له اقرءوا إن شئتم" ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾. وأخرج البيهقي مرفوعًا: إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، إنه يقال: للصادق صدق وبر، ويقال: للكاذب كذب وفجر، وأن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صادقًا، ويكذب حتى يكتب عند الله كذابًا. ولا رخصة في الكذب إلا لضرورة من خديعة حرب، أو إصلاح بين اثنين، أو رجل يحدث امرأته ليرضيها؛ أي: في التحبب إليها بوصف محاسنها، ورضاه عنها لا في مصالح الدار والعيال وغيرها.
وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، عن أسماء بنت يزيد، عن النبي، - ﷺ -، قال: "كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا رجل كذب في خديعة حرب، أو صلاح بين اثنين، أو رجل يحدث امرأته ليرضيها" ولا شك أن في المعاريض ما يغني العاقل عن الكذب، كما جاء في الحديث: "إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب".
وروي (١): أن رجلًا جاء إلى النبي، - ﷺ -، وقال: إني رجل أريد أن أؤمن بك إلا أني أحب الخمر والزنا والسرقة والكذب، والناس يقولون إنك تحرم هذه الأشياء، ولا طاقة لي على تركها بأسرها، فإن قنعت مني بترك واحد منها آمنت
(١) المراح.
75
بك، فقال - ﷺ -: "اترك الكذب" فقبل ذلك ثم أسلم. فلما خرج من عند النبي، - ﷺ -، عرضوا عليه الخمر فقال: إن شربت وسألني الرسول عن شربها وكذبت.. فقد نقضت العهد، وإن صدقت أقام الحد علي فتركها. ثم عرضوا عليه الزنا، فجاء ذلك الخاطر فتركه، وكذا في السرقة، فتاب عن الكل فعاد إلى رسول الله، - ﷺ -، وقال: ما أحسن ما فعلت لما منعتني عن الكذب، انسدت أبواب المعاصي عليَّ.
وقرأ الجمهور (١): ﴿خلفوا﴾ بتشديد اللام مبنيًّا للمفعول. وقرأ أبو مالك: كذلك. وخفف اللام. وقرأ عكرمة بن هارون، المخزومي، وزر بن حبيش، وعمرو بن عبيد، ومعاذ القارئ، وحميد، بتخفيف اللام مبنيًّا للفاعل. ورويت عن أبي عمرو؛ أي؛ خلفوا الغازين بالمدينة أو فسدوا من المخالفة. وقرأ أبو العالية، وأبو الجوزاء، كذلك مشدد اللام. وقرأ أبو زيد، وأبو مجلز، والشعبي، وابن يعمر، وعلي بن الحسين، وابناه زيد ومحمد الباقر وابنه جعفر الصادق: ﴿خالفوا﴾ بألف؛ أي: لم يوافقوا على الغزو. وقرأ الأعمش: ﴿وعلى الثلاثة المخلفين﴾ ولعله قرأ: كذلك على سبيل التفسير؛ لأنها قراءة مخالفة لسواد المصحف.
وقرأ ابن مسعود، وابن عباس: ﴿من الصادقين﴾ ورويت عن النبي، - ﷺ -، وقرأ زيد بن علي، وابن السميقع وأبو المتوكل ومعاذ القارئ: ﴿مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ بفتح القاف وكسر النون على التثنية، ويظهر أنهما الله ورسوله لقوله: ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾.
الإعراب
﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ﴾.
(١) البحر المحيط.
76
﴿وَالَّذِينَ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿الذين﴾: مبتدأ، خبره محذوف تقديره: ومنهم الذين اتخذوا، والجملة معطوفة على قوله: ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ﴾. ﴿اتَّخَذُوا مَسْجِدًا﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول. ﴿ضِرَارًا﴾: مفعول لأجله، أو مفعول ثانٍ ﴿لاتخذوا﴾. ﴿وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا﴾: معطوفان عليه. ﴿بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾: ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿تفريقًا﴾. ﴿وَإِرْصَادًا﴾: معطوف عليه أيضًا ﴿لِمَنْ﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿إرصادًا﴾. ﴿حَارَبَ اللَّهَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير، يعود على ﴿مَن﴾ والجملة صلة الموصول. ﴿وَرَسُولَهُ﴾: معطوف على الجلالة. ﴿مِنْ قَبْلُ﴾: جار ومجرور متعلق بحارب.
﴿وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾.
﴿وَلَيَحْلِفُنَّ﴾ الواو: استئنافية. ﴿اللام﴾: موطئة للقسم. ﴿يحلفن﴾: فعل مضارع مرفوع، لتجرده عن الناصب والجازم، وعلامة رفعه ثبات النون المحذوفة لتوالي الأمثال، وواو الجماعة المحذوفة لالتقاء الساكنين في محل الرفع فاعل، والجملة الفعلية جواب القسمم، لا محل لها من الإعراب، ﴿إِنْ﴾: نافية، ﴿أَرَدْنَا﴾: فعل وفاعل، والجملة، جواب لجواب القسم. وفي "الفتوحات" قوله: ﴿إنْ أَرَدْنَا﴾ جواب لقوله: ﴿ليحلفن﴾ فوقع جواب القسم المقدر فعل قسم مجاب بقوله: ﴿إنْ أَرَدْنَا﴾ انتهى. أو الجملة مقول لقول محذوف تقديره: ﴿وَلَيَحْلِفُنَّ﴾ قائلين ﴿إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى﴾. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ ﴿الْحُسْنَى﴾: صفة لموصوف محذوف، واقع مفعولًا به ﴿لأردنا﴾ تقديره: إن أردنا إلا الخصلة الحسنى. ﴿وَاللَّهُ﴾: مبتدأ. وجملة ﴿يَشْهَدُ﴾ خبره والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿إِنَّهُمْ﴾ ﴿إن﴾: حرف نصب. والهاء: اسمها. ﴿لَكَاذِبُونَ﴾ اللام: حرف ابتداء ﴿كاذبون﴾: خبر إن مرفوع بالواو، وجملة إن في محل النصب سادة مسد مفعولي ﴿يَشْهَدُ﴾؛ لأنه بمعنى، يعلم.
﴿لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِرِينَ﴾.
﴿لَا﴾: ناهية جازمة ﴿تَقُمْ﴾ فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لَا﴾ الناهية، وفاعله
77
ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. ﴿فِيهِ﴾: متعلق به ﴿أَبَدًا﴾: منصوب على الظرفية الزمانية متعلق بـ ﴿تَقُمْ﴾ ﴿لَمَسْجِدٌ﴾ اللام: حرف ابتداء أو لام قسم ﴿مسجد﴾: مبتدأ، وسوغ الابتداء بالنكرة وصفه بما بعده، ﴿أُسِّسَ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على مسجد، والجملة الفعلية صفة ﴿لَمَسْجِدٌ﴾. ﴿عَلَى التَّقْوَى﴾: متعلق بـ ﴿أُسِّسَ﴾. ﴿مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿أُسِّسَ﴾. ﴿أَحَقُّ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، أو جواب لقسم محذوف. ﴿أَنْ تَقُومَ﴾: فعل وناصب، وفاعله ضمير يعود على محمَّد. ﴿فِيهِ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية مع أن المصدرية في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف تقديره: أحق بالقيام فيه ﴿فِيهِ﴾: جار ومجرور، خبر مقدم. ﴿رِجَالٌ﴾: مبتدأ مؤخر، وجملة ﴿يُحِبُّونَ﴾ صفة لـ ﴿رِجَالٌ﴾: والجملة الاسمية مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها ﴿أَنْ يَتَطَهَرُوا﴾ فعل وفاعل، وناصب، والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية ليحبون، تقديره يحبون الطهارة. ﴿وَاللَّهُ﴾: مبتدأ. ﴿يُحِبُّ الْمُطَّهرِينَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة.
﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ﴾.
﴿أَفَمَنْ﴾: الهمزة: للاستفهام التقريري، داخلة على محذوف. والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف، تقديره: أبعد ما علم حالهم فمن أسس بنيانه على تقوى من الله إلخ. ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ. ﴿أَسَّسَ بُنْيَانَهُ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾ والجملة صلة الموصول. ﴿عَلَى تَقْوَى﴾: متعلق بـ ﴿أَسَّسَ﴾: أو حال من فاعل ﴿أَسَّسَ﴾؛ أي: حالة كونه قاصدًا تقوى الله ﴿مِنَ اللَّه﴾: صفة لتقوى. ﴿وَرِضْوَانٍ﴾: معطوف على ﴿تَقْوَى﴾. ﴿خَيْرٌ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة المحذوفة المذكورة آنفًا.
﴿أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾.
78
﴿أَمْ﴾: متصلة عاطفة. ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ. ﴿أَسَّسَ بُنْيَانَهُ﴾: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾ والجملة الفعلية صلة الموصول ﴿عَلَى شَفَا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَسَّسَ﴾ ﴿جُرُفٍ﴾ مضاف إليه ﴿هَارٍ﴾: صفة لـ ﴿جُرُفٍ﴾ مجرور بكسرة ظاهرة، أو مقدرة، كما سيأتي البحث عنه في مبحث التصريف إن شاء الله تعالى ﴿فَانْهَار﴾ الفاء: عاطفة ﴿انْهَار﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على البنيان. ﴿بِهِ﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿انهار﴾ والضمير يعود على الباني، والجملة معطوفة على جملة ﴿أَسَّسَ﴾، وفي "الفتوحات" قوله: ﴿فَانهارَ بِهِ﴾: فاعله إما ضمير البنيان، والهاء في ﴿بِهِ﴾ على هذا.. ضمير المؤسس الباني؛ أي: فسقط بنيان الباني على شفا جرف هار، وإما ضمير الشفا، وإما ضمير الجرف؛ أي: فسقط الشفا أو سقط الجرف، والهاء في به للبنيان، ويجوز أن تكون للباني المؤسس، والأولى أن يكون الفاعل ضمير الجرف؛ لأنه يلزم من انهياره انهيار الشفا والبنيان جميعًا، ولا يلزم من انهيارهما أو انهيار أحدهما انهياره، والباء في ﴿بِهِ﴾: يجوز أن تكون للتعدية، وأن تكون للمصاحبة، وقد تقدم لك خلاف أول هذا الموضوع أن التعدية عند بعضهم، تستلزم المصاحبة، وإذا قيل: إنها للمصاحبة هنا فتتعلق بمحذوف؛ لأنها: حال؛ أي: فانهار مصاحبًا له، اهـ "سمين". ﴿فِي نَارِ جَهَنَّمَ﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿انهار﴾. ﴿وَاللَّهُ﴾ مبتدأ. ﴿لَا يَهْدِي الْقَوْمَ﴾: فعل ومفعول. ﴿الظَّالِمِينَ﴾: صفة للقوم، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة.
﴿لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾.
﴿لَا يَزَالُ﴾: فعل مضارع ناقص من أخوات كان ﴿بُنْيَانُهُمُ﴾: اسمها. ﴿الَّذِي﴾: في محل الرفع، صفة لـ ﴿بُنْيَانُهُمُ﴾. ﴿بَنَوْا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: الذي بنوه. ﴿رِيبَةً﴾: خبر زال، منصوب به ولكنه على حذف مضاف، تقديره: سبب ريبة وشك في الدين. {فِي
79
قُلُوبِهِمْ}: جار ومجرور صفة لـ ﴿رِيبَةً﴾. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء من أعم الأوقات، أو ﴿إِلَّا﴾ حرف بمعنى: إلى الجارة، كما قيل، ﴿أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ﴾: ناصب وفعل وفاعل، والجملة الفعلية مع أن المصدرية في تأويل مصدر، مجرور بإضافة المستثنى المحذوف إليه، تقديره: لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم في جميع الأوقات، إلا وقت تقطع قلوبهم وتمزقها بالموت، أو في تأويل مصدر، مجرور بإلا بمعنى، إلى تقديره: لا يزال بنيانهم ريبة في قلوبهم إلى تقطع قلوبهم، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿يَزَالُ﴾ وجملة يزال مستأنفة. ﴿وَاللَّهُ﴾: مبتدأ. ﴿عَلِيمٌ﴾ خبر أول ﴿حَكِيمٌ﴾: خبر ثان، والجملة مستأنفة.
﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١)﴾.
﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه. ﴿اشْتَرَى﴾ فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل الرفع خبر إن، وجملة إن مستأنفة. ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾: متعلق بـ ﴿اشْتَرَى﴾ ﴿أَنْفُسَهُمْ﴾: مفعول به. ﴿وَأَمْوَالَهُمْ﴾: معطوف عليه. ﴿بِأَنَّ﴾: الباء: حرف جر و ﴿أن﴾: حرف نصب ومصدر ﴿لَهُمْ﴾: خبر أن مقدم على اسمها. ﴿الْجَنَّةَ﴾: اسمها مؤخر، وجملة أن في تأويل مصدر، مجرور بالباء، تقديره: يكون الجنة لهم، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿اشْتَرَى﴾ ودخلت الباء هنا على المتروك على بابها، وسماها أبو البقاء: باء المقابلة، كقولهم: باء العوض، ذكره: في "الفتوحات". ﴿يُقَاتِلُونَ﴾: فعل وفاعل. ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾: متعلق به، والجملة مستأنفة، مسوقة لبيان الاشتراء، ذكره: أبو السعود. ﴿فَيَقْتُلُونَ﴾: الفاء: استئنافية. ﴿يَقْتُلُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان البيع الذي يستلزمه الشراء، أو لبيان تسليم المبيع. ﴿يَقْتُلُونَ﴾: فعل ونائب فاعل معطوف على ﴿يَقْتُلُونَ﴾. ﴿وَعْدًا﴾: منصوب على المصدرية بفعل محذوف، تقديره: وعدهم ذلك وعدًا، والجملة المحذوفة مستأنفة. مسوقة
80
لتأكيد ما قبلها. ﴿عَلَيْهِ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿وَعْدًا﴾ ﴿حَقًّا﴾: منصوب على المفعولية المطلقة، بفعل محذوف، تقديره وحق ذلك الوعد حقًّا، أي: تحقق، وثبت والجملة المحذوفة مستأنفة، مسوقة لتأكيد ما قبلها، ويصح كون ﴿حَقًّا﴾ صفة لـ ﴿وَعْدًا﴾. ﴿فِي التَّوْرَاةِ﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿اشْتَرَى﴾ أو صفة لـ ﴿وَعْدًا﴾. وفي "الفتوحات" قوله: ﴿فِي التَّوْرَاةِ﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلق باشترى، وعلى هذا فتكون كل أمة قد أمرت بالجهاد، ووعدت عليه الجنة.
والثاني: أنه متعلق بمحذوف؛ لأنه صفة الوعد؛ أي: وعدًا مذكورًا وكائنًا في التوراة، وعلى هذا فيكون الوعد بالجنة لهذه الأمة مذكورًا في كتب الله المنزلة، اهـ "سمين". ﴿وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ﴾: معطوفان على التوراة. ﴿وَمَنْ أَوْفَى﴾: الواو اعتراضية. ﴿من﴾: اسم استفهام، للاستفهام الإنكاري، في محل الرفع مبتدأ ﴿أَوْفَى﴾ خبره مرفوع بضمة مقدرة، والجملة اعتراضية، مقررة لمضمون ما قبلها، من حقية الوعد على نهج المبالغة في كونه أوفى بالعهد من كل وافٍ، فإن إخلاف الميعاد مما لا يكاد يصدر من كرام الخلق مع إمكان صدوره منهم، فكيف بجانب الخالق، اهـ أبو السعود. ﴿بِعَهْدِهِ﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿أَوْفَى﴾ وكذلك يتعلق به قوله: ﴿مِنَ اللَّهِ﴾. ﴿فَاسْتَبْشِرُوا﴾: الفاء: عاطفة. ﴿اسستبشروا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى﴾. ﴿بِبَيْعِكُمُ﴾: متعلق به. ﴿الَّذِي﴾ صفة للبيع. ﴿بَايَعْتُمْ﴾: فعل وفاعل. ﴿بِهِ﴾: متعلق به والجملة صلة الموصول. ﴿وَذَلِكَ﴾: مبتدأ. ﴿هُوَ﴾: ضمير فصل. ﴿الْفَوْزُ﴾: خبر. ﴿الْعَظِيمُ﴾: صفة له، والجملة الاسمية مستأنفة.
﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
﴿التَّائِبُونَ﴾: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: أولئك المؤمنون هم التائبون، والجملة في محل الجر، صفة للمؤمنين في قوله ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
81
﴿الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ﴾: أخبار بعد خبر لذلك المبتدأ المحذوف. ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾: متعلق بـ ﴿الْآمِرُونَ﴾ ﴿وَالنَّاهُونَ﴾: معطوف على ﴿الْآمِرُونَ﴾ ﴿عَنِ الْمُنْكَرِ﴾: متعلق به ﴿وَالْحَافِظُونَ﴾: معطوف على الآمرون أيضًا. ﴿لِحُدُودِ اللَّهِ﴾: متعلق به. ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، وحذف المبشر به لخروجه عن حد البيان والجملة مستأنفة.
فائدة: وإنما عُطف قولهُ: ﴿وَالنَّاهُونَ﴾ على ما قبله للمضادة بينهما، إذ الأول طلب فعل، والثاني طلب ترك كما مر. وقيل: إنما عطفه بالواو إشارة إلى أن مدخولها هو الوصف الثامن، وذلك؛ لأنها عندهم تسمى: واو الثمانية وتدخل على ما يكون ثامنًا، اهـ شيخنا. وفي "أبي السعود": والعطف فيه للدلالة على أن المتعاطفين بمنزلة خصلة واحدة، كأنه قال: الجامعون بين الوصفين اهـ ذكره في "الفتوحات".
﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾.
﴿مَا﴾: نافية. ﴿كَانَ﴾ فعل ماضٍ ناقص ﴿لِلنَّبِيِّ﴾: جار ومجرور. خبر مقدم لـ ﴿كَانَ﴾. ﴿وَالَّذِينَ﴾: معطوف على النبي. وجملة ﴿آمَنُوا﴾: صلة الموصول. ﴿أَنْ يَسْتَغْفِرُوا﴾: فعل وفاعل، منصوب بأن المصدرية ﴿لِلْمُشْرِكِينَ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مرفوع على كونه اسم كان مؤخرًا، تقديره: ما كان جائزًا للنبي، والذين آمنوا استغفارهم للمشركين، والجملة مستأنفة. ﴿وَلَوْ كَانُوا﴾ الواو: عاطفة. ﴿لَوْ﴾: حرف شرط. ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه ﴿أُولِي قُرْبَى﴾: خبر كان، وجملة ﴿كَانُ﴾ فعل شرط لـ ﴿لو﴾ وجواب ﴿لو﴾ معلوم مما قبله تقديره: ولو كانوا أولى ما يجوز استغفارهم لهم، وجملة ﴿لو﴾ معطوفة على جملة محذوفة، واقعة حالًا من المشركين، تقديرها: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين إن كانوا غير أولي قربى، ولو كانوا أولي قربى؛ أي: حالة كونهم مغايرين لأولي قربى، وموصوفين بالقرابة. ﴿مِنْ بَعْدِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿كَانَ﴾: أو متعلق بـ ﴿يَسْتَغْفِرُوا﴾. ﴿مَا﴾
82
مصدرية. ﴿تَبَيَّنَ﴾: فعل ماض ﴿لَهُمْ﴾: متعلق به. ﴿أَنَّهُمْ﴾: ناصب واسمه. ﴿أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾: خبره، وجملة ﴿أن﴾ في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية لـ ﴿تَبَيَّنَ﴾ تقديره: من بعد ما تبين كونهم من أصحاب الجحيم، وجملة ﴿تَبَيَّنَ﴾ في تأويل مصدر، مجرور بإضافة الظرف إليه، تقديره: من بعد تبين كونهم من أصحاب الجحيم.
﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ﴾.
﴿وَمَا﴾: الواو: استئنافية. ﴿ما﴾: نافية. ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص. ﴿اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ﴾: اسمها ومضاف إليه. ﴿لِأَبِيهِ﴾: متعلق بـ ﴿اسْتِغْفَارُ﴾. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ ﴿عَنْ مَوْعِدَةٍ﴾: جار ومجرور خبر ﴿كان﴾. ﴿وَعَدَهَا إِيَّاهُ﴾: فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم، والجملة الفعلية صفة لـ ﴿مَوْعِدَةٍ﴾، والتقدير: وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا كائنا عن موعدة وعدها إياه.
﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾.
﴿فَلَمَّا﴾، الفاء: عاطفة. ﴿لما﴾: حرف شرط غير جازم. ﴿تَبَيَّنَ﴾: فعل ماض. ﴿لَهُ﴾: متعلق به ﴿أَنَّهُ﴾ ناصب واسمه ﴿عَدُوٌّ﴾ خبر أن. ﴿لِلَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿عَدُوٌّ﴾ وجملة، أن في تأويل مصدر، مرفوع على الفاعلية، لـ ﴿تَبَيَّنَ﴾ تقديره: فلما تبين له كونه عدوًا لله، والجملة الفعلية فعل شرط للما، لا محل لها من الإعراب. ﴿تَبَرَّأَ﴾ فعل ماض وفاعله ضمير يعود على إبراهيم. ﴿مِنْهُ﴾ متعلق به، وجملة ﴿تَبَرَّأَ﴾ جواب ﴿لما﴾ وجملة ﴿لما﴾ معطوفة على جملة ﴿كَانَ﴾. ﴿إنَّ إِبْرَاهِيمَ﴾: ناصب واسمه. ﴿لَأَوَّاهٌ﴾ اللام: حرف ابتداء. (أواه}: خبر ﴿إن﴾. ﴿حَلِيمٌ﴾: صفة ﴿أواه﴾ وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾.
﴿وَمَا﴾: الواو: استئنافية. ﴿ما﴾: نافية. ﴿كَانَ اللَّه﴾: فعل ناقص،
83
واسمه. ﴿لِيُضِلَّ﴾، اللام: حرف جر وجحود. ﴿يضل﴾: فعل مضارع، منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد لام الجحود، وفاعله ضمير مستتر فيه، يعود على الله. ﴿قَوْمًا﴾: مفعول به، والجملة صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام الجحود، تقديره: وما كان الله لإضلاله قوما، الجار والمجرور متعلق بواجب الحذف، لوقوعه خبرًا لـ ﴿كَانَ﴾ تقديره: وما كان الله مريدًا لإضلاله قومًا، هذا على مذهب البصريين. وعند الكوفيين. فاللام زائدة، والتقدير: وما كان الله مضلًا قومًا وجملة ﴿كَانَ﴾ مستأنفة. ﴿بَعْدَ﴾ منصوب على الظرفية ﴿إِذْ﴾: حرف بمعنى أن المصدرية. ﴿هَدَاهُمْ﴾: فعل ومفعول في محل النصب بإذ، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾ والجملة في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه، تقديره: بعد هدايته إياهم، والظرف متعلق بـ ﴿يضل﴾. وفي "الفتوحات" قوله: ﴿بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ﴾ ﴿إِذْ﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أن إذ بمعنى أن.
الثاني: أنها ظرف بمعنى وقت، أي: بعد أن هداهم أو بعد وقت هداهم فيه، اهـ. ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية. ﴿يُبَيِّنَ﴾: منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد حتى، بمعنى إلى، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿لَهُمْ﴾: متعلق به. ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول به. ﴿يَتَّقُونَ﴾: فعل وفاعل والجملة صلة لما، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: ما يتقونه، وجملة ﴿يُبَيِّنَ﴾ صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحتى، بمعنى، إلى تقديره: حتى تبيينه لهم ما يتقون الجار والمجرور متعلق بيضل. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ ناصب واسمه. ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ﴾: متعلق بـ ﴿عَلِيمٌ﴾. ﴿عَلِيمٌ﴾: خبر ﴿إِنَّ﴾ وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾.
﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه. ﴿لَهُ﴾: خبر مقدم. ﴿مُلْكُ السَّمَاوَاتِ﴾: مبتدأ
84
ومضاف إليه. ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾ والجملة من المبتدأ والخبر في محل الرفع، خبر ﴿إِنَّ﴾ وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة. ﴿يُحْيِي﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع، معطوفة على الجملة الاسمية على كونها خبرًا ﴿لإن﴾. وجملة قوله: ﴿وَيُمِيتُ﴾: معطوفة على ﴿يُحْيِي﴾. ﴿وَمَا لَكُمْ﴾، الواو: عاطفة. ﴿ما﴾: نافية. ﴿لَكُمْ﴾: جار ومجرور، خبر مقدم. ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور، متعلق بـ لاستقرار الذي تعلق به الخبر ﴿مِنْ وَلِيٍّ﴾ مبتدأ مؤخر و ﴿مِنْ﴾: زائدة ﴿لَا نَصِيرٍ﴾: معطوف على ﴿وَلِيٍّ﴾ والجملة من المبتدأ والخبر معطوفة على جملة ﴿إن﴾.
﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾.
﴿لَقَدْ﴾: اللام: موطئة للقسم. ﴿قد﴾: حرف تحقيق ﴿تَابَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة جواب القسم، لا محل لها من الإعراب. ﴿عَلَى النَّبِيِّ﴾: متعلق بـ ﴿تَابَ﴾. ﴿وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ﴾: معطوفان على النبي. ﴿الَّذِينَ﴾ اسم موصول في محل الجر صفة لكل من ﴿الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ﴾. ﴿اتَّبَعُوهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول ﴿فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿اتَّبَعُوهُ﴾. ﴿مِنْ بَعْدِ﴾ جار ومجرور، متعلق بـ ﴿اتَّبَعُوهُ﴾ أيضًا. ﴿مَا﴾: مصدرية ﴿كَادَ﴾: زائدة لفظًا، لا عمل لها وإن كان معناها مرادًا بدليل قراءة ابن مسعود ﴿من بعد ما زاغت قلوب فريق منهم﴾ ﴿يَزِيغُ﴾: فعل مضارع. ﴿قُلُوبُ فَرِيقٍ﴾: فاعل، ومضاف إليه. ﴿مِنْهُمْ﴾: صفة لفريق، والجملة الفعلية صلة لـ ﴿مَا﴾: المصدرية ﴿مَا﴾: مع صلتها في تأويل مصدر، مجرور بإضافة الظرف إليه، تقديره: من بعد مقاربة زيغ قلوب فريق منهم. ﴿ثُمَّ تَابَ﴾: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿عَلَيْهِمْ﴾ متعلق به. والجملة معطوفة على جملة تاب الأول ﴿إِنَّهُ﴾ ناصب واسمه. ﴿بِهِمْ﴾ تنازع فيه ما بعده؛ لأن التنازع يكون في المتأخر كما يكون في المتقدم. ﴿رَءُوفٌ﴾: خبر أول
85
لـ ﴿إِنَّ﴾ ﴿رَحِيمٌ﴾: خبر ثان له، وجملة ﴿إن﴾: مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨)﴾.
﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ﴾: جار ومجرور، معطوف على قوله: ﴿عَلَى النَّبِيِّ﴾؛ أي لقد تاب الله على النبي والمهاجرين وعلى الثلاثة، أو معطوف على عليهم؛ أي: ثم تاب عليهم وعلى الثلاثة. ﴿الَّذِينَ﴾: صفة للثلاثة. ﴿خُلِّفُوا﴾: فعل، ونائب فاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية. ﴿إذَا﴾: زائدة. ﴿ضَاقَتْ﴾: فعل ماض. ﴿عَلَيْهِمُ﴾: متعلق به. ﴿الْأَرْضُ﴾ فاعل، والجملة الفعلية في تأويل مصدر، مجرور بحتى بمعنى: إلى؛ لأن أن المصدرية مقدرة بعدها إذا جعلنا إذا زائدة، تقديره: خلفوا وأخروا عن التوبة إلى ضيق الأرض ﴿عَلَيْهِمُ﴾، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿خُلِّفُوا﴾. ﴿بِمَا﴾ الباء: حرف جر. ﴿ما﴾: مصدرية. ﴿رَحُبَتْ﴾: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على الأرض، والجملة في تأويل مصدر، مجرور بالباء، تقديره: برحبها، الجار والمجرور متعلق بضاقت. ﴿وَضَاقَتْ﴾: فعل ماض. ﴿عَلَيْهِمْ﴾ متعلق به ﴿أَنْفُسُهُمْ﴾ فاعل، والجملة في محل الجر، معطوفة على جملة قوله: ﴿ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ﴾. ﴿وَظَنُّوَا﴾: فعل وفاعل، معطوف على ﴿ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ﴾. ﴿أَنْ﴾: مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن. ﴿لَا﴾: نافية للجنس. ﴿مَلْجَأَ﴾: في محل النصب اسمها. ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ خبر ﴿لَا﴾: تقديره: إنه لا ملجأ موجود من الله، ويحتمل تعلق الجار والمجرور بملجأ، وخبر ﴿لَا﴾: محذوف، تقديره: لا ملجأ من الله موجود وجملة ﴿لَا﴾: من اسمها وخبرها، في محل الرفع خبر أن المخففة وجملة أن المخففة سادة مسد مفعولي ظن. ﴿إِلَّا إِلَيْهِ﴾: ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ ﴿إلَيْهِ﴾: جار ومجرور، بدل من الجار والمجرور في قوله: ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ على كونه خبر ﴿لَا﴾ مثل قولنا "لا إله إلا الله" كما ذكره أبو البقاء. وفي "الفتوحات" قوله: ﴿إلا إليه﴾
86
مستثنى من مقدر؛ أي: لا ملجأ لأحد ولا اعتماد على أحد إلا إليه تعالى، اهـ من "السمين". ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ﴾: معطوف على ﴿ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ﴾ على كونه مجرورًا بـ ﴿حَتَّى﴾. ﴿لِيَتُوبُوا﴾ اللام: لام كي. ﴿يتوبوا﴾: فعل وفاعل، منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، والجملة في تأويل مصدر، مجرور باللام، تقديره: ثم تاب عليهم لتوبتهم، الجار والمجرور متعلق بتاب. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه. ﴿هُوَ﴾ ضمير فصل. ﴿التَّوَّابُ﴾ خبر أول لإن. ﴿الرَّحِيمُ﴾: خبر ثانٍ لها، وجملة إن مستأنفة. مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾.
﴿يا﴾: حرف نداء. ﴿أي﴾: منادى نكرة مقصودة. ﴿ها﴾: حرف تنبيه زائد. ﴿الَّذِينَ﴾: في محل الرفع، صفة لأي، وجملة النداء مستأنفة. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل، صلة الموصول، ﴿اتَّقُوا اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب النداء، لا محل لها من الإعراب. ﴿وَكُونُوا﴾: فعل ناقص، واسمه. ﴿مَعَ الصَّادِقِينَ﴾: ظرف ومضاف إليه، متعلق بمحذوف خبر ﴿كونوا﴾ تقديره: وكونوا مصاحبين بالصادقين؛ أي: من الصادقين، وجملة كونوا معطوفة على جملة ﴿اتَّقُوا﴾ على كونها جواب النداء.
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا﴾: الضرار والمضارة محاولة إيقاع الضرر، ﴿والإرصاد﴾: الانتظار والترقب مع العداوة، يقال: رصدته؛ أي: قعدت له على طريقه أترقبه، وأرصدت هذا الجيش للقتال، وهذا الفرس للطراد، ﴿إِلَّا الْحُسْنَى﴾: الحسنى مؤنث الأحسن، وهو صفة لموصوف محذوف، تقديره: إلا الخصلة الحسنى، أو إلا الحالة الحسنى، ﴿لَا تَقُمْ فِيهِ﴾؛ أي: لا تصل فيه.
﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى﴾: أسس (١) على وزن فعل مضعف العين، وآسس على وزن فاعل، إذا وضع الأساس وهو معروف، ويقال فيه: أس والتأسيس وضع
(١) البحر المحيط.
87
الأساس للبناء ليقوم عليه ويرفع، والتقوى اسم لما يرضي الله ويقي من سخطه. ﴿أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ﴾: أحق اسم التفضيل على غير بابه، أو المفاضلة باعتبار زعمهم، أو بالنظر له في ذاته فإن المحظور قصدهم ونيتهم، اهـ "جمل". ﴿بُنْيَانَهُ﴾: والبنيان مصدر، كالغفران، أطلق على المبنى كالخلق بمعنى، المخلوق، وقيل: هو جمع، واحده بنيانة، ذكره أبو حيان. ﴿شَفَا﴾، أي: حرف وفي "المصباح" وشفا كل شيء طرفه وحرفه مثل النوى، اهـ. ﴿جُرُفٍ﴾، والجرف بضمتين جانب الوادي ونحوه، والجرف أيضًا البئر التي لم تطو. وقال أبو عبيدة: الجرف الهوة وما يجرفه السيل من الأودية. ﴿هَارٍ﴾: والهار والهائر كالشاك والشائك، الضعيف المتداعي للسقوط، يتداعى بعضه إثر بعض. وأصله (١) هاير أو هاور فقلبت الياء أو الواو همزة ثم حذفت الهمزة اعتباطًا فوزنه قال، فهو محذوف العين. وقيل: إنه منقوص، كقاض وأصله هاور، ثم نقلت الواو بعد الراء، ثم قلبت ياءً فصار كقاض، ثم حذفت الياء فإعرابه بحركات مقدرة عليها، اهـ شيخنا. وفي "المختار" هار الجرف، من باب قال، وهورًا أيضًا، فهو هائر ويقال: أيضًا جرف هار، اهـ. وفي "السمين" هار الجرف، فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: وهو المشهور أنه مقلوب بتقديم لامه على عينه، وذلك أن أصله هاور أو هاير بالواو أو بالياء لأنه سمع فيه الحرفان قالوا: هار يهور ويهار وهار يهير، وتهور البناء وتهير فقدمت اللام وهي الراء على العين وهي الواو أو الياء، فصار كغاز ورام فأعل بالنقص كإعلالهما، فوزنه بعد القلب فالع ثم نزنه بعد الحذف على قال.
القول الثاني: أنه حذف عينه اعتباطًا؛ أي: لغير موجب، وعلى هذا فتجري وجوه الإعراب على لامه فيقال هذا هار ورأيت هارًا ومررت بهار ووزنه أيضًا قال.
(١) الفتوحات.
88
القول الثالث: أنه لا قلب فيه ولا حذف وأن أصله هور أو هير بوزن كتف فتحرك حرف العلة وانفتح ما قبله فقلب ألفًا، وعلى هذا فتجري عليه وجوه الإعراب أيضًا كالذي قبله، كما تقول هذا باب، ورأيت بابًا، ومررت ببابٍ وهذا أعدل الوجوه لاستراحته من ادعاء القلب والحذف اللذين هما على خلاف الأصل لولا أنه غير مشهور عند أهل التصريف، ومعنى هار؛ أي: ساقط متداع منهال اهـ ﴿فَانهَارَ﴾؛ أي: سقط. ﴿رِيبَةً﴾؛ أي: سبب ريبة وشك في الدين، والريبة من الريب. وهو اضطراب النفس وتردد الوهم والحيرة. ﴿إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ﴾: يقال تقطع الشيء إذا تفرقت أجزاؤه، وتمزقت، وهو من باب تفعل الخماسي ﴿فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ﴾ والاستبشار: إظهار السرور، والسين: ليست للطلب بل للمطاوعة، كاستوقد وأوقد. وفي "الكرخي"، ﴿فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ﴾؛ أي: افرحوا به غاية الفرح، واستفعل هنا، ليس للطلب، بل بمعنى، أفعل كاستوقد وأوقد، اهـ. ﴿لأواه﴾؛ أي: يكثر التأوه وهو كناية عن فرط ترحمه ورقة قلبه، اهـ "بيضاوي". والتأوه، أن يقول الرجل عند الشكاية والتوجع: آه، اهـ "زاده". وفي "المختار" وقد أوه الرجل تأويهًا وتاوه تأوهًا، إذا قال أَوَّهُ اهـ. وفي "المراغي" الأواه الكثير التأوه والتحسر، أو الخاشع الكثير الدعاء والتضرع إلى ربه، وقيل: إنها كلمة حبشية الأصل، ومعناها: المؤمن أو الموقن، اهـ.
وفي "السمين" والأواه الكثير التأوه، وهو من يقول أواه. وقيل: من يقول، أوه، وهو أنسب؛ لأن: أوه بمعنى، أتوجع فالأواه، فعال، مثال مبالغة من ذلك، وقياس فعله أن يكون ثلاثيًّا؛ لأن: أمثلة المبالغة إنما تطرد في الثلاثي، وقد حكى: قطرب فيه فعله ثلاثيًّا، فقال: يقال، آه يؤوه أوهًا، كقال يقول قولًا، وأنكر النحويون: هذا القول على قطرب، وقالوا: لا يقال من أوه بمعنى، أتوجع فعل ثلاثي، وإنما يقال: أوه تأويهًا، وتأوه تأوهًا اهـ.
وعبارة الخازن: جاء في الحديث أن الأواه الخاشع المتضرع. وقال ابن مسعود: الأواه الكثير الدعاء. وقال ابن عباس: هو المؤمن التواب، وقال الحسن وقتادة: الأواه الرحيم بعباد الله. وقال مجاهد: الأواه الموقن وقال كعب
89
الأحبار: هو الذي يكثر التأوه، وكان إبراهيم عليه السلام يكثر أن يقول: أوه من النار، قبل أن لا ينفع أوه. وقال عقبة بن عامر: الأواه الكثير الذكر لله. وقال سعيد بن جبير: هو المسبح، وعنه: أنه المعلم للخير. وقال عطاء: هو الراجع عما يكره الله، الخائف من النار. وقال أبو عبيدة: هو المتأوه شفقًا وفرقًا، المتضرع يقينًا ولزومًا للطاعة. وقال الزجاج: انتظم في قول أبي عبيدة، جميع ما قيل، في الأواه، وأصله من التأوه، وهو أن يسمع للصدر صوت بتنفس الصعداء، والفعل منه أوه، وهو قول الرجل عند شدة خوفه وحزنه أوه، والسبب فيه أنه عند الحزن تحمى الروح داخل القلب، ويشتد حرها فالإنسان يخرج ذلك النفس المحترق في القلب ليخفف بعض ما به من الحزن والشدة.
وأما ﴿الحليم﴾: فمعناه ظاهر، وهو الصفوح عمن سبه، أو أتاه بمكروه ثم يقابله بالإحسان واللطف كما فعل إبراهيم مع أبيه حين قال له: ﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ﴾ فأجابه إبراهيم بقوله: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي﴾ وقال ابن عباس: الحليم السيد اهـ.
وعبارة المراغي: ﴿والحليم﴾ هو الذي لا يستفزه الغضب، ولا يعبث به الطيش، ولا يستخفه هوى النفس، ومن لوازم ذلك: الصبر والثبات والصفح والتأني في الأمور، واتقاء العجلة في الرغبة والرهبة، اهـ.
﴿في سَاعَةِ العُسْرَةِ﴾ ﴿العسرة﴾: الشدة والضيق ﴿تزيغ قلوب﴾ من زاغ القلب، مال عن الحق من زاغ يزيغ زيغًا، كباع يبيع بيعًا، ﴿بِمَا رَحُبَتْ﴾، يقال: رحب من باب ظرف رحبًا، والرحب بضم الراء السعة، وبفتحها المكان المتسع، فمضمومها مصدر ومفتوحها مكان، ومنه يقال: فلان رحب الصدر، بضم الراء، واسعه وقولهم مرحبًا وأهلًا؛ أي: أتيت سعة وأتيت أهلًا، فاستأنس ولا تستوحش ورحب به ترحيبًا إذا قال له مرحبًا. ﴿مَلْجَأً﴾، الملجأ؛ اسم مكان من لجأ إلى الحصن، أو غيره، من باب قطع، إذا لاذ إليه واعتصم به.
﴿رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾: الرأفة، العناية بالضعيف والرفق به، والرحمة: السعي في إيصال المنفعة.
90
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التكرار في قوله: ﴿أُسِّسَ﴾.
ومنها: جناس المحرف في قوله: ﴿أسس وأسس﴾ لاختلافهما في الشكل.
ومنها: الإظهار في موضع الإضمار في قوله: ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾، للتنبيه على علة الحكم، أي: سبب استحقاقهم الجنة هو إيمانهم، وحذف المبشر به لخروجه عن حد البيان، وهو الجنة ذكره أبو السعود، وفي قوله: ﴿أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ﴾؛ لأن مقتضى السياق أن يقول أم من أسسه.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿هَارٍ فَانْهَارَ﴾، وفي قوله: ﴿أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾، وفي قوله: ﴿لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا﴾، وفي قوله: ﴿بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ﴾، وفي قوله: ﴿عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا﴾، وفي قوله: ﴿لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ﴾.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿تَابَ﴾.
ومنها: الجناس المحرف في قوله: ﴿فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ﴾ لاختلافهما في الشكل سمي محرفًا لانحراف إحدى الهيئتين عن هيئة الآخر.
ومنها: الاستعارة بالكناية في قوله: ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ﴾ شبهت التقوى والرضوان بما يعتمد عليه البناء؛ تشبيهًا مضمرًا في النفس، وأسس بنيانه تخييل، فهو مستعمل في معناه الحقيقي، أو مجاز، فتأسيس لبنيان بمعنى، إحكام أمور دينه أو تمثيل لحال من أخلص لله، وعمل الأعمال الصالحة، بحال من بنى شيئًا محكمًا، مؤسسًا يستوطنه، ويتحصن فيه، أو البنيان: استعارة أصلية والتأسيس: ترشيح، اهـ "شهاب".
﴿أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ﴾ هو كناية عن إحكام أمور دينه وترتيبها على ضلال وكفر ونفاق، وقوله: ﴿شَفَا جُرُفٍ﴾ المراد به هنا، الضلال وعدم التقوى.
91
ومنها: الاستعارة التبعية في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى﴾ ﴿فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ﴾ شبه بذلهم الأموال والأنفس، وإثابتهم عليها بالجنة، بالبيع والشراء بجامع المعاوضة في كل.
ومنها: الالتفات في قوله: ﴿فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ﴾ تشريفًا لهم على تشريف وزيادة لسرورهم على سرورهم.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ﴾ من إطلاق الجزء وإرادة الكلّ، وخص الركوع والسجود بالذكر لشرفهما.
ومنها: الطباق بين ﴿لِيُضِلَّ﴾ و ﴿إِذْ هَدَاهُمْ﴾ وكذلك بين ﴿يحيي ويميت﴾ وبين ﴿ضاقت ورحبت﴾.
ومنها: جمع المؤكدات في قوله: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾ إعتناءً بشأنه وإظهارًا لفضله.
ومنها: الاستفهام والحذف والزيادة في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
92
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (١٢٥) أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (١٢٧) لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ....﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله (١) سبحانه وتعالى لما ذكر توبته على المتخلفين الذين حسنت نياتهم، ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون.. أكد هنا وجوب متابعة الرسول، والغزو معه لما فيه من الأجر العظيم، وحظر تخلف أحد عنه إلا بإذنه.
وقال أبو حيان (٢): مناسبتها لما قبلها: أنه لما أمر المؤمنين بتقوى الله،
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
93
وأمر بكينونتهم مع الصادقين، وأفضل الصادقين رسول الله، - ﷺ -، ثم المهاجرون والأنصار.. اقتضى ذلك موافقة الرسول وصحبته، أنى توجه من الغزوات والمشاهد، فعوتب العتاب الشديد من تخلف عن الرسول، - ﷺ -، في غزوة تبوك، واقتضى ذلك الأمر بصحبته، وبذل النفوس دونه.
قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن هذه الآية جاءت متممة لأحكام الجهاد، مع بيان حكم العلم والتفقه في الدين، من قبل أنه وسيلة للجهاد بالحجة والبرهان، وهو الركن الركين في الدعوة إلى الإيمان، وإقامة دعائم الإِسلام، ولم يشرع جهاد السيف إلا ليكون حمايةً وسياجًا لتلك الدعوة من أن تلعب بها أيدي المعاندين والمعتدين من الكافرين والمنافقين.
وقال أبو حيان: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن كلا النفيرين هو في سبيل الله، وإحياء دينه، هذا بالعلم، وهذا بالقتال، انتهى.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى (١) لما حض المؤمنين على التفقه في الدين، وحرض على رحلة طائفة من المؤمنين فيه.. أمر تعالى المؤمنين كافة بقتال من يليهم من الكفار، فجمع من الجهاد جهاد الحجة وجهاد السيف. وقال بعض الشعراء في ذلك:
مَنْ لاَ يَعُدَّ لَهُ الْقُرْآنَ كَانَ لَهُ مِنَ الصَّغَارِ وَبِيْضِ الْهِنْدِ تَعْدِيْلُ
وعبارة المراغي هنا: مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أمر فيما سبق بقتال المشركين كافة.. أرشدهم في هذه الآية إلى طريق السداد في هذا الباب، وهو أن يبدؤوا بقتال من يليهم، ثم ينتقلوا إلى الأبعد فالأبعد، وهكذا، وقد فعل النبي، - ﷺ -، وصحابته كذلك، فقد حارب قومه ثم انتقل إلى غزو سائر العرب ثم إلى غزو الشام، ولما فرغ صحابته من الشام دخلوا العراق، وكذلك
(١) البحر المحيط.
94
في أمر الدعوة، فقد قال تعالى: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤)﴾ ثم أمر بالدعوة العامة وقتال من يقف في طريقها من المشركين فقال: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ انتهت.
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا...﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها: أن الله (١) سبحانه وتعالى لما ذكر ضروبًا من مخازي المنافقين، كتخلفهم عن غزوة تبوك وتعلقهم لذلك بالأيمان الفاجرة.. ذكر هنا ضروبًا أخرى من تلك المثالب، كتهكمهم بالقرآن، وتسللهم لواذًا حين سماعه، وهذا آخر ما نزل مما يبين تأثير القرآن فيهم، وفي المؤمنين.
قوله تعالى: ﴿أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ...﴾ الآية، مناسبتها: أنه تعالى لما ذكر أنهم (٢) بموتهم على الكفر رائحون إلى عذاب الآخرة.. ذكر أنهم أيضًا في الدنيا لا يخلصون من عذابها.
قوله تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ...﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (٣) بدأ السورة ببراءة الله ورسوله من المشركين، وقص فيها أحوال المنافقين شيئًا فشيئًا خاطب العرب على سبيل تعداد النعم عليهم، والمن عليهم بكونهم جاءهم رسول من جنسهم، أو من نسبهم، عربيًّا قرشيًّا يبلغهم عن الله، متصف بالأوصاف الجميلة، من كونه يعز عليه مشقتهم في سوء العاقبة من الوقوع في العذاب، ويحرص على هداهم ويرأف بهم ويرحمهم.
وعبارة المراغي: مناسبتها لما قبلها: أنه تعالى لما أمر رسوله في هذه السورة أن يبلغ الخلق تكاليف شاقة يعسر تحملها إلا على من خص بوجوه التوفيق والكرامة.. ختمها بما يوجب تحملهم تلك التكاليف، فبين أن هذا الرسول منهم، فما يحصل له من عز وشرف فهو عائد إليهم، إلا أنه يشق عليه ضررهم وتعظم رغبته في إيصال خيري الدنيا والآخرة إليهم، فهو كالطبيب المشفق، والأب الرحيم عليهم، والطبيب الحاذق، ربما أقدم على علاج يصعب تحمله، والأب الرحيم
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
(٣) البحر المحيط.
95
ربما ركن إلى ضروب من التأديب يشق على النفس احتمالها.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً...﴾ الآية، أخرج (١) ابن أبي حاتم عن عكرمة، قال: لما نزلت آية ﴿إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ وقد كان تخلف عنه ناس في البدو يفقهون قومهم، فقال المنافقون: قد بقي ناس في البوادي، هلك أصحاب البوادي فنزلت: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً﴾. وأخرج عبد الله بن عبيد بن عمير، قال: كان المؤمنون لحرصهم على الجهاد إذا بعث رسول الله، - ﷺ -، سرية خرجوا فيها، وتركوا النبي، - ﷺ -، بالمدينة في رقة من الناس فنزلت.
التفسير وأوجه القراءة
١٢٠ - وفي قوله: ﴿مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ﴾ إلخ، زيادة تأكيد لوجوب الغزو مع رسول الله، - ﷺ -؛ أي: ما صح ولا جاز لأهل المدينة عاصمة الإِسلام ومقر رسول الله، - ﷺ -، ولا ينبغي لساكنيها من المهاجرين والأنصار، ﴿و﴾ لا لـ ﴿من حولهم من الأعراب﴾؛ أي: من سكان البوادي، كمزينة وجهينة وأشجع وغفار وأسلم، ﴿أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ﴾، - ﷺ -، ويتأخروا عنه في الخروج للغزو في سبيل الله، كما فعل بعضهم في غزوة تبوك، ولا في غيره من شؤون الأمة ومصالح الملة، فإن السمع والطاعة لرسول الله - ﷺ -، واجب وكذلك غيره من الولاة والأئمة إذا ندبوا وعينوا. وإنما (٢) خصهم الله سبحانه وتعالى بالذكر؛ لأنهم قد استنفروا فلم ينفروا، بخلاف غيرهم من العرب فإنهم لم يستنفروا مع كون هؤلاء لقربهم وجوارهم أحق بالنصرة والمتابعة لرسول الله - ﷺ -، ﴿وَلَا﴾ أن، ﴿يَرْغَبُوا﴾ ويتخلفوا، ﴿بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ﴾ صيانة وحفظ، ﴿نفسه﴾ - ﷺ -، الشريفة فيشحون بأنفسهم ويصونونها، ولا يشحون بنفس رسول الله، - ﷺ -، ويصونونها كما شحوا بأنفسهم وصانوها، بل واجب عليهم أن يكابدوا معه المشاق ويجاهدوا بين يديه
(١) لباب النقول.
(٢) الشوكاني.
96
أهل الشقاق، ويبذلوا أنفسهم دون نفسه؛ أي (١)؛ لا يختاروا إِبقاء أنفسهم على نفسه في الشدائد، بل أمروا بأن يصحبوه في البأساء والضراء، ويلقوا أنفسهم بين يديه في كل شدة.
والمعنى (٢): ولا ينبغي لهم أن يفضلوا أنفسهم على نفسه، فيرغبوا في الراحة والسلامة، ولا يبذلوها فيما يبذل فيه نفسه الشريفة، بل عليهم أن يصحبوه في البأساء والضراء، وأن يكابدوا معه الأهوال برغبة ونشاط، علمًا بأنها أعز نفس على الله وأكرمها فإذا تعرضت مع كرامتها للخوض في شدة وهول، وجب على سائر الأنفس أن تتهافت فيما تعرضت له، ولا يكترث لها أصحابها فضلًا عن أن يربؤوا بأنفسهم عن متابعتها، ويضنوا بها على ما سمح بنفسه عليه.
والخلاصة: أن المتخلف يفضل نفسه ويؤثرها على نفس رسول الله، - ﷺ -، التي لا يكمل إيمان أحد حتى يحبه أكثر من حبه لنفسه.
وفي ذلك نهي شديد عن عملهم، وتوبيخ لهم عليه وتهييج لمتابعته، - ﷺ -، بأنفة وحمية، والإِشارة في قوله: ﴿ذَلِكَ﴾ إلى ما يفيده السياق من وجوب متابعته، - ﷺ -، والنهي عن التخلف عنه؛ أي: ذلك الوجوب والنهى عن التخلف عنه، - ﷺ -، ﴿بـ﴾ سبب، ﴿أنهم لا يصيبهم﴾ ولا ينالهم في سفرهم ولا غزواتهم، ﴿ظَمَأٌ﴾ ولا عطش، ﴿وَلَا نَصَبٌ﴾ ولا تعب. وقرأ عبيد بن عمير: ﴿ظمأ﴾ بالمد مثل سفه وسفاها. وقرأ غيره: بالقصر وهما لغتان، مثل خطأ وخطاء. ﴿وَلَا مَخْمَصَةٌ﴾ ولا مجاعة ولو يسيرًا، وكذا يقال، فيما قبله، ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ وطاعته والجهاد لإعلاء كلمته، ﴿ولا يطئون﴾؛ أي: ولا يدوسون بأرجلهم وحوافر خيولهم وأخفاف بعيرهم ﴿مَوْطِئًا﴾؛ أي: دوسًا ووطئًا، ﴿يَغِيظُ﴾ ويغضب، ﴿الْكُفَّارَ﴾ ويضيق صدورهم أو لا يدوسون مكانًا من أمكنة الكفار يغيظهم الدوس فيها، يعني: ولا يضعون قدمًا على الأرض يكون ذلك القدم سببًا لغيظ الكفار، وغمهم وحزنهم. وقرأ زيد بن علي: ﴿يغيظ﴾ بضم الياء {وَلَا
(١) النسفي.
(٢) المراغي.
97
يَنَالُونَ}؛ أي: ولا يصيبون ﴿من عدو﴾ وكفار، ﴿نيلا﴾؛ أي: إصابة أسرًا أو قتلًا أو هزيمةً أو غنيمةً، أو نحو ذلك قليلًا كان أو كثيرًا، ﴿إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ﴾؛ أي: إلا حالة كونهم يكتب لهم بكل واحد من الأمور الخمسة، ﴿عَمَلٌ صَالِحٌ﴾ وثواب حسن جزيل؛ لأن من قصد طاعة الله تعالى، كان جميع حركاته وسكناته حسنات مكتوبةً له عند الله تعالى. وجملة (١) كتب، حالية فهذا التركيب نظير قولك: ما جاء زيد إلا راكبًا، اهـ شيخنا. وفي "أبي السعود" ﴿إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ﴾؛ أي: بكل واحد من الأمور المعدودة عمل صالح، وحسنة مقبولة، مستوجبة بحكم الوعد الكريم للثواب الجميل وقيل الزلفى، اهـ.
والمعنى: أي لم (٢) يكن لهم حق التخلف، بل يجب عليهم الاتباع بسبب أن كل ما يصيبهم في جهادهم من أذًى وإن كان قليلًا كظمأ لقلة الماء أو نصب لبعد الشُّقَّة أو لقلة الظهر، أو مجاعة لقلة الزاد، ومن إيذاء للعدو وإن صغر كوطء أرضه الذي يعده استهانة بقوته، فيغيظه أن تمسه أقدام المؤمنين، أو حوافر خيولهم، أو النيل منه بجرح، أو قتل أو أسر أو هزيمة، أو غنيمة إلا كتب لهم بكل واحد مما ذكر عمل صالح يجزى عليه بالثواب العظيم، وما أكثر هذه الأعمال الصالحة التي تشمل كل حركة من بطشة يد، أو وطأة قدم، أو عروض جوع، أو عطش أو نحو ذلك، ولما كان الظمأ أشق الأشياء المؤذية للمسافر بكثرة الحركة وإزعاج النفس وخصوصًا في شدة الحر كغزوة تبوك، بدىء به أولًا، وثنى بالنصب وهو التعب؛ لأنه الكلال الذي يلحق المسافر والإعياء الناشيء من العطش والسير، وأتى ثالثًا بالجوع لأنه حالة يمكن الصبر عليها الأوقات العديدة، بخلاف العطش والنصب المفضيين إلى الخلود والانقطاع عن السفر، فكان الإخبار بما يعرض للمسافر أولًا فثانيًا فثالثًا، ذكره أبو حيان.
وفي الآية إيماء إلى أن من قصد خيرًا كان سعيه فيه من قيام أو قعود أو مشي أو كلام، أو نحو ذلك مشكورًا مثابًا عليه وإلى أن المدد القادم بعد انقضاء
(١) الفتوحات.
(٢) المراغي.
98
الحرب يشارك الجيش في الغنيمة لأن وطء ديارهم مما يغيظهم، ثم علل هذا الأجر العظيم بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿لا يضيع أجر المحسنين﴾؛ أي: لا يبطل ولا يترك ثوابهم؛ أي: لا يترك إثابتهم على إحسانهم وهو تعليل (١) لكتب، وتنبيه على أن الجهاد إحسان، أما في حق الكفار؛ فلأنه سعى في تكميلهم بأقصى ما يمكن، كضرب المداوي للمجنون، وأما في حق المؤمنين؛ فلأنه صيانة لهم عن سطوة الكفار واستيلائهم؛ أي: إن الله تعالى لا يضيع محسنًا أحسن في عمله، فأطاعه فيما أمره به، وانتهى عما نهاه عنه أن يجازيه على إحسانه، ويثيبه على صالح عمله، ومن ثم كتب لمن أطاعه من أهل المدينة، ومن حولهم من الأعراب الثواب على كل ما فعلوا، فلم يضع لهم أجرًا على عمل عملوه.
والخلاصة: أن هؤلاء محسنون ولا يبطل ثوابهم.
١٢١ - ﴿وَلَا يُنْفِقُونَ﴾ في سبيل الله، ﴿نَفَقَةً صَغِيرَةً﴾ ولو تمرة أو علاقة سوط، ﴿وَلَا﴾ نفقة ﴿كبيرة﴾ كما أنفق عثمان في جيش العسرة، ﴿وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا﴾ من الأودية؛ أي: ولا يجاوزون في مسيرهم في سبيل الله واديًا مقبلين، أو مدبرين فيه، ﴿إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ﴾؛ أي: إلا كتب الله لهم آثارهم وخطاهم، ونفقاتهم في صحائف أعمالهم، ﴿لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى، ﴿أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾؛ أي: لكي يجزيهم الله تعالى الجزاء الحسن؛ والثواب الوافر على جميع ما يعملونه في سبيل الله تعالى، قليلًا أو كثيرًا.
والمعنى: أي كذلك شأنهم فيما ينفقون في سبيل الله صغر أو كبر، قل أو كثر، وفي كل وادٍ يقعطونه في سيرهم غادين، أو رائحين إلا كتب لهم أجرهم على ذلك جزاءً لهم على عملهم، ولا يترك شيء منه أو ينسى ليجزيهم بكتابته في صحف أعمالهم، كأحسن ما يجزيهم على خير أعمالهم التي كانوا يعملونها وهم مقيمون في منازلهم.
وخلاصة ذلك: أنه تعالى يجزيهم بكل عمل مما ذكر، جزاءً أحسن من
(١) البيضاوي.
99
جزائهم على أعمالهم الجليلة، في غير الجهاد بالمال والنفس، بأن تكون النفقة الصغيرة فيه كالنفقة الكبيرة في غيره من أنواع المبرات، والمشقة القليلة فيه كالمشقة الكبيرة فيما عداه من الأعمال الصالحة.

فصل في ذكر الأحاديث المناسبة للآية


عن سهل بن سعد الساعدي، أن رسول الله، - ﷺ -، قال: "رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها"، وفي رواية "وما فيها" متفق عليه.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله، - ﷺ -، "تضمن الله لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلا جهادًا في سبيل الله، وإيمانًا بي وتصديقًا برسلي، فهو عليّ ضامن أن أدخله الجنّة، أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلًا ما نال من أجر أو غنيمة، والذي نفس محمَّد بيده، ما من كلم يكلم في سبيل الله، إلا جاء يوم القيامة كهيئته يوم كلم، لونه لون دم وريحه ريح مسك، والذي نفس محمَّد بيده، لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدًا، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة ويشق عليهم أن يتخلفوا عني، والذي نفس محمَّد بيده، لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل". متفق عليه، هذا لفظ مسلم وللبخاري بمعناه.
وعن أبي سعيد الخدري، قال: أتى رجل رسول الله، - ﷺ -، فقال: أي الناس أفضل؟ قال: "مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله"، قال: ثم من؟ قال: "ثم رجل في شعب من الشعاب يعبد الله". متفق عليه. وفي رواية" "يتقي الله ويدع الناس من شره".
وعن أبي هريرة، أن رسول الله، - ﷺ -، قال: "من احتبس فرسًا في سبيل الله إيمانًا بالله وتصديق بوعده، فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة يعني حسنات" أخرجه البخاري.
وعن ابن عباس، أن رسول الله، - ﷺ -، قال: "ما اغبرت قدما عبد في سبيل
100
الله فتمسه النار". أخرجه البخاري.
وعن أبي مسعود الأنصاري البدري، قال: جاء رجل بناقة مخطومة إلى رسول الله، - ﷺ -، فقال: "هذه في سبيل الله، فقال رسول الله - ﷺ -: "لك بها يوم القيامة سبع مئة ناقة كلها مخطومة" أخرجه مسلم.
وعن خريم بن فاتك، قال رسول الله - ﷺ -: "من أنفق نفقة في سبيل الله،
كتب الله له سبع مئة ضعف" أخرجه الترمذي والنسائي.
١٢٢ - واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى (١): ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً﴾. فذهب جماعة: إلى أنه من بقية أحكام الجهاد؛ لأنه سبحانه لما بالغ في الأمر بالجهاد، والانتداب إلى الغزو كان المسلمون إذا بعث رسول الله، - ﷺ -، سرية إلى الكفار، ينفرون جميعًا، ويتركون المدينة خاليةً، فأخبرهم الله سبحانه بأنه ما كان لهم ذلك؛ أي: أن ينفروا جميعًا. وذهب آخرون: إلى أن هذه الآية، ليست من بقية أحكام الجهاد، وهي حكم مستقل بنفسه في مشروعية الخروج لطلب العلم، والنفقة في الدين، جعله الله سبحانه متصلًا بما دل على وجوب الخروج للجهاد، فيكون السفر نوعين:
الأول: سفر الجهاد.
والثاني: السفر لطلب العلم، ولا شك أن وجوب الخروج لطلب العلم إنما يكون إذا لم يجد الطالب من يتعلم منه في الحضر من غير سفر، والفقه هو العلم بالأحكام الشرعية، وبما يتوصل به إلى العلم بها، من لغة ونحو وصرف وبيان، وأصول؛ أي: وما كان ينبغي أن يفعل المؤمنون النفر والخروج للجهاد جميعًا، ويتركوا المدينة خالية، ورسول الله، - ﷺ -، منفرد وحده؛ لأن ذلك يخل بأمر المعاش ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ﴾؛ أي: فهلا خرج للجهاد، ﴿مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ﴾؛ أي: من كل قبيلة منهم، ﴿طَائِفَةٌ﴾؛ أي: جماعة ليقوموا بواجب الجهاد، وبقيت طائفة أخرى منهم، في المدينة مع رسول الله، - ﷺ -، ﴿لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ﴾؛ أي: لتتعلم
(١) الشوكاني.
101
تلك الباقية أحكام دينهم من النبي، - ﷺ -، ﴿وَلِيُنْذِرُوا﴾ ويبشروا، ﴿قَوْمَهُمْ﴾ الذين خرجوا للجهاد بما تعلموا من النبي، - ﷺ -، ﴿إِذَا رَجَعُوا﴾؛ أي: إذا رجع الخارجون من الغزو، ﴿إِلَيْهِمْ﴾؛ أي: إلى الباقين في المدينة، ﴿لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾؛ أي: لكي يحذر الخارجون بسبب تعليمهم إياهم، ويخافوا عقاب الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه.
فالمعنى (١): ما ينبغي ولا يجوز للمؤمنين أن ينفروا جميعًا، ويتركوا النبي، - ﷺ -، وحده، بل يجب أن ينقسموا قسمين: طائفة تكون مع رسول الله، - ﷺ -، وطائفة تنفر إلى الجهاد؛ لأن ذلك هو المناسب للوقت إذ كانت الحاجة داعية إلى هذا الانقسام، قسم للجهاد، وقسم لتعلم العلم والفقه في الدين؛ لأن أحكام الشريعة كانت تتجدد شيئًا بعد شيء، والماكثون يحفظون ما تجدد، فإذا قدم الغزاة علموهم ما تجدد في غيبتهم.
وفي قوله: ﴿وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ﴾ إشارة إلى أنه ينبغي أن يكون غرض المتعلم الاستقامة وتبليغ الشريعة لا الترفع على العباد، والتبسط في البلاد، كما هو دأب أبناء الزمان، اهـ "أبو السعود".
والخلاصة: وما كان من شأن المؤمنين، ولا مما يطلب منهم أن ينفروا جميعًا في كل سرية تخرج للجهاد، فإنه فرض كفاية متى قام به بعض سقط عن الباقين، لا فرض على كل شخص، وإنما يجب ذلك إذا خرج الرسول واستنفرهم للجهاد. فهلا خرج، ونفر من كل فرقة كبيرة منهم، كأهل بلد، أو قبيلة طائفة وجماعة منهم، وتبقى طائفة أخرى للتفقه في الدين، بأن يتكلف الباقون في المدينة الفقاهة في الدين، بما يتجدد نزوله على الرسول، - ﷺ - من الآيات، وما يكون منه - ﷺ -، من بيانها بالقول والعمل، فيعرف الحكم مع حكمته ويوضح المجمل بالعمل به، ولينذروا قومهم الذين نفروا للقاء العدو إذا رجعوا إليهم؛ أي: ليجعلوا أهم قصد لهم من الفقاهة إرشاد هؤلاء وتعليمهم، وإنذارهم عاقبة
(١) الفتوحات.
102
الجهل، وترك العمل بما علموا رجاء أن يخافوا الله ويحذروا عاقبة عصيانه، وأن يكون جميع المؤمنين علماء بدينهم قادرين على نشر دعوته، والحجاج عنه وبيان أسراره للناس، لا أن يوجهوا أنظارهم إلى الرياسات والمناصب العالية، والترفع عن سواد الناس وكسب المال والتشبه بالظلمة والجبارين في ملابسهم ومراكبهم، ومنافسة بعضهم بعضًا.
وفي الآية، إشارة إلى وجوب التفقه في الدين، والاستعداد لتعليمه في مواطن الإقامة، وتفقيه الناس فيه بالمقدار الذي تصلح به حالهم، فلا يجهلون الأحكام الدينية العامة التي يجب على كل مؤمن أن يتعرفها، والناصبون أنفسهم لهذا التفقه على هذا القصد، لهم عند الله تعالى من سامي المراتب ما لا يقل في الدرجة عن المجاهد بالمال، والنفس في سبيل إعلاء كلمة الله، والذود عن الدين والملة، بل هم أفضل منهم في غير الحال التي يكون الدفاع فيها واجبًا عينيًّا على كل شخص.

فصل في ذكر الأحاديث الدالة على فضل التفقه في الدين


وعن معاوية بن أبي سفيان، قال: سمعت رسول الله، - ﷺ -، يقول: "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم، ويعطي الله، ولم يزل أمر هذه الأمة مستقيمًا حتى تقوم الساعة، وحتى يأتي أمر الله" متفق عليه.
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - ﷺ -: "تجدون الناس خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإِسلام إذا فقهوا" متفق عليه. وعن ابن عباس، أن رسول الله، - ﷺ -، قال: "فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد" أخرجه الترمذي.
وعن أبي أمامة، قال: قال رسول الله - ﷺ -: "فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم" أخرجه الترمذي. وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله، - ﷺ -: "من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهل الله له به طريقًا إلى الجنة" أخرجه الترمذي.
وعن أنس أن رسول الله - ﷺ - قال: "من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع" أخرجه الترمذي.
103
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن النبي، - ﷺ -، قال: "العلم ثلاثة وما سوى ذلك فهو فضل آية محكمة، أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة". أخرجه أبو داود.
والآية المحكمة: هي التي لا اشتباه فيها، ولا اختلاف في حكمها أو ما ليس بمنسوخ، والسنة القائمة هي المستمرة الدائمة التي العمل بها متصل لا يترك، والفريضة العادلة هي التي لا جور فيها ولا حيف في قضائها.
قال الفضيل بن عياض: عالم عامل معلم يدعى عظيمًا في ملكوت السموات، وأخرجه الترمذي موقوفًا. وقال الإِمام الشافعي: طلب العلم أفضل من الصلاة النافلة.
١٢٣ - ولما أمرهم الله سبحانه وتعالى بقتال المشركين كافة، أرشدهم إلى الطريق الأصلح، وهو أن يبدؤوا بقتال الأقرب فالأقرب حتى يصلوا إلى الأبعد فالأبعد، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسوله، ﴿قَاتِلُوا﴾ الأقوام، ﴿الَّذِينَ يَلُونَكُمْ﴾ ويقربونكم، ﴿مِنَ الْكُفَّارِ﴾؛ أي: قاتلوا الأقرب فالأقرب إلى حوزة الإِسلام في الدار والبلاد والنسب. وبهذا الطريق يحصل الغرض من قتال المشركين كافة؛ لأن قتالهم دفعة واحدة لا يتصور؛ ذاك أن القتال إنما شرع لتأمين الدعوة إلى الدين، والدفاع عن أهله، وقد كانت الدعوة موجهة إلى الأقرب فالأقرب من الكفار، كما قال تعالى لرسوله - ﷺ -: ﴿لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا﴾.
وهذا الترتيب أولى، لوجوه كثيرة:
منها: قلة النفقات والحاجة فيه إلى الدواب والآلات، وسهولة معرفة حال الأقرب من الأسلحة والعسكر، ولأن ترك الأقرب والاشتغال بالأبعد لا يؤمن معه من هجوم العدو على الذراري والضعفاء ومن ثم كان هذا هو الطريق المتبع في الدعوة والنفقات والصدقات، وما يدار في المجالس من شراب ونحوه، فكان النبي، - ﷺ -، يعطي من على يمينه، وإن لم يكن أفضل الجالسين، ثم الذي يليه ثم الذي يليه، وقال للأعرابي الذي كان يمد يده إلى الجوانب البعيدة: "كل مما يليك".
﴿وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ﴾؛ أي: وليدرك الكفار فيكم أيها المؤمنون ﴿غِلْظَةً﴾؛ أي: شدةً عظيمةً وخشونة، وجرأة وصبرًا على القتال وعنفًا في القتال والأسر ونحو ذلك، كما قال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾. والغلظة في زمن الحرب مما تقتضيه الطبيعة والمصلحة، لما فيها من شدة الزجر والمنع عن القبيح.
وفي الآية إيماءٌ إلى أنه قد يحتاج حينًا إلى الرفق واللين وآخر إلى العنف والشدة، لا أن يقتصر على الغلظة فحسب، فإن ذلك مما ينفر، ويوجب تفرق الناس عنهم. وإنما أمروا بذلك في القتال، وما يتصل بالدعوة إلى الإِسلام للإِرشاد، إلا أنه يجب أن تكون حالهم في الأمور العامة مبنية على الرفق والعدل والتؤدة في المعاملة، ومن ثم صار ذلك من أخص صفات المسلمين. وقرأ الجمهور: ﴿غِلْظَةً﴾ بكسر الغين، وهي لغة أسد. وقرأ الأعمش، وأبان بن تغلب، والمفضل، كلاهما عن عاصم، بفتحها، وهي لغة الحجاز. وأبو حيوة، والسلمي، وابن أبي عبلة، والمفضل، وأبان أيضًا، بضمها وهي لغة تميم. وعن أبي عمرو ثلاث اللغات ذكره أبو حيان.
﴿وَاعْلَمُوا﴾ أيها المؤمنون، ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى، ﴿مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ الله بالمعونة، والنصرة على أعدائهم، والمراد أن يكون الإقدام على الجهاد بسبب تقوى الله، لا بسبب طلب المال والجاه؛ أي: واعلموا أن الله سبحانه وتعالى معكم أيها المؤمنون بالمعونة والنصر، إذا اتقيتموه وراعيتم أحكامه وسننه وابتعدتم عن التقصير في أسباب النصر والغلب، من إعداد العدة المناسبة للزمان والمكان التي عناها الله تعالى بقوله: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾ ومن الثبات والصبر والطاعة وحسن النظام وترك التنازع والاختلاف وكثرة ذكر الله، والتوكل عليه فيما وراء الأسباب والسنن المعروفة.
١٢٤ - ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ﴾ من سور القرآن، والحال أن المنافقين ليسوا حاضرين مجلس نزولها، وليس في السورة فضيحة لهم، ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ﴾؛ أي: فمن المنافقين فريق، يقول لأصحابه استهزاءً أو للمؤمنين: ﴿أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ﴾ السورة، ﴿إِيمَانًا﴾؛ أي: تصديقًا ويقينًا. وقرأ الجمهور: ﴿أَيُّكُمْ﴾ بالرفع. وقرأ
زيد بن علي، وعبيد بن عمير، ﴿أَيُّكُمْ﴾ بالنصب على الاشتغال، والنصب فيه عند الأخفش أفصح، كما هو بعد أداة الاستفهام نحو: أزيدًا ضربته؛ أي: وإذا أنزل الله تعالى على رسوله، - ﷺ -، سورة من سور كتابه الكريم، فمن المنافقين من يقول لإخوانه، على سبيل الاستهزاء والسخرية هذه المقالة، ليثبتوا علي النفاق، أو يقول لمن يلقاه من المؤمنين مشككًا لهم، ﴿أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا﴾؛ أي: من الذي زادته هذه السورة يقينًا بحقية القرآن والإِسلام وصدق الرسول محمَّد، - ﷺ -؛ أي: أيكم زادته تصديقًا جازمًا مقترنًا بإذعان النفس، وخضوعًا وأشعرته بلزوم العمل بها لتيقنه بصدق الرسول الذي أنزلت عليه.
والإيمان على هذا النحو يزيد بنزول القرآن في عهد الرسول، - ﷺ - ولا سيما من يحضر نزوله ويسمعه منه، وكذا يزيد بسماعه من غيره في قلب المؤمن قوة إذعان، ورغبة في العمل والقرب من الله تعالى قال تعالى مجيبًا عن هذا السؤال مبينًا حالهم وحال المؤمنين: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله تعالى، وبما جاء من عنده، ﴿فَزَادَتْهُمْ﴾ هذه السورة ﴿إِيمَانًا﴾ بانضمام إيمانهم، بما فيها بإيمانهم السابق؛ لأنهم يقرون عند نزولها بأنها حق من عند الله تعالى، ﴿وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾؛ أي: يفرحون بنزولها لما فيها من المنافع الدينية والدنيوية.
أي: فأما المؤمنون فيزيدهم نزول القرآن زيادة اليقين، واطمئنان القلب، ويزيدهم قوة في العمل به، والتقرب إلى ربهم وهم يستبشرون بنزولها لما يرجون من خير هذه الزيادة بتزكية أنفسهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إن الإيمان يبدو لمعة بيضاء في القلب، وكلما ازداد الإيمان عظمًا ازداد ذلك البياض حتى يبيض القلب كله، وإن النِّفاق يبدو لمعة سوداء في القلب، وكلما ازداد النفاق ازداد السواد حتى يسود القلب كله، وايم الله لو شققتم عن قلب مؤمن لوجدتموه أبيض ولو شققتم عن قلب منافق لوجدتموه أسود، اهـ "خازن".
١٢٥ - ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾؛ أي: نفاق وسوء عقيدة، ﴿فَزَادَتْهُمْ﴾ هذه السورة، ﴿رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ﴾؛ أي: عقيدة باطلة إلى عقيدتهم الباطلة، فإنهم
106
كانوا مكذبين بالسور النازلة قبل ذلك، والآن صاروا مكذبين بهذه السورة الجديدة، فقد انضم كفر إلى كفر، وإنهم كانوا في العداوة واستنباط وجوه المكر، والآن ازدادت تلك الأخلاق الذميمة بسبب نزول هذه السورة الجديدة، ﴿وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ وهذه الحالة أقبح من الحالة الأولى، فإن الأولى ازدياد الرجاسة، وهذه مداومة الكفر وموتهم عليه؛ أي وأما (١) الذين في قلوبهم شك وارتياب دعاهم إلى النفاق بإسرار الكفر، وإظهار الإِسلام فزادتهم كفرًا ونفاقًا مضمومًا إلى كفرهم ونفاقهم السابق، واستحوذ ذلك عليهم واستحكم فيهم إلى أن ماتوا على الكفر والنفاق، على مقتضى سننه تعالى في تأثير الأعمال في صفات النفس، وتغيير هواجس الفكر، ثم عجيب من حالهم وقد كان لهم زاجر فيما يرون فقال: ﴿أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ﴾ والهمزة (٢): فيه للاستفهام التوبيخي على قراءة الياء في يرون وللاستفهام التعجيبي على قراءة التاء فيه. والخطاب فيه للمؤمنين، وهي داخلة على محذوف والواو عاطفة على ذلك المحذوف، تقديره: أيجهلون ولا يرون؛ أي؛ يجهل المنافقون ولا يرون أنهم يختبرون في كل عام بأنواع البليات، من المرض والجوع، ومن إظهار الفضيحة على نفاقهم، وعلى تخلفهم من الغزو مرة أو مرتين فأكثر، ﴿ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ﴾ من نفاقهم ﴿وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾؛ أي: يتعظون بتلك الفتن الموجبة للتوبة، وقوله: ﴿ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ﴾ وما بعده معطوف على لا يرون على قراءة الياء التحتية داخل تحت الإنكار والتوبيخ، وعطف على ﴿يُفْتَنُونَ﴾ على قراءة التاء الفوقية.
أي: أيجهلون (٣) هذا ويغفلون عن حالهم فيما يعرض لهم عامًا بعد عام، من ضروب الابتلاء والاختبار التي تظهر استعداد النفوس للإيمان والكفر، والتفرقة بين الحق والباطل، ولا ينظرون إلى الآيات الدالة على صدق الرسول، - ﷺ -، في كل ما أخبر به، من نصر الله لمن اتبعه، وخذلان أعدائه،
(١) المراغي.
(٢) المراح.
(٣) المراغي.
107
ووقوع ما أنذرهم به، ومن إنباء الله بما في قلوبهم، وفضيحتهم بما يكتمون من أعمالهم.
ثم هم مع كل هذا تمر عليهم الأعوام بعد الأعوام، ولا يتوبون من نفاقهم، ولا يتعظون بما يحل بهم من العذاب، أفبعد هذا برهان على قلة الاستعداد للإيمان، وانطفاء نور الفطرة؛ ولله در القائل:
قَدْ تُنْكِرُ العينُ ضوءَ الشمسِ منْ رمدِ وينكرُ الفمُ طعمَ الماءِ من سقمِ
١٢٦ - وقرأ الجمهور (١): ﴿أَوَلَا يَرَوْنَ﴾ بالياء والضمير فيه يعود على الذين في قلوبهم مرض. وقرأ حمزة ﴿ترون﴾ بالتاء، خطابًا للمؤمنين. والرؤية يحتمل أن تكون من رؤية القلب ومن رؤية البصر. وقرأ أبي وابن مسعود والأعمش: ﴿أو لا ترى﴾؛ أي: أنت يا محمَّد. وعن الأعمش أيضًا: ﴿أولم تروا﴾. وقال أبو حاتم عنه: ﴿أولم يروا﴾. وقرأ ابن مسعود ﴿ولا هم يتذكرون﴾.
١٢٧ - وبعد أن بين حال تأثير إنزال السورة في المنافقين، وهم غائبون عن مجلس الرسول - ﷺ - بين حالهم وهم في مجلسه، - ﷺ -، حين نزولها واستماع تلاوته لها، فقال: ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ﴾ فيها بيان حالهم، وكانوا حاضرين مجلس نزولها ﴿نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ أي: تغامزوا بالعيون، يدبرون الهرب ليتخلصوا عن تأذي سماعها، يقولون بطريق الإشارة: ﴿هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ﴾ من المسلمين إن قمتم من المجلس، ﴿ثُمَّ انْصَرَفُوا﴾ جميعًا عن مجلس نزول الوحي؛ خوفًا من الافتضاح أو غير ذلك. والمعنى؛ أي: وإذا أنزلت سورة وهم في المجلس، تسارقوا النظر وتغامزوا بالعيون على حين تخشع أبصار المؤمنين، وتنحني رؤوسهم، وتشاوروا في الانسلال. من المجلس، خفية لئلا يفتضحوا بما يظهر عليهم من سخرية وإنكار قائلًا بعضهم لبعض: ﴿هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ﴾؛ أي: هل يراكم الرسول، - ﷺ -، أو المؤمنون إذ قمتم من المجلس، ثم انصرفوا جميعًا عن مجلس نزول الوحي، متسللين لواذًا، كراهة منهم لسماعه، وانتظارًا لسنوح
(١) البحر المحيط.
فرصة الغفلة عنهم، فكلما لمح أحد منهم غفلة عنه انصرف ﴿صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ عن الإِيمان وعن استماع القرآن ﴿بـ﴾ سبب ﴿أنهم قوم لا يفقهون﴾ ولا يفهمون ما يسمعون من الآيات لسوء فهمهم وعدم تدبرهم؛ أي: صرف الله قلوبهم عن الإيمان الصادق، والاسترشاد بآيات كتابه، إلى ما في ملكوت السموات والأرض، من دلائل قدرته، وهذه الجملة إما إخبار بذلك، أو دعاء عليهم به، والمآل في هذه واحد في كلامه تعالى.
﴿بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ﴾؛ أي: ذلك الصرف بسبب أنهم قوم فقدوا فهم الحقائق، وما يترتب عليها من الأعمال، فلا يفقهون ما يسمعون من الآيات لعدم تدبرها والتأمل في معانيها، مع موافقتها للعقل وهدايتها إلى الحق والعدل؛ لأنهم وطنوا أنفسهم على الإعراض عن كل ما جاء به، من غير بحث ولا تأمل، أحق هو أم باطل، أخير هو أم شر، وأنى لمثل هؤلاء، وتلك حالهم أن يهتدوا بنزول الآيات والسور؛ وعزتي وجلالي
١٢٨ - ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ﴾ وبعث إليكم يا معشر العرب، ﴿رسولٌ﴾ عظيم الشأن ﴿مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾؛ أي: من جنسكم بشر عربي قرشي مثلكم. وقرىء (١): بفتح الفاء؛ أي: من أشرفكم وأفضلكم. قيل: هذه قرءاة فاطمة وعائشة رضي الله عنهما.
وإلى (٢) كون هذه الآية خطابًا للعرب، ذهب جمهور المفسرين؛ وقال الزجاج: هي خطاب لجميع العالم، والمعنى، لقد جاءكم ﴿رَسُولٌ مِنْ﴾ جنسكم في البشرية، إذ لو كان من الملائكة لضعفت قوى البشر عن سماع كلامه، والأخذ عنه.
وحاصل المعنى على القول الأول: أي (٣) لقد جاءكم يا معشر العرب رسول من جنسكم ونسبكم، والآية بمعنى قوله: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾.
(١) المراح.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
109
ذاك أن منته على قومه أعظم وحجته بكتابه أنهض، وأولى قومه به قبيلته قريش ثم عشيرته الأقربين، بنو هاشم وبنو المطلب، ولو لم يؤمن به وبكتابه العرب لما آمن العجم، وقد وجه دعوة إلى الأقرب فالأقرب، فآمن العرب بدعوته مباشرة، وآمن العجم بدعوة العرب، والعرب آمنوا بفهم القرآن وبيانه، - ﷺ - له، بالتبليغ والعمل، وبما شاهدوا من آيات الله في شخصه، وقد امتن عليه (١) وعلى قومه بالقرآن المجيد فقال: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ﴾؛ أي: وإنه لشرف لك ولهم، تُذْكَرُون به في العالم، ويدون لكم في بطون الكتب والدفاتر وإنما قاومه أكابر قومه أنفةً واستكبارًا عن اتباعه، إذ هم يرونه دونهم، إلَّا أنَّ في اتباعه إقرارًا بكفرهم وكفر أبائهم الذين يفاخرون بهم، إلا أنهم لم يكونوا على ثقة من فوزه ونيلهم باتِّباعه مجد الدنيا وسعادة الآخرة. ﴿عَزِيزٌ﴾؛ أي: شاق شديد، ﴿عَلَيْهِ﴾؛ أي: على هذا الرسول الكريم، ﴿مَا عَنِتُّمْ﴾؛ أي: ما أثمتم وأذنبتم فهو يخاف عليكم الوقوع في العذاب، لكونه من جنسكم ومبعوثًا لهدايتكم، والعنت التعب لهم، والمشقة عليهم بعذاب الدنيا بالسيف ونحوه، أو بعذاب الآخرة في النار أو بمجموعهما. والظاهر (٢)، أن ما مصدرية، في موضع الفاعل بعزيز، أي: يعز عليه عنتكم ومشقتكم، كما قال الشاعر:
يَسُرُّ الْمَرْءَ مَا ذَهَبَ اللَّيَالي وَكَانَ ذَهَابُهُنَّ لَهُ ذَهَابَا
أي: يسر المرء ذهابُ الليالي؛ أي: شديدٌ عليه عنتكم ولقاؤكم المكروه؛ لأنه منكم، فليس من الهين عليه أن تكونوا في الدنيا أمة ذليلة يعنتها أعداؤها بالسيطرة عليها، والتحكم فيها، ولا أن تكونوا في الآخرة من أصحاب النار التي وقودها الناس والحجارة.
﴿حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ﴾؛ أي: حريص على اهتدائكم وصلاح شأنكم، كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: شديد الحرص والرغبة في اهتدائكم، وإيصال الخيرات إليكم في الدنيا والآخرة، أو حريصٌ
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
110
وشحيح عديكم بأن تدخلوا النار. ﴿بِاَلمُؤمنِينَ﴾ بالله وبرسوله؛ أي: بجميعهم، ﴿رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾؛ أي: شديد الرأفة والشفقة بالمطيعين وكثير الرحمة والإصلاح بالمذنبين. وقيل: رؤوف بمن رآه، رحيم بمن لم يره. وقيل: رؤوف بأقربائه، رحيم بغيرهم، ذكره في "البحر". فكل ما يدعو إليه من العمل بشرائع الله فهو دليل على ثبوت هذه الصفات له، وكل شاق منها، كالجهاد فهو منجاة مما هو أشق منه.
وقال الحسن بن المفضل: لم يجمع الله سبحانه وتعالى لنبي من أنبيائه اسمين من أسمائه، إلا لنبينا محمَّد، - ﷺ -، فإنه قال فيه؛ ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ وقال تعالى في حق نفسه: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾.
وقرأ ابن عباس (١)، وأبو العالية والضحاك وابن محيصن، ومحبوب عن أبي عمرو، وعبد الله بن قسيط، المكي، ويعقوب من بعض طرقه: ﴿من أنفسكم﴾ بفتح الفاء. ورويت هذه القراءة عن رسول الله، - ﷺ -، وعن فاطمة وعائشة - رضي الله عنهما - كما مر، والمعنى، من أشرفكم وأعزكم، وذلك من النفاسة، وهو راجع لمعنى النفس، فإنها أعز الأشياء. وقرىء "رؤوف" بالمد؛ أي: بزيادة واو بعد الهمزة وبالقصر؛ أي: بحذف الواو قراءتان سبعيتان في هذه الكلمة حيثما وقعت في القرآن.
١٢٩ - ثم قال الله سبحانه وتعالى (٢) مخاطبًا لرسوله محمَّد - ﷺ -، ومسليًا له ومرشدًا له، إلى ما يقوله عندما يعصى: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾؛ أي: فإن (٣) تولى هؤلاء المنافقون والكفار عن الإيمان والتوبة، وناصبوك الحرب؛ أي: فإن تولوا وأعرضوا عن الإيمان بك، والاهتداء بما جئتهم به، ولم يعملوا به، ولا قبلوه بعد هذه الحالة التي منّ الله سبحانه وتعالى عليهم بها، من إرسالك إليهم، واتصافك بهذه الأوصاف الجميلة، ﴿فَقُلْ﴾ يا محمَّد: ﴿حَسْبِيَ﴾ وكافيَّ، ﴿اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى
(١) البحر المحيط.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراح.
111
المنفرد بالأولوهية؛ أي: فالله سبحانه وتعالى هو كافيَّ من شرهم، فإنه يعينك عليهم ويكفيك أمر توليهم، وما يتبعه من عداوتهم وصدهم عن سبيله فقد بلغت وما قصرت، ﴿لَا إِلَهَ﴾؛ أي: لا معبود بحق ولا حافظ ولا ناصر ﴿إِلَّا هُوَ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: لا معبود سواه ألجأ إليه بالدعاء والإعانة، وهو الكافي والمعين، ﴿عَلَيْهِ﴾ سبحانه وتعالى لا على غيره، ﴿تَوَكَّلْتُ﴾ واعتمدت، وإليه أموري فوضت لا إلى غيره، فلا أكل أمري فيما عجزت عنه إلى غيره، ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى، ﴿رَبُّ الْعَرْشِ﴾؛ أي: مالك وخالق العرش، ﴿الْعَظِيمِ﴾ وصفه بالعظم؛ لأنه أعظم المخلوقات، ولأجل عظمه خصه بالذكر، مع أن الله سبحانه وتعالى رب كل شيء، فذكره أمدح للباري. وقد قرأ (١) الجمهور: ﴿العظيمِ﴾ بالجر على أنه صفة للعرش، ومعنى عظمه، كبر جرمه واتساع جوانبه. وقرأ ابن محيصن: ﴿العظيم﴾ برفع الميم على أنه صفة لرب. وقد رويت هذه القراءة عن ابن كثير. ومعنى عظمه تعالى، تنزهه عن جميع النقائص واتصافه بجميع الكمالات. وقال أبو (٢) بكر الأصم: وهذه القراءة أعجب إليّ؛ لأن جعل العظيم صفةً لله تعالى أولى من جعله صفة للعرش، اهـ والعرش (٣)، مركز تدبير أمور الخلق، كما قال تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾ وعظمته بعظمة الرب الذي استوى عليه، وعظمة الملك الكبير الذي هو مركز تدبيره، وعظمة العرش والملك في الملأ الأعلى، وفيما دونه، هي مظهر عظمة الله سبحانه وتعالى. ودليل على أنه وحده الإله الحق، الذي لا ينبغي أن يعبد غيره، ولا يتوكل على سواه وهو المالك للعالم كله والمدبر لهم.
روى (٤) أحمد والبخاري والترمذي وغيرهم، عن زيد بن ثابت، في جمع القرآن وكتابته في عهد أبي بكر، أنه قال: حتى وجدت من سورة التوبة آيتين عند خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع أحد غيره، ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ...﴾ إلى آخرها، يريد أنه لم يجدهما مكتوبتين عندما جمع المكتوب
(١) الشوكاني.
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
(٤) المراغي.
112
في الرقاع والأكتاف والعُسُب إلا عنده، وقد كانتا محفوظتين معروفتين للكثير كما صُرح ذلك في الروايات الأخرى.
فقد أخرج ابن أبي داود في "المصاحف"، عن عباد بن عبد الله بن الزبير، قال: أتى الحارث بن خزيمة بهاتين الآيتين من آخر براءة ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ إلى عمر، فقال: من معك على هذا؟ فقال: لا أدري، والله إني أشهد لسمعتهما من رسول الله، - ﷺ -، ووعيتهما وحفظتهما، فقال عمر: وأنا أشهد لسمعتهما من رسول الله، - ﷺ -، لو كانت ثلاث آيات لجعلتهما سورة على حدة، فانظروا سورةً من القرآن فالحقوها بها، فألحقت في آخر براءة وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، أن رجلًا من الأنصار جاء بهما عمر، فقال عمر: لا أسألك عليها بينة أبدًا، كذلك كان رسول الله، - ﷺ -، يقرؤها.
ومن هذه الروايات يعلم، أن الآيتين كانتا محفوظتين مشهورتين، إلا أنهم اختلفوا في موضعهما، ففي بعضها أنهما آخر سورة براءة بالتوقيف من النبي، - ﷺ -. وفي بعضها أنهما وضعتا بالرأي والاجتهاد، ولكن المعتمد هو الأول؛ لأن من حفظ بالتوقيف حجة على من لم يحفظ. قال الحافظ ابن حجر في "شرح البخاري": إن زيدًا لم يكن يعتمد في جمع القرآن على علمه، ولا يقتصر على حفظه، واكتفاؤه بخزيمة وحده إنما كان لأنه لم يجدهما مكتوبتين عند غيره وإن كانتا محفوظتين عنده وعند غيره، وحسبك دليلًا على ذلك قوله: إنهم كانوا يسمعون رسول الله، - ﷺ -، يقرؤها فهو صريح في أن البحث عمن كتبها فقط، اهـ فجملة القول أن الآيتين كانتا محفوظتين ومكتوبتين ومعروفتين لكثير من الصحابة، وإنما اختلفوا حين الجمع، في موضع كتابتهما، حتى شهد من شهد أن النبي، - ﷺ -، هو الذي وضعهما في آخر سورة براءة وفاقًا لقول أبيّ بن كعب، وهو أحد الذين تلقوا القرآنَ كُلَّه مرتبًا عن النبي، - ﷺ -، وكذا زيد بن ثابت، وكان عدد المختلفين في موضعهما قليلًا، فلما كتبتا في المصاحف وافق الجميع على وضعهما هذا، ولم يروا أيَّ اعتراض على ذلك ممن كتبوا لأنفسهم مصاحف اعتمدوا فيها على حفظهم، كابن مسعود رضي الله عنه.
113
فائدة: وفي كتاب أبي داود عن أبي الدرداء، قال: من قال إذا أصبح وإذا أمسى: حسبي الله لا إله إلا هو، عليه توكلت وهو رب العرش العظيم، سبع مرات، كفاه الله تعالى ما أهمه، ذكره في "البحر".
الإعراب
﴿مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ﴾.
﴿مَا﴾: نافية. ﴿كَانَ﴾ فعل ماضٍ ناقص. ﴿لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، خبر مقدم لـ ﴿كَانَ﴾ على اسمها. ﴿وَمَنْ﴾ اسم موصول، معطوف على أهل المدينة. ﴿حَوْلَهُمْ﴾: ظرف ومضاف إليه، صلة لـ ﴿مِنَ﴾ الموصولة. ﴿مِنَ الْأَعْرَابِ﴾: جار ومجرور، حال من الضمير المستقر في الظرف. ﴿أَنْ يَتَخَلَّفُوا﴾: ناصب وفعل وفاعل. ﴿عَنْ رَسُولِ اللَّهِ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية في تأويل مصدر، مرفوع على كونه اسم كان مؤخرًا، تقديره: ما كان التخلف عن رسول الله جائزًا لأهل المدينة ومن حولهم، ولا لائقًا بهم، وجملة ﴿كَانَ﴾ مستأنفة.
﴿وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾.
﴿وَلَا يَرْغَبُوا﴾: الواو: عاطفة. ﴿لَا﴾: نافية. ﴿يَرْغَبُوا﴾: فعل وفاعل، معطوف على ﴿يَتَخَلَّفُوا﴾ ﴿بِأَنْفُسِهِمْ﴾ جار ومجرور متعلق به، وكذلك، يتعلق به الجار والمجرور في قوله: ﴿عَنْ نَفْسِهِ﴾ والتقدير: ولا الرغبة بأنفسهم عن نفسه كائنًا. ﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ. ﴿بِأَنَّهُمْ﴾، الباء: حرف جر وسبب. ﴿أَنَّهُمْ﴾ ناصب واسمه. ﴿لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ﴾ فعل ومفعول وفاعل. ﴿وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ﴾ معطوفان على ظمأ. ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بيصيب، أو حال من ضمير المفعول في ﴿يُصِيبُهُمْ﴾ وجملة يصيب، في محل الرفع خبر ﴿أَنّ﴾، ولكنه خبر سببي، وجملة ﴿أَنّ﴾ في تأويل مصدر مجرور بالباء، تقديره؛ ذلك بسبب عدم إصابة ظمأ ولا نصب ولا مخمصة ﴿في سبيل الله﴾، الجار والمجرور، متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، تقديره: ذلك النهي عن التخلف،
114
كائن بسبب عدم إصابتهم ظمأ ولا نصب، والجملة الاسمية مستأنفة.
﴿وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾.
﴿وَلَا يَطَئُونَ﴾: فعل وفاعل، معطوف على قوله ﴿لَا يُصِيبُهُمْ﴾ ﴿مَوْطِئًا﴾: منصوب على المفعولية المطلقة. ﴿يَغِيظُ الْكُفَّارَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَوْطِئًا﴾ والجملة في محل النصب، صفة لـ ﴿مَوْطِئًا﴾. ﴿وَلَا يَنَالُونَ﴾: فعل وفاعل، معطوف أيضًا على ﴿يُصِيبُهُمْ﴾ ﴿مِنْ عَدُوٍّ﴾ متعلق به. ﴿نَيْلًا﴾ منصوب على المصدرية. ﴿إِلَّا كُتِبَ﴾ ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿كُتِبَ﴾ فعل ماض مغير الصيغة ﴿لَهُمْ﴾ جار ومجرور متعلق به، وكذا يتعلق به الجار والمجرور في قوله: ﴿بِهِ﴾ ﴿عَمَلٌ﴾: نائب فاعل ﴿صَالِحٌ﴾: صفة له، والجملة الفعلية في محل النصب، حال من مفعول ﴿يُصِيبُهُمْ﴾ ومن فاعل يطئون وينالون وفي "الفتوحات" قوله: ﴿إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ﴾: جملة ﴿كُتِبَ﴾ حالية، فهذا التركيب نظير قولك: ما جاء زيد إلا راكبًا، اهـ شيخنا. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ ناصب واسمه. ﴿لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾: فعل ومفعول ومضاف إليه، وفاعله ضمير يعود على الجلالة، والجملة الفعلية في محل الرفع، خبر إن، وجملة ﴿إنَّ﴾ مستأنفة.
﴿وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ﴾.
﴿وَلَا يُنْفِقُونَ﴾ فعل وفاعل، في محل الرفع معطوف على قوله: ﴿لَا يُصِيبُهُمْ﴾ ﴿نَفَقَةً﴾: مفعول به ﴿صَغِيرَةً﴾: صفة لها ﴿وَلَا كَبِيرَةً﴾: معطوف على ﴿صَغِيرَةً﴾ ﴿وَلَا يَقْطَعُونَ﴾ فعل وفاعل، معطوف على ﴿لَا يُصِيبُهُمْ﴾ ﴿وَادِيًا﴾ مفعول به ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ ﴿كُتِبَ﴾ فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على المذكور من كل واحد من الأمرين، النفقة وقطع الوادي. ﴿لَهُمْ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب، حال من النفقة، وقطع الوادي؛ أي: إلا حالة كونهما مكتوبين لهم.
﴿لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
115
﴿لِيَجْزِيَهُمُ﴾ فعل ومفعول أول وفاعل، منصوب بأن مضمرة بعد لام كي ﴿أَحْسَنَ مَا﴾: مفعول ثانٍ ومضاف إليه، والجملة الفعلية في تأويل مصدر، مجرور بلام التعليل، تقديره: لجزاء الله إياهم أحسن ما كانوا يعملون، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿كُتِبَ﴾ ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه. وجملة ﴿يَعْمَلُونَ﴾ خبر ﴿كَانَ﴾ وجملة ﴿كَانَ﴾ صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: ما كانوا يعملونه.
﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢)﴾.
﴿وَمَا﴾: الواو: استئنافية. ﴿مَا﴾: نافية ﴿كَانَ الْمُؤْمِنُونَ﴾: فعل ناقص واسمه ﴿لِيَنْفِرُوا﴾؛ ﴿اللام﴾: حرف جر وجحود ﴿ينفروا﴾: فعل وفاعل، منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد لام الجحود، لوقوعه بعد ﴿كَانَ﴾ المنفية بما. ﴿كَافَّةً﴾: حال من واو ينفروا؛ أي: حالة كونهم مجتمعين، وجملة ينفروا، صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر، مجرور باللام المتعلقة بمحذوف خبر كان، تقديره: وما كان المؤمنون مريدين النفر كافة، وجملة ﴿كَانَ﴾ مستأنفة؛ أي: ما صح لهم ولا استقام أن ينفروا جميعًا، ويتركوا المدينة خالية، بل ينفر من كل فرقة منهم طائفة. وقال النحاس: هذه الجملة لفظها خبر ومعناها أمر؛ أي: نهي؛ أي: لا تنفروا كافةً. ﴿فَلَوْلَا﴾ الفاء: عاطفة. ﴿لولا﴾: حرف تحضيض، بمعنى، هلا ﴿نَفَرَ﴾: فعل ماض ﴿مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿نفر﴾ ﴿مِنْهُمْ﴾ صفة لـ ﴿فِرْقَةٍ﴾ ﴿طَائِفَةٍ﴾: فاعل، والجملة الفعلية معطوفة على جملة ﴿كَانَ﴾ ﴿لِيَتَفَقَّهُوا﴾: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي ﴿فِي الدِّينِ﴾: متعلق به، والجملة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لتفقههم في الدين والجار والمجرور متعلق بمحذوف معطوف على نفر، تقديره: فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة؛ وبقيت طائفة في المدينة لتفقههم في الدين ﴿وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ﴾: فعل وفاعل، ومفعول منصوب بأن مضمرة، معطوف على قوله: ﴿لِيَتَفَقَّهُوا﴾ عطف علة على علة ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، مجرد عن معنى الشرط متعلق بينذروا، ﴿رَجَعُوا﴾ فعل وفاعل
116
﴿إِلَيْهِمْ﴾: متعلق به والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذا﴾ ﴿لَعَلَّهُمْ﴾ حرف نصب واسمه. وجملة ﴿يَحْذَرُونَ﴾ في محل الرفع خبر، لعل، وجملة، لعل مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ﴾.
﴿يا﴾: حرف نداء ﴿أي﴾ منادى نكرة مقصودة، وجملة النداء مستأنفة ﴿الَّذِينَ﴾ اسم موصول، صفة لأي، ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل، صلة الموصول ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب النداء ﴿يَلُونَكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول. ﴿مِنَ الْكُفَّارِ﴾: جار ومجرور، حال من واو ﴿يَلُونَكُمْ﴾.
﴿وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾.
﴿وَلْيَجِدُوا﴾ الواو: عاطفة ﴿اللام﴾: لام الأمر ﴿يَجِدُوا﴾: فعل وفاعل، مجزوم بلام الأمر ﴿فِيكُمْ﴾: متعلق به ﴿غِلْظَةً﴾: مفعول به؛ لأن وجد هنا بمعنى أصاب وأدرك، والجملة معطوفة على جملة قوله ﴿قَاتِلُوا﴾ على كونها جواب النداء. ﴿واعلموا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿قَاتِلُوا﴾ ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾ ناصب واسمه ﴿مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ ظرف ومضاف إليه، خبر أن وجملة أن في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي علم، تقديره: واعلموا كون الله مع المتقين.
﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾.
﴿وَإِذَا﴾ الواو: استئنافية ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان ﴿مَا﴾: زائدة ﴿أُنْزِلَتْ سُورَةٌ﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذا﴾ على كونها فعل شرط لها ﴿فَمِنْهُمْ﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إذَا﴾ الشرطية ﴿مِنْهُمْ﴾: جار ومجرور، خبر مقدم ﴿مِن﴾: اسم موصول، في محل الرفع مبتدأ مؤخر ﴿يَقُولُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير، يعود على ﴿مَنْ﴾ والجملة الفعلية صلة من الموصولة، والجملة الاسمية جواب ﴿إِذَا﴾ الشرطية، لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إِذَا﴾ مستأنفة ﴿أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا﴾: مقول محكي،
117
ليقول، وإن شئت قلت: ﴿أَيُّكُمْ﴾: اسم استفهام للاستفهام الإنكاري، مبتدأ مرفوع، والكاف: مضاف إليه ﴿زَادَتْهُ﴾: فعل ومفعول أول ﴿هَذِهِ﴾ فاعل ﴿إِيمَانًا﴾: مفعول ثانٍ، والجملة الفعلية في محل الرفع، خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول القول ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت قولهم هذا، وأردت بيان ما يترتب على نزول السورة، فأقول لك: ﴿أما﴾: حرف شرط وتفصيل ﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ وجملة ﴿آمَنُوا﴾ صلته ﴿فَزَادَتْهُمْ﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿أما﴾ واقعة في غير موضعها؛ لأن موضعها موضع ﴿أما﴾ ﴿زَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾: فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على سورة ﴿وَهُمْ﴾: مبتدأ. وجملة ﴿يَسْتَبْشِرُونَ﴾: خبره، والجملة الإسمية في محل النصب، حال من هاء ﴿زادتهم﴾ وجملة ﴿زادتهم﴾ في محل الرفع خبر الموصول، ولكنه خبر سببي، والجملة من المبتدأ والخبر جواب ﴿أما﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿أما﴾ في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة.
﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ﴾.
﴿وَأَمَّا﴾ الواو: عاطفة ﴿أما﴾: حرف شرط. ﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ ﴿فِي قُلُوبِهِمْ﴾: خبر مقدم ﴿مَرَضٌ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة صلة الموصول ﴿فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا﴾: فعل ومفعولان، والفاء: رابطة لجواب ﴿أما﴾ والفاعل ضمير مستتر، يعود على السورة ﴿إِلَى رِجْسِهِمْ﴾: جار ومجرور، صفة لـ ﴿رِجْسًا﴾ تقديره: رجسا منضمًا إلى رجسهم، وجملة ﴿زادتهم﴾ جواب ﴿أما﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿أما﴾ في محل النصب، معطوفة على جملة ﴿أما﴾ الأولى ﴿وَمَاتُوا﴾: فعل وفاعل، معطوف على ﴿زادتهم﴾ ﴿وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة الإسمية في محل النصب، حال من فاعل ﴿ماتوا﴾.
﴿أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾.
118
﴿أَوَلَا﴾: الهمزة فيه: للاستفهام التوبيخي، على قراءة الياء التحتية في يرون، وللتعجبي على قراءة التاء الفوقية، داخلة على محذوف تقديره: أيجهلون، والواو عاطفة على ذلك المحذوف، كما مر في مبحث التفسير. ﴿ألَا﴾: نافية ﴿يَرَوْنَ﴾: فعل وفاعل، والرؤية يحتمل كونها قلبية، وكونها بصرية ﴿أَنَّهُمْ﴾: ناصب واسمه ﴿يُفْتَنُونَ﴾: فعل ونائب فاعل ﴿فِي كُلِّ عَامٍ﴾: متعلق به ﴿مَرَّةً﴾: منصوب على المفعولية المطلقة ﴿أَوْ مَرَّتَيْنِ﴾: معطوف عليه، وجملة يفتنون في محل الرفع خبر ﴿أَنّ﴾ وجملة ﴿أَنّ﴾ في تأويل مصدر ساد مسد مفعول ﴿يرى﴾ إن كانت بصرية، أو ساد مسد مفعولي ﴿يرى﴾ إن كانت قلبية، تقديره: أوَلا يرون افتتانهم مرة أو مرتين في كل عام، وجملة ﴿يَرَوْنَ﴾ معطوفة على الجملة المحذوفة، والجملة المحذوفة مستأنفة ﴿ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ﴾ فعل وفاعل، معطوف على ﴿يُفْتَنُونَ﴾ ﴿وَلَا﴾ الواو: عاطفة ﴿لَا﴾ نافية ﴿هُمْ﴾: مبتدأ.
وجملة ﴿يَذَّكَّرُونَ﴾ خبره والجملة الاسمية معطوفة على جملة لا يتوبون.
﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ﴾.
﴿وَإِذَا﴾ الواو: استئنافية. ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان ﴿مَا﴾: زائدة ﴿أُنْزِلَتْ سُورَةٌ﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل الجر بإضافة إذا إليها، على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي ﴿نَظَرَ بَعْضُهُمْ﴾: فعل وفاعل ﴿إِلَى بَعْضٍ﴾: متعلق به، والجملة جواب ﴿إِذَا﴾ وجملة ﴿إِذَا﴾ مستأنفة ﴿هَلْ﴾: حرف للاستفهام الاستخباري ﴿يَرَاكُمْ﴾: فعل ومفعول به ﴿مِنْ أَحَدٍ﴾: فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب، مقول لقول محذوف، حال من فاعل نظر، تقديره: نظر بعضهم إلى بعض حالة كونهم قائلين: هل يراكم من أحد ﴿ثُمَّ انْصَرَفُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على نظر ﴿صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة، مسوقة للدعاء عليهم أو للإخبار عن حالهم، قولان، كما ذكره أبو السعود ﴿بِأَنَّهُمْ﴾ الباء: حرف جر وسبب ﴿أَنَّهُمْ﴾: ناصب واسمه ﴿قَوْمٌ﴾: خبره. وجملة ﴿لَا يَفْقَهُونَ﴾ صفة لقوم، وجملة ﴿أَنّ﴾ في تأويل مصدر
119
مجرور بالباء المتعلقة بـ ﴿صَرَفَ﴾ تقديره: صرف الله قلوبهم بسبب كونهم قومًا لا يفقهون.
﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾.
﴿لَقَدْ﴾: اللام: موطئة للقسم، ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق. ﴿جَاءَكُمْ رَسُولٌ﴾: فعل، ومفعول، وفاعل، والجملة جواب القسم، لا محل لها من الإعراب ﴿مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ صفة أولى للرسول ﴿عَزِيزٌ﴾: صفة ثانية له، ولكنها سببية ﴿عَلَيْهِ﴾: متعلق به ﴿مَا﴾؛ مصدرية ﴿عَنِتُّمْ﴾: فعل وفاعل، صلة ﴿مَا﴾ المصدرية ﴿مَا﴾ مع صلتها في تأويل مصدر، مرفوع على كونه فاعلًا لعزيز، تقديره: عزيز عليه عنتكم ومشقتكم. ﴿حَرِيصٌ﴾ صفة ثالثة له ﴿عَلَيْكُمْ﴾: متعلق به ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ﴾: تنازع فيه كل من ﴿رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ ﴿رَءُوفٌ﴾ صفة رابعة له ﴿رَحِيمٌ﴾ صفة خامسة له.
﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾.
﴿فَإِنْ﴾: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما قلته لك، وأردت ما إذا تولوا عنك فأقول لك. ﴿إن تولوا﴾ ﴿إِنْ﴾: حرف شرط ﴿تَوَلَّوْا﴾: فعل وفاعل، في محل الجزم بإن الشرطية، على كونه فعل شرط لها ﴿فَقُلْ﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب إن الشرطية ﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة في محل الجزم بإن الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية في محل النصب، مقول لجواب، إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، ﴿حَسْبِيَ اللَّهُ﴾ إلى آخر الآية، مقول محكي لـ ﴿قل﴾ وإن شئت قلت: ﴿حَسْبِيَ﴾ خبر مقدم، ومضاف إليه. ﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب مقول القول ﴿لَا إِلَهَ﴾ ﴿لَا﴾: نافية ﴿إِلَهَ﴾: في محل النصب اسمها، وخبرها محذوف، تقديره: لا إله موجود ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ ﴿هُوَ﴾ ضمير للمفرد المنزه عن الذكورة
120
والأنوثة، في محل الرفع بدل من الضمير المستكن في خبر ﴿لَا﴾ المحذوف، وجملة ﴿لَا﴾ في محل النصب مقول القول ﴿عَلَيْهِ﴾ متعلق بما بعده ﴿تَوَكَّلْتُ﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول القول ﴿وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ﴾: مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة في محل النصب مقول القول ﴿الْعَظِيمِ﴾: بالجر صفة للعرش، وبالرفع صفة للرب، والله أعلم.
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ﴾ يقال (١): رغب في الشيء إذا أحبه، وآثره ورغب عنه إذا كرهه، وقد جمع بينهما في الآية ﴿ظَمَأٌ﴾ الظمأ: العطش الشديد، وهو مصدر ظمىء يظمأ، من باب فرح فهو ظمآن، وهي ظمأى ويمد ويقال: ظمآء ﴿وَلَا نَصَبٌ﴾ والنصب: الإعياء والتعب، ﴿وَلَا مَخْمَصَةٌ﴾ المخمصة الجوع الشديد. ﴿ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار﴾ والموطىء (٢): اسم مكان، ويجوز أن يكون مصدرًا، يغيظ: بفتح الياء باتفاق السبعة وإن كان يجوز لغة ضمها، إذ يقال: غاظه وأغاظه بمعنى واحد. ذكره "الجمل" والغيظ الغضب ﴿وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا﴾ في "المختار" (٣)، و"المصباح"، نال خيرًا، ينال نيلًا إذا أصابه، وأصله، نيل، ينيل من باب فهم، والأمر منه، نل وإذا أخبرت عن نفسك كسرت النون، فتقول: نلت اهـ. هذا لفظ الأول، ولفظ الثاني، نال من عدوه، ينال: من باب تعب نيلًا، بلغ منه مقصوده، ومنه قيل نال من امرأته ما أراد اهـ.
﴿وَادِيًا﴾ الوادي في الأصل: المنفرج بين الجبال، أو الآكام؛ أي؛ المنفتح بينها الذي تجتمع وتمر فيه السيول، فهو اسم فاعل من ودي إذا سال، اهـ أبو السعود. والمراد به هنا، مطلق الأرض. وفي "المصباح" وودي الشيء: إذا سال، ومنه اشتقاق الوادي، وهو كل منفرج بين جبال أو آكام يكون منفذًا للسيل، والجمع أودية، ووادي القرى، موضع قريب من المدينة على طريق الحاج، من جهة الشام
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
(٣) الفتوحات.
121
اهـ. وقال أبو حيان: الوادي (١): ما انخفض من الأصل مستطيلًا، كمجاري السيول ونحوها، وجمعته العرب على أودية، وليس بقياسه، قال تعالى:
﴿فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾ وقياسه أوادي على زنة فواعل، لكنهم استثقلوه لجمع الواوين. وقال النحاس: ولا أعرف فاعلًا وأفعله سواه، وذكر غيره: ناد، وأندية. قال الشاعر:
وَفيْهِمْ مَقَامَاتٌ حِسَانٌ وُجُوْهُهُمْ وَأنْدِيَةٌ يَتَشَابَهَا الْقَوْلُ وَالْفِعْلُ
والنادي: المجلس، وحكى الفراء في جمعه: أوداء، كصاحب وأصحاب.
قال جرير:
عَرَفْتُ بِبُرْقَةِ الأوْدَاءِ رَسْمَا مُجِيْلًا طَالَ عَهْدُكَ مِنْ رُسُوْمِ
﴿فَلَوْلَا نَفَرَ﴾ نفر: بمعنى خرج للقتال. ﴿ولولا﴾ (٢): كلمة تفيد التحضيض، والحث على ما يدخل عليها إذا كان مستقبلًا، واللوم على تركه إذا كان ماضيًا فإن كان مما يمكن تلاقيه.. فربما أفاد الأمر به كما هنا؛ لأن المعنى على الطلب، كأنه قيل: لتخرج طائفة وتبقى أخرى.
﴿مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ﴾ والفرقة: الجماعة الكثيرة، والطائفة: الجماعة القليلة ﴿لِيَتَفَقَّهُوا﴾ يقال: تفقه إذا تكلف الفقاهه والفهم، وتجشم مشاق تحصيلها. ﴿وَلِيُنْذِرُوا﴾ يقال: أنذره إذا خوفه. ﴿لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ يقال: حذره، من باب فهم إذا تحرز منه.
وقد (٣) جعل الله سبحانه وتعالى الغرض من هذا، هو التفقه في الدين، وإنذار من لم يتفقه، فجمع بين المقصدين الصالحين، والمطلبين الصحيحين، وهما تعلم العلم وتعليمه، فمن كان غرضه بطلب العلم غير هذين فهو.. طالب لغرض دنيوي، لا لغرض ديني فهو كما قلت:
وَطَالِبُ الدُّنْيَا بِعِلِـ ـمِ الدِّيْنِ أيُّ بَائِسِ!
كَمَنْ غَدَا لِنَعْلِهِ يَمْسَحُ بِالْقَلاَنِسِ
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني.
122
﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ﴾ في "المصباح" الولى: مثل فلس القرب، وفي الفعل لغتان: أكثرهما، وليه يليه، بالكسر فيهما، والثانية من باب وعد، وهي قليلة الاستعمال، وجلست مما يليه؛ أي: يقاربه، انتهى. وكأنَّ (١) الآي جاءت على اللغة الثانية، وأصله يليون بوزن يعدون، فنقلت ضمة الياء إلى اللام بعد سلب حركتها، ثم حذفت الياء لالتقائها ساكنة مع الواو.
﴿وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً﴾ والغلظة: تجمع الجرأة والصبر على القتال وشدة العداوة.
﴿رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ﴾ والرجس: القذر والعذاب وزيادته عبارة عن تعمقهم في الكفر وخبطهم في الضلال، وإذا كفروا بسورة فقد زاد كفرهم واستحكم، وتزايد عقابهم ﴿مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ بضم الفاء؛ أي: من جنسكم. وقرىء بفتح الفاء؛ أي: من أفضلكم ﴿عَزِيزٌ﴾؛ أي: شاق. ﴿عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ﴾ والعنت: المشقة ولقاء المكروه الشديد. ﴿حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ﴾ والحرص: شدة الرغبة في الحصول على مفقود، وشدة عناية بموجود، والرأفة: الشفقة والرحمة والإِحسان فالرؤوف أخص من الرحيم، وإنما قدم عليه رعاية للفواصل.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة، والفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا﴾ وفي قوله: ﴿وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا﴾.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا﴾؛ لأن القطع حقيقة في فصل الأجزاء المتصلة، كالحبل.
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: ﴿غِلْظَةً﴾؛ لأن الغلظة حقيقة في الأجرام، فاستعيرت هنا للشدة والصبر والتجلد كما في "السمين"، وفيه
(١) الفتوحات.
123
المجاز المرسل، لما فيه من استعمال المسبب في السبب، فإن وجدان الكفار لغلظة المسلمين، سببه إغلاظ المسلمين عليهم ذكره: في "الفتوحات".
ومنها: المقابلة في قوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾ وقوله: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾.
ومنها: الجناس الناقص في قوله: ﴿ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ﴾؛ أي عمى وضلالة لأن الرجس حقيقة في الشيء المستقذر، فاستعاره لعمى قلوبهم وضلالتها. قال في "تلخيص البيان" السورة لا تزيد الأرجاس رجسًا ولا القلوب مرضًا، بل هي شفاءً للصدور وجلاء للقلوب، ولكن المنافقين لما ازدادوا عند نزولها عمى، حسن أن يضاف ذلك إلى السورة على طريق الاستعارة، اهـ.
ومنها: الحصر في قوله: ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ﴾.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(١) إلى هنا تم ما يسره الله سبحانه لنا من تفسير سورة التوبة في تاريخ: ٢٠/ ١١/ ١٤١٠ هـ. في اليوم العشرين، من شهر ذي القعدة، من شهور سنة ألف وأربع مئة وعشر، من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة، وأزكى التحية.
اللهم كما وفقتنا بابتداء تفسير كتابك الكريم، فأكرمنا بانتهائه واجعل لنا البركة في أعمارنا إلى إكماله، ووفقنا لما هو المعنى عندك يا إلهنا، واجعله في ميزان حسناتنا وذخيرةً عندك يا ربنا، وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمَّد، خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين آمين. والحمد لله رب العالمين آمين.
124
سورة يونس
مكية كلها إلا ثلاث آيات: ٤٠، ٩٤، ٩٦ نزلت بعد سورة الإسراء، وقبل سورة هود. وعدد آياتها تسع ومئة آية. وكلماتها ألف وثمان مئة واثنتان وثلاثون كلمة. وحروفها سبعة آلاف وخمس مئة وسبعة وستون حرفًا. وسميت بذلك لذكر اسمه فيها وقصته. وقد جرت العادة بتسمية السورة ببعض أجزائها.
ووجه مناسبتها لما قبلها (١): أن السابقة ختمت بذكر رسالة النبي، - ﷺ -، واختتمت بها هذه، وأن جل تلك في أحوال المنافقين، وما كانوا يقولونه وما كانوا يفعلونه حين نزول القرآن، وهذه في أحوال الكفار وما كانوا يقولونه في القرآن.
وليس التناسب بين السور سببًا في هذا الترتيب الذي بينهما، فكثيرًا ما نرى صورتين بينهما أقوى تناسب في موضوع الآيات، وقد فصل بينهما كما فعل بسورتي الهمزة واللهب، وموضوعهما واحد، وقد يجمع بينهما تارة أخرى، كما فعل بين سور الطواسين وسور آل حاميم وسورتي المرسلات والنبأ. ومن الحكمة في الفصل بين القوية التناسب في المعاني، أنه أدنى إلى تنشيط تالي القرآن وأبعد به عن الملل وأدعى له إلى التدبر، ولهذه الحكمة عينها تفرق مقاصد القرآن في السورة الواحدة، كالعقائد والأحكام العملية، والحكم الأدبية والترغيب والترهيب والأمثال، والقصص والعمدة في كل ذلك التوقيف والسماع.
وقال أبو حيان (٢): مناسبة هذه السورة لما قبلها: أنه تعالى لما أنزل ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ﴾ وذكر تكذيب المنافقين ثم قال: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ وهو محمَّد - ﷺ -.. أتبع ذلك بذكر الكتاب الذي أنزل، والنبي الذي
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
125
أرسل، وأن ديدن الضالين واحد، متابعيهم ومشركيهم في التكذيب بالكتب الإلهية، وبمن جاء بها، ولما كان ذكر القرآن مقدمًا على ذكر الرسول في آخر السورة جاء في أول هذه السورة كذلك فقدم ذكر الكتاب على ذكر الرسول، انتهى.
وموضوع (١) هذه السورة يدور على إثبات أصول التوحيد، وهدم الشرك وإثبات الرسالة والبعث والجزاء وما يتعلق بذلك من مقاصد الدين وأصوله، وهي موضوعات السور المكية.
الناسخ والمنسوخ من هذه السورة: قال محمَّد بن حزم: جملة المنسوخ في هذه السورة أربع آيات:
أولاهن: قوله تعالى: ﴿إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ (١٥)، نسخت بقوله تعالى: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ الآية (٢) من سورة الفتح.
الثانية: قوله تعالى: ﴿قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾ الآية (١٠٢) نسخت بآية السيف.
الثالثة: قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ﴾ الآية (٤١) نسخت بآية السيف.
الرابعة: قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ﴾ الآية (١٠٨) نسخت بآية السيف انتهى.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(١) المراغي.
126

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (١) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (٢) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (٣) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (٤) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (٦) إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (٧) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٠) وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٢)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ.....﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما افتتح السورة بذكر آيات الكتاب، وأنكر على الناس عجبهم أنه يوحى إلى رجل منهم يبشرهم على الأعمال الصالحة بالثواب، وينذرهم على الكفر والمعاصي بالعقاب.. أردف ذلك بذكر أمرين:
127
١ - إثبات أن لهذا العالم إلهًا قادرًا نافذ الحكم بالأمر والنهي، يفعل ما يشاء، وهو العليم الخبير.
٢ - إثبات البعث بعد الموت والجزاء على الأعمال، من ثواب وعقاب وهما اللذان أخبر بهما الأنبياء.
وقال أبو حيان مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن من كان قادرًا على إيجاد هذا الخلق العلوي والسفلي العظيمين، وهو ربكم الناظر في مصالحكم، فلا يتعجب أن يبعث إلى خلقه من يحذر من مخالفته، ويبشر على طاعته، إذ ليس خلقهم عبثًا، بل على ما اقتضته حكمته وسبقت به إرادته، إذ القادر العظيم قادر على ما دونه بطريق الأولى، اهـ.
قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر الآيات الدالة على وجوده، وهو خلق السموات والأرض على ذلك النظام المحكم... ذكر هنا أنواعًا من آياته الكونية، الدالة على ذلك، وعلى أنه خلقها على غاية من الإحكام والإتقان، وهو تفصيل لما تقدم، وبيان له على وجه بديع وأسلوب عجيب. وقال أبو حيان مناسبتها لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر الدلائل على ربوبيته من إيجاد هذا العالم العلوي والسفلي، ذكر ما أودع في العالم العلوي، من هذين الجوهرين النيرين المشرقين، فجعل الشمس ضياءً، انتهى.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر الأدلة على وجوده تعالى، من خلق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار، وأثبت بذلك البعث والجزاء على الأعمال يوم العرض والحساب.. أردف ذلك بذكر حال من كفر به، وأعرض عن البينات الدالة عليه، وحال المؤمنين الذين عملوا الصالحات موقنين بلقاء ربهم، ثم ذكر جزاء كل من الفريقين.
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْر...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر تعجب القوم، من
128
Icon