تفسير سورة الرعد

تفسير السمعاني
تفسير سورة سورة الرعد من كتاب تفسير السمعاني المعروف بـتفسير السمعاني .
لمؤلفه أبو المظفر السمعاني . المتوفي سنة 489 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الرعد
تفسير سورة الرعد، وهي مكية إلا آيتين : قوله تعالى :( ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة ) ( ١ ) وقوله تعالى :( ويقول الذين كفروا لست مرسلا ) ( ٢ ) الآية، فإنهما مدنيتان.
١ - الرعد: ٣١..
٢ - الرعد: ٤٣..

قَوْله تَعَالَى: ﴿المر﴾ قَالُوا: مَعْنَاهُ أَنا الله أعلم وَأرى، وَقيل: إِن الْألف من الله، وَاللَّام من جِبْرِيل، وَالْمِيم من مُحَمَّد، وَالرَّاء من إرْسَال الله إِيَّاه - يَعْنِي مُحَمَّدًا - وَقد بَينا من قبل غير هَذَا.
وَقَوله: ﴿تِلْكَ آيَات الْكتاب﴾ قد بَينا فِي سُورَة يُوسُف. وَقَوله: ﴿وَالَّذِي أنزل إِلَيْك من رَبك الْحق﴾ الْإِنْزَال هُوَ النَّقْل من الْعُلُوّ إِلَى الْأَسْفَل، وَمعنى الْآيَة أَن مَا أهبط الله بِهِ جِبْرِيل عَلَيْك هُوَ الْحق، وَالْحق ضد الْبَاطِل، وَقيل: وضع الشَّيْء فِي مَوْضِعه على مَا توجبه الْحِكْمَة. وَقَوله: ﴿وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يُؤمنُونَ﴾ يَعْنِي من الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكين.
قَوْله تَعَالَى: ﴿الله الَّذِي رفع السَّمَوَات بِغَيْر عمد﴾ الْعمد: جسم مستطيل يمْنَع الْمُرْتَفع من الميلان، وَفِي معنى قَوْله: ﴿بِغَيْر عمد﴾ قَولَانِ: أَحدهمَا، وَهُوَ الْأَصَح: أَن مَعْنَاهُ: رفع السَّمَوَات بِغَيْر عمد ﴿ترونها﴾ كَذَلِك.
وَقد قَالَ أهل الْمعَانِي: لَو كَانَ لِلسَّمَوَاتِ عمد لرأيناها؛ لِأَن عمد الْجِسْم الغليظ يكون بالجسم الغليظ، فَلَا بُد أَن ترى، وَهَذَا قَول مُجَاهِد وَقَتَادَة وَأكْثر الْمُفَسّرين.
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: معنى الْآيَة رفع السَّمَوَات بِغَيْر عمد ترونها.
75
﴿الشَّمْس وَالْقَمَر كل يجْرِي لأجل مُسَمّى يدبر الْأَمر يفصل الْآيَات لَعَلَّكُمْ بلقاء ربكُم توقنون (٢) وَهُوَ الَّذِي مد الأَرْض وَجعل فِيهَا رواسي وأنهارا وَمن كل الثمرات جعل فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يغشي اللَّيْل النَّهَار إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يتفكرون (٣) وَفِي﴾
وَقَوله: ﴿ترونها﴾ رَاجع إِلَى الْعمد، كَأَنَّهُ قَالَ: لَهَا عمد لَا ترونها، وَزعم أَن لَهَا عمدا على جبل قَاف، وَأَن السَّمَاء عَلَيْهَا مثل الْقبَّة، وجبل قَاف مُحِيط بالدنيا، وَهُوَ من زبرجدة خضراء، وَالصَّحِيح مَا بَينا.
وَقَوله: ﴿ثمَّ اسْتَوَى على الْعَرْش﴾ قد بَينا الْمَعْنى. وَقَوله: ﴿وسخر الشَّمْس وَالْقَمَر﴾ مَعْنَاهُ: ذلل الشَّمْس وَالْقَمَر فهما مذللان مقهوران يجريان على مَا يُرِيد الله. وَقَوله: ﴿كل يجْرِي لأجل مُسَمّى﴾ أَي: لمُدَّة مَضْرُوبَة. وَقَوله: ﴿يدبر الْأَمر﴾ التَّدْبِير من الله تَعَالَى فعل الْأَشْيَاء على مَا يُوجب الْحِكْمَة. وَقَوله: ﴿يفصل الْآيَات﴾ مَعْنَاهُ يبين الدلالات. وَقَوله: ﴿لَعَلَّكُمْ بلقاء ربكُم توقنون﴾ تؤمنون.
76
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الَّذِي مد الأَرْض﴾ الْآيَة قد كَانَت الأَرْض مَدَرَة مُدَوَّرَة، فبسطها الله تَعَالَى ومدها. وَقَوله: ﴿وَجعل فِيهَا رواسي﴾ أَي: جبالا ثوابت.
وَقَوله: ﴿وأنهارا﴾ الْأَنْهَار: مجاري المَاء الواسعة. وَقَوله: ﴿وَمن كل الثمرات جعل فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ أَي: صنفين اثْنَيْنِ أَحْمَر وأصفر وحلو وحامض، وَقيل: إِن قَوْله ﴿اثْنَيْنِ﴾ تَأْكِيد لقَوْله: ﴿زَوْجَيْنِ﴾.
وَقَوله: ﴿يغشي اللَّيْل النَّهَار﴾ مَعْنَاهُ: يلبس النَّهَار بظلمة اللَّيْل، ويلبس ظلمَة اللَّيْل بضوء النَّهَار. وَقَوله: ﴿إِن فِي ذَلِك لآيَات﴾ لدلالات ﴿لقوم يتفكرون﴾ التفكر تصرف الْقلب فِي طلب مَعَاني الْأَشْيَاء.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَفِي الأَرْض قطع متجاورات﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن فِيهِ حذفا؛ فَكَأَنَّهُ قَالَ: " وَفِي الأَرْض قطع متجاورات وَغير متجاورات، وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿وسرابيل تقيكم الْحر﴾ يَعْنِي: وسرابيل تقيكم الْحر وَالْبرد.
76
﴿الأَرْض قطع متجاورات وجنات من أعناب وَزرع ونخيل صنْوَان وَغير صنْوَان يسقى بِمَاء وَاحِد ونفضل بَعْضهَا على بعض فِي الْأكل إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يعْقلُونَ (٤) ﴾
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه لَيْسَ فِي الْآيَة حذف، وَهُوَ صَحِيح الْمَعْنى، وَفِي المتجاورات قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن مَعْنَاهُ أَنَّهَا متجاورة فِي الظَّاهِر مُخْتَلفَة فِي الْمَعْنى، هَذِه سبخَة وَهَذِه عذبة، وَهَذِه قَليلَة الرّيع، وَهَذِه كَثِيرَة الرّيع، وَهَذِه مزرعة، وَهَذِه مغرسة، وَهَذِه لَا مزرعة وَلَا مغرسة.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن مَعْنَاهُ: هَذِه عامرة، وَهَذِه غامرة، وَهَذِه صحاري وبراري، وَهَذِه جبال وأودية، فعلى هَذَا إِذا قَدرنَا فِي الْآيَة متجاورات وَغير متجاورات، فالمتجاورات هِيَ الأَرْض العامرة الْمُتَّصِل بَعْضهَا بِبَعْض، وَغير المتجاورات هِيَ الأَرْض الخربة الَّتِي فِيهَا الأودية والدكادك.
وَقَوله: ﴿وجنات من أعناب﴾ يَعْنِي: بساتين من أعناب. وَقَوله: ﴿وَزرع ونخيل﴾ مَعْلُوم الْمَعْنى. وَقَوله: ﴿صنْوَان وَغير صنْوَان﴾ قرىء: " صنْوَان " بِالضَّمِّ: وَالْمَعْرُوف " صنْوَان " بِالْكَسْرِ، وَفِي الْآثَار المسندة عَن الْبَراء بن عَازِب - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: الصنوان هُوَ النّخل الْمُجْتَمع، وَغير الصنوان هُوَ المتفرق، وَالْمَعْرُوف فِي اللُّغَة أَن الصنوان هِيَ النخلات أَصْلهَا وَاحِد، وَغير صنْوَان هِيَ النَّخْلَة الْوَاحِدَة بأصلها.
وَقَوله: ﴿يسقى بِمَاء وَاحِد﴾ المَاء جسم رَقِيق مَائِع يشرب، بِهِ حَيَاة كل نَام، قَالَ الله تَعَالَى: ﴿وَجَعَلنَا من المَاء كل شَيْء حَيّ﴾ وَفِي الْآيَة رد على أَصْحَاب الطبيعة، فَإِن المَاء وَاحِد، والهواء وَاحِد، وَالتُّرَاب وَاحِد، والحرارة وَاحِدَة، وَالثِّمَار مُخْتَلفَة فِي اللَّوْن والطعم، وَقلة الرّيع وَكَثْرَة الرّيع، والطبيعة وَاحِدَة يَسْتَحِيل أَن توجب شَيْئَيْنِ مُخْتَلفين؛ فَدلَّ هَذَا أَن الْجَمِيع من الله تَعَالَى.
فِي جَامع أبي عِيسَى التِّرْمِذِيّ بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي فِي قَوْله: {ونفضل
77
﴿وَإِن تعجب فَعجب قَوْلهم أئذا كُنَّا تُرَابا أئنا لفي خلق جَدِيد أُولَئِكَ الَّذين كفرُوا برَبهمْ وَأُولَئِكَ الأغلال فِي أَعْنَاقهم وَأُولَئِكَ أَصْحَاب النَّار هم فِيهَا خَالدُونَ (٥) ﴾ بَعْضهَا على بعض فِي الْأكل) قَالَ: " هَذَا حُلْو وَهَذَا حامض، وَهَذَا دقل وَهَذَا فَارسي ".
وَقَوله: ﴿إِن فِي ذَلِك لآيَات﴾ يَعْنِي: الدلالات ﴿لقوم يعْقلُونَ﴾ يفهمون. وأنشدوا فِي الصنوان:
(الْعلم والحلم خلتا كرم للمرء زين إِذا هما اجْتمعَا)
(صنْوَان لَا يستتم حسنهما إِلَّا بِجمع ذَا وَذَاكَ مَعًا)
وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " عَم الرجل صنو أَبِيه ". مَعْنَاهُ: أَنه وَأَبوهُ من أصل وَاحِد.
78
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِن تعجب فَعجب قَوْلهم﴾ الْعجب: تغير النَّفس بِرُؤْيَة المستبعد فِي الْعَادَات، وَالْخطاب للرسول وَمَعْنَاهُ: أَنَّك تعجب؛ فَعجب من إنكارهم النشأة الْآخِرَة مَعَ إقرارهم ابْتِدَاء الْخلق من الله، وَقد تقرر فِي الْقُلُوب أَن الْإِعَادَة أَهْون من الِابْتِدَاء؛ فَهَذَا مَوضِع التَّعَجُّب. وَفِي الْأَمْثَال: لَا خير فِيمَن لَا يتعجب من الْعجب، وأرذل مِنْهُ من يتعجب من غير عجب.
وَقَوله: ﴿أئذا كُنَّا تُرَابا أئنا لفي خلق جَدِيد﴾ هَذَا هُوَ الْمَعْنى فِي إنكارهم الْبَعْث.
وَقَوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذين كفرُوا برَبهمْ﴾ جَحَدُوا برَبهمْ.
وَقَوله: ﴿وَأُولَئِكَ الأغلال فِي أَعْنَاقهم﴾ الغل طوق تجمع بِهِ الْيَد إِلَى الْعُنُق وَهَذِه الأغلال من نَار. وَقَوله: ﴿وَأُولَئِكَ أَصْحَاب النَّار هم فِيهَا خَالدُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ويستعجلونك بِالسَّيِّئَةِ قبل الْحَسَنَة﴾ الاستعجال طلب تَعْجِيل الْأَمر قبل مَجِيء (وقته)، وَقد كَانَ الله تَعَالَى أخر عُقُوبَة الاصطلام عَن الْمُشْركين
78
﴿ويستعجلونك بِالسَّيِّئَةِ قبل الْحَسَنَة وَقد خلت من قبلهم المثلات وَإِن رَبك لذُو مغْفرَة للنَّاس على ظلمهم وَإِن رَبك لشديد الْعقَاب (٦) وَيَقُول الَّذين كفرُوا لَوْلَا أنزل عَلَيْهِ آيَة من ربه إِنَّمَا أَنْت مُنْذر وَلكُل قوم هاد (٧) الله يعلم مَا تحمل كل أُنْثَى وَمَا تغيض﴾ كَرَامَة للنَّبِي. والسيئة هَاهُنَا هِيَ الْعقُوبَة، والحسنة: الْعَافِيَة، وَمَعْنَاهُ: أَنهم يطْلبُونَ الْعقُوبَة بَدَلا من الْعَافِيَة، وَقد دلّ على هَذَا قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحق من عنْدك فَأمْطر علينا حِجَارَة من السَّمَاء﴾ وَقَوله تَعَالَى: ﴿سَأَلَ سَائل بِعَذَاب وَاقع﴾.
وَقَوله: ﴿وَقد خلت من قبلهم المثلات﴾ رُوِيَ عَن مُجَاهِد أَنه قَالَ: المثلات الْأَمْثَال، وَالْأَكْثَرُونَ أَن المثلات الْعُقُوبَات، وَقَرَأَ الْأَعْمَش: " المثلات " بِفَتْح الْمِيم وَكسر التَّاء، وَحكي عَنهُ أَنه قَرَأَ: " المثلات " بِضَم الْمِيم وتسكين الثَّاء، والمعاني مُتَقَارِبَة.
وَقَوله: ﴿وَإِن رَبك لذُو مغْفرَة للنَّاس على ظلمهم﴾ مَعْنَاهُ: لذُو تجَاوز عَن النَّاس على ظلمهم ﴿وَإِن رَبك لشديد الْعقَاب﴾ وَفِي بعض المسانيد عَن سعيد بن الْمسيب " أَن النَّبِي قَالَ لما نزلت هَذِه الْآيَة: لَوْلَا فضل الله وتجاوزه مَا هنىء أحد الْعَيْش، وَلَوْلَا وعيده وعقوبته لَا تكل كل أحد ".
79
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَيَقُول الَّذين كفرُوا لَوْلَا أنزل عَلَيْهِ آيَة من ربه﴾ مَعْنَاهُ: لَوْلَا أنزل عَلَيْهِ آيَة مِمَّا نقترحها، وَإِلَّا فالآيات قد كَانَت نازلة عَلَيْهِ.
وَقَوله: ﴿إِنَّمَا أَنْت مُنْذر﴾ مخوف أَو مبلغ للوحي بالإنذار.
وَقَوله: ﴿وَلكُل قوم هاد﴾ فِيهِ أَقْوَال، الْأَكْثَرُونَ أَن مَعْنَاهُ: وَلكُل قوم نَبِي يَدعُوهُم إِلَى الله، وَالْقَوْل الثَّانِي: وَلكُل قوم هاد، يَعْنِي: مُحَمَّدًا وَقيل: الْهَادِي هُوَ الله.
قَوْله تَعَالَى: ﴿الله يعلم مَا تحمل كل أُنْثَى﴾ مَعْنَاهُ: الله يعلم مَا تحمل كل أُنْثَى
79
﴿الْأَرْحَام وَمَا تزداد وكل شَيْء عِنْده بِمِقْدَار (٨) عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة الْكَبِير المتعال (٩) سَوَاء مِنْكُم من أسر القَوْل وَمن جهر بِهِ وَمن هُوَ مستخف بِاللَّيْلِ وسارب بِالنَّهَارِ﴾ من ذكر أَو أُنْثَى، أَو سوى الْخلق أَو غير سويه، أَو وَاحِد أَو اثْنَيْنِ أَو أَكثر.
قَوْله: ﴿وَمَا تغيض الْأَرْحَام وَمَا تزداد﴾ الغيض هُوَ النُّقْصَان، هَكَذَا قَالَ مُجَاهِد وَغَيره، وَفِي بعض الْأَخْبَار أَن النَّبِي قَالَ: " إِذا كَانَ الْمَطَر قيظا، وَالْولد غيضا، وغاض الْكِرَام غيضا، وفاض اللئام فيضا " الْخَبَر.
وَفِي غيض الْأَرْحَام وزيادتها ثَلَاثَة أَقْوَال: الأول: أَنه النُّقْصَان عَن سَبْعَة أشهر، وَالزِّيَادَة على تِسْعَة أشهر، وَالثَّانِي أَنه: النُّقْصَان بِإِسْقَاط السقط، وَالزِّيَادَة بِتمَام الْخلق، وَالثَّالِث: أَنه النُّقْصَان بِالْحيضِ على الْحمل، وَالزِّيَادَة بِعَدَمِ الْحيض على الْحمل؛ فَإِن الْوَلَد ينتقص إِذا أهراقت الْمَرْأَة الدَّم على الْحمل وتتم إِذا لم تهرق. وَعَن مَكْحُول أَنه قَالَ: دم الْحيض غذَاء الْوَلَد فِي الرَّحِم.
وَقَوله: ﴿وكل شَيْء عِنْده بِمِقْدَار﴾ أَي: بِتَقْدِير.
80
وَقَوله تَعَالَى: ﴿عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة الْكَبِير المتعال﴾ يَعْنِي: المتعال عَمَّا يَقُوله الْمُشْركُونَ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿سَوَاء مِنْكُم من أسر القَوْل وَمن جهر بِهِ﴾ الْآيَة مَعْنَاهُ: يَسْتَوِي فِي علم الله المسر بالْقَوْل والجاهر بِهِ.
وَقَوله: ﴿وَمن هُوَ مستخف بِاللَّيْلِ﴾ أَي: مستتر بظلمة اللَّيْل وَقَوله: ﴿وسارب بِالنَّهَارِ﴾ أَي: ظَاهر ذَاهِب بِالنَّهَارِ، والسرب: الطَّرِيق، تَقول الْعَرَب: خل لَهُ سربه أَي:
80
((١٠) لَهُ مُعَقِّبَات من بَين يَدَيْهِ وَمن خَلفه يَحْفَظُونَهُ من أَمر الله إِن الله لَا يُغير مَا بِقوم) طَرِيقه، وَزعم بعض أهل الْمعَانِي أَن قَوْله: ﴿وَمن هُوَ مستخف بِاللَّيْلِ﴾ أَي: ظَاهر بِاللَّيْلِ، يُقَال: خفيت إِذا ظَهرت، وأخفيت إِذا كتمت، قَالَ الشَّاعِر:
(خفاهن من أنفاقهن كَأَنَّمَا خفاهن ودق من سَحَاب مركب)
وَقَوله: ﴿وسارب بِالنَّهَارِ﴾ أَي مستكن بِالنَّهَارِ، يُقَال: أسرب الْوَحْش إِذا استكن، وَالْقَوْل الأول هُوَ الْأَصَح.
81
قَوْله تَعَالَى: ﴿لَهُ مُعَقِّبَات من بَين يَدَيْهِ وَمن خَلفه﴾ الْآيَة، فِي الْآيَة أَقْوَال، أظهرها: أَن المعقبات: الْمَلَائِكَة، والمعقبات المتداينات، يَعْنِي: يذهب بَعْضهَا وَيَأْتِي الْبَعْض فِي عَقبهَا، وَقد صَحَّ بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي أَنه قَالَ: إِن لله مَلَائِكَة يتعاقبون بَيْنكُم، ويجتمعون فِي صَلَاة الْفجْر وَصَلَاة الْعَصْر فيعرج الَّذين باتوا فِيكُم؛ فَيَقُول الله لَهُم: كَيفَ تركْتُم عبَادي؟ فَيَقُولُونَ: أتيناهم وهم يصلونَ، وتركناهم وهم يصلونَ.
القَوْل الثَّانِي هُوَ مَا رُوِيَ عَن عِكْرِمَة قَالَ: الْآيَة فِي الْأُمَرَاء وحرسهم.
وَالْقَوْل الثَّالِث: مَا رُوِيَ عَن ابْن جريج أَنه قَالَ: الْآيَة فِي الَّذِي يقْعد عَن الْيَمين وَالشمَال يكْتب، وَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿إِذْ يتلَقَّى المتلقيان عَن الْيَمين وَعَن الشمَال قعيد﴾.
وَقَوله: ﴿يَحْفَظُونَهُ من أَمر الله﴾ الْأَكْثَرُونَ على أَن قَوْله: ﴿من أَمر الله﴾ وَمَعْنَاهُ: أَنهم يَحْفَظُونَهُ بِإِذن الله، فَإِذا جَاءَ الْقدر خلوا بَينه وَبَينه، وَفِي بعض الْآثَار: أَن الله تَعَالَى يُوكل مَلَائِكَة بالنائم يَحْفَظُونَهُ من الْحَيّ والهوام فَإِذا قَصده شَيْء، قَالُوا: وَرَاءَك وَرَاءَك إِلَّا شَيْئا قدر أَن يُصِيبهُ.
81
﴿حَتَّى يُغيرُوا مَا بِأَنْفسِهِم وَإِذا أَرَادَ الله بِقوم سوءا فَلَا مرد لَهُ وَمَا لَهُم من دونه من وَال (١١) هُوَ الَّذِي يريكم الْبَرْق خوفًا وَطَمَعًا وينشىء السَّحَاب الثقال (١٢) ويسبح الرَّعْد﴾
وَرُوِيَ عَمْرو بن أبي جُنْدُب: كُنَّا عِنْد سعيد بن قيس الْهَمدَانِي، فجَاء عَليّ يتَوَكَّأ على عنزة لَهُ، فَقُلْنَا لَهُ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، أما تخَاف أَن يغتالك أحد؟ فَقَالَ: إِن الله تَعَالَى قد وكل بِابْن آدم مَلَائِكَة يَحْفَظُونَهُ، فَإِذا جَاءَ الْقدر خلوا بَينه وَبَينه.
وَفِي قَوْله: ﴿من أَمر الله﴾ قَول آخر، وَهُوَ أَنه على الْمَعْنى التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير، وَكَأن الله تَعَالَى قَالَ: لَهُ مُعَقِّبَات من أمره يَحْفَظُونَهُ من بَين يَدَيْهِ وَمن خَلفه وَقيل: من أَمر الله: مِمَّا أَمر الله بِهِ من الْحِفْظ عَنهُ. وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه قَرَأَ: " لَهُ مُعَقِّبَات من بَين يَدَيْهِ ورقباء من خَلفه ". وقرى فِي الشاذ: " لَهُ معاقيب من بَين يَدَيْهِ وَمن خَلفه ".
وَقَوله: ﴿إِن الله لَا يُغير مَا بِقوم﴾ مَعْنَاهُ: لَا يُغير شَيْئا بِقوم من النِّعْمَة ﴿حَتَّى يُغيرُوا مَا بِأَنْفسِهِم﴾ بالمعصية.
وَقَوله: ﴿وَإِذا أَرَادَ الله بِقوم سوءا﴾ فِي الْآيَة رد على الْقَدَرِيَّة صَرِيحًا، وَمَعْنَاهُ: بلَاء وَعَذَابًا ﴿فَلَا مرد لَهُ﴾ أَي: لَا راد لَهُ. ﴿وَمَا لَهُم من دونه من وَال﴾ أَي: من ولي يمنعهُم وَيَنْصُرهُمْ، قَالَ الشَّاعِر:
(مَا فِي السَّمَاء سوى الرَّحْمَن من وَال... )
82
قَوْله تَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِي يريكم الْبَرْق خوفًا وَطَمَعًا﴾ الْبَرْق: نور مضىء شبه عَمُود من نَار من اتقاد السَّحَاب، وَالتَّفْسِير الْمَعْرُوف عَن السّلف أَن الْبَرْق مخاريق بأيدي الْمَلَائِكَة من نَار يسوقون بهَا السَّحَاب إِلَى حَيْثُ شَاءَ الله تَعَالَى.
وَقَوله ﴿خوفًا وَطَمَعًا﴾ فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا أَن الْخَوْف من الصاعقة، والطمع فِي نفع الْمَطَر.
وَالثَّانِي: أَن الْخَوْف للْمُسَافِر، فَإِن عَادَة الْمُسَافِر أَن يتَأَذَّى بالمطر، والطمع للمقيم، لِأَن الْمُقِيم يَرْجُو الخصب بالمطر.
82
﴿بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَة من خيفته وَيُرْسل الصَّوَاعِق فَيُصِيب بهَا من يَشَاء وهم يجادلون فِي﴾
وَالثَّالِث: أَن الْخَوْف من الْمَطَر فِي غير إبانة، وَفِي غير مَكَانَهُ، والطمع إِذا كَانَ فِي إبانه ومكانه من الْبلدَانِ [فَمنهمْ] إِذا مُطِرُوا قحطوا، مثل مصر وَغَيره، وَإِذا لم يمطروا أخصبوا.
وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي " أَن الله تَعَالَى يَقُول: لَو أَن عبَادي أطاعوني أسقيتهم الْمَطَر بِاللَّيْلِ، وأطلعت عَلَيْهِم الشَّمْس بِالنَّهَارِ، وَلم أسمعهم صَوت الرَّعْد ".
وَقَوله: ﴿وينشىء السَّحَاب الثقال﴾ يَعْنِي: الثقال بِالْمَاءِ، وَعَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: السَّحَاب غربال السَّمَاء. وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: إِن الله تَعَالَى خلق السَّحَاب كل سبع سِنِين مرّة.
83
وَقَوله: ﴿ويسبح الرَّعْد بِحَمْدِهِ﴾ أَكثر الْمُفَسّرين أَن الرَّعْد ملك، والمسموع من الصَّوْت تسبيحه، وَهَذَا مَرْوِيّ عَن النَّبِي حِين سَأَلَهُ الْيَهُود عَن الرَّعْد، وَذكر فِيهِ أَن الصَّوْت هُوَ زَجره للسحاب، وَقد حُكيَ هَذَا عَن ابْن عَبَّاس وَعلي وَمُجاهد وَسَعِيد بن جُبَير وَالْحسن. وَعَن قَتَادَة قَالَ: هَذَا عبد لله تَعَالَى سامع مُطِيع.
83
وَفِي الْآثَار: أَن الْإِنْسَان إِذا سمع الرَّعْد يَنْبَغِي أَن يَقُول: سُبْحَانَ من سبحت لَهُ. رُوِيَ هَذَا عَن ابْن الزبير وَغَيره، وَعَن عبد الله بن عَبَّاس قَالَ: من قَالَ إِذا سمع صَوت الرَّعْد: سُبْحَانَ من يسبح الرَّعْد بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَة من خيفته وَهُوَ على كل شَيْء قدير؛ فَإِن أَصَابَته صَاعِقَة فعلى دِيَته.
وَعَن مُحَمَّد بن عَليّ الباقر قَالَ: الصاعقة تصيب الْمُسلم وَغير الْمُسلم وَلَا تصيب الذاكر.
وَفِي الرَّعْد قَول آخر، وَهُوَ أَنه صَوت اصطكاك الأجرام العلوية. وَالصَّحِيح هُوَ الأول، وَقيل أَيْضا: إِن الرَّعْد نطق السَّحَاب، والبرق ضحكه.
وَقَوله ﴿وَالْمَلَائِكَة من خيفته﴾ يَعْنِي: وتسبح الْمَلَائِكَة من خيفته. وَعَن ابْن عَبَّاس أَن لله تَعَالَى مَلَائِكَة يَبْكُونَ من خَشيته من يَوْم خلقهمْ، وملائكة فِي الرُّكُوع، وملائكة فِي السُّجُود، وملائكة فِي التَّسْبِيح لَا يشغلهم عَن ذَلِك شَيْء.
وَقَوله: ﴿وَيُرْسل الصَّوَاعِق فَيُصِيب بهَا من يَشَاء﴾ الصاعقة: هِيَ الْعَذَاب المهلك، وَهِي تنزل من الْبَرْق فِي بعض الْأَحْوَال فتحرق مَا تصيبه، وَالْآيَة نزلت فِي شَأْن أَرْبَد بن ربيعَة حِين جَاءَ إِلَى النَّبِي فَقَالَ: مِم رَبك؟ أَمن در أَو ياقوت أَو من ذهب [أَو من فضَّة] ؟ فَنزلت صَاعِقَة من السَّمَاء فَأَحْرَقتهُ، ورثاه أَخُوهُ لبيد بن ربيعَة، فَقَالَ:
(أخْشَى على أَرْبَد الحتوف وَلَا أرهب نوء السماك والأسد)
(فجعني الْبَرْق وَالصَّوَاعِق بالفارس يَوْم الكريهة النجد)
وَيُقَال: إِنَّه جَاءَ مَعَ عَامر بن طفيل، وَقصد الفتك بِالنَّبِيِّ فجفت يَده على قَائِمَة السَّيْف، فَلَمَّا خرج من عِنْد رَسُول الله أَصَابَته صَاعِقَة فِي يَوْم صحو قائظ، فَأَما عَامر فأصابته غُدَّة، وَمَات فِي بَيت سَلُولِيَّة، وَجعل يَقُول: أغدة كَغُدَّة الْبَعِير وَمَوْت فِي بَيت سَلُولِيَّة.
وَرُوِيَ " أَن يَهُودِيّا أَتَى النَّبِي وَسَأَلَهُ: مِم رَبك؟ فَنزلت صَاعِقَة وأحرقته ".
84
﴿الله وَهُوَ شَدِيد الْمحَال (١٣) لَهُ دَعْوَة الْحق وَالَّذين يدعونَ من دونه لَا يستجيبون لَهُم بِشَيْء إِلَّا كباسط كفيه إِلَى المَاء ليبلغ فَاه وَمَا هُوَ ببالغه وَمَا دُعَاء الْكَافرين إِلَّا فِي﴾
وَقَوله: ﴿وهم يجادلون فِي الله﴾ يَعْنِي: يُخَاصِمُونَ وَيَقُولُونَ فِي الله مَا لَا يعلمُونَ وَقيل: وهم يجادلون فِي الله: يكذبُون بعظمة الله.
وَقَوله: ﴿وَهُوَ شَدِيد الْمحَال﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: شَدِيد الْحول، وَمِنْه قَوْله: لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه، وَقيل: شَدِيد الْمحَال شَدِيد الانتقام. وَعَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - شَدِيد الْأَخْذ. وَقيل: شَدِيد الإهلاك. وَقيل: شَدِيد الْمَكْر. وَقَالَ الشَّاعِر:
(فرع نبع يَهْتَز فِي غُصْن الْمجد عَزِيز الندى شَدِيد الْمحَال)
وقرىء فِي الشاذ: " شَدِيد الْمحَال " بِنصب الْمِيم.
85
قَوْله تَعَالَى: ﴿لَهُ دَعْوَة الْحق﴾ هِيَ شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، هَذَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس وَغَيره، وَقيل: دَعْوَة الْحق هُوَ الدُّعَاء بالإخلاص، وَالدُّعَاء بالإخلاص لَا يكون إِلَّا لله، أَلا ترى أَن الله تَعَالَى قَالَ: ﴿ [فَادعوا] الله مُخلصين لَهُ الدّين﴾.
قَوْله: ﴿وَالَّذين يدعونَ من دونه﴾ يَعْنِي: الْأَصْنَام ﴿لَا يستجيبون لَهُم بِشَيْء﴾ يَعْنِي: لَا يجيبون لَهُم شَيْئا. وَقَوله: ﴿إِلَّا كباسط كفيه إِلَى المَاء﴾. فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه كالقابض على المَاء، وَمن قبض على المَاء لم يبْق فِي يَده شَيْء. قَالَ الشَّاعِر:
(فَأَصْبَحت (فِيمَا) كَانَ بيني وَبَينهَا من الود مثل الْقَابِض المَاء بِالْيَدِ)
وَالْقَوْل الثَّانِي - وَهُوَ الْمَعْرُوف - أَن قَوْله: ﴿كباسط كفيه إِلَى المَاء﴾ يَعْنِي: كالعطشان المشير بكفه إِلَى المَاء، وَبَينه وَبَين المَاء مَسَافَة لَا يصل إِلَيْهِ؛ فَهُوَ يُشِير بكفه وَيَدْعُو بِلِسَانِهِ، وَلَا يصل إِلَيْهِ؛ فَكَذَلِك من يدع الْأَصْنَام بِدفع أَو نفع لَا يصل إِلَى شَيْء بدعائه. وَقَوله: ﴿ليبلغ فَاه﴾ يَعْنِي: ليناله فَاه ﴿وَمَا هُوَ ببالغه﴾ وَمَا هُوَ بنائله.
85
﴿ضلال (١٤) وَللَّه يسْجد من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض طَوْعًا وَكرها وظلالهم بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال (١٥) قل من رب السَّمَوَات وَالْأَرْض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أَوْلِيَاء لَا يملكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نفعا وَلَا ضرا قل هَل يَسْتَوِي الْأَعْمَى والبصير أم هَل تستوي الظُّلُمَات﴾
وَقَوله: ﴿وَمَا دُعَاء الْكَافرين إِلَّا فِي ضلال﴾ يَعْنِي: إِلَّا فِي خطأ وَبطلَان.
86
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَللَّه يسْجد من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض طَوْعًا وَكرها﴾ يَعْنِي: يسْجد من فِي السَّمَوَات طَوْعًا، وَيسْجد من فِي الأَرْض بَعضهم طَوْعًا وَبَعْضهمْ كرها. وَالسُّجُود هُوَ الخضوع بالتذلل، وَقيل: إِن سُجُود الْأَشْيَاء [هُوَ] تذللها وتسخيرها لما أُرِيد لَهُ وسخر لَهُ. وَقَوله: ﴿وظلالهم﴾ قَالُوا: ظلّ الْكَافِر يسْجد طَوْعًا، وَالْكَافِر يسْجد كرها، وظل الْمُؤمن يسْجد طَوْعًا، وَكَذَا الْمُؤمن يسْجد طَوْعًا، هَذَا هُوَ القَوْل الْمَنْقُول عَن السّلف. وَقيل: إِن سُجُود الظل هُوَ تسخيره وتذليله لما أُرِيد لَهُ. وَقيل: إِن معنى قَوْله: ﴿وظلالهم﴾ أشخاصهم ﴿بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال﴾ بالبكر والعشايا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل من رب السَّمَوَات وَالْأَرْض﴾ مَعْنَاهُ: قل يَا مُحَمَّد: من رب السَّمَوَات وَالْأَرْض؟ ثمَّ أمره بالإجابة، وَقَالَ: ﴿قل الله﴾ وَرُوِيَ أَنه إِنَّمَا قَالَ هَذَا للْمُشْرِكين، عطفوا عَلَيْهِ، وَقَالُوا: أجب أَنْت، فَأمره الله، وَقَالَ: ﴿قل الله﴾ وَإِنَّمَا صحت هَذِه الْإِجَابَة مَعَهم؛ لأَنهم كَانُوا يقرونَ أَن الله خالقهم وخالق السَّمَوَات وَالْأَرْض.
وَقَوله: ﴿قل أفاتخذتم من دونه أَوْلِيَاء﴾ مَعْنَاهُ: أَنكُمْ مَعَ إقراركم أَن الله خالقكم وخالق السَّمَوَات وَالْأَرْض اتخذتم من دونه أَوْلِيَاء يَعْنِي: الْأَصْنَام. ﴿لَا يملكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نفعا وَلَا ضرا﴾ يَعْنِي: أَنهم عجزة، فَإِذا لم يملكُوا لأَنْفُسِهِمْ نفعا وَلَا ضرا، فَكيف يملكُونَ لكم؟.
وَقَوله: ﴿قل هَل يَسْتَوِي الْأَعْمَى والبصير﴾ ضرب مثلا لِلْمُؤمنِ وَالْكَافِر وَالْإِيمَان وَالْكفْر؛ فَقَالَ: ( ﴿قل هَل يَسْتَوِي الْأَعْمَى والبصير﴾ أم هَل تستوي الظُّلُمَات
86
﴿والنور أم جعلُوا لله شُرَكَاء خلقُوا كخلقه فتشابه الْخلق عَلَيْهِم قل الله خَالق كل شَيْء وَهُوَ الْوَاحِد القهار (١٦) أنزل من السَّمَاء مَاء فسالت أَوديَة بِقَدرِهَا فَاحْتمل السَّيْل زبدا رابيا وَمِمَّا يوقدون عَلَيْهِ فِي النَّار ابْتِغَاء حلية أَو مَتَاع زبد مثله كَذَلِك يضْرب الله﴾ والنور) أَي: كَمَا لَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى والبصير والظالمات والنور؛ فَكَذَلِك لَا يَسْتَوِي الْمُؤمن وَالْكَافِر وَالْإِيمَان وَالْكفْر.
وَقَوله: ﴿أم جعلُوا لله شُرَكَاء﴾ يَعْنِي: أجعلوا لله شُرَكَاء ﴿خلقُوا كخلقه فتشابه الْخلق عَلَيْهِم﴾ أَي: اشْتبهَ مَا خلقوه بِمَا خلقه الله، وَمعنى الْآيَة: أَنهم كَمَا عرفُوا أَن الْأَصْنَام لَا تخلق كخلق الله؛ فَلَا يَنْبَغِي أَن تعبد كعبادة الله.
وَقَوله: ﴿قل الله خَالق كل شَيْء﴾ ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله ﴿وَهُوَ الْوَاحِد القهار﴾ الْوَاحِد: هُوَ الشَّيْء الَّذِي لَا يَنْقَسِم، وَقد يكون شَيْئَيْنِ لَا يَنْقَسِم فِي معنى، وَيُسمى وَاحِد، مثل قَوْلهم: دِينَار وَاحِد؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْقَسِم فِي الدينارية. والقهار: الْغَالِب الَّذِي لَا يغلبه شَيْء، وَفِي بعض الْأَخْبَار: " سُبْحَانَ من تعزز بقدرته وقهر عباده بِالْمَوْتِ ".
87
قَوْله تَعَالَى: ﴿أنزل من السَّمَاء مَاء﴾ هَذَا مثل ضربه الله فِي الْقُرْآن، وَضرب الأودية مثلا للقلوب، فَقَوله: ﴿أنزل من السَّمَاء مَاء﴾ أَي: مَطَرا ﴿فسالت أَوديَة بِقَدرِهَا﴾ قرئَ: " بِقَدرِهَا "، قَرَأَهَا أَبُو الْأَشْهب الْعقيلِيّ، وَالْمعْنَى: بِقَدرِهَا من الصغر وَالْكبر، وَكَذَلِكَ الْقُلُوب تحمل الْقُرْآن بِقَدرِهَا من الضّيق وَالسعَة.
وَقَوله: ﴿فَاحْتمل السَّيْل زبدا رابيا﴾ الزّبد: هُوَ الْخبث الَّذِي يظْهر على وَجه المَاء، وَكَذَلِكَ على وَجه الْقدر، وَكَذَلِكَ على فَم الْبَعِير. وَقَوله: ﴿رابيا﴾ أَي: طافيا عَالِيا تمّ الْمثل الأول هَاهُنَا. ثمَّ ذكر مثلا ثَانِيًا، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى ﴿وَمِمَّا يوقدون عَلَيْهِ فِي النَّار﴾ وَمن الَّذِي توقدون عَلَيْهِ، الإيقاد: جعل النَّار تَحت الشَّيْء ليذوب.
وَقَوله: ﴿ابْتِغَاء حلية﴾ مَعْنَاهُ: لطلب الْحِلْية، وَالَّذِي أوقد عَلَيْهِ هَاهُنَا هُوَ الذَّهَب وَالْفِضَّة؛ لِأَن الْحِلْية تطلب مِنْهُمَا. وَقَوله: ﴿أَو مَتَاع﴾ مَعْنَاهُ: أَو طلب مَتَاع، وَذَلِكَ من الصفر والنحاس وَغَيره يُوقد عَلَيْهَا، وَالْمَتَاع: هُوَ الْأَوَانِي المتخذة من هَذِه الْأَشْيَاء.
87
﴿الْحق وَالْبَاطِل فَأَما الزّبد فَيذْهب جفَاء وَأما مَا ينفع النَّاس فيمكث فِي الأَرْض كَذَلِك يضْرب الله الْأَمْثَال (١٧) للَّذين اسْتَجَابُوا لرَبهم الْحسنى وَالَّذين لم يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَو أَن لَهُم مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا وَمثله مَعَه لافتدوا بِهِ أُولَئِكَ لَهُم سوء الْحساب ومأواهم﴾
وَقَوله: ﴿زبد مثله﴾ أَي: زبد مثل زبد المَاء ﴿كَذَلِك يضْرب الله الْحق وَالْبَاطِل﴾ أَي: كَذَلِك يبين الله الْحق وَالْبَاطِل بِضَرْب الْمثل، ثمَّ قَالَ: ﴿فَأَما الزّبد فَيذْهب جفَاء﴾ يَعْنِي ضائعا بَاطِلا، يُقَال: أجفأت الْقدر، إِذا زبدت من جوانبها، وَذهب الزّبد. وَذكر أَبُو زيد اللّغَوِيّ أَن رؤبة بن العجاج قَرَأَ: " فَأَما الزّبد فَيذْهب جفالا " وَالْمعْنَى قريب من الأول.
وَقَوله: ﴿وَأما مَا ينفع النَّاس فيمكث﴾ يَعْنِي: المَاء وَالذَّهَب وَالْفِضَّة وَالْحَدِيد والرصاص والصفر والنحاس. قَوْله: ﴿فيمكث فِي الأَرْض﴾ أَي: يبْقى وَلَا يذهب.
وَقَوله ﴿كَذَلِك يضْرب الله الْأَمْثَال﴾ جعل هَذَا مثلا للحق وَالْبَاطِل فِي الْقُلُوب، يَعْنِي: أَن الْبَاطِل كالزبد يذهب ويضيع وَيهْلك، وَالْحق كَالْمَاءِ وكهذه الْأَشْيَاء يمْكث وَيبقى فِي الْقُلُوب، وَقَالَ بَعضهم: هَذَا تَسْلِيَة للْمُؤْمِنين، يَعْنِي أَن أَمر الْمُشْركين كَذَلِك الزّبد، يرى فِي الصُّورَة شَيْئا ثَابتا وَلَيْسَ لَهُ حَقِيقَة. وَأمر الْمُؤمنِينَ كَالْمَاءِ المستقر فِي مَكَانَهُ، فَلهُ الثَّبَات والبقاء، يُقَال: للباطل جَوْلَة، وللحق دولة.
88
قَوْله تَعَالَى: ﴿للَّذين اسْتَجَابُوا لرَبهم الْحسنى﴾ الْآيَة، قد بَينا أَن الاستجابة والإجابة بِمَعْنى وَاحِد. وَقَوله: ﴿الْحسنى﴾ الْأَكْثَرُونَ أَنَّهَا الْجنَّة، وَقيل: هُوَ الرزق والعافية فِي الدُّنْيَا وَالنَّعِيم فِي الْآخِرَة، وَالْحُسْنَى فعلى من الْحسن.
وَقَوله: ﴿وَالَّذين لم يَسْتَجِيبُوا لَهُ﴾ أَي: لم يجيبوا لَهُ. وَقَوله: ﴿لَو أَن لَهُم مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا وَمثله مَعَه لافتدوا بِهِ﴾ يَعْنِي: لبذلوا ذَلِك افتداء من النَّار.
وَقَوله: ﴿أُولَئِكَ لَهُم سوء الْحساب﴾ رُوِيَ عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ أَنه قَالَ لفرقد: يَا فريقد، أَتَدْرِي مَا سوء الْحساب؟ هُوَ أَن يُحَاسب على جَمِيع الذُّنُوب وَلَا يغْفر مِنْهَا شَيْئا. وَقد صَحَّ عَن النَّبِي بِرِوَايَة عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا -: " من نُوقِشَ الْحساب
88
﴿جَهَنَّم وَبئسَ المهاد (١٨) أَفَمَن يعلم أَنما أنزل إِلَيْك من رَبك الْحق كمن هُوَ أعمى إِنَّمَا يتَذَكَّر أولُوا الْأَلْبَاب (١٩) الَّذين يُوفونَ بِعَهْد الله وَلَا ينقضون الْمِيثَاق (٢٠) وَالَّذين يصلونَ مَا أَمر الله بِهِ أَن يُوصل ويخشون رَبهم وَيَخَافُونَ سوء الْحساب (٢١) وَالَّذين صَبَرُوا ابْتِغَاء وَجه رَبهم وَأَقَامُوا الصَّلَاة وأنفقوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سرا وَعَلَانِيَة﴾ عذب " وَفِي رِوَايَة " هلك " وَقيل: إِن سوء الْحساب هُوَ أَن لَا يقبل حَسَنَة، وَلَا يعْفُو عَن سَيِّئَة. وَقَوله: ﴿ومأواهم جَهَنَّم﴾ أَي: مستقرهم جَهَنَّم.
وَقَوله: ﴿وَبئسَ المهاد﴾ أَي: بئس مَا مهدوا لأَنْفُسِهِمْ أَي: بئس مَا مهد لَهُم.
89
قَوْله تَعَالَى: ﴿أَفَمَن يعلم أَنما أنزل إِلَيْك من رَبك الْحق كمن هُوَ أعمى﴾ نزلت الْآيَة فِي حَمْزَة بن عبد الْمطلب وَأبي جهل بن هِشَام، فَالْأول حَمْزَة وَالثَّانِي أَبُو جهل، وَقيل: فِي عمار بن يَاسر وَأبي جهل.
وَقَوله: ﴿إِنَّمَا يتَذَكَّر أولو الْأَلْبَاب﴾ أَي: يتعظ أولو الْأَلْبَاب، وَمعنى الْآيَة: أَن من يبصر الْحق ويتبعه، وَمن لَا يبصر الْحق وَلَا يتبعهُ لَا يستويان أبدا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿الَّذين يُوفونَ بِعَهْد الله﴾ ظَاهر الْمَعْنى، وَقيل: عهد الله تَعَالَى مَا أَخذه الله تَعَالَى من الْعَهْد على ذُرِّيَّة آدم حِين أَخذهم من صلبه.
وَقَوله: ﴿وَلَا ينقضون الْمِيثَاق﴾ هُوَ تَحْقِيق الْوَفَاء السَّابِق.
وَقَوله: ﴿وَالَّذين يصلونَ مَا أَمر الله بِهِ أَن يُوصل﴾ يَعْنِي: يُؤمنُونَ بِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاء، وَقيل: يصلونَ الرَّحِم وَلَا يقطعونه.
وَقَوله: ﴿ويخشون رَبهم﴾ أَي: يخَافُونَ رَبهم ﴿وَيَخَافُونَ سوء الْحساب﴾ أَي: يرهبون سوء الْحساب، وَسُوء الْحساب قد بَينا.
وَقَوله: ﴿وَالَّذين صَبَرُوا ابْتِغَاء وَجه رَبهم﴾ يَعْنِي: صَبَرُوا على أَمر الله [طلبا لرضا] رَبهم، وَقيل: صَبَرُوا على الْفقر، وعَلى المصائب والبلايا، وَقيل: صَبَرُوا عَن
89
﴿ويدرءون بِالْحَسَنَة السَّيئَة أُولَئِكَ لَهُم عُقبى الدَّار (٢٢) جنَّات عدن يدْخلُونَهَا وَمن صلح من آبَائِهِم وأزواجهم وذرياتهم وَالْمَلَائِكَة يدْخلُونَ عَلَيْهِم من كل بَاب (٢٣) ﴾ الْمعاصِي وَقيل: صَبَرُوا عَن شهوات الدُّنْيَا ولذاتها.
وَقَوله: ﴿يدرءون بِالْحَسَنَة السَّيئَة﴾ يَعْنِي: يدْفَعُونَ السَّيئَة بِالْحَسَنَة، وَهُوَ معنى قَوْله: ﴿إِن الْحَسَنَات يذْهبن السَّيِّئَات﴾ وَمعنى قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " إِذا عملت سَيِّئَة فاعمل بجنبها حَسَنَة تمحها ". وَفِي الْآيَة قَول آخر وَهُوَ أَن السَّيئَة: الذَّنب. والحسنة: التَّوْبَة. وَمَعْنَاهُ: يدْفَعُونَ الذَّنب بِالتَّوْبَةِ وَفِي الْخَبَر: " مَا من شَيْء أدْرك لشَيْء من تَوْبَة حَدِيثَة لذنب قديم ".
قَوْله: ﴿أُولَئِكَ لَهُم عُقبى الدَّار﴾ أَي: الْجنَّة، وَمَعْنَاهُ: لَهُم عَاقِبَة دَار الثَّوَاب.
90
قَوْله: ﴿جنَّات عدن يدْخلُونَهَا﴾ أَي: بساتين [للإقامة].
وَقَوله: ﴿يدْخلُونَهَا﴾ مَعْنَاهُ مَعْلُوم. وَقَوله: ﴿وَمن صلح من آبَائِهِم﴾ أَي: ويدخلها من صلح من آبَائِهِم ﴿وأزواجهم وذرياتهم﴾ وَفِي الْخَبَر: أَن الْمُؤمن يدْخل الْجنَّة، فَيرى ذُريَّته فِيهَا، فَيَقُول: مَتى دَخَلْتُم فِيهَا؟ فَيَقُولُونَ: نَحن مُنْذُ قديم ننتظرك، وَالله أعلم.
وَقَوله: ﴿وَالْمَلَائِكَة يدْخلُونَ عَلَيْهِم من كل بَاب﴾ يَعْنِي: من أَبْوَاب الْجنَّة، وَقيل: من أَبْوَاب الْقُصُور.
وَقَوله: ﴿سَلام عَلَيْكُم﴾ يَعْنِي: يسلمُونَ عَلَيْهِم سَلاما، وَقيل: يَقُولُونَ: قد سلمكم الله من الْآفَات الَّتِي كُنْتُم تخافونه مِنْهَا، وَفِي الْآثَار أَنهم - يَعْنِي: الْمَلَائِكَة - يأْتونَ بالتحف والهدايا من الله تَعَالَى بِقدر كل يَوْم من أَيَّام الدُّنْيَا [ثَلَاث] عشرَة مرّة. وَقَوله: ﴿بِمَا صَبَرْتُمْ﴾ قد بَينا. وَقَوله: ﴿فَنعم عُقبى الدَّار﴾ أَي: نعم عَاقِبَة الدَّار.
90
﴿سَلام عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنعم عُقبى الدَّار (٢٤) وَالَّذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون مَا أَمر الله بِهِ أَو يُوصل ويفسدون فِي الأَرْض أُولَئِكَ لَهُم اللَّعْنَة وَلَهُم سوء الدَّار (٢٥) الله يبسط الرزق لمن يَشَاء وَيقدر وفرحوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاة الدُّنْيَا فِي الْآخِرَة إِلَّا مَتَاع (٢٦) وَيَقُول الَّذين كفرُوا لَوْلَا أنزل عَلَيْهِ آيَة من ربه قل إِن﴾
91
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالَّذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه﴾ ظَاهر، وَهَذَا وَارِد فِي الْكفَّار. وَقَوله تَعَالَى: ﴿ويقطعون مَا أَمر الله بِهِ أَن يُوصل﴾ يَعْنِي: يُؤمنُونَ بِبَعْض الْأَنْبِيَاء، ويكفرون بِالْبَعْضِ، وَقيل: يقطعون الرَّحِم.
وَقَوله: ﴿ويفسدون فِي الأَرْض﴾ يَعْنِي: يعْملُونَ فِيهَا بِالْمَعَاصِي. وَقَوله: ﴿أُولَئِكَ لَهُم اللَّعْنَة﴾ أَي: الْبعد من رَحْمَة الله. وَقَوله: ﴿وَلَهُم سوء الدَّار﴾ أَي: سوء المنقلب لِأَن المنقلب: مُنْقَلب النَّاس إِلَى الدَّار.
قَوْله: ﴿الله يبسط الرزق لمن يَشَاء وَيقدر﴾ يَعْنِي: يُوسع على من يَشَاء، ويضيق على من يَشَاء. وَقَوله: ﴿وفرحوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ الْفَرح: لَذَّة فِي الْقلب بنيل المشتهى، وَهَذَا دَلِيل على أَن الْفَرح بالدنيا حرَام مَنْهِيّ عَنهُ.
قَوْله: ﴿وَمَا الْحَيَاة الدُّنْيَا فِي الْآخِرَة إِلَّا مَتَاع﴾ يَعْنِي: إِلَّا قَلِيل، وَيُقَال: كمتاع الرَّاكِب، وَقد صَحَّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَة إِلَّا كَمَا يَجْعَل أحدكُم أُصْبُعه فِي اليم فَلْينْظر بِمَ يرجع ".
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَيَقُول الَّذين كفرُوا لَوْلَا أنزل عَلَيْهِ آيَة من ربه﴾ يعنون الْآيَة المقترحة؛ فَإِن قَالَ قَائِل: لم لَا يجوز أَن يُجِيبهُمْ إِلَى الْآيَة المقترحة، ولعلها تكون سَببا لإيمانهم؟ وَالْجَوَاب: أَن الْآيَة المقترحة لَا نِهَايَة لَهَا، وَإِن وَجب فِي الْمصلحَة أَن يُجيب وَاحِدًا، وَجب أَن يُجيب آخر، إِلَى مَا يتناهى.
وَقَوله: ﴿قل إِن الله يضل من يَشَاء﴾ ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله: ﴿وَيهْدِي إِلَيْهِ من أناب﴾ مَعْنَاهُ: وَيهْدِي إِلَيْهِ من يَشَاء بالإنابة، وَفِي الْآيَة رد على الْقَدَرِيَّة، وَالله الْهَادِي إِلَى الصَّوَاب بمنه.
91
﴿الله يضل من يَشَاء وَيهْدِي إِلَيْهِ من أناب (٢٧) الَّذين آمنُوا وتطمئن قُلُوبهم بِذكر الله أَلا بِذكر الله تطمئِن الْقُلُوب (٢٨) الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات طُوبَى لَهُم وَحسن﴾
92
وَقَوله تَعَالَى: ﴿الَّذين آمنُوا وتطمئن قُلُوبهم بِذكر الله﴾ أَي: تسكن قُلُوبهم بِذكر الله، وَقيل: تستأنس قُلُوبهم بِذكر الله، والسكون بِالْيَقِينِ، وَالِاضْطِرَاب بِالشَّكِّ، قَالَ الله تَعَالَى فِي شَأْن الْمُشْركين: ﴿إِذا ذكر الله وَحده اشمأزت قُلُوب الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة﴾ أَي: اضْطَرَبَتْ، وَقَالَ فِي الْمُؤمنِينَ ﴿الَّذين آمنُوا وتطمئن قُلُوبهم بِذكر الله﴾.
وَقَوله: ﴿أَلا بِذكر الله تطمئِن الْقُلُوب﴾ مَعْنَاهُ: أَلا بِذكر الله تسكن الْقُلُوب، وطمأنينة الْقلب بِزَوَال الشَّك مِنْهُ واستقرار الْيَقِين فِيهِ، فَإِن قَالَ قَائِل: أَلَيْسَ الله تَعَالَى قَالَ: ﴿وجلت قُلُوبهم﴾ فَكيف توجل وتطمئن فِي حَالَة وَاحِدَة؟ وَالْجَوَاب: أَن الوجل بِذكر الْوَعيد وَالْعِقَاب، والطمأنينة بِذكر الْوَعْد وَالثَّوَاب، فَكَأَنَّهَا توجل إِذا ذكر عدل الله وَشدَّة حسابه، وتطمئن إِذا ذكر فضل الله وَكَرمه.
قَوْله تَعَالَى: ﴿الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات﴾ مَعْنَاهُ: وَعمِلُوا الطَّاعَات. وَقَوله: ﴿طُوبَى لَهُم﴾ فِيهِ أَقْوَال: رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة وَأبي أُمَامَة وَأبي الدَّرْدَاء وَعَن ابْن عَبَّاس بِرِوَايَة الْكَلْبِيّ أَنهم قَالُوا: طُوبَى شَجَرَة فِي الْجنَّة تظلل الْجنان كلهَا.
وَفِي بعض الْأَخْبَار أَن أَصْلهَا فِي منزل النَّبِي وقصره، وَفِي كل قصر من قُصُور الْجنَّة غُصْن مِنْهَا، وَعَلَيْهَا من جَمِيع أَنْوَاع الثَّمر، وَتَقَع عَلَيْهَا طيور كالبخت إِذا رَآهَا الْمُؤمن واشتهى مِنْهَا سَقَطت بَين يَدَيْهِ، فيأكل مِنْهَا مَا شَاءَ ثمَّ تطير، وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن رجلا لَو ركب حَقًا أَو جذعا، وَجعل يطوف بأصلها لقَتله الْهَرم، وَلم يبلغ إِلَى الْموضع الَّذِي ابْتَدَأَ مِنْهُ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن طُوبَى اسْم الْجنَّة، قَالَ مُجَاهِد: هِيَ اسْم الْجنَّة بالحبشية. وَعَن عِكْرِمَة: طُوبَى لَهُم أَي نعماء لَهُم، وَعَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: أَي خير وكرامة لَهُم، وَعَن
92
﴿مئاب (٢٩) كَذَلِك أَرْسَلْنَاك فِي أمة قد خلت من قبلهَا أُمَم لتتلو عَلَيْهِم الَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك وهم يكفرون بالرحمن قل هُوَ رَبِّي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ توكلت وَإِلَيْهِ متاب (٣٠) ﴾ الضَّحَّاك: طُوبَى لَهُم أَي: غِبْطَة لَهُم. والأقوال مُتَقَارِبَة فِي الْمَعْنى، قَالَ الزّجاج: طُوبَى فعلى من الطّيب، وَمَعْنَاهَا: الْعَيْش الطّيب لَهُم.
وَقَوله: ﴿وَحسن مآب﴾ أَي: حسن مُنْقَلب.
93
قَوْله تَعَالَى: ﴿كَذَلِك أَرْسَلْنَاك فِي أمة﴾ الْآيَة. معنى كَاف التَّشْبِيه هَاهُنَا: إِنَّا كَمَا أرسلنَا الْأَنْبِيَاء إِلَى سَائِر الْأُمَم؛ كَذَلِك أَرْسَلْنَاك إِلَى هَذِه الْأمة.
قَوْله: ﴿قد خلت من قبلهَا أُمَم﴾ أَي: قد مَضَت من قبلهَا أُمَم. قَوْله: ﴿لتتلوا عَلَيْهِم الَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك﴾ أَي. لتقرأ عَلَيْهِم الَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك.
وَقَوله: ﴿وهم يكفرون بالرحمن﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: قَالَ ابْن جريج: الْآيَة مَدَنِيَّة فِي قصَّة الْحُدَيْبِيَة فَإِن سُهَيْل بن عَمْرو لما جَاءَ وَاتَّفَقُوا على أَن يكتبوا كتاب الصُّلْح، كتب عَليّ رَضِي الله عَنهُ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، فَقَالُوا: لَا نَعْرِف الرَّحْمَن، اكْتُبْ كَمَا نكتب نَحن: بِاسْمِك اللَّهُمَّ... الْقِصَّة، فَهَذَا معنى قَوْله: ﴿وهم يكفرون بالرحمن﴾.
وَالْقَوْل الثَّانِي - وَهُوَ الْمَعْرُوف - أَن الْآيَة مَكِّيَّة، وَسبب نُزُولهَا أَن أَبَا جهل سمع النَّبِي وَهُوَ فِي الْحجر يَدْعُو وَيَقُول: " يَا الله، يَا رَحْمَن ". فَرجع إِلَى الْمُشْركين، وَقَالَ: إِن مُحَمَّدًا يَدْعُو إِلَهَيْنِ يَدْعُو الله، وَيَدْعُو آخر يُسمى الرَّحْمَن وَلَا نَعْرِف الرَّحْمَن إِلَّا رَحْمَن الْيَمَامَة؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَأنزل أَيْضا قَوْله تَعَالَى: ﴿قل ادعوا الله أَو ادعوا الرَّحْمَن﴾.
وَقَوله: ﴿قل هُوَ رَبِّي﴾ يَعْنِي قل: الرَّحْمَن رَبِّي ﴿لَا إِلَه إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ توكلت﴾ عَلَيْهِ اعتمدت وَبِه وثقت ﴿وَإِلَيْهِ متاب﴾ يَعْنِي: وَإِلَيْهِ التَّوْبَة، وَالتَّوْبَة هِيَ النَّدَم على مَا سلف من الجرائم مَعَ الإقلاع عَنْهَا فِي الْمُسْتَقْبل.
93
﴿وَلَو أَن قُرْآنًا سيرت بِهِ الْجبَال أَو قطعت بِهِ الأَرْض أَو كلم بِهِ الْمَوْتَى بل لله الْأَمر جَمِيعًا أفلم ييئس الَّذين آمنُوا أَن لَو يَشَاء الله لهدى النَّاس جَمِيعًا وَلَا يزَال الَّذين كفرُوا﴾
94
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَو أَن قُرْآنًا سيرت بِهِ الْجبَال﴾ رُوِيَ أَن الْمُشْركين قَالُوا لرَسُول الله: سل رَبك أَن يسير هَذِه الْجبَال الَّتِي بِمَكَّة فتتسع أَرْضنَا ونتخذ فِيهَا الْمزَارِع، وسل رَبك أَن يقرب إِلَيْنَا الشَّام، فَإِن إِلَيْهِ متاجرنا وَقد أبعد عَنَّا، وَقَالُوا أَيْضا: سل رَبك أَن يخرج لنا الْأَنْهَار ويشق الْعُيُون فِي الأَرْض لنغرس الْأَشْجَار، ونتخذ الْبَسَاتِين، وسل رَبك أَن يبْعَث لنا جمَاعَة من الْمَوْتَى فنسألهم عَن أَمرك، وأحى لنا قصيا؛ فَإِنَّهُ كَانَ شَيخا مُبَارَكًا حَتَّى نَسْأَلهُ عَن أَمرك. وَفِي بعض الرِّوَايَات أَنهم قَالُوا: سل رَبك بِالْقُرْآنِ الَّذِي أنزل عَلَيْك أَن يفعل هَذَا فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة: ﴿وَلَو أَن قُرْآنًا سيرت بِهِ الْجبَال﴾ مَعْنَاهُ: وَلَو قضيت أَن أَسِير الْجبَال بِكِتَاب أَو أقطع الأَرْض بِهِ أَو أحيي بِهِ الْمَوْتَى لفَعَلت بِهَذَا الْقُرْآن.
فَإِن قيل: هَذَا الْجَواب الَّذِي تَقولُونَ غير مَذْكُور فِي الْقُرْآن، وَهَذَا زِيَادَة؟
الْجَواب عَنهُ، أَن الْجَواب مَحْذُوف، وَالْعرب تفعل مثل هَذَا، قَالَ الشَّاعِر:
(فَلَو أَنَّهَا نفس تَمُوت سوية وَلكنهَا نفس تساقط أنفسا)
وَمَعْنَاهُ: وَلَو أَنَّهَا نفس وَاحِدَة لتسليت بهَا، وَلكنهَا أنفس كَثِيرَة. وَذكر الْفراء أَن الْجَواب هُوَ: ﴿وَلَو أَن قُرْآنًا سيرت بِهِ الْجبَال أَو قطعت بِهِ الأَرْض أَو كلم بِهِ الْمَوْتَى﴾ لم يُؤمنُوا؛ لما سبق فِي علمنَا من تَركهم الْإِيمَان.
مَعْنَاهُ: أَنا لَو فعلنَا بِالْقُرْآنِ الَّذِي أنزل إِلَيْك مَا سَأَلُوا، لم يُؤمنُوا أَيْضا. وَقَوله: ﴿بل لله الْأَمر جَمِيعًا﴾ مَعْنَاهُ: بل لله الْأَمر جَمِيعًا فِي هَذِه الْأَشْيَاء؛ إِن شَاءَ فعلهَا وَإِن شَاءَ لم يَفْعَلهَا.
وَقَوله: ﴿أفلم ييئس الَّذين آمنُوا﴾ أَكثر أهل الْمعَانِي على أَن مَعْنَاهُ: أفلم يعلم الَّذين آمنُوا، وَفِي قِرَاءَة ابْن عَبَّاس هَكَذَا: " أفلم يتَبَيَّن للَّذين آمنُوا " وَقد ورد هَذَا اللَّفْظ بِمَعْنى الْعلم فِي لُغَة الْعَرَب، قَالَ الشَّاعِر:
94
﴿تصيبهم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَة أَو تحل قَرِيبا من دَارهم حَتَّى يَأْتِي وعد الله إِن الله لَا يخلف الميعاد (٣١) وَلَقَد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للَّذين كفرُوا ثمَّ أخذتهم فَكيف﴾
(أَقُول لَهُم بِالشعبِ إِذْ يأسرونني ألم تيئسوا أَنِّي ابْن فَارس زَهْدَم)
وَقَالَ آخر:
(ألم ييئس الْأَبْطَال أَنِّي أَنا ابْنه وَإِن كنت عَن أَرض الْعَشِيرَة تائيا)
وَأنكر الْكسَائي أَن يكون هَذَا بِمَعْنى الْعلم، وَقَالَ: إِن الْعَرَب لَا تعرف الْيَأْس بِمَعْنى الْعلم، قَالَ: وَإِنَّمَا معنى الْآيَة: أَن أَصْحَاب رَسُول الله لما سمعُوا هَذَا من الْمُشْركين طمعوا فِي أَن يفعل الله مَا سَأَلُوا ويؤمنوا؛ فَأنْزل الله هَذِه الْآيَة: ﴿أفلم ييئس الَّذين آمنُوا﴾ يَعْنِي: من الصَّحَابَة من إِيمَان هَؤُلَاءِ الْقَوْم، وكل من علم شَيْئا فقد يئس عَن خِلَافه وضده، وَبَعْضهمْ قَالَ مَعْنَاهُ: أفلم يعلم الَّذين آمنُوا من حَال هَؤُلَاءِ الْكفَّار علما يُوجب يأسهم عَن إِيمَانهم، وَقَوله: ﴿أَن لَو يَشَاء الله لهدى النَّاس جَمِيعًا﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿وَلَا يزَال الَّذين كفرُوا تصيبهم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَة﴾ أَي نازلة وبلية، وَقيل: إِن القارعة هَاهُنَا: سَرَايَا رَسُول الله ﴿أَو تحل قَرِيبا من دَارهم﴾ يَعْنِي: أَو تحل السّريَّة قَرِيبا من دَارهم، وَقيل: أَو تنزل أَنْت قَرِيبا من دَارهم.
﴿حَتَّى يَأْتِي وعد الله﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه يَوْم الْقِيَامَة، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه يَوْم بدر.
وَقَوله: ﴿إِن الله لَا يخلف الميعاد﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
95
قَوْله: ﴿وَلَقَد استهزئ برسل من قبلك﴾ الِاسْتِهْزَاء: طلب الهزء، وَقد كَانَ الْكفَّار يسْأَلُون هَذِه الْأَشْيَاء عَن طَرِيق الِاسْتِهْزَاء، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة تَسْلِيَة للنَّبِي، مَعْنَاهُ: وَلَقَد استهزئ برسل من قبلك يَعْنِي: كَمَا استهزءوا بك، فقد استهزئ برسل من قبلك. ﴿فأمليت للَّذين كفرُوا﴾ مَعْنَاهُ: فأمهلت وأطلت الْمدَّة لَهُم، وَمِنْه الملوان وَهُوَ اللَّيْل وَالنَّهَار. وَقَوله: ﴿ثمَّ أخذتهم فَكيف كَانَ عِقَاب﴾ مَعْنَاهُ: ثمَّ أخذتهم فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ، وَفِي الْآخِرَة بالنَّار فَكيف كَانَ [عقابي] لَهُم.
95
﴿كَانَ عِقَاب (٣٢) أَفَمَن هُوَ قَائِم على كل نفس بِمَا كسبت وَجعلُوا لله شُرَكَاء قل سموهم أم تنبئونه بِمَا لَا يعلم فِي الأَرْض أم بِظَاهِر من القَوْل بل زين للَّذين كفرُوا مَكْرهمْ وصدوا عَن السَّبِيل وَمن يضلل الله فَمَا لَهُ من هاد (٣٣) لَهُم عَذَاب فِي الْحَيَاة﴾
96
قَوْله تَعَالَى: ﴿أَفَمَن هُوَ قَائِم على كل نفس بِمَا كسبت﴾ أَكثر الْمُفَسّرين أَن قَوْله: ﴿أَفَمَن هُوَ قَائِم على كل نفس بِمَا كسبت﴾ هُوَ الله، وَالله تَعَالَى لَا يجوز أَن يُسمى قَائِما على الْإِطْلَاق؛ لِأَن الشَّرْع لم يرد بِهِ، وَلِأَن الْقَائِم هُوَ المنتصب، وَيجوز أَن يُوصف بِالْقيامِ على التَّقْيِيد، وَهُوَ أَنه قَائِم على كل نفس بِمَا كسبت، وَمعنى قَوْله: ﴿قَائِم على كل نفس﴾ : أَنه الْمُتَوَلِي لأحوالها وأعمالها وأرزاقها، وَغير ذَلِك، وَكَذَلِكَ هُوَ الْمُتَوَلِي للمجازاة بكسب الْخَيْر وَالشَّر.
وَقَالَ بَعضهم: معنى قَوْله: ﴿أَفَمَن هُوَ قَائِم على كل نفس بِمَا كسبت﴾ أَي: عَالم بكسب كل نفس، قَالَ الشَّاعِر:
(فلولا رجال من قُرَيْش أعزة... سرقتم ثِيَاب الْبَيْت وَالله قَائِم)
أَي: عَالم. وَقَوله: ﴿أَفَمَن﴾ مَعْنَاهُ: أَفَمَن كَانَ هَكَذَا كمن لَيْسَ بِهَذَا الْوَصْف. وَقَوله: ﴿وَجعلُوا لله شُرَكَاء﴾ أَي: وصفوا لله شُرَكَاء، وَقَوله: ﴿قل سموهم﴾ مَعْنَاهُ: قل صفوهم بِالصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ مُسْتَحقَّة لَهَا، ثمَّ انْظُرُوا هَل هِيَ أهل أَن تعبد أَو لَا؟
قَوْله: ﴿أم تنبئونه بِمَا لَا يعلم فِي الأَرْض﴾ مَعْنَاهُ: أم أَنْتُم تنبئون الله بِمَا لَا يعلم. يَعْنِي: تذكرُونَ لَهُ شَرِيكا وإلها آخر، وَهُوَ لَا يُعلمهُ.
وَقَوله: ﴿أم بِظَاهِر من القَوْل﴾ يَعْنِي أم تتعلقون بِظَاهِر من القَوْل لَا معنى لَهُ، شبه المتجاهل الَّذِي لَا يطْلب حَقِيقَة الْأَمر، وَقيل: بِظَاهِر من القَوْل بباطل من القَوْل: قَالَ الشَّاعِر:
(وعيرني الواشون أَنِّي أحبها... وَتلك شكاة ظَاهر عَنْك عارها)
أَي: زائل، وَحكي أَن عبد الله بن الزبير أنْشد هَذَا حِين قيل لَهُ: يَا ابْن ذَات النطاقين، وَقصد الْقَائِل تَعْبِيره وذمه؛ فَقَالَ عبد الله بن الزبير:
(وَتلك شكاة ظَاهر عَنْك عارها... ).
قَوْله: ﴿بل زين للَّذين كفرُوا مَكْرهمْ﴾ أَي: كفرهم. وَقَوله: ﴿وصدوا عَن السَّبِيل﴾ وَقُرِئَ: " وصدوا " بِرَفْع الصَّاد، أَي: فعل بهم ذَلِك. وَقَوله: ﴿وصدوا﴾
96
﴿الدُّنْيَا ولعذاب الْآخِرَة أشق وَمَا لَهُم من الله من واق (٣٤) مثل الْجنَّة الَّتِي وعد المتقون تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار أكلهَا دَائِم وظلها تِلْكَ عُقبى الَّذين اتَّقوا وعقبى الْكَافرين النَّار (٣٥) وَالَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب يفرحون بِمَا أنزل إِلَيْك وَمن الْأَحْزَاب من﴾ مَعْنَاهُ: فعلوا هم ذَلِك، وَقَوله: ﴿وَمن يضلل الله فَمَا لَهُ من هاد﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
97
وَقَوله: ﴿لَهُم عَذَاب فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا﴾ قد بَينا الْعَذَاب فِي الدُّنْيَا.
﴿ولعذاب الْآخِرَة أشق﴾ يَعْنِي: أَشد. وَقَوله: ﴿وَمَا لَهُم من الله من واق﴾ أَي: من يقي.
وَقَوله: ﴿مثل الْجنَّة الَّتِي وعد المتقون﴾ قرئَ فِي الشاذ: " أَمْثَال الْجنَّة الَّتِي وعد المتقون " [و] الْمَعْرُوف: ﴿مثل الْجنَّة﴾ وَفِيه قَولَانِ: أَحدهمَا: صفة الْجنَّة الَّتِي وعد المتقون، وَالْقَوْل الثَّانِي: مثل الْجنَّة الَّتِي وعد المتقون جنَّة ﴿تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار أكلهَا دَائِم﴾ أَي: لَا يَنْقَطِع ثَمَرهَا وَنَعِيمهَا.
فَإِن قَالَ قَائِل: قد قَالَ هَاهُنَا: ﴿أكلهَا دَائِم﴾ وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: ﴿وَلَهُم رزقهم فِيهَا بكرَة وعشيا﴾ فَكيف التَّوْفِيق بَين الْآيَتَيْنِ؟
الْجَواب: أَن الدَّوَام بِمَعْنى عدم الِانْقِطَاع، فَإِذا لم يَنْقَطِع ورزقوا بكرَة وعشيا، فَهُوَ دَائِم. وَقَوله: ﴿وظلها﴾ هَذَا فِي معنى قَوْله تَعَالَى: ﴿وظل مَمْدُود﴾.
وَفِي الْأَخْبَار: " أَن ظلّ شَجَرَة وَاحِدَة فِي الْجنَّة يسير الرَّاكِب فِيهَا مائَة عَام لَا يقطعهُ ". وَقَوله تَعَالَى: ﴿تِلْكَ عُقبى الَّذين اتَّقوا﴾ مَعْنَاهُ: تِلْكَ عَاقِبَة الَّذين اتَّقوا. وَقَوله: ﴿وعقبى الْكَافرين النَّار﴾ أَي: عَاقِبَة الْكَافرين النَّار.
97
﴿يُنكر بعضه قل إِنَّمَا أمرت أَن أعبد الله وَلَا أشرك بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مئاب (٣٦) وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حكما عَرَبيا وَلَئِن اتبعت أهواءهم بعد مَا جَاءَك من الْعلم مَا لَك من الله من ولي وَلَا واق (٣٧) وَلَقَد أرسلنَا رسلًا من قبلك وَجَعَلنَا لَهُم أَزْوَاجًا وذرية وَمَا كَانَ﴾
98
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب يفرحون بِمَا أنزل إِلَيْك﴾ الْآيَة. رُوِيَ أَن [الْيَهُود] الَّذين أَسْلمُوا كَانُوا يستقلون ذكر الرَّحْمَن فِي الْقُرْآن مَعَ كَثْرَة ذكره فِي التَّوْرَاة، فَلَمَّا كرر الله ذكر الرَّحْمَن فِي الْقُرْآن فرحوا فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة: ﴿وَالَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب يفرحون﴾ الْآيَة.
وَقَوله: ﴿وَمن الْأَحْزَاب من يُنكر بعضه﴾ الْأَحْزَاب: هم الَّذين تحزبوا على النَّبِي. وَقَوله: ﴿من يُنكر بعضه﴾ يَعْنِي: ذكر الرَّحْمَن؛ لأَنهم كَانُوا لَا يُنكرُونَ ذكر الله، وَقَوله: ﴿قل إِنَّمَا أمرت أَن أعبد الله وَلَا أشرك بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مآب﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حكما عَرَبيا﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: قُرْآنًا عَرَبيا؛ لِأَن فِيهِ الْأَحْكَام، وَالْآخر نَبيا عَرَبيا؛ لِأَن النَّبِي كَانَ مِنْهُم، وَالْقُرْآن نزل بلغتهم.
وَقَوله: ﴿وَلَئِن اتبعت أهواءهم﴾ الْهوى: ميل الطَّبْع لشَهْوَة النَّفس. وَأَكْثَره مَذْمُوم. قَوْله: ﴿بعد مَا جَاءَك من الْعلم﴾ يَعْنِي: من الْقُرْآن ﴿مَالك من الله من ولي وَلَا واق﴾ يَعْنِي: من نَاصِر وَلَا حَافظ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَقَد أرسلنَا رسلًا من قبلك﴾ الْآيَة، رُوِيَ أَن الْيَهُود ذموا النَّبِي باستكثاره من النِّسَاء، وَقَالُوا: هَذَا الرجل لَيْسَ لَهُ همة إِلَّا فِي النِّسَاء، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة: وَقيل: إِن الْمُشْركين قَالُوا هَذَا؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة ﴿وَلَقَد أرسلنَا رسلًا من قبلك وَجَعَلنَا لَهُم أَزْوَاجًا وذرية﴾ وَيُقَال: إِنَّه كَانَ لداود مائَة امْرَأَة، وَقد صَحَّ الْخَبَر فِيهِ عَن النَّبِي، وَدلّ عَلَيْهِ الْكتاب. وَكَانَ لِسُلَيْمَان [ألف] امْرَأَة
98
﴿لرَسُول أَن يَأْتِي بِآيَة إِلَّا بِإِذن الله لكل أجل كتاب (٣٨) يمحو الله مَا يَشَاء وَيثبت﴾ فِي الصَّحِيح، ثلثمِائة امْرَأَة، وَسَبْعمائة سَرِيَّة؛ فَهَذَا معنى قَوْله: ﴿وَجَعَلنَا لَهُم أَزْوَاجًا وذرية﴾ وَكَذَلِكَ عَامَّة الْأَنْبِيَاء تزوجوا وَولد لَهُم.
وَقَوله: ﴿وَمَا كَانَ لرَسُول أَن يَأْتِي بِآيَة إِلَّا بِإِذن الله﴾ أَي: إِلَّا بِأَمْر الله ﴿لكل أجل كتاب﴾ مَعْنَاهُ: لكل أجل أَجله الشَّرْع كتاب أثبت فِيهِ. وَقيل: هَذَا على التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير، وَمَعْنَاهُ: لكل كتاب أجل وَمُدَّة، وَمَعْنَاهُ الْكتب الْمنزلَة وَقيل: لكل أجل كتاب، أَي: لكل قَضَاء قَضَاهُ الله تَعَالَى وَقت يَقع فِيهِ، وَكتاب أثبت فِيهِ.
99
قَوْله تَعَالَى: ﴿يمحو الله مَا يَشَاء وَيثبت﴾ فِيهِ أَقْوَال: رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه يمحو الله مَا يَشَاء من الشَّرِيعَة، أَي: ينْسَخ. وَيثبت مَا يَشَاء، فَلَا ينْسَخ. وَحكي عَنهُ أَيْضا بِرِوَايَة سعيد بن جُبَير قَالَ: ﴿يمحو الله مَا يَشَاء وَيثبت﴾ إِلَّا الشقاوة والسعادة والحياة وَالْمَوْت، وَعَن عمر وَعبد الله بن مَسْعُود - رَضِي الله عَنْهُم - أَنَّهُمَا قَالَا: يمحو الشقاوة والسعادة أَيْضا، ويمحو الْأَجَل والرزق، وَيثبت مَا يَشَاء. وَكَانَ عمر يَقُول: اللَّهُمَّ إِن كنت كتبتني شقيا فامحه واكتبني مَا تشَاء سعيدا، فَإنَّك قلت: ﴿يمحو الله مَا يَشَاء وَيثبت﴾. وَفِي بعض الْآثَار أَن الرجل يكون قد بَقِي لَهُ من عمره ثَلَاثُونَ سنة فَيقطع رَحمَه، فَيرد إِلَى ثَلَاثَة أَيَّام، وَالرجل يكون قد بَقِي لَهُ من عمره ثَلَاثَة أَيَّام فيصل رَحمَه فيمد إِلَى ثَلَاثِينَ سنة. وَقد ورد خبر يُؤَيّد قَول ابْن عَبَّاس فِي أَنه لَا يمحى الشقاوة والسعادة وَالْأَجَل والرزق، روى حُذَيْفَة بن أسيد عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِذا وَقعت النُّطْفَة فِي الرَّحِم، وَمضى عَلَيْهَا خمس وَأَرْبَعُونَ لَيْلَة، قَالَ الْملك: يَا رب، أذكر أم أُنْثَى؟ فَيَقْضِي الله، وَيكْتب الْملك، فَيَقُول: يَا رب، أشقي أم سعيد؟ فَيَقْضِي الله تَعَالَى، وَيكْتب الْملك، فَيَقُول: يَا رب مَا الْأَجَل؟ وَمَا الرزق؟ فَيَقْضِي الله تَعَالَى وَيكْتب الْملك ثمَّ لَا يُزَاد فِيهِ وَلَا ينقص. ذكره مُسلم فِي الصَّحِيح.
99
﴿وَعِنْده أم الْكتاب (٣٩) وَإِن مَا نرينك بعض الَّذِي نعدهم أَو نتوفينك فَإِنَّمَا عَلَيْك الْبَلَاغ وعلينا الْحساب (٤٠) أولم يرَوا أَنا نأتي الأَرْض ننقصها من أطرافها وَالله﴾
وَفِي الْآيَة قَول آخر، وَهُوَ قَول الْحسن: ﴿يمحو الله مَا يَشَاء﴾ أَي: يمحو من حضر أَجله وَيثبت مَا يَشَاء من لم يحضر أَجله، وَفِي الْآيَة قَول رَابِع: أَن المُرَاد مِنْهُ أَن الْحفظَة يَكْتُبُونَ جَمِيع أَعمال بني آدم، فَيَمْحُو الله مِنْهَا مَا يَشَاء، وَهُوَ مَا لَا ثَوَاب عَلَيْهِ وَلَا عِقَاب، وَيثبت مَا يَشَاء وَهُوَ الَّذِي يسْتَحق عَلَيْهِ الثَّوَاب وَالْعِقَاب، وَقيل: ﴿يمحو الله مَا يَشَاء﴾ أَي: يمحو مَا يَشَاء لمن عَصَاهُ فختم أمره بِالطَّاعَةِ، وَيثبت بالمعصية لمن أطَاع، وَختم أمره بالمعصية. وَالْمَنْقُول عَن السّلف هِيَ الْأَقْوَال الَّتِي ذَكرنَاهَا قبل هَذَا القَوْل.
وَقَوله: ﴿وَعِنْده أم الْكتاب﴾ مَعْنَاهُ: وَعِنْده أصل الْكتاب، وأصل الْكتاب: هُوَ اللَّوْح الْمَحْفُوظ. وَفِي بعض الْأَخْبَار " أَن الله تَعَالَى ينظر فِي الْكتاب الَّذِي عِنْده لثلاث سَاعَات يبْقين من اللَّيْل؛ فَيَمْحُو مَا يَشَاء وَيثبت مَا يَشَاء، ويبدل مَا يَشَاء ويقرر مَا يَشَاء ".
100
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَإِمَّا نرينك بعض الَّذِي نعدهم﴾ الْآيَة. بعض الَّذين نعدهم، أَي: قبل وفاتك ﴿أَو نتوفينك﴾ وَقبل أَن نريك ذَلِك ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْك الْبَلَاغ﴾ أَي: التَّبْلِيغ ﴿وعلينا الْحساب﴾ يَوْم الْقِيَامَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أولم يرَوا أَنا نأتي الأَرْض ننقصها من أطرافها﴾ أَكثر الْمُفَسّرين على أَن المُرَاد من هَذَا هُوَ فتح ديار الشّرك، وَسمي ذَلِك نُقْصَانا؛ لِأَنَّهُ إِذا زَاد فِي دَار الْإِسْلَام فقد نقص من دَار الشّرك، وَهَذَا قَول ابْن عَبَّاس وَقَتَادَة وَجَمَاعَة. وَعَن ابْن عَبَّاس - فِي رِوَايَة أُخْرَى - قَالَ: هُوَ موت الأخيار وَالْعُلَمَاء. وَحكي ذَلِك عَن مُجَاهِد. وَقيل: ننقصها من أطرافها بخرابها، والساعة تقوم وكل الأَرْض خربة، وَيُقَال فِي منثور
100
﴿يحكم لَا معقب لحكمه وَهُوَ سريع الْحساب (٤١) وَقد مكر الَّذين من قبلهم فَللَّه الْمَكْر جَمِيعًا يعلم مَا تكسب كل نفس وَسَيعْلَمُ الْكفَّار لمن عُقبى الدَّار (٤٢) وَيَقُول الَّذين كفرُوا لست مُرْسلا قل كفى بِاللَّه شَهِيدا بيني وَبَيْنكُم وَمن عِنْده علم الْكتاب (٤٣) ﴾ الْكَلَام: الْأَشْرَاف على الْأَطْرَاف ليقرب مِنْهُم الأضياف. وَقَوله: ﴿وَالله يحكم لَا معقب لحكمه﴾ أَي: لَا راد وَلَا نَاقص لحكمه ﴿وَهُوَ سريع الْحساب﴾ مَعْلُوم.
101
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقد مكر الَّذين من قبلهم﴾ الْمَكْر: إِيصَال الْمَكْرُوه إِلَى الْإِنْسَان من حَيْثُ لَا يشْعر. قَوْله ﴿فَللَّه الْمَكْر جَمِيعًا﴾ أَي عِنْد الله جَزَاء مَكْرهمْ جَمِيعًا. وَقيل إِن الله خَالق مَكْرهمْ جَمِيعًا. وَقَوله: ﴿يعلم مَا تكسب كل نفس﴾ ظَاهر الْمَعْنى ﴿وَسَيعْلَمُ الْكفَّار لمن عُقبى الدَّار﴾ لمن عَاقِبَة الدَّار، وَالْآيَة تهديد ووعيد. وَقَوله: ﴿وَيَقُول الَّذين كفرُوا لست مُرْسلا﴾ ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله: ﴿قل كفى بِاللَّه شَهِيدا﴾ أَي: شَاهدا ﴿بيني وَبَيْنكُم﴾.
وَقَوله: ﴿وَمن عِنْده علم الْكتاب﴾ قَالَ قَتَادَة: هُوَ عبد الله بن سَلام، وَقيل: عبد الله بن سَلام وسلمان الْفَارِسِي وَتَمِيم الدَّارِيّ، وعَلى هَذَا جمَاعَة من التَّابِعين، وَأنكر الشّعبِيّ وَعِكْرِمَة وَجَمَاعَة هَذَا القَوْل، وَقَالُوا: السُّورَة مَكِّيَّة، وَعبد الله بن سَلام أسلم بِالْمَدِينَةِ، وَأَيْضًا فَإِن الله تَعَالَى كَيفَ يستشهد بمخلوق، وَإِنَّمَا المُرَاد مِنْهُ هُوَ الله تَعَالَى. وَقد قَرَأَ ابْن عَبَّاس: " وَمن عِنْده علم الْكتاب " وَهَذَا يبين أَن المُرَاد [مِنْهُ] هُوَ الله تَعَالَى.
وعنى عبد الله بن سَلام نَفسه، قَالَ: أَنا المُرَاد بِالْآيَةِ.
وَعَن الْحسن وَمُجاهد أَن المُرَاد هُوَ الله.
وَسَعِيد بن جُبَير قَالَ: هُوَ جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - وَالصَّحِيح أحد الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلين، وَالله أعلم.
101

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

﴿الر كتاب أَنزَلْنَاهُ إِلَيْك لتخرج النَّاس من الظُّلُمَات إِلَى النُّور بِإِذن رَبهم إِلَى صِرَاط الْعَزِيز الحميد (١) الله الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض وويل للْكَافِرِينَ من﴾
تَفْسِير سُورَة إِبْرَاهِيم
وَهِي مَكِّيَّة إِلَّا قَوْله تَعَالَى: ﴿ألم تَرَ إِلَى الَّذين بدلُوا نعْمَة الله كفرا﴾ إِلَى قَوْله: ﴿فَإِن مصيركم إِلَى النَّار﴾ وَالله أعلم.
102
وقوله :( ويقول الذين كفروا لست مرسلا ) ظاهر المعنى. وقوله :( قل كفى بالله شهيدا ) أي : شاهدا ( بيني وبينكم ).
وقوله :( ومن عنده علم الكتاب ) قال قتادة : هو عبد الله بن سلام، وقيل : عبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وتميم الداري، وعلى هذا جماعة من التابعين، وأنكر الشعبي وعكرمة وجماعة هذا القول، وقالوا : السورة مكية، وعبد الله بن سلام أسلم بالمدينة، وأيضا فإن الله تعالى كيف يستشهد بمخلوق، وإنما المراد منه هو الله تعالى، وقد قرأ ابن عباس :" ومِنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الكتاب " وهذا يبين أن المراد [ منه ] ( ١ ) هو الله تعالى.
وعن عبد الله بن سلام نفسه، قال : أنا المراد بالآية.
وعن الحسن ومجاهد أن المراد هو الله.
وسعيد بن جبير قال : هو جبريل - عليه السلام - والصحيح أحد القولين الأولين، والله أعلم.
١ - من "ك"..
Icon