تفسير سورة الرعد

تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة الرعد من كتاب تفسير القرآن العظيم المعروف بـتفسير ابن كثير .
لمؤلفه ابن كثير . المتوفي سنة 774 هـ
[ وهي مكية ]١
١ - زيادة من ت، أ..

تَفْسِيرُ سُورَةِ الرَّعْدِ
[وَهِيَ مَكِّيَّةٌ] (١)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (١) ﴾ (٢)
أَمَّا الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفُ الْمُقَطَّعَةُ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ (٣) فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وقَدَّمنا أَنَّ كُلَّ سُورَةٍ تَبتدأ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ فَفِيهَا الِانْتِصَارُ لِلْقُرْآنِ، وَتِبْيَانُ أَنْ نُزُولَهُ (٤) مِنْ عِنْدِ اللَّهِ حَقٌّ لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا مِرْيَةَ وَلَا رَيْبَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ﴾ أَيْ: هَذِهِ آيَاتُ الْكِتَابِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَقِيلَ: التَّوْارَةُ وَالْإِنْجِيلُ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ، وَفِيهِ نَظَرٌ (٥) بَلْ هُوَ بَعِيدٌ.
ثُمَّ عَطَفَ عَلَى ذَلِكَ عَطْفَ صِفَاتٍ قَوْلُهُ: ﴿وَالَّذِي أُنزلَ إِلَيْكَ﴾ أَيْ: يَا مُحَمَّدُ، ﴿مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ﴾ خَبَرٌ تَقَدَّمُ مُبْتَدَؤُهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: ﴿وَالَّذِي أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمُطَابِقُ لِتَفْسِيرِ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ. وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ زَائِدَةً أَوْ عَاطِفَةً صِفَةً (٦) عَلَى صِفَةٍ كَمَا قَدَّمْنَا، وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ الشَّاعِرُ:
إِلَى المَلك القَرْمِ وَابْنِ الهُمَام وَلَيث الْكَتِيبَةِ فِي المُزْدَحَمْ (٧)
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ كَقَوْلِهِ: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [يُوسُفَ: ١٠٣] أَيْ: مَعَ هَذَا الْبَيَانِ وَالْجَلَاءِ وَالْوُضُوحِ، لَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ لِمَا فِيهِمْ مِنَ الشِّقَاقِ وَالْعِنَادِ وَالنِّفَاقِ.
﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢) ﴾
يُخْبِرُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ: أَنَّهُ الَّذِي بِإِذْنِهِ وَأَمْرِهِ رَفَع السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عمَد، بَلْ بِإِذْنِهِ وَأَمْرِهِ (٨) وَتَسْخِيرِهِ رَفَعَهَا عَنِ الْأَرْضِ بُعدًا لَا تُنَالُ ولا يدرك مداها، فالسماء الدنيا محيطة
(١) زيادة من ت، أ.
(٢) زيادة من ت، أ.
(٣) في أ: "تقدم الكلام عليها".
(٤) في ت، أ: "أنه نزل".
(٥) في ت، أ: "وفيه تطويل".
(٦) في ت، أ: "لصفة".
(٧) البيت في تفسير الطبري (١٦/٣٢١).
(٨) في ت، أ: "بل بأمره وبإذنه".
428
بِجَمِيعِ الْأَرْضِ وَمَا حَوْلَهَا مِنَ الْمَاءِ وَالْهَوَاءِ مِنْ جَمِيعِ نَوَاحِيهَا وَجِهَاتِهَا (١) وَأَرْجَائِهَا، مُرْتَفِعَةٌ عَلَيْهَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ عَلَى السَّوَاءِ، وَبُعْدُ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَرْضِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةِ مَسِيرَةُ خَمْسمِائَةِ عَامِ، وَسُمْكُهَا فِي نَفْسِهَا مَسِيرَةُ خَمْسمِائَةِ عَامٍ. ثُمَّ السَّمَاءُ الثَّانِيَةُ مُحِيطَةٌ بِالسَّمَاءِ الدُّنْيَا وَمَا حَوَتْ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَهَا مِنَ الْبُعْدِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَسُمْكُهَا خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، ثُمَّ السَّمَاءُ الثَّالِثَةُ مُحِيطَةٌ (٢) بِالثَّانِيَةِ، بِمَا فِيهَا، وَبَيْنَهَا (٣) وَبَيْنَهَا خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَسُمْكُهَا خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَكَذَا الرَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ وَالسَّادِسَةُ وَالسَّابِعَةُ، كَمَا قَالَ [اللَّهُ] (٤) تَعَالَى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنزلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطَّلَاقِ: ١٢] وَفِي الْحَدِيثِ: "مَا السماواتُ السَّبْعُ وَمَا فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُنَّ فِي الْكُرْسِيِّ إِلَّا كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضِ فَلاة، وَالْكُرْسِيِّ فِي الْعَرْشِ كَتِلْكَ (٥) الْحَلْقَةِ فِي تِلْكَ الْفَلَاةِ (٦) وَفِي رِوَايَةٍ: "وَالْعَرْشُ لَا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ إِلَّا اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، وَجَاءَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّ بُعْدَ مَا بَيْنَ الْعَرْشِ إِلَى الْأَرْضِ مَسِيرَةَ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَبُعْدَ مَا بَيْنَ قُطْرَيْهِ مَسِيرَةَ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَهُوَ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ.
وَقَوْلُهُ: ﴿بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا﴾ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ: أَنَّهُمْ: قَالُوا: لَهَا عَمَد وَلَكِنْ لَا تُرَى.
وَقَالَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: السَّمَاءُ عَلَى الْأَرْضِ مِثْلُ الْقُبَّةِ، يَعْنِي بِلَا عَمَدٍ. وَكَذَا رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ، وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِالسِّيَاقِ. وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ﴾ [الْحَجِّ: ٦٥] فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿تَرَوْنَهَا﴾ تَأْكِيدًا لِنَفْي ذَلِكَ، أَيْ: هِيَ مَرْفُوعَةٌ بِغَيْرِ عَمْدٍ كَمَا تَرَوْنَهَا. هَذَا هُوَ الْأَكْمَلُ فِي الْقُدْرَةِ. وَفِي شِعْرِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ الَّذِي آمَنَ شِعْرُهُ وَكَفَرَ قَلْبُهُ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ (٧) وَيُرْوَى لِزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ:
وأنتَ الَّذِي مِنْ فَضْل مَنٍّ وَرَحْمَة... بَعَثتَ إلى مُوسَى رَسُولا مُنَاديا...
فقلت له: فاذهَبْ وهارونَ فادعُوَا... إِلَى اللَّهِ فرْعَونَ الَّذِي كانَ طَاغيا...
وَقُولا لَهُ: وقُولا له: أأنتَ رَفَّعتَ هَذه... بلا] (٩) عَمَد أرْفِقْ إذَا بَِك بانيَا؟...
وَقُولا لَه:
هَلْ أنتَ سَوّيت هَذه بِلَا [وتَد حَتَّى اطْمَأَنَّتْ (٨) كَمَا هِيَا
هَل أنتَ سَوَّيت وَسْطَهَا مُنيرًا إِذَا مَا جَنَّك الليَّل هاديا
(١) في ت، أ: "جهاتها ونواحيها".
(٢) في ت: "تحيط".
(٣) في أ: "بينهما".
(٤) زيادة من أ.
(٥) في أ: "كمثل".
(٦) سبق الكلام على هذا الحديث والذي بعده مفصلا عند تفسير الآية: ٢٥٥ من سورة البقرة.
(٧) رواه ابن عبد البر في التمهيد (٤/٧) من طريق أبي بكر الهذلي عن عكرمة قال: قلت لابن عباس: أرأيت ما جاء عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أمية بن أبي الصلت: "آمن شعره وكفر قلبه؟ " قال: هو حق فما أنكرتم من ذلك؟... الحديث.
(٨) في ت أ: "استقلت"، والمثبت من سيرة ابن هشام.
(٩) زيادة من ت، أ، وسيرة ابن هشام.
429
يخبر الله تعالى عن كمال قدرته وعظيم سلطانه : أنه الذي بإذنه وأمره رَفَع السماوات بغير عمَد، بل بإذنه وأمره١ وتسخيره رفعها عن الأرض بُعدًا لا تنال ولا يدرك مداها، فالسماء الدنيا محيطة
بجميع الأرض وما حولها من الماء والهواء من جميع نواحيها وجهاتها٢ وأرجائها، مرتفعة عليها من كل جانب على السواء، وبعد ما بينها وبين الأرض من كل ناحية مسيرة خمسمائة عام، وسمكها في نفسها مسيرة خمسمائة عام. ثم السماء الثانية محيطة بالسماء الدنيا وما حوت، وبينها وبينها من البعد مسيرة خمسمائة عام، وسمكها خمسمائة عام، ثم السماء الثالثة محيطة٣ بالثانية، بما فيها، وبينها٤ وبينها خمسمائة عام، وسمكها خمسمائة عام، وكذا الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة، كما قال [ الله ]٥ تعالى :﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنزلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ [ الطلاق : ١٢ ] وفي الحديث :" ما السماواتُ السبع وما فيهنّ وما بينهن في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فَلاة، والكرسي في العرش كتلك٦ الحلقة في تلك الفلاة٧ وفي رواية :" والعرش لا يقدر قدره إلا الله، عز وجل، وجاء عن بعض السلف أن بعد ما بين العرش إلى الأرض مسيرة خمسين ألف سنة، وبعد ما بين قطريه مسيرة خمسين ألف سنة، وهو من ياقوتة حمراء.
وقوله :﴿ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ﴾ روي عن ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وقتادة : أنهم : قالوا : لها عَمَد ولكن لا ترى.
وقال إياس بن معاوية : السماء على الأرض مثل القبة، يعني بلا عمد. وكذا روي عن قتادة، وهذا هو اللائق بالسياق. والظاهر من قوله تعالى :﴿ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ ﴾ [ الحج : ٦٥ ] فعلى هذا يكون قوله :﴿ ترونها ﴾ تأكيدا لنفي ذلك، أي : هي مرفوعة بغير عمد كما ترونها. هذا هو الأكمل في القدرة. وفي شعر أمية بن أبي الصلت الذي آمن شعره وكفر قلبه، كما ورد في الحديث٨ ويروى لزيد بن عمرو بن نفيل، رحمه الله ورضي عنه :فقلت له :وَقُولا له :وقُولا له :وَقُولا لَه :وقُولا له :وَقُولا له :
وأنتَ الذي مِنْ فَضْل مَنٍّ وَرَحْمَة بَعَثتَ إلى مُوسَى رَسُولا مُنَاديا
فاذهَبْ وهارونَ فادعُوَا إلى الله فرْعَونَ الذي كانَ طَاغيا
هَلْ أنتَ سَوّيت هَذه بلا [ وتَد حَتَّى اطمأنت٩ كَمَا هيا
أأنتَ رَفَّعتَ هَذه بلا ]١٠ عَمَد أرْفِقْ إذَا بَِك بانيَا ؟
هَل أنتَ سَوَّيت وَسْطَهَا مُنيرًا إذا ما جَنَّك الليَّل هاديا
مَنْ يُرْسِلُ الشَّمس غُدوةً فيُصبحَ ما مَسَّتْ مِنَ الأرضِ ضَاحيا؟
مَن يُنْبِت الحَبَّ في الثَّرَى فيُصبحَ مِنْه العُشب يَهَْتُّز رَابيا؟
وَيُْخِرجُ منْه حَبَّه في رءوسه فَفِي ذَاكَ آياتٌ لِمنْ كَانَ وَاعيَا١١
وقوله :﴿ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ تقدم تفسير ذلك في سورة " الأعراف " ١٢ وأنه يُمَرَّر١٣ كما جاء من غير تكييف، ولا تشبيه، ولا تعطيل، ولا تمثيل، تعالى الله علوا كبيرا.
وقوله :﴿ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى ﴾ قيل : المراد أنهما يجريان إلى انقطاعهما بقيام الساعة، كما في قوله تعالى :﴿ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾ [ يس : ٣٨ ].
وقيل : المراد إلى مستقرهما، وهو تحت العرش مما يلي بطن الأرض من الجانب الآخر، فإنهما وسائر الكواكب إذا وصلوا هنالك، يكونون أبعد ما يكون١٤ عن العرش ؛ لأنه على الصحيح الذي تقومُ عليه الأدلة، قبة مما يلي العالم من هذا الوجه، وليس بمحيط كسائر الأفلاك ؛ لأنه١٥ له قوائم وحملة يحملونه. ولا يتصوّر هذا في الفلك المستدير، وهذا واضح لمن تَدَبَّر ما وَرَدَتْ به الآيات والأحاديث الصحيحة، ولله الحمد والمنة.
وذكر الشمس والقمر ؛ لأنهما أظهر الكواكب السيارة السبعة، التي هي أشرف وأعظم.
من الثوابت، فإذا كان قد سخر هذه، فَلأن يدخل في التسخير سائرُ الكواكب بطريق الأولى والأحرى، كما نبه١٦ بقوله تعالى :﴿ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [ فصلت : ٣٧ ] مع أنه قد صرح بذلك بقوله١٧ ﴿ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [ الأعراف : ٥٤ ].
وقوله :﴿ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ﴾ أي : يوضح١٨ الآيات والدلالات الدالة على أنه لا إله إلا هو، وأنه يعيد الخلق إذا شاء كما ابتدأ خلقه.
١ - في ت، أ :"بل بأمره وبإذنه"..
٢ - في ت، أ :"جهاتها ونواحيها"..
٣ - في ت :"تحيط"..
٤ - في أ :"بينهما"..
٥ - زيادة من أ..
٦ - في أ :"كمثل"..
٧ - سبق الكلام على هذا الحديث والذي بعده مفصلا عند تفسير الآية : ٢٥٥ من سورة البقرة..
٨ - رواه ابن عبد البر في التمهيد (٤/٧) من طريق أبي بكر الهذلي عن عكرمة قال : قلت لابن عباس : أرأيت ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في أمية بن أبي الصلت :"آمن شعره وكفر قلبه ؟" قال : هو حق فما أنكرتم من ذلك ؟... الحديث..
٩ - في ت أ :"استقلت"، والمثبت من سيرة ابن هشام..
١٠ - زيادة من ت، أ، وسيرة ابن هشام..
١١ - الأبيات في السيرة النبوية لابن هشام (١/٢٢٨)..
١٢ - انظر : تفسير الآية : ٥٤..
١٣ - في ت :"يمر"..
١٤ - في ت، أ :"ما يكون"..
١٥ - في ت، أ :"لآن"..
١٦ - في ت :"بينه"..
١٧ - في ت :"في قوله"..
١٨ - في ت، أ :"نوضح"..
وقُولا لَهُ: مَنْ يُرْسِلُ الشَّمس غُدوةً... فيُصبحَ مَا مَسَّتْ مِنَ الأرضِ ضَاحيا؟...
وَقُولا لَهُ: مَن يُنْبِت الحَبَّ فِي الثَّرَى... فيُصبحَ مِنْه العُشب يَهَْتُّز رَابيا؟...
وَيُْخِرجُ منْه حَبَّه فِي رُءُوسِهِ فَفِي ذَاكَ آياتٌ لِمنْ كَانَ وَاعيَا (١)
وَقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ "الْأَعْرَافِ" (٢) وَأَنَّهُ يُمَرَّر (٣) كَمَا جَاءَ مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ، وَلَا تَشْبِيهٍ، وَلَا تَعْطِيلٍ، وَلَا تَمْثِيلٍ، تَعَالَى اللَّهُ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى﴾ قِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّهُمَا يَجْرِيَانِ إِلَى انْقِطَاعِهِمَا بِقِيَامِ السَّاعَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ [يس: ٣٨].
وَقِيلَ: الْمُرَادُ إِلَى مُسْتَقَرِّهِمَا، وَهُوَ تَحْتَ الْعَرْشِ مِمَّا يَلِي بَطْنَ الْأَرْضِ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، فَإِنَّهُمَا وَسَائِرُ الْكَوَاكِبِ إِذَا وَصَلُوا هُنَالِكَ، يَكُونُونَ أَبْعَدَ مَا يَكُونُ (٤) عَنِ الْعَرْشِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي تقومُ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ، قُبَّةٌ مِمَّا يَلِي الْعَالَمِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَيْسَ بِمُحِيطٍ كَسَائِرِ الْأَفْلَاكِ؛ لِأَنَّهُ (٥) لَهُ قَوَائِمُ وَحَمَلَةٌ يَحْمِلُونَهُ. وَلَا يُتَصَوَّرُ هَذَا فِي الْفَلَكِ الْمُسْتَدِيرِ، وَهَذَا وَاضِحٌ لِمَنْ تَدَبَّر مَا وَرَدَتْ بِهِ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَذَكَرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ؛ لِأَنَّهُمَا أَظْهَرُ الْكَوَاكِبِ السَّيَّارَةِ السَّبْعَةِ، الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ وَأَعْظَمُ.
مِنَ الثَّوَابِتِ، فَإِذَا كَانَ قَدْ سَخَّرَ هَذِهِ، فَلأن يُدْخُلُ فِي التَّسْخِيرِ سائرُ الْكَوَاكِبِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، كَمَا نَبَّهَ (٦) بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ [فُصِّلَتْ: ٣٧] مَعَ أَنَّهُ قَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ (٧) ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الْأَعْرَافِ: ٥٤].
وَقَوْلُهُ: ﴿يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ﴾ أَيْ: يُوَضِّحُ (٨) الْآيَاتِ وَالدَّلَالَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَأَنَّهُ يُعِيدُ الْخَلْقَ إِذَا شَاءَ كَمَا ابْتَدَأَ خَلْقَهُ.
﴿وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤) ﴾
(١) الأبيات في السيرة النبوية لابن هشام (١/٢٢٨).
(٢) انظر: تفسير الآية: ٥٤.
(٣) في ت: "يمر".
(٤) في ت، أ: "ما يكون".
(٥) في ت، أ: "لآن".
(٦) في ت: "بينه".
(٧) في ت: "في قوله".
(٨) في ت، أ: "نوضح".
430
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الْعَالَمَ الْعُلْوِيَّ، شَرَعَ فِي ذِكْرِ قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَإِحْكَامِهِ لِلْعَالَمِ السُّفْلِيِّ، فَقَالَ: ﴿وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرْضَ﴾ أَيْ: جَعَلَهَا مُتَّسِعَةً مُمْتَدَّةً فِي الطُّولِ وَالْعَرْضِ، وَأَرْسَاهَا بِجِبَالٍ رَاسِيَاتٍ شَامِخَاتٍ، وَأَجْرَى فِيهَا الْأَنْهَارَ وَالْجَدَاوِلَ وَالْعُيُونَ لِسَقْيِ مَا جَعَلَ فِيهَا مِنَ الثَّمَرَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَلْوَانِ وَالْأَشْكَالِ وَالطَّعُومِ وَالرَّوَائِحِ، مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، أَيْ: مِنْ كُلِّ شَكْلٍ صِنْفَانِ.
﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ﴾ أَيْ: جَعَلَ كُلًّا مِنْهُمَا (١) يَطْلُبُ الْآخَرَ طَلَبًا حَثِيثًا، فَإِذَا ذَهَبَ هَذَا غَشيه هَذَا، وَإِذَا انْقَضَى هَذَا جَاءَ الْآخَرُ، فَيَتَصَرَّفُ أَيْضًا فِي الزَّمَانِ كَمَا تَصَرَّفَ فِي الْمَكَانِ وَالسُّكَّانِ.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ أَيْ: فِي آلَاءِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ (٢) وَدَلَائِلِهِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ﴾ أَيْ: أراضٍ تُجَاوِرُ (٣) بَعْضُهَا بَعْضًا، مَعَ أَنَّ هَذِهِ طَيِّبَةٌ تُنْبِتُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ، وَهَذِهِ سَبَخة مَالِحَةٌ لَا تُنْبِتُ شَيْئًا. هَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، وَالضَّحَّاكُ، وَغَيْرِهِمْ.
وَكَذَا يَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ اخْتِلَافُ أَلْوَانِ بِقَاعِ الْأَرْضِ، فَهَذِهِ تُرْبَةٌ حَمْرَاءُ، وَهَذِهِ بَيْضَاءُ، وَهَذِهِ صَفْرَاءُ، وَهَذِهِ سَوْدَاءُ، وَهَذِهِ مُحَجَّرَةٌ (٤) وَهَذِهِ سَهْلَةٌ، وَهَذِهِ مُرَمَّلَةٌ، وَهَذِهِ سَمِيكَةٌ، وَهَذِهِ رَقِيقَةٌ، وَالْكُلُّ مُتَجَاوِرَاتٌ. فَهَذِهِ بِصِفَتِهَا، وَهَذِهِ بِصِفَتِهَا الْأُخْرَى، فَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَلَا رَبَّ سِوَاهُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ﴾ (٥) يُحْتَمَلُ (٦) أَنْ تَكُونَ عَاطِفَةً عَلَى ﴿جَنَّاتٍ﴾ فَيَكُونُ ﴿وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ﴾ (٧) مَرْفُوعَيْنِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى أَعْنَابٍ، فَيَكُونُ مَجْرُورًا؛ وَلِهَذَا قَرَأَ بِكُلٍّ مِنْهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ﴾ الصِّنْوَانُ: هِيَ الْأُصُولُ الْمُجْتَمِعَةُ فِي مَنْبَتٍ وَاحِدٍ، كَالرُّمَّانِ وَالتِّينِ وَبَعْضِ النَّخِيلِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَغَيْرُ الصِّنْوَانِ: مَا كَانَ عَلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ، كَسَائِرِ الْأَشْجَارِ، وَمِنْهُ سُمِّي عَمُّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعُمَرَ: "أَمَّا شَعَرْتَ (٨) أَنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ؟ " (٩).
وَقَالَ سفيان الثوري، وشعبة، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الصِّنْوَانُ: هِيَ النَّخْلَاتُ فِي أَصْلٍ وَاحِدٍ، وَغَيْرُ الصِّنْوَانِ: الْمُتَفَرِّقَاتُ. وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ.
(١) في ت: "منها".
(٢) في ت، أ: "وحكمه".
(٣) في ت: "يجاورها".
(٤) في ت: "محجر".
(٥) في ت: "وزروع" وهو خطأ.
(٦) في ت: "تحتمل".
(٧) في ت: "وزروع" وهو خطأ.
(٨) في أ: "أما علمت".
(٩) رواه مسلم في صحيحه برقم (٩٨٣) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
431
وقوله :﴿ وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ ﴾ أي : أراضٍ تجاور١ بعضها بعضا، مع أن هذه طيبة تنبت ما ينتفع به الناس، وهذه سَبَخة مالحة لا تنبت شيئا. هكذا روي عن ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جُبَيْر، والضحاك، وغيرهم.
وكذا يدخل في هذه الآية اختلاف ألوان بقاع الأرض، فهذه تربة حمراء، وهذه بيضاء، وهذه صفراء، وهذه سوداء، وهذه محجرة٢ وهذه سهلة، وهذه مرملة، وهذه سميكة، وهذه رقيقة، والكل متجاورات. فهذه بصفتها، وهذه بصفتها الأخرى، فهذا كله مما يدل على الفاعل المختار، لا إله إلا هو، ولا رب سواه.
وقوله :﴿ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ ﴾ ٣ يحتمل٤ أن تكون عاطفة على ﴿ جنات ﴾ فيكون ﴿ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ ﴾ ٥ مرفوعين. ويحتمل أن يكون معطوفا على أعناب، فيكون مجرورا ؛ ولهذا قرأ بكل منهما طائفة من الأئمة.
وقوله :﴿ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ ﴾ الصنوان : هي الأصول المجتمعة في منبت واحد، كالرمان والتين وبعض النخيل، ونحو ذلك. وغير الصنوان : ما كان على أصل واحد، كسائر الأشجار، ومنه سمي عم الرجل صنو أبيه، كما جاء في الحديث الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر :" أما شعرت٦ أن عم الرجل صنو أبيه ؟ " ٧.
وقال سفيان الثوري، وشعبة، عن أبى إسحاق، عن البراء، رضي الله عنه : الصنوان : هي النخلات في أصل واحد، وغير الصنوان : المتفرقات. وقاله ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقوله :﴿ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ ﴾ قال الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم :﴿ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ ﴾ قال :" الدَّقَل والفارسي، والحُلْو والحامض ". رواه الترمذي وقال : حسن غريب٨.
أي : هذا الاختلاف في أجناس الثمرات والزروع، في أشكالها وألوانها، وطعومها وروائحها، وأوراقها وأزهارها.
فهذا في غاية الحلاوة وذا في غاية الحموضة، وذا٩ في غاية المرارة وذا عَفِص، وهذا عذب وهذا١٠ جمع هذا وهذا، ثم يستحيل إلى طعم آخر بإذن الله تعالى. وهذا أصفر وهذا أحمر، وهذا أبيض وهذا أسود وهذا أزرق. وكذلك الزهورات مع أن كلها يستمد١١ من طبيعة واحدة، وهو الماء، مع هذا الاختلاف الكبير الذي لا ينحصر ولا ينضبط، ففي ذلك آيات لمن كان واعيا، وهذا من أعظم الدلالات على الفاعل المختار، الذي بقدرته فاوت بين الأشياء وخلقها على ما يريد ؛ ولهذا قال تعالى :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾
١ - في ت :"يجاورها"..
٢ - في ت :"محجر"..
٣ - في ت :"وزروع" وهو خطأ..
٤ - في ت :"تحتمل"..
٥ - في ت :"وزروع" وهو خطأ..
٦ - في أ :"أما علمت"..
٧ - رواه مسلم في صحيحه برقم (٩٨٣) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه..
٨ - سنن الترمذي برقم (٣١١٨). والدقل : الرديء واليابس من التمر. والفارسي : نوع من التمر..
٩ - في ت :"وهذا"..
١٠ - في ت، أ :"وهذا قد جمع"..
١١ - في ت :"تستمد"..
وَقَوْلُهُ: ﴿يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ﴾ قَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ﴾ قَالَ: "الدَّقَل وَالْفَارِسِيُّ، والحُلْو وَالْحَامِضُ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ (١).
أَيْ: هَذَا الِاخْتِلَافُ فِي أَجْنَاسِ الثَّمَرَاتِ وَالزُّرُوعِ، فِي أَشْكَالِهَا وَأَلْوَانِهَا، وَطَعُومِهَا وَرَوَائِحِهَا، وَأَوْرَاقِهَا وَأَزْهَارِهَا.
فَهَذَا فِي غَايَةِ الْحَلَاوَةِ وَذَا فِي غَايَةِ الْحُمُوضَةِ، وَذَا (٢) فِي غَايَةِ الْمَرَارَةِ وَذَا عَفِص، وَهَذَا عَذْبٌ وَهَذَا (٣) جَمَعَ هَذَا وَهَذَا، ثُمَّ يَسْتَحِيلُ إِلَى طَعْمٍ آخَرَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا أَصْفَرُ وَهَذَا أَحْمَرُ، وَهَذَا أَبْيَضُ وَهَذَا أَسْوَدُ وَهَذَا أَزْرَقُ. وَكَذَلِكَ الزُّهُورَاتُ مَعَ أَنَّ كُلَّهَا يُسْتَمَدُّ (٤) مِنْ طَبِيعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ الْمَاءُ، مَعَ هَذَا الِاخْتِلَافِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَنْحَصِرُ وَلَا يَنْضَبِطُ، فَفِي ذَلِكَ آيَاتٌ لِمَنْ كَانَ وَاعِيًا، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الدَّلَالَاتِ عَلَى الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، الَّذِي بِقُدْرَتِهِ فَاوَتَ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ وَخَلَقَهَا عَلَى مَا يُرِيدُ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾
﴿وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الأغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٥) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ: ﴿وَإِنْ تَعْجَبْ﴾ مِنْ تَكْذِيبِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِأَمْرِ الْمَعَادِ مَعَ مَا يُشَاهِدُونَهُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَدَلَالَاتِهِ فِي خَلْقِهِ عَلَى أَنَّهُ الْقَادِرُ عَلَى مَا يَشَاءُ، وَمَعَ مَا يَعْتَرِفُونَ (٥) بِهِ مِنْ أَنَّهُ ابْتَدَأَ خَلْقَ الْأَشْيَاءِ، فَكَوَّنَهَا بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا، ثُمَّ هُمْ بَعْدَ هَذَا يُكَذِّبُونَ خَبَرَهُ فِي أَنَّهُ سَيُعِيدُ الْعَالَمِينَ خَلْقًا جَدِيدًا، وَقَدِ اعْتَرَفُوا وَشَاهَدُوا مَا هُوَ أَعْجَبُ مِمَّا كَذَّبُوا بِهِ، فَالْعَجَبُ مِنْ قَوْلِهِمْ: ﴿أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ وَقَدْ عَلِمَ كل عالم وعاقل أن خلق السموات وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مَنْ خَلْقِ النَّاسِ، وَأَنَّ مَنْ بَدَأَ الْخَلْقَ فَالْإِعَادَةُ سَهْلَةٌ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾
ثُمَّ نَعَتَ الْمُكَذِّبِينَ بِهَذَا فَقَالَ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الأغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ﴾ أَيْ: يُسْحَبُونَ بِهَا فِي النَّارِ، ﴿وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ أَيْ: مَاكِثُونَ فِيهَا أَبَدًا، لَا يُحَوَّلُونَ عَنْهَا وَلَا يَزُولُونَ.
(١) سنن الترمذي برقم (٣١١٨). والدقل: الرديء واليابس من التمر. والفارسي: نوع من التمر.
(٢) في ت: "وهذا".
(٣) في ت، أ: "وهذا قد جمع".
(٤) في ت: "تستمد".
(٥) في ت، أ: "يعرفون".
﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (٦) ﴾
432
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ﴾ (١) أَيْ: هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبُونَ ﴿بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ﴾ أَيْ: بِالْعُقُوبَةِ، كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نزلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * مَا نُنزلُ الْمَلائِكَةَ إِلا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ﴾ [الْحِجْرِ: ٦ -٨] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ [الْعَنْكَبُوتِ: ٥٣، ٥٤] وَقَالَ: ﴿سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ﴾ [الْمَعَارِجِ: ١] وَقَالَ: ﴿يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ﴾ [الشُّورَى: ١٨] ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ﴾ [ص: ١٦] أَيْ: حِسَابَنَا وَعِقَابَنَا، كَمَا قَالَ مُخْبِرًا عَنْهُمْ: ﴿وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الْأَنْفَالِ: ٣٢] فَكَانُوا (٢) يَطْلُبُونَ مِنَ الرَّسُولِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِعَذَابِ اللَّهِ، وَذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ تَكْذِيبِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ﴾ أَيْ: قَدْ أَوْقَعْنَا نِقْمَتَنَا بِالْأُمَمِ الْخَالِيَةِ وَجَعَلْنَاهُمْ مُثْلَةً وَعِبْرَةً وَعِظَةً لِمَنِ اتَّعَظَ بِهِمْ.
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَوْلَا حلمه وعفوه [وغفره] (٣) لعالجهم بِالْعُقُوبَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ﴾ [فَاطِرٍ: ٤٥] (٤).
وَقَالَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ﴾ أَيْ: إِنَّهُ ذُو عَفْوٍ وَصَفْحٍ (٥) وَسَتْرٍ لِلنَّاسِ مَعَ أَنَّهُمْ يَظْلِمُونَ وَيُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. ثُمَّ قَرَنَ هَذَا الْحُكْمَ بِأَنَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ، لِيَعْتَدِلَ الرَّجَاءُ وَالْخَوْفُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ [الْأَنْعَامِ: ١٤٧] وَقَالَ: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الْأَعْرَافِ: ١٦٧] وَقَالَ: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ﴾ [الْحِجْرِ: ٤٩، ٥٠] إِلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي تَجْمَعُ الرَّجَاءَ وَالْخَوْفَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المسَيَّب قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْلَا عفوُ اللَّهِ وتجاوُزه، مَا هَنَّأَ أَحَدًا الْعَيْشَ (٦) وَلَوْلَا وَعِيدُهُ (٧) وَعِقَابُهُ، لَاتَّكَلَ كُلُّ أَحَدٍ" (٨).
وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ الْحَسَنِ بْنِ عُثْمَانَ أَبِي حَسَّانَ الزِّيَادَيِّ: أَنَّهُ رَأَى رَبَّ الْعِزَّةِ فِي
(١) في ت، أ: "ويستعجلك" وهو خطأ.
(٢) في ت: "وكانوا".
(٣) زيادة من أ.
(٤) في ت: "الناس بظلمهم" وهو خطأ.
(٥) في ت: "ذو صفح وغفر".
(٦) في ت: "العريش".
(٧) في ت: "وعده".
(٨) ورواه الواحدي في الوسيط (٣/٦) من طريق محمد بن أيوب، عن موسى بن إسماعيل، به مرسلا.
433
النَّوْمِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيْهِ يُشَفَّعُ فِي رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِهِ، فَقَالَ لَهُ: أَلَمْ يَكْفِكَ أَنِّي أَنْزَلْتُ عَلَيْكَ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ﴾ ؟ قَالَ: ثُمَّ انْتَبَهْتُ. (١)
﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (٧) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ كُفْرًا وَعِنَادًا: لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ ربه كما أرسل الأولون، كما تعتنوا عَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبَا، وَأَنْ يُزِيلَ (٢) عَنْهُمُ الْجِبَالَ، وَيَجْعَلَ مَكَانَهَا مُرُوجًا وَأَنْهَارًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا﴾ [الْإِسْرَاءِ: ٥٩].
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ﴾ أَيْ: إِنَّمَا عَلَيْكَ أَنْ تُبَلِّغَ رِسَالَةَ اللَّهِ الَّتِي أَمَرَكَ بِهَا، ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [الْبَقَرَةِ: ٢٧٢].
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَيْ: وَلِكُلِّ قَوْمٍ دَاعٍ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِهِمَا: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ مُنْذِرٌ، وَأَنَا هَادِي كُلَّ قَوْمٍ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالضَّحَّاكُ.
وَعَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ أَيْ: نَبِيٌّ. كَمَا قَالَ: ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فَاطِرٍ: ٢٤] وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ.
وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ، وَيَحْيَى بْنُ رَافِعٍ: ﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ أَيْ: قَائِدٍ.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الْهَادِي: الْقَائِدُ، وَالْقَائِدُ: الْإِمَامُ، وَالْإِمَامُ: الْعَمَلُ.
وَعَنْ عِكْرِمة، وَأَبِي الضُّحَى: ﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ قَالَا هُوَ مُحَمَّدٍ [رَسُولِ اللَّهِ] (٣) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ مَالِكٌ: ﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ مَنْ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى الصُّوفِيُّ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُسْلِمٍ بَيَّاعٌ الْهَرَوِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ قَالَ: وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ، وَقَالَ: "أَنَا الْمُنْذِرُ، وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ". وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى مَنْكِبِ عَلَيٍّ، فَقَالَ: "أَنْتَ الْهَادِي يَا عَلِيُّ، بِكَ يَهْتَدِي الْمُهْتَدُونَ مِنْ بَعْدِي".
وهذا الحديث فيه نكارة شديدة (٤).
(١) تاريخ دمشق (٤/٤٧١) "المخطوط").
(٢) في ت، أ: "يزيح".
(٣) زيادة من أ.
(٤) تفسير الطبري (١٦/٣٥٧)، وقال الذهبي في ميزان الاعتدال (١/٤٨٤) بعد أن ساقه في ترجمة الحسن بن الحسين. "رواه ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ يحيى، عن الحسن، عن معاذ، ومعاذ نكرة، فلعل الآفة منه".
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا الْمُطَّلِبُ بْنُ زِيَادٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ، عَنْ عَلَيٍّ: ﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ قَالَ: الْهَادِي: رَجُلٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ: قَالَ الْجُنَيْدُ (١) هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي إِحْدَى الرِّوَايَاتِ، وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، نَحْوَ ذَلِكَ.
﴿اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (٨) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (٩) ﴾
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ تَمَامِ عِلْمِهِ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَأَنَّهُ مُحِيطٌ بِمَا تَحْمِلُهُ الْحَوَامِلُ مِنْ كُلِّ إِنَاثِ الْحَيَوَانَاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ﴾ [لُقْمَانَ: ٣٤] أَيْ: مَا حَمَلَتْ مِنْ ذِكْرٍ أَوْ أُنْثَى، أَوْ حَسَنٍ أَوْ قَبِيحٍ، أَوْ شَقِيٍّ أَوْ سَعِيدٍ، أَوْ طَوِيلِ الْعُمُرِ أَوْ قَصِيرُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾ [النَّجْمِ: ٣٢].
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ﴾ [الزُّمَرِ: ٦] أَيْ: خَلَقَكُمْ طَوْرًا مِنْ بَعْدِ طَوْرٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [الْمُؤْمِنُونَ: ١٢: ١٤] وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (٢) صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: "إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: يَكْتب رِزْقَهُ، وَعُمُرَهُ، وَعَمَلَهُ، وَشِقِّيٌ أَوْ سَعِيدٌ" (٣).
وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: "فَيَقُولُ الْمَلَكُ: أيْ رَبِّ، أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ أَيْ رَبِّ، أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فَمَا الرِّزْقُ؟ فَمَا الْأَجَلُ؟ فَيَقُولُ اللَّهُ، وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ" (٤).
وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ﴾ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا مَعْن، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهَا (٥) إِلَّا اللَّهُ: لَا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِي الْمَطَرُ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، وَلَا يَعْلَمُ مَتَى تقوم الساعة إلا الله" (٦).
(١) في أ: "ابن الجنيد".
(٢) في ت: "النبي".
(٣) صحيح البخاري برقم (٣٢٠٨) وصحيح مسلم برقم (٢٦٤٣).
(٤) رواه مسلم في صحيحه برقم (٢٦٤٥) من حديث حذيفة بن أسيد، رضي الله عنه.
(٥) في ت: "لا يعلمهن".
(٦) صحيح البخاري برقم (٤٦٩٧).
435
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ﴾ يَعْنِي: السَقْط ﴿وَمَا تَزْدَادُ﴾ يَقُولُ: مَا زَادَتِ الرَّحِمَ فِي الْحَمْلِ عَلَى مَا غَاضَتْ حَتَّى وَلَدَتْهُ تَمَامًا. وَذَلِكَ أَنَّ مِنَ النِّسَاءِ مَنْ تَحْمِلُ عَشْرَةَ أَشْهُرَ، وَمِنْهُنَّ مَنْ تَحْمِلُ تِسْعَةَ أَشْهُرَ، وَمِنْهُنَّ مَنْ تَزِيدُ فِي الْحَمْلِ، وَمِنْهُنَّ مَنْ تَنْقُصُ، فَذَلِكَ الْغَيْضُ (١) وَالزِّيَادَةُ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى، وَكُلُّ ذَلِكَ بِعِلْمِهِ تَعَالَى.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ﴾ قَالَ: مَا نَقَصَتْ مِنْ تِسْعَةٍ وَمَا زَادَ عَلَيْهَا.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: وَضَعَتْنِي أُمِّي وَقَدْ حَمَلَتْنِي فِي بَطْنِهَا سَنَتَيْنِ، وَوَلَدَتْنِي وَقَدْ نَبَتَتْ ثنيَّتي.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْج، عَنْ جَمِيلَةَ بِنْتِ سَعْدٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَا يَكُونُ الْحَمْلُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ، قَدْرَ مَا يَتَحَرَّكُ ظِل مغْزَل.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ﴾ قَالَ: مَا تَرَى مِنَ الدَّمِ فِي حَمْلِهَا، وَمَا تَزْدَادُ عَلَى تِسْعَةِ أَشْهُرٍ. وَبِهِ قَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ وَقَتَادَةُ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَالضَّحَّاكُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: إِذَا رَأَتِ الْمَرْأَةُ الدَّمَ دُونَ التِّسْعَةِ زَادَ عَلَى التِّسْعَةِ، مِثْلَ أَيَّامِ الْحَيْضِ. وَقَالَهُ عِكْرِمة، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَابْنُ زَيْدٍ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: ﴿وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ﴾ إِرَاقَةُ الْمَرْأَةِ حَتَّى يَخِسَّ الْوَلَدُ ﴿وَمَا تَزْدَادُ﴾ إِنْ لَمْ تُهْرِقِ الْمَرْأَةُ تَمَّ الْوَلَدُ وَعَظُمَ.
وَقَالَ مَكْحُولٌ: الْجَنِينُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ لَا يَطْلُبُ، وَلَا يَحْزَنُ وَلَا يَغْتَمُّ، وَإِنَّمَا يَأْتِيهِ رِزْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ مِنْ دَمِ حَيْضَتِهَا (٢) فَمِنْ ثَمَّ لَا تَحِيضُ الْحَامِلُ. فَإِذَا وَقَعَ إِلَى الْأَرْضِ اسْتَهَلَّ، وَاسْتِهْلَالُهُ اسْتِنْكَارٌ (٣) لِمَكَانِهِ، فَإِذَا قُطِعَتْ سُرَّتُهُ حَوَّلَ اللَّهُ رِزْقَهُ إِلَى ثَدْيَيْ أُمِّهِ حَتَّى لَا يَطْلُبَ وَلَا يَحْزَنَ وَلَا يَغْتَمَّ، ثُمَّ يَصِيرُ طِفْلًا يَتَنَاوَلُ الشَّيْءَ بِكَفِّهِ فَيَأْكُلُهُ، فَإِذَا هُوَ بَلَغَ قَالَ: هُوَ الْمَوْتُ أَوِ الْقَتْلُ، أنَّى لِي بِالرِّزْقِ؟ فَيَقُولُ مَكْحُولٌ: يَا وَيْلَكَ (٤) ! غَذاك وَأَنْتَ فِي بَطْنِ أُمِّكَ، وَأَنْتَ طِفْلٌ صَغِيرٌ، حَتَّى إِذَا اشْتَدَدْتَ وَعَقَلْتَ قُلْتَ: هُوَ الْمَوْتُ أَوِ الْقَتْلُ، أَنَّى لِي بِالرِّزْقِ؟ ثُمَّ قَرَأَ مَكْحُولٌ: ﴿اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ﴾
وَقَالَ قَتَادَةُ: ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ﴾ أَيْ: بِأَجْلٍ، حَفِظَ أَرْزَاقَ خَلْقِهِ وَآجَالَهُمْ، وَجَعَلَ لِذَلِكَ أَجَلًا مَعْلُومًا.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أَنَّ إِحْدَى بَنَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَتْ إِلَيْهِ: أَنَّ ابْنًا لَهَا فِي الْمَوْتِ، وَأَنَّهَا تُحِبُّ أَنْ يَحْضُرَهُ. فَبَعَثَ إِلَيْهَا يَقُولُ: "إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ، وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى، فَمُرُوهَا
(١) في ت: "الغيظ".
(٢) في ت: "حيضها".
(٣) في ت: "استشكار".
(٤) في ت: "يا ويحك".
436
وقوله :﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ﴾ أي : يعلم كل شيء مما يشاهده العباد ومما يغيب عنهم، ولا يخفى١ عليه منه شيء. ﴿ الكبير ﴾ الذي هو أكبر من كل شيء، ﴿ المتعال ﴾ أي : على كل شيء، قد أحاط بكل شيء علما، وقهر كل شيء، فخضعت له الرقاب ودان له العباد، طوعا وكرها.
١ - في ت :"لا يخفى"..
فَلْتَصْبِرْ وَلِتَحْتَسِبْ" الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ (١)
وَقَوْلُهُ: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ أَيْ: يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ مِمَّا يُشَاهِدُهُ الْعِبَادُ وَمِمَّا يَغِيبُ عَنْهُمْ، وَلَا يَخْفَى (٢) عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ. ﴿الْكَبِيرُ﴾ الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، ﴿الْمُتَعَالِ﴾ أَيْ: عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَقَهَرَ كُلَّ شَيْءٍ، فَخَضَعَتْ لَهُ الرِّقَابُ وَدَانَ لَهُ الْعِبَادُ، طَوْعًا وَكَرْهًا.
﴿سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (١٠) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (١١) ﴾
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ إِحَاطَةِ عِلْمِهِ بِجَمِيعِ خَلْقِهِ، سَوَاءٌ (٣) مِنْهُمْ مَنْ أَسَرَّ قَوْلَهُ أَوْ جَهَرَ بِهِ، فَإِنَّهُ يَسْمَعُهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ كَمَا قَالَ: ﴿وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ [طَهَ: ٧] وَقَالَ: ﴿وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ [النَّمْلِ: ٢٥] وَقَالَتْ عَائِشَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: سُبْحَانَ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتَ، وَاللَّهِ لَقَدْ جَاءَتِ الْمُجَادِلَةُ تَشْتَكِي زَوْجَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، وَأَنَا فِي جَنْبِ الْبَيْتِ، وَإِنَّهُ لَيَخْفَى عليَّ بَعْضُ كَلَامِهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ [الْمُجَادَلَةِ: ١].
وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ﴾ أَيْ: مُخْتَفٍ فِي قَعْرِ بَيْتِهِ فِي ظَلَامِ اللَّيْلِ، ﴿وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ﴾ أَيْ: ظَاهِرٌ مَاشٍ فِي بَيَاضِ النَّهَارِ وَضِيَائِهِ، فَإِنَّ كِلَيْهِمَا (٤) فِي عِلْمِ اللَّهِ عَلَى السَّوَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ [هُودٍ: ٥] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [يُونُسَ: ٦١].
وَقَوْلُهُ: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ أَيْ: لِلْعَبْدِ مَلَائِكَةٌ يَتَعَاقَبُونَ عَلَيْهِ، حَرَس بِاللَّيْلِ وحَرَس بِالنَّهَارِ، يَحْفَظُونَهُ مِنَ الْأَسْوَاءِ (٥) وَالْحَادِثَاتِ، كَمَا يَتَعَاقَبُ مَلَائِكَةٌ آخَرُونَ لِحِفْظِ الْأَعْمَالِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، فَاثْنَانِ عَنِ الْيَمِينِ و [عَنِ] (٦) الشِّمَالِ يَكْتُبَانِ الْأَعْمَالَ، صَاحِبُ الْيَمِينِ يَكْتُبُ الْحَسَنَاتِ، وَصَاحِبُ الشِّمَالِ يَكْتُبُ السَّيِّئَاتِ، وَمَلَكَانِ آخَرَانِ يَحْفَظَانِهِ وَيَحْرُسَانِهِ، وَاحِدًا (٧) مِنْ وَرَائِهِ وَآخِرَ مَنْ قُدَّامِهِ، فَهُوَ بَيْنُ أَرْبَعَةِ أَمْلَاكٍ بِالنَّهَارِ، وَأَرْبَعَةٍ آخَرِينَ بِاللَّيْلِ بَدَلًا حَافِظَانِ وَكَاتِبَانِ، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ: "يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ، فَيَصْعَدُ إِلَيْهِ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بكم:
(١) زيادة من ت.
(٢) في ت: "لا يخفى".
(٣) في ت: "وأنه سواء".
(٤) في ت: "كلاهما".
(٥) في ت: "الأنواء".
(٦) زيادة من ت.
(٧) في ت: "وآخر".
437
كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: أَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَتَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ" (١) وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: "إِنَّ مَعَكُمْ مَنْ لَا يُفَارِقَكُمْ إِلَّا عِنْدَ الْخَلَاءِ وَعِنْدَ الْجِمَاعِ، فَاسْتَحْيُوهُمْ وَأَكْرِمُوهُمْ" (٢).
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ وَالْمُعَقِّبَاتُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، وَهِيَ الْمَلَائِكَةُ.
وَقَالَ عِكْرِمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ قَالَ: مَلَائِكَةٌ يَحْفَظُونَهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمَنْ خَلْفِهِ، فَإِذَا جَاءَ قَدَرُ اللَّهِ خَلَّوا عَنْهُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا مِنْ عَبْدٍ إِلَّا لَهُ (٣) مَلَك مُوَكَّلٌ، يَحْفَظُهُ فِي نَوْمِهِ وَيَقَظَتِهِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْهَوَامِّ، فَمَا مِنْهَا شَيْءٌ يَأْتِيهِ يُرِيدُهُ إِلَّا قَالَ الْمَلَكُ: وَرَاءَكَ إِلَّا شَيْءٌ يَأْذَنُ اللَّهُ فِيهِ فَيُصِيبُهُ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ﴾ قَالَ: ذَلِكَ (٤) مَلِكٌ مَنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا، لَهُ حَرَسٌ مَنْ دُونِهِ حَرَسٌ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ﴾ يَعْنِي: وَلِيَّ الشَّيْطَانِ، يَكُونُ عَلَيْهِ الْحَرَسُ. وَقَالَ عِكْرِمة فِي تَفْسِيرِهَا: هَؤُلَاءِ الْأُمَرَاءُ: الْمَوَاكِبُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمَنْ خَلْفِهِ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ قَالَ: هُوَ السُّلْطَانُ (٥) الْمُحْتَرِسُ (٦) مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، وَهُمْ أَهْلُ الشِّرْكِ.
وَالظَّاهِرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّ مُرَاد ابْنِ عَبَّاسٍ وعِكْرِمة وَالضَّحَّاكِ بِهَذَا أَنَّ حَرْسَ الْمَلَائِكَةِ لِلْعَبِيدِ (٧) يُشْبِهُ حَرْسَ هَؤُلَاءِ لِمُلُوكِهِمْ وَأُمَرَائِهِمْ.
وَقَدْ روى الإمام أبو جعفر ابن جَرِيرٍ هَاهُنَا حَدِيثًا غَرِيبًا جِدًّا فَقَالَ:
حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ صَالِحٍ الْقُشَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ جَرِيرٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ كِنَانَةَ الْعَدَوِيِّ قَالَ: دَخَلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي عَنِ الْعَبْدِ، كَمْ مَعَهُ مَنْ مَلَكٍ (٨) ؟ فَقَالَ: "مَلَكٌ عَلَى يَمِينِكَ عَلَى حَسَنَاتِكَ، وَهُوَ آمِرٌ (٩) عَلَى الَّذِي عَلَى الشِّمَالِ، إِذَا عَمِلْتَ حَسَنَةً كُتِبَتْ عَشْرًا، فَإِذَا عَمِلْتَ سَيِّئَةً قَالَ الَّذِي عَلَى الشِّمَالِ لِلَّذِي عَلَى الْيَمِينِ: أَكْتُبُ؟ قَالَ: لَا لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَيَتُوبُ. فَإِذَا قَالَ ثلاثا قال:
(١) صحيح البخاري برقم (٥٥٥، ٧٤٢٩) وصحيح مسلم برقم (٦٣٢).
(٢) رواه الترمذي في السنن برقم (٢٨٠٠) من طريق لَيْثٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، رَضِيَ الله عنه، مرفوعا، وأوله: "إياكم والتحري فإن معكم". الحديث. وقال التِّرْمِذِيُّ: "هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ".
(٣) في ت، أ: "به".
(٤) في ت، أ: "ذكر".
(٥) في ت: "الشيطان".
(٦) في أ: "المحروس".
(٧) في ت، أ: "للعبد".
(٨) في ت، أ: "كم ملك معه".
(٩) في ت، أ: "وهو أمين".
438
نَعَمْ، اكْتُبْ أَرَاحَنَا اللَّهُ مِنْهُ، فَبِئْسَ الْقَرِينُ. مَا أَقَلَّ مُرَاقَبَتَهُ لِلَّهِ وَأَقَلَّ اسْتِحْيَاءَهُ مِنَّا". يَقُولُ اللَّهُ: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: ١٨] وَمَلَكَانِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْكَ وَمَنْ خَلْفِكَ، يَقُولُ اللَّهُ: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ وَمَلَكٌ قَابِضٌ عَلَى نَاصِيَتِكَ، فَإِذَا تَوَاضَعْتَ لِلَّهِ رَفَعَكَ، وَإِذَا تَجَبَّرْتَ عَلَى اللَّهِ قَصَمَكَ، وَمَلَكَانِ عَلَى شَفَتَيْكَ، لَيْسَ يَحْفَظَانِ عَلَيْكَ إِلَّا الصَّلَاةَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَلَكٌ قَائِمٌ عَلَى فِيكَ لَا يَدَع الْحَيَّةَ أَنَّ تَدَخُلَ فِي فِيكَ، وَمَلَكَانِ عَلَى عَيْنَيْكَ فَهَؤُلَاءِ عَشْرَةُ أَمْلَاكٍ عَلَى كُلِّ آدَمِيٍّ (١) يَنْزِلُونَ (٢) مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ عَلَى مَلَائِكَةِ النَّهَارِ؛ لِأَنَّ مَلَائِكَةَ اللَّيْلِ سِوَى مَلَائِكَةِ النَّهَارِ، فَهَؤُلَاءِ عِشْرُونَ مَلَكًا عَلَى كُلِّ آدَمِيٍّ وَإِبْلِيسُ بِالنَّهَارِ وَوَلَدُهُ بِاللَّيْلِ" (٣).
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنِي مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ وَقَرِينُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ". قَالُوا: وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "وَإِيَّايَ، وَلَكِنْ أَعَانَنِي اللَّهُ عَلَيْهِ (٤) فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ".
انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ (٥).
وَقَوْلُهُ: ﴿يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ قِيلَ: الْمُرَادُ حفظُهم لَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ. رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، وَغَيْرُهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعي، وَغَيْرُهُمْ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: ﴿يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ قَالَ: وَفِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ: "يَحْفَظُونَهُ بِأَمْرِ اللَّهِ".
وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: لَوْ تجلَّى لِابْنِ آدَمَ كُلُّ سَهْلٍ وَحَزَنٍ، لَرَأَى كُلَّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ شَيَاطِينَ (٦) لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ وكَّل بِكُمْ مَلَائِكَةً عَنْكُمْ فِي مَطْعَمِكُمْ وَمَشْرَبِكُمْ وَعَوْرَاتِكُمْ، إِذًا لتُخُطّفتم.
وَقَالَ أَبُو أُمَامَةَ (٧) مَا مِنْ آدَمِيٍّ إِلَّا وَمَعَهُ مَلَكٌ يَذُود عَنْهُ، حَتَّى يُسْلِمَهُ لِلَّذِي قُدِّرَ لَهُ.
وَقَالَ أَبُو مِجْلَز: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ مُرَاد إِلَى عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَ: احْتَرِسْ، فَإِنَّ نَاسًا مِنْ مُرَادٍ يُرِيدُونَ قَتْلَكَ. فَقَالَ: إِنْ مَعَ كُلِّ رَجُلٍ مَلَكَيْنِ يَحْفَظَانِهِ مِمَّا لَمْ يُقَدَّرْ، فَإِذَا جَاءَ القَدَرُ خَليا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَإِنَّ الْأَجَلَ جُنَّةٌ حَصِينة. (٨)
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: ﴿يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ بِأَمْرِ اللَّهِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ رُقَى نَسْتَرْقِي بِهَا، هَلْ تَرُدُّ مَنْ قَدَر اللَّهِ شَيْئًا؟ فَقَالَ: "هِيَ مَنْ قَدَر الله" (٩).
(١) في ت، أ: "على كل بني آدم".
(٢) في ت، أ: "يبدلون".
(٣) تفسير الطبري (١٦/٣٧٠).
(٤) في ت، أ: "ولكن الله أعانني عليه".
(٥) المسند (١/٣٩٧) وصحيح مسلم برقم (٢٨١٤)
(٦) في ت، أ: "من ذلك ساء نفسه".
(٧) في أ: "أبو أسامة".
(٨) رواه الطبري في تفسيره (١٦/٣٧٨).
(٩) رواه الترمذي في السنن برقم (٢٠٦٥) من حديث أبي خزامة وقال: "حديث حسن".
439
وقوله :﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ﴾ أي : للعبد ملائكة يتعاقبون عليه، حَرَس بالليل وحَرَس بالنهار، يحفظونه من الأسواء١ والحادثات، كما يتعاقب ملائكة آخرون لحفظ الأعمال من خير أو شر، ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، فاثنان عن اليمين و[ عن ]٢ الشمال يكتبان الأعمال، صاحب اليمين يكتب الحسنات، وصاحب الشمال يكتب السيئات، وملكان آخران يحفظانه ويحرسانه، واحدا٣ من ورائه وآخر من قدامه، فهو بين أربعة أملاك بالنهار، وأربعة آخرين بالليل بدلا حافظان وكاتبان، كما جاء في الصحيح :" يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر، فيصعد إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بكم :
كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون : أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون " ٤ وفي الحديث الآخر :" إن معكم من لا يفارقكم إلا عند الخلاء وعند الجماع، فاستحيوهم وأكرموهم " ٥.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس :﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ﴾ والمعقبات من أمر الله، وهي الملائكة.
وقال عِكْرِمة، عن ابن عباس :﴿ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ﴾ قال : ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، فإذا جاء قدر الله خَلَّوا عنه.
وقال مجاهد : ما من عبد إلا له٦ مَلَك موكل، يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام، فما منها شيء يأتيه يريده إلا قال الملك : وراءك إلا شيء يأذن الله فيه فيصيبه.
وقال الثوري عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس :﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ﴾ قال : ذلك٧ ملك من ملوك الدنيا، له حرس من دونه حرس.
وقال العوفي، عن ابن عباس :﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ﴾ يعني : ولي الشيطان، يكون عليه الحرس. وقال عِكْرِمة في تفسيرها : هؤلاء الأمراء : المواكب من بين يديه ومن خلفه.
وقال الضحاك :﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ﴾ قال : هو السلطان٨ المحترس٩ من أمر الله، وهم أهل الشرك.
والظاهر، والله أعلم، أن مُرَاد ابن عباس وعِكْرِمة والضحاك بهذا أن حرس الملائكة للعبيد١٠ يشبه حرس هؤلاء لملوكهم وأمرائهم.
وقد روى الإمام أبو جعفر ابن جرير هاهنا حديثًا غريبا جدا فقال :
حدثني المثنى، حدثنا إبراهيم بن عبد السلام بن صالح القشيري، حدثنا علي بن جرير، عن حماد بن سلمة، عن عبد الحميد بن جعفر، عن كنانة العدوي قال : دخل عثمان بن عفان على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال : يا رسول الله، أخبرني عن العبد، كم معه من ملك١١ ؟ فقال :" ملك على يمينك على حسناتك، وهو آمر١٢ على الذي على الشمال، إذا عملت حسنة كتبت عشرا، فإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال للذي على اليمين : اكتب ؟ قال : لا لعله يستغفر الله ويتوب. فإذا قال ثلاثا قال :
نعم، اكتب أراحنا الله منه، فبئس القرين. ما أقل مراقبته لله وأقل استحياءه منا ". يقول الله :﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ ق : ١٨ ] وملكان من بين يديك ومن خلفك، يقول الله :﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ﴾ وملك قابض على ناصيتك، فإذا تواضعت لله رفعك، وإذا تجبرت على الله قصمك، وملكان على شفتيك، ليس يحفظان عليك إلا الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم، وملك قائم على فيك لا يَدَع الحية أن تدخل في فيك، وملكان على عينيك فهؤلاء عشرة أملاك على كل آدمي١٣ ينزلون١٤ ملائكة الليل على ملائكة النهار ؛ لأن ملائكة الليل سوى ملائكة النهار، فهؤلاء عشرون ملكا على كل آدمي وإبليس بالنهار وولده بالليل " ١٥.
قال الإمام أحمد، رحمه الله : حدثنا أسود بن عامر، حدثنا سفيان، حدثني منصور، عن سالم بن أبي الجعد عن أبيه، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة ". قالوا : وإياك يا رسول الله، قال :" وإياي، ولكن أعانني الله عليه١٦ فلا يأمرني إلا بخير ".
انفرد بإخراجه مسلم١٧.
وقوله :﴿ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ﴾ قيل : المراد حفظُهم له من أمر الله. رواه علي بن أبي طلحة، وغيره، عن ابن عباس. وإليه ذهب مجاهد، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النَّخَعي، وغيرهم.
وقال قتادة :﴿ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ﴾ قال : وفي بعض القراءات :" يحفظونه بأمر الله ".
وقال كعب الأحبار : لو تجلَّى لابن آدم كل سهل وحزن، لرأى كل شيء من ذلك شياطين١٨ لولا أن الله وكَّل بكم ملائكة عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم، إذا لتُخُطّفتم.
وقال أبو أمامة١٩ ما من آدمي إلا ومعه ملك يَذُود عنه، حتى يسلمه للذي قدر له.
وقال أبو مِجْلَز : جاء رجل من مُرَاد إلى علي، رضي الله عنه، وهو يصلي، فقال : احترس، فإن ناسًا من مراد يريدون قتلك. فقال : إن مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يقدّر، فإذا جاء القَدَرُ خَليا بينه وبينه، وإن الأجل جنة حَصِينة٢٠. وقال بعضهم :﴿ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ﴾ بأمر الله، كما جاء في الحديث أنهم قالوا : يا رسول الله، أرأيت رُقَى نسترقي بها، هل ترد من قَدَر الله شيئا ؟ فقال :" هي من قَدَر الله " ٢١.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا حفص بن غياث، عن أشعث، عن جَهْم، عن إبراهيم قال : أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل : أن قل لقومك : إنه ليس من أهل قرية ولا أهل بيت يكونون على طاعة الله فيتحولون منها إلى معصية الله، إلا تحول لهم مما يحبون إلى ما يكرهون، ثم قال : إن مصداق٢٢ ذلك في كتاب الله :﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾
وقد ورد هذا في حديث مرفوع، فقال الحافظ محمد بن عثمان بن أبي شيبة في كتابه " صفة العرش " : حدثنا الحسن بن علي، حدثنا الهيثم بن الأشعث السلمي، حدثنا أبو حنيفة اليمامي٢٣ الأنصاري، عن عمير بن عبد الله٢٤ قال : خطبنا علي بن أبي طالب على منبر الكوفة، قال : كنت إذا سكتُّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدأني، وإذا سألته عن الخبر أنبأني، وإنه حدثني عن ربه، عز وجل، قال :" قال الرب : وعزتي وجلالي، وارتفاعي فوق عرشي، ما من أهل قرية ولا أهل بيت كانوا على ما كرهتُ من معصيتي، ثم تحولوا عنها إلى ما أحببت من طاعتي، إلا تحولت لهم عما يكرهون من عذابي إلى ما يحبون من رحمتي " ٢٥.
وهذا غريب، وفي إسناده من لا أعرفه.
١ - في ت :"الأنواء"..
٢ - زيادة من ت..
٣ - في ت :"وآخر"..
٤ - صحيح البخاري برقم (٥٥٥، ٧٤٢٩) وصحيح مسلم برقم (٦٣٢)..
٥ - رواه الترمذي في السنن برقم (٢٨٠٠) من طريق ليث، عن نافع، عن ابن عمر، رضي الله عنه، مرفوعا، وأوله :"إياكم والتحري فإن معكم". الحديث. وقال الترمذي :"هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه"..
٦ - في ت، أ :"به"..
٧ - في ت، أ :"ذكر"..
٨ - في ت :"الشيطان"..
٩ - في أ :"المحروس"..
١٠ - في ت، أ :"للعبد"..
١١ - في ت، أ :"كم ملك معه"..
١٢ - في ت، أ :"وهو أمين"..
١٣ - في ت، أ :"على كل بني آدم"..
١٤ - في ت، أ :"يبدلون"..
١٥ - تفسير الطبري (١٦/٣٧٠)..
١٦ - في ت، أ :"ولكن الله أعانني عليه"..
١٧ - المسند (١/٣٩٧) وصحيح مسلم برقم (٢٨١٤).
١٨ - في ت، أ :"من ذلك ساء نفسه"..
١٩ - في أ :"أبو أسامة"..
٢٠ - رواه الطبري في تفسيره (١٦/٣٧٨)..
٢١ - رواه الترمذي في السنن برقم (٢٠٦٥) من حديث أبي خزامة وقال :"حديث حسن"..
٢٢ - في ت، أ :"تصديق"..
٢٣ - في هـ، ت، أ :"اليماني" والصواب ما أثبتناه..
٢٤ - في هـ، ت، أ :"عبد الملك"، والصواب ما أثبتناه..
٢٥ - صفة العرش برقم (١٩) والهيثم مجهول وشيخه لم أجد له ترجمة..
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ جَهْم، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: أَوْحَى اللَّهُ إِلَى نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَنْ قُلْ لِقَوْمِكَ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ وَلَا أَهْلِ بَيْتٍ يَكُونُونَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ فَيَتَحَوَّلُونَ مِنْهَا إِلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ، إِلَّا تَحَوَّلَ لَهُمْ مِمَّا يُحِبُّونَ إِلَى مَا يَكْرَهُونَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ مِصْدَاقَ (١) ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾
وَقَدْ وَرَدَ هَذَا فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ، فَقَالَ الْحَافِظُ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ فِي كِتَابِهِ "صِفَةُ الْعَرْشِ": حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ الْأَشْعَثِ السُّلَمِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو حَنِيفَةَ الْيَمَامِيُّ (٢) الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (٣) قَالَ: خَطَبَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ، قَالَ: كُنْتُ إِذَا سكتُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْتَدَأَنِي، وَإِذَا سَأَلْتُهُ عَنِ الْخَبَرِ أَنْبَأَنِي، وَإِنَّهُ حَدَّثَنِي عَنْ رَبِّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: "قَالَ الرَّبُّ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي، وَارْتِفَاعِي فَوْقَ عَرْشِي، مَا مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ وَلَا أَهْلِ بَيْتٍ كَانُوا عَلَى مَا كرهتُ مِنْ مَعْصِيَتِي، ثُمَّ تَحَوَّلُوا عَنْهَا إِلَى مَا أَحْبَبْتُ مِنْ طَاعَتِي، إِلَّا تَحَوَّلْتُ لَهُمْ عَمَّا يَكْرَهُونَ مِنْ عَذَابِي إِلَى مَا يُحِبُّونَ مِنْ رَحْمَتِي" (٤).
وَهَذَا غَرِيبٌ، وَفِي إِسْنَادِهِ مَنْ لَا أَعْرِفُهُ.
﴿هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (١٢) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (١٣) ﴾
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُسَخِّرُ الْبَرْقَ، وَهُوَ مَا يُرَى (٥) مِنَ النُّورِ اللَّامِعِ سَاطِعًا مِنْ خِلَلِ السَّحَابِ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَتَبَ إِلَى أَبِي الْجَلْدِ يَسْأَلُهُ عَنِ الْبَرْقِ، فَقَالَ: الْبَرْقُ: الْمَاءُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿خَوْفًا وَطَمَعًا﴾ قَالَ قَتَادَةُ: خَوْفًا لِلْمُسَافِرِ، يَخَافُ أَذَاهُ وَمَشَقَّتَهُ، وَطَمَعًا لِلْمُقِيمِ يَرْجُو بَرَكَتَهُ وَمَنْفَعَتَهُ، وَيَطْمَعُ فِي رِزْقِ اللَّهِ.
﴿وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ﴾ أَيْ: وَيَخْلُقُهَا مُنْشَأَةً جَدِيدَةً، وَهِيَ لِكَثْرَةِ مَائِهَا ثَقِيلَةٌ قَرِيبَةٌ إِلَى الْأَرْضِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: والسحاب الثقال: الذي فيه الماء.
(١) في ت، أ: "تصديق".
(٢) في هـ، ت، أ: "اليماني" والصواب ما أثبتناه.
(٣) في هـ، ت، أ: "عبد الملك"، والصواب ما أثبتناه.
(٤) صفة العرش برقم (١٩) والهيثم مجهول وشيخه لم أجد له ترجمة.
(٥) في ت: "ما ترى".
440
﴿وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ﴾ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ [الْإِسْرَاءِ: ٤٤].
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، أَخْبَرَنِي أَبِي قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا إِلَى جَنْبِ حُمَيْد بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي الْمَسْجِدِ، فَمَرَّ شَيْخٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ حُمَيْدٌ، فَلَمَّا أَقْبَلَ قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، وَسِّعْ (١) لَهُ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ، فَإِنَّهُ قَدْ صَحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ، فَقَالَ لَهُ حُمَيْدٌ: مَا الْحَدِيثُ الَّذِي حَدَّثْتَنِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال الشَّيْخُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ يُنْشِئُ السَّحَابَ، فَيَنْطِقُ أَحْسَنَ النُّطْقِ، وَيَضْحَكُ أَحْسَنَ الضَّحِكِ" (٢).
وَالْمُرَادُ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ -أَنَّ نطقَها الرعدُ، وَضَحِكَهَا البرقُ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: يَبْعَثُ اللَّهُ الْغَيْثَ، فَلَا أَحْسَنَ مِنْهُ مَضْحَكًا، وَلَا آنَسَ مِنْهُ مَنْطِقًا، فَضَحِكُهُ الْبَرْقُ، وَمَنْطِقُهُ الرَّعْدُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ الْبَرْقَ مَلكٌ لَهُ أَرْبَعَةُ وُجُوهٍ: وَجْهُ إِنْسَانٍ، وَوَجْهُ ثَوْرٍ، وَوَجْهُ نَسْرٍ، وَوَجْهُ أَسَدٍ، فَإِذَا مَصَع (٣) بِذَنَبِهِ فَذَاكَ الْبَرْقُ. (٤)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ، حَدَّثَنِي أَبُو مَطَرٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَمع الرعْد وَالصَّوَاعِقَ قَالَ: "اللَّهُمَّ، لَا تَقْتُلْنَا بِغَضَبِكَ، وَلَا تُهْلِكْنَا بِعَذَابِكَ، وَعَافِنَا قَبْلَ ذَلِكَ".
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ، وَالنَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، مِنْ حَدِيثِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرَطَاةَ، عَنْ أَبِي مَطَرٍ -وَلَمْ يُسَمَّ بِهِ. (٥)
وَقَالَ [الْإِمَامُ] (٦) أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِيهِ (٧) عَنْ رَجُلٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَفَعَ الْحَدِيثَ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ إِذَا سَمِعَ الرَّعْدَ قَالَ: "سُبْحَانَ مَنْ يُسبّح الرعْد بِحَمْدِهِ". (٨)
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَمِعَ صَوْتَ الرَّعْدِ قَالَ: سبحان من سَبَّحت له.
(١) في ت: "أوسع".
(٢) المسند (٥/٤٣٥).
(٣) في ت: "قصع".
(٤) وهذا لا أصل له من كتاب ولا سنة، وهو من الخيال.
(٥) المسند (٢/١٠٠) وسنن الترمذي (٣٤٥٠) والأدب المفرد برقم (٧٢٢) والنسائي في السنن الكبرى برقم (١٠٧٦٤)، وأما الحاكم فرواه في المستدرك (٤/٢٨٦) مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أبي مطر، به. ولم يذكر الحجاج بن أرطاة، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" وأقره الذهبي، وضعف النووي هذا الحديث في الأذكار (ص ١٦٤).
(٦) زيادة من ت، أ.
(٧) في ت، أ: "عن ليث".
(٨) تفسير الطبري (١٦/٣٨٩) ورواه ابن مردويه في تفسيره كما في تخريج الكشاف (٢/١٨٤) من طريق محمد بن يحيى، عن أحمد ابن إسحاق عن أبي أحمد، عن عتاب بن زياد، عن رجل، عن أبي هريرة رفع الحدث... إلى آخره.
441
وَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، وَطَاوُسٍ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ كَذَلِكَ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: كَانَ ابْنُ أَبِي زَكَرِيَّا يَقُولُ: مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ الرَّعْدَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، لَمْ تُصِبْهُ صَاعِقَةٌ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ (١) أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَمِعَ الرَّعْدَ تَرَكَ الْحَدِيثَ وَقَالَ: سُبْحَانَ الَّذِي يُسَبِّحُ الرعدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ، وَيَقُولُ: إِنَّ هَذَا لَوَعِيدٌ (٢) شديدٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ. رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ، وَالْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ. (٣)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، حَدَّثَنَا صَدَقة بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ، عَنْ شتيز (٤) بْنِ نَهَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "قَالَ رَبُّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ: لَوْ أَنَّ عَبِيدِي أَطَاعُونِي لَأَسْقَيْتُهُمُ الْمَطَرَ بِاللَّيْلِ، وَأَطْلَعْتُ عَلَيْهِمُ الشَّمْسَ بِالنَّهَارِ، وَلَمَا أَسْمَعْتُهُمْ (٥) صَوْتَ الرَّعْدِ". (٦)
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى السَّاجِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ الجَحْدري، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ أَبُو النَّضْرِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْكَرِيمِ، حَدَّثَنَا عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا سَمِعْتُمُ الرَّعْدَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ؛ فَإِنَّهُ لَا يُصِيبُ ذَاكِرًا". (٧)
وَقَوْلُهُ: ﴿وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ﴾ أَيْ: يُرْسِلُهَا نقمَةً يَنْتَقِمُ بِهَا مِمَّنْ يَشَاءُ، وَلِهَذَا تَكْثُرُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُصْعَبٍ، حَدَّثَنَا عُمَارَةُ (٨) عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "تَكْثُرُ الصَّوَاعِقُ عِنْدَ اقْتِرَابِ السَّاعَةِ، حَتَّى يَأْتِيَ الرَّجُلُ الْقَوْمَ فَيَقُولُ: مَنْ صُعِقَ تِلْكُمُ (٩) الْغَدَاةَ؟ فَيَقُولُونَ صعِق فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ". (١٠)
وَقَدْ رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا مَا رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيُّ:
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي سَارَّةَ الشَّيباني، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ رَجُلًا مَرَّةً إِلَى رَجُلٍ مِنْ فَرَاعِنَةِ الْعَرَبِ فَقَالَ: "اذْهَبْ فَادْعُهُ لِي". قَالَ: فَذَهَبَ إِلَيْهِ فَقَالَ: يَدْعُوكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ لَهُ: مَنْ رَسُولُ اللَّهِ؟ وَمَا اللَّهُ؟ أمِن ذَهَبٍ هُوَ؟ أَمْ مِنْ فِضَّةٍ هُوَ؟ أَمْ مِنْ نُحَاسٍ هُوَ؟ قَالَ: فَرَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قد أخبرتك أنه أعتى من ذلك،
(١) في ت، أ: "بن عمرو".
(٢) في ت، أ: "الوعيد".
(٣) الموطأ (٢/٩٩٢) والأدب المفرد برقم (٧٢٤).
(٤) في ت: "عن شمس"، وفي أ: "شمير".
(٥) في ت: "استمعتهم".
(٦) المسند (٢/٣٥٩).
(٧) المعجم الكبير (١١/١٦٤) وقال الهيثمي في المجمع (١٠/١٣٦) :"فيه يحيى بن كثير وهو ضعيف".
(٨) في أ: "حماد".
(٩) في ت، أ: "قبلكم".
(١٠) المسند (٣/٦٤).
442
قَالَ لِي كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ: "ارْجِعْ إِلَيْهِ الثَّانِيَةَ". أُرَاهُ، فَذَهَبَ فَقَالَ لَهُ مِثْلَهَا. فَرَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ أَخْبَرْتُكَ أَنَّهُ أَعْتَى مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: "ارْجِعْ إِلَيْهِ فَادْعُهُ". فَرَجَعَ إِلَيْهِ الثَّالِثَةَ. قَالَ: فَأَعَادَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْكَلَامَ. فَبَيْنَا هُوَ يُكَلِّمُهُ، إِذْ بَعَثَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، سَحَابَةً حِيَالَ رَأْسِهِ، فَرَعَدَتْ، فَوَقَعَتْ مِنْهَا صَاعِقَةٌ، فَذَهَبَ بِقِحْفِ رَأْسِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ﴾
وَرَوَاهُ ابْنَ جَرِيرٍ، مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي سَارَّةَ، بِهِ (١) وَرَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ، عَنْ عَبْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ دَيْلَمِ بْنِ غَزْوان، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. (٢)
وَقَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا أَبَانُ بن يزيد، حدثنا أبو عمران الجوقي، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ صُحَار الْعَبْدِيِّ: أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ بَعَثَهُ (٣) إِلَى جَبَّار يَدْعُوهُ، فَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ (٤) رَبَّكُمْ، أَذَهَبٌ هُوَ؟ أَوْ فِضَّةٌ هُوَ؟ أَلُؤْلُؤٌ هُوَ؟ قَالَ: فَبَيْنَا هُوَ يُجَادِلُهُمْ، إِذْ بَعَثَ اللَّهُ سَحَابَةً فَرَعَدَتْ فَأَرْسَلَ عَلَيْهِ صَاعِقَةً فَذَهَبَتْ بِقِحْفِ رَأْسِهِ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةَ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: جَاءَ يَهُودِيٌّ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَخْبِرْنِي عَنْ رَبِّكَ، [مِنْ أَيِّ شَيْءٍ هُوَ] (٥) مِنْ نُحَاسٍ هُوَ؟ مَنْ لُؤْلُؤٍ؟ أَوْ يَاقُوتٍ؟ قَالَ: فَجَاءَتْ صَاعِقَةٌ فَأَخَذَتْهُ، وأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ﴾
وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكر لَنَا أنَّ رَجُلًا أَنْكَرَ الْقُرْآنَ، وَكَذَّبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ صَاعِقَةً فَأَهْلَكَتْهُ وأَنْزَلَ: ﴿وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ﴾ الْآيَةَ.
وَذَكَرُوا فِي سَبَبِ نُزُولِهَا قِصَّةَ عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ وَأَرْبَدَ (٦) بْنِ رَبِيعَةَ لَمَّا قَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، فَسَأَلَاهُ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمَا نِصْفَ الْأَمْرِ فَأَبَى عَلَيْهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ -لَعَنَهُ اللَّهُ: أَمَا وَاللَّهِ لأملأنَّهَا عَلَيْكَ خَيْلًا جَرْدا وَرِجَالًا مُرْدًا. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَأْبَى اللَّهُ عَلَيْكَ ذَلِكَ وَأَبْنَاءُ قَيْلة (٧) يَعْنِي: الْأَنْصَارَ، ثُمَّ إِنَّهُمَا هَمَّا بِالْفَتْكِ (٨) بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَعَلَ أَحَدُهُمَا يُخَاطِبُهُ، وَالْآخَرُ يَسْتَلُّ سَيْفَهُ لِيَقْتُلَهُ مِنْ وَرَائِهِ، فَحَمَاهُ اللَّهُ مِنْهُمَا وَعَصَمَهُ، فَخَرَجَا مِنَ الْمَدِينَةِ فَانْطَلَقَا فِي أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، يَجْمَعَانِ النَّاسَ لِحَرْبِهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ (٩) فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَى أَرْبَدَ سَحَابَةً فِيهَا صَاعِقَةٌ فَأَحْرَقَتْهُ. وَأَمَّا عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ الطَّاعُونَ، فَخَرَجَتْ فِيهِ غُدّة عَظِيمَةٌ، فَجَعَلَ يَقُولُ: يَا آلَ عَامِرٍ، غُدَّة كغدَّة الْبِكْرِ، وَمَوْتٌ فِي بَيْتِ سَلُولية (١٠) ؟ حَتَّى مَاتَا (١١) لَعَنَهُمَا اللَّهُ، وأنزل الله في مثل ذلك:
(١) مسند أبي يعلى (٦/١٨٣) وتفسير الطبري (١٦/٣٩٢) وعلي بن أبي سارة ضعيف.
(٢) مسند البزار برقم (٢٢٢١) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (٧/٤٢) :"رجال البزار، رجال الصحيح غير ديلم بن غزوان وهو ثقة".
(٣) في ت، أ: "بعث".
(٤) في أ: "أرأيتكم".
(٥) زيادة من ت، أ، والطبري.
(٦) في ت: "وأزيد".
(٧) في ت، أ: "قبيلة".
(٨) في أ: "بالقتل".
(٩) في أ: "صلى الله عليه وسلم".
(١٠) في ت: "سلولته".
(١١) في أ: "مات".
443
﴿وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ﴾ وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ لَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ، أَخُو أَرْبَدَ يَرْثِيهِ:
أخشَى عَلَى أَرْبَدَ الحُتُوفَ وَلا... أرْهَب نَوء السِّمَاكِ والأسَد...
فَجَعني الرّعْدُ والصّواعِقُ بِالْـ فَارِسِ يَوم الكريهَة النَّجُدِ (١)
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مَسْعَدة بْنُ سَعْدٍ (٢) الْعَطَّارُ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عِمْرَانَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَعَبْدُ اللَّهِ ابْنَا زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِمَا، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ أَرْبَدَ بْنَ قَيْسِ بْنِ جَزْء بْنِ جُلَيْدِ (٣) بْنِ جَعْفَرِ بْنِ كِلَابٍ، وَعَامِرَ بْنَ الطُّفَيْلِ بْنِ مَالِكٍ، قَدِمَا الْمَدِينَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَانْتَهَيَا إِلَيْهِ وَهُوَ جَالِسٌ، فَجَلَسَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ: يَا مُحَمَّدُ، مَا تَجْعَلُ لِي إِنْ أسلمتُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَكَ مَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَعَلَيْكَ مَا عَلَيْهِمْ". قَالَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ: أَتَجْعَلُ لِيَ الْأَمْرَ إِنْ أَسْلَمْتُ مَنْ بَعْدِكَ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيْسَ ذَلِكَ لَكَ وَلَا لِقَوْمِكَ، وَلَكِنَّ لَكَ أعنَّة الْخَيْلِ". قَالَ: أَنَا الْآنَ فِي أعنَّة خَيْلِ نَجِدٍ، اجْعَلْ لِيَ الوبَرَ وَلَكَ المدَرَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "لَا". فَلَمَّا قَفَلَا مِنْ عِنْدِهِ قَالَ عَامِرٌ: أَمَا وَاللَّهِ لأملأنَّهَا عَلَيْكَ خَيْلًا وَرِجَالًا فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَمْنَعُكَ اللَّهُ". فَلَمَّا خَرَجَ أَرْبَدُ وَعَامِرٌ، قَالَ عَامِرٌ: يَا أَرْبَدُ، أَنَا أَشْغَلُ عَنْكَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَدِيثِ، فَاضْرِبْهُ بِالسَّيْفِ، فَإِنَّ النَّاسَ إِذَا قَتَلْتَ مُحَمَّدًا لَمْ يَزِيدُوا عَلَى أَنْ يَرضَوا بِالدِّيَةِ، وَيَكْرَهُوا الْحَرْبَ، فَنُعْطِيهِمُ (٤) الدِّيَةَ. قَالَ أَرْبَدُ: أَفْعَلُ. فَأَقْبَلَا رَاجِعِينَ إِلَيْهِ، فَقَالَ عَامِرٌ: يَا مُحَمَّدُ، قُمْ مَعِي أُكَلِّمُكَ. فَقَامَ مَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَلَسَا إِلَى الْجِدَارِ، وَوَقَفَ مَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكَلِّمُهُ، وسَلّ أربدُ السَّيْفَ، فَلَمَّا وَضَعَ يَدَهُ عَلَى السَّيْفِ يَبِسَتْ يَدُهُ عَلَى قَائِمِ السَّيْفِ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ سَلَّ السَّيْفِ، فَأَبْطَأَ أَرْبَدُ عَلَى عَامِرٍ بِالضَّرْبِ، فَالْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَى أَرْبَدَ، وَمَا يَصْنَعُ، فَانْصَرَفَ عَنْهُمَا. فَلَمَّا خَرَجَ عَامِرٌ وَأَرْبَدُ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا كَانَا بالحَرّة، حَرّة وَاقِمٍ نَزَلَا فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وأسَيد بْنُ حُضَيْرٍ فَقَالَا اشْخَصَا يَا عَدُوَّيِ اللَّهِ، لَعَنَكُمَا اللَّهُ. فَقَالَ عَامِرٌ: مَنْ هَذَا يَا سَعْدُ؟ قَالَ: هَذَا أسَيد بْنُ حُضَير الْكَتَائِبِ (٥) فَخَرَجَا حَتَّى إِذَا كَانَا بالرَّقم، أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَى أربدَ صَاعِقَةً فَقَتَلَتْهُ، وَخَرَجَ عَامِرٌ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْخَرِيمِ، أَرْسَلَ اللَّهُ قُرْحَةً فَأَخَذَتْهُ فَأَدْرَكَهُ اللَّيْلُ فِي بَيْتِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي سَلُولٍ، فَجَعَلَ يَمَسُّ قُرْحَتَهُ فِي حَلْقِهِ وَيَقُولُ: غُدَّةٌ كَغُدَّةِ الْجَمَلِ فِي بَيْتِ سَلُولية (٦) تَرْغَبُ أَنْ يَمُوتَ فِي بَيْتِهَا! ثُمَّ رَكِبَ فَرَسَهُ فَأُحْضِرَهُ حَتَّى مَاتَ عَلَيْهِ رَاجِعًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمَا: ﴿اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ﴾ [الرَّعْدِ: ٨ -١١]-قَالَ: الْمُعَقِّبَاتُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ يَحْفَظُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ ذَكَّرَ أَرْبَدَ وَمَا قَتَلَهُ بِهِ، فَقَالَ: ﴿وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ﴾ الآية (٧).
(١) رواه الطبري في تفسيره (١٦/٣٧٩ - ٣٨٢) عن ابن زيد.
(٢) في هـ، ت: "سعيد" وما أثبتناه هو الصواب؛ لوقوعه في المعجم الكبير والصغير هكذا، ولم أجد له ترجمة.
(٣) في أ: "خالد".
(٤) في ت، أ: "فستعطيهم".
(٥) في ت، أ: "الكاتب".
(٦) في ت: "سلولته".
(٧) المعجم الكبير (١٠/٣٧٩ - ٣٨١) وفيه عبد العزيز بن عمران، وعبد الرَّحْمَنِ وَعَبْدُ اللَّهِ ابْنَا زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وكلهم ضعاف.
444
وَقَوْلُهُ: ﴿وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ﴾ أَيْ: يَشُكّون فِي عَظَمَتِهِ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، ﴿وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ﴾
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: شَدِيدَةٌ مماحَلَته فِي عُقُوبَةِ مَنْ طَغَى عَلَيْهِ وَعَتَا وَتَمَادَى فِي كُفْرِهِ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ شَبِيهَةٌ بِقَوْلِهِ: ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [النَّمْلِ: ٥٠، ٥١].
وَعَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ﴿وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ﴾ أَيْ: شَدِيدُ الْأَخْذِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: شَدِيدُ الْقُوَّةِ.
445
﴿ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ ﴾ كما قال تعالى :﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ﴾ [ الإسراء : ٤٤ ].
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد، حدثنا إبراهيم بن سعد، أخبرني أبي قال : كنت جالسًا إلى جنب حُمَيْد بن عبد الرحمن في المسجد، فمر شيخ من بني غفار، فأرسل إليه حميد، فلما أقبل قال : يا ابن أخي، وسع١ له فيما بيني وبينك، فإنه قد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجاء حتى جلس فيما بيني وبينه، فقال له حميد : ما الحديث الذي حدثتني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال الشيخ : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" إن الله ينشئ السحاب، فينطق أحسن النطق، ويضحك أحسن الضحك " ٢.
والمراد - والله أعلم - أن نطقَها الرعدُ، وضحكها البرقُ.
وقال موسى بن عبيدة، عن سعد بن إبراهيم قال : يبعث الله الغيث، فلا أحسن منه مضحكا، ولا آنس منه منطقا، فضحكه البرق، ومنطقه الرعد.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عبيد الله الرازي، عن محمد بن مسلم قال : بلغنا أن البرق مَلكٌ له أربعة وجوه : وجه إنسان، ووجه ثور، ووجه نسر، ووجه أسد، فإذا مَصَع٣ بذنبه فذاك البرق. ٤ وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا الحجاج، حدثني أبو مطر، عن سالم، عن أبيه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سَمع الرعْد والصواعق قال :" اللهم، لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك ".
ورواه الترمذي، والبخاري في كتاب الأدب، والنسائي في اليوم والليلة، والحاكم في مستدركه، من حديث الحجاج بن أرطاة، عن أبي مطر - ولم يسم به. ٥ وقال [ الإمام ]٦ أبو جعفر بن جرير : حدثنا أحمد بن إسحاق، حدثنا أبو أحمد، حدثنا إسرائيل، عن أبيه٧ عن رجل، عن أبي هريرة، رفع الحديث قال : إنه كان إذا سمع الرعد قال :" سبحان من يُسبّح الرعْد بحمده ". ٨
وروي عن علي، رضي الله عنه، أنه كان إذا سمع صوت الرعد قال : سبحان من سَبَّحت له.
وكذا روي عن ابن عباس، والأسود بن يزيد، وطاوس : أنهم كانوا يقولون كذلك.
وقال الأوزاعي : كان ابن أبي زكريا يقول : من قال حين يسمع الرعد : سبحان الله وبحمده، لم تصبه صاعقة.
وعن عبد الله بن الزبير٩ أنه كان إذا سمع الرعد ترك الحديث وقال : سبحان الذي يسبّح الرعدُ بحمده والملائكة من خيفته، ويقول : إن هذا لوعيد١٠ شديدٌ لأهل الأرض. رواه مالك في الموطأ، والبخاري في كتاب الأدب١١.
وقال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن داود الطيالسي، حدثنا صَدَقة بن موسى، حدثنا محمد بن واسع، عن شتيز١٢ بن نهار، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" قال ربكم عز وجل : لو أن عبيدي أطاعوني لأسقيتهم المطر بالليل، وأطلعت عليهم الشمس بالنهار، ولما أسمعتهم١٣ صوت الرعد ". ١٤ وقال الطبراني : حدثنا زكريا بن يحيى الساجي، حدثنا أبو كامل الجَحْدري، حدثنا يحيى بن كثير أبو النضر، حدثنا عبد الكريم، حدثنا عطاء، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا سمعتم الرعد فاذكروا الله ؛ فإنه لا يصيب ذاكرا " ١٥. وقوله :﴿ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ ﴾ أي : يرسلها نقمَةً ينتقم بها ممن يشاء، ولهذا تكثر في آخر الزمان، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا محمد بن مصعب، حدثنا عمارة١٦ عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" تكثر الصواعق عند اقتراب الساعة، حتى يأتي الرجل القوم فيقول : من صعق تلكم١٧ الغداة ؟ فيقولون صعِق فلان وفلان وفلان ". ١٨ وقد روي في سبب نزولها ما رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي :
حدثنا إسحاق، حدثنا علي بن أبي سارة الشَّيباني، حدثنا ثابت، عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلا مرة إلى رجل من فراعنة العرب فقال :" اذهب فادعه لي ". قال : فذهب إليه فقال : يدعوك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له : من رسول الله ؟ وما الله ؟ أمِن ذهب هو ؟ أم من فضة هو ؟ أم من نحاس هو ؟ قال : فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال : يا رسول الله، قد أخبرتك أنه أعتى من ذلك،
قال لي كذا وكذا. فقال :" ارجع إليه الثانية ". أراه، فذهب فقال له مثلها. فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله، قد أخبرتك أنه أعتى من ذلك. قال :" ارجع إليه فادعه ". فرجع إليه الثالثة. قال : فأعاد عليه ذلك الكلام. فبينا هو يكلمه، إذ بعث الله، عز وجل، سحابة حيال رأسه، فرعدت، فوقعت منها صاعقة، فذهب بقحف رأسه فأنزل الله :﴿ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ ﴾
ورواه ابن جرير، من حديث علي بن أبي سارة، به١٩ ورواه الحافظ أبو بكر البزار، عن عبدة بن عبد الله، عن يزيد بن هارون، عن ديلم بن غَزْوان، عن ثابت، عن أنس، فذكر نحوه٢٠. وقال : حدثنا الحسن بن محمد، حدثنا عفان، حدثنا أبان بن يزيد، حدثنا أبو عمران الجوقي، عن عبد الرحمن بن صُحَار العبدي : أنه بلغه أن نبي الله بعثه٢١ إلى جَبَّار يدعوه، فقال : أرأيتم٢٢ ربكم، أذهب هو ؟ أو فضة هو ؟ ألؤلؤ هو ؟ قال : فبينا هو يجادلهم، إذ بعث الله سحابة فرعدت فأرسل عليه صاعقة فذهبت بقحف رأسه، ونزلت هذه الآية.
وقال أبو بكر بن عياش، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد قال : جاء يهودي فقال : يا محمد، أخبرني عن ربك، [ من أي شيء هو ]٢٣ من نحاس هو ؟ من لؤلؤ ؟ أو ياقوت ؟ قال : فجاءت صاعقة فأخذته، وأنزل الله :﴿ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ ﴾
وقال قتادة : ذُكر لنا أنَّ رجلا أنكر القرآن، وكذب النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل الله صاعقة فأهلكته وأنزل :﴿ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ ﴾ الآية.
وذكروا في سبب نزولها قصة عامر بن الطفيل وأربد٢٤ بن ربيعة لما قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فسألاه أن يجعل لهما نصف الأمر فأبى عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له عامر بن الطفيل - لعنه الله : أما والله لأملأنَّهَا عليك خيلا جَرْدا ورجالا مردا. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : يأبى الله عليك ذلك وأبناء قَيْلة٢٥ يعني : الأنصار، ثم إنهما هما بالفتك٢٦ بالنبي صلى الله عليه وسلم، وجعل أحدهما يخاطبه، والآخر يستل سيفه ليقتله من ورائه، فحماه الله منهما وعصمه، فخرجا من المدينة فانطلقا في أحياء العرب، يجمعان الناس لحربه، عليه السلام٢٧ فأرسل الله على أربد سحابة فيها صاعقة فأحرقته. وأما عامر بن الطفيل فأرسل الله عليه الطاعون، فخرجت فيه غُدّة عظيمة، فجعل يقول : يا آل عامر، غُدَّة كغدَّة البكر، وموت في بيت سَلُولية٢٨ ؟ حتى ماتا٢٩ لعنهما الله، وأنزل الله في مثل ذلك :
﴿ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ ﴾ وفي ذلك يقول لبيد بن ربيعة، أخو أربد يرثيه : فَجَعني الرّعْدُ والصّواعِقُ بال *** فارس يَوم الكريهَة النَّجُدِ٣٠ وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا مَسْعَدة بن سعد٣١ العطار، حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، حدثني عبد العزيز بن عمران، حدثني عبد الرحمن وعبد الله ابنا زيد بن أسلم، عن أبيهما، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس، أن أربد بن قيس بن جَزْء بن جليد٣٢ بن جعفر بن كلاب، وعامر بن الطفيل بن مالك، قدما المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانتهيا إليه وهو جالس، فجلسا بين يديه، فقال عامر بن الطفيل : يا محمد، ما تجعل لي إن أسلمتُ ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لك ما للمسلمين، وعليك ما عليهم ". قال عامر بن الطفيل : أتجعل لي الأمر إن أسلمت من بعدك ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ليس ذلك لك ولا لقومك، ولكن لك أعنَّة الخيل ". قال : أنا الآن في أعنَّة خيل نجد، اجعل لي الوبَرَ ولك المدَرَ. قال رسول الله :" لا ". فلما قفلا من عنده قال عامر : أما والله لأملأنَّهَا عليك خيلا ورجالا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يمنعك الله ". فلما خرج أربد وعامر، قال عامر : يا أربد، أنا أشغل عنك محمدا صلى الله عليه وسلم بالحديث، فاضربه بالسيف، فإن الناس إذا قتلت محمدا لم يزيدوا على أن يَرضَوا بالدية، ويكرهوا الحرب، فنعطيهم٣٣ الدية. قال أربد : أفعل. فأقبلا راجعين إليه، فقال عامر : يا محمد، قم معي أكلمك. فقام معه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلسا إلى الجدار، ووقف معه رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمه، وسَلّ أربدُ السيف، فلما وضع يده على السيف يبست يده على قائم السيف، فلم يستطع سل السيف، فأبطأ أربد على عامر بالضرب، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أربد، وما يصنع، فانصرف عنهما. فلما خرج عامر وأربد من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كانا بالحَرّة، حَرّة واقم نزلا فخرج إليهما سعد بن معاذ وأسَيد بن حضير فقالا اشخصا يا عدوّي الله، لعنكما الله. فقال عامر : من هذا يا سعد ؟ قال : هذا أسَيد بن حُضَير الكتائب٣٤ فخرجا حتى إذا كانا بالرَّقم، أرسل الله على أربدَ صاعقة فقتلته، وخرج عامر حتى إذا كان بالخريم، أرسل الله قرحة فأخذته فأدركه الليل في بيت امرأة من بني سلول، فجعل يمس قرحته في حلقه ويقول : غدة كغدة الجمل في بيت سَلُولية٣٥ ترغب أن يموت في بيتها ! ثم ركب فرسه فأحضره حتى مات عليه راجعا، فأنزل الله فيهما :﴿ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ ﴾ إلى قوله :﴿ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ﴾ [ الرعد : ٨ - ١١ ] - قال : المعقبات من أمر الله يحفظون محمدًا صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر أربد وما قتله به، فقال :﴿ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ ﴾ الآية٣٦.
أخشَى عَلَى أَرْبَدَ الحُتُوفَ وَلا أرْهَب نَوء السّماك والأسَد
وقوله :﴿ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ ﴾ أي : يَشُكّون في عظمته، وأنه لا إله إلا هو، ﴿ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ ﴾
قال ابن جرير : شديدة مماحَلَته في عقوبة من طغى عليه وعتا وتمادى في كفره.
وهذه الآية شبيهة بقوله :﴿ وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [ النمل : ٥٠، ٥١ ].
وعن علي، رضي الله عنه :﴿ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ ﴾ أي : شديد الأخذ. وقال مجاهد : شديد القوة.
١ - في ت :"أوسع"..
٢ - المسند (٥/٤٣٥)..
٣ - في ت :"قصع"..
٤ - وهذا لا أصل له من كتاب ولا سنة، وهو من الخيال..
٥ - المسند (٢/١٠٠) وسنن الترمذي (٣٤٥٠) والأدب المفرد برقم (٧٢٢) والنسائي في السنن الكبرى برقم (١٠٧٦٤)، وأما الحاكم فرواه في المستدرك (٤/٢٨٦) من طريق عبد الواحد بن زياد، عن أبي مطر، به. ولم يذكر الحجاج بن أرطأة، وقال :"صحيح الإسناد ولم يخرجاه" وأقره الذهبي، وضعف النووي هذا الحديث في الأذكار (ص ١٦٤)..
٦ - زيادة من ت، أ..
٧ - في ت، أ :"عن ليث"..
٨ - تفسير الطبري (١٦/٣٨٩) ورواه ابن مردويه في تفسيره كما في تخريج الكشاف (٢/١٨٤) من طريق محمد بن يحيى، عن أحمد ابن إسحاق عن أبي أحمد، عن عتاب بن زياد، عن رجل، عن أبي هريرة رفع الحدث... إلى آخره..
٩ - في ت، أ :"بن عمرو"..
١٠ - في ت، أ :"الوعيد"..
١١ - الموطأ (٢/٩٩٢) والأدب المفرد برقم (٧٢٤)..
١٢ - في ت :"عن شمس"، وفي أ :"شمير"..
١٣ - في ت :"استمعتهم"..
١٤ - المسند (٢/٣٥٩)..
١٥ - المعجم الكبير (١١/١٦٤) وقال الهيثمي في المجمع (١٠/١٣٦) :"فيه يحيى بن كثير وهو ضعيف"..
١٦ - في أ :"حماد"..
١٧ - في ت، أ :"قبلكم"..
١٨ - المسند (٣/٦٤)..
١٩ - مسند أبي يعلى (٦/١٨٣) وتفسير الطبري (١٦/٣٩٢) وعلي بن أبي سارة ضعيف..
٢٠ - مسند البزار برقم (٢٢٢١) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (٧/٤٢) :"رجال البزار، رجال الصحيح غير ديلم بن غزوان وهو ثقة"..
٢١ - في ت، أ :"بعث"..
٢٢ - في أ :"أرأيتكم"..
٢٣ - زيادة من ت، أ، والطبري..
٢٤ - في ت :"وأزيد"..
٢٥ - في ت، أ :"قبيلة"..
٢٦ - في أ :"بالقتل"..
٢٧ - في أ :"صلى الله عليه وسلم"..
٢٨ - في ت :"سلولته"..
٢٩ - في أ :"مات"..
٣٠ - رواه الطبري في تفسيره (١٦/٣٧٩ - ٣٨٢) عن ابن زيد..
٣١ - في هـ، ت :"سعيد" وما أثبتناه هو الصواب ؛ لوقوعه في المعجم الكبير والصغير هكذا، ولم أجد له ترجمة..
٣٢ - في أ :"خالد"..
٣٣ - في ت، أ :"فستعطيهم"..
٣٤ - في ت، أ :"الكاتب"..
٣٥ - في ت :"سلولته"..
٣٦ - المعجم الكبير (١٠/٣٧٩ - ٣٨١) وفيه عبد العزيز بن عمران، وعبد الرحمن وعبد الله ابنا زيد بن أسلم، وكلهم ضعاف..
﴿لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ (١٤) ﴾
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ﴿لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ﴾ قَالَ: التَّوْحِيدُ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَمَالكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ المنْكَدِر: ﴿لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ﴾ [قَالَ] (١) لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ﴾ (٢) أَيْ: وَمَثَلُ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ آلِهَةً غَيْرَ اللَّهِ. ﴿كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ﴾ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: كَمَثَلِ الَّذِي يَتَنَاوَلُ الْمَاءَ مِنْ طَرَفِ الْبِئْرِ بِيَدِهِ، وَهُوَ لَا يَنَالُهُ أَبَدًا بِيَدِهِ، فَكَيْفَ يَبْلُغُ فَاهُ؟.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ﴾ يَدْعُو الْمَاءَ بِلِسَانِهِ، وَيُشِيرُ إِلَيْهِ [بِيَدِهِ] (٣) فَلَا يَأْتِيهِ أَبَدًا.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ كَقَابِضِ يَدَهُ عَلَى الْمَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يُحْكِمُ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: (٤)
فَإنّي وَإيَّاكُمْ وَشَوْقًا إليكمُ... كَقَابض مَاء لَم تَسْقه (٥) أناملُه...
وَقَالَ الْآخَرُ: (٦)
فأصْبَحتُ ممَّا كانَ بَيْنِي وَبَيْنَها... مِن الوُدّ مِثْلَ القابضِ المَاءَ بِاليَد...
وَمَعْنَى الْكَلَامِ: أَنَّ هَذَا الَّذِي يَبْسُطُ يَدَهُ إِلَى الْمَاءِ، إِمَّا قَابِضًا وَإِمَّا مُتَنَاوِلًا له من بُعد، كما أنه لا
(١) زيادة من ت، أ.
(٢) في ت: "تدعون".
(٣) زيادة من ت، أ، والطبري.
(٤) هو ضابئ بن الحارث البرجمي، والبيت في تفسير الطبري (١٦/٣٩٩) وأورده البغدادي في خزانة الأدب (٤/٨٠) من أبيات سبعة قالها في الحبس. اهـ مستفادا من حاشية الشعب.
(٥) في ت: "يسقه".
(٦) هو الأحوص بن محمد الأنصاري، والبيت في تفسير الطبري (١٦/٤٠٠).
يَنْتَفِعُ بِالْمَاءِ الَّذِي لَمْ يَصِلْ إِلَى فِيهِ، الَّذِي جَعَلَهُ مَحَلًّا لِلشُّرْبِ، فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا غَيْرَهُ، لَا يَنْتَفِعُونَ بِهِمْ أَبَدًا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ﴾
﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (١٥) ﴾
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عَظْمَتِهِ وَسُلْطَانِهِ الَّذِي قَهَرَ كُلَّ شَيْءٍ، وَدَانَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ. وَلِهَذَا يسجُد لَهُ كُلُّ شَيْءٍ طَوْعًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَرْهَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، ﴿وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ﴾ أَيِ: البُكر (١) وَالْآصَالِ، وَهُوَ جَمْعُ أَصِيلٍ وَهُوَ آخِرُ النَّهَارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ﴾ [النَّحْلِ: ٤٨].
﴿قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لأنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (١٦) ﴾
يُقَرِّرُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ؛ لِأَنَّهُمْ مُعْتَرِفُونَ (٢) أَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَهُوَ رَبُّهَا وَمُدَبِّرُهَا، وَهُمْ مَعَ هَذَا قَدِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ يَعْبُدُونَهُمْ، وَأُولَئِكَ الْآلِهَةُ لَا تَمَلِكُ لِنَفْسِهَا (٣) وَلَا لِعَابِدِيهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ﴿نَفْعًا وَلا ضَرًّا﴾ أَيْ: لَا تُحَصِّلُ مَنْفَعَةً، وَلَا تَدْفَعُ مَضَرَّةً. فَهَلْ يَستَوي مَنْ عَبَدَ هَذِهِ الْآلِهَةَ مَعَ اللَّهِ، وَمِنْ عَبْدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ؟ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ﴾ (٤) أَيْ: أَجَعَلَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً تُنَاظِرُ الرَّبَّ وَتُمَاثِلُهُ فِي الْخَلْقِ، فَخَلَقُوا كَخَلْقِهِ، فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ، فَلَا يَدْرُونَ أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ مِنْ مَخْلُوقٍ غَيْرِهِ؟ أَيْ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يُشَابِهُهُ شَيْءٌ وَلَا يُمَاثِلُهُ، وَلَا نِدَّ لَهُ وَلَا عدْل (٥) لَهُ، وَلَا وَزِيرَ لَهُ، وَلَا وَلَدَ وَلَا صَاحِبَةَ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَإِنَّمَا عَبَدَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ مَعَهُ آلِهَةً هُمْ يَعْتَرِفُونَ (٦) أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لَهُ عَبِيدٌ لَهُ، كَمَا كَانُوا يَقُولُونَ فِي تَلْبِيَتِهِمْ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ. وَكَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ [الزُّمَرِ: ٣] (٧) فَأَنْكَرَ تَعَالَى ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، حيث اعتقدوا
(١) في أ: بالبكرات".
(٢) في ت: "يعرفون".
(٣) في ت: "لأنفسها".
(٤) في ت: "يستوى".
(٥) في أ: "ولا عديل".
(٦) في ت، أ: "يعرفون".
(٧) في ت: "إنما".
يقرر تعالى أنه لا إله إلا هو ؛ لأنهم معترفون١ أنه هو الذي خلق السموات والأرض، وهو ربها ومدبرها، وهم مع هذا قد اتخذوا من دونه أولياء يعبدونهم، وأولئك الآلهة لا تملك لنفسها٢ ولا لعابديها بطريق الأولى ﴿ نَفْعًا وَلا ضَرًّا ﴾ أي : لا تحصل منفعة، ولا تدفع مضرة. فهل يَستَوي من عبد هذه الآلهة مع الله، ومن عبد الله وحده لا شريك له، وهو على نور من ربه ؟ ولهذا قال :﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ﴾ ٣ أي : أجعل هؤلاء المشركون مع الله آلهة تناظر الرب وتماثله في الخلق، فخلقوا كخلقه، فتشابه الخلق عليهم، فلا يدرون أنها مخلوقة من مخلوق غيره ؟ أي : ليس الأمر كذلك، فإنه لا يشابهه شيء ولا يماثله، ولا ندّ له ولا عدْل٤ له، ولا وزير له، ولا ولد ولا صاحبة، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وإنما عبد هؤلاء المشركون معه آلهة هم يعترفون٥ أنها مخلوقة له عبيد له، كما كانوا يقولون في تلبيتهم : لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. وكما أخبر تعالى عنهم في قوله :﴿ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾ [ الزمر : ٣ ]٦ فأنكر تعالى ذلك عليهم، حيث اعتقدوا ذلك، وهو تعالى لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، ﴿ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ﴾ [ سبأ : ٢٣ ]، ﴿ وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى ﴾ [ النجم : ٢٦ ] وقال :﴿ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ﴾ [ مريم : ٩٣ - ٩٥ ] فإذا كان الجميع عبيدا، فلم يعبد بعضهم بعضا بلا دليل ولا برهان، بل بمجرد الرأي والاختراع والابتداع ؟ ثم قد أرسل رسله من أولهم إلى آخرهم تزجرهم عن ذلك، وتنهاهم عن عبادة من سوى الله، فكذبوهم وخالفوهم، فحقت عليهم كلمة العذاب لا محالة، ﴿ وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ [ الكهف : ٤٩ ].
١ - في ت :"يعرفون"..
٢ - في ت :"لأنفسها"..
٣ - في ت :"يستوى"..
٤ - في أ :"ولا عديل"..
٥ - في ت، أ :"يعرفون"..
٦ - في ت :"إنما"..
ذلك، وهو تعالى لا يشفع عنده أحدإلا بِإِذْنِهِ، ﴿وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾ [سَبَأٍ: ٢٣]، ﴿وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى﴾ [النَّجْمِ: ٢٦] وَقَالَ: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا﴾ [مَرْيَمَ: ٩٣ -٩٥] فَإِذَا كَانَ الْجَمِيعُ عَبِيدًا، فَلِمَ يَعْبُدُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِلَا دَلِيلٍ وَلَا بُرْهَانٍ، بَلْ بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِ وَالِاخْتِرَاعِ وَالِابْتِدَاعِ؟ ثُمَّ قَدْ أَرْسَلَ رُسُلَهُ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ تَزْجُرُهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَتَنْهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ مِنْ سِوَى اللَّهِ، فَكَذَّبُوهُمْ وَخَالَفُوهُمْ، فَحَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ لَا مَحَالَةَ، ﴿وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [الْكَهْفِ: ٤٩].
﴿أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ (١٧) ﴾
اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى مَثَلَيْنِ مَضْرُوبَيْنِ لِلْحَقِّ فِي ثَبَاتِهِ وَبَقَائِهِ، وَالْبَاطِلِ فِي اضْمِحْلَالِهِ وَفَنَائِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ أَيْ: مَطَرًا، ﴿فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾ أَيْ: أَخَذَ كُلُّ وَادٍ بِحَسْبِهِ، فَهَذَا كَبِيرٌ وَسِعَ كَثِيرًا مِنَ الْمَاءِ، وَهَذَا صَغِيرٌ فَوَسِعَ بِقَدْرِهِ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْقُلُوبِ وَتَفَاوُتِهَا، فَمِنْهَا مَا يَسَعُ عِلْمًا كَثِيرًا، وَمِنْهَا مَا لَا يَتَّسِعُ لِكَثِيرٍ مِنَ الْعُلُومِ بَلْ يَضِيقُ عَنْهَا، ﴿فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا﴾ أَيْ: فَجَاءَ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ الَّذِي سَالَ فِي هَذِهِ الْأَوْدِيَةِ زَبَدٌ عَالٍ عَلَيْهِ، هَذَا مَثَلٌ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ﴾ هَذَا هُوَ الْمَثَلُ الثَّانِي، وَهُوَ مَا يُسْبَكُ فِي النَّارِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ ﴿ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ﴾ أَيْ: لِيَجْعَلَ حِلْيَةً أَوْ نُحَاسًا أَوْ حَدِيدًا، فَيُجْعَلُ مَتَاعًا فَإِنَّهُ يَعْلُوهُ زَبَدٌ مِنْهُ، كَمَا يَعْلُو ذَلِكَ (١) زَبَدٌ مِنْهُ. ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ﴾ أَيْ: إِذَا اجْتَمَعَا لَا ثَبَاتَ لِلْبَاطِلِ وَلَا دَوَامَ لَهُ، كَمَا أَنَّ الزَّبَدَ لَا يَثْبُتُ مَعَ الْمَاءِ، وَلَا مَعَ الذَّهَبِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يُسْبَكَ فِي النَّارِ، بَلْ يَذْهَبُ وَيَضْمَحِلُّ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً﴾ أَيْ: لَا يُنْتَفَعُ بِهِ، بَلْ يَتَفَرَّقُ وَيَتَمَزَّقُ وَيَذْهَبُ فِي جَانِبَيِ الْوَادِي، وَيَعْلَقُ بِالشَّجَرِ وَتَنْسِفُهُ الرِّيَاحُ. وَكَذَلِكَ خَبَثُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ يَذْهَبُ، لَا يَرْجِعُ (٢) مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَا يَبْقَى إِلَّا الْمَاءُ (٣) وَذَلِكَ الذَّهَبُ وَنَحْوُهُ يُنْتَفَعُ بِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ﴾ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ﴾ [الْعَنْكَبُوتِ: ٤٣].
قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: كُنْتُ إِذَا قرأتُ مَثَلًا مِنَ الْقُرْآنِ فَلَمْ أَفْهَمْهُ بَكَيت عَلَى نَفْسِي؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: ﴿وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ﴾
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾
(١) في ت: "ذاك".
(٢) في ت، أ: "منه إلى شيء".
(٣) في ت، أ: "ويبقى الماء".
447
هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ، احْتَمَلَتْ مِنْهُ الْقُلُوبُ عَلَى قَدْرِ يَقِينِهَا وَشَكِّهَا، فَأَمَّا الشَّكُّ فَلَا يَنْفَعُ مَعَهُ الْعَمَلُ، وَأَمَّا الْيَقِينُ فَيَنْفَعُ اللَّهُ بِهِ أَهْلَهُ. وَهُوَ قَوْلُهُ: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً﴾ [وَهُوَ الشَّكُّ] (١) ﴿وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ﴾ وَهُوَ الْيَقِينُ، وَكَمَا يُجْعَلُ الْحُلِيُّ فِي النَّارِ فَيُؤْخَذُ خَالَصُهُ وَيُتْرَكُ خَبَثه فِي النَّارِ؛ فَكَذَلِكَ يَقْبَلُ اللَّهُ الْيَقِينَ وَيَتْرُكُ الشَّكَّ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: ﴿أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا﴾ يَقُولُ: احْتَمَلَ السَّيْلُ مَا فِي الْوَادِي مِنْ عُودٍ ودِمْنَة (٢) ﴿وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ﴾ فَهُوَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالْحِلْيَةُ وَالْمَتَاعُ وَالنُّحَاسُ وَالْحَدِيدُ، فَلِلنُّحَاسِ وَالْحَدِيدِ خَبَثٌ، فَجَعَلَ اللَّهُ مَثَلَ خَبَثِهِ كَزَبَدِ الْمَاءِ، فَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ، وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ الْأَرْضَ فَمَا شَرِبَتْ مِنَ الْمَاءِ فَأَنْبَتَتْ. فَجَعَلَ ذَاكَ (٣) مِثْلَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ يَبْقَى لِأَهْلِهِ، وَالْعَمَلِ السَّيِّئِ يَضْمَحِلُّ عَنْ أَهْلِهِ، كَمَا يَذْهَبُ هَذَا الزَّبَدُ، فَكَذَلِكَ الْهُدَى وَالْحَقُّ جَاءَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَمَنْ عَمِلَ بِالْحَقِّ كَانَ لَهُ، وَيَبْقَى كَمَا يَبْقَى مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فِي الْأَرْضِ. وَكَذَلِكَ الْحَدِيدُ لَا يُسْتَطَاعُ أَنْ يُعْمَلَ مِنْهُ سِكِّينٌ وَلَا سَيْفٌ حَتَّى يُدْخَلَ فِي النَّارِ فَتَأْكُلُ خبَثَه، وَيُخْرَجُ جَيِّدُهُ فَيُنْتَفَعُ بِهِ. كَذَلِكَ يَضْمَحِلُّ الْبَاطِلُ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَأُقِيمَ النَّاسُ، وَعُرِضَتِ الْأَعْمَالُ، فَيَزِيغُ الْبَاطِلُ وَيَهْلَكُ، وَيَنْتَفِعُ أَهْلُ الْحَقِّ بِالْحَقِّ.
وَكَذَلِكَ رُوي فِي تَفْسِيرِهَا عَنْ مُجَاهِدٍ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَعَطَاءٍ، وَقَتَادَةَ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ.
وَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لِلْمُنَافِقِينَ مَثَلَيْنِ نَارِيًّا وَمَائِيًّا، وَهُمَا قَوْلُهُ: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ﴾ الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: ١٧]، ثُمَّ قَالَ: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ﴾ الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: ١٩]. وَهَكَذَا ضَرَبَ لِلْكَافِرِينَ فِي سُورَةِ النُّورِ مَثَلَيْنِ، أَحَدُهُمَا: قَوْلِهِ: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً﴾ [النُّورِ: ٣٩] الْآيَةَ، وَالسَّرَابُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: "فَيُقَالُ لِلْيَهُودِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: فَمَا تُرِيدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: أيْ رَبَّنا، عَطِشْنَا فَاسْقِنَا. فَيُقَالُ: أَلَا تَرِدُونَ؟ فَيَرِدُونَ النَّارَ فَإِذَا هِيَ كَالسَّرَابِ يَحْطِم بَعْضُهَا بَعْضًا".
ثُمَّ قَالَ فِي الْمَثَلِ الْآخَرِ: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ﴾ الْآيَةَ [النُّورِ: ٤٠]. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ، كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا طَائِفَةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ (٤) الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبَ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَرَعَوْا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ طَائِفَةً مِنْهَا [أُخْرَى] (٥) إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كلأ فذلك مثل من
(١) زيادة من ت، أ.
(٢) في أ: "ورمة".
(٣) في ت، أ: "ذلك".
(٤) في ت: "وأنبتت".
(٥) زيادة من ت، أ، والصحيحين.
448
فَقه فِي دِينِ اللَّهِ ونَفَعه اللَّهُ بِمَا بَعَثَنِي (١) وَنَفَعَ بِهِ، فَعَلِم وَعَلَّم، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ". (٢)
فَهَذَا مَثَلُ مَائِيٌّ، وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَر، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّه قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ، كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ (٣) جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ (٤) الدَّوَابُّ الَّتِي يَقَعْنَ فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا، وَجَعَلَ يحجُزُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَقْتَحِمْنَ فِيهَا". قَالَ: "فَذَلِكُمْ مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ، أَنَا آخِذُ بحُجزكم عَنِ النَّارِ، هَلُمّ عَنِ النَّارِ [هَلُمّ عَنِ النَّارِ، هَلُمّ] (٥) فَتَغْلِبُونِي فَتَقْتَحِمُونَ فِيهَا". وَأَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا (٦) فَهَذَا مَثَلٌ نَارِيٌّ.
﴿لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (١٨) ﴾
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ مَآلِ السُّعَدَاءِ وَالْأَشْقِيَاءِ فَقَالَ: ﴿لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ﴾ أَيْ: أَطَاعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَانْقَادُوا لِأَوَامِرِهِ، وَصَدَّقُوا أَخْبَارَهُ الْمَاضِيَةَ وَالْآتِيَةَ، فَلَهُمُ ﴿الْحُسْنَى﴾ وَهُوَ الْجَزَاءُ الْحَسَنُ (٧) كَمَا قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: ﴿قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا﴾ [الْكَهْفِ: ٨٧، ٨٨] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يُونُسَ: ٢٦].
وَقَوْلُهُ: ﴿وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ﴾ أَيْ لَمْ: يُطِيعُوا اللَّهَ ﴿لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا﴾ أَيْ: فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، لَوْ أَنْ يُمْكِنَهُمْ أَنْ يَفْتَدُوا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ بِمَلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ، وَلَكِنْ لَا يُتَقَبَّلُ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ﴾ أَيْ: فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، أَيْ: يُنَاقَشُونَ عَلَى النَّقِيرِ وَالْقِطْمِيرِ، وَالْجَلِيلِ وَالْحَقِيرِ، وَمَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾
(١) في ت، أ: "بعثني به".
(٢) صحيح البخاري برقم (٧٩) وصحيح مسلم برقم (٢٢٨٢).
(٣) في ت: "ما حولها".
(٤) في أ: "وهذا".
(٥) زيادة من ت، أ، والمسند.
(٦) المسند (٢/٣١٢) وصحيح البخاري برقم (٦٤٨٢) وصحيح مسلم برقم (٢٢٨٤) وهو عنده من هذا الطريق.
(٧) في ت: "الخير".
﴿أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ (١٩) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي مَنْ يَعْلَمُ مِنَ النَّاسِ أَنَّ الَّذِي ﴿أُنزلَ إِلَيْكَ﴾ يَا مُحَمَّدُ ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ هوَ ﴿الْحَقُّ﴾ أَيِ: الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا مِرْيَةَ وَلَا لَبْسَ فِيهِ وَلَا اخْتِلَافَ فِيهِ، بَلْ هُوَ كُلُّهُ (١) حَقٌّ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، لَا يُضَادُّ شَيْءٌ مِنْهُ شَيْئًا آخَرَ، فَأَخْبَارُهُ كُلُّهَا حَقٌّ، وَأَوَامِرُهُ وَنَوَاهِيهِ عَدْلٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا﴾ [الْأَنْعَامِ: ١١٥] أَيْ: صِدْقًا فِي الْأَخْبَارِ، وَعَدْلًا فِي الطَّلَبِ، فَلَا يَسْتَوِي مِنْ تَحَقَّقَ صِدْقَ (٢) مَا جِئْتَ بِهِ يَا مُحَمَّدُ، وَمَنْ هُوَ أَعْمَى لَا يَهْتَدِي إِلَى خَيْرٍ وَلَا يَفْهَمُهُ، وَلَوْ فَهِمَهُ مَا انْقَادَ لَهُ، وَلَا صَدَّقَهُ وَلَا اتَّبَعَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ [الْحَشْرِ: ٢٠] وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ﴿أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى﴾ أَيْ: أَفَهَذَا كَهَذَا؟ لَا اسْتِوَاءَ. (٣)
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ﴾ أَيْ: إِنَّمَا يَتَّعِظُ وَيَعْتَبِرُ وَيَعْقِلُ أُولُو الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ الصَّحِيحَةِ (٤) جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْهُمْ [بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ]. (٥)
﴿الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (٢١) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَمَّنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ، بِأَنَّ لَهُمْ ﴿عُقْبَى الدَّارِ﴾ وَهِيَ الْعَاقِبَةُ وَالنُّصْرَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
﴿الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ﴾ وَلَيْسُوا كَالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ إِذَا عَاهَدَ أَحَدُهُمْ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ.
﴿وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾ مِنْ صِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ وَإِلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَحَاوِيجِ، وَبَذْلِ الْمَعْرُوفِ، ﴿وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾ أَيْ: فِيمَا يَأْتُونَ وَمَا يَذْرُوَنَ مِنَ الْأَعْمَالِ، يُرَاقِبُونَ اللَّهَ فِي ذَلِكَ، وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ. فَلِهَذَا أَمْرُهُمْ عَلَى السَّدَادِ وَالِاسْتِقَامَةِ فِي جَمِيعِ حَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ وَجَمِيعِ أَحْوَالِهِمُ الْقَاصِرَةِ وَالْمُتَعَدِّيَةِ.
﴿وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ﴾ أَيْ: عَنِ الْمَحَارِمِ وَالْمَآثِمِ، فَفَطَمُوا (٦) نُفُوسَهُمْ عَنْ ذَلِكَ لِلَّهِ عَزَّ
(١) في ت، أ: "كلمة".
(٢) في ت، أ: "صحة".
(٣) في ت، أ: "لا سواء".
(٤) في ت: "الصحيحة السليمة".
(٥) زيادة من أ.
(٦) في أ: "فعظموا".
450
وَجَلَّ؛ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ وَجَزِيلِ ثَوَابِهِ ﴿وَأَقَامُوا الصَّلاةَ﴾ بِحُدُودِهَا وَمَوَاقِيتِهَا وَرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا (١) وَخُشُوعِهَا عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ الْمَرْضِي، ﴿وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾ أَيْ: عَلَى الَّذِينَ يَجِبُ عَلَيْهِمُ الْإِنْفَاقُ لَهُمْ مِنْ زَوْجَاتٍ وَقَرَابَاتٍ وَأَجَانِبَ، مِنْ فُقَرَاءَ وَمَحَاوِيجَ وَمَسَاكِينَ، ﴿سِرًّا وَعَلانِيَةً﴾ أَيْ: فِي السِّرِّ وَالْجَهْرِ، لَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْ ذَلِكَ حَالٌ مِنَ الْأَحْوَالِ، فِي آنَاءِ اللَّيْلِ وَأَطْرَافِ النَّهَارِ، ﴿وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ﴾ أَيْ: يَدْفَعُونَ الْقَبِيحَ بِالْحَسَنِ، فَإِذَا آذَاهُمْ أَحَدٌ قَابَلُوهُ بِالْجَمِيلِ صَبْرًا وَاحْتِمَالًا وَصَفْحًا وَعَفْوًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ [فُصِّلَتْ: ٣٤، ٣٥] ؛ وَلِهَذَا قَالَ مُخْبِرًا عَنْ هَؤُلَاءِ السُّعَدَاءِ الْمُتَّصِفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْحَسَنَةِ بِأَنَّ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ، ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾ وَالْعَدْنُ: الْإِقَامَةُ، أَيْ: جَنَّاتُ إِقَامَةٍ يَخْلُدُونَ (٢) فِيهَا.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ قَصْرًا يُقَالُ لَهُ: "عَدْنٌ"، حَوْلَهُ الْبُرُوجُ وَالْمُرُوجُ، فِيهِ خَمْسَةُ آلَافِ بَابٍ، عَلَى كُلِّ بَابٍ خَمْسَةُ آلَافِ حِبْرة (٣) لَا يَدْخُلُهُ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ فِي قَوْلِهِ: ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾ مَدِينَةُ الْجَنَّةِ، فِيهَا الرُّسُلُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ وَأَئِمَّةُ الْهُدَى، وَالنَّاسُ حَوْلَهُمْ بَعْدُ وَالْجَنَّاتُ حَوْلَهَا. رَوَاهُمَا ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ﴾ أَيْ: يُجْمَعُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَحْبَابِهِمْ فِيهَا مِنَ الْآبَاءِ وَالْأَهْلِينَ وَالْأَبْنَاءِ، مِمَّنْ هُوَ صَالِحٌ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ؛ لِتَقَرَّ أَعْيُنُهُمْ بِهِمْ، حَتَّى إِنَّهُ (٤) تُرْفَعُ (٥) دَرَجَةُ الْأَدْنَى إِلَى دَرَجَةِ الْأَعْلَى، مِنْ غَيْرِ تَنْقِيصٍ لِذَلِكَ الْأَعْلَى عَنْ دَرَجَتِهِ، بَلِ امْتِنَانًا مِنَ اللَّهِ وَإِحْسَانًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شِيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ﴾ [الطَّوْرِ: ٢١]. (٦) (٧)
وَقَوْلِهِ: ﴿وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ أَيْ: وَتَدْخُلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ مِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا لِلتَّهْنِئَةِ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ، فَعِنْدَ (٨) دُخُولِهِمْ إِيَّاهَا تَفِدُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ مُسَلِّمِينَ مُهَنِّئِينَ لَهُمْ بِمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنَ التَّقْرِيبِ وَالْإِنْعَامِ، وَالْإِقَامَةِ فِي دَارِ السَّلَامِ، فِي جِوَارِ الصِّدِّيقِينِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ الْكِرَامِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ، حَدَّثَنَا (٩) مَعْرُوفُ بْنُ سُوَيْد الْجُذَامِيُّ عَنْ أَبِي عُشَّانَةَ الْمَعَافِرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (١٠) عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "هَلْ تَدْرُونَ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ؟ " قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ الْفُقَرَاءُ المهاجرون (١١) الذين تُسدُّ بهم الثغور،
(١) في ت: "وسجودها وركوعها".
(٢) في ت: "تخلدون".
(٣) في أ: "حرة".
(٤) في أ: "إنهم".
(٥) في أ: "ترفع من".
(٦) في ت: "واتبعتهم".
(٧) في أ: "ذرياتهم".
(٨) في ت، أ: "عند".
(٩) في ت، أ: "حدثني".
(١٠) في ت: "عنه".
(١١) في ت: "المهاجرين".
451
وتُتَّقَى بِهِمُ الْمَكَارِهُ، وَيَمُوتُ أَحَدُهُمْ وَحَاجَتُهُ فِي صَدْرِهِ لَا يَسْتَطِيعُ لَهَا قَضَاءً، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ مَلَائِكَتِهِ: ائْتُوهُمْ فَحَيُّوهُمْ. فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: نَحْنُ سُكَّانُ سَمَائِكَ، وَخِيرَتُكَ مَنْ خَلْقِكَ، أَفَتَأْمُرُنَا أَنْ نَأْتِيَ هَؤُلَاءِ فَنُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ؟ قَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا عِبَادًا يَعْبُدُونَنِي لَا (١) يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا، وتُسَد (٢) بِهِمُ الثُّغُورُ، وَتُتَّقَى (٣) بِهِمُ الْمَكَارِهُ، وَيَمُوتُ أَحَدُهُمْ وَحَاجَتُهُ فِي صَدْرِهِ فَلَا يَسْتَطِيعُ لَهَا قَضَاءً". قَالَ: "فَتَأْتِيهِمُ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَيَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ، ﴿سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ (٤)
وَرَوَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ رِشْدِينَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي عُشَّانة سَمِعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم قال: "أَوَّلُ ثُلَّةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ، الَّذِينَ تُتَّقَى بِهِمُ الْمَكَارِهُ، وَإِذَا أُمِرُوا سَمِعُوا وَأَطَاعُوا، وَإِنْ كَانَتْ لِرَجُلٍ مِنْهُمْ حَاجَةٌ إِلَى سُلْطَانٍ لَمْ تُقْضَ حَتَّى يَمُوتَ وَهِيَ فِي صَدْرِهِ، وَإِنَّ اللَّهَ يَدْعُو يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْجَنَّةَ فَتَأْتِي بِزُخْرُفِهَا وَزِينَتِهَا، فَيَقُولُ: أَيْنَ عِبَادِي الَّذِينَ قَاتَلُوا فِي سَبِيلِي، وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي، وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِي؟ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَذَابٍ وَلَا حِسَابٍ، وَتَأْتِي الْمَلَائِكَةُ فَيَسْجُدُونَ وَيَقُولُونَ: رَبَّنَا نَحْنُ نُسَبِّحُكَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، ونُقدس لَكَ، مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ آثَرْتَهُمْ عَلَيْنَا؟ فَيَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: هَؤُلَاءِ عِبَادِي الَّذِينَ جَاهَدُوا (٥) فِي سَبِيلِي، وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي فَتَدْخُلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ مِنْ كُلِّ بَابٍ: ﴿سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ (٦)
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ بَقِيَّة بْنَ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا أَرْطَاةُ بْنُ الْمُنْذِرِ، سَمِعْتُ رَجُلًا مِنْ مَشْيَخَةِ الْجُنْدِ، يُقَالُ لَهُ "أَبُو الْحَجَّاجِ" يَقُولُ: جَلَسْتُ إِلَى أَبِي أُمَامَةَ فَقَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيَكُونُ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ إِذَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَعِنْدَهُ سِمَاطَانِ مِنْ خَدَمٍ، وَعِنْدَ طَرَفِ السِّمَاطَيْنِ بَابٌ مُبَوَّبٌ، فَيُقْبِلُ الْمَلَكُ فَيَسْتَأْذِنُ، فَيَقُولُ [أَقْصَى الْخَدَمِ] (٧) لِلَّذِي يَلِيهِ: "مَلك يَسْتَأْذِنُ"، وَيَقُولُ الَّذِي يَلِيهِ لِلَّذِي يَلِيهِ: "مَلَكٌ يَسْتَأْذِنُ"، حَتَّى يَبْلُغَ الْمُؤْمِنَ فَيَقُولُ: ائْذَنُوا. فَيَقُولُ أَقْرَبُهُمْ إِلَى الْمُؤْمِنِ: ائْذَنُوا، وَيَقُولُ الَّذِي يَلِيهِ لِلَّذِي يَلِيهِ: ائْذَنُوا حَتَّى يَبْلُغَ أَقْصَاهُمُ الَّذِي عِنْدَ الْبَابِ، فَيَفْتَحُ لَهُ، فَيَدْخُلُ فَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَنْصَرِفُ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ. (٨)
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ أَرْطَاةَ بن المنذر، عن أبي الحجاج (٩)
(١) في ت، أ: "ولا".
(٢) في ت، أ: "ويسد".
(٣) في ت، أ: "ويتقى".
(٤) المسند (٢/١٦٨) وقال الهيثمي في المجمع (١٠/٢٥٩) :"رجاله ثقات".
(٥) في ت: "قاتلوا".
(٦) المعجم الكبير للطبراني برقم (١٥٢) "القطعة المفقودة" ورواه الحاكم في المستدرك (٢/٧١) من طريق محمد بن عبد الله عن ابن وهب، به نحوه، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.
(٧) زيادة من ت، أ، والطبري".
(٨) تفسير الطبري (١٦/٤٢٥).
(٩) كذا وقع في تفسير الطبري، ونقله أيضا ابن القيم في +حادى الأرواح (٢/٣٨) "أبو الحجاج" وفي ترجمته في الجرح والتعديل (٩/٢٣٥) والتاريخ الكبير (٤/٢/٣٧٦) والثقات لابن حبان (٥/٥٥٢) :"يوسف الألهاني، أبو الضحاك الحمصي، سمع أبا أمامة وابن عمر، وروي عنه أرطاة بن المنذر". وانظر حاشية الأستاذ محمود شاكر على تفسير الطبري (١٦/٤٢٦).
452
﴿ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ﴾ من صلة الأرحام، والإحسان إليهم وإلى الفقراء والمحاويج، وبذل المعروف، ﴿ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ﴾ أي : فيما يأتون وما يذرون من الأعمال، يراقبون الله في ذلك، ويخافون سوء الحساب في الدار الآخرة. فلهذا أمرهم على السداد والاستقامة في جميع حركاتهم وسكناتهم وجميع أحوالهم القاصرة والمتعدية.
﴿ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ ﴾ أي : عن المحارم والمآثم، ففطموا١ نفوسهم عن ذلك لله عز وجل ؛ ابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه ﴿ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ ﴾ بحدودها ومواقيتها وركوعها وسجودها٢ وخشوعها على الوجه الشرعي المرضي، ﴿ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ ﴾ أي : على الذين يجب عليهم الإنفاق لهم من زوجات وقرابات وأجانب، من فقراء ومحاويج ومساكين، ﴿ سِرًّا وَعَلانِيَةً ﴾ أي : في السر والجهر، لم يمنعهم من ذلك حال من الأحوال، في آناء الليل وأطراف النهار، ﴿ وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ﴾ أي : يدفعون القبيح بالحسن، فإذا آذاهم أحد قابلوه بالجميل صبرا واحتمالا وصفحا وعفوا، كما قال تعالى :﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [ فصلت : ٣٤، ٣٥ ] ؛ ولهذا قال مخبرًا عن هؤلاء السعداء المتصفين بهذه الصفات الحسنة بأن لهم عقبى الدار، ثم فسر ذلك بقوله :﴿ جَنَّاتِ عَدْنٍ ﴾ والعدن : الإقامة، أي : جنات إقامة يخلدون٣ فيها.
وعن عبد الله بن عمرو أنه قال : إن في الجنة قصرا يقال له :" عدن "، حوله البروج والمروج، فيه خمسة آلاف باب، على كل باب خمسة آلاف حِبْرة٤ لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد.
وقال الضحاك في قوله :﴿ جَنَّاتِ عَدْنٍ ﴾ مدينة الجنة، فيها الرسل والأنبياء والشهداء وأئمة الهدى، والناس حولهم بعد والجنات حولها. رواهما ابن جرير.
وقوله :﴿ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ﴾ أي : يجمع بينهم وبين أحبابهم فيها من الآباء والأهلين والأبناء، ممن هو صالح لدخول الجنة من المؤمنين ؛ لتقر أعينهم بهم، حتى إنه٥ ترفع٦ درجة الأدنى إلى درجة الأعلى، من غير تنقيص لذلك الأعلى عن درجته، بل امتنانًا من الله وإحسانا، كما قال تعالى :﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شِيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ﴾ [ الطور : ٢١ ]. ٧-٨ وقوله :﴿ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ أي : وتدخل عليهم الملائكة من هاهنا وهاهنا للتهنئة بدخول الجنة، فعند٩ دخولهم إياها تفد عليهم الملائكة مسلمين مهنئين لهم بما حصل لهم من الله من التقريب والإنعام، والإقامة في دار السلام، في جوار الصديقين والأنبياء والرسل الكرام.
وقال الإمام أحمد، رحمه الله : حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثني سعيد بن أبي أيوب، حدثنا١٠ معروف بن سُوَيْد الجذامي عن أبي عشانة المعافري، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهما١١ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :" هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم. قال :" أول من يدخل الجنة من خلق الله الفقراء المهاجرون١٢ الذين تُسدُّ بهم الثغور،
وتُتَّقَى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء، فيقول الله تعالى لمن يشاء من ملائكته : ائتوهم فحيوهم. فتقول الملائكة : نحن سكان سمائك، وخيرتك من خلقك، أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء فنسلم عليهم ؟ قال : إنهم كانوا عبادا يعبدونني لا١٣ يشركون بي شيئًا، وتُسَد١٤ بهم الثغور، وتتقى١٥ بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره فلا يستطيع لها قضاء ". قال :" فتأتيهم الملائكة عند ذلك، فيدخلون عليهم من كل باب، ﴿ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾١٦ ورواه أبو القاسم الطبراني، عن أحمد بن رشدين، عن أحمد بن صالح، عن عبد الله بن وهب، عن عَمْرو بن الحارث، عن أبي عُشَّانة سمع عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" أول ثلة يدخلون الجنة فقراء المهاجرين، الذين تتقى بهم المكاره، وإذا أمروا سمعوا وأطاعوا، وإن كانت لرجل منهم حاجة إلى سلطان لم تُقْضَ حتى يموت وهي في صدره، وإن الله يدعو يوم القيامة الجنة فتأتي بزخرفها وزينتها، فيقول : أين عبادي الذين قاتلوا في سبيلي، وأوذوا في سبيلي، وجاهدوا في سبيلي ؟ ادخلوا الجنة بغير عذاب ولا حساب، وتأتي الملائكة فيسجدون ويقولون : ربنا نحن نسبحك الليل والنهار، ونُقدس لك، من هؤلاء الذين آثرتهم علينا ؟ فيقول الرب عز وجل : هؤلاء عبادي الذين جاهدوا١٧ في سبيلي، وأوذوا في سبيلي فتدخل عليهم الملائكة من كل باب :﴿ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾١٨ وقال عبد الله بن المبارك، عن بَقِيَّة بن الوليد، حدثنا أرطأة بن المنذر، سمعت رجلا من مشيخة الجند، يقال له " أبو الحجاج " يقول : جلست إلى أبي أمامة فقال : إن المؤمن ليكون متكئًا على أريكته إذا دخل الجنة، وعنده سماطان من خدم، وعند طرف السماطين باب مبوب، فيقبل الملك فيستأذن، فيقول [ أقصى الخدم ]١٩ للذي يليه :" مَلك يستأذن "، ويقول الذي يليه للذي يليه :" ملك يستأذن "، حتى يبلغ المؤمن فيقول : ائذنوا. فيقول أقربهم إلى المؤمن : ائذنوا، ويقول الذي يليه للذي يليه : ائذنوا حتى يبلغ أقصاهم الذي عند الباب، فيفتح له، فيدخل فيسلم ثم ينصرف. رواه ابن جرير. ٢٠ ورواه ابن أبي حاتم من حديث إسماعيل بن عياش، عن أرطأة بن المنذر، عن أبي الحجاج٢١
يوسف الألهاني قال : سمعت أبا أمامة، فذكر نحوه.
وقد جاء في الحديث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزور قبور الشهداء في رأس كل حول، فيقول لهم :﴿ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ وكذا أبو بكر، وعمر وعثمان. ٢٢
يقول تعالى مخبرًا عمن اتصف بهذه الصفات الحميدة، بأن لهم ﴿ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ وهي العاقبة والنصرة في الدنيا والآخرة.
١ - في أ :"فعظموا"..
٢ - في ت :"وسجودها وركوعها"..
٣ - في ت :"تخلدون"..
٤ - في أ :"حرة"..
٥ - في أ :"إنهم"..
٦ - في أ :"ترفع من"..
٧ - في ت :"واتبعتهم"..
٨ - في أ :"ذرياتهم"..
٩ - في ت، أ :"عند"..
١٠ - في ت، أ :"حدثني"..
١١ - في ت :"عنه"..
١٢ - في ت :"المهاجرين"..
١٣ - في ت، أ :"ولا"..
١٤ - في ت، أ :"ويسد"..
١٥ - في ت، أ :"ويتقى"..
١٦ - المسند (٢/١٦٨) وقال الهيثمي في المجمع (١٠/٢٥٩) :"رجاله ثقات"..
١٧ - في ت :"قاتلوا"..
١٨ - المعجم الكبير للطبراني برقم (١٥٢) "القطعة المفقودة" ورواه الحاكم في المستدرك (٢/٧١) من طريق محمد بن عبد الله عن ابن وهب، به نحوه، وقال :"هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي..
١٩ - زيادة من ت، أ، والطبري"..
٢٠ - تفسير الطبري (١٦/٤٢٥)..
٢١ - كذا وقع في تفسير الطبري، ونقله أيضا ابن القيم في حادى الأرواح (٢/٣٨) "أبو الحجاج" وفي ترجمته في الجرح والتعديل (٩/٢٣٥) والتاريخ الكبير (٤/٢/٣٧٦) والثقات لابن حبان (٥/٥٥٢) :"يوسف الألهاني، أبو الضحاك الحمصي، سمع أبا أمامة وابن عمر، وروي عنه أرطاة بن المنذر". وانظر حاشية الأستاذ محمود شاكر على تفسير الطبري (١٦/٤٢٦)..
٢٢ - رواه الطبري في تفسيره (١٦/٤٢٦) عن سهيل عن محمد بن إبراهيم التيمي مرسلا، وهذا معضل..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٢:﴿ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ ﴾ أي : عن المحارم والمآثم، ففطموا١ نفوسهم عن ذلك لله عز وجل ؛ ابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه ﴿ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ ﴾ بحدودها ومواقيتها وركوعها وسجودها٢ وخشوعها على الوجه الشرعي المرضي، ﴿ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ ﴾ أي : على الذين يجب عليهم الإنفاق لهم من زوجات وقرابات وأجانب، من فقراء ومحاويج ومساكين، ﴿ سِرًّا وَعَلانِيَةً ﴾ أي : في السر والجهر، لم يمنعهم من ذلك حال من الأحوال، في آناء الليل وأطراف النهار، ﴿ وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ﴾ أي : يدفعون القبيح بالحسن، فإذا آذاهم أحد قابلوه بالجميل صبرا واحتمالا وصفحا وعفوا، كما قال تعالى :﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [ فصلت : ٣٤، ٣٥ ] ؛ ولهذا قال مخبرًا عن هؤلاء السعداء المتصفين بهذه الصفات الحسنة بأن لهم عقبى الدار، ثم فسر ذلك بقوله :﴿ جَنَّاتِ عَدْنٍ ﴾ والعدن : الإقامة، أي : جنات إقامة يخلدون٣ فيها.
وعن عبد الله بن عمرو أنه قال : إن في الجنة قصرا يقال له :" عدن "، حوله البروج والمروج، فيه خمسة آلاف باب، على كل باب خمسة آلاف حِبْرة٤ لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد.
وقال الضحاك في قوله :﴿ جَنَّاتِ عَدْنٍ ﴾ مدينة الجنة، فيها الرسل والأنبياء والشهداء وأئمة الهدى، والناس حولهم بعد والجنات حولها. رواهما ابن جرير.
وقوله :﴿ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ﴾ أي : يجمع بينهم وبين أحبابهم فيها من الآباء والأهلين والأبناء، ممن هو صالح لدخول الجنة من المؤمنين ؛ لتقر أعينهم بهم، حتى إنه٥ ترفع٦ درجة الأدنى إلى درجة الأعلى، من غير تنقيص لذلك الأعلى عن درجته، بل امتنانًا من الله وإحسانا، كما قال تعالى :﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شِيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ﴾ [ الطور : ٢١ ]. ٧-٨ وقوله :﴿ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ أي : وتدخل عليهم الملائكة من هاهنا وهاهنا للتهنئة بدخول الجنة، فعند٩ دخولهم إياها تفد عليهم الملائكة مسلمين مهنئين لهم بما حصل لهم من الله من التقريب والإنعام، والإقامة في دار السلام، في جوار الصديقين والأنبياء والرسل الكرام.
وقال الإمام أحمد، رحمه الله : حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثني سعيد بن أبي أيوب، حدثنا١٠ معروف بن سُوَيْد الجذامي عن أبي عشانة المعافري، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهما١١ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :" هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم. قال :" أول من يدخل الجنة من خلق الله الفقراء المهاجرون١٢ الذين تُسدُّ بهم الثغور،
وتُتَّقَى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء، فيقول الله تعالى لمن يشاء من ملائكته : ائتوهم فحيوهم. فتقول الملائكة : نحن سكان سمائك، وخيرتك من خلقك، أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء فنسلم عليهم ؟ قال : إنهم كانوا عبادا يعبدونني لا١٣ يشركون بي شيئًا، وتُسَد١٤ بهم الثغور، وتتقى١٥ بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره فلا يستطيع لها قضاء ". قال :" فتأتيهم الملائكة عند ذلك، فيدخلون عليهم من كل باب، ﴿ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾١٦ ورواه أبو القاسم الطبراني، عن أحمد بن رشدين، عن أحمد بن صالح، عن عبد الله بن وهب، عن عَمْرو بن الحارث، عن أبي عُشَّانة سمع عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" أول ثلة يدخلون الجنة فقراء المهاجرين، الذين تتقى بهم المكاره، وإذا أمروا سمعوا وأطاعوا، وإن كانت لرجل منهم حاجة إلى سلطان لم تُقْضَ حتى يموت وهي في صدره، وإن الله يدعو يوم القيامة الجنة فتأتي بزخرفها وزينتها، فيقول : أين عبادي الذين قاتلوا في سبيلي، وأوذوا في سبيلي، وجاهدوا في سبيلي ؟ ادخلوا الجنة بغير عذاب ولا حساب، وتأتي الملائكة فيسجدون ويقولون : ربنا نحن نسبحك الليل والنهار، ونُقدس لك، من هؤلاء الذين آثرتهم علينا ؟ فيقول الرب عز وجل : هؤلاء عبادي الذين جاهدوا١٧ في سبيلي، وأوذوا في سبيلي فتدخل عليهم الملائكة من كل باب :﴿ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾١٨ وقال عبد الله بن المبارك، عن بَقِيَّة بن الوليد، حدثنا أرطأة بن المنذر، سمعت رجلا من مشيخة الجند، يقال له " أبو الحجاج " يقول : جلست إلى أبي أمامة فقال : إن المؤمن ليكون متكئًا على أريكته إذا دخل الجنة، وعنده سماطان من خدم، وعند طرف السماطين باب مبوب، فيقبل الملك فيستأذن، فيقول [ أقصى الخدم ]١٩ للذي يليه :" مَلك يستأذن "، ويقول الذي يليه للذي يليه :" ملك يستأذن "، حتى يبلغ المؤمن فيقول : ائذنوا. فيقول أقربهم إلى المؤمن : ائذنوا، ويقول الذي يليه للذي يليه : ائذنوا حتى يبلغ أقصاهم الذي عند الباب، فيفتح له، فيدخل فيسلم ثم ينصرف. رواه ابن جرير. ٢٠ ورواه ابن أبي حاتم من حديث إسماعيل بن عياش، عن أرطأة بن المنذر، عن أبي الحجاج٢١
يوسف الألهاني قال : سمعت أبا أمامة، فذكر نحوه.
وقد جاء في الحديث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزور قبور الشهداء في رأس كل حول، فيقول لهم :﴿ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ وكذا أبو بكر، وعمر وعثمان. ٢٢
يقول تعالى مخبرًا عمن اتصف بهذه الصفات الحميدة، بأن لهم ﴿ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ وهي العاقبة والنصرة في الدنيا والآخرة.
١ - في أ :"فعظموا"..
٢ - في ت :"وسجودها وركوعها"..
٣ - في ت :"تخلدون"..
٤ - في أ :"حرة"..
٥ - في أ :"إنهم"..
٦ - في أ :"ترفع من"..
٧ - في ت :"واتبعتهم"..
٨ - في أ :"ذرياتهم"..
٩ - في ت، أ :"عند"..
١٠ - في ت، أ :"حدثني"..
١١ - في ت :"عنه"..
١٢ - في ت :"المهاجرين"..
١٣ - في ت، أ :"ولا"..
١٤ - في ت، أ :"ويسد"..
١٥ - في ت، أ :"ويتقى"..
١٦ - المسند (٢/١٦٨) وقال الهيثمي في المجمع (١٠/٢٥٩) :"رجاله ثقات"..
١٧ - في ت :"قاتلوا"..
١٨ - المعجم الكبير للطبراني برقم (١٥٢) "القطعة المفقودة" ورواه الحاكم في المستدرك (٢/٧١) من طريق محمد بن عبد الله عن ابن وهب، به نحوه، وقال :"هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي..
١٩ - زيادة من ت، أ، والطبري"..
٢٠ - تفسير الطبري (١٦/٤٢٥)..
٢١ - كذا وقع في تفسير الطبري، ونقله أيضا ابن القيم في حادى الأرواح (٢/٣٨) "أبو الحجاج" وفي ترجمته في الجرح والتعديل (٩/٢٣٥) والتاريخ الكبير (٤/٢/٣٧٦) والثقات لابن حبان (٥/٥٥٢) :"يوسف الألهاني، أبو الضحاك الحمصي، سمع أبا أمامة وابن عمر، وروي عنه أرطاة بن المنذر". وانظر حاشية الأستاذ محمود شاكر على تفسير الطبري (١٦/٤٢٦)..
٢٢ - رواه الطبري في تفسيره (١٦/٤٢٦) عن سهيل عن محمد بن إبراهيم التيمي مرسلا، وهذا معضل..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٢:﴿ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ ﴾ أي : عن المحارم والمآثم، ففطموا١ نفوسهم عن ذلك لله عز وجل ؛ ابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه ﴿ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ ﴾ بحدودها ومواقيتها وركوعها وسجودها٢ وخشوعها على الوجه الشرعي المرضي، ﴿ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ ﴾ أي : على الذين يجب عليهم الإنفاق لهم من زوجات وقرابات وأجانب، من فقراء ومحاويج ومساكين، ﴿ سِرًّا وَعَلانِيَةً ﴾ أي : في السر والجهر، لم يمنعهم من ذلك حال من الأحوال، في آناء الليل وأطراف النهار، ﴿ وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ﴾ أي : يدفعون القبيح بالحسن، فإذا آذاهم أحد قابلوه بالجميل صبرا واحتمالا وصفحا وعفوا، كما قال تعالى :﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [ فصلت : ٣٤، ٣٥ ] ؛ ولهذا قال مخبرًا عن هؤلاء السعداء المتصفين بهذه الصفات الحسنة بأن لهم عقبى الدار، ثم فسر ذلك بقوله :﴿ جَنَّاتِ عَدْنٍ ﴾ والعدن : الإقامة، أي : جنات إقامة يخلدون٣ فيها.
وعن عبد الله بن عمرو أنه قال : إن في الجنة قصرا يقال له :" عدن "، حوله البروج والمروج، فيه خمسة آلاف باب، على كل باب خمسة آلاف حِبْرة٤ لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد.
وقال الضحاك في قوله :﴿ جَنَّاتِ عَدْنٍ ﴾ مدينة الجنة، فيها الرسل والأنبياء والشهداء وأئمة الهدى، والناس حولهم بعد والجنات حولها. رواهما ابن جرير.
وقوله :﴿ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ﴾ أي : يجمع بينهم وبين أحبابهم فيها من الآباء والأهلين والأبناء، ممن هو صالح لدخول الجنة من المؤمنين ؛ لتقر أعينهم بهم، حتى إنه٥ ترفع٦ درجة الأدنى إلى درجة الأعلى، من غير تنقيص لذلك الأعلى عن درجته، بل امتنانًا من الله وإحسانا، كما قال تعالى :﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شِيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ﴾ [ الطور : ٢١ ]. ٧-٨ وقوله :﴿ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ أي : وتدخل عليهم الملائكة من هاهنا وهاهنا للتهنئة بدخول الجنة، فعند٩ دخولهم إياها تفد عليهم الملائكة مسلمين مهنئين لهم بما حصل لهم من الله من التقريب والإنعام، والإقامة في دار السلام، في جوار الصديقين والأنبياء والرسل الكرام.
وقال الإمام أحمد، رحمه الله : حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثني سعيد بن أبي أيوب، حدثنا١٠ معروف بن سُوَيْد الجذامي عن أبي عشانة المعافري، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهما١١ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :" هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم. قال :" أول من يدخل الجنة من خلق الله الفقراء المهاجرون١٢ الذين تُسدُّ بهم الثغور،
وتُتَّقَى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء، فيقول الله تعالى لمن يشاء من ملائكته : ائتوهم فحيوهم. فتقول الملائكة : نحن سكان سمائك، وخيرتك من خلقك، أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء فنسلم عليهم ؟ قال : إنهم كانوا عبادا يعبدونني لا١٣ يشركون بي شيئًا، وتُسَد١٤ بهم الثغور، وتتقى١٥ بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره فلا يستطيع لها قضاء ". قال :" فتأتيهم الملائكة عند ذلك، فيدخلون عليهم من كل باب، ﴿ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾١٦ ورواه أبو القاسم الطبراني، عن أحمد بن رشدين، عن أحمد بن صالح، عن عبد الله بن وهب، عن عَمْرو بن الحارث، عن أبي عُشَّانة سمع عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" أول ثلة يدخلون الجنة فقراء المهاجرين، الذين تتقى بهم المكاره، وإذا أمروا سمعوا وأطاعوا، وإن كانت لرجل منهم حاجة إلى سلطان لم تُقْضَ حتى يموت وهي في صدره، وإن الله يدعو يوم القيامة الجنة فتأتي بزخرفها وزينتها، فيقول : أين عبادي الذين قاتلوا في سبيلي، وأوذوا في سبيلي، وجاهدوا في سبيلي ؟ ادخلوا الجنة بغير عذاب ولا حساب، وتأتي الملائكة فيسجدون ويقولون : ربنا نحن نسبحك الليل والنهار، ونُقدس لك، من هؤلاء الذين آثرتهم علينا ؟ فيقول الرب عز وجل : هؤلاء عبادي الذين جاهدوا١٧ في سبيلي، وأوذوا في سبيلي فتدخل عليهم الملائكة من كل باب :﴿ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾١٨ وقال عبد الله بن المبارك، عن بَقِيَّة بن الوليد، حدثنا أرطأة بن المنذر، سمعت رجلا من مشيخة الجند، يقال له " أبو الحجاج " يقول : جلست إلى أبي أمامة فقال : إن المؤمن ليكون متكئًا على أريكته إذا دخل الجنة، وعنده سماطان من خدم، وعند طرف السماطين باب مبوب، فيقبل الملك فيستأذن، فيقول [ أقصى الخدم ]١٩ للذي يليه :" مَلك يستأذن "، ويقول الذي يليه للذي يليه :" ملك يستأذن "، حتى يبلغ المؤمن فيقول : ائذنوا. فيقول أقربهم إلى المؤمن : ائذنوا، ويقول الذي يليه للذي يليه : ائذنوا حتى يبلغ أقصاهم الذي عند الباب، فيفتح له، فيدخل فيسلم ثم ينصرف. رواه ابن جرير. ٢٠ ورواه ابن أبي حاتم من حديث إسماعيل بن عياش، عن أرطأة بن المنذر، عن أبي الحجاج٢١
يوسف الألهاني قال : سمعت أبا أمامة، فذكر نحوه.
وقد جاء في الحديث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزور قبور الشهداء في رأس كل حول، فيقول لهم :﴿ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ وكذا أبو بكر، وعمر وعثمان. ٢٢
يقول تعالى مخبرًا عمن اتصف بهذه الصفات الحميدة، بأن لهم ﴿ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ وهي العاقبة والنصرة في الدنيا والآخرة.
١ - في أ :"فعظموا"..
٢ - في ت :"وسجودها وركوعها"..
٣ - في ت :"تخلدون"..
٤ - في أ :"حرة"..
٥ - في أ :"إنهم"..
٦ - في أ :"ترفع من"..
٧ - في ت :"واتبعتهم"..
٨ - في أ :"ذرياتهم"..
٩ - في ت، أ :"عند"..
١٠ - في ت، أ :"حدثني"..
١١ - في ت :"عنه"..
١٢ - في ت :"المهاجرين"..
١٣ - في ت، أ :"ولا"..
١٤ - في ت، أ :"ويسد"..
١٥ - في ت، أ :"ويتقى"..
١٦ - المسند (٢/١٦٨) وقال الهيثمي في المجمع (١٠/٢٥٩) :"رجاله ثقات"..
١٧ - في ت :"قاتلوا"..
١٨ - المعجم الكبير للطبراني برقم (١٥٢) "القطعة المفقودة" ورواه الحاكم في المستدرك (٢/٧١) من طريق محمد بن عبد الله عن ابن وهب، به نحوه، وقال :"هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي..
١٩ - زيادة من ت، أ، والطبري"..
٢٠ - تفسير الطبري (١٦/٤٢٥)..
٢١ - كذا وقع في تفسير الطبري، ونقله أيضا ابن القيم في حادى الأرواح (٢/٣٨) "أبو الحجاج" وفي ترجمته في الجرح والتعديل (٩/٢٣٥) والتاريخ الكبير (٤/٢/٣٧٦) والثقات لابن حبان (٥/٥٥٢) :"يوسف الألهاني، أبو الضحاك الحمصي، سمع أبا أمامة وابن عمر، وروي عنه أرطاة بن المنذر". وانظر حاشية الأستاذ محمود شاكر على تفسير الطبري (١٦/٤٢٦)..
٢٢ - رواه الطبري في تفسيره (١٦/٤٢٦) عن سهيل عن محمد بن إبراهيم التيمي مرسلا، وهذا معضل..

يُوسُفَ الْأَلْهَانِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ.
وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَزُورُ قُبُورَ الشُّهَدَاءِ فِي رَأْسِ كُلِّ حَوْلٍ، فَيَقُولُ لَهُمْ: ﴿سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ وَكَذَا أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ. (١)
﴿وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥) ﴾
هَذَا حَالُ الْأَشْقِيَاءِ وَصِفَاتُهُمْ، وَذَكَرَ مَآلَهُمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ وَمَصِيرَهُمْ إِلَى خِلَافِ مَا صَارَ إِلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ، كَمَا أَنَّهُمُ اتَّصَفُوا بِخِلَافِ صِفَاتِهِمْ فِي الدُّنْيَا، فَأُولَئِكَ كَانُوا يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَيَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، وَهَؤُلَاءِ ﴿يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ﴾ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ: "آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ" وَفِي رِوَايَةٍ: "وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجر".
وَلِهَذَا قَالَ: ﴿أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ﴾ وَهِيَ الْإِبْعَادُ عَنِ الرَّحْمَةِ، ﴿وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾ وَهِيَ سُوءُ الْعَاقِبَةِ وَالْمَآلِ، وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْقَرَارُ. (٢)
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ﴾ الْآيَةَ، قَالَ: هِيَ سِتُّ خِصَالٍ فِي الْمُنَافِقِينَ إِذَا كَانَ فِيهِمُ الظَّهرة عَلَى النَّاسِ أَظْهَرُوا هَذِهِ الْخِصَالَ: إِذَا حَدَّثُوا كَذَبُوا، وَإِذَا وَعَدُوا أَخْلَفُوا، وَإِذَا ائْتُمِنُوا خَانُوا، وَنَقَضُوا عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ، وَقَطَعُوا مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، وَأَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ. وَإِذَا كَانَتِ الظَّهرة عَلَيْهِمْ أَظْهَرُوا الثَّلَاثَ الْخِصَالَ: إِذَا حَدَّثُوا كَذَبُوا، وَإِذَا وَعَدُوا أَخْلَفُوا، وَإِذَا ائْتُمِنُوا خَانُوا.
﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مَتَاعٌ (٢٦) ﴾
يَذْكُرُ تَعَالَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُوَسِّعُ الرِّزْقَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، وَيُقَتِّرُهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْعَدْلِ. وَفَرِحَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ بِمَا أُوتُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا اسْتِدْرَاجًا لَهُمْ وَإِمْهَالًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ﴾ [الْمُؤْمِنُونَ: ٥٥، ٥٦].
ثُمَّ حَقَّرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا ادَّخَرَهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فَقَالَ: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مَتَاعٌ﴾
(١) رواه الطبري في تفسيره (١٦/٤٢٦) عن سهيل عن محمد بن إبراهيم التيمي مرسلا، وهذا معضل.
(٢) في ت، أ: "المهاد".
يذكر تعالى أنه هو الذي يوسع الرزق على من يشاء، ويقتره على من يشاء، لما له في ذلك من الحكمة والعدل. وفرح هؤلاء الكفار بما أوتوا في الحياة الدنيا استدراجا لهم وإمهالا كما قال تعالى :﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٥٥، ٥٦ ].
ثم حقر الحياة الدنيا بالنسبة إلى ما ادخره تعالى لعباده المؤمنين في الدار الآخرة فقال :﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مَتَاعٌ ﴾
كما قال :﴿ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا ﴾ [ النساء : ٧٧ ] وقال ﴿ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [ الأعلى : ١٦، ١٧ ].
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ويحيى بن سعيد قالا حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس، عن المستورد أخي بني فهر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما الدنيا في الآخرة إلا كمثل ما يجعل أحدكم أصبعه هذه في اليم، فلينظر بم ترجع " وأشار بالسبابة. ورواه مسلم في صحيحه. ١ وفي الحديث الآخر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بِجَدْيٍ أسكَّ٢ ميتٍ - والأسك٣ الصغير الأذنين - فقال :" والله للدنيا أهون على الله من هذا على أهله حين ألقوه ". ٤
١ - المسند (٤/٢٢٨) وصحيح مسلم برقم (٢٨٥٨)..
٢ - في ت، أ :"أشك"..
٣ - في ت، أ :"والأشك"..
٤ - رواه مسلم في صحيحه برقم (٢٩٥٧) من حديث جابر، رضي الله عنه..
كَمَا قَالَ: ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا﴾ [النِّسَاءِ: ٧٧] وَقَالَ ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [الْأَعْلَى: ١٦، ١٧].
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيع وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَا حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسٍ، عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ أَخِي بَني فِهْرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا كَمَثَلِ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ" وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ. (١)
وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم مَرَّ بِجَدْيٍ أسكَّ (٢) ميتٍ -وَالْأَسَكُّ (٣) الصَّغِيرُ الْأُذُنَيْنِ -فَقَالَ: "وَاللَّهِ لِلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذَا عَلَى أَهْلِهِ حِينَ أَلْقَوْهُ". (٤)
﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (٢٧) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) ﴾
(١) المسند (٤/٢٢٨) وصحيح مسلم برقم (٢٨٥٨).
(٢) في ت، أ: "أشك".
(٣) في ت، أ: "والأشك".
(٤) رواه مسلم في صحيحه برقم (٢٩٥٧) من حديث جابر، رضي الله عنه.
﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ ﴾ أي : تطيب وتركن إلى جانب١ الله، وتسكن عند ذكره، وترضى به مولى ونصيرًا ؛ ولهذا قال :﴿ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ أي : هو حقيق بذلك.
١ - في ت، أ :"جناب"..
﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩) ﴾
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ قِيلِ (١) الْمُشْرِكِينَ: ﴿لَوْلا﴾ أَيْ: هَلَّا ﴿أُنزلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ﴾ كَمَا قَالُوا: ﴿فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأوَّلُونَ﴾ [الْأَنْبِيَاءِ: ٥] وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا غَيْرَ مَرَّةٍ، وَإِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى إِجَابَةٍ مَا سَأَلُوا. وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَى رَسُولِهِ لَمَّا سَأَلُوهُ أَنْ يُحَوِّلَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبًا، وَأَنْ يُجْرِيَ لَهُمْ يَنْبُوعًا، وَأَنْ يُزِيحَ الْجِبَالَ مِنْ حَوْلِ مَكَّةَ فَيَصِيرُ مَكَانَهَا مُرُوجٌ وَبَسَاتِينُ: إِنْ شِئْتَ يَا مُحَمَّدُ أَعْطَيْتُهُمْ ذَلِكَ، فَإِنْ كَفَرُوا فَإِنِّي أُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، وَإِنْ شِئْتَ فَتَحْتُ عَلَيْهِمْ بَابَ التَّوْبَةِ وَالرَّحْمَةِ، فَقَالَ: "بَلْ تَفْتَحُ لَهُمْ بَابَ التَّوْبَةِ وَالرَّحْمَةِ" (٢) ؛ وَلِهَذَا قَالَ لِرَسُولِهِ: ﴿قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ﴾ أَيْ: هُوَ الْمُضِلُّ وَالْهَادِي، سَوَاءٌ بَعَثَ الرَّسُولَ بِآيَةٍ عَلَى وَفْقِ مَا اقْتَرَحُوا، أَوْ لَمْ يُجِبْهُمْ إِلَى سُؤَالِهِمْ؛ فَإِنَّ الْهِدَايَةَ وَالْإِضْلَالَ لَيْسَ مَنُوطًا بِذَلِكَ وَلَا عَدَمِهِ، كَمَا قَالَ: ﴿وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [يُونُسَ: ١٠١] وَقَالَ ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ﴾ [يُونُسَ: ٩٦، ٩٧] وَقَالَ ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نزلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ﴾ [الْأَنْعَامِ: ١١١] ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ﴾ أَيْ: وَيَهْدِي مَنْ أَنَابَ إِلَى اللَّهِ، ورجع إليه، واستعان به، وتضرع لديه.
(١) في ت: "قتل".
(٢) رواه أحمد في المسند (١/٢٤٢) من حديث ابن عباس، رضي الله عنهما.
454
﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ﴾ أَيْ: تَطِيبُ وَتَرْكَنُ إِلَى جَانِبِ (١) اللَّهِ، وَتَسْكُنُ عِنْدَ ذِكْرِهِ، وَتَرْضَى بِهِ مَوْلًى وَنَصِيرًا؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ أَيْ: هُوَ حَقِيقٌ بِذَلِكَ.
﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ﴾ قَالَ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَرَحٌ وقُرة عَيْنٍ. وَقَالَ عِكْرِمة: نعم مالهم.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: غِبْطَةٌ لَهُم. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخعي: خَيْرٌ لَهُمْ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ كَلِمَةٌ عَرَبِيَّةٌ (٢) يَقُولُ الرَّجُلُ: "طُوبَى لَكَ"، أَيْ: أَصَبْتَ خَيْرًا. وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ: ﴿طُوبَى لَهُمْ﴾ حُسْنَى لَهُمْ.
﴿وَحُسْنُ مَآبٍ﴾ أَيْ: مَرْجِعٍ.
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهَا.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿طُوبَى لَهُمْ﴾ قَالَ: هِيَ أَرْضُ الْجَنَّةِ بِالْحَبَشِيَّةِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَسْجُوح: طُوبَى اسْمُ الْجَنَّةِ بِالْهِنْدِيَّةِ. وَكَذَا رَوَى السُّدِّيُّ، عَنْ عِكْرِمة: ﴿طُوبَى لَهُمْ﴾ أَيِ: الْجَنَّةُ. وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ وَفَرَغَ مِنْهَا قَالَ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ﴾ وَذَلِكَ حِينَ أَعْجَبَتْهُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ شَهْر بْنِ حَوْشَب قَالَ: ﴿طُوبَى﴾ شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ، كُلُّ شَجَرِ الْجَنَّةِ مِنْهَا، أَغْصَانُهَا مِنْ وَرَاءِ سُورِ الْجَنَّةِ.
وَهَكَذَا رُوي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُغِيثِ بْنِ سُمَىّ، وَأَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعي وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: أَنَّ طُوبَى شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ، فِي كُلِّ دَارٍ مِنْهَا غُصْنٌ مِنْهَا.
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الرَّحْمَنَ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى، غَرَسَهَا بِيَدِهِ مِنْ حَبَّةِ لُؤْلُؤَةٍ، وَأَمَرَهَا أَنْ تَمْتَدَّ، فَامْتَدَّتْ إِلَى حَيْثُ يَشَاءُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَخَرَجَتْ مِنْ أَصْلِهَا يَنَابِيعُ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ، مِنْ عَسَلٍ وَخَمْرٍ وَمَاءٍ وَلَبَنٍ. (٣)
وَقَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، أَنَّ درَّاجا أَبَا السَّمْح حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، [مَرْفُوعًا: "طُوبَى: شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ مَسِيرَةُ مِائَةِ سَنَةٍ، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها". (٤)
(١) في ت، أ: "جناب".
(٢) في ت، أ: "غريبة".
(٣) في ت: "ولبن وماء".
(٤) رواه الطبري في تفسيره (١٦/٤٤٣) قال أحمد، رحمه الله: "أحاديث دَرَّاجٍ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ فيها ضعف".
455
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ مُوسَى، سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ لَهِيعة، حَدَّثَنَا دَرَّاج أَبُو السَّمْحِ، أَنَّ أَبَا الْهَيْثَمِ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ] (١) عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، طُوبَى لِمَنْ رَآكَ وَآمَنَ بِكَ. قَالَ: "طُوبَى لِمَنْ رَآنِي وَآمَنَ بِي، ثُمَّ طُوبَى، ثُمَّ طُوبَى، ثُمَّ طُوبَى لِمَنْ آمَنَ بِي وَلَمْ يَرَنِي". قَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَمَا طُوبَى؟ قَالَ: "شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ مَسِيرَةُ مِائَةِ عَامٍ، ثِيَابُ أَهْلِ الْجَنَّةِ تَخْرُجُ مِنْ أَكْمَامِهَا". (٢)
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ جَمِيعًا، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، عَنْ مُغِيرَةَ الْمَخْزُومِيِّ، عَنْ وَهيب، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لَا يَقْطَعُهَا" قَالَ: فَحَدَّثْتُ بِهِ النُّعْمَانَ بْنَ أَبِي عَيَّاشٍ الزّرَقي، فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ الخُدْري، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ الجَوَاد المضمَّرَ السَّرِيعَ مِائَةَ عَامٍ مَا يَقْطَعُهَا". (٣)
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيع، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي قَوْلِ اللَّهِ: ﴿وَظِلٍّ مَمْدُودٍ﴾ [الْوَاقِعَةِ: ٣٠] قَالَ: "فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةٌ يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لَا يَقْطَعُهَا". (٤)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُرَيْج، حَدَّثَنَا فُلَيْح، عَنْ هِلَالِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةٌ يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ سَنَةٍ (٥) اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ ﴿وَظِلٍّ مَمْدُودٍ﴾ أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. (٦)
وَقَالَ [الْإِمَامُ] (٧) أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ وَحَجَّاجٌ قَالَا حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، سَمِعْتُ أَبَا الضَّحَّاكِ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا سَبْعِينَ -أَوْ: مِائَةَ -سَنَةٍ هِيَ شَجَرَةُ الْخُلْدِ". (٨)
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَكَرَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى، قَالَ: "يَسِيرُ فِي ظِلِّ الْفَنَنِ مِنْهَا الرَّاكِبُ مِائَةَ سَنَةٍ -أَوْ: قَالَ-: يَسْتَظِلُّ فِي الْفَنَنِ مِنْهَا مِائَةُ رَاكِبٍ، فِيهَا فِرَاشُ الذَّهَبِ، كَأَنَّ ثَمَرَهَا القلال". رواه الترمذي. (٩)
(١) زيادة من ت، أ.
(٢) المسند (٣/٧١).
(٣) صحيح البخاري برقم (٦٥٥٢) وصحيح مسلم برقم (٢٨٢٧).
(٤) صحيح البخاري برقم (٣٢٥١).
(٥) في أ: "عام".
(٦) المسند (٢/٤٨٢).
(٧) زيادة من أ.
(٨) المسند (٢/٤٥٥).
(٩) سنن الترمذي برقم (٢٥٤١) وقال الترمذي: "حديث حسن غريب" وفي بعض النسخ: "حسن صحيح غريب".
456
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَّامٍ الْأَسْوَدِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ الْبَاهِلِيَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا انْطُلِقَ بِهِ إِلَى طُوبَى، فَتُفْتَحُ لَهُ أَكْمَامُهَا، فَيَأْخُذُ مِنْ أَيِّ ذَلِكَ شَاءَ، إِنْ شَاءَ أَبْيَضَ، وَإِنْ شَاءَ أَحْمَرَ، وَإِنْ شَاءَ أَصْفَرَ، وَإِنْ شَاءَ أَسْوَدَ، مِثْلُ شَقَائِقِ النُّعْمَانِ وَأَرَقُّ وَأَحْسَنُ". (١)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَر، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ شَهْر بْنِ حَوْشَب، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: طُوبَى شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ، يَقُولُ اللَّهُ لَهَا: "تَفَتَّقي لِعَبْدِي عَمّا شَاءَ؛ فَتَفَتَّقُ لَهُ عَنِ الْخَيْلِ بِسُرُوجِهَا وَلُجُمِهَا، وَعَنِ الْإِبِلِ بِأَزِمَّتِهَا، وَعَمَّا شَاءَ مِنَ الْكِسْوَةِ". (٢)
وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ هَاهُنَا أَثَرًا غَرِيبًا عَجِيبًا، قَالَ وَهْبٌ، رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً يُقَالُ لَهَا: "طُوبَى"، يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لَا يَقْطَعُهَا، زَهْرُهَا رِيَاطٌ، وَوَرَقُهَا بُرُودٌ، وَقُضْبَانُهَا عَنْبَرٌ، وَبَطْحَاؤُهَا يَاقُوتٌ، وَتُرَابُهَا كَافُورٌ، وَوحَلها مِسْكٌ، يَخْرُجُ مِنْ أَصْلِهَا أَنْهَارُ الْخَمْرِ وَاللَّبَنِ وَالْعَسَلِ، وَهِيَ مَجْلِسٌ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ، فَبَيْنَا هُمْ فِي مَجْلِسِهِمْ إِذْ أَتَتْهُمْ مَلَائِكَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ يَقُودُونَ نُجُبًا مَزْمُومَةً بِسَلَاسِلَ مَنْ ذَهَبٍ وُجُوهُهَا كَالْمَصَابِيحِ حَسَنًا (٣) وَوَبَرُهَا كَخَزِّ المْرعِزّي (٤) مَنْ لِينِهِ، عَلَيْهَا رِحَالٌ أَلْوَاحُهَا مِنْ يَاقُوتٍ، وَدُفُوفُهَا (٥) مَنْ ذَهَبٍ، وَثِيَابُهَا مَنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ، فَيُنِيخُونَهَا وَيَقُولُونَ: إِنَّ رَبَّنَا أَرْسَلَنَا إِلَيْكُمْ لِتَزُورُوهُ وَتُسَلِّمُوا عَلَيْهِ قَالَ: فَيَرْكَبُونَهَا، فَهِيَ أَسْرَعُ مِنَ الطَّائِرِ، وَأَوْطَأُ مِنَ الْفِرَاشِ، نَجِيًّا مِنْ غَيْرِ مَهَنَة، يَسِيرُ الرَّجُلُ إِلَى جَنْبِ أَخِيهِ وَهُوَ يُكَلِّمُهُ وَيُنَاجِيهِ، لَا تُصِيبُ (٦) أُذُنُ رَاحِلَةٍ مِنْهَا أُذُنَ الْأُخْرَى، وَلَا بَرك رَاحِلَةٍ بَرْكَ الْأُخْرَى، حَتَّى إِنَّ شَجَرَةً لتتنحَّى عَنْ طَرِيقِهِمْ، لِئَلَّا تُفَرِّقَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَأَخِيهِ. قَالَ: فَيَأْتُونَ إِلَى الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَيُسْفِرُ لَهُمْ عَنْ وَجْهِهِ الْكَرِيمِ حَتَّى يَنْظُرُوا إِلَيْهِ، فَإِذَا رَأَوْهُ قَالُوا: اللَّهُمَّ، أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ، وَحُقَّ لَكَ الْجَلَالُ وَالْإِكْرَامُ. قَالَ: فَيَقُولُ تَعَالَى [عِنْدَ ذَلِكَ] (٧) أَنَا السَّلَامُ وَمِنِّي السَّلَامُ، وَعَلَيْكُمْ حَقَّتْ رَحْمَتِي وَمَحَبَّتِي، مَرْحَبًا بِعِبَادِي الَّذِينَ خَشُونِي بِغَيْبٍ وَأَطَاعُوا أَمْرِي".
قَالَ: فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا لَمْ نَعْبُدْكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ، وَلَمْ نُقَدِّرْكَ حَقَّ قَدْرِكَ، فَأْذَنْ لَنَا فِي السُّجُودِ قُدامك قَالَ: فَيَقُولُ اللَّهُ: "إِنَّهَا لَيْسَتْ بِدَارِ نَصَبٍ وَلَا عِبَادَةٍ، وَلَكِنَّهَا دَارُ مُلْك وَنَعِيمٍ، وَإِنِّي قَدْ رَفَعْتُ عَنْكُمْ نَصَبَ الْعِبَادَةِ، فَسَلُونِي مَا شِئْتُمْ، فَإِنَّ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْكُمْ أُمْنِيَتَهُ" فَيَسْأَلُونَهُ، حَتَّى إِنَّ أَقْصَرَهُمْ أُمْنِيَةً لَيَقُولُ: رَبِّ، تَنَافَسَ (٨) أَهْلُ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ فَتَضَايَقُوا فِيهَا، رَبِّ فَآتِنِى مِثْلَ كُلِّ شيء كانوا فيه من
(١) رواه ابن أبي الدنيا في صفة الجنة برقم (١٤٦) من طريق أبي عتبة، عن إسماعيل بن عياش، به.
(٢) تفسير الطبري (١٦/٤٣٨) ورواه ابن المبارك في الزهد برقم (٢٦٥) من طريق معمر عن الأشعث، به. وشهر بن حوشب ضعيف.
(٣) في ت، أ: "من حسنها".
(٤) في ت: "الرعزى".
(٥) في أ: "ورفرفها".
(٦) في ت، أ: "لا يصيب".
(٧) زيادة من ت، أ، والطبري.
(٨) في أ: "يتنافس".
457
يَوْمِ خَلَقَتْهَا إِلَى أَنِ انْتَهَتِ الدُّنْيَا. فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: "لَقَدْ قَصَرَتْ بِكَ أُمْنِيَتُكَ، وَلَقَدْ سَأَلَتْ دُونَ مَنْزِلَتِكَ، هَذَا لَكَ مِنِّي، [وَسَأُتْحِفُكَ بِمَنْزِلَتِي] (١) ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي عَطَائِي نَكَدٌ وَلَا تَصريد". قَالَ: ثُمَّ يَقُولُ: "اعْرِضُوا عَلَى عِبَادِي مَا لَمْ يَبْلُغْ أَمَانِيهِمْ، وَلَمْ يَخْطُرْ لَهُمْ عَلَى بَالٍ". قَالَ: فَيَعْرِضُونَ عَلَيْهِمْ حَتَّى تَقْصر بِهِمْ أَمَانِيهِمُ الَّتِي فِي أَنْفُسِهِمْ، فَيَكُونُ فِيمَا يَعْرِضُونَ عَلَيْهِمْ بِرَاذِينُ مُقْرنة، عَلَى كُلِّ أَرْبَعَةٍ مِنْهَا سَرِيرٌ مِنْ يَاقُوتَةٍ وَاحِدَةٍ، عَلَى كُلِّ سَرِيرٍ مِنْهَا قُبَّةٌ مِنْ ذَهَبٍ مُفرَّغة، فِي كُلِّ قُبَّةٍ مِنْهَا فُرُشٌ مِنْ فُرش الْجَنَّةِ مُتظاهرة، فِي كُلِّ قُبَّةٍ مِنْهَا جَارِيَتَانِ مِنَ الْحَوَرِ الْعَيْنِ، عَلَى كُلِّ جَارِيَةٍ مِنْهُنَّ ثَوْبَانِ مِنْ ثِيَابِ الْجَنَّةِ، وَلَيْسَ فِي الْجَنَّةِ لَوْنٌ إِلَّا وَهُوَ فِيهِمَا (٢) وَلَا رِيحٌ طَيِّبَةٌ إِلَّا قَدْ عَبِقَتَا بِهِ (٣) يَنْفُذُ ضَوْءُ وُجُوهِهِمَا غِلَظَ الْقُبَّةِ، حَتَّى يَظُنَّ مَنْ يَرَاهُمَا أَنَّهُمَا دُونَ الْقُبَّةِ، يَرَى مُخَّهُمَا مِنْ فَوْقِ سُوقِهِمَا، كَالسِّلْكِ الْأَبْيَضِ فِي يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، يُرَيَانِ لَهُ مِنَ الْفَضْلِ عَلَى صَاحِبَتِهِ (٤) كَفَضْلِ الشَّمْسِ عَلَى الْحِجَارَةِ أَوْ أَفْضَلَ، وَيُرَى هُوَ لَهُمَا مِثْلَ ذَلِكَ، وَيَدْخُلُ إِلَيْهِمَا فَيُحْيِّيَانِهِ وَيُقَبِّلَانِهِ وَيَعْتَنِقَانِهِ (٥) بِهِ، وَيَقُولَانِ لَهُ: وَاللَّهِ مَا ظَنَنَّا أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ مِثْلَكَ. ثُمَّ يَأْمُرُ اللَّهُ تَعَالَى الْمَلَائِكَةَ فَيَسِيرُونَ بِهِمْ صَفًّا فِي الْجَنَّةِ، حَتَّى يُنْتَهَى بِكُلِّ رِجْلٍ مِنْهُمْ إِلَى مَنْزِلَتِهِ الَّتِي أُعِدَّتْ لَهُ. (٦)
وَقَدْ رَوَى هَذَا الْأَثَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدِهِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، وَزَادَ: فَانْظُرُوا إِلَى مَوْهُوبِ رَبِّكُمُ الَّذِي وَهَبَ لَكُمْ، فَإِذَا هُوَ بِقِبَابٍ فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، وَغُرَفٍ مَبْنِيَّةٍ مِنَ الدُّرِّ وَالْمَرْجَانِ، وَأَبْوَابُهَا مَنْ ذَهَبٍ، وَسُرُرُهَا مِنْ يَاقُوتٍ، وَفُرُشُهَا مَنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ، وَمَنَابِرُهَا مِنْ نُورٍ، يَفُورُ مِنْ أَبْوَابِهَا وَعِرَاصِهَا نُورٌ مِثْلَ شُعَاعِ الشَّمْسِ عِنْدَهُ مِثْلَ الْكَوْكَبِ الدُّرِّيِّ (٧) فِي النَّهَارِ الْمُضِيءِ، وَإِذَا بِقُصُورٍ شَامِخَةٍ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ مِنَ الْيَاقُوتِ يَزْهُو نُورُهَا، فَلَوْلَا أَنَّهُ مُسَخر، إذًا لَالْتَمَعَ الأبصارَ، فَمَا كَانَ مِنْ تِلْكَ الْقُصُورِ مِنَ الْيَاقُوتِ [الْأَبْيَضِ، فَهُوَ مَفْرُوشٌ بِالْحَرِيرِ (٨) الْأَبْيَضِ، وَمَا كَانَ مِنْهَا مِنَ الْيَاقُوتِ الْأَحْمَرِ فَهُوَ مَفْرُوشٌ بِالْعَبْقَرِيِّ الْأَحْمَرِ، وَمَا كَانَ مِنْهَا مِنَ الْيَاقُوتِ الْأَخْضَرِ] (٩) فَهُوَ مَفْرُوشٌ بِالسُّنْدُسِ الْأَخْضَرِ، وَمَا كَانَ مِنْهَا مِنَ الْيَاقُوتِ الْأَصْفَرِ، فَهُوَ مَفْرُوشٌ بِالْأُرْجُوَانِ الْأَصْفَرِ مُنَزَّهٌ (١٠) بِالزُّمُرُّدِ الْأَخْضَرِ، وَالذَّهَبِ الْأَحْمَرِ، وَالْفِضَّةِ الْبَيْضَاءِ، قَوَائِمُهَا وَأَرْكَانُهَا مِنَ الْجَوْهَرِ، وشُرُفها قِبَابٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ، وَبُرُوجُهَا غُرَف مِنَ الْمَرْجَانِ. فَلَمَّا انْصَرَفُوا إِلَى مَا أَعْطَاهُمْ رَبُّهُمْ، قُرّبت لَهُمْ بِرَاذِينُ مِنْ يَاقُوتٍ أَبْيَضَ، مَنْفُوخٌ فِيهَا الرُّوحُ، تَجنَبها الْوِلْدَانُ الْمُخَلَّدُونَ بِيَدِ كُلِّ وَلِيدٍ مِنْهُمْ حَكَمَةُ بِرْذَون مِنْ تِلْكَ الْبَرَاذِينِ، وَلُجُمُهَا وَأَعِنَّتُهَا مِنْ فِضَّةٍ بَيْضَاءَ، منظومة بالدر والياقوت، سُرُوجها سُرُرٌ موضونة، مَفْرُوشَةٌ بِالسُّنْدُسِ وَالْإِسْتَبْرَقِ. فَانْطَلَقَتْ بِهِمْ تِلْكَ الْبَرَاذِينُ تَزَف بِهِمْ بِبَطْنِ (١١) رِيَاضِ الْجَنَّةِ. فَلَمَّا انْتَهَوْا إلى
(١) زيادة من ت، أ، والطبري.
(٢) في أ: "فيها".
(٣) في ت، أ: "عبقا بهما".
(٤) في أ: "صاحبه".
(٥) في ت، أ: "ويعلقانه".
(٦) تفسير الطبري (١٦/٤٣٩).
(٧) في ت، أ: "الذي".
(٨) في أ: "من الحرير".
(٩) زيادة من ت، أ.
(١٠) في أ: "مبوبة".
(١١) في أ: "وبطن".
458
مَنَازِلهمْ، وَجَدُوا الْمَلَائِكَةَ قُعُودًا عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، يَنْتَظِرُونَهُمْ لِيَزُورُوهُمْ وَيُصَافِحُوهُمْ وَيُهَنِّئُوهُمْ كرامَةَ رَبِّهِمْ. فَلَمَّا دَخَلُوا قُصُورَهُمْ وَجَدُوا فِيهَا جَمِيعَ مَا تَطَاول بِهِ عَلَيْهِمْ (١) وَمَا سَأَلُوا وَتَمَنَّوْا، وَإِذَا عَلَى بَابٍ كَلِّ قَصْرٍ مِنْ تِلْكَ الْقُصُورِ أَرْبَعَةُ جِنَانٍ، [جَنَّتَانِ] (٢) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ، وَجَنَّتَانِ مُدْهامتان، وَفِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ، وَفِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ، وَحُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ، فَلَمَّا تَبَيَّنُوا (٣) مَنَازِلَهُمْ وَاسْتَقَرُّوا قَرَارَهُمْ قَالَ لَهُمْ رَبُّهُمْ: هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَتْكُمْ (٤) حَقًّا؟ قَالُوا: نَعَمْ ورَبِّنَا. قَالَ: هَلْ رَضِيتُمْ ثَوَابَ رَبِّكُمْ؟ قَالُوا: رَبَّنَا، رَضِينَا فَارْضَ عَنَّا قَالَ: بِرِضَايَ (٥) عَنْكُمْ حَلَلْتُمْ دَارِي، وَنَظَرْتُمْ إِلَى وَجْهِي، وَصَافَحَتْكُمْ مَلَائِكَتِي، فَهَنِيئًا هَنِيئًا لَكُمْ، ﴿عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾ [هُودٍ: ١٠٨] لَيْسَ فِيهِ تَنْغِيصٌ وَلَا تَصْرِيدٌ. فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ، وَأَدْخَلَنَا (٦) دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ، لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ، إِنَّ رَبَّنَا لِغَفُورٌ شَكُورٌ.
وَهَذَا سِيَاقٌ غَرِيبٌ، وَأَثَرٌ عَجِيبٌ وَلِبَعْضِهِ شَوَاهِدُ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي يَكُونُ آخَرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ: تَمَنَّ"، فَيَتَمَنَّى (٧) حَتَّى إِذَا انْتَهَتْ بِهِ الْأَمَانِي يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: "تَمَنَّ مِنْ كَذَا وَتَمَنَّ مِنْ كَذَا"، يُذَكِّرُهُ، ثُمَّ يَقُولُ: "ذَلِكَ لَكَ، وَعَشْرَةُ أَمْثَالِهِ". (٨)
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ (٩) يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ (١٠) مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ من ملكي شيئا، إلا كما ينقص المخيط إِذَا أُدْخِلَ فِي الْبَحْرِ"، الْحَدِيثَ بِطُولِهِ. (١١)
وَقَالَ خَالِدُ بْنُ مَعْدَان: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً يُقَالُ لَهَا طُوبَى، لَهَا ضُرُوعٌ، كُلُّهَا تُرْضِعُ صِبيَان أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ سَقَط الْمَرْأَةِ يَكُونُ فِي نَهْرٍ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ، يَتَقَلَّبُ فِيهِ حَتَّى تَقُومَ الْقِيَامَةُ، فَيُبْعَثُ ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
﴿كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (٣٠) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى: وَكَمَا أَرْسَلْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ: ﴿لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ أي: تبلغهم
(١) في أ: "عليهم ربهم".
(٢) زيادة من ت، أ.
(٣) في ت، أ: "تبوءوا".
(٤) في ت: "ما وعد ربكم".
(٥) في ت: "فبرضاى".
(٦) في أ: "وأحلنا".
(٧) في ت: "فيمن".
(٨) صحيح البخاري برقم (٦٥٧٣) وصحيح مسلم برقم (١٨٢) من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
(٩) في ت: "عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عن جبريل، عن الله عز وجل".
(١٠) في ت: "إنسان منهم".
(١١) صحيح مسلم برقم (٢٥٧٧).
رِسَالَةَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ، كَذَلِكَ أَرْسَلْنَا فِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ الْكَافِرَةِ بِاللَّهِ، وَقَدْ كُذّب الرُّسُلُ مِنْ قَبْلِكَ، فَلَكَ بِهِمْ أُسْوَةٌ، وَكَمَا أَوْقَعْنَا بَأْسَنَا وَنِقْمَتَنَا بِأُولَئِكَ، فَلْيَحْذَرْ هَؤُلَاءِ مِنْ حُلُولِ النِّقَمِ بِهِمْ، فَإِنَّ تَكْذِيبَهُمْ لَكَ أَشَدُّ مِنْ تَكْذِيبِ غَيْرِكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُالشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النَّحْلِ: ٦٣] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الْأَنْعَامِ: ٣٤] أَيْ: كَيْفَ نَصَرْنَاهُمْ، وَجَعَلْنَا الْعَاقِبَةَ لَهُمْ وَلِأَتْبَاعِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ﴾ أَيْ: هَذِهِ الْأُمَّةُ الَّتِي بَعَثْنَاكَ فِيهِمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ، لَا يُقِرُّونَ بِهِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَأْنَفُونَ مِنْ وَصْفِ اللَّهِ بِالرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؛ وَلِهَذَا أَنِفُوا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَنْ يَكْتُبُوا "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" وَقَالُوا: مَا نَدْرِي مَا الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ. قَالَهُ قَتَادَةُ، وَالْحَدِيثُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ (١) وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ [الْإِسْرَاءِ: ١١٠] وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ أَحَبَّ الْأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ (٢) (٣).
﴿قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلا هُوَ﴾ أَيْ: هَذَا الَّذِي تَكْفُرُونَ بِهِ أَنَا مُؤْمِنٌ بِهِ، مُعْتَرِفٌ مُقِرٌّ لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ، هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ﴾ أَيْ: فِي جَمِيعِ أُمُورِي، ﴿وَإِلَيْهِ مَتَابِ﴾ أَيْ: إِلَيْهِ أَرْجِعُ وَأُنِيبُ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ أَحَدٌ (٤) سِوَاهُ.
﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الأمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (٣١) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى مَادِحًا لِلْقُرْآنِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمُفَضِّلًا لَهُ عَلَى سَائِرِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ قَبْلَهُ: ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ﴾ أَيْ: لَوْ كَانَ فِي الْكُتُبِ الْمَاضِيَةِ كِتَابٌ تَسِيرُ بِهِ الْجِبَالُ عَنْ أَمَاكِنِهَا، أَوْ تُقَطَّعُ بِهِ الْأَرْضُ وَتَنْشَقُّ (٥) أَوْ تُكَلَّمُ (٦) بِهِ الْمَوْتَى فِي قُبُورِهَا، لَكَانَ هَذَا الْقُرْآنُ هُوَ الْمُتَّصِفُ بِذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ، أَوْ بِطْرِيقِ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِعْجَازِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَنْ آخِرِهِمْ إِذَا اجْتَمَعُوا أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ، وَلَا بِسُورَةٍ مِنْ مَثَلِهِ، وَمَعَ هذا فهؤلاء المشركون كافرون به،
(١) صحيح البخاري برقم (٢٧٣١، ٢٧٣٢) عن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة في قصة غزوة الحديبية.
(٢) في أزيادة: و"عبد الرحيم".
(٣) صحيح مسلم برقم (٢١٣٢).
(٤) في ت: "أحد ذلك".
(٥) في أ: "وتشقق".
(٦) في ت: "وتشقق وتكلم".
460
جَاحِدُونَ لَهُ، ﴿بَلْ لِلَّهِ الأمْرُ جَمِيعًا﴾ (١) أَيْ: مَرْجِعُ الْأُمُورِ كُلِّهَا إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يكن، ومن يضلل فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَمَنْ يَهْدِ (٢) اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ.
وَقَدْ يُطْلَقُ اسْمُ الْقُرْآنِ عَلَى كُلٍّ مِنَ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ؛ لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْجَمِيعِ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَر، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خُفِّفَت (٣) عَلَى دَاوُدَ الْقِرَاءَةُ، فَكَانَ يَأْمُرُ بِدَابَّتِهِ أَنْ تُسْرَجَ، فَكَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُسرج دَابَّتُهُ، وَكَانَ لَا يَأْكُلُ إِلَّا مَنْ عَمَلِ يَدَيْهِ". انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ الْبُخَارِيُّ. (٤)
وَالْمُرَادُ بِالْقُرْآنِ هُنَا الزَّبُورُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أَيْ: مِنْ إِيمَانِ جَمِيعِ الْخَلْقِ وَيَعْلَمُوا أَوْ يَتَبَيَّنُوا (٥) ﴿أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا﴾ فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ (٦) حُجَّةٌ وَلَا مُعْجِزَةٌ أَبْلَغَ وَلَا أَنْجَعَ فِي النُّفُوسِ وَالْعُقُولِ مِنْ هَذَا الْقُرْآنِ، الَّذِي لَوْ أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ أُوتِيَ مَا آمَنَ عَلَى مِثْلِهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (٧) مَعْنَاهُ: أَنَّ مُعْجِزَةَ كُلِّ نَبِيٍّ انْقَرَضَتْ بِمَوْتِهِ، وَهَذَا الْقُرْآنُ حُجَّةٌ بَاقِيَةٌ عَلَى الْآبَادِ، لَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَلَا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، هُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ. مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أَضَلَّهُ اللَّهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَة، حَدَّثَنَا مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ، أَنْبَأَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَسَّانَ، عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ قَالَ: قُلْتُ لَهُ: ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ﴾ الْآيَةَ، قَالُوا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ سَيَّرَتْ لَنَا جِبَالَ مَكَّةَ حَتَّى تَتَّسِعَ فَنَحْرُثَ فِيهَا، أَوْ قَطَعْتَ لَنَا (٨) الْأَرْضَ كَمَا كَانَ سُلَيْمَانُ يَقْطَعُ لِقَوْمِهِ بِالرِّيحِ، أَوْ أَحْيَيْتَ لَنَا الْمَوْتَى كَمَا كَانَ عِيسَى يُحْيِي الْمَوْتَى لِقَوْمِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. قَالَ: قُلْتُ: هَلْ تَرْوُونَ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نُعْمٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (٩)
وَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: لَوْ فُعِلَ هَذَا بِقُرْآنٍ غَيْرِ قُرْآنِكُمْ، فُعل بِقُرْآنِكُمْ.
وَقَوْلُهُ: ﴿بَلْ لِلَّهِ الأمْرُ جَمِيعًا﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: [أَيْ] (١٠) لَا يَصْنَعُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا ما يشاء، ولم
(١) في ت، أ: "فلله" وهو خطأ.
(٢) في ت، أ: "يهده".
(٣) في ت، أ: "خفف".
(٤) المسند (٢/٣١٤) وصحيح البخاري برقم (٣٤١٧).
(٥) في أ: "ويعلموا ويتيقنوا".
(٦) في أ: "ثمت".
(٧) صحيح البخاري برقم (٤٩٨١) وصحيح مسلم برقم (١٥٢) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٨) في ت، أ: "بنا".
(٩) ورواه ابن مردويه في تفسيرة كما في تخريج الكشاف (٢/١٩١) من طريق بشر بن عمارة به، وإسناده ضعيف جدا.
(١٠) زيادة من أ.
461
يَكُنْ لِيَفْعَلْ، رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ بِسَنَدِهِ عَنْهُ، وَقَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا.
وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ فِي قَوْلِهِ: ﴿أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أَفَلَمْ يَعْلَمِ الَّذِينَ آمَنُوا. وَقَرَأَ (١) آخَرُونَ: "أَفَلَمْ يَتَبَيَّنِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا".
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: قَدْ يَئِسَ (٢) الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يُهْدُوا، وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسِ جَمِيعًا.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ﴾ أَيْ: بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ، لَا تَزَالُ الْقَوَارِعُ تُصِيبُهُمْ فِي الدُّنْيَا، أَوْ تُصِيبُ مَنْ حَوْلَهُمْ لِيَتَّعِظُوا وَيَعْتَبِرُوا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الْأَحْقَافِ: ٢٧] وَقَالَ ﴿أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [الْأَنْبِيَاءِ: ٤٤]. (٣)
قَالَ قَتَادَةُ، عَنِ الْحَسَنِ: ﴿أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ﴾ أَيْ: الْقَارِعَةُ. وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنَ السِّيَاقِ.
قَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ﴾ (٤) قَالَ: سَرِيَّةٌ، ﴿أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ﴾ قَالَ: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ﴿حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ﴾ قَالَ: فَتْحُ مَكَّةَ. (٥)
وَهَكَذَا قَالَ عِكْرِمة، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٌ، فِي رِوَايَةٍ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ﴾ (٦) قَالَ: عَذَابٌ مِنَ السَّمَاءِ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ ﴿أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ﴾ (٧) يَعْنِي: نُزُولَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمْ وَقِتَالَهُ إِيَّاهُمْ.
وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَقَالَ عِكْرِمة فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿قَارِعَةٌ﴾ أَيْ: نَكْبَةٌ.
وَكُلُّهُمْ قَالَ: ﴿حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ﴾ يَعْنِي: فَتْحَ مَكَّةَ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ أَيْ: لَا يَنْقُضُ وَعْدَهُ لِرُسُلِهِ بِالنُّصْرَةِ لَهُمْ وَلِأَتْبَاعِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ﴿فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ﴾ [إِبْرَاهِيمَ: ٤٧].
﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (٣٢) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى مُسَلِّيًا لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَكْذِيبِ مَنْ كَذَّبَهُ مَنْ قَوْمِهُ: ﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ﴾ أَيْ: فَلَكَ فِيهِمْ أُسْوَةٌ، ﴿فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أَيْ: أَنْظَرْتُهُمْ وَأَجَّلْتُهُمْ، ﴿ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ﴾ أَخْذَةً رَابِيَةً، فَكَيْفَ بَلَغَكَ مَا صَنَعْتُ بِهِمْ وَعَاقَبْتُهُمْ؟ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ [الحج: ٤٨]
(١) في ت: "وقرأها".
(٢) في ت، أ: "أيس".
(٣) في ت، أ: "أفلم يروا" وهو خطأ.
(٤) في ت: "يصيبهم".
(٥) ومن طريق الطيالسي رواه الطبري في تفسيره (١٦/٤٥٦).
(٦) في ت: "يصيبهم".
(٧) في ت: "أو يحل".
وفي الصحيحين: "إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ"، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ [هُودٍ: ١٠٢]. (١)
﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الأرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (٣٣) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ أَيْ: حَفِيظٌ عَلِيمٌ رَقِيبٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ، يَعْلَمُ مَا يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ﴾ [يُونُسَ: ٦١] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا﴾ [الْأَنْعَامِ: ٥٩] وَقَالَ ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [هُودٍ: ٦] وَقَالَ ﴿سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ﴾ [الرَّعْدِ: ١٠] وَقَالَ ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ [طَهَ: ٧] وَقَالَ ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [الْحَدِيدِ [٤] أَفَمَنْ هُوَ هَكَذَا كَالْأَصْنَامِ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا (٢) لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ وَلَا تَعْقِلُ، وَلَا تَمْلِكُ نَفْعًا لِأَنْفُسِهَا وَلَا لِعَابِدِيهَا، وَلَا كَشْفَ ضُرٍّ عَنْهَا وَلَا عَنْ عَابِدِيهَا؟ وَحَذَفَ هَذَا الْجَوَابَ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ﴾ أَيْ: عَبَدُوهَا مَعَهُ، مِنْ أَصْنَامٍ وَأَنْدَادٍ وَأَوْثَانٍ.
﴿قُلْ سَمُّوهُمْ﴾ أَيْ: أَعْلِمُونَا بِهِمْ، وَاكْشِفُوا عَنْهُمْ حَتَّى يُعرَفوا، فَإِنَّهُمْ لَا حَقِيقَةَ لَهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الأرْضِ﴾ أَيْ: لَا وُجُودَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ (٣) وُجُودٌ فِي الْأَرْضِ لَعَلِمَهَا؛ لِأَنَّهُ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ.
﴿أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: بِظَنٍّ مِنَ الْقَوْلِ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ: بِبَاطِلٍ مِنَ الْقَوْلِ.
أَيْ إِنَّمَا عَبَدْتُمْ هَذِهِ الْأَصْنَامَ بِظَنٍّ مِنْكُمْ أَنَّهَا تَنْفَعُ وَتَضُرُّ، وَسَمَّيْتُمُوهَا آلِهَةً، ﴿إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى﴾ [النَّجْمِ: ٢٣].
﴿بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: قَوْلُهُمْ، أَيْ: مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الضلال والدعوة إليه
(١) صحيح البخاري برقم (٤٦٨٦) وصحيح مسلم برقم (٢٥٨٣) من حديث أبي موسى، رضي الله عنه.
(٢) في ت، أ: "عبدوها".
(٣) في ت، أ: "لها".
آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ﴾ [فُصِّلَتْ: ٢٥].
"وصَدُّوا عَنِ السَّبِيل": مَنْ قَرَأَهَا بِفَتْحِ الصَّادِ، مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ لَمَّا زُيِّنَ لَهُمْ مَا فِيهِ وَأَنَّهُ حَقٌّ، دَعَوا إِلَيْهِ وصَدّوا النَّاسَ عَنِ اتِّبَاعِ طَرِيقِ الرُّسُلِ. وَمَنْ قَرَأَهَا ﴿وَصُدُّوا﴾ (١) أَيْ: بِمَا زُيِّنَ لَهُمْ مِنْ صِحَّةِ مَا هُمْ عَلَيْهِ، صُدُّوا بِهِ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ كَمَا قَالَ ﴿وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾ [الْمَائِدَةِ: ٤١] وَقَالَ ﴿إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ [النَّحْلِ: ٣٧].
﴿لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (٣٤) ﴾
(١) في ت: "فصدوا عن السبيل".
﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (٣٥) ﴾
ذَكَرَ تَعَالَى عِقَابَ الْكُفَّارِ وَثَوَابَ الْأَبْرَارِ: فَقَالَ بَعْدَ، إِخْبَارِهِ عَنْ حَالِ (١) الْمُشْرِكِينَ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ: ﴿لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ أَيْ: بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ قَتْلًا وَأَسْرًا، ﴿وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ﴾ أَيِ: المدّخَر [لَهُمْ] (٢) مَعَ هَذَا الْخِزْيِ فِي الدُّنْيَا، " أَشَقُّ " أَيْ: مِنْ هَذَا بِكَثِيرٍ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لِلْمُتَلَاعِنِينَ: "إِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ" (٣) وَهُوَ كَمَا قَالَ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا لَهُ انْقِضَاءٌ، وَذَاكَ دَائِمٌ أَبَدًا فِي نَارٍ هِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذِهِ سَبْعُونَ ضِعْفًا، وَوِثَاقٌ لَا يُتَصَوَّرُ كَثَافَتُهُ وَشِدَّتُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ﴾ [الْفَجْرِ: ٢٥، ٢٦] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا﴾ [الْفُرْقَانِ: ١١ -١٥].
وَلِهَذَا قَرَنَ هَذَا بِهَذَا؛ فَقَالَ: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ﴾ أَيْ: صِفَتُهَا وَنَعْتُهَا، ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ﴾ أَيْ: سَارِحَةٌ فِي أَرْجَائِهَا وَجَوَانِبِهَا، وَحَيْثُ شَاءَ أَهْلُهَا، يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا، أَيْ: يَصْرِفُونَهَا كَيْفَ شَاءُوا وَأَيْنَ شَاءُوا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ﴾ [محمد: ١٥].
(١) في ت: "أحوال".
(٢) زيادة من ت، أ.
(٣) رواه مسلم في صحيحه برقم (١٤٩٣) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
464
وَقَوْلُهُ: ﴿أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا﴾ أَيْ: فِيهَا الْمَطَاعِمُ (١) وَالْفَوَاكِهُ وَالْمَشَارِبُ، لَا انْقِطَاعَ [لَهَا] (٢) وَلَا فَنَاءَ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ، وَفِيهِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلْتَ شَيْئًا فِي مَقَامِكَ هَذَا، ثُمَّ رَأَيْنَاكَ تَكعْكعت فَقَالَ: "إِنِّي رَأَيْتُ الْجَنَّةَ -أَوْ: أُرِيتُ الْجَنَّةَ -فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا عُنْقُودًا، وَلَوْ أَخَذْتُهُ لَأَكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا". (٣)
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَقيل، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ، إِذْ تَقَدَّمُ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَقَدَّمْنَا، ثُمَّ تَنَاوَلَ شَيْئًا لِيَأْخُذَهُ ثُمَّ تَأَخَّرَ. فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ قَالَ لَهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صَنَعْتَ الْيَوْمَ فِي الصَّلَاةِ شَيْئًا مَا رَأَيْنَاكَ كُنْتَ تَصْنَعُهُ. فَقَالَ: "إِنِّي عُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ وَمَا فِيهَا مِنَ الزَّهْرَةِ وَالنَّضْرَةِ، فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا قِطْفًا مِنْ عِنَبٍ لِآتِيَكُمْ بِهِ، فَحِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَلَوْ أَتَيْتُكُمْ بِهِ لَأَكَلَ مِنْهُ مِنْ بَيْنِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا يَنْقُصونَه". (٤)
وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، شَاهِدًا لِبَعْضِهِ. (٥)
وَعَنْ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدٍ السُّلَمِيِّ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْجَنَّةِ، فَقَالَ: فِيهَا عِنَبٌ؟ قَالَ: "نَعَمْ". قَالَ: فَمَا عِظَم الْعُنْقُودِ؟ قَالَ: "مَسِيرَةُ شَهْرٍ لِلْغُرَابِ الْأَبْقَعِ (٦) وَلَا يَفْتُرُ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. (٧)
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، حَدَّثَنَا رَيْحَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلابة، عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ، عَنْ ثَوْبان قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا نَزَعَ ثَمَرَةً مِنَ الْجَنَّةِ عَادَتْ مَكَانَهَا أُخْرَى". (٨)
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَأْكُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَيَشْرَبُونَ، وَلَا يَمْتَخِطُونَ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ وَلَا يَبُولُونَ، طَعَامُهُمْ (٩) جُشَاء كَرِيحِ الْمِسْكِ، وَيُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّقْدِيسَ (١٠) كَمَا يُلْهَمُونَ النَّفَسَ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. (١١)
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ، عَنْ ثُمَامَةَ (١٢) بْنِ عُقْبَةَ (١٣) سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، تَزْعُمُ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ؟ قال:
(١) في ت، أ: "الطعام".
(٢) زيادة من ت.
(٣) صحيح البخاري برقم (٧٤٨) وصحيح مسلم برقم (٩٠٧).
(٤) ورواه أحمد في المسند (٣/٣٥٢) من طريق عبيد الله وحسين بن محمد، عن عبيد الله به نحوه.
(٥) صحيح مسلم برقم (٩٠٤).
(٦) في أ: "لا يقع".
(٧) المسند (٤/١٨٤).
(٨) المعجم الكبير (٢/١٠٢) وعباد بن منصور متكلم فيه.
(٩) في ت، أ: "طعامهم ذلك".
(١٠) في ت، أ: "التسبيح والتكبير".
(١١) صحيح مسلم برقم (٢٨٣٥).
(١٢) في هـ، ت، أ: "تمام" والتصويب من المسند.
(١٣) في ت: "عقبة بن منبه".
465
نَعَمْ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، [إِنَّ الرَّجُلَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ] (١) لَيُعْطَى قُوَّةَ مِائَةِ رَجُلٍ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ وَالشَّهْوَةِ". قَالَ: فَإِنَّ الَّذِي يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ تَكُونُ لَهُ الْحَاجَةُ، وَلَيْسَ فِي الْجَنَّةِ أَذًى؟ قَالَ: "حَاجَةُ أَحَدِهِمْ رَشْحٌ يَفِيضُ مِنْ جُلُودِهِمْ، كَرِيحِ الْمِسْكِ، فَيَضْمُرُ بَطْنُهُ". (٢)
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ: حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ الْأَعْرَجِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّكَ لَتَنْظُرُ إِلَى الطَّيْرِ فِي الْجَنَّةِ، فَيَخِرُّ بَيْنَ يَدَيْكَ مَشْوِيًّا (٣) (٤).
وَجَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ: أَنَّهُ إِذَا فُرغ مِنْهُ عَادَ طَائِرًا كَمَا كَانَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لَا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ﴾ [الْوَاقِعَةِ: ٣٢، ٣٣] وَقَالَ ﴿وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا﴾ [الْإِنْسَانِ: ١٤].
وَكَذَلِكَ ظِلُّهَا لَا يَزُولُ وَلَا يَقْلِصُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلا ظَلِيلا﴾ [النِّسَاءِ: ٥٧].
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً، يَسِيرُ الرَّاكِبُ الْمُجِدُّ الْجَوَادَ الْمُضَمَّرَ السَّرِيعَ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لَا يَقْطَعُهَا"، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَظِلٍّ مَمْدُودٍ﴾ [الْوَاقِعَةِ: ٣٠].
وَكَثِيرًا مَا يُقْرِنُ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ صِفَةِ الْجَنَّةِ وَصِفَةِ النَّارِ، لِيُرَغِّبَ فِي الْجَنَّةِ وَيُحَذِّرَ مِنَ النَّارِ؛ وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ صِفَةَ الْجَنَّةِ بِمَا ذَكَرَ، قَالَ بَعْدَهُ: ﴿تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ﴾ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ [الْحَشْرِ: ٢٠].
وَقَالَ بِلَالُ بْنُ سَعْدٍ خَطِيبُ دِمَشْقَ فِي بَعْضِ خُطَبِهِ: عِبَادَ اللَّهِ (٥) هَلْ جَاءَكُمْ مُخْبِرٌ يُخْبِرُكُمْ أَنَّ شَيْئًا مِنْ عِبَادَتِكُمْ (٦) تُقُبِّلَتْ مِنْكُمْ، أَوْ أَنَّ شَيْئًا مِنْ خَطَايَاكُمْ غُفِرَتْ لَكُمْ؟ ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾ [الْمُؤْمِنُونَ: ١١٥] (٧) وَاللَّهِ لَوْ عُجِّل لَكُمُ الثَّوَابُ فِي الدُّنْيَا لَاسْتَقْلَلْتُمْ كُلُّكُمْ مَا افْتُرِضَ عَلَيْكُمْ، أَوَ تَرْغَبُونَ (٨) فِي طَاعَةِ اللَّهِ لِتَعْجِيلِ دُنْيَاكُمْ، وَلَا تُنَافِسُونَ فِي جَنَّةٍ ﴿أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ﴾ رَوَاهُ ابن أبي حاتم.
(١) زيادة من ت، أ، والمسند.
(٢) المسند (٤/٣٦٧).
(٣) في ت: "مستويا".
(٤) جزء الحسن بن عرفة برقم (٢٢) وحميد الأعرج ضعيف وأورد الذهبي هذا الحديث في الميزان (١/٦١٤) من جملة مناكيره.
(٥) في أ: "الرحمن".
(٦) في ت، أ: "أعمالكم".
(٧) في ت: "أم حسبتم" وهو خطأ.
(٨) في ت، أ: "أترغبون".
466
﴿وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦) وَكَذَلِكَ أَنزلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ (٣٧) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾ وَهُمْ قَائِمُونَ بِمُقْتَضَاهُ ﴿يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ﴾ أَيْ: مِنَ الْقُرْآنِ لِمَا فِي كُتُبِهِمْ مِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى صِدْقِهِ وَالْبِشَارَةِ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الْبَقَرَةِ: ١٢١] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا﴾ [الْإِسْرَاءِ: ١٠٧، ١٠٨] أَيْ: إِنْ كَانَ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ بِهِ فِي كُتُبِنَا مِنْ إِرْسَالِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَحَقًّا وَصِدْقًا مَفْعُولًا لَا مَحَالَةَ، وَكَائِنًا، فَسُبْحَانَهُ مَا أَصْدَقَ وَعْدَهُ، فَلَهُ الْحَمْدُ وَحْدَهُ، ﴿وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا﴾ [الْإِسْرَاءِ: ١٠٩].
وَقَوْلُهُ: ﴿وَمِنَ الأحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ﴾ أَيْ: وَمِنَ الطَّوَائِفِ مَنْ يُكَذِّبُ بِبَعْضِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿وَمِنَ الأحْزَابِ﴾ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ مَا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ. وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ.
وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: ١٩٩].
﴿قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ﴾ أَيْ: إِنَّمَا بُعِثْتُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، كَمَا أُرْسِلَ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ قَبْلِي، ﴿إِلَيْهِ أَدْعُو﴾ أَيْ: إِلَى سَبِيلِهِ أَدْعُو النَّاسَ، ﴿وَإِلَيْهِ مَآبِ﴾ أَيْ: مَرْجِعِي وَمَصِيرِي.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَكَذَلِكَ أَنزلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا﴾ أَيْ: وَكَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ الْمُرْسَلِينَ، وأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْكُتُبَ مِنَ السَّمَاءِ، كَذَلِكَ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ مُحْكَمًا مُعْرَبًا، شَرَّفْنَاكَ بِهِ وَفَضَّلْنَاكَ عَلَى مَنْ سِوَاكَ بِهَذَا الْكِتَابِ الْمُبِينِ الْوَاضِحِ الْجَلِيِّ الَّذِي ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فُصِّلَتْ: ١١].
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ﴾ أي: آراءهم، ﴿بَعْد مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾ أَيْ: مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ﴿مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ﴾ أَيْ: مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا وَعِيدٌ لِأَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يَتَّبِعُوا (١) سُبُلَ أَهْلِ الضَّلَالَةِ بَعْدَمَا صَارُوا إِلَيْهِ مَنْ سُلُوكِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ وَالْمَحَجَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، عَلَى مَنْ جَاءَ بِهَا أَفْضَلُ الصلاة والسلام
(١) في ت: "يبتغوا".
وقوله :﴿ وَكَذَلِكَ أَنزلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا ﴾ أي : وكما أرسلنا قبلك المرسلين، وأنزلنا عليهم الكتب من السماء، كذلك أنزلنا عليك القرآن محكما معربا، شرّفناك به وفضلناك على من سواك بهذا الكتاب المبين الواضح الجلي الذي ﴿ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [ فصلت : ١١ ].
وقوله :﴿ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ ﴾ أي : آراءهم، ﴿ بَعْد مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ﴾ أي : من الله تعالى ﴿ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ ﴾ أي : من الله تعالى. وهذا وعيد لأهل العلم أن يتبعوا١ سبل أهل الضلالة بعدما صاروا إليه من سلوك السنة النبوية والمحجة المحمدية، على من جاء بها أفضل الصلاة والسلام
[ والتحية والإكرام ]. ٢
١ - في ت :"يبتغوا"..
٢ - زيادة من أ..
[وَالتَّحِيَّةِ وَالْإِكْرَامِ]. (١)
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (٣٨) يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (٣٩) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى: وَكَمَا أَرْسَلْنَاكَ، يَا مُحَمَّدُ، رَسُولًا بَشَرِيًّا (٢) كَذَلِكَ [قَدْ] (٣) بَعَثْنَا الْمُرْسَلِينَ قَبْلَكَ بَشَرًا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ، وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَيَأْتُونَ الزَّوْجَاتِ، وَيُولَدُ لَهُمْ، وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذَرِّيَّةً، وَقَدْ قَالَ [اللَّهُ] (٤) تَعَالَى لِأَشْرَفِ الرُّسُلِ وَخَاتَمِهِمْ: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ﴾ [الْكَهْفِ: ١١٠].
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَمَّا أَنَا فَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَقُومُ وَأَنَامُ، وَآكُلُ الدَّسَمَ (٥) وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي". (٦)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، أَنْبَأَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ: قَالَ أَبُو أَيُّوبَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَرْبَعٌ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ: التَّعَطُّرُ، وَالنِّكَاحُ، وَالسِّوَاكُ، وَالْحِنَّاءُ" (٧).
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ وَكِيع عَنْ حَفْصِ بْنِ غِياث، عَنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ أَبَى الشِّمَالِ (٨) عَنْ أَبِي أَيُّوبَ... فَذَكَرَهُ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا أَصَحُّ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي لَمْ يَذْكَرْ فِيهِ أَبُو الشَّمَالِ (٩) (١٠).
وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ أَيْ: لَمْ يَكُنْ يَأْتِي قومَه بِخَارِقٍ إِلَّا إِذَا أُذِنَ لَهُ فِيهِ، لَيْسَ ذَلِكَ إِلَيْهِ، بَلْ إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ.
﴿لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾ أَيْ: لِكُلِّ مُدَّةٍ مَضْرُوبَةٍ كِتَابٌ مَكْتُوبٌ بِهَا، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ، ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [الْحَجِّ: ٧٠] (١١).
وَكَانَ الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾ أَيْ: لِكُلِّ كِتَابٍ أَجَلٌ يَعْنِي (١٢) لِكُلِّ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ مِنَ السَّمَاءِ مُدَّةٌ مَضْرُوبَةٌ عِنْدَ اللَّهِ وَمِقْدَارٌ مُعَيَّنٌ، فَلِهَذَا يَمْحُو (١٣) مَا يَشَاءُ مِنْهَا وَيُثْبِتُ، يَعْنِي حَتَّى نُسِخَتْ كُلُّهَا بِالْقُرْآنِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ.
وقوله: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ﴾ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي ذلك، فقال الثوري، ووَكِيع، وهُشَيْم،
(١) زيادة من أ.
(٢) في أ: "بشرا".
(٣) زيادة من ت، أ.
(٤) زيادة من ت، أ.
(٥) في ت، أ: "اللحم".
(٦) صحيح البخاري برقم (٥٠٦٣) وصحيح مسلم برقم (١٤٠١) وليس فيهما: "وآكل الدسم".
(٧) المسند (٥/٤٢١).
(٨) في أ: "أبي السماك".
(٩) في أ: "أبو السماك".
(١٠) سنن الترمذي برقم (١٠٨٠).
(١١) في ت، أ: "السموات" وهو خطأ.
(١٢) في ت، أ: "بمعنى".
(١٣) في ت: "يمحى".
468
عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُدَبِّرُ أَمْرَ السَّنَةِ، فَيَمْحُو مَا يَشَاءُ، إِلَّا الشَّقَاءَ وَالسَّعَادَةَ، وَالْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ. وَفِي رِوَايَةٍ: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ﴾ قَالَ: كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا الْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ، وَالشَّقَاءَ وَالسَّعَادَةَ فَإِنَّهُمَا قَدْ فُرِغَ مِنْهُمَا.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ﴾ إِلَّا الْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ، وَالشَّقَاءَ وَالسَّعَادَةَ، فَإِنَّهُمَا لَا يَتَغَيَّرَانِ.
وَقَالَ مَنْصُورٌ: سَأَلْتُ مُجَاهِدًا فَقُلْتُ: أَرَأَيْتَ دُعَاءَ أَحَدِنَا يَقُولُ: اللَّهُمَّ، إِنْ كَانَ اسْمِي فِي السُّعَدَاءِ فَأَثْبِتْهُ فِيهِمْ، وَإِنْ كَانَ فِي الْأَشْقِيَاءِ فَامْحُهُ عَنْهُمْ وَاجْعَلْهُ فِي السُّعَدَاءِ. فَقَالَ: حَسَنٌ. ثُمَّ لَقِيتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِحَوْلٍ أَوْ أَكْثَرَ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: ﴿إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [الدُّخَانِ: ٣، ٤] قَالَ: يَقْضِي فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مَا يَكُونُ فِي السَّنة مِنْ رِزْقٍ أَوْ مُصِيبَةٍ، ثُمَّ يُقَدِّمُ مَا (١) يَشَاءُ وَيُؤَخِّرُ مَا (٢) يَشَاءُ، فَأَمَّا كِتَابُ الشَّقَاوَةِ (٣) وَالسَّعَادَةِ فَهُوَ ثَابِتٌ لَا يُغير (٤).
وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ شَقِيق بْنِ سَلَمَةَ: إِنَّهُ كَانَ يَكْثُرُ أَنْ يَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ، إِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنَا أَشْقِيَاءَ فَامْحُهُ، وَاكْتُبْنَا سُعَدَاءَ، وَإِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنَا سُعَدَاءَ فَأَثْبِتْنَا، فَإِنَّكَ تَمْحُو مَا تَشَاءُ وَتُثْبِتُ وَعِنْدَكَ أُمُّ الْكِتَابِ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ (٥).
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِي حَكِيمَةَ (٦) عِصْمَةَ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدي؛ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَهُوَ يَبْكِي: اللَّهُمَّ، إِنْ كُنْتَ كَتَبْتَ عَلَيَّ شِقْوَةً أَوْ ذَنْبًا فَامْحُهُ، فَإِنَّكَ تَمْحُو مَا تَشَاءُ وَتُثْبِتُ، وَعِنْدَكَ أُمُّ الْكِتَابِ، فَاجْعَلْهُ سَعَادَةً وَمَغْفِرَةً. (٧)
وَقَالَ حَمَّادٌ عَنْ خَالِدٍ الحذَّاء، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ أَيْضًا.
وَرَوَاهُ شَرِيكٌ، عَنْ هِلَالِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْم، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، بِمَثَلِهِ.
وقال ابن جرير: حدثني المثنى، حدثنا حجاج، حَدَّثَنَا خِصَافٌ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ؛ أَنَّ كَعْبًا قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْلَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَأَنْبَأْتُكَ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ (٨).
وَمَعْنَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ: أَنَّ الْأَقْدَارَ يَنْسَخُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ مِنْهَا، وَيُثْبِتُ مِنْهَا مَا يَشَاءُ، وَقَدْ يُسْتَأْنَسُ لِهَذَا الْقَوْلِ (٩) بِمَا رَوَاهُ الإمام أحمد:
(١) في ت: "من".
(٢) في ت: "من".
(٣) في ت: "الشقاء".
(٤) رواه الطبري في تفسيره (١٦/٤٨٠).
(٥) رواه الطبري في تفسيره (١٦/٤٨١).
(٦) في أ: "أبي حكيم".
(٧) تفسير الطبري (١٦/٤٨١).
(٨) تفسير الطبري (١٦/٤٨٤).
(٩) في أ: "الأقوال".
469
حَدَّثَنَا وَكِيع، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، وَهُوَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الجَعْد، عَنْ ثَوْبَان قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبه، وَلَا يَرُدُّ القَدَر إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ إِلَّا الْبِرُّ".
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، بِهِ (١).
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ (٢) وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: "إِنَّ الدُّعَاءَ وَالْقَضَاءَ لَيَعْتَلِجَانِ (٣) بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ" (٤).
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ عَسْكَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْج، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ لِلَّهِ لَوْحًا مَحْفُوظًا مَسِيرَةَ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ لَهَا دَفَّتَان مِنْ يَاقُوتٍ -وَالدَّفَّتَانِ: لَوْحَانِ -لِلَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ [كُلَّ يَوْمٍ ثَلَاثُمِائَةٍ] (٥) وَسِتُّونَ لَحْظَةً، يَمْحُو مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ. (٦)
وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زِيَادِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرظي، عَنْ فُضَالة بْنِ عُبَيد، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " [إن الله] (٧) يَفْتَحُ الذِّكْرَ فِي ثَلَاثِ سَاعَاتٍ يَبْقَيْنَ مِنَ اللَّيْلِ، فِي السَّاعَةِ الْأُولَى مِنْهَا يَنْظُرُ فِي الذِّكْرِ الَّذِي لَا يَنْظُرُ فِيهِ أَحَدٌ غَيْرُهُ، فَيَمْحُو مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ". وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ. (٨)
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ﴾ قَالَ: يَمْحُو مِنَ الرِّزْقِ وَيَزِيدُ فِيهِ، وَيَمْحُو مِنَ الْأَجَلِ وَيَزِيدُ فِيهِ. فَقِيلَ لَهُ: مَنْ حَدَّثَكَ بِهَذَا؟ فَقَالَ: أَبُو صَالِحٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رِئَابٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ سُئِلَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: يُكْتَبُ الْقَوْلُ كُلُّهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الْخَمِيسَ، طُرِحَ مِنْهُ كُلُّ شَيْءٍ لَيْسَ فِيهِ ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ، مِثْلَ قَوْلِكَ: أَكَلْتُ وَشَرِبْتُ، دَخَلْتُ وَخَرَجْتُ وَنَحْوِهِ مِنَ الْكَلَامِ، وَهُوَ صَادِقٌ، وَيُثْبَتُ مَا كَانَ فِيهِ الثَّوَابُ، وَعَلَيْهِ الْعِقَابُ. (٩)
وَقَالَ عِكْرِمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْكِتَابُ كِتَابَانِ: فَكُتَّابٌ يَمْحُو اللَّهُ مِنْهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ يقول: هو
(١) المسند (٥/٢٢٧) وسنن ابن ماجة برقم (٩٠).
(٢) صحيح مسلم برقم (٢٥٥٧) من حديث أنس ولفظه: "من سره أن يبسط عليه رزقه، أو ينسأ في أثره، فليصل رحمه".
(٣) في ت، أ: "ليتعلجان".
(٤) لم أعثر عليه بهذا اللفظ.
(٥) زيادة من تفسير الطبري، ومكانه في هـ، ت، أ: "ثلاث".
(٦) تفسير الطبري (١٦/٤٨٩).
(٧) زيادة من ت، أ، والطبري.
(٨) تفسير الطبري (١٦/٤٨٨).
(٩) رواه الطبري في تفسيره (١٦/٤٨٤).
470
الرَّجُلُ يَعْمَلُ الزَّمَانَ بِطَاعَةِ اللَّهِ، ثُمَّ يَعُودُ لِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَيَمُوتُ عَلَى ضَلَالَةٍ، فَهُوَ الَّذِي يَمْحُو -وَالَّذِي يُثْبِتُ: الرَّجُلُ يَعْمَلُ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَقَدْ كَانَ سَبَقَ لَهُ خَيْرٌ حَتَّى يَمُوتَ وَهُوَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَهُوَ الَّذِي يُثْبِتُ.
وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَير: أَنَّهَا بِمَعْنَى: ﴿فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الْبَقَرَةِ: ٢٨٤].
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عباس: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ﴾ يَقُولُ: يُبَدِّلُ مَا يَشَاءُ فَيَنْسَخُهُ، وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ فَلَا يُبَدِّلُهُ، ﴿وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ يَقُولُ: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ عِنْدَهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، النَّاسِخُ، وَالْمَنْسُوخُ، وَمَا يُبَدِّلُ، وَمَا يُثْبِتُ كُلُّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ.
وَقَالَ قتادة في قوله: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ﴾ كَقَوْلِهِ ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾ [الْبَقَرَةِ: ١٠٦]
وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قوله: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ﴾ قَالَ: قَالَتْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ حِينَ أُنْزِلَتْ: ﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ مَا نَرَاكَ يَا مُحَمَّدُ تَمْلِكُ مِنْ شَيْءٍ، وَلَقَدْ فُرغ مِنَ الْأَمْرِ. فَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَخْوِيفًا، وَوَعِيدًا لَهُمْ: إِنَّا إِنْ شِئْنَا أَحْدَثْنَا لَهُ مِنْ أَمْرِنَا مَا شِئْنَا، وَنُحْدِثُ فِي كُلِّ رَمَضَانَ، فَنَمْحُو وَنُثْبِتُ (١) مَا نَشَاءُ مِنْ أَرْزَاقِ النَّاسِ وَمَصَائِبِهِمْ، وَمَا نُعْطِيهِمْ، وَمَا نَقْسِمُ لَهُمْ.
وَقَالَ الحسن البصري: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ قَالَ: مَنْ جَاءَ أَجْلُهُ، فَذَهَب، وَيُثْبِتُ الَّذِي هُوَ حَيٌّ يَجْرِي إِلَى أَجْلِهِ.
وَقَدِ اخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ قَالَ: الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: أَيْ جُمْلَةُ الْكِتَابِ وَأَصْلُهُ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: ﴿وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ قَالَ: كِتَابٌ عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَقَالَ سُنَيد بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنِي مُعْتَمِرٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَيَّار، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّهُ سَأَلَ كَعْبًا عَنْ "أُمِّ الْكِتَابِ"، فَقَالَ: عَلِم اللَّهُ، مَا هُوَ خَالِقٌ، وَمَا خَلْقُه عَامِلُونَ، ثُمَّ قَالَ (٢) لِعِلْمِهِ: "كُنْ كِتَابًا". فَكَانَا (٣) كِتَابًا.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ قال: الذكر، [والله أعلم]. (٤)
(١) في ت، أ: "فيمحو ويثبت".
(٢) في ت، أ: "فقال".
(٣) في ت، أ: "فكان".
(٤) زيادة من أ.
471
وقوله :﴿ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ﴾ اختلف المفسرون في ذلك، فقال الثوري، ووَكِيع، وهُشَيْم، عن ابن أبي ليلى، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس : يدبر أمر السنة، فيمحو ما يشاء، إلا الشقاء والسعادة، والحياة والموت. وفي رواية :﴿ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ﴾ قال : كل شيء إلا الحياة والموت، والشقاء والسعادة فإنهما قد فرغ منهما.
وقال مجاهد :﴿ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ﴾ إلا الحياة والموت، والشقاء والسعادة، فإنهما لا يتغيران.
وقال منصور : سألت مجاهدا فقلت : أرأيت دعاء أحدنا يقول : اللهم، إن كان اسمي في السعداء فأثبته فيهم، وإن كان في الأشقياء فامحه عنهم واجعله في السعداء. فقال : حسن. ثم لقيته بعد ذلك بحول أو أكثر، فسألته عن ذلك، فقال :﴿ إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ﴾ [ الدخان : ٣، ٤ ] قال : يقضي في ليلة القدر ما يكون في السَّنة من رزق أو مصيبة، ثم يقدم ما١ يشاء ويؤخر ما٢ يشاء، فأما كتاب الشقاوة٣ والسعادة فهو ثابت لا يُغير٤.
وقال الأعمش، عن أبي وائل شَقِيق بن سلمة : إنه كان يكثر أن يدعو بهذا الدعاء : اللهم، إن كنت كتبتنا أشقياء فامحه، واكتبنا سعداء، وإن كنت كتبتنا سعداء فأثبتنا، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب. رواه ابن جرير٥.
وقال ابن جرير أيضا : حدثنا عمرو بن علي، حدثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن أبي حكيمة٦ عصمة، عن أبي عثمان النَّهْدي ؛ أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال وهو يطوف بالبيت وهو يبكي : اللهم، إن كنت كتبت علي شقوة أو ذنبًا فامحه، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت، وعندك أم الكتاب، فاجعله سعادة ومغفرة. ٧
وقال حماد عن خالد الحذَّاء، عن أبي قلابة عن ابن مسعود أنه كان يدعو بهذا الدعاء أيضا.
ورواه شريك، عن هلال بن حميد، عن عبد الله بن عُكَيْم، عن ابن مسعود، بمثله.
وقال ابن جرير : حدثني المثنى، حدثنا حجاج، حدثنا خصاف، عن أبي حمزة، عن إبراهيم ؛ أن كعبا قال لعمر بن الخطاب : يا أمير المؤمنين، لولا آية في كتاب الله لأنبأتك بما هو كائن إلى يوم القيامة. قال : وما هي ؟ قال : قول الله تعالى :﴿ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ ٨.
ومعنى هذه الأقوال : أن الأقدار ينسخ الله ما يشاء منها، ويثبت منها ما يشاء، وقد يستأنس لهذا القول٩بما رواه الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع، حدثنا سفيان، وهو الثوري، عن عبد الله بن عيسى، عن عبد الله بن أبي الجَعْد، عن ثَوْبَان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يُصِيبه، ولا يرد القَدَر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر ".
ورواه النسائي وابن ماجه، من حديث سفيان الثوري، به١٠.
وثبت في الصحيح أن صلة الرحم تزيد في العمر١١ وفي الحديث الآخر :" إن الدعاء والقضاء ليعتلجان١٢ بين السماء والأرض " ١٣.
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن سهل بن عسكر، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جُرَيْج، عن عطاء، عن ابن عباس قال : إن لله لوحا محفوظا مسيرة خمسمائة عام، من درة بيضاء لها دَفَّتَان من ياقوت - والدفتان : لوحان - لله، عز وجل [ كل يوم ثلاثمائة ]١٤ وستون لحظة، يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب. ١٥ وقال الليث بن سعد، عن زياد بن محمد، عن محمد بن كعب القُرظي، عن فُضَالة بن عُبَيد، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" [ إن الله ]١٦ يفتح الذكر في ثلاث ساعات يبقين من الليل، في الساعة الأولى منها ينظر في الذكر الذي لا ينظر فيه أحد غيره، فيمحو ما يشاء ويثبت ". وذكر تمام الحديث. رواه ابن جرير. ١٧ وقال الكلبي :﴿ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ﴾ قال : يمحو من الرزق ويزيد فيه، ويمحو من الأجل ويزيد فيه. فقيل له : من حدثك بهذا ؟ فقال : أبو صالح، عن جابر بن عبد الله بن رئاب، عن النبي صلى الله عليه وسلم. ثم سئل بعد ذلك عن هذه الآية فقال : يكتب القول كله، حتى إذا كان يوم الخميس، طرح منه كل شيء ليس فيه ثواب ولا عقاب، مثل قولك : أكلت وشربت، دخلت وخرجت ونحوه من الكلام، وهو صادق، ويثبت ما كان فيه الثواب، وعليه العقاب. ١٨ وقال عِكْرِمة، عن ابن عباس : الكتاب كتابان : فكتاب يمحو الله منه ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب.
وقال العوفي، عن ابن عباس في قوله :﴿ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ يقول : هو الرجل يعمل الزمان بطاعة الله، ثم يعود لمعصية الله فيموت على ضلالة، فهو الذي يمحو - والذي يثبت : الرجل يعمل بمعصية الله، وقد كان سبق له خير حتى يموت وهو في طاعة الله، وهو الذي يثبت.
وروي عن سعيد بن جُبَير : أنها بمعنى :﴿ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [ البقرة : ٢٨٤ ].
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس :﴿ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ﴾ يقول : يبدل ما يشاء فينسخه، ويثبت ما يشاء فلا يبدله، ﴿ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ يقول : وجملة ذلك عنده في أم الكتاب، الناسخ، والمنسوخ، وما يبدل، وما يثبت كل ذلك في كتاب.
وقال قتادة في قوله :﴿ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ﴾ كقوله ﴿ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ﴾ [ البقرة : ١٠٦ ]
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد في قوله :﴿ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ﴾ قال : قالت كفار قريش حين أنزلت :﴿ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ ما نراك يا محمد تملك من شيء، ولقد فُرغ من الأمر. فأنزلت هذه الآية تخويفا، ووعيدًا لهم : إنا إن شئنا أحدثنا له من أمرنا ما شئنا، ونحدث في كل رمضان، فنمحو ونثبت١٩ ما نشاء من أرزاق الناس ومصائبهم، وما نعطيهم، وما نقسم لهم.
وقال الحسن البصري :﴿ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ ﴾ قال : من جاء أجله، فَذَهَب، ويثبت الذي هو حيّ يجري إلى أجله.
وقد اختار هذا القول أبو جعفر بن جرير، رحمه الله.
وقوله :﴿ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ قال : الحلال والحرام.
وقال قتادة : أي جملة الكتاب وأصله.
وقال الضحاك :﴿ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ قال : كتاب عند رب العالمين.
وقال سُنَيد بن داود، حدثني معتمر، عن أبيه، عن سَيَّار، عن ابن عباس ؛ أنه سأل كعبًا عن " أم الكتاب "، فقال : عَلِم الله، ما هو خالق، وما خَلْقُه عاملون، ثم قال٢٠ لعلمه :" كن كتابا ". فكانا٢١ كتابا.
وقال ابن جرير، عن ابن عباس :﴿ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ قال : الذكر، [ والله أعلم ]. ٢٢
١ - في ت :"من"..
٢ - في ت :"من"..
٣ - في ت :"الشقاء"..
٤ - رواه الطبري في تفسيره (١٦/٤٨٠)..
٥ - رواه الطبري في تفسيره (١٦/٤٨١)..
٦ - في أ :"أبي حكيم"..
٧ - تفسير الطبري (١٦/٤٨١)..
٨ - تفسير الطبري (١٦/٤٨٤)..
٩ - في أ :"الأقوال"..
١٠ - المسند (٥/٢٢٧) وسنن ابن ماجة برقم (٩٠)..
١١ - صحيح مسلم برقم (٢٥٥٧) من حديث أنس ولفظه :"من سره أن يبسط عليه رزقه، أو ينسأ في أثره، فليصل رحمه"..
١٢ - في ت، أ :"ليتعلجان"..
١٣ - لم أعثر عليه بهذا اللفظ..
١٤ - زيادة من تفسير الطبري، ومكانه في هـ، ت، أ :"ثلاث"..
١٥ - تفسير الطبري (١٦/٤٨٩)..
١٦ - زيادة من ت، أ، والطبري..
١٧ - تفسير الطبري (١٦/٤٨٨)..
١٨ - رواه الطبري في تفسيره (١٦/٤٨٤)..
١٩ - في ت، أ :"فيمحو ويثبت"..
٢٠ - في ت، أ :"فقال"..
٢١ - في ت، أ :"فكان"..
٢٢ - زيادة من أ..
﴿وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (٤٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٤١) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ: ﴿وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ﴾ يَا مُحَمَّدُ ﴿بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ﴾ أَيْ: نَعِدُ أَعْدَاءَكَ مِنَ الْخِزْيِ (١) وَالنَّكَالِ فِي الدُّنْيَا، ﴿أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ﴾ [أَيْ] (٢) قَبْلَ ذَلِكَ، ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ﴾ أَيْ: إِنَّمَا أَرْسَلْنَاكَ لِتُبَلِّغَهُمْ رِسَالَةَ اللَّهِ وَقَدْ بَلَّغْتَ (٣) مَا أُمِرْتَ بِهِ، ﴿وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ﴾ أَيْ: حِسَابُهُمْ وَجَزَاؤُهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ إِلا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأكْبَرَ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ﴾ [الْغَاشِيَةِ: ٢١ -٢٦].
وَقَوْلُهُ: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوْ لَمْ يَرَوْا أَنَا نَفْتَحُ لِمُحَمَّدٍ الْأَرْضَ بَعْدَ الْأَرْضِ؟
وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ: أَوْ لَمْ يَرَوْا إِلَى الْقَرْيَةِ تُخَرَّبُ، حَتَّى يَكُونَ الْعُمْرَانُ فِي نَاحِيَةٍ؟
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وعِكْرِمة: ﴿نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا﴾ قَالَ: خَرَابُهَا.
وَقَالَ الْحُسْنُ وَالضَّحَّاكُ: هُوَ ظُهُورُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نُقْصَانُ أَهْلِهَا وَبَرَكَتُهَا.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نُقْصَانُ الْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَخَرَابُ الْأَرْضِ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَوْ كَانَتِ الْأَرْضُ تَنْقُصُ لَضَاقَ عَلَيْكَ حُشُّك، وَلَكِنْ تَنْقُصُ الْأَنْفُسُ وَالثَّمَرَاتُ. وَكَذَا قَالَ عِكْرِمة: لَوْ كَانَتِ الْأَرْضُ تَنْقُصُ لَمْ تَجِدْ مَكَانًا تَقْعُدُ فِيهِ، وَلَكِنْ هُوَ الْمَوْتُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ: خَرَابُهَا بِمَوْتِ فُقَهَائِهَا وَعُلَمَائِهَا وَأَهْلِ الْخَيْرِ مِنْهَا. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: هُوَ مَوْتُ الْعُلَمَاءِ.
وَفِي هَذَا الْمَعْنَى رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَبِي الْقَاسِمِ الْمِصْرِيِّ الْوَاعِظِ (٤) سَكَنَ أَصْبَهَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ طَلْحَةُ بْنُ أَسَدٍ الْمَرْئِيُّ بِدِمَشْقَ، أَنْشَدَنَا أَبُو بَكْرٍ الْآجُرِّىُّ بِمَكَّةَ قَالَ: أَنْشَدَنَا أَحْمَدُ بْنُ غَزَالٍ لِنَفْسِهِ:
الْأَرْضُ تحيَا إِذَا مَا عَاش عَالِمُهَا... مَتَى يمُتْ عَالم مِنْهَا يمُت طَرفُ...
كَالْأَرْضِ تحْيَا إِذَا مَا الْغَيْثُ حَل بِهَا... وَإِنْ أَبَى عَاد فِي أكنافهَا التَّلَفُ...
(١) في ت: "الحزن".
(٢) زيادة من ت، أ.
(٣) في ت، أ: "فعلت".
(٤) لم أعثر على ترجمته في المخطوط من تاريخ دمشق ولا في المختصر لابن منظور.
وقوله :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ﴾ قال ابن عباس : أو لم يروا أنا نفتح لمحمد الأرض بعد الأرض ؟
وقال في رواية : أو لم يروا إلى القرية تخرب، حتى يكون العمران في ناحية ؟
وقال مجاهد وعِكْرِمة :﴿ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ﴾ قال : خرابها.
وقال الحسن والضحاك : هو ظهور المسلمين على المشركين.
وقال العوفي عن ابن عباس : نقصان أهلها وبركتها.
وقال مجاهد : نقصان الأنفس والثمرات وخراب الأرض.
وقال الشعبي : لو كانت الأرض تنقص لضاق عليك حُشُّك، ولكن تنقص الأنفس والثمرات. وكذا قال عِكْرِمة : لو كانت الأرض تنقص لم تجد مكانا تقعد فيه، ولكن هو الموت.
وقال ابن عباس في رواية : خرابها بموت فقهائها وعلمائها وأهل الخير منها. وكذا قال مجاهد أيضا : هو موت العلماء.
وفي هذا المعنى روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة أحمد بن عبد العزيز أبي القاسم المصري الواعظ١ سكن أصبهان، حدثنا أبو محمد طلحة بن أسد المرئي بدمشق، أنشدنا أبو بكر الآجري بمكة قال : أنشدنا أحمد بن غزال لنفسه :
الأرض تحيَا إذا ما عَاش عالمها مَتَى يمُتْ عَالم منها يمُت طَرفُ
كالأرض تحْيَا إذا ما الغيث حَل بها وإن أبى عَاد في أكنافهَا التَّلَفُ
والقول الأول أولى، وهو ظهور الإسلام على الشرك قرية بعد قرية، [ وكَفْرًا بعد كَفْر، كما قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى ﴾ [ الأحقاف : ٢٧ ] الآية، وهذا اختيار ابن جرير، رحمه الله ]٢
١ - لم أعثر على ترجمته في المخطوط من تاريخ دمشق ولا في المختصر لابن منظور..
٢ - زيادة من ت، أ..
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى، وَهُوَ ظُهُورُ الْإِسْلَامِ عَلَى الشِّرْكِ قَرْيَةً بَعْدَ قَرْيَةٍ، [وكَفْرًا بَعْدَ كَفْر، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى﴾ [الْأَحْقَافِ: ٢٧] الْآيَةَ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنُ جَرِيرٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ] (١)
﴿وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢) ﴾
يَقُولُ: ﴿وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ بِرُسُلِهِمْ، وَأَرَادُوا إِخْرَاجَهُمْ مِنْ بِلَادِهِمْ، فَمَكَرَ اللَّهُ بِهِمْ، وَجَعَلَ الْعَاقِبَةِ لِلْمُتَّقِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [الْأَنْفَالِ: ٣٠] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا﴾ الْآيَةَ [النَّمْلِ: ٥٠ -٥٢].
وَقَوْلُهُ: ﴿يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ﴾ أَيْ: إِنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِجَمِيعِ السَّرَائِرِ وَالضَّمَائِرِ، وَسَيَجْزِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ.
﴿وَسَيَعْلَمُ الْكَافِرُ﴾ وَقُرِئَ: ﴿الكُفَّارُ﴾ ﴿لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ﴾ أَيْ: لِمَنْ تَكُونُ الدَّائِرَةُ وَالْعَاقِبَةُ، لَهُمْ أَوْ لِأَتْبَاعِ الرُّسُلِ؟ كَلَّا بَلْ هِيَ لِأَتْبَاعِ الرُّسُلِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ والمنة.
(١) زيادة من ت، أ.
﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (٤٣) ﴾
يَقُولُ: وَيُكَذِّبُكَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ وَيَقُولُونَ: ﴿لَسْتَ مُرْسَلا﴾ أَيْ: مَا أَرْسَلَكَ اللَّهُ، ﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ أَيْ: حَسْبِيَ اللَّهُ، وَهُوَ الشَّاهِدُ عَلَيَّ وَعَلَيْكُمْ، شَاهِدٌ عَلَيَّ فِيمَا بَلَّغْتُ عَنْهُ مِنَ الرِّسَالَةِ، وَشَاهِدٌ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمُكَذِّبُونَ فِيمَا تَفْتَرُونَهُ مِنَ الْبُهْتَانِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ﴾ قِيلَ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
وَهَذَا الْقَوْلُ غَرِيبٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ إِنَّمَا أَسْلَمُ فِي أَوَّلِ مَقْدَمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ. وَالْأَظْهَرُ فِي هَذَا مَا قَالَهُ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُمْ مِنَ (١) الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.
وَقَالَ قَتَادَةُ: مِنْهُمْ ابْنُ سَلَامٍ، وَسَلْمَانُ، وَتَمِيمٌ الدَّارِيُّ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ -فِي رِوَايَةٍ -عَنْهُ: هُوَ الله تعالى.
(١) في ت: "في".
473
وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْر يُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، وَيَقُولُ: هِيَ مَكِّيَّةٌ، وَكَانَ يَقْرَؤُهَا: "وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الكتابُ"، وَيَقُولُ: مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وَكَذَا قَرَأَهَا مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ، هَارُونَ الْأَعْوَرِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَهَا: ""وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الكتابُ"، ثُمَّ قَالَ: لَا أَصْلَ لَهُ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عِنْدَ الثِّقَاتِ. (١)
قُلْتُ: وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى فِي مَسْنَدِهِ، مِنْ طَرِيقِ هَارُونَ بْنِ مُوسَى هَذَا، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَرْقَمَ -وَهُوَ ضَعِيفٌ -عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا كَذَلِكَ. وَلَا يَثْبُتُ. (٢) وَاللَّهُ أَعْلَمُ
وَالصَّحِيحُ فِي هَذَا: أَنَّ ﴿وَمَنْ عِنْدَهُ﴾ اسْمُ جِنْسٍ يَشْمَلُ عُلَمَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَجِدُونَ صِفَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَعْتَهُ فِي كُتُبِهِمُ الْمُتَقَدِّمَةِ، مِنْ بِشَارَاتِ الْأَنْبِيَاءِ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ﴾ الْآيَةَ [الْأَعْرَافِ: ١٥٦، ١٥٧] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ الْآيَةَ: [الشُّعَرَاءِ: ١٩٧]. وَأَمْثَالَ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ الْإِخْبَارِ عَنْ عُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ مِنْ كُتُبِهِمُ الْمُنَزَّلَةِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ الْأَحْبَارِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ بِأَنَّهُ أَسْلَمَ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ. قَالَ الْحَافِظُ أبو نعيم الأصبهاني في كتاب "دلائل النبوة"، وَهُوَ كِتَابٌ جَلِيلٌ:
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ الطَّبَرَانِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدان بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُصَفَّى، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ يُوسُفَ، بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ قَالَ لِأَحْبَارِ الْيَهُودِ: إِنِّي أَرَدْتُ أَنْ أجَدد (٣) بِمَسْجِدِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَهْدًا (٤) فَانْطَلَقَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِمَكَّةَ، فَوَافَاهُمْ وَقَدِ انْصَرَفُوا مِنَ الْحَجِّ، فَوَجَدَ رَسُولَ اللَّهِ، بِمِنًى، وَالنَّاسُ حَوْلَهُ، فَقَامَ مَعَ النَّاسِ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "أَنْتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ؟ " قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: "ادْنُ". فَدَنَوْتُ مِنْهُ، قَالَ: "أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ، أَمَا تَجِدُنِي فِي التَّوْرَاةِ رَسُولَ اللَّهِ؟ " فَقُلْتُ لَهُ: انْعَتْ رَبَّنَا. قَالَ: فَجَاءَ جِبْرِيلُ حَتَّى وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [سُورَةُ الْإِخْلَاصِ] فَقَرَأَهَا عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ابْنُ سَلَامٍ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. ثُمَّ انْصَرَفَ ابْنُ سَلَامٍ إِلَى الْمَدِينَةِ فَكَتَمَ إِسْلَامَهُ. فَلَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَأَنَا فَوْقَ نَخْلَةٍ لِي أجُدُّها، فألقيت نفسي، فقالت
(١) تفسير الطبري (١٦/٥٠٦).
(٢) مسند أبي يعلى (٩/٤٢٤) وقد وقع فيه: "عبد الرحيم بن موسى" بدلا من "هارون بن موسى".
(٣) في هـ، ت، أ: "أحدث" والمثبت من دلائل النبوة.
(٤) في هـ، ت، أ. "عيدا" والمثبت من دلائل النبوة.
474
أُمِّي: [لِلَّهِ] (١) أَنْتَ، لَوْ كَانَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ مَا كَانَ لَكَ أَنْ تُلْقِيَ نَفْسَكَ مِنْ رَأْسِ النَّخْلَةِ. فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَأَنِّي أَسَرُّ بِقُدُومِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ إِذْ بُعث. (٢)
وَهَذَا حديث غريب جدا.
(١) زيادة من ت، أ، والدلائل.
(٢) دلائل النبوة (١/١٢٥) وهو في المعجم الكبير برقم (٣٧٢) "القطعة المفقودة" وأعله الهيثمي بالانقطاع.
475
Icon