اختلف المفسرون في كون سورة الرعد مكية أو مدنية ؛ فقد قيل : إنها مكية، وقيل : إنها مدنية. وقيل : مدنية باستثناء آيتين نزلتا في مكة وهو الراجح.
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾.﴿ المر ﴾، مبتدأ وخبره ما بعده. والتقدير : أن هذه الحروف التي تأتي فواتح لبعض السورة، هي التي تتكون منها آيات هذا القرآن، الذي عجزتم عن مضاهاته أو معارضته. وقيل :﴿ المر ﴾، في محل رفع مبتدأ محذوف والتقدير : هذه السورة اسمها ﴿ المر ﴾. والإشارة عائدة إلى ﴿ آيَاتُ الْكِتَابِ ﴾ ١.
قوله :﴿ وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ﴾ ﴿ الذي ﴾ في محل رفع على الابتداء، وخبره ﴿ الحق ﴾ وهذه الجملة جاءت لتبين أن هذا المنزل هو الحق ؛ فهي بذلك مستأنفة.
قوله :﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ أكثر الناس لا يؤمنون بهذا الحق وهو القرآن المنزل من عند الله. أكثر الناس في غالب الأحوال والأزمان والأرضين قد خسروا أنفسهم وضلوا عن سواء السبيل لما م يؤمنوا بهذا القرآن. هذا الحدث الكوني لهائل الذي جاء مشتملا على كل الخير والعدل والرحمة لكل الناس.
ولو قدر للبشرية أن تعي هذه الحقيقة الكبرى ؛ لأيقنت أن ملاذها في الخير والعدل والأمن والسعادة، إنما يمكن في القرآن بما حواه من عقيدة سامية راقية سمحة محببة، وتشريع عظيم ومسير وملائم. لكن البشرية قد خسرت أفظع خسران بحرمانها هذا القرآن لما حيل بينها وبين فهمه وإدراك معانيه. ولقد لعب الشياطين من دهاقنة الشبر بكيدهم من أجل أن يرسخوا هذه الحيلولة التي باعدت بين البشرية وهذا القرآن العظيم، وذلك بمختلف الأساليب من الخداع والتشويه والتضليل والتجهيل وإشاعة الأكاذيب والافتراءات عن هذا الكتاب الحكيم، تنفرا للبشرية المضللة المستغفلة.
قوله :﴿ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ ﴿ استوى ﴾، أي علا. ومن صفات الله استواؤه على العرش. والمعنى : أن الله استوى عليه بالاقتدار والتدبير وعظيم السلطان وبالغ الهيمنة.
قوله :﴿ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ الشمس والقمر آتيان من آيات الله جعلهما الله برهانا على بالغ قدرته وعظيم صنعه، وذللهما لمنافع عباده ؛ فبهما تعرف الحسابات والمواقيت، وبهما تستنير الكائنات بالإشراق والضياء، وبسببهما تزدهر الحياة والأحياء ؛ فنعم الحركة والنشاط والعطاء في هذه الدنيا. وذلك كله ﴿ لأجل مسمى ﴾ وهو قيام الساعة. وحينئذ تكور الشمس ويذهب ليبهما وضوؤها، ويخسف القمر ويمحي نوره الساطع ثم يصير الكون والعاملون إلى واقع آخر، وخلق آخر. ذلك هو الفناء وقيام الساعة.
قوله :﴿ يُدَبِّرُ الأَمْرَ ﴾ ﴿ الأمر ﴾ يعني ملكوت السموات والأرض ؛ فإن الله وحده يصرف ذلك كله كيفما يشاء.
قوله :﴿ يُفَصِّلُ الآيَاتِ ﴾، هي آيات الكتاب الحكيم ؛ فإن الله بينها لعباده ؛ ليقفوا على ما فيها من البينات والدلائل، والحجج ﴿ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ﴾ أي لتهتدوا بما في آيات الله من البينات والدلائل، فتوقنوا بيوم القيامة حيث المعاد والحساب، ثم تزدجروا وتخشوا ربكم فتبادروا إلى التصديق والطاعة١.
قوله :﴿ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ﴾ أي جعل الله في الأرض زوجين اثنين من كل نوع الثمرات. والمراد بالزوج هنا الصنف. والمعنى : أنه الله جعل من كل نوع من أنواع الثمرات في هذه الدنيا صنفين مختلفين ؛ ففي كل نوع منها حلو وحامض، أو أبي وأسود، أو صغير وكبير، أو رطب ويابس. ونحو ذلك. قوله :﴿ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ ﴾ ﴿ يغشي ﴾، من الغشاء وهو الغطاء٢ ؛ أي يجلل الله الليل النهار فيلبسه بظلامه، ويجلل النهار الليل فينيره بضيائه.
قوله :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ الإشارة إلى ما سبق بيانه ووصفه من عجائب خلق الله وأثر قدرته في الكائنات ؛ فإن في ذلك كله ﴿ لآيات ﴾ أي دلالات ظاهرة، وبينات بالغة تكشف عن عظمة الله وقدرته على الخلق والصنع والتكوين ﴿ لقوم يتفكرون ﴾ أي يتدبرون فيتعظون ويوقنون أن ذلك من صنع الله العليم الحكيم.
٢ مختار الصحاح ص ٤٥٧..
قوله :﴿ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ ﴾ ﴿ جنات ﴾ مرفوع لعطفه على ﴿ قطع ﴾ ﴿ رزوع ﴾ معطوف على ﴿ جنات ﴾. والتقدير : وفي الأرض فقطع متجاورات وجنات وزرع ونخيل ﴿ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ ﴾ الصنوان، جمع صنو، مثل قنوان جمع قنو. وكذلك الاثنان صنوان. والصنو أن يكون الأصل واحدا وتنبت فيه النخلتان والثلاث فأكثر، فكل واحدة صنو.
وقيل : الصنو : المثل. وفي الحديث :( ألا إن عم الرجل صنو أبيه ) أي مثله١، وعلى هذا فالصنون بمعنى النخلات يجمعهن أصل واحد. وغير الصنوان المتفرقات.
قوله :﴿ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ ﴾ ﴿ الأكل ﴾ : الثمر. وقيل : ثمر النخل والشجر. وكل مأكول أكل٢. والمعنى : أن الأرض واحدة، والماء الساقي واحد ومتشابه. ثم تأتي طعوم الثمار متفاوتة مختلفة ؛ فيكون فيها الحلو والحامض والمر، والجيد والرديء. و ﴿ الأكل ﴾ معناه الطعم ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ فيما تبين من صفات والظواهر في الخلق والطبيعة لهو دلالات لأولي الفهوم والنهي كيما يعتبروا ويتدبروا٣.
٢ مختار الصحاح ص ٢٠..
٣ تفسير الطبري جـ ١٣ ص ٦٦- ٦٩ وتفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٥٠٠ والكشاف جـ ٢ ص ٣٤٩..
قوله :﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ ﴾ الله تعالى يصم الذين يكذبون بالعبث من القبور ويجحدون قيام الساعة بأنهم كافرون بالله. ذلك أن الساعة والبعث والحساب والجزاء من تقدير الله وصنعه، فمن جحد ذلك كان مكذبا لله ذي الجلال والشأن.
قوله :﴿ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ ﴾ ﴿ الأغلال ﴾ جمع ومفرده الغل بالضم١. في رقبته غل من حديد ؛ أي قيد. فالأغلال تعني القيود توضع في أعناق الكافرين والضالين والفاسقين وهم يساقون إلى النار ليكونوا من أهلها وساكنيها الخالدين الماكثين أبدا٢.
٢ تفسير الرازي جـ ١٩ ص ٩- ١١ والبيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٤٨..
قوله :﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ ﴾ الله غافر للذنوب والخطايا، وهو سبحانه يستر على ذنوب التائبين، فإن كانوا مشركين ثم آمنوا ؛ تاب الله عليهم وغفر لهم ما اقترفوه من الشرك. وإن كانوا مؤمنين قد خالفوا او أساءوا ثم ثابوا وأنابوا إلى ربهم ؛ فإن الله يتجاوز عن سيئاتهم وما فعلوه من المعاصي. لا حرم أن الله لذو فضل على الناس في عظيم رحمته التي وسعت كل شيء، والتي بفيضها تمحي كل الخطيئات والسيئات وإن ملأت ما بين الخافقين٢ والآفاق. ﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ وذلك لمن هلك مشركا أو مصرا على المعاصي والخطايا فأدركه الموت وقد فاتته التوبة فما استغفر ولا أناب ؛ فذلك صائر إلى عذاب الله، وعذابه وجيع شديد.
٢ الخافقان: هما أفقا المشرق والمغرب. مختار الصحاح ص ١٨٣..
قوله :﴿ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ﴾ ﴿ أنت ﴾ مبتدأ. وخبره ﴿ منذر ﴾. و ﴿ هاد ﴾ مبتدأ أيضا، وخبره ﴿ ولكل قوم ﴾ ١ و ﴿ منذر ﴾، من الإنذار وهو الإبلاغ. والله يرد مقالة المشركين المعاندين مبينا لرسول محمد صلى الله عليه وسلم بما يسري عنه ويثبت فؤاده : إنما أنت يا محمد مبلغ رسالة الله لقومك فلا تبتئس ولا تعبأ بما يقولون. ﴿ ولكل قوم ﴾ من الناس ﴿ هاد ﴾ أي نبي يهديهم ويعرفهم بمنهج الحق ويدعوهم إلى دين الله المستقيم٢.
٢ تفسير الطبري جـ ١٣ ص ٧٠، ٧١ وتفسير القرطبي جـ ٩ ص ٢٨٤ وتفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٥٠١..
وهذه الجملة مستأنفة نزجي بالحقيقة الراسخة على أن الله وحده العالم بما تحمله الإناث في بطونها من ذكر وإناث، أو طيبين أو خبيثين، أو مليحين وقبيحين، أو سعداء أو أشقياء، أو أذكياء أو أغبياء وغير ذلك من الصفات الخلقية والخلقية. فذلك كله من علم الله وحده. وهو علم محيط بكل شيء، فما يكون من خطرة ولا خلجة ولا خفقة ولا نبسة ولا همسة ولا خبر مستور ومستكن في السموات أو الأرضين إلا يعلمه الله قبل أن يكون.
وتعرض ثمة مسألة عن إمكانية الوقوف على حقيقة الجنين من حيث كونه ذكرا أو أنثى أو كونه توأمين أو أكثر. وذلك عن طريق المتخصصين من أهل الطب أو تصوير الأجنة. فما ينبغي أن تلفتنا هذه المعرفة الحديثة أيما لفت عن حقيقية الآية. وهي تفيد بعمومها أن الله لهو وحده العالم بما تكنه الأرحام من حقائق الأجنة وأخبارها. وعلم الله في ذلك يتناول كل ما يندرج في عالم الجنين المستور من ظواهر وأخبار عما يفضي إليه هذا الجنين من الصفات الكثيرة. ومن جملتها كونه ذكرا أو أنثى. لكن جل الصفات وهي الأكثر والأهم –لا جرم تظل مكنونة مجهولة لا يعيها أو يدري أحد في العالمين بها إلا عقب الاندلاق إلى الدنيا ثم اكتمال الشخصية من كل جوانبها الجسدية والنفسية والعقلية، وما يتخرج عن ذلك من صفات. أما قبل ذلك كله فأنى للمخاليق وأهل الخبرة أن يطلعوا عليه في المخلوق وهو جنين في بطن أمه، سواء كان بويضة ملقحة، أو علقة، أو مضغة، أو أكثر من ذلك ؟ !.
قوله :﴿ وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ ﴾ ﴿ تغيض ﴾، من الغيض وهو النقصان سواء كان لازما أو متعديا. يقال : غاض الماء، وغضته أنا.
أما تأويل الغيض والازدياد فموضع خلاف، والراجح أن ذلك متعلق بمدة الولادة ؛ فقد قيل : غيض الأرحام أن تكون مدة الولادة دون تسعة أشهر، أما ازدياد الأرحام ؛ فهو أن تكون مدة الولادة أكثر من تسعة أشهر إلى عشرة أو أزيد عليها إلى سنتين عند الإمام أبي حنيفة. وإلى أربع سنين عند الإمام الشافعي، وإلى خمس عند الإمام مالك.
وقيل : غيض الأرحام معناه السقط. وما يزداد، أي بولادته تماما، وقيل غير ذلك.
قوله :﴿ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ ﴾ كل شيء من حدث أو واقعة أو نحوهما، إنما يكون بقدر واحد لا يكون دونه ولا يجاوزه ؛ فهو مقدور لا يحتمل النقص أو الزيادة ولا التغيير أو التبديل إلا أن يشاء الله. سواء في ذلك ما يمكثه الولد في بطن أمه إلى خروجه، وما كتب الله له من الرزق والأجل، كل ذلك بقدر.
قوله :﴿ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ﴾ المستخفي يعني المتواري المستتر في ظلمة الليل. والسارب في النهار، ومعناه الظاهر بالنهار في طريقه، أو الذهب على وجهه في الأرض. سرب في الأرض سروبا ؛ إذ ذهب. وسرب الماء سروبا ؛ إذا جرى فهو سارب. وسرب تسمية بالمصدر. والسرب أيضا الجماعة من النساء والبقر والشاء والوحش، والجمع أسراب. والسرب بمعنى النفس. يقال : فلان آمن في سربه ؛ أي في نفسه. والسرب، بفتحتين : بيت في الأرض٢. والمعنى المراد : أنه يستوي عند الله ما لو كان الإنسان مستخفيا في الظلمات أو كان ظاهرا ماشيا في الطرقات ؛ فالله جلت قدرته محيط عمله بكل شيء سواء فيه الظاهر والخفي. قال ابن عباس في تأويل ذلك. سواء ما أضمرته القلوب وأظهرته الألسنة.
٢ المصباح المنير جـ ١ ص ٢٩١ ومختار الصحاح ص ٢٩٣..
قوله :﴿ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ ﴾ ﴿ من ﴾، بمعنى الباء ؛ أي يحفظونه بأمر الله أو بإذنه. وقريب من ذلك كون ﴿ من ﴾، بمعنى عن ؛ أي يحفظونه عن أمر الله. وقيل : يحفظونه من اجل أمر الله ؛ أي من أجل أن الله أمرهم بحفظه من بأسه ونقمته بدعائهم له. وقيل : ليس من عبد إلا ومعه ملائكة يحفظونه من الأسواء١ ؛ والنائبات ؛ فالملائكة موكلة بالعبد لحفظه من الوحوش والهوام والأخطار كأن تقع عليه حائط، أو يهوي في بئر، أو يأكله سبع، أو ينتابه غرق أو حرق، فغذا جاء القدر خلوا بينه وبين القدر.
وذكر أن هذه الآية :﴿ سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ١٠ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ ﴾ نزلت في حفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلاءة الله له من الأشرار والخائنين ؛ فقد روي أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عامر : ما تجعل لي إن أنا اتبعك ؟ قال :( أنت فارس، أعطيك أعنة الخيل ). قال : لا. قال :( فما تبغي ؟ ) قال : لي الشرق ولك الغرب. قال :( لا ) قال : فلي الوبر ولك المدر. قال :( لا ) قال : لأملأنها عليك إذا خيلا ورجالا. قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يمنعك الله ذاك وأبناء قيلة ) يريد الأوس والخزرج. فخرجا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تشاورا فيما بينهما. فقال عامر : ارجع وأنا أشغله عنك بالمجادلة وكن وراءه فاضربه بالسيف ضربة واحدة. فكانا كذلك، واحد وراء النبي صلى الله عليه وسلم والآخر قال : اقصص علينا قصصك، ما يقول قرآنك، فجعل يجادله ويستبطئه وهو يرجو أن يضرب أربد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف. ثم قال له عامر : مالك، أجشمت٢ ؟ قال : وضعت يدي على قائم سيفي فيبست فما قدرت على أن أحركها ! ثم خرجا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال عامر : اخرج أنت يا أربد إلى ناحية عذبة، وأخرج أنا إلى نجد فنجمع الرجال فنلتقي عليه. فخرج أربد حتى إذا كان بالرقم بعث الله سحابة من الصف فيها صاعقة فاحرقته. وخرج عامر حتى إذا كان بواد يقال له الجرير أرسل الله عليه الطاعون فجعل يصيح : يا آل عامر أعدة٣ كغدة البكر تقتلني ! يا آل عامر أغدة البكر تقتلني ! فذلك هو قول الله :﴿ سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ ﴾ حتى قوله :﴿ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ ﴾ ٤.
قوله :﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ ذلك إخبار من الله عن فضله على الناس وعن عدله فيهم، وإن ما بهم من نعمة أو خير فما يزول إلا بعصيانهم وضلالهم وفسقهم عن أمر ربهم ؛ فالله جل وعلا لا يغير ما بقوم من عافية ونعمة فيزيلهما عنهم ويهلكهم حتى يقع منهم تغيير، وذلك بظلم بعضهم بعضا، واعتداء بعضهم على بعض ؛ فتحل بهم حينئذ من الله العقوبة والتغيير. أي أن زوال النعم وتغيير الحال من العافية والسلامة والعزة سببه المعاصي والحيدة عن منهج الله إلى ما يخالفه.
قوله :﴿ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ ﴾ إذا أراد أن يصيب أحدا أو قوما أو أمة من الأمم بعذاب أو بلاء، من أمراض أو أسقام أو كروب أو نحو ذلك من ألوان البلاء ؛ ساقهم ليختاروا ما فيه بلائهم. وهم بذلك يمضون إلى ما فيه هلاكهم من حيث لا يدرون، وربما يساق المرء مختارا إلى حتفه وهو لا يدري أو يسعى جادا ليظفر بما يبتغيه ثم يجد ثمة مهلكته وهو لا يعلم. ولو كان بعلم لامتنع من الفعل وأحجم ؛ فهذا هو تقدير الله على عباده، ولا يملك أن يرد ما أراده الله بعباده من سوء وغيره ﴿ وما لهم من دونه من وال ﴾ أي ليس لهم غير الله من ناصر يلي أمرهم فيدرأ عنهم البلاء، أو ملجأ يأوون إليه فيحول بينهم وبين ما يريده الله لهم من السوء٥.
٢ جشمت: تعبت. جشمت المر جشما، أي تكلفته على مشقة؛ أجشمته الأمر، وجشمته فتجشم. انظر المصباح المنير جـ ١ ص ١١٠..
٣ الغدة: لحم يحدث من داء بين الجلد واللحم. والغدة للبعير كالطاعون للإنسان. انظر المصباح المنير جـ ١ ص ٩٤..
٤ تفسير الطبري جـ ١٣ ص ٩٥..
٥ الكشاف جـ ٢ ص ٣٥٢ وفتح القدير جـ ٣ ص ٧١..
هذه جملة من ظواهر الكونية التي تقع ضمن الطبيعة، وهي من صنع الله الذي أتقن كل خلق خلقه، وأحسن كل شيء إحكاما وصنعا. وتلكم هي ظواهر البرق والسحاب والرعد والصواعق. وغير ذلك من ظواهر في الطبيعة والحياة والكائنات ؛ فإن ذلك كله من صنع الله ومن تقديره، كيفما تكون الكيفية التي تتم بها هذه الظواهر سواء كان ذلك بالتماس الكهربي بين الشحنات المختلفة، أو عملية التمدد في طبقات الهواء بما يفضي إلى الاندفاع السريع نتيجة للحرارة الناشئة عن البرق، أو التجاذب الشديد الخاطف بين أجزاء من الفضاء وأخرى في الأرض عقب التوافق في أنواع الشحنات، أو التقاطر في حبات الماء المنهمر من السحاب عقب ملامسته للطبقات الباردة من الجو، أو غير ذلك من الكلام والتحليل والتعليل ؛ فإن المهم بيانه هنا أن ما في هذا الكون من ظواهر وخلائق وأجرام مبثوثة في أجواز الفضاء، إنما ذلك كله بوجوده وصفاته وحقيقته لهو من أمر الله وصنعه.
قوله :﴿ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا ﴾ ﴿ خوفا وطمعا ﴾ منصوبان على الحال ؛ أي خائفين وطامعين. والخوف، هو من وقوع الصواعق إذا لمع البرق، أما الطمع، فهو في حصول الغيث والخصب.
وقال أبو هريرة ( رضي الله عنه ) : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع صوت الرعد يقول :( سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته وهو على كل شيء قدير ). فقال أو هريرة : فغن أصابته صاعقة فعلي ديته.
وروي الطبري عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إذا سمعتم الرعد فاذكروا الله ؛ فإنه لا يصب ذاكرا ).
وروي الإمام أحمد عن سالم عن أبيه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع الرعد والصواعق قال :( اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك ).
قوله :﴿ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء ﴾ أي يعذب الله بهذه الصواعق من شاء تعذيبه من الجاحدين المعاندين الذين يحادون الله ورسوله، ويجاهرون بالكفر والضلال في قواحة خبيثة ولؤم صارخ، وقد قيل في سبب نزول هذه الآية أن أربد أخا لبيد ربيعة العامري قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين وفد عليه مع عامر بن الطفيل قاصدين قتله : قال أربد : وهو يجادله بالباطل : أخبرنا عن ربنا أمن نحاس هو أم من حديد ؟ فرمى الله عامرا بغدة البعير وموت في بيت سلولي. وأرسل على أربد صاعقة فقتلته١.
قوله :﴿ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ ﴾ الواو للاستئناف. والمراد بالمجادلين : هم الذين كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ إذ يجادلون في الله فينكرون قدرته على البعث وإحياء الخلائق من جديد ويكذبون الوحدانية باتخاذ الأنداد والشركاء، على غير ذلك من وجوه الجدال بالباطل. وقيل : الواو للحال ؛ أي يصيب بالصواعق من يشاء في حال جدالهم بالباطل والمقصود أربد وعامر.
وقيل : نزلت في يهودي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أخبرني عن ربك من أي شيء هو ؟ من لؤلؤ أو من ياقوت ؟ فجاءت صاعقة فأخذته، فانزل الله ﴿ ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون ﴾.
قوله :﴿ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ ﴾ من المحل، بسكون الحاء ؛ أي المكر والكيد. والمماحلة : شدة المماكرة والمكايدة. وتمحل بمعنى احتال فهو محتمل٢. والمعنى المراد هنا : أن الله شديد المكر والكيد لأعدائه، يأتيهم بالهلكة من حيث لا يحتسبون. وقيل : شديد القوة، وقيل : شديد العقوبة، وقيل : شديد النقمة، وقيل : شديد المغالبة٣.
٢ مختار الصحاح ص ٦١٧..
٣ الكشاف جـ ٢ ص ٣٥٣ وتفسير الطبري جـ ١٣ ص ٨٤ والنسفي جـ ٢ ص ٢٤٥ والرازي جـ ١٩ ص ٢٩..
قوله :﴿ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ ﴾ أي الذين يعبدون آلهة من دون الله كالأوثان والأصنام والأوهام والملوك، فيتوجهون إلى هذه الأنداد المفتراة بالدعاء ﴿ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ ﴾ أي لا يستجيبون دعاءهم ولا يسمعون نداءهم. وإن كانوا من البشر، استخفوهم وسخروا منهم واتخذوهم لهم عبيدا أقزاما أذلة ليسهموا في تمكينهم وتسليطهم على رقاب العباد.
قوله :﴿ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ ﴾ ذلك تيئيس من دعاء الكافرين الذين يتوجهون بالدعاء إلى آلهتهم المفتراة ؛ فإن هؤلاء واهمون بدعائهم، مسرفون في السفاهة والجهالة. وقد ضرب الله لذلك مثلا بالغ الدلالة يكشف عن فداحة الوهم الذي يسدر فيه المشركون الذين يعبدون غير الله من الأنداد ويتوجهون إليهم بالرجاء والدعاء لهم وهم في ذلك كالظمآن الذي كفيه إلى الماء ليقبضه بهما. وأنى للكف المبسوط، ذي الأصابع المنشورة أن يتناول الماء أو يتماسك فيه شيء من الماء ؟ !
وأشد من ذلك بعدا وإياسا أن يصل الماء إلى الفم الظامئ الحرور فضلا عن عدم تماسكه في الكف. إن ذلكم مثال مؤثر ومستبين يثير في الخيال صورة منظورة يتملاها الحسن تماما، ويعي من خلالها الذهن تمام المقصود. وهو الإياس المطبق من استجابة الأنداء والشركاء دعاء المشركين الضالين الذين يعبدونهم من دون الله ويدعونهم في جهالة وغرور وعمه ﴿ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ ﴾ يعني ما عبادة هؤلاء المشركين الظالمين أو دعاؤهم إلا في ضياع ؛ فهو ليس إلا ضربا من التصرف العابث الذي لا يجدي ولا ينفع١.
أما التأويل الحق أن يفسر السجود بالانقياد ؛ فغن جميع العباد –مؤمنين وكافرين- منقادون لفعل ما أراده الله فيهم، شاءوا أو أبوا ؛ فهم وإن لم يسجدوا لله سجودا حقيقيا لكنهم منقادون لأمره فيهم بالصحة والمرض، والحياة والموت، والفقر والغنى. ومثل هذه الحقائق والظواهر والصفات يشترك فيها المؤمنين والكافرين. قوله :﴿ وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ ﴾ الغدو، ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس. والغداة بمعنى الضحوة، وتحمل على أول النهار. والجمع غدوات١. ﴿ والآصال ﴾، جمع ومفرده الأصيل، وهو العشي. وهو ما بعد صلاة العصر إلى الغروب٢ ﴿ وَظِلالُهُم ﴾ معطوف الاسم الموصول ﴿ من ﴾ والمراد : أن ظل كل شيء يسجد لله في هذين الوقتين وهما أول النهار وآخره، ووجه ذلك : أن الضلال إنما تتبع أصحابها من الناس في الحركة والامتداد والتقليص ؛ فهي بذلك منقادة معهم لله وذلك هو سجودها٣.
٢ المصباح المنير جـ ١ ص ٢٠..
٣ فتح القدير جـ ٣ ص ٧٣ والكشاف جـ ٢ ص ٣٥٤..
المشركون مقرون بوجود الله سبحانه، وأنه الخالق، فإذا سألهم النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ فما لهم بد من أن يقولوا ﴿ الله ﴾ وإذا لم يقولوها، بادرهم النبي صلى الله عليه وسلم الجواب ﴿ الله ﴾ تنفيذا لأمر الله له ﴿ قل الله ﴾ أي إذا لم يجيبوا فلقنهم يا محمد الجواب ؛ فإنه لا جواب غيره.
لقد كانت مشكلة الكافرين الكبرى قبل ظهور الإسلام ولدى ظهوره أنهم كانوا مولعين بحب الأصنام وتقديسها. لقد كانت هذه الحجارة الصماء، وهذه الآلهة المصطنعة البلهاء مستحوذة على قلوبهم ومشاعرهم أيما استحواذ، لكنهم مع ذلك ما كانوا ينكرون وجود الله الخالق البارئ. ما كانت لوثة الإلحاد الأسود لتطغى على فطرتهم وأذهانهم كما طغت على أمم ضالة جاءت حديثا وعقب الجاهلين الغابرين. هذه الأمم التي استشرت فيها نزغات الشياطين العتاة فأفسدت فيها الفطرة شر إفساد، ومسخت طبائعها الآدمية وخصائصها الذهنية والنفسية والروحية أفظع مسخ. وألئك الذين انقلبوا على أعقابهم مرتكسين جاحدين بعد أن أغواهم دهاقنة الفكر الشيطاني الظلوم من أمثال ماركس وسارتر وفرود ونظائرهم من الشياطين الذين عاثوا في الدنيا تخريبا وإفسادا، والذين قلبوا المعايير الفطرية رأسا على عقب فمضوا بالبشرية إلى حيث البهيمية الوضعية ؛ فانتكسوا بها إلى الهاوية من الدركات في أسفل سافلين، وعندها تمحي منها كل ظواهر الإنسان المميز الراقي.
قوله :﴿ قُلِ اللّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا ﴾ بهذا على أن المشركون حينئذ كانوا معترفين بأن اله حق وإنه الخالق ؛ أي ما دمتم قد اعترفتم بأن الله حق فلم تعبدون غيره من الأنداد والشركاء الذين لا ينفعون ولا يضرون ولا يردون عن أحد كيدا ولا ينصرون ؟ !. فهم ليسوا غير أشباح موهومة تصطف اصطفاف الحجارة الصامتة الخرساء.
قوله :﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ﴾ هذه واحدة من البدهيات المقررة المحققة وهي أن الأعمى والبصير لا يستويان. وذلك مثل ضربه الله للمؤمن والكافر فإنهما لا يستويان، لأن الأول مهتد مستنير، والثاني ضال مضطرب متلجلج. المؤمن قد اهتدى للمحجة المستقيمة البيضاء، لكن الثاني سادر في الظلام، يمضي ثائها مضللا متعثرا.
قوله :﴿ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ ﴾ وهذا مثال آخر في الظلام البهيم، والنور المشرق الوضاء. ومثل ذلك شأن الكفر بما يقتضيه من معاندة ومكابرة وجحود، وبما يزجي غليه من هوى فاسد جامح لجوج. إن هذا الكفر بكل ضروبه وأشكاله ليس إلا الظلام الذي يتيه فيه العصاة والعتاة والمتمردون، الذين يحادون الله ويكذبون أنبياءه ورسالاته ويجحدون دينه ومنهجه الذي ارتضاه لأهل الأرض.
وفي مقابل ذلك، النور، ويراد به الإيمان، أو عقيدة الحق، عقيدة الإسلام العظيم، العقيدة السمحة الراسخة الودود التي تنبثق عنها خير شريعة عرفتها البشرية، الشريعة الميسرة المعتدلة، الوسط، التي تتجلى فيها كل خصائص الصلاح والسعادة للإنسان.
قوله :﴿ أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ﴾ ﴿ أم ﴾، المنقطعة بمعنى بل والهمزة. والاستفهام للإنكاري ؛ أي بل أجعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه. وقيل : معناه : أجعلوا لله شركاء خلقوا مثل ما خلق فالتبس عليهم خلق الله وخلق الشركاء ؟ وليس الأمر مثل ذلك من الاشتباه عليهم والالتباس ؛ بل إن الأمر بالغ الوضوح والاستبانة، كامل اليقين والظهور ؛ فإن ما يعبده هؤلاء الضالون السفهاء لا يعي ولا يعقل ولا يريم أو يتبصر ؛ بل إن ما يعبدونهم ليسوا غير حطام مركوم من الأصنام الجوامد الصم. ولئن عبدوا فريقا من جبابرة الحكام أو طواغيت البشر ؛ فإن هؤلاء الطغاة المعبودين لا ينفعونهم بل يضرونهم ويستخفون أيما استخفاف ويستخسرون منهم استسخارا فيتخذون منهم الخدم والخول والعبيد والأراذل.
قوله :﴿ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ هذه يقينية كونية كبرى تتجلى في حقيقة الألوهية العظيمة ؛ بل إنها واحدة من صفات الله الواحد البارئ، وهي الخلق. فما من موجود في هذا الوجود إلا هو مخلقو لله. ويستوي في المخاليق كل الأشياء، ما كان منها غيبيا غير مشهود كالجن والملائكة والأرواح. أو كان حسيا مشهودا متناولا لكل الخلائق من بحار وأشجار وأنجم وأصنام وساسة وملوك، كل أولئك قد خلقهم الله وحده. وليس له في هذه الخصيصة كفيء١ أو نديد ﴿ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ أي الله هو الفرد الذي ليس معه ثان ؛ بل هو المتفرد بالألوهية. وهو القهار الذي يغلب ما سواه. فما من شيء سواه إلا هو مربوب له ومقهور٢.
٢ فتح القدير جـ ٣ ص ٧٤ وتفسير القرطبي جـ ٩ ص ٣٠٣..
يضرب الله في هذه الآية مثلا للحق والباطل ؛ فالحق : هو الإيمان والتزام شرع الله. والباطل : هو الكفر والتكذيب والاستكبار عن منهج الله. أما الكفر : فهو طائش مستخف، ما لبث أن ينقشع ويتبدد ؛ لأنه غير راسخ ولا مكين ولا مركوز في عميق النفس بل إنه طارئ وعارض ومصطنع، فما تلبث الفطرة الإنسانية السليمة أن تنفر منه نفورا شديدا لتستقبحه أيما استقباح. فشبهه الله في هذه الآية بالزبد المنتفش الذي يطيش على سطح الماء ثم يضمحل ويزول سريعا ؛ فهو لا مكث له ولا دوام. لكن الإيمان لهو المعتبر والموزون والثابت.
وهو شبيه هنا بالماء الصافي الذي يرتوي منه العطاش، وتنتفع به الأرض فيثير فيها النماء والخصيب والبركة.
قوله :﴿ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا ﴾ هذا مثل يضربه الله للحق والباطل أو الإيمان والكفر، وهو ما بينا جملته في الفقرات السابقة ؛ فقد أنزل الله المطر من السماء إلى الأرض فاحتملته الأدوية ﴿ بقدرها ﴾ أي بملئها. يعني كل واحد من الأدوية أخذ من الماء بحسبه من الكبر والصغر، فهذا كبير اتسع لكثير من الماء، وهذا صغير اتسع لم هو أقل من الماء بما يساوي حجمه من السعة ﴿ فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا ﴾ هذا السيل المكون من ماء المطر النازل من السماء احتمل فوق سطحه ﴿ زبدا ﴾ وهو الرغوة١ الطائشة فوق سطح الماء. فهذا المثل الأول الذي ضربه الله للحق والباطل. وبيانه : أن الحق هو الماء الثقيل الراسخ النافع الذي يبقى في الأرض ليثير فيها الخصب والخير والبركة.
أما الباطل، فهو الزبد الذي يطيش على وجه الماء، وهو بطشه وخفته غير نافع ولا باق.
وأما المثل الثاني : فهو قوله :﴿ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ ﴾ ﴿ في النار ﴾، جار ومجرور، في محل نصب على الحال. وتقديره : ومما يرقدون عليه كائنا أو مستقرا في النار. ﴿ ابتغاء الحلية ﴾، منصوب على المصدر في موضع الحال٢ ؛ هذا مثل آخر للحق والباطل، وهو ما يوقد الناس عليه في النار من الجوهر كالذهب والفضة لكي يذوب فتزايله الأوشاب والتراب طلبا للحلية التي يتزين بها الناس، أو للمتاع وهو ما يتمتع به الناس من الأواني والآلات المصنوعة من الحديد والنحاس والرصاص.
قوله :﴿ زَبَدٌ مِّثْلُهُ ﴾ ﴿ زبد ﴾ مرفوع على الابتداء. ﴿ مثله ﴾، صفة له وخبره ﴿ ومما يوقدون ﴾ ٣ والضمير في ﴿ مثله ﴾، يعود على الزبد. والمراد بالزبد : الخبث الذي يعلو وجه المذاب من تلك المعادن مثلما يعلو الزيد على سطح الماء.
والمعنى : أن هذا الخبث الذي يخرج من المعدن المذاب بعد الإيقاد عليه في النار لهو زبد كزبد السيل ؛ فكلاهما غير ذي نفع ولا جدوى. إنما الذي ينفع ويجدي ما رسخ من المعدن بعد الإيقاد عليه في النار. وهذا مثل للحق الثابت المكين كما يرسخ بعد الإيقاد عليه في النار لينتفع به الناس. وما علاه من خبث أو زبد إنما هو الباطل الذي يتلاشى ويضمحل فما يغني وما يجدي وما يدوم.
قوله :﴿ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ﴾ الكاف في موضع نصب على المصدر ؛ أي مثل ذلك الضرب يضرب الله مثل الحق والباطل. وبيان ذلك في قوله تعالى :﴿ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ ﴾ ﴿ جفاء ﴾ منصوب على الحال. والجفاء معناه، الرمي والاطراح. أو ما يقذفه القدر والسيل من الزبد والغثاء ونحوهما. يقال : جفا الوادي غثاءه، يجفوه جفاء إذا قذفه ورماه٤.
والمعنى المقصود : أن الزبد أو الخبث يعلو وجه الماء أو المعدن الموقد عليه في النار لينتفخ وينتفش ويطيش على السطح. لكنه أخيرا ما يلبث أن يتطاير ويتناثر ويتبدد فلا يبقى منه شيء. بخلاف الماء النافع الصافي أو الجوهر الراسخ المكين الذي يستقر مركوزا وراسخا لينتفع به الناس فكذلك بالباطل بكل صوره وضروبه ومسمياته ؛ فغنه خفيف كالزبد، أو هو شنيع وضار ومرذول ؛ فهو يفضي إلى شر العواقب من تدمير للأفراد والأسر والبيوت والمجتمعات.
ذلك هو الباطل في الملل والعقائد والفلسفات والتصورات والمناهج التي ابتدعها أهواء البشر ؛ فإنها لا جرم تؤول إلى واقع مادي منكود وظالم، واقع سامته الأهواء وأفاعيل الشياطين من الناس، فظيع الولايات والبلايا النفسية والشخصية والاجتماعية والإنسانية. وذلكم هو الباطل الذي تتجرع منه البشرية على مر الزمن كل ألوان الهوان والشر والمحن.
لكن الحقيقة الراسخة التي تشهد لها آيات الله بالصدق والقين، أن الباطل –كيفما كانت تسميته أو صفته- لا محالة زائل داثر، وأنه صائر إلى التلاشي والفناء والانهيار كما انهارت كل قوى الباطل والظلام والطاغوت بعد أن استطار في الدنيا سلطانه وعزه وطغيانه ؛ ذلك أن الباطل بالرغم من ظاهره المنفوش وهيلمانه المنتفخ ؛ فإنه تستنيم في أحشائه جرثومة الفناء العاجل المحتوم ؛ لأنته ( الباطل ) قائم على الكذب والخداع والتضليل والهوى. والذي شانه هكذا، لا جرم أنه صائر إلى التداعي والتمزق والسقوط.
أما الحق فإنه واضح وثابت ومكشوف. وهو شديد الرسوخ والقرار في الأرض، لأنه من صنع الله الذي أتقن كل شيء وأحسن كل شيء صنعا. الحق المراد ما كان من صنع الله ؛ فهو منهاجه القويم ودينه الحكيم الذي يناسب –دون غيره- طبيعة الإنسان، والذي جعله الله للناس خير ملاذ وأكمل شرعة يستظلون بظلها فيكونون في هذه الدنيا سالمين مطمئنين سعداء.
قوله :﴿ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ ﴾ أي مثل ذلك الضرب الظاهر يضرب الله لكم الأمثال لتتدبروا وتعتبروا٥.
٢ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٥٠..
٣ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٥٠..
٤ المعجم الوسيط جـ ١ ص ٢٨ وتفسير الرازي جـ ١٩ ص ٣٨ والبيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٥١..
٥ فتح القدير جـ ٣ ص ٧٥ وتفسير الرازي جـ ١٩ ص ٣٨..
قوله :﴿ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ الإشارة إلى الظالمين الذين لم يستجيبوا لدعوة الله وأبوا إلا الجحود والكفر ؛ فجزائهم يوم القيامة أن لهم سوء الحساب. وهو أن يأخذهم الله بكل ذنوبهم وبكل ما قارفوه من السيئات والمعاصي، صغيرها وكبيره، فلا يغفر الله لهم منها شيئا، ومن نوقش الحساب عذب. وهؤلاء مصيرهم إلى جهنم وبئس الفراش والمستقر الذي يمكثون فيه دائمين١.
أنى للعالم البصير ذي الفكر السديد والفطرة السوية السليمة، أن يستوي ومن هو ضال أعمى، دو قلب موصد وطبع كز، وفطرة سقيمة ملتوية ؟ ! إنهما لا يستويان. وقيل : نزلت في حمزة وأبي جهل. وهذان صنفان من الناس مختلفان اختلاف الحق والباطل. فأولهما ودود وطيب وسجيح، والآخر فاسد وكز ولئيم.
قوله :﴿ إنما يتذكر أولوا الألباب ﴾ إنه لا يتدبر هذه الآيات المؤثرة الكريمة فيزدجر ويعتبر، أو يتعظ ويذكر فيبادر التصديق والانقياد لأمر الله وشرعه إلا أولو العقول السلمية١.
ويدخل في ذلك ما فرضه الله على عباده من أوامر وأحكام، وما نهاهم عنه من المعاصي والأحكام. وكذلك ما يقطعه المسلم على نفسه من العهود للآخرين سواء كانوا من المسلمين أو الكافرين.
قوله :﴿ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ ﴾ جملة توكيد للجملة التي قبلها ؛ فالعهد معناه الميثاق، ويلزم من إيفاء العهد انتفاء نقيضه. والمراد التذكير بصفات المسلمين الصادقين ؛ فإن من صفاتهم وفاءهم بالعهد وعدم نقضه ؛ فإن نقض العهد ليس من سجايا المسلمين الصادقين. وما ينقض عهده مع الله أو الناس إلا المنافقون والخائنون.
قوله :﴿ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ ﴾ وهذه صفة ثالثة للمؤمنين الصادقين، وهي أنهم يخشون الله فيتبعون أوامره ويجتنبون نواهيه، ويراقبونه في كل الأحوال، ليعبدوه تمام العبادة، ولا يشركون به شيئا من الأنداد. وهم كذلك خائفون من حساب الله يوم الحساب. يوم تتكشف الأوراق والصحائف، وتظهر المخبوءات والأسرار ليجازي الله عباده بما فعلوه.
قوله :﴿ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ ﴾ هذه صفة خامسة للمؤمنين ؛ إذ يقيمون الصلاة خاشعين مخبتين.
قوله :﴿ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً ﴾ هذه صفة سادسة للمؤمنين ؛ إذ ينفقون أموالهم في وجوه البر والطاعة مما هو مفروض ومندوب/ كبذل المال زكاة في وجوهها المعروف ؛ أو إنفاقه على أولي القربى على سبيل الوجوب، أو ما كان غير ذلك من الإنفاق المندوب في وجوه الخير ؛ كإعطاء المعوزين والمحاويج والجيران وغريهم. سواء كان ذلك في السر خفية ؛ أو الظاهر المنظور علانية.
قوله :﴿ وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ﴾ ﴿ يدرؤون ﴾، يعني يدفعون١، وهذه صفة سابعة للمؤمنين ؛ فهم يدفعون السيئة على اختلاف معانيها وصورها، بالحسنة على تعدد ضروبها وأشكالها. لا جرم أن هذه خصيصة مثلى تتجلى في عباد الله المؤمنين الطائعين المخلصين ؛ فهم إذا أساء إليهم الناس بمختلف وجوه الإساءة قابلوا ذلك بالحسنة. فقابلوا الشر بالخير، والقبيح بالحسن، والشح بالسخاء. وهم إذا ظلموا عفوا، وإذا حرموا أعطوا، وإذا قطعوا وصلوا من قطعهم. إن هذه شيم المؤمنين الطيبين الأخيار الذين يجزل الله لهم الثواب، ويكتب لهم الرحمة والرضوان.
وقيل : إذا أذنبوا تابوا ؛ وإذا عملوا السيئات بادروا فعل الخيرات والحسنات فيتجاوز الله لهم عما اقترفوه.
قوله :﴿ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ أي عاقبة الدنيا. والمراد بها الجنة التي أعدها الله جزاء لأولئك المؤمنين الذين اتصفوا بما بينته الآية من الصفات٢.
٢ البحر المحيط جـ ٥ ص ٣٧٥- ٣٧٧..
﴿ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ﴾ أولئك يجمعهم الله بالمؤمنين أولي الصفات المذكورة كيما يحبروا١ وتقر بهم عيونهم. لا جرم أن المؤمن يجد في نفسه كامل الراحة والسكينة والحبور، وهو يرى أهله وأحبابه الأقربين من حوله وهم آمنون مطمئنون سعداء في الجنة جعلنا الله منهم. على أن رباط النسب أو القربى وحده لا يغني شيئا إن كان في معزل عن دين الله، أو كان أولو القربى غير أولي دين، أو كانوا من المشركين الفاسقين. وإنما يعول على الصلاح في الدين والعقيدة ليتسنى لهؤلاء أن لدخلوا الجنة في صحبة المؤمنين وزمرتهم.
قوله :﴿ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ ﴾ تدخل الملائكة الأطهار على المؤمنين السعداء الذين فازوا بالجنة فيهنئونهم بنجاتهم وفوزهم. يدخلون عليهم من أبواب الجنة محيين ومباركين ليكون في ذلك زيادة لهم في النعيم والتكريم.
قوله :﴿ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ نعم : فعل مدح، والمخصوص بالمدح محذوف ؛ أي : فنعم عقبى الدار الجنة. والدار تحتم الدنيا وتحتمل الآخرة١.
بعد أن ذكر حال السعداء من أهل الإيمان والصلاح وما أعد لهم من جزيل الثواب وخير العطاء في الجنات، شرع في بيان حال الأشقياء وما صاروا إليه من شنيع العاقبة وسوء الدار. فالأولون كانوا موفين بعهودهم ولم ينقضوا منها شيئا، وكانوا من أهل الوصل والتقوى وفعل الطاعات والعبادات. أما هؤلاء الخاسرون ؛ فإنهم خائنون عصاة بنقضهم ما عاهدوا الله عليه. وقطعهم ما أمر الله بوصله من الأرحام وفعل الخيرات والطاعات. وكذلك كانوا مفسدين في الأرض بإشاعة المنكر والباطل بكل صوره وأشكاله ﴿ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ﴾ هؤلاء الأشقياء الظالمون الذين خسروا أنفسهم فأوردوها شر مورد من النار وبئس القرار ﴿ لهم اللعنة ﴾ الإبعاد من الخير والرحمة ليكونوا مع الخاسرين والتعساء ﴿ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ﴾ أي يصيرون إلى سوء العاقبة وهي النار١.
الله هو الرزاق الذي يوسع على عباده فيعطيهم من رزقه ما يشاء سواء فيهم المؤمنون والكافرون ﴿ وَيَقَدِرُ ﴾ أي يقتر. وذلك في مقابل بسطه الرزق للناس. وذلك يفضي إلى التفاوت في أرزاق الناس ؛ فيكون فيهم الأغنياء والفقراء ؛ تحقيقا لمزية التكامل بين الأفراد في المجتمع الإسلامي.
قوله :﴿ وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ الضمير عائد على الظالمين الذين ينقضون العهود والمواثيق ؛ فقد فرحوا بطرا بما أتوه من بسطة في المال والرزق فلم يشكروا الله على ما أنعم عليهم وآتاهم من فضله بل كانوا لاهين غافلين عن الله وعن دينه وما شرعه لهم، وقد استحوذ على قلوبهم حب الدنيا وما فيها من زخرف ومال، فألهاهم ذلك عن الموعظة والاعتبار وذكر اليوم الآخر حتى أحاطت بهم المعاصي.
قوله :﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ ﴾ أي ليست الدنيا هذه بنعيمها وزخرفها وبهجتها في جنب النعيم الأخروي إلا النزر اليسير، فما يتمتع به الناس في حياتهم الدنيا من مال وخيرات وشهوات ليس إلا القليل الزائل ؛ فهو قليل حقير بالغ الهوان. وهو كذلك ذاهب داثر ما يلبث أن يزول ويفني. وفي الحديث مما رواه مسلم وأحمد عن المستورد أخي بني فهر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه هذه في اليم ؛ فلينظر بما ترجع ).
قوله :﴿ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ الله حقيق بأن تطيب لفضله القلوب، وتسكن لذكره وحده دون غيره من الشركاء والأنداد. الله حقيق أن تأنس بجلاله وبتلاوة قرآنه القلوب المستوحشة إذا غاب عنها المؤنسون من الخلان والأحباب. لا جرم أن الله وحده خير مؤنس للمرء في حالات العزلة والاحتباس ؛ إذ تحيط به لواعج الكآبة والتلهف. فإذا ما ذكر العبد المحزون ربه وحيدا وجد في نفسه وأعماقه ما يسري عنه الهم والحزن، أو يكفكف عنه الإحساس بالضيق أو الوجل.
قوله :﴿ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ﴾ أي هذا الذي تجحدونه وتكذبون أنه رحمن، فإني مؤمن به، ومقر له كامل الإقرار بالألوهية ؛ فإنه ربي وليس من إله غيره ﴿ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ﴾ فوضت إليه أمري، واعتمدت عليه كامل الاعتماد في شأني كله. ﴿ وَإِلَيْهِ مَتَابِ ﴾ أي إليه المرجع والإنابة.
وقد جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( ما من نبي إلا وقد أوتي ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا الله إلي ؛ فأرجو أن أكون إكثرهم تابعا يوم القيامة ).
قوله :﴿ بَل لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا ﴾ أي لو شاء الله أن يؤمن الناس لآمنوا، وإذا م يشأ لهم الإيمان لم ينفعهم ما اقترحوه أو سألوه كتسيير الجبال، أو تقطيع الأرض، أو إحياء الموتى ؛ فالله قادر على كل شيء، وهو قادر أن يأتيهم بما طلبوه من الآيات ؛ لكنه يعلم أن ذلك لا ينفعهم.
قوله :﴿ أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَن لَّوْ يَشَاء اللّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ ييأس بمعنى يعلم أو يتبين. وهو قول ابن عباس وآخرين ؛ أي أفلم يعلم المؤمنون ويتبينوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا من غير أن يشاهدوا ما سألوه من الآيات.
قوله :﴿ وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ ﴾ القارعة : الشديدة من شدائد الدهر وعي الداهية. والجمع قوارع٢ ؛ أي لا يزال هؤلاء الكافرون من قومك يا محمد تصيبهم بسبب ما فعلوه من الكفر والتكذيب والجحود والظلم ﴿ تصيبهم قارعة ﴾ أي ما يقرعهم من البلاء والنكبات كالقحط والأسقام والهزائم والقتل في الحروب وغير ذلك من ألون البلايا والنقم٣.
قوله :﴿ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ ﴾ التاء في ﴿ تحل ﴾ للتأنيث، والتقدير : أو تحل قارعة بالقرب منهم ؛ أي قريبا من ساحتهم وقراهم. وقيل : التاء لخطاب. فيكون التقدير : أو تحل أنت يا محمد قريبا من دراهم ﴿ حتى يأتي وعد الله ﴾ وعد الله معناه الغلبة والظهور عليهم. وقيل : فنح مكة. وقيل : يوم القيامة ﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴾ اللم منجز رسوله والمؤمنين ما وعدهم من الظهور على الكافرين ؛ لأن الله جلت قدرته لا يخلف وعده ؛ فهو أصدق الصادقين، وأوفى الأوفياء٤.
٢ مختار الصحاح ص ٥٣١..
٣ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٥٢..
٤ الكشاف جـ ٢ ص ٣٦٠ وفتح القدير جـ ٣ ص ٨٤ وتفسير الطبري جـ ١٣ ص ١٠٢- ١٠٥ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ٢٥٠..
قوله :﴿ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ﴾ الاستفهام للتقريع والتهديد ؛ أي فكيف ما أحللته من البلاء والنقم والقوارع بهؤلاء الجاحدين الساخرين من دين الله ؟ !
قوله :﴿ وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء ﴾ الجملة حالية. والشركاء، الأصنام، والتقدير : والحال أنهم جعلوا له شركاء ؛ فالله هو القائم بأرزاق هؤلاء المشركون، المدبر أمورهم، الرقيب على أفعالهم وقلوبهم وما يضمرون، وقد جعلوا له شركاء مما خلق من الحجارة والأوثان.
قوله :﴿ قُلْ سَمُّوهُمْ ﴾ يأمرهم بذكر أسماء أصنامهم التي يعبدونها وذلك على سبيل التهديد، أو على سبيل التحقير والازدراء ؛ أي سموا هؤلاء الذين أشركتموهم في العبادة.
قوله :﴿ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ ﴾ ﴿ أم ﴾، المنقطعة، بمعنى بل وهمزة الاستفهام. أي بل أتنبئون الله بشركاء له في الأرض لا يعلمهم، وهو العليم بما في السموات والأرض ؟ ﴿ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ ﴾ بل أتسمونهم شركاء لله بباطل من القول وكذب، أو تسمونهم شركاء بظاهر من القول المسموع وهو في الحقيقة باطل لا صحة له.
قوله :﴿ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ ﴾ أي ليس ما يفتريه المشركون من اصطناع الأوثان إلا الكذب والظلم والباطل ؛ فإنه ليس لله شريك البتة. بل زين لهؤلاء الضالين ﴿ مكرهم ﴾ وهو كفرهم وإشراكهم ؛ فقد زين لهم الشيطان ذلك. سواء في ذلك شيطان الجن أو البشر ؛ فكلهم شياطين يزينون للناس الكفر ويحسنون لأذهانهم ونفوسهم فعل المنكرات والمعاصي، وينفرونهم من عقيدة التوحيد وعبادة الله وطاعته والإذعان أوامره أشد تنفير.
قوله :﴿ وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ ﴾ صدوا بضم الصاد، على البناء للمفعول ؛ أي صدهم الله لفساد قلوبهم وسوء فطرتهم التي تنفر من الحق نفورا. تلك في الفطرة السقيمة التي لا تستجيب لنداء الرحمن ولا تتملى دعوة الحق والنور. أو صدهم الشيطان بمختلف أساليبه ووسائله وأسبابه. وتقرأ بالفتح على البناء للمعلوم ؛ أي أن المشركين الضالين المضلين قد صدوا الناس عن دين الله وحالوا بينهم وبين عقيدة التوحيد ومنهج الله بأساليب شتى من الإغراء والإغواء والتضليل، أو الترهيب والإكراه والقسر.
قوله :﴿ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ يعني من أضله الله عن إصابة الحق بخذلانه إياه ؛ فليس من أحد بعده يهديه لإصابة الحق. قال الزمخشري في تأويل ذلك : من يخذله الله لعلمه أنه لا يهتدي فماله من احد يقدر على هدايته١.
فبعد أن بين الله ما أعده للكافرين الظالمين من عذاب الدنيا والآخرة، ذكر ما أعده لبعاده المؤمنين ؛ فقد أعد لهم الجنة ووصفها بأنها تنساح خلالها وفي أرجائها الأنهار. ووصفها أيضا بأنها :﴿ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا ﴾ أي ما فيها من ثمار ومأكل ومشارب وغير ذلك من مطعوم ؛ فإنه دائم لا ينقطع. وكذلك ظلها الرخي الظليل مستديم لا يزول.
قوله :﴿ تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ ﴾ الإشارة عائدة إلى الجنة التي وصفها الله. والإشارة في محل رفع مبتدأ. وخبره ﴿ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ ﴾ أي الجنة هي عاقبة المؤمنين الذين يخشون الله ويتقون معاصيه. وفي مقابل ذلك جعل الله النار عاقبة للكافرين ﴿ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ ﴾.
قوله :﴿ وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ ﴾ ﴿ ومن الأحزاب ﴾، أي من أهل الملل المختلفة المتحزبين ضد الرسول صلى الله عليه وسلم والذين يصدون عن دين الله وهم أهل أديان ونحل وفلسفات كافرة شتى ؛ فإنهم ينكرون بعض ما في القرآن ؛ لأنه بعضهم ممن يؤمن بالله خالق السموات والأرض ويؤمن ببعض النبيين، لكنهم مع ذلك يجحدون ما في القرآن من حقائق وأحكام وأخبار.
قوله :﴿ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ ﴾ ﴿ أشرك ﴾ منصوب لعطفه على ﴿ أعبد ﴾ أي قل لهم يا محمد إنما أمرت بعبادة الله وحده دون سواه من الشركاء والأنداد. وكذلك فإني مقرر لله بكامل الوحدانية ومخلص له الدين طائعا مخبتا ﴿ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ ﴾ أي أدعوا الناس إلى عبادته وحده ومرجعي ومصيري.
قوله :﴿ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ ﴾ أي لئن اتبعت المشركين على دينهم من الافتراءات والأباطيل وعبادة غير الله من الأنداد المصطنعة، وتابعت رضاهم ومحبتهم بعد ثبوت العلم الذي جاءك من عند الله معززا بالحجة والبرهان، فإن الله يخذلك، وليس لك بعد الله من ناصر أو حافظ يرعاك بكلاءته ويدرأ عنك الكيد والأذي.
والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه من التحذير لأمة الإسلام على مر الأجيال والزمن ما لا يخفى، تحذير للمسلمين في كل مكان وزمان من اتباع سنن الكافرين في عاداتهم وتقاليدهم وسلوكهم وأهوائهم وتصوراتهم، يحذر الله المسلمين طيلة الدهر من الاغترار بسلوك الكافرين وعاداتهم ليمضوا وراءهم تابعين ناعقين مقلدين. وتلك هي القاصمة الفادحة التي تقصم قلوب المسلمين ونواصيهم إذ تودي بهم إلى الذلة والانمياع والهوان، وتفضي بهم إلى الانمساخ والتمزق والخور. وما على المسلمين في كل مكان وزمان إلا أن يستمسكوا بعرى الإسلام جميعا عقيدة وسلوكا ومنهج حياة ؛ ليظلوا على الدوام أمة واحدة متماسكة قوية مستقلة، ذات شأن ظاهر كبير ومميز.
جاء في سبب نزول هذه الآية أن اليهود عيروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : ما ترى لهذا الرجل مهمة إلا النساء والنكاح. ولو كان نبيا كما زعم لشغله أمر النبوة عن النساء فأنزل الله الآية١.
والمعنى : لقد أرسلنا من قبلك يا محمد رسلا إلى الأمم التي خلت من قبل هذه الأمة وقد جعلناهم بشرا مثلك يأكلون ويرقدون يتزوجون ولهم الأولاد والذرية، فما كانوا من الملائكة الذين لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون ؛ بل أرسلهم الله بشرا مثلك يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق.
ومن سنن الإسلام التحضيض على النكاح والنهي عن التبتل وهو ترك الزواج ؛ فإن الزواج مدعاة للسكينة، وصوان النفس عن الجنوح للفاحشة فضلا عما يفضي إليه الزواج من تحصيل للذرية الذين تقر بهم العين وتتحقق بمجموعهم عمارة الأرض فتصلح الحياة ويقوم المجتمع.
وفي الترغيب في الزواج يقول الرسول صلى الله عليه وسلم :( تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم ).
وروي البخاري في صحيحه عن أنس قال : جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم. فلما أخبروا كأنهم تقالوها. فقالوا : وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ! فقال أحدهم : أما أنا فإني أصلي الليل أبدا ؟ وقال الآخر : إني أصوم الدهر فلا أفطر، وقال الآخر : أنا أعتزل النساء فلا أتزوج.
فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :( أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ؛ لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء ؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني ). وروي مسلم أيضا سنده عن سعد بن أبي وقاص قال : أراد عثمان أن يبتل، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم، ولو أجاز له ذلك لاختصينا.
وهذه هي طبيعة الإسلام القائم على الاعتدال والوسط، والمجانب لكل صور المغالاة او التفريط او التنطع. وهو ما ينسجم والفطرة البشرية خير انسجام. ومن الحق الذي لا مراء فيه أن الإسلام وحده لهو الدين المميز الأمثال الذي يراعي طبائع البشر وما جلبوا عليه من شهوات واستعدادات ورغبات أساسية مركوزة بعيدا عن المكابرة أو التطرف أو الغلو، أو الحرمان أو الكبت. وهذه واحدة من الخصائص الكبرى التي تكفل للإسلام دون غيره أن يصلح عليه الناس ويسعد به الأفراد والمجتمعات في كل الأزمان والأحوال.
قوله :﴿ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ﴾ ما يستطيع أحد من الناس ولا رسول من الرسل أن يأتي أمته بمعجزة أو خارقة من الخوارق كتسيير الجبال، أو إحياء الموتى، أو نحو ذلك من الآيات إلا بأمر الله. وذلك رد على الكافرين ؛ إذ اقترحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سألوه من الآيات الخرقة وهو ما بيناه سابقا. وجملته. أن ذلك كله بأمر الله وحده. وما يسأل هؤلاء الجاحدون إلا من باب المكابرة والمعاندة والاستسخار. مع أنهم قد جاءهم القرآن وهو خير معجزة مشهودة تتنزل على الأرض فتعيها العقول وتتملاها القلوب. معجزة باقية خالدة لا تبلى ولا تفنى ولا تبيد، لكن الناس عنها غافلون لاهون بعد أن اجتالتهم عن إدراكها ووعيها الشياطين !
قوله :﴿ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ﴾ أي لكل أمر قضاه الله كتاب عنده يكتبه على عباده ويحكم به فيهم. وقيل : في الكلام تقديم وتأخير. والمعنى : لكل كتاب أجل ؛ أي لكل أمر كتبه الله أجل مؤقت ووقت معلوم. و نظير ذلك قوله تعالى :﴿ لكل نبأ مستقر ﴾ والمراد : أن الأمر كله تابع لمشيئة الله واختياره وليس حسب إدارة الكافرين وما يقدمونه من اقتراحات.
وفي رواية عن ابن عباس : يبدل الله ما يشاء من القرآن فينسخه، ويثبت ما يشاء فلا يبدله ﴿ وعنده أم الكتاب ﴾ أي جملة ذلك عنده في أم الكتاب وهو الناسخ والمنسوخ ما يبدل. وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال وهو يطوف بالبيت وهو يبكي : اللهم إن كنت كتبت علي شقوة أو ذنبا فامحه ؛ فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب، فاجعله سعادة ومغفرة.
وقيل : إن الله ينسخ من الأقدار ما يشاء ويثبت منها ما يشاء.
ويعزز هذا القول ما رواه الإمام أحمد عن ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ولا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر ) وثبت في الصحيح أن :( صلة الرحم تزيد في العمر ).
قوله :﴿ وعنده أم الكتاب ﴾ أي اللوح المحفوظ. وهو كل كائن مكتوب فيه، فهو جملة الكتاب وأصله ؛ لأن الله يمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء وعنده أصل المثبت منه والممحو ؛ وجملة ذلك كله في كتاب عند الله١.
والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الله بأنه : إما نريمك يا محمد في حياتك بعض ما نعد هؤلاء المشركين من العقاب على كفرهم وجحودهم، أو نتوفينك قبل أن نريك ذلك العقاب، فإنما عليك تبليغ الرسالة فسحب، وما عليك من حسابهم بعد ذلك من شيء ؛ إنما حسابهم وهو جزاؤهم على الله فيجازيهم بأعمالهم من خير أو شر، فلا تستعجل لهم العذاب، ولا تعبأ بجحودهم وكيدهم.
قوله :﴿ وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ﴾ حكم الله نافد لا رده شيء، ولا يرده بالرد أو منازع وهو كذلك ﴿ لا معقب لحكمه ﴾ والمعقب، هو الذي يعقب الشيء بالرد والإبطال. والمعنى : أنه ليس من أحد يتعقب حكم الله ينقص ولا تغيير ﴿ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ أي سريع الانتقام من الظالمين الذي يجحدون دعوة الله ويصدون الناس عن منهج الحكيم، ويعتدون على المؤمنين العاملين بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا جرم أن الله منتقم من هؤلاء الظالمين المجرمين فمجازيهم الجزاء السريع في هذه الدنيا ويوم يقوم الأشهاد١.
قوله :﴿ فلله المكر جميعا ﴾ أي أن جميع مكر الماكرين غنما يحصل بتخليق الله وإرادته ؛ لأن الله خالق للعباد وأعمالهم جميعا.
على أن مكر الماكرين لا يضر أحدا من الممكور بهم إلا أن يشاء الله و يؤثر فه إلا بتقديره سبحانه. وفي ذلك تسلية من الله للنبي صلى الله عليه وسلم كيلا يعبأ أو يكترث ما دام حصول المكر من تخليق الله، وتأثيره في المكور به لا يقع خارجا عن إرادة الله، فوجب بذلك أن لا يكون الخوف إلا من الله وحده، وأن لا يكون الرجاء إلا من الله دون غيره من المخاليق.
قوله :﴿ يعلم ما تكسب كل نفس ﴾ أي أن الله عليم بما يفعله المشركون الظالمون من كيد للرسول والمؤمنين. وهو مجازيهم عما فعلوه ﴿ وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار ﴾ يعني سيعلم الكافرون من تكون له العاقبة المحمودة في دار الدنيا هذه، أو في الدار الآخرة، أو في كلتا الدارين جميعا٢.
٢ تفسير الرازي جـ ١٩ وفتح القدير جـ ٣ ص ٩٠، ٩١ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ٢٥٣..
ومن جملة ذلك مقالة الخصية العتيد أبي جهل : والله إن محمدا لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن متى كنا لبني عبد مناف تبعا.
قوله :﴿ قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ﴾ أي قل لهم : حسبي الله شاهدا بصدقي وبكذبكم. كفى بالله خير شاهد على صدقي وحقيقة ما أقول لكم وعلى أنني لست متقولا ؛ بل إنني مبعوث من رب العالمين. والله جل وعلا خير الشاهدين.
قوله :﴿ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ﴾ المراد بهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين يجدون صفة النبي صلى الله عليه وسلم ونعته في كتبهم السماوية وهي التوراة والإنجيل، كقوله في آية أخرى :﴿ أو لم يكن لهم أن يعلمه علماء بني إسرائيل ﴾ فقد كان العلماء من بني إسرائيل يتلون في كتبهم المقدسة عن ذكر النبي محمد صلى الله عليه وسلم وهو اسمه، وانه مبعوث للناس ليكون خاتم النبين والمرسلين١.